ترتيب المصحف | 6 | ترتيب النزول | 55 |
---|---|---|---|
التصنيف | مكيّة | عدد الصفحات | 23.00 |
عدد الآيات | 165 | عدد الأجزاء | 1.17 |
عدد الأحزاب | 2.35 | عدد الأرباع | 9.40 |
ترتيب الطول | 5 | تبدأ في الجزء | 7 |
تنتهي في الجزء | 8 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
الثناء على الله: 2/14 | الحمد لله: 2/5 |
لَمَّا بَيَّنَ حالَ الفريقينِ بَيَّنَ هنا أنَّ لكلِّ قومٍ درجةً مخصوصةً، ثُمَّ بيانُ غِنَاه تعالى عن طاعةِ المُطيعينَ وعن جميعِ خلقِه، والتهديدُ بعذابِ الاستئصالِ، والإنذارُ بعذابِ القيامةِ.
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ قُبْحَ عقائدِ المشركينَ ذكرَ صورًا من جهالاتِهم وأحكامِهم المفتراةِ في تحليلِ وتحريمِ بعضِ الزروعِ والأنعامِ، ووأدِ البناتِ، ثُمَّ بَيَّنَ =
التفسير :
ثم وبخ الله جميع من أعرض عن الحق ورده، من الجن والإنس، وبين خطأهم، فاعترفوا بذلك، فقال:{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} الواضحات البينات، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي، والخير والشر، والوعد والوعيد.{ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ويعلمونكم أن النجاة فيه، والفوز إنما هو بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك، فأقروا بذلك واعترفوا، فـ{ قالوا} بلى{ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بزينتها وزخرفها، ونعيمها فاطمأنوا بها ورضوا، وألهتهم عن الآخرة،{ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} فقامت عليهم حجة الله، وعلم حينئذ كل أحد، حتى هم بأنفسهم عدل الله فيهم، فقال لهم:حاكما عليهم بالعذاب الأليم:{ ادْخُلُوا فِي} جملة{ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} صنعوا كصنيعكم، واستمتعوا بخلاقهم كما استمعتم، وخاضوا بالباطل كما خضتم، إنهم كانوا خاسرين، أي:الأولون من هؤلاء والآخرون، وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم، وحرمان جوار أكرم الأكرمين؟! ولكنهم وإن اشتركوا في الخسران، فإنهم يتفاوتون في مقداره تفاوتا عظيما.
قال الآلوسى: «ذلك» إشارة إلى إتيان الرسل، أو السؤال المفهوم من لَمْ يَأْتِكُمْ
، أو ما قص من أمرهم، أعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أى: الأمر ذلك، أو مبتدأ خبره مقدر، أو خبره قوله- سبحانه- أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بخلاف اللام على أن أَنْ مصدرية، أو مخففة من أن وضمير الشأن اسمها.
وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ ذلك، أو فعلنا ذلك.
وفي قوله بِظُلْمٍ متعلق بمهلك أى: بسبب ظلم. أو بمحذوف وقع حالا من القرى أى:
ملتبسة بظلم ... » .
والمعنى: ذلك الذي ذكرناه لك يا محمد من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله، سببه أن ربك لم يكن من شأنه ولا من سننه في تربية خلقه أن يهلك القرى من أجل أى ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه، وينهوا عنه بواسطة الأنبياء والمرسلين، فربك لا يظلم، ولا يعذب أحدا وهو غافل لم ينذر قال- تعالى- وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وقال- تعالى- وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ.
فالآية الكريمة صريحة في أن- سبحانه- قد أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتبيين الآيات، وإلزام الحجة رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
يقول تعالى : ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ) أي : إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، لئلا يعاقب أحد بظلمه ، وهو لم تبلغه دعوة ، ولكن أعذرنا إلى الأمم ، وما عذبنا أحدا إلا بعد إرسال الرسل إليهم ، كما قال تعالى : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [ فاطر : 24 ] ، وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا ) [ الملك : 8 ، 9 ] والآيات في هذا كثيرة .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : ويحتمل قوله تعالى : ( بظلم ) وجهين :
أحدهما : ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه ، وهم غافلون ، يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم من ينبههم على حجج الله عليهم ، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا : ( ما جاءنا من بشير ولا نذير ) [ المائدة : 19 ] .
والوجه الثاني : أن ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) يقول : لم يكن ربك ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر ، فيظلمهم بذلك ، والله غير ظلام لعبيده .
ثم شرع يرجح الوجه الأول ، ولا شك أنه أقوى ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، أي: إنما أرسلنا الرسل، يا محمد، إلى من وصفتُ أمرَه, وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجن، يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليَّ, من أجل أن ربَّك لم يكن مهلك القرى بظلم .
* * *
وقد يتَّجه من التأويل في قوله: " بظلم "، وجهان:
أحدهما: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، أي: بشرك مَنْ أشرك, وكفر مَنْ كفر من أهلها, كما قال لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، [سورة لقمان: 13] =(وأهلها غافلون)، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلا تنبههم على حجج الله عليهم, وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه, ولم يكن بالذي يأخذهم غَفْلة فيقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ .
* * *
والآخر: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم)، يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرُّسل والآيات والعبر, فيظلمهم بذلك, والله غير ظلامٍ لعبيده . (47)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، القولُ الأول: أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم، دون إرسال الرسل إليهم، والإعذار بينه وبينهم. وذلك أن قوله: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم)، عقيب قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ، فكان في ذلك الدليل الواضحُ على أن نصَّ قوله: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم)، إنما هو: إنما فعلنا ذلك من أجل أنَّا لا نهلك القرى بغير تذكيرٍ وتنبيه . (48)
* * *
وأما قوله: (ذلك)، فإنه يجوز أن يكون نصبًا, بمعنى: فعلنا ذلك = ويجوز أن يكون رفعًا، بمعنى الابتداء, كأنه قال: ذلك كذلك .
* * *
وأما " أنْ"، فإنها في موضع نصب، بمعنى: فعلنا ذلك من أجل أنْ لم يكن ربك مهلك القرى= فإذا حذف ما كان يخفضها، تعلق بها الفعل فنصب . (49)
--------------------------
الهوامش :
(47) في المطبوعة : (( للعبيد )) ، وأثبت ما في المخطوطة .
(48) انظر معاني القرآن 1 : 355 ، فهذا رد على الفراء ، وهو صاحب القول الثاني .
(49) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 355 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 131 | ﴿ٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ |
---|
القصص: 59 | ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ |
---|
هود: 117 | ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ وَلِكُلٍّ} منهم{ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} بحسب أعمالهم، لا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرءوس كالرئيس، كما أن أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة، فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم، قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم. فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى، التي أعدها الله للمقربين من عباده، والمصطفين من خلقه، وأهل الصفوة من أهل وداده.{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيجازي كلا بحسب علمه، وبما يعلمه من مقصده، وإنما أمر الله العباد بالأعمال الصالحة، ونهاهم عن الأعمال السيئة، رحمة بهم، وقصدا لمصالحهم. وإلا فهو الغني بذاته، عن جميع مخلوقاته، فلا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضره معصية العاصين.
ثم بين- سبحانه- أن الدرجات إنما هي على حسب الأعمال فقال- تعالى- وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أى: ولكل من المكلفين جنا كانوا أو إنسا درجات أى منازل ومراتب مِمَّا عَمِلُوا أى: من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم إذ الجزاء من جنس العمل والعمل متروك للناس يتسابقون فيه، والجزاء ينتظرهم عادلا لا ظلم فيه.
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بل هو عالم بأعمالهم ومحصيها عليهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وقال : وقوله : ( ولكل درجات مما عملوا ) أي : ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها ، ويثيبه بها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
قلت : ويحتمل أن يعود قوله : ( ولكل درجات مما عملوا ) أي من كافري الجن والإنس ، أي : ولكل درجة في النار بحسبه ، كقوله تعالى ( قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) [ الأعراف : 38 ] ، وقوله : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ) [ النحل : 88 ] .
( وما ربك بغافل عما يعملون ) قال ابن جرير : أي وكل ذلك من عملهم ، يا محمد ، بعلم من ربك ، يحصيها ويثبتها لهم عنده ، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه .
القول في تأويل قوله : وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها, ويثيبه بها, إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا (1) =(وما ربك بغافل عما يعملون)، يقول جل ثناؤه: وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربِّك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه .
--------------------------
الهوامش :
(1) انظر تفسير (( درجة )) فيما سلف : 11 : 505 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 132 | ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
هود: 123 | ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
النمل: 93 | ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
يعملون:
وقرئ:
تعملون، بالتاء على الخطاب، وهى قراءة ابن عامر.
التفسير :
{ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالإهلاك{ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} فإذا عرفتم بأنكم لا بد أن تنتقلوا من هذه الدار، كما انتقل غيركم، وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم، كما رحل عنها من قبلكم وخلوها لكم، فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها ونسيتم، أنها دار ممر لا دار مقر. وأن أمامكم دارًا، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص؟ وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون، ويرتحل نحوها السابقون واللاحقون، التي إذا وصلوها، فثَمَّ الخلود الدائم، والإقامة اللازمة، والغاية التي لا غاية وراءها، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب، والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب، هنالك والله، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، ويتنافس فيه المتنافسون، من لذة الأرواح، وكثرة الأفراح، ونعيم الأبدان والقلوب، والقرب من علام الغيوب، فلله همة تعلقت بتلك الكرامات، وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات"وما أبخس حظ من رضي بالدون، وأدنى همة من اختار صفقة المغبون"ولا يستبعد المعرض الغافل، سرعة الوصول إلى هذه الدار
ثم صرح- سبحانه- بغناه عن كل عمل وعن كل عامل، وبأنه هو صاحب الرحمة الواسعة، والقدرة النافذة فقال: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.
أى: وربك يا محمد هو الغنى عن جميع خلقه من كل الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو وحده صاحب الرحمة الواسعة العامة التي شملت جميع خلقه.
والجملة الكريمة تفيد الحصر. وقوله: وربك مبتدأ، والغنى خبره، وقوله ذُو الرَّحْمَةِ خبر بعد خبر. وجوز أن يكون هو الخبر و «الغنى» صفة لربك.
وفي هذه الجملة تنبيه إلى أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل وغيره، ليس لنفعه- سبحانه-، بل لترحمه على العباد، وتمهيد لقوله بعد ذلك. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ أى: أنه- سبحانه- إن يشأ إذهابكم أيها الناس بالإهلاك لفعل ذلك فهو قدير على كل شيء وعلى أن ينشئ بعد إذهابكم ما يشاء من الخلق الذين يعملون بطاعته، ولا يكونون أمثالكم.
والكاف في قوله: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ في موضع نصب والمعنى: إن الله- تعالى- قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافه مثل ما أنشأكم من ذرية قوم آخرين. ونظيره قوله- تعالى- إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً وقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ.
يقول تعالى ) وربك ) يا محمد ) الغني ) أي : عن جميع خلقه من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، ( ذو الرحمة ) أي : وهو مع ذلك رحيم بهم رءوف ، كما قال تعالى : ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) [ البقرة : 143 ] .
( إن يشأ يذهبكم ) أي : إذا خالفتم أمره ( ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) أي : قوما آخرين ، أي : يعملون بطاعته ، ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) أي : هو قادر على ذلك ، سهل عليه ، يسير لديه ، كما أذهب القرون الأول وأتى بالذي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين ، كما قال تعالى : ( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ) [ النساء : 133 ] ، وقال تعالى : ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) [ فاطر : 15 - 17 ] ، وقال تعالى : ( والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) [ محمد : 38 ] .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة قال : سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية : ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) الذرية : الأصل ، والذرية : النسل .
القول في تأويل قوله : وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: " وربك "، يا محمد، الذي أمر عباده بما أمرهم به، ونهاهم عما نهاهم عنه، وأثابهم على الطاعة، وعاقبهم على المعصية=" الغني"، عن عباده الذين أمرهم بما أمر، ونهاهم عما نهى, وعن أعمالهم وعبادتهم إياه, وهم المحتاجون إليه, لأنه بيده حياتهم ومماتهم، وأرزاقهم وأقواتهم، ونفعهم وضرهم. (2) يقول عز ذكره: فلم أخلقهم، يا محمد، ولم آمرهم بما أمرتهم به، وأنههم عما نهيتهم عنه, لحاجةٍ لي إليهم، ولا إلى أعمالهم, ولكن لأتفضَّل عليهم برحمتي، وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا, فإني ذو الرَّأفة والرحمة . (3)
* * *
وأما قوله: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء)، فإنه يقول: إن يشأ ربُّك، يا محمد، الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه =(يذهبكم)، يقول: يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم (4) =(ويستخلف من بعدكم ما يشاء)، يقول: ويأت بخلق غيركم وأمم سواكم، يخلفونكم في الأرض =" من بعدكم ", يعني: من بعد فنائكم وهلاككم =(كما أنشأكم من ذريَّة قوم آخرين)، كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلَكم .
* * *
ومعنى " مِنْ" في هذا الموضع التعقيب, كما يقال في الكلام: " أعطيتك من دينارك ثوبًا ", بمعنى: مكانَ الدينار ثوبًا, لا أن الثوب من الدينار بعضٌ, كذلك الذين خوطبوا بقوله: (كما أنشأكم)، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين, ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنَّهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلَف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم .
* * *
و " الذرية "" الفُعْليّة "، من قول القائل: " ذرأ الله الخلق ", بمعنى خلقهم،" فهو يذرؤهم ", ثم ترك الهمزة فقيل: " ذرا الله ", ثم أخرج " الفُعْليّة " بغير همز، على مثال " العُبِّيَّة " . (5)
* * *
وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ: " مِنْ ذُرِّيئَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ" على مثال " فُعِّيلة " . (6)
* * *
وعن آخر أنه كان يقرأ: " وَمِنْ ذِرِّيَّةِ"، على مثال " عِلِّيَّة " .
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي عليها القرأة في الأمصار: (ذُرِّيَّةِ)، بضم الذال، وتشديد الياء، على مثال " عُبِّية " . (7)
* * *
وقد بينا اشتقاق ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا . (8)
* * *
وأصل " الإنشاء "، الإحداث. يقال: " قد أنشأ فلان يحدِّث القوم ", بمعنى ابتدأ وأخذ فيه . (9)
-----------------------
الهوامش :
(2) انظر تفسير (( الغنى )) فيما سلف 5 : 521 ، 570 / 9 : 296 .
(3) انظر تفسير (( الرحمة )) فيما سلف من فهارس اللغة ( رحم ) .
(4) انظر تفسير (( الإذهاب )) فيما سلف 9 : 298 .
(5) في المطبوعة : (( العلية )) ، وهو خطأ ، لأن هذه بكسر العين . وفي المخطوطة : (( العلمه )) ، غير منقوطة ، واجتهدت قراءتها كذلك . وفي الحديث : (( إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية وتعظمها بآبائها )) ، و (( العبية )) فخر الجاهلية وكبرها ونخوتها . يقال إنها من (( التعبية )) ، وقالوا بعضهم : هي (( فعولة )) ، وجائز أن تكون (( فعلية )) ، كما قال هذا القائل في (( ذرية )) ، وانظر مادة ( عبب ) في لسان العرب .
(6) كان في المخطوطة : (( من ذرية )) ، كما هي التلاوة السالفة ، ولكن ظاهر أن الذي في المطبوعة هو الصواب . لأن (( ذرية )) أصلها (( ذريئة )) ، من (( ذرأ الله الخلق )) ، فكان ينبغي أن تكون مهموزة ، فكثرت ، فأسقط الهمز ، وتركت العرب همزها . وانظر لسان العرب ( ذرأ ) .
(7) انظر التعليق السالف رقم : 1 ، وكان في المطبوعة هنا أيضًا (( علية )) ، ومثلها في المخطوطة ، والصواب الراجح ما أثبته .
(8) انظر تفسير (( الذرية )) فيما سلف 3 : 19 ، 73 / 5 : 543 / 6: 327 ، ولم يفسرها في هذه المواضع ، ثم فسرها في 6 : 362 / 8 : 19 / 11 : 507 .
(9) انظر تفسير (( الإنشاء )) فيما سلف : 11 : 263 ، 264 ، 562 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 133 | ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا﴾ |
---|
الأنعام: 133 | ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ﴾ |
---|
ابراهيم: 19 | ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ |
---|
فاطر: 16 | ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} لله، فارين من عقابه، فإن نواصيكم تحت قبضته، وأنتم تحت تدبيره وتصرفه.
ثم بين- سبحانه- أن أمر البعث والحساب كائن لا ريب فيه فقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.
أى: «إن ما توعدون من أمر القيامة والحساب، والعقاب والثواب لواقع لا شك فيه، وما أنتم بمعجزين، أى: بجاعليه عاجزا عنكم، غير قادر على إدراككم. من أعجزه بمعنى جعله عاجزا. أو:
بفائتين العذاب، من أعجزه الأمر. إذا فاته. أى لا مهرب لكم من عذابنا بل هو مدرككم لا محالة.
وقوله تعالى : ( إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ) أي : أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة ، ( وما أنتم بمعجزين ) أي : ولا تعجزون الله ، بل هو قادر على إعادتكم ، وإن صرتم ترابا رفاتا وعظاما هو قادر لا يعجزه شيء .
وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا محمد بن حمير ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا بني آدم ، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى . والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين "
القول في تأويل قوله : إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين به: أيها العادلون بالله الأوثانَ والأصنامَ, إن الذي يُوعدكم به ربكم من عقابه على إصراركم على كفركم، واقعٌ بكم =(وما أنتم بمعجزين) , يقول: لن تعجزوا ربّكم هربًا منه في الأرض فتفوتوه, لأنكم حيث كنتم في قبضته, وهو عليكم وعلى عقوبتكم بمعصيتكم إيّاه قادر. يقول: فاحذرُوه وأنيبوا إلى طاعته، قبل نـزول البلاء بكم .
* * *
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ قُلْ} يا أيها الرسول لقومك إذا دعوتهم إلى الله، وبينت لهم ما لهم وما عليهم من حقوقه، فامتنعوا من الانقياد لأمره، واتبعوا أهواءهم، واستمروا على شركهم:{ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي:على حالتكم التي أنتم عليها، ورضيتموها لأنفسكم.{ إِنِّي عَامِلٌ} على أمر الله، ومتبع لمراضي الله.{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أنا أو أنتم، وهذا من الإنصاف بموضع عظيم، حيث بيَّن الأعمال وعامليها، وجعل الجزاء مقرونا بنظر البصير، ضاربا فيه صفحا عن التصريح الذي يغني عنه التلويح. وقد علم أن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة للمتقين، وأن المؤمنين لهم عقبى الدار، وأن كل معرض عما جاءت به الرسل، عاقبته سوء وشر، ولهذا قال:{ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فكل ظالم، وإن تمتع في الدنيا بما تمتع به، فنهايته [فيه] الاضمحلال والتلف "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته"
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفض يده من هؤلاء المشركين، وإن يتركهم لأنفسهم. وأن ينذرهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم فقال- تعالى- قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المصرين على كفرهم اعملوا على غاية تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم. مصدر مكن- ككرم- مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن وأقواه، أو المعنى اعملوا على جهتكم واثبتوا على كفركم وحالتكم التي أنتم عليها من قولهم. مكان ومكانة كمقام ومقامة.
قال الزمخشري: يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: مكانك يا فلان أى: أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.
والأمر للتهديد والوعيد، وإظهار ما هو عليه صلى الله عليه وسلم في غاية التصلب في الدين، ونهاية الوثوق بأمره، وعدم المبالاة بأعدائه أصلا.
وقوله إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أى: إنى عامل على مكانتى، ثابت على الإسلام لا أتزحزح عن الدعوة إليه، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدنيا.
وقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ بجانب إفادته للإنذار، فيه إنصاف في المقال، وحسن أدب في الخطاب، حيث لم يقل- مثلا- العاقبة لنا، وإنما فوض الأمر إلى الله، فهو كقوله- تعالى- وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه على الحق.
قال الجمل- وسوف لتأكيد مضمون الجملة، وهذه الجملة. تعليل لما قبلها والعلم عرفان، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء وخبرها جملة تكون، وهي مع خبرها في محل نصب لسدها مسد مفعول تعلمون. أى: فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها، ويجوز أن تكون موصولة فيكون محلها النصب على أنها مفعول لتعلمون. أى: فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار» .
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى- إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أى: لن يظفروا بمطلوبهم بسبب ظلمهم، وقيل المراد بالظلم هنا الكفر، ووضع الظلم موضع الكفر، إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أى فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده.
قال ابن كثير، وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلى الله عليه وسلم فمكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب.، وكل ذلك في حياته، ثم فتحت الأقاليم والأمصار بعد وفاته. قال- تعالى- إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ .
ثم تبدأ السورة بعد ذلك حديثا مستفيضا عن أوهام المشركين وجهالاتهم التي تتعلق بمآكلهم، ومشاربهم، ونذورهم، وذبائحهم، وعاداتهم البالية، وتقاليدهم الموروثة، فتناقشهم في كل ذلك مناقشة منطقية حكيمة، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير، وترشدهم إلى الطريق السليم الذي من الواجب عليهم أن يسلكوه. استمع إلى سورة الأنعام وهي تحكى كل ذلك في بضع عشرة آية بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
وقوله تعالى : ( قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ) هذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، أي : استمروا على طريقكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى ، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي ، كما قال تعالى : ( وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ) [ هود : 121 ، 122 ] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( على مكانتكم ) أي : ناحيتكم .
( فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ) أي : أتكون لي أو لكم وقد أنجز موعده له ، صلوات الله عليه ، فإنه تعالى مكن له في البلاد ، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد ، وفتح له مكة ، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه ، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب ، وكذلك اليمن والبحرين ، وكل ذلك في حياته . ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه ، رضي الله عنهم أجمعين ، كما قال الله تعالى : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) [ المجادلة : 20 ] ، وقال ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [ غافر : 51 ، 52 ] ، وقال تعالى : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) [ الأنبياء : 105 ] ، وقال تعالى إخبارا عن رسله : ( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) [ إبراهيم : 13 ، 14 ] ، وقال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) الآية [ النور : 55 ] ، وقد فعل الله تعالى ذلك بهذه الأمة ، وله الحمد والمنة أولا وآخرا ، باطنا وظاهرا .
القول في تأويل قوله : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " قل "، يا محمد، لقومك من قريش الذين يجعلون مع الله إلها آخر=: (اعملوا على مكانتكم)، يقول: اعملوا على حِيالكم وناحيتكم . كما:-
13898- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (يا قوم اعملوا على مكانتكم)، يعني: على ناحيتكم .
* * *
يقال منه: " هو يعمل على مكانته، ومَكِينته " .
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين: " عَلَى مَكَانَاتِكُمْ"، على جمع " المكانة ".
* * *
قال أبو جعفر: والذي عليه قرأة الأمصار: (عَلَى مَكَانَتِكُمْ)، على التوحيد .
* * *
=(إني عامل)، يقول جل ثناؤه، لنبيه: قل لهم: اعملوا ما أنتم عاملون, فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي =(فسوف تعلمون)، يقول: فسوف تعلمون عند نـزول نقمة الله بكم, أيُّنا كان المحقّ في عمله، والمصيب سبيلَ الرشاد, أنا أم أنتم.
وقوله تعالى ذكره لنبيه: قل لقومك: (يا قوم اعملوا على مكانتكم)، أمرٌ منه له بوعيدهم وتهدّدهم, لا إطلاقٌ لهم في عمل ما أرادُوا من معاصي الله .
* * *
القول في تأويل قوله : مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (من تكون له عاقبة الدار)، فسوف تعلمون، أيها الكفرة بالله، عند معاينتكم العذابَ, مَن الذي تكون له عاقبة الدار منا ومنكم. (10) يقول: من الذي تُعْقبه دنياه ما هو خير له منها أو شر منها، (11) بما قدَّم فيها من صالح أعماله أو سَيّئها .
ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه فقال: (إنه لا يفلح الظالمون)، يقول: إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله مَنْ عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا (12) = وذلك معنى: " ظلم الظالم "، في هذا الموضع . (13)
* * *
وفي" من " التي في قوله: (من تكون)، له وجهان من الإعراب:
= الرفع على الابتداء.
= والنصبُ بقوله: (تعلمون)، ولإعمال " العلم " فيه.
والرفع فيه أجود, لأن معناه: فسوف تعلمون أيُّنا له عاقبة الدار؟ فالابتداء في" من "، أصحُّ وأفصح من إعمال " العلم " فيه . (14)
* * *
---------------------
الهوامش :
(10) انظر تفسير (( العاقبة )) فيما سلف 11: 272 ، 273 .
(11) في المطبوعة : (( من الذي يعقب دنياه )) ، والذي في المخطوطة هو الصواب .
(12) انظر تفسير (( الفلاح )) فيما سلف 11 : 296 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(13) انظر تفسير (( الظلم )) فيما سلف من فهارس اللغة ( ظلم ) .
(14) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 355 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 135 | ﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ |
---|
الزمر: 39 | ﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ |
---|
هود: 93 | ﴿ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
تكون:
وقرئ:
يكون، بالياء، على التذكير، وهى قراءة حمزة، والكسائي.
التفسير :
يخبر تعالى، عمَّا عليه المشركون المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، من سفاهة العقل، وخفة الأحلام، والجهل البليغ، وعدَّد تبارك وتعالى شيئا من خرافاتهم، لينبه بذلك على ضلالهم والحذر منهم، وأن معارضة أمثال هؤلاء السفهاء للحق الذي جاء به الرسول، لا تقدح فيه أصلا، فإنهم لا أهلية لهم في مقابلة الحق، فذكر من ذلك أنهم{ جعلوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} ولشركائهم من ذلك نصيبا، والحال أن الله تعالى هو الذي ذرأه للعباد، وأوجده رزقا، فجمعوا بين محذورين محظورين، بل ثلاثة محاذير، منَّتهم على الله، في جعلهم له نصيبا، مع اعتقادهم أن ذلك منهم تبرع، وإشراك الشركاء الذين لم يرزقوهم، ولم يوجدوا لهم شيئا في ذلك، وحكمهم الجائر في أن ما كان لله لم يبالوا به، ولم يهتموا، ولو كان واصلا إلى الشركاء، وما كان لشركائهم اعتنوا به واحتفظوا به ولم يصل إلى الله منه شيء، وذلك أنهم إذا حصل لهم -من زروعهم وثمارهم وأنعامهم، التي أوجدها الله لهم- شيء، جعلوه قسمين:قسمًا قالوا:هذا لله بقولهم وزعمهم، وإلا فالله لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه، ولا يقبل عمل مَن أشرك به. وقسمًا جعلوه حصة شركائهم من الأوثان والأنداد. فإن وصل شيء مما جعلوه لله، واختلط بما جعلوه لغيره، لم يبالوا بذلك، وقالوا:الله غني عنه، فلا يردونه، وإن وصل شيء مما جعلوه لآلهتهم إلى ما جعلوه لله، ردوه إلى محله، وقالوا:إنها فقيرة، لا بد من رد نصيبها. فهل أسوأ من هذا الحكم. وأظلم؟"حيث جعلوا ما للمخلوق، يجتهد فيه وينصح ويحفظ، أكثر مما يفعل بحق الله. ويحتمل أن تأويل الآية الكريمة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الله تعالى أنه قال:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي شيئا تركته وشركه". وأن معنى الآية أن ما جعلوه وتقربوا به لأوثانهم، فهو تقرب خالص لغير الله، ليس لله منه شيء، وما جعلوه لله -على زعمهم- فإنه لا يصل إليه لكونه شركًا، بل يكون حظ الشركاء والأنداد، لأن الله غني عنه، لا يقبل العمل الذي أُشرِك به معه أحد من الخلق.
لقد حكت هذه الآيات الكريمة بعض الرذائل التي كانت متفشية في المجتمع الجاهلى، أما الرذيلة الأولى فملخصها أنهم كانوا يجعلون من زروعهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيبا لله ونصيبا لأوثانهم، فيشركونها في أموالهم فما كان لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين، وما كان للأوثان أنفقوه عليها وعلى سدنتها فإذا رأوا ما جعلوه لله أزكى بدلوه بما للأوثان، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان أزكى تركوه لها.
استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً.
«ذرأ» بمعنى خلق يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا أى: خلقهم وأوجدهم وقيل: الذرأ الخلق على وجه الاختراع.
أى: وجعل هؤلاء المشركون مما خلقه الله- تعالى- من الزروع والأنعام نصيبا لله يعطونه للمساكين وللضيوف وغيرهم، وجعلوا لأصنامهم نصيبا آخر يقدمونه لسدنتها، وإنما لم يذكر النصيب الذي جعلوه لأصنامهم اكتفاء بدلالة ما بعده وهو قوله: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا.
أى: فقالوا في القسم الأول: هذا لله نتقرب به إليه.
وقالوا في الثاني: وهذا لشركائنا نتوسل به إليها.
وقوله- تعالى- في القسم الأول هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أى: بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى.
قال الجمل: ومن المعلوم أن الزعم هو الكذب، وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله، لأن هذا الجعل لم يأمرهم به الله وإنما هو مجرد اختراع منهم.
وقال أبو السعود: وإنما قيد الأول بالزعم للتنبيه على أنه في الحقيقة جعل لله- تعالى- غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله- لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه، فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني، ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه- تعالى- به.
ثم فصل- سبحانه- ما كانوا يعملونه بالنسبة للقسمة فقال: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ.
أى: فما كان من هذه الزروع والأنعام من القسم الذي يتقرب به إلى شركائهم، فإنهم يحرمون الضيفان والمساكين منه ولا يصل إلى الله منه شيء، وما كان منها من القسم الذي يتقرب به إلى الله عن طريق إكرام الضيف والصدقة، فإنهم يجورون عليه ويأخذون منه ما يعطونه لسدنة الأصنام وخدامها.
فهم يجعلون قسم الأصنام لسدنتها وأتباعها وحدهم، بينما القسم الذي جعلوه لله بزعمهم ينتقصونه ويضعون الكثير منه في غير موضعه، ويقولون: إن الله غنى وإن آلهتنا محتاجة.
وقد عقب القرآن على هذه القسمة الجائرة بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ أى: ساء وقبح حكمهم وقسمتهم حيث آثروا مخلوقا عاجزا عن كل شيء، على خالق قادر على كل شيء، فهم بجانب عملهم الفاسد من أساسه لم يعدلوا في القسمة.
هذه هي الرذيلة الأولى من رذائلهم، أما الرذيلة الثانية فهي أن كثيرا منهم كانوا يقتلون أولادهم، ويئدون بناتهم لأسباب لا تمت إلى العقل السليم بصلة وقد حكى القرآن ذلك في قوله.
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعا وكفرا وشركا ، وجعلوا لله جزءا من خلقه ، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى عما يشركون; ولهذا قال تعالى : ( وجعلوا لله مما ذرأ ) أي : مما خلق وبرأ ( من الحرث ) أي : من الزروع والثمار ( والأنعام نصيبا ) أي : جزءا وقسما ، ( فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) .
وقوله : ( فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) قال علي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس ; أنه قال في تفسير هذه الآية : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا ، أو كانت لهم ثمرة ، جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه . وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن . وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن . فسقى شيئا جعلوه لله ؛ جعلوا ذلك للوثن . وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله ، فاختلط بالذي جعلوه للوثن ، قالوا : هذا فقير . ولم يردوه إلى ما جعلوه لله . وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله . فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن ، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، فيجعلونه للأوثان ، ويزعمون أنهم يحرمونه لله ، فقال الله عز وجل ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) الآية .
وهكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره : كل شيء جعلوه لله من ذبح يذبحونه ، لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة . وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ : ( ساء ما يحكمون ) أي : ساء ما يقسمون ، فإنهم أخطئوا أولا في القسمة ، فإن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه ، وله الملك ، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته ، لا إله غيره ، ولا رب سواه . ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي فاسدة ، بل جاروا فيها ، كما قال تعالى : ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ) [ النحل : 57 ] ، وقال تعالى : ( وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين ) [ الزخرف : 15 ] ، وقال تعالى : ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ) [ النجم : 21 ، 22 ] .
القول في تأويل قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ والأصنام لربهم =(مما ذرأ) خالقهم, يعني: مما خلق من الحرث والأنعام.
* * *
يقال منه: " ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذَرْءًا، وذَرْوًا "، (15) إذا خَلَقهم .
* * *
=" نصيبًا "، يعني قسمًا وجزءًا . (16)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله، والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان.
فقال بعضهم: كان ذلك جزءًا من حُروثهم وأنعامهم يُفْرِزُونه لهذا، (17) وجزءًا آخر لهذا .
* ذكر من قال ذلك:
13899- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن عكرمة عن ابن عباس (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله)، الآية, قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَمًا، جعلوا منها لله سَهْمًا، وسهمًا لآلهتهم. وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردُّوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقرُّوه ولم يردُّوه. فذلك قوله: (سَاءَ ما يحكمون) .
13900- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا)، قال: جعلوا لله من ثمراتهم وما لهم نصيبًا، وللشيطان والأوثان نصيبًا. فإن سقط من ثمرة ما جَعَلوا لله في نصيب الشيطان تركوه ، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقَطُوه وحفظُوه وردُّوه إلى نصيب الشيطان ، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، (18) وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدُّوه. فهذا ما جعلوا من الحروث وسِقْي الماء . وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام فهو قول الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ، [سورة المائدة: 103] .
13901- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم)، الآية, وذلك أن أعداءَ الله كانوا إذا احترثُوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة, جعلوا لله منها جزءًا وللوَثَن جزءًا, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. فإن سقط منه شيء فيما سُمِّي لله ردُّوه إلى ما جعلوا للوثن. وإن سبقهم الماء إلى الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئًا جعلوه لله. جعلوا ذلك للوثن, وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله. فاختلط بالذي جعلوا للوثن, قالوا: " هذا فقير "! ولم يردوه إلى ما جعلوا لله . وإن سبقهم الماء الذي جعلوا لله فسقى ما سُمِّي للوثن، تركوه للوثن . وكانوا يحرِّمون من أنعامهم البَحيرة والسائبة والوصيلةَ والحام, فيجعلونه للأوثان, ويزعمون أنهم يحرّمونه لله. فقال الله في ذلك: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا)، الآية .
13902- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا)، قال: يسمون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءًا ، فما ذهبت به الريح مما سمّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه, وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردُّوه، وقالوا: " الله عن هذا غنيّ" ! و " الأنعام " السائبة والبحيرة التي سمُّوا .
13903- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه .
13904- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا)، الآية, عمَدَ ناس من أهل الضلالة فجزَّءوا من حروثهم ومواشيهم جزءًا لله وجزءًا لشركائهم . وكانوا إذا خالط شيء مما جزّءوا لله فيما جزءوا لشركائهم خلَّوه. فإذا خالط شيء مما جزءوا لشركائهم فيما جزءوا لله ردّوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السَّنةُ استعانوا بما جزءوا لله، وأقرُّوا ما جزءوا لشركائهم ، قال الله: (ساء ما يحكمون) .
13905- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا)، قال: كانوا يجزئون من أموالهم شيئًا, فيقولون: " هذا لله, وهذا للأصنام "، التي يعبدون . فإذا ذهب بعيرٌ مما جعلوا لشركائهم، (19) فخالط ما جعلوا لله ردُّوه. وإن ذهب مما جعلوه لله فخالط شيئًا مما جعلوه لشركائهم تركوه . وإن أصابتهم سنة, أكلوا ما جعلوا لله، وتركوا ما جعلوا لشركائهم, فقال الله: (ساء ما يحكمون) .
13906- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) إلى (يحكمون)، قال: كانوا يقسمون من أموالهم قِسْمًا فيجعلونه لله, ويزرعون زَرْعًا فيجعلونه لله, ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها, وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي لله قالوا: " ليس بُدٌّ لآلهتنا من نفقة " ، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي لله، وكثر الذي لآلهتهم, قالوا: " لو شاء أزكى الذي له " ! فلا يردُّون عليه شيئًا مما للآلهة . قال الله: لو كانوا صادقين فيما قسموا، لبئس إذًا ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني . فذلك حين يقول: (ساء ما يحكمون).
* * *
وقال آخرون: " النصيب " الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم: أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسمّوا الآلهة, وكانوا ما ذبحوه للآلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه .
* ذكر من قال ذلك:
13907- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) حتى بلغ: (وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم)، قال: كل شيء جعلوه لله من ذِبْح يذبحونه، (20) لا يأكلونه أبدًا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسمَ الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ: (ساء ما يحكمون) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية ما قال ابن عباس ومَنْ قال بمثل قوله في ذلك, لأن الله جل ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسمًا مقدرُا, فقالوا: " هذا لله " وجعلوا مثله لشركائهم, وهم أوثانهم، بإجماع من أهل التأويل عليه, فقالوا: " هذا لشركائنا " = وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله, بمعنى: لا يصل إلى نصيب الله, وما كان لله وصَل إلى نصيب شركائهم . فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية, كان أعيان ما أخبر الله عنه أنه لم يصل، جائزًا أن تكون قد وصلت, وما أخبر عنه أنه قد وصل، لم يصل. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام، لأن الذبيحتين تُذبح إحداهما لله، والأخرى للآلهة, جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت، وخلطوها إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحًا للآلهة، دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض .
* * *
وأما قوله : (ساء ما يحكمون)، فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه: وقد أساؤوا في حكمهم، (21) إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم . وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبرَ عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم, حتى فضّلوه في أقسامهم عند أنفسهم بالقَسْم عليه .
----------------------
الهوامش :
(15) في المخطوطة أيضًا (( وذروا )) ، كأنه يعني تسهيل الهمزة ، ولم أجد ذكر ذلك في مصادر هذا الفعل ، ولا أظنه أراد : (( وذروءًا )) ، فإن أحدًا لم يذكر ذلك .
(16) انظر تفسير (( نصيب )) فيما سلف 9 : 324 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(17) في المطبوعة : (( يقرونه )) ، وفي المخطوطة : (( يفررون )) غير تامة النقط ، وصواب قراءتها ما أثبت . (( فرزت الشيء )) و (( أفرزته )) ، إذا عزلته عن غيره ، ومزته . و (( الفِرْز)) ( بكسر فسكون ) : النصيب المفروز لصاحبه ، واحدًا كل أو اثنين .
(18) (( السقي )) ( بكسر السين وسكون القاف ) : والشرب ( بكسر فسكون ) ، وهو مورد الماء كالجدول ، يسقى به الزرع .
(19) في المطبوعة : (( فإذا ذهب مما جعلوا )) غير ما كان في المخطوطة لغير طائل .
(20) (( الذبح )) ( بكسر فسكون ) ، هو (( الذبيح )) ، و (( المذبوح )) ، وهو كل ما أعد للذبح من الأضاحي ، وغيرها من الحيوان .
(21) انظر تفسير (( ساء )) فيما سلف من فهارس اللغة ( سوأ ) = وتفسير (( يحكم )) فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النحل: 59 | ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ |
---|
الأنعام: 136 | ﴿وَمَا كَانَ لِلَّـهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ |
---|
العنكبوت: 4 | ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ |
---|
الجاثية: 21 | ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
بزعمهم:
قرئ:
1- بضم الزاى، وهى لغة بنى أسد، وهى قراءة الكسائي.
2- بفتح الزاى، وهى لغة الحجاز، وهى قراءة باقى السبعة.
3- بفتح الزاى والعين، لغة لبعض قيس وتميم، وهى قراءة ابن أبى عبلة.
التفسير :
ومن سفه المشركين وضلالهم، أنه زيَّن لكثير من المشركين شركاؤهم -أي:رؤساؤهم وشياطينهم- قتل أولادهم، وهو:الوأد، الذين يدفنون أولادهم الذكور خشية الافتقار، والإناث خشية العار. وكل هذا من خدع الشياطين، الذين يريدون أن يُرْدُوهم بالهلاك، ويلبسوا عليهم دينهم، فيفعلون الأفعال التي في غاية القبح، ولا يزال شركاؤهم يزينونها لهم، حتى تكون عندهم من الأمور الحسنة والخصال المستحسنة، ولو شاء الله أن يمنعهم ويحول بينهم وبين هذه الأفعال، ويمنع أولادهم عن قتل الأبوين لهم، ما فعلوه، ولكن اقتضت حكمته التخلية بينهم وبين أفعالهم، استدراجا منه لهم، وإمهالا لهم، وعدم مبالاة بما هم عليه، ولهذا قال:{ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي:دعهم مع كذبهم وافترائهم، ولا تحزن عليهم، فإنهم لن يضروا الله شيئا.
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ.
أى: ومثل ذلك التزيين في قسمة الزروع والأنعام بين الله والأوثان، زين للمشركين شركاؤهم من الشياطين أو السدنة قتل بناتهم خشية العار أو الفقر فأطاعوهم فيما أمروهم به من المعاصي والآثام.
والتزيين: التحسين، فمعنى تزيينهم لهم أنهم حسنوا لهم هذه الأفعال القبيحة، وحضوهم على فعلها.
سموا شركاء لأنهم أطاعوهم فيما امروهم به من قتل الأولاد، فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم، أو سموا شركاء لأنهم كانوا يشاركون الكفار في أموالهم التي منها الحرث والأنعام.
وشُرَكاؤُهُمْ فاعل زَيَّنَ وأخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم واهتماما به، لأنه موضع التعجب.
وقوله: لِيُرْدُوهُمْ أى ليهلكوهم من الردى وهو الهلاك. يقال ردى- كرضى- أى:
هلك.
وقوله: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ معطوف على ليردوهم، أى: ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل- عليه السلام- حتى زالوا عنه إلى الشرك.
ويلبسوا مأخوذ من اللبس بمعنى الخلط بين الأشياء التي يشبه بعضها بعضا وأصله الستر بالثوب، ومنه اللباس، ويستعمل في المعاني فيقال: لبس الحق بالباطل يلبسه ستره به. ولبست عليه الأمر. خلطته عليه وجعلته مشتبها حتى لا يعرف جهته، فأنت ترى أن شركاءهم قد حسنوا لهم القبيح من أجل أمرين: إهلاكهم وإدخال الشبهة عليهم في دينهم عن طريق التخليط والتلبيس. ثم سلى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهدد أعداءه فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
أى: ولو شاء الله ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بسبب ما يفعلونه، بل دعهم وما يفترونه من الكذب، فإنهم لسوء استعدادهم آثروا الضلالة على الهداية.
والفاء في قوله فَذَرْهُمْ فصيحة أى: إذا كان ما قصصناه عليك بمشيئة الله، فدعهم وافتراءهم ولا تبال بهم، فإن فيما يشاؤه الله حكما بالغة.
يقول تعالى : وكما زينت الشياطين لهؤلاء المشركين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ، ووأد البنات خشية العار .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم : زينوا لهم قتل أولادهم .
وقال مجاهد : ( شركاؤهم ) شياطينهم ، يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة . وقال السدي : أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات . وإما ( ليردوهم ) فيهلكوهم ، وإما ( ليلبسوا عليهم دينهم ) أي : فيخلطون عليهم دينهم .
ونحو ذلك قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وهذا كقوله تعالى : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) [ النحل : 58 ، 59 ] ، وقال تعالى : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) [ التكوير : 8 ، 9 ] . وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق ، وهو الفقر ، أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تانئ المال وقد نهاهم الله عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من شرع الشيطان تزيينه لهم ذلك .
قال تعالى : ( ولو شاء الله ما فعلوه ) أي : كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونا ، وله الحكمة التامة في ذلك ، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون . ( فذرهم وما يفترون ) أي : فدعهم واجتنبهم وما هم فيه ، فسيحكم الله بينك وبينهم .
القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما زيَّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينوا لهم, من تصييرهم لربهم من أموالهم قَسْما بزعمهم, وتركهم ما وَصل من القَسْم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم في قسمهم, وردِّهم ما وَصَل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله، إلى قسم شركائهم= (كذلك زين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم)، من الشياطين, فحسنوا لهم وأد البنات (22) =(ليردوهم)، يقول: ليهلكوهم=(وليلبسوا عليهم دينهم)، فعلوا ذلك بهم، ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس, فيضلوا ويهلكوا، بفعلهم ما حرم الله عليهم (23) = ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه, بأن كان يهديهم للحق، ويوفقهم للسداد, فكانوا لا يقتلونهم, ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم، وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم .
يقول الله لنبيه، متوعدًا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسِمونها: " هذا لله وهذا لشركائنا "، وفي قتلهم أولادهم=" ذرهم "، يا محمد، (24) " وما يفترون "، وما يتقوّلون عليَّ من الكذب والزور, (25) فإني لهم بالمرصاد, ومن ورائهم العذاب والعقاب .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13908- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم) ، زينوا لهم, من قَتْل أولادهم .
13909- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (قتل أولادهم شركاؤهم)، شياطينهم، يأمرونهم أن يَئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة . (26)
13910- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه .
13911- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم) الآية, قال: شركاؤهم زينوا لهم ذلك =(ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) .
13912- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم)، قال: شياطينهم التي عبدوها, زينوا لهم قتلَ أولادهم .
13913- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم)، أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات . وأمَّا(ليردوهم) ، فيهلكوهم . وأما(ليلبسوا عليهم دينهم)، فيخلطوا عليهم دينهم .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة الحجاز والعراق: ( وَكَذَلِكَ زَيَّن )، بفتح الزاي من " زين "، ( لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ )، بنصب " القتل ",(شُرَكَاؤُهُمْ)، بالرفع = بمعنى أن شركاء هؤلاء المشركين، الذين زينوا لهم قتلَ أولادهم= فيرفعون " الشركاء " بفعلهم, وينصبون " القتل "، لأنه مفعول به .
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الشام: " وَكَذَلِكَ زُيِّنَ" بضم الزاي" لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ" بالرفع " أَوْلادَهُمْ" بالنصب " شُرَكَائِهِمْ" بالخفض= بمعنى: وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ شركائهم أولادَهم ، ففرّقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم. وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح . وقد روي عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيِّد قراءة من قرأ بما ذكرت من قرأة أهل الشام, رأيتُ رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه, وذلك قول قائلهم:
فَزَجَجْتُــــــهُ مُتَمَكِّنًــــــا
زَجَّ القَلُـــوصَ أَبـــي مَــزَادَهْ (27)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها: ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ )، بفتح الزاي من " زين "، ونصب " القتل " بوقوع " زين " عليه، وخفض " أولادهم " بإضافة " القتل " إليهم, ورفع " الشركاء " بفعلهم، لأنهم هم الذين زينوا للمشركين قتلَ أولادهم، على ما ذكرتُ من التأويل .
وإنما قلت: " لا أستجيز القراءة بغيرها "، لإجماع الحجة من القرأة عليه, وأن تأويل أهل التأويل بذلك ورد, ففي ذلك أوضح البيان على فساد ما خالفها من القراءة .
* * *
ولولا أن تأويل جميع أهل التأويل بذلك ورد، ثم قرأ قارئ: " وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ"، بضم الزاي من " زين "، ورفع " القتل "، وخفض " الأولاد " و " الشركاء ", على أن " الشركاء " مخفوضون بالردّ على " الأولاد "، بأنّ" الأولاد " شركاء آبائهم في النسب والميراث = كان جائزًا . (28)
* * *
ولو قرأه كذلك قارئ, غير أنه رفع " الشركاء " وخفض " الأولاد "، كما يقال: " ضُرِبَ عبدُ الله أخوك ", فيظهر الفاعل، بعد أن جرى الخبر بما لم يسمَّ فاعله= كان ذلك صحيحًا في العربية جائزًا .
------------------
الهوامش :
(22) انظر تفسير (( زين )) فيما سلف ص : 92 ، تعليق : 2 والمراجع هناك .
(23) انظر تفسير (( اللبس )) فيما سلف : 11 : 492 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(24) انظر تفسير ذر فيما سلف : 72 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(25) انظر تفسير (( الافتراء )) فيما سلف : 57 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(26) (( العيلة )) ( بفتح فسكون ) ، الفقر وشدة الحاجة .
(27) معاني القرآن للفراء 1 : 358 ، الإنصاف : 179 ، الخزانة 2 : 251 ، والعيني ( بهامش الخزانة ) 3 : 468 ، وغيرها كثير . (( زج )) : دفع بالزج ، وهو الحديدة التي في أسفل الرمح . و (( القلوص )) الناقة الفتية ، و (( أبو مزادة )) اسم رجل . وهذا البيت شاهد على ما ذهب إليه الكوفيون من جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض ، لضرورة الشعر . والتقدير : زج أبي مزادة القلوص ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالقلوص ، وهو مفعول ، وليس بظرف ولا حرف خفض . وهذا وإن كان مقالة الكوفيين ، فإن الفراء قد رده في معاني القرآن 1 : 358 ، وقال هو ليس بشيء .
(28) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 357 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 112 | ﴿يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ |
---|
الأنعام: 137 | ﴿لِيُرۡدُوهُمۡ وَلِيَلۡبِسُواْ عَلَيۡهِمۡ دِينَهُمۡۖ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
زين:
قرئ:
1- مبنيا للفاعل، وهى قراءة الجمهور.
2- مبنيا للمفعول، وهى قراءة نفر، منهم: السلمى، والحسن، وأبو عبد الملك.
3- بكسر الزاى وسكون الياء، وهى قراءة بعض أهل الشام.
شركاؤهم:
وقرئ:
1- بالجر، مع جر «أولادهم» ، ويكون الشركاء هم الموءودون.
2- بالجر، مع نصب «أولادهم» ، فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول، وهى قراءة ابن عامر.