ترتيب المصحف | 3 | ترتيب النزول | 89 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 27.00 |
عدد الآيات | 200 | عدد الأجزاء | 1.30 |
عدد الأحزاب | 2.60 | عدد الأرباع | 10.60 |
ترتيب الطول | 3 | تبدأ في الجزء | 3 |
تنتهي في الجزء | 4 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 2/29 | آلم: 2/6 |
لمَّا أَمَرَ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكرِ أَخبَر هنا أنَّ هذه الأُمَّةَ قامَتْ بما أمَرَها اللهُ به فاستحقَّتِ الخيريةَ، ثُمَّ شرعَ في تأنيبِ أهلِ الكتابِ وذمِهم، وأنَّهم لن يَضرُّوا المؤمنينَ إلَّا أذىً باللِّسان.
لمَّا ذَكَرَ اللهُ في الآياتِ السَّابقةِ حالَ الفاسقين من أهلِ الكتابِ، ذَكَرَ هنا حالَ المؤمنينَ منهم، وأنَّه لن يُضيِّعَ ما قدَّموه من أعمالٍ صالحةٍ.
التفسير :
أي:هو المالك لما في السماوات وما في الأرض، الذي خلقهم ورزقهم ويتصرف فيهم بقدره وقضائه، وفي شرعه وأمره، وإليه يرجعون يوم القيامة فيجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أنه هو المالك لكل شيء وأنه هو وحده الذي إليه تصير الأمور فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أى له- سبحانه- وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أى إلى حكمه وفضائه تعود أمور الناس وشئونهم فيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى، لأنه- سبحانه- منه المبدأ وإليه المآب فيجازى كل إنسان على حسب اعتقاده وعمله بدون ظلم أو محاباة.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حذرت الناس من أهوال يوم القيامة الذي تبيض فيه وجوه وتسود وجوه وبينت الأسباب التي أدت إلى فوز من فاز وإلى شقاء من شقي، ونوهت بشأن الآيات التي أنزلها الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم لتكون هداية للناس وصرحت بأن الله- تعالى- هو الخالق لكل شيء وإليه مرجع الأمور ومصيرها فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
وبعد أن أمر الله- تعالى- المؤمنين بالدعوة إلى الخير ونهاهم عن التفرق والاختلاف المفضى إلى العذاب العظيم يوم القيامة، وبين لهم أن مصير الأمور إليه بعد كل ذلك ساق لهم ما يقوى إيمانهم ويثبت يقينهم، بأن بشرهم بحسن العقبى متى استقاموا على أمره، وأمروا بالمعروف
ونهوا عن المنكر، وأنذر الكافرين من أهل الكتاب بالهزيمة في الدنيا، وبغضب الله- تعالى- في الآخرة فقال- تعالى:
ولهذا قال تعالى "ولله ما في السموات وما في الأرض" أي الجميع ملك له وعبيد له وإلى الله ترجع الأمور أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم وتسويد الوجوه، ويثيب أهلَ الإيمان به الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها بما وصفَ أنه مثيبهم به من الخلود في جنانه، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل، لأنه لا حاجة به إلى الظلم. وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزه عزة بظلمه إياه، أو إلى سلطانه سلطانًا، أو إلى ملكه ملكًا، = (1) أو إلى نقصان في بعض أسبابه يتمم بها ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام. (2) فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب، وما في الدنيا والآخرة، فلا معنى لظلمه أحدًا، فيجوز أن يظلم شيئًا، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقصٌ يحتاج إلى تمام، فيتم ذلك بظلم &; 7-99 &; غيره، تعالى الله علوًّا كبيرًا. ولذلك قال جل ثناؤه عَقِيب قوله: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ،" ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ".
* * *
واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله: " وإلى الله ترجع الأمور " ظاهرًا، وقد تقدم اسمُه ظاهرًا مع قوله: " ولله ما في السماوات وما في الأرض ".
فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة: ذلك نظيرُ قول العرب: " أما زيدٌ فذهب زيدٌ"، وكما قال الشاعر: (3)
لا أرَى المَـوْتَ يَسْـبِقُ المَـوْتَ شَيءٌ
نَغَّــصَ المَـوْتُ ذَا الغِنَـى وَالفَقِـيرَا (4)
فأظهر في موضع الإضمار.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: ليس ذلك نظير هذا البيت، لأن موضع " الموت " الثاني في البيت موضع كناية، لأنه كلمة واحدة، (5) وليس ذلك كذلك في الآية، لأن قوله: " ولله ما في السماوات وما في الأرض " خبرٌ، ليس من قوله: " وإلى الله ترجع الأمور " في شيء، وذلك أنّ كلّ واحدة من القصتين مفارقٌ معناها معنى الأخرى، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها، غير محتاجة إلى الأخرى. وما قال الشاعر: " لا أرى الموت "، محتاجٌ إلى تمام الخبر عنه. (6)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب، لأن كتاب الله عز وجل لا توجَّهُ معانيه وما فيه من البيان، (7) إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم، وجهٌ صحيح موجودٌ.
وأما قوله: " وإلى الله ترجع الأمور " فإنه يعني تعالى ذكره: إلى الله مصير أمر جميع خلقه، الصالح منهم والطالح، والمحسن والمسيء، فيجازي كلا على قدر استحقاقهم منه الجزاء، بغير ظلم منه أحدا منهم.
-----------------
الهوامش :
(1) في المطبوعة: "وإلى ملكه" بالواو ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "وإلى ملكه ملكًا لنقصان في بعض أسبابه يتمم بما ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام" ، وهي جملة تشبه أن تكون مستقيمة ، بيد أن الطبري أراد أن الظالم يظلم ليزداد عزة إلى عزه - أو سلطانًا إلى سلطانه - أو ملكًا إلى ملكه - أو أن يتمم بظلمه ما كان ناقصًا من أسبابه. وعبارة الطبري التي أثبتها مستقيمة جدا على طريقته في العبارة.
(3) هو عدى بن زيد ، وقد ينسب إلى ولده سوادة بن عدي ، وربما نسب لأمية بن أبي الصلت.
(4) حماسة البحتري: 98 ، وشعراء الجاهلية: 468 ، وسيبويه 1: 30 ، وخزانة الأدب 1: 183 ، 2: 534 ، 4: 552 ، وأمالي ابن الشجري 1: 243 ، 288 ، وشرح شواهد المغني: 296 ، وهو من أبيات مفرقة في هذه الكتب وغيرها من حكمة عدي في تأمل الحياة والموت ، يقول قبل البيت:
إنّ للدَّهْـــرِ صَوْلَــةً فَاحْذَرنْهَــا
لا تَبِيتَــنَّ قَــدْ أمِنْــتَ الدّهـورَا
قَـدْ يَنَـامُ الفَتَـى صَحِيحًـا فَـيَرْدَى
وَلَقَـــدْ بَــاتَ آمِنًــا مَسْــرُورَا
لا أَرَى المَــــوْتَ................
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم يقول بعد أبيات:
أَيْــنَ أيْــنَ الفِـرَارُ مِمَّـا سَـيَأْتِي
لا أَرَى طَــائِرًا نَجَــا أَنْ يَطِــيرَا
ويقول: غني الناس وفقيرهم ، فيهم مفسد عليه حياته من مخافة هذا الموت ، ومن ترقبه ، هذا يخاف أن يسبقه الموت إلى ماله الذي جمع ، وذاك يفزع أن يسبقه الردى إلى ما يؤمل من متاع الدنيا. وكان هذا البيت في المخطوطة فاسدًا محرفًا ناقصًا ، وهو في المطبوعة سوى مستقيم.
(5) الكناية: هو الضمير في اصطلاح بقية النحويين.
(6) في المخطوطة والمطبوعة: "كما قال الشاعر" ، وهو غير مستقيم ، والصواب ما أثبت.
(7) في المطبوعة: "لا يؤخذ معانيه" ، وفي المخطوطة: "لا يوحد" غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت ، والناسخ كثير التصحيف كما علمت ، والدال هي الهاء في آخر الكلمة.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 109 | ﴿ لِّلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ/ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّـهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ |
---|
آل عمران: 129 | ﴿ وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ﴾ |
---|
النساء: 126 | ﴿ وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا﴾ |
---|
النساء: 131 | ﴿ وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّـهَ﴾ |
---|
النساء: 132 | ﴿ وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ وَكِيلًا﴾ |
---|
النجم: 31 | ﴿ وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ |
---|
البقرة: 284 | ﴿ لِّلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّـهُ﴾ |
---|
لقمان: 26 | ﴿ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس، لما كانت الآية السابقة وهي قوله:{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} أمرا منه تعالى لهذه الأمة، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به، وقد لا يقوم به، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة، ولكن من لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم، فليس على المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ولا أبدانهم، وإنما غاية ما يصلون إليه من الأذى أذية الكلام التي لا سبيل إلى السلامة منها من كل معادي، فلو قاتلوا المؤمنين لولوا الأدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ولا هم ينصرون في وقت من الأوقات
وقوله- تعالى- كُنْتُمْ يصح أن تكون من كان التامة التي بمعنى وجد وهي لا تحتاج إلى خبر فيكون المعنى وجدتم خير أمة أخرجت للناس، ويكون قوله خَيْرَ أُمَّةٍ بمعنى الحال.
وبهذا الرأى قال جمع من المفسرين.
ويصح أن تكون من كان الناقصة التي هي- كما يقول الزمخشري- عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ فيكون المعنى: قدرتم في علم الله- تعالى- خير أمة أخرجت للناس.
ويجوز أن تكون بمعنى صار. أى تحولتم يا معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبي صلّى الله عليه وسلّم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة.
وقيل: إن «كان» هنا زائدة، والتقدير: أنتم خير أمة. ورد هذا القول بأن كان لا تزاد في أول الكلام.
والظاهر أن الرأى الأول الذي يقول إن كُنْتُمْ هنا من كان التامة هو أقرب الأقوال إلى الصواب «ويليه الرأى الثاني الذي يرى أصحابه أن «كنتم» هنا من «كان» الناقصة إلا أنها هنا تدل على تحقق شيء بصفة في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لا حق.
والخطاب في هذه الآية الكريمة بقوله- تعالى- كُنْتُمْ للمؤمنين الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم ولمن أتى بعدهم واتبع تعاليم الإسلام إلى يوم الدين.
ولذا قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة. كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم الذين يلونهم، كما قال- سبحانه- في الآية الأخرى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.
وقد وردت أحاديث متعددة في فضل هذه الأمة الإسلامية، منها: ما جاء في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي وابن ماجة من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله- تعالى-» .
والمعنى: وجدتم يا معشر المسلمين العاملين بتعاليم الإسلام وآدابه وسنته وشريعته خير أمة أخرجت وأظهرت للناس، من أجل إعلاء كلمة الحق وإزهاق كلمة الباطل، ونشر الإصلاح والنفع في الأرض.
وقوله خَيْرَ أُمَّةٍ خبر كنتم على أنها من كان الناقصة.
وجملة أُخْرِجَتْ صفة لأمة، وقوله لِلنَّاسِ متعلق بأخرجت، وحذف الفاعلي من أُخْرِجَتْ للعلم به أى: خرجها الله- تعالى- لنفع الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
فالجملة الكريمة تنوه بشأن الأمة الإسلامية وتعلى من قدرها، فهل تعى الأمة الإسلامية هذا التنويه من شأنها وذلك الإعلاء من قدرها فتقوم بدورها الذي اختاره الله لها، وهو نشر كلمة التوحيد في الأرض وإحقاق الحق وإبطال الباطل شكرا الله- تعالى- على جعله إياها خير أمة أخرجت للناس؟؟.
إن واقع المسلمين المليء بالضعف والهوان، والفسوق والعصيان يدمى قلوب المؤمنين الصادقين، ويحملهم على أن يبلغوا رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه حتى تكون كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي جعلت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس فقال:
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
والمعروف: هو كل قول أو عمل حسنه الشرع، وأيدته العقول السليمة، والمنكر بعكسه.
والمعنى: وجدتم خير أمة أخرجت للناس، لأنكم تأمرون بالمعروف أى بالقول أو الفعل الجميل المستحسن في الشرائع والعقول. وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أى كل قول أو فعل قبيح تستنكره الشرائع ويأباه أهل الإيمان القويم، والعقل السليم.
وتُؤْمِنُونَ بالله أى تصدقون وتذعنون بأنه لا معبود بحق سواه، وتخلصون له العبادة والخضوع، وتطيعونه في كل ما أمركم به أو نهاكم عنه على لسان رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فأنت ترى أن الخيرية للأمة الإسلامية منوطة بتحقيق أصلين أساسيين:
أولهما: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما سياج الدين، ولا يمكن أن يتحقق بنيان أمة على الخير والفضيلة إلا بالقيام بهما، فهما من الأسباب التي استحق بنو إسرائيل اللعنة من أجل تركهما، فقد أخرج أبو داود في سننه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلّى الله عليه وسلّم لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثم قال: «كلا والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا- ولتحملنه على اتباع الحق حملا- أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم» .
وثانيهما: الإيمان بالله- تعالى- وبجميع ما أمره الله- تعالى- بالإيمان به.
هذان هما الأمران اللذان يجب أن يتحققا لتكون هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لأن الأمة التي تهمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تؤمن بالله لا يمكن أن تكون خير أمة بل لا توصف بالخيرية قط، لأنه لا خير إلا في الفضائل والحق والعدل، ولا تقوم هذه الأمور إلا مع وجود الإيمان بالله وكثرة الدعاة إلى الخير والناهين عن الشر، ويكون لدعوتهم آثارها القوية التي تحيا معها الفضائل وتزول بها الرذائل.
وكأنه- سبحانه- قد أخر «الإيمان بالله» عن «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» ليكون كالباعث عليهما لأنه لا يصبر على تكاليفهما ومتاعبهما إلا مؤمن يبتغى وجه الله ويركن في كفاحه إليه. فهذا الإيمان بالله هو الباعث للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، على أن يبلغوا رسالات الله، دون أن يخشوا أحدا سواه.
وقيل: إنما أخر الإيمان على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر، لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهما أظهر في الدلالة على الخيرية للأمة الإسلامية.
وجملة تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يجوز أن تكون حالية من ضمير الخطاب في كُنْتُمْ ويجوز أن تكون مستأنفة للتعليل، وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازي، فقد قال:
«واعلم أن هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول. زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا حكم الله- بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة. ثم ذكر عقيب هذا الحكم هذه الطاعات أعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبارات .
وقال الإمام ابن كثير- بعد أن ساق بضعة عشر حديثا في فضل هذه الأمة: فهذه الأحاديث في معنى قوله- تعالى- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح، كما قال قتادة، بلغنا أن عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة في حجة حجها فقرأ هذه الآية. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ثم قال: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها» ، رواه ابن جرير ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ الآية .
وبعد أن مدح- سبحانه- هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال- تعالى-: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أى بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أى لكان إيمانهم خيرا لهم في دنياهم وآخرتهم ولنالوا الخيرية التي ظفرت بها الأمة الإسلامية ولكنهم لم يؤمنوا فامتنع الخير فيهم لامتناع الإيمان الصحيح منهم، ولإيثارهم الضلالة على الهداية فهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ.. ومرتبطة بها.
ولم يذكر متعلق آمَنَ هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذي هو لقب وشعار للإيمان بدين الإسلام الذي أتى به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي منه أطلقت صفة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة.
وقال- سبحانه- لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أى: لو آمنوا لكان إيمانهم خيرا لهم بدون تفصيل لهذه الخيرية لتذهب نفوسهم كل مذهب في الرجاء والإشفاق.
ثم أخبر- سبحانه- بأن قلة من أهل الكتاب اختاروا الإيمان على الكفر فقال- تعالى- مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ.
أى: من أهل الكتاب أمة آمنت بالله وصدقت رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم واتبعت ما جاء به من الحق وأكثرهم معرضون عن الإيمان بالله وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم وخارجون عن الطريق المستقيم الذي أمرت باتباعه الشرائع والعقول السليمة.
فالجملة الكريمة إنصاف للقلة المؤمنة التي آمنت من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ممن دخل في الإسلام. وذم لأكثر أهل الكتاب الذين جحدوا الحق. وخرجوا عن الطريق القويم.
وقوله مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، فهي جواب للجملة الشرطية التي قبلها. فكأنه قيل: هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر؟ فكان الجواب: منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.
وعبر عن كفرهم بالفسق، للإشعار بأنهم قد فسقوا في دينهم أيضا فهم ليسوا عدولا فيه، وبذلك يكونون قد خرجوا عن الإسلام وعما أوجبته عليهم كتبهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، عن سفيان ، عن ميسرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) قال : خير الناس للناس ، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام .
وهكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والربيع بن أنس ، وعطية العوفي : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) يعني : خير الناس للناس .
والمعنى : أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ، ولهذا قال : ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )
قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عبد الله بن عميرة عن زوج [ درة ] بنت أبي لهب ، [ عن درة بنت أبي لهب ] قالت : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، فقال : يا رسول الله ، أي الناس خير ؟ فقال : " خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله ، وآمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم " .
ورواه أحمد في مسنده ، والنسائي في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث سماك ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة .
والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة ، كل قرن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، كما قال في الآية الأخرى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) أي : خيارا ( لتكونوا شهداء على الناس [ ويكون الرسول عليكم شهيدا ] ) الآية .
وفي مسند الإمام أحمد ، وجامع الترمذي ، وسنن ابن ماجه ، ومستدرك الحاكم ، من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها ، وأنتم أكرم على الله عز وجل " .
وهو حديث مشهور ، وقد حسنه الترمذي . ويروى من حديث معاذ بن جبل ، وأبي سعيد [ الخدري ] نحوه .
وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرف خلق الله ، أكرم الرسل على الله ، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبيا قبله ولا رسولا من الرسل . فالعمل [ على ] منهاجه وسبيله ، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا ابن زهير ، عن عبد الله - يعني ابن محمد بن عقيل - عن محمد بن علي ، وهو ابن الحنفية ، أنه سمع علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء " . فقلنا : يا رسول الله ، ما هو ؟ قال : " نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهورا ، وجعلت أمتي خير الأمم " . تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وإسناده حسن .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو العلاء الحسن بن سوار ، حدثنا ليث ، عن معاوية عن ابن أبي حليس يزيد بن ميسرة قال : سمعت أم الدرداء ، رضي الله عنها ، تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها ، يقول إن الله تعالى يقول : يا عيسى ، إني باعث بعدك أمة ، إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا ، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ، ولا حلم ولا علم " . قال : يا رب ، كيف هذا لهم ، ولا حلم ولا علم ؟ قال : " أعطيهم من حلمي وعلمي " .
وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها هاهنا :
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا المسعودي ، حدثنا بكير بن الأخنس ، عن رجل ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، فاستزدت ربي ، عز وجل ، فزادني مع كل واحد سبعين ألفا " . فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ، ومصيب من حافات البوادي .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا هشام بن حسان ، عن القاسم بن مهران ، عن موسى بن عبيد ، عن ميمون بن مهران ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ربي أعطاني سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب " . فقال عمر : يا رسول الله ، فهلا استزدته ؟ فقال : " استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفا " . قال عمر : فهلا استزدته ؟ قال : " قد استزدته فأعطاني هكذا " . وفرج عبد الله بن بكر بين يديه ، وقال عبد الله : وبسط باعيه ، وحثا عبد الله ، قال هشام : وهذا من الله لا يدرى ما عدده .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضمضم بن زرعة قال : قال شريح بن عبيد : مرض ثوبان بحمص ، وعليها عبد الله بن قرط الأزدي ، فلم يعده ، فدخل على ثوبان رجل من الكلاعيين عائدا ، فقال له ثوبان : [ أتكتب ؟ قال : نعم . فقال : اكتب ، فكتب للأمير عبد الله بن قرط ، " من ثوبان ] مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد ، فإنه لو كان لموسى وعيسى ، عليهما السلام ، بحضرتك خادم لعدته " ثم طوى الكتاب وقال له : أتبلغه إياه ؟ فقال : نعم . فانطلق الرجل بكتابه فدفعه إلى ابن قرط ، فلما رآه قام فزعا ، فقال الناس : ما شأنه ؟ أحدث أمر ؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده ، وجلس عنده ساعة ثم قام ، فأخذ ثوبان بردائه وقال : اجلس حتى أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعته يقول : " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا ، لا حساب عليهم ولا عذاب ، مع كل ألف سبعون ألفا " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حمصيون ، فهو حديث صحيح ولله الحمد .
طريق أخرى : قال الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبريق الحمصي ، حدثنا محمد بن إسماعيل - يعني ابن عياش - حدثنا أبي ، عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ربي ، عز وجل ، وعدني من أمتي سبعين ألفا لا يحاسبون ، مع كل ألف سبعون ألفا " . هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي ، بين شريح وبين ثوبان والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن ابن مسعود قال : أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ثم غدونا إليه فقال : " عرضت علي الأنبياء الليلة بأممها ، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة ، والنبي ومعه العصابة ، والنبي ومعه النفر ، والنبي ليس معه أحد ، حتى مر علي موسى ، عليه السلام ، ومعه كبكبة من بني إسرائيل ، فأعجبوني ، فقلت : من هؤلاء ؟ فقيل لي : هذا أخوك موسى ، معه بنو إسرائيل " . قال : " قلت : فأين أمتي ؟ فقيل : انظر عن يمينك . فنظرت فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال ، ثم قيل لي انظر عن يسارك ، فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال ، فقيل لي : قد رضيت ؟ فقلت " رضيت يا رب ، [ رضيت يا رب ] " قال : " فقيل لي : إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب " . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فداكم أبي وأمي ، إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفا فافعلوا ، فإن قصرتم فكونوا من أهل الظراب ، فإن قصرتم فكونوا من أهل الأفق ، فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون " . فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم . أي من السبعين ، فدعا له . فقام رجل آخر فقال : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فقال : " قد سبقك بها عكاشة " . قال : ثم تحدثنا فقلنا : لمن ترون هؤلاء السبعين الألف ؟ قوم ولدوا في الإسلام لم يشركوا بالله شيئا حتى ماتوا . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون " .
هكذا رواه أحمد بهذا السند وهذا السياق ، ورواه أيضا عن عبد الصمد ، عن هشام ، عن قتادة ، بإسناده مثله ، وزاد بعد قوله : " رضيت يا رب ، رضيت يا رب " قال رضيت ؟ قلت : " نعم " . قال : انظر عن يسارك ، قال : " فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال " . فقال : رضيت ؟ قلت : " رضيت " . وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه ، تفرد به أحمد ولم يخرجوه .
حديث آخر : قال أحمد بن منيع : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز ، حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عرضت علي الأمم بالموسم فراثت علي أمتي ، ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئاتهم ، قد ملئوا السهل والجبل " ، فقال : أرضيت يا محمد ؟ فقلت : " نعم " . قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون " . فقام عكاشة فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم فقال : " أنت منهم " فقام رجل آخر فقال : [ ادع الله أن يجعلني منهم فقال ] سبقك بها عكاشة " . رواه الحافظ الضياء المقدسي ، قال : هذا عندي على شرط مسلم .
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا محمد بن محمد الجذوعي القاضي ، حدثنا عقبة بن مكرم . حدثنا محمد بن أبي عدي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب " . قيل : من هم ؟ قال : " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون " . رواه مسلم من طريق هشام بن حسان ، وعنده ذكر عكاشة .
حديث آخر : ثبت في الصحيحين من رواية الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة حدثه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفا ، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " . فقال أبو هريرة : فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعله منهم " . ثم قام رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم فقال : " سبقك بها عكاشة " .
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليدخلن من أمتي سبعون ألفا - أو سبعمائة ألف - آخذ بعضهم ببعض ، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة ، ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر " .
أخرجه البخاري ومسلم جميعا ، عن قتيبة عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل به .
حديث آخر : قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قلت : أنا . ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ، ولكني لدغت : قال : فما صنعت ؟ قلت : استرقيت . قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي . قال : وما حدثكم الشعبي ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة . فقال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهيط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم ، فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ، ولكن انظر إلى الأفق . فنظرت ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : انظر إلى الأفق الآخر ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " . ثم نهض فدخل منزله ، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما الذي تخوضون فيه ؟ " فأخبروه ، فقال : " هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون " . فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : " أنت منهم " . ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم . قال : " سبقك بها عكاشة " .
وأخرجه البخاري عن أسيد بن زيد ، عن هشيم وليس عنده " لا يرقون " .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا روح بن عبادة . حدثنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر حديثا ، وفيه : " فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا ، لا يحاسبون ثم الذين يلونهم ، كأضوأ نجم في السماء ثم كذلك " . وذكر بقيته ، رواه مسلم من حديث روح ، غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد ، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا ، مع كل ألف سبعون ألفا ، لا حساب عليهم ولا عذاب . وثلاث حثيات من حثيات ربي عز وجل " .
وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عياش ، به ، وهذا إسناد جيد .
طريق أخرى عن أبي أمامة : قال ابن أبي عاصم : حدثنا دحيم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن سليم بن عامر ، عن أبي اليمان الهوزني - واسمه عامر بن عبد الله بن لحي ، عن أبي أمامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب " . قال يزيد بن الأخنس : والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب الأصهب في الذباب . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإن الله وعدني سبعين ألفا ، مع كل ألف سبعون ألفا ، وزادني ثلاث حثيات " . وهذا أيضا إسناد حسن .
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد ، حدثنا أبو توبة ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ، ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفا ، ثم يحثي ربي ، عز وجل ، بكفيه ثلاث حثيات " . فكبر عمر وقال : إن السبعين الأول يشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم ، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر .
قال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة : لا أعلم لهذا الإسناد علة . والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام - يعني الدستوائي - حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد - أو قال بقديد - فذكر حديثا ، وفيه : ثم قال : وعدني ربي ، عز وجل ، أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ، وإني لأرجو ألا يدخلوها حتى تبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة " .
قال الضياء [ المقدسي ] وهذا عندي على شرط مسلم .
حديث آخر : قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف " . قال أبو بكر : زدنا يا رسول الله . قال : والله هكذا فقال عمر : حسبك يا أبا بكر . فقال أبو بكر : دعني ، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا ، فقال عمر : إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق عمر " .
هذا الحديث بهذا الإسناد انفرد به عبد الرزاق قاله الضياء . وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني :
حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد ، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، زدنا قال : " وهكذا " - وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك - قلت يا رسول الله ، زدنا . فقال عمر : إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق عمر " . هذا حديث غريب من هذا الوجه وأبو هلال اسمه : محمد بن سليم الراسبي ، بصري .
طريق أخرى عن أنس : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي ، حدثنا حميد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا " . قالوا : زدنا يا رسول الله . قال : " لكل رجل سبعون ألفا " قالوا : زدنا - وكان على كثيب - فقال : هكذا ، وحثا بيده . قالوا : يا رسول الله ، أبعد الله من دخل النار بعد هذا ، وهذا إسناد جيد ، رجاله ثقات ، ما عدا عبد القاهر بن السري ، وقد سئل عنه ابن معين ، فقال : صالح .
حديث آخر : روى الطبراني من حديث قتادة ، عن أبي بكر بن أنس ، عن أبي بكر بن عمير عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله وعدني أن يدخل من أمتي ثلاثمائة ألف الجنة " . فقال عمير : يا رسول الله ، زدنا . فقال هكذا بيده . فقال عمير يا رسول الله ، زدنا . فقال عمر : حسبك ، إن الله إن شاء أدخل الناس الجنة بحفنة - أو بحثية - واحدة . فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " صدق عمر " .
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد ، حدثنا أبو توبة ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عبد الله بن عامر ، أن قيسا الكندي حدث أن أبا سعيد الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ، ويشفع كل ألف لسبعين ألفا ، ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه " . كذا قال قيس ، فقلت لأبي سعيد : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، بأذني ، ووعاه قلبي . قال أبو سعيد : فقال - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " وذلك إن شاء الله ، عز وجل ، يستوعب مهاجري أمتي ، ويوفي الله بقيته من أعرابنا " .
وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر ، عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناده ، مثله . وزاد : قال أبو سعيد : فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألف ألف .
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والذي نفس محمد بيده ليبعثن منكم يوم القيامة إلى الجنة مثل الليل الأسود ، زمرة جميعها يخبطون الأرض ، تقول الملائكة : لم جاء مع محمد أكثر مما جاء مع الأنبياء ؟ " . وهذا إسناد حسن .
نوع آخر من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها بكرامتها على الله ، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير ، عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إني لأرجو أن يكون من يتبعني من أمتي يوم القيامة ربع الجنة " . قال : فكبرنا . ثم قال : " أرجو أن يكونوا ثلث الناس " . قال : فكبرنا . ثم قال : " أرجو أن تكونوا الشطر " . وهكذا رواه عن روح ، عن ابن جريج ، به . وهو على شرط مسلم .
وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ " فكبرنا . ثم قال : " أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ " فكبرنا . ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة " .
طريق أخرى عن ابن مسعود : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حصيرة ، حدثني القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أنتم وربع الجنة لكم ولسائر الناس ثلاثة أرباعها ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " كيف أنتم وثلثها ؟ " قالوا : ذاك أكثر . قال : " كيف أنتم والشطر لكم ؟ " قالوا : ذاك أكثر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهل الجنة عشرون ومائة صف ، لكم منها ثمانون صفا " .
قال الطبراني : تفرد به الحارث بن حصيرة .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا ضرار بن مرة أبو سنان الشيباني ، عن محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أهل الجنة عشرون ومائة صف ، هذه الأمة من ذلك ثمانون صفا " .
وكذلك رواه عن عفان ، عن عبد العزيز ، به . وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان ، به وقال : هذا حديث حسن . ورواه ابن ماجه من حديث سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، به .
حديث آخر : روى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا خالد بن يزيد البجلي ، حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون منها من أمتي " .
تفرد به خالد بن يزيد البجلي ، وقد تكلم فيه ابن عدي .
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا موسى بن غيلان ، حدثنا هاشم بن مخلد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان ، عن أبي عمرو ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما نزلت ( ثلة من الأولين . وثلة من الآخرين [ الواقعة : 38 ، 39 ] ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم ربع أهل الجنة ، أنتم ثلث أهل الجنة ، أنتم نصف أهل الجنة ، أنتم ثلثا أهل الجنة " .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، نحن أول الناس دخولا الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، الناس لنا فيه تبع غدا لليهود [ و ] للنصارى بعد غد " .
رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه ، ورواه مسلم أيضا عن طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة " . وذكر تمام الحديث .
حديث آخر : روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها ، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي " .
ثم قال : تفرد به ابن عقيل ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سواه . وتفرد به زهير بن محمد ، عن ابن عقيل ، وتفرد به عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير .
وقد رواه أبو أحمد بن عدي الحافظ فقال : حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق ، حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عتاب ، حدثنا أبو حفص التنيسي - يعني عمرو بن أبي سلمة - حدثنا صدقة الدمشقي . عن زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الزهري .
ورواه الثعلبي : حدثنا أبو عباس المخلدي ، أخبرنا أبو نعم عبد الملك بن محمد ، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا صدقة بن عبد الله ، عن زهير بن محمد ، عن ابن عقيل ، به .
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم ، كما قال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] في حجة حجها رأى من الناس سرعة فقرأ هذه الآية : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ثم قال : من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها . رواه ابن جرير .
ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه [ لبئس ما كانوا يفعلون ] [ المائدة : 79 ] ) ولهذا لما مدح [ الله ] تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم ، فقال : ( ولو آمن أهل الكتاب ) أي : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ( لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) أي : قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس ".
فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وخاصة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
7606- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال في: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: هم الذين خرجوا معه من مكة.
7607- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
7608- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر "، قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال: " أنتم "، فكنا كلنا، ولكن قال: " كنتم " في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
7609- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، عكرمة: نـزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل.
7610- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه: قال عمر: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
7611- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. (8)
7612- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجّة حجّها ورأى من الناس رِعَة سيئة، (9) فقرأ هذه: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، الآية. ثم قال: يا أيها الناس، من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها. (10)
7613- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، يعني = وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. (11)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم.
*ذكر من قال ذلك:
7614- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، يقول: على هذا الشرط: أن تأمرُوا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله = يقول: لمن أنتم بين ظهرانيه، كقوله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة الدخان: 32].
7615- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن &; 7-103 &; ابن جريج، عن مجاهد قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال يقول: كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر. وتؤمنوا بالله = يقول: لمن بين ظَهريه، كقوله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة الدخان: 32].
7616- وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ميسرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: كنتم خير الناس للناس، تجيئون بهم في السلاسل، تدخلونهم في الإسلام. (12)
7617- حدثنا عبيد بن أسباط قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: خيرَ الناس للناس.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
7618- حدثت عن عمار بن الحسن قال، (13) حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر "، قال: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة، فمن ثمَ قال: " كنتم خير أمة أخرجت للناس ".
* * *
وقال بعضهم: عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس.
*ذكر من قال ذلك:
7619- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر "، قال: قد كان ما تسمعُ من الخير في هذه الأمة.
7620- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرُها وأكرمُها على الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن، وذلك أن:
7621- يعقوب بن إبراهيم حدثني قال، حدثنا ابن علية، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ألا إنكم وفيَّتم سبعين أمَّة، أنتم آخرها وأكرمها على الله " .
7622- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: " أنتم تتمُّون سبعين أمة، أنتم خيرُها وأكرمها على الله ". (14)
7623- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة: " نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرُها ".
* * *
وأما قوله: " تأمرون بالمعروف "، فإنه يعني: تأمرون بالإيمان بالله ورسوله، والعمل بشرائعه =" وتنهون عن المنكر "، يعني: وتنهون عن الشرك بالله. وتكذيب رسوله، وعن العمل بما نهى عنه، كما:-
7624- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس ". يقول: تأمرونهم بالمعروف: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنـزل الله، وتقاتلونهم عليه، و " لا إله إلا الله "، هو أعظم المعروف = وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب، وهو أنكرُ المنكر.
* * *
وأصل " المعروف " كل ما كان معروفًا فعله، جميلا مستحسنًا، (15) غير مستقبح في أهل الإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله " معروفًا "، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله. (16) .
* * *
وأصل " المنكر "، ما أنكره الله، ورأوه قبيحًا فعلهُ، ولذلك سميت معصية الله " منكرًا "، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون رُكوبها. (17)
* * *
وقوله: " وتؤمنون بالله "، يعني: تصدّقون بالله، فتخلصون له التوحيد والعبادة.
* * *
قال أبو جعفر: فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: " كنتم خير أمة "، وقد زعمتَ أن تأويل الآية: أنّ هذه الأمة خيرُ الأمم التي مضت، وإنما يقال: " كنتم خير أمة "، لقوم كانوا خيارًا فتغيَّروا عما كانوا عليه؟
قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: أنتم خير أمة، كما قيل: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الأنفال: 26] وقد قال في موضع آخر: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ [الأعراف: 86] فإدخال " كان " في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه. (18) ولو قال أيضا في ذلك قائل: " كنتم "، بمعنى التمام، كان تأويله: خُلقتم خير أمة = أو: وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحًا.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ، أخرجت للناس.
* * *
والقولان الأولان اللذان قلنا، أشبهُ بمعنى الخبر الذي رويناه قبلُ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أهل طريقة. وقال: " الأمة ": الطريقة. (19)
-------------------
الهوامش :
(8) الأثر: 7611- رواه أحمد في المسند رقم: 2463 ، 2928 ، 2989 ، 3321 ، وإسناده صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 294 ، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي.
(9) الرعة (بكسر الراء وفتح العين) أصلها من الورع ، مثل"العدة" من"الوعد". والرعة: الهدى وسوء الهيئة أو حسن الهيئة ، أي هي بمعنى: الشأن والأمر والأدب. وفي حديث الحسن: "ازدحموا عليه فرأى منهم رعة سيئة فقال: اللهم إليك" ، أي سوء أدب ، لم يحسنوا الكف عما يشين.
(10) قوله: "شرط الله منها" ، أي شرط الله الذي طلبه منها.
(11) قد مضى تفسير معنى"الرواة" في الأثر رقم 7597 ، والتعليق عليه.
(12) الأثر: 7616- أخرجه البخاري من طريق محمد بن سفيان عن ميسرة. (الفتح 8: 169) وقال الحافظ: "ميسرة: هو ابن عمار الأشجعي ، كوفي ثقة ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء الخلق". و"أبو حازم" هو"سلمان الأشجعي الكوفي" ، وفي الفتح"سليمان" ، وهو خطأ وتصحيف. ولفظ البخاري: "تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم ، حتى يدخلوا في الإسلام".
وقد استوفى الحافظ في هذا الموضع ، الحديث عن معنى الآية ، وذكر أكثر الآثار التي سلفت ، والتي ستأتي بعد.
(13) في المطبوعة: "عمار بن الحسين" ، وهو خطأ ، والصواب في المخطوطة.
(14) الحديثان: 7621 ، 7622- هما حديث واحد بإسنادين. وقد مضى بالإسنادين معًا مجموعين ، برقم: 873. وقد خرجناه هناك مفصلا ، وأشرنا إلى مواضعه هنا في طبعة بولاق. ونزيد هنا أنه رواه أيضا الحاكم في المستدرك 4: 84 ، من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، بالإسناد الثاني هنا. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ثم أشار الحاكم إلى متابعة سعيد الجريري ، بروايته إياه عن حكيم بن معاوية. ثم رواه من طريق يزيد بن هارون ، عن الجريري. ورواية الجريري سبق أن خرجناها هناك من رواية أحمد في المسند.
وذكره الحافظ في الفتح 8: 169 ، مشيرًا إلى رواية الطبري إياه ، ثم قال: "وهو حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي وحسنه. وابن ماجه ، والحاكم وصححه".
وقد ورد معناه أيضًا ، ضمن حديث مطول عن أبي سعيد الخدري ، مرفوعا ، رواه أحمد في المسند: 11609 (ج3 ص 61 حلبى). وإسناده صحيح.
(15) في المطبوعة: "كل ما كان معروفًا ، ففعله جميل مستحسن" ، غيروا نص المخطوطة. ظنًا منهم أنه غير مستقيم ، وهو أحسن استقامة مما أثبتوا!! بل هو الصواب المحض.
(16) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف قريبًا ص: 91 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(17) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف قريبا ص: 91.
(18) انظر معاني القرآن للفراء 1: 229.
(19) انظر تفسير"أمة" فيما سلف 1: 221 / ثم هذا ص 90 ، والمراجع هناك في التعليق.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 110 | ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ |
---|
النساء: 46 | ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ﴾ |
---|
النساء: 66 | ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ |
---|
محمد: 21 | ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّـهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ﴾ |
---|
الحجرات: 5 | ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ولكن من لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم، فليس على المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ولا أبدانهم، وإنما غاية ما يصلون إليه من الأذى أذية الكلام التي لا سبيل إلى السلامة منها من كل معادي، فلو قاتلوا المؤمنين لولوا الأدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ولا هم ينصرون في وقت من الأوقات
ثم بشر الله- تعالى- المؤمنين، بأن هذه الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب التي عتت عن أمر ربها وناصبت المؤمنين العداء، لن تضرهم ضررا بليغا له أثر مادام أهل الإيمان مستمسكين بدينهم ومنفذين لتعاليمه وآدابه، فقال- سبحانه- لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أى «لن يضركم أهل الكتاب يا معشر المؤمنين إلا ضررا يسيرا، كأن يؤذوكم بألسنتهم ويلقوا الشبه بينكم ليصدوا من ضعف إيمانه عن الحق، وفي هذا تثبيت للمؤمنين، وطمأنينة لقلوبهم، إذ الضرر الذي يصيب الأمة الإسلامية من أعدائها على قسمين: أولهما: ضرر يؤدى إلى هدم كيان الأمة، وإضعاف قوتها وإهدار كرامتها وجعل أمورها في أيدى أعدائها تصرفها كيف تشاء.
وثانيهما: ضرر لا يؤثر في كيان الأمة، ولا يؤدى إلى اضمحلال قوتها كالأذى بالقول، أو محاولة التأثير في ضعاف الإيمان.
وقد نفى- سبحانه- أن يلحق المؤمنين ضرر يأتى على كيانهم من جهة أهل الكتاب فقال:
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً فأوقع الفعل المضارع في حيز لن المفيدة للنفي- للإشارة إلى أن ذلك لا يكون في المستقبل.
ولكن هذا النفي لهذا النوع من الضرر مشروط بمحافظة الأمة الإسلامية على الأصلين السابقين وهما «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان بالله» .
فإذا أرادت أمة الإسلام ألا تصاب من جهة أهل الكتاب بما يأتى على كيانها، فعليا أن تخلص العبادة لربها، وأن تعمل بسنة نبيها، وأن تتقيد بأحكام كتابها، وأن تباشر الأسباب التي شرعها خالقها للنصر على أعدائها.
أما إذا تركت أمة الإسلام ما أمرها الله- تعالى- به وتجاوزت ما نهاها عنه فإنها في هذه الحالة قد تصاب من أعدائها بما يؤثر في كيانها وتكون هي الجانية على نفسها بمخالفتها لأوامر الله ونواهيه.
هذا، وأكثر العلماء على أن الاستثناء في قوله لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً متصل وأنه استثناء مفرغ من المصدر العام كأنه قيل: لن يضروكم ضررا ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به من كلمة سوء ونحوها.
وقيل هو استثناء منقطع لأن الأذى ليس من الضرر: أى لن يضروكم بقتال وغلبة لكن بكلمة أذى ونحوها.
ورجح الأول، لأن الكلام إذا أمكن حمله على الاستثناء الحقيقي لم يجز صرفه عن ذلك إلى الاستثناء المنقطع وهنا الأذى مهما قل هو نوع من الضرر وإن لم يترك أثرا.
ثم بشر الله- تعالى- المؤمنين ببشارة أخرى فقال: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ.
تولية الأدبار: كناية عن الهزيمة لأن المنهزم يحول ظهره ودبره إلى جهة الذي هزمه هربا إلى ملجأ يلجأ إليه ليدفع عن نفسه القتل أو الأسر.
والمعنى، إن أهل الكتاب لن يضروكم يا معشر المؤمنين إلا ضررا يسيرا لا يبقى أثره فيكم - مادمتم مستمسكين بدينكم-، فإن قاتلوكم وأنتم على هذه الحال، أمدكم الله بنصره، وألقى في قلوبهم الرعب فيولونكم الأدبار انهزاما منكم، ثم لا ينصرون عليكم بل تنصرون أنتم عليهم.
والتعبير عن الهزيمة بتولية الأدبار، فيه إشارة إلى جبنهم وأنهم يفرون فرارا شديدا بذعر وهلع.
وهكذا كان الشأن في قتال المسلمين الأولين لأعداء الله وأعدائهم، فلقد قاتل المؤمنون اليهود من بنى قينقاع والنضير وقريظة وأهل خيبر فانتصر المسلمون عليهم انتصارا باهرا.
وقاتلوا جموع الروم في بلاد الشام وفي مصر، فكان النصر المؤزر حليفا للمسلمين مع قلتهم وكثرة أعدائهم.
وقوله ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ احتراس. أى: يولونكم الأدبار تولية المنهزم، لا تولية المتحرف لقتال أو المتحيز إلى فئة أو المتأمل في الأمر.
والتعبير بثم لإفادة التراخي في المرتبة: لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار.
وهذه الجملة خبرية وهي معطوفة على جملتي الشرط وجزائه معا، للإشعار بأن هذا ديدنهم، وأنهم لن ينتصروا على المسلمين لا في قتال ولا في غيره، مادام المسلمون مستقيمين على الطريقة التي رسمها الله- تعالى- لهم.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: فإن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ قلت: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون.
فإن قلت: فأى فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت لو جزم لكان النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفى النصر وعدا مطلقا كأنه قال. ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر، وكان كما أخبر من حال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع ويهود خيبر فإن قلت: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت: جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت فما معنى التراخي في ثم؟ قلت:
التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار فإن قلت: ما موقع الجملتين، أعنى مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ولَنْ يَضُرُّوكُمْ قلت هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ولذلك جاءا من غير عطف» .
فأنت ترى الآية الكريمة قد بشرت المؤمنين الصادقين ببشارات ثلاث:
أولها: أنهم في مأمن من الضرر البليغ الذي يؤثر في كيانهم وعزتهم وكرامتهم من جهة أهل الكتاب.
ثانيها: أن أهل الكتاب لو قاتلوهم، فإن المؤمنين سيكون لهم النصر عليهم.
ثالثها: أنهم بعد نصرهم عليهم لن تكون لأهل الكتاب- وعلى رأسهم اليهود- شوكة أو قوة للأخذ بثأرهم بعد ذلك.
وقد تحققت هذه البشارات، وكانت كما أخبر الله- تعالى- فإن المسلمين الأولين الذين كانوا متمسكين بتعاليم دينهم نصرهم الله- تعالى- على أهل الكتاب وعلى غيرهم من أعدائهم نصرا مؤزرا- كما سبق أن أشرنا- فإن قال قائل: ولكن الذي نراه الآن أن اليهود الذين لا يمارى أحد في جبنهم وفي حرصهم على الحياة قد انتصروا على المسلمين وأقاموا لهم دولة في بقعة من أعز بقاع البلاد الإسلامية وهي فلسطين فهل يخلف وعد الله؟
والجواب على ذلك. أن وعد الله- تعالى- لا يخلف ولن يتخلف وقد حققه- سبحانه- لأسلافنا الصالحين الذي آمنوا به حق الإيمان. ولكن المسلمين في هذا العصر هم الذين تغيرت أحوالهم، فقد فرطوا في دينهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتفرقوا شيعا وأحزابا وتنكبوا الطريق القويم ولم يباشروا الأسباب التي شرعها الله- تعالى- لبلوغ النصر، ولم يحسنوا الشعور بالمسئولية.
فلما فعلوا ذلك تبدل حالهم من الخير إلى الشر، ومن القوة إلى الضعف. وسلط الله عليهم من لا يخافهم ولا يرحمهم، لأنه- سبحانه- لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.
وإذا ما عاد المسلمون إلى دينهم فطبقوا أوامره ونواهيه على أنفسهم تطبيقا كاملا، فإن الله- تعالى- سيعيد لهم كرامتهم وعزتهم وقوتهم وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ .
ومن هنا نعلم أن الشرط في نفى الضرر الذي يؤثر في الأمة الإسلامية، هو أن تكون مؤمنة بربها حق الإيمان متبعة لهدى رسولها محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ثم قال تعالى مخبرا عباده المؤمنين ومبشرا لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين ، فقال : ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) وهكذا وقع ، فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم آنافهم وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ، كلهم أذلهم الله ، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن ، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم [ عليه السلام ] وهم كذلك ، ويحكم - عليه السلام - بشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولو صدَّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله؛ لكان خيرًا لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم =" منهم المؤمنون "، يعني: من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، المؤمنون المصدِّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله، وهم: عبد الله بن سلام وأخوه، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه، (20) وأشباههم ممن آمنوا بالله وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله =" وأكثرهم الفاسقون "، يعني: الخارجون عن دينهم، (21) وذلك أن من دين اليهود اتباعُ ما في التوراة والتصديقُ بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن دين النصارى اتباعُ ما في الإنجيل، والتصديق به وبما في التوراة، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه، (22) وأنه نبي الله. وكلتا الفرقتين -أعني اليهود والنصارى- مكذبة، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدعون أنهم يدينون به، الذي قال جل ثناؤه: " وأكثرهم الفاسقون ".
* * *
وقال قتادة بما:-
7625- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون "، ذم الله أكثر الناس.
------------------------
الهوامش :
(20) في المطبوعة: "ثعلبة بن سعيد" ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبته من المخطوطة و"سعية" بالسين المهملة المفتوحة والياء المنقوطة باثنين. وسيأتي على الصواب في خبر إسلامه وإسلام أخيه ، بعد قليل ، رقم: 7644.
(21) انظر تفسيره"الفسق" فيما سلف 1: 409 ، 410 / 2: 118 ، 399 / 4. 135 - 141 / 6: 91.
(22) في المخطوطة والمطبوعة: "وفي كل الكتابين. . ." ، وهو تحريف ، والصواب ما أثبت.
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 111 | ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ﴾ |
---|
الحشر: 12 | ﴿وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم، فلا يستقرون ولا يطمئنون{ إلا بحبل} أي:عهد{ من الله وحبل من الناس} فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم، تؤخذ منهم الجزية ويستذلون، أو تحت أحكام النصارى وقد{ باءوا} مع ذلك{ بغضب من الله} وهذا أعظم العقوبات، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال ذكره الله بقوله:{ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الموجبة لليقين والإيمان، فكفروا بها بغيا وعنادا{ ويقتلون الأنبياء بغير حق} أي:يقابلون أنبياء الله الذين يحسنون إليهم أعظم إحسان بأشر مقابلة، وهو القتل، فهل بعد هذه الجراءة والجناية شيء أعظم منها، وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم، فهو الذي جرأهم على الكفر بالله وقتل أنبياء الله، ثم قال تعالى:
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض العقوبات التي عاقب بها اليهود بسبب كفرهم وظلمهم فقال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ.
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة يقال ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها، وتفرعت عن هذا المعنى معان مجازية أخرى ترجع إلى شدة اللصوق.
والذلة على وزن فعلة من قول القائل: ذل فلان يذل ذلة وذلا. والمراد بها الصغار والهوان والحقارة.
فضرب الذلة عليهم كناية عن لزومها لهؤلاء اليهود، وإحاطتها بهم، كما يحيط السرادق بمن يكون في داخله.
قال صاحب الكشاف: جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم كمن يكون في القبة من ضربت عليه، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه. فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة» .
وثُقِفُوا أى وجدوا، أو ظفر بهم. يقال: ثقفه أى صادفه أو ظفر به أو أدركه. وهذه المادة تدل على التمكن من أخذ الشيء ومن التصرف فيه بشدة ومنها سمى الأسير ثقافا.
والثقاف آلة تكسر بها أغماد الرماح.
والحبل: هو ما يربط بين شيئين ويطلق على العهد لأن الناس يرتبطون بالعهود: كما يقع الارتباط الحسى بالحبال، وهذا الإطلاق هو المراد هنا.
ولذا قال ابن جرير: وأما الحبل الذي ذكره الله- تعالى- في هذا الموضوع، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام.
والمعنى: أن هؤلاء اليهود أحاطت بهم الذلة في جميع أحوالهم أينما وجدوا وحيثما حلوا إلا في حال اعتصامهم بعهد من الله أو بعهد من الناس.
وقد فسر العلماء عهد الله بعقد الجزية الذي يربط بينهم وبين المسلمين.
وإنما كان عقد الجزية عهدا من الله لهم، لأنه- سبحانه- هو الذي شرعه، وما شرعه الله فالوفاء به واجب.
وكان عهدا من المسلمين لهم، لأنهم أحد طرفيه، فهم الذين باشروه مع اليهود وبمقتضاه يحفظون حقوقهم ودماءهم وأموالهم ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وعلى المسلمين حمايتهم، وصون أموالهم لقاء مقدار من المال يدفع لهم كل عام وهو المسمى بالجزية.
وأما عهد الناس، فهو العهود التي يعيشون بمقتضاها في أى أمة من أمم الأرض مسلمة كانت هذه الأمة أو كافرة.
فإن كانت العهود صادرة من المسلمين، جاز أن يطلق عليها عهد الله- أيضا- باعتبار أن الله هو الذي شرعها.
وإن كانت من غير المسلمين فهي عهود من الناس سواء أوافقت شريعة الله تعالى- أم لا.
والمعنى الإجمالى للآية: أن اليهود قد ضرب الله- تعالى- عليهم الذلة والمسكنة في كل زمان ومكان بسبب كفرهم وطغيانهم، وسلب عنهم السلطان والملك، فهم يعيشون في بقاع الأرض في حماية غيرهم من الأمم الأخرى، بمقتضى عهود يعقدونها معهم وقد تكون هذه العهود موافقة لشرع الله- تعالى- وقد لا تكون موافقة.
فإن قال قائل: إنهم الآن أصحاب جاه وسلطان، بعد أن أنشأوا دولتهم بفلسطين!! والجواب: أنهم مع قيام هذه الدولة يعيشون تحت حماية غيرهم من دول الكفر الكبرى.
فهي التي تحميهم وتمدهم بأسباب الحياة والقوة، فينطبق على هذه الحالة- أيضا- أنها بحبل من الناس. فاليهود لا سلطان لهم، ولا عزة تكمن في نفوسهم، ولكنهم مأمورون مسخرون أن يعيشوا في تلك البقعة من الأرض لتكون مركزا لتلك الأمم التي تعهدت بحمايتهم ليقفزوا منها إلى محاربة المسلمين، إذا أتيحت لهم فرصة.
ولو أن المسلمين غيروا ما بأنفسهم، وتمسكوا بشريعتهم، واجتمعت قلوبهم، وتوحدت أهدافهم، وأحسنوا الشعور بالمسئولية نحو دينهم وأنفسهم وأوطانهم، وأعدوا ما استطاعوا من قوة لقتال أعداء الله وأعدائهم..
لو أنهم فعلوا ذلك لما كان حالهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير في أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم.
هذا، وقوله: أَيْنَ ما اسم شرط، وهو ظرف مكان و «ما» مزيدة فيها للتأكيد.
وقوله ثُقِفُوا في محل جزم بها.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أى: أينما ثقفوا غلبوا أو ذلوا.
ويجوز أن يكون جواب الشرط قوله ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ عند من يجوز تقديم جواب الشرط على الشرط.
والاستثناء في قوله إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ مفرغ من عموم الأحوال أى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس.
ثم ذكر- سبحانه- عقوبتين أخريين أنزلهما بهم جزاء كفرهم وتعديهم لحدوده فقال تعالى:
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ.
قال ابن جرير: قوله- تعالى- وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أى انصرفوا ورجعوا. ولا يقال باؤوا، إلا موصولا إما بخير وإما بشر. يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء. ومنه قوله- تعالى- إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يعنى تنصرف متحملهما، وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط» .
والمسكنة: مفعلة من السكون، ومنها أخذ لفظ المسكين. لأن الهم قد أثقله فجعله قليل الحركة والنهوض لما به من الفاقة والفقر.
والمراد بها في الآية الكريمة الضعف النفسي، والفقر القلبي الذي يستولى على الشخص فيجعله يحس بالهوان مهما تكن لديه من أسباب القوة.
والفرق بينها وبين الذلة: أن الذلة تجيء أسبابها من الخارج. كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو.
أما المسكنة فهي تنشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق، واستيلاء المطامع والشهوات وحب الدنيا عليها.
والمعنى: أن هؤلاء اليهود يجانب ضرب الذلة عليهم حيثما حلوا، قد صاروا في غضب من الله، وأصبحوا أحقاء به، وضربت عليهم كذلك المسكنة التي تجعلهم يحسون بالصغار مهما ملكوا من قوة ومال.
ثم ذكر- سبحانه- الأسباب التي جعلتهم أحقاء بهذه العقوبات فقال- تعالى-:ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
فاسم الإشارة ذلك يعود إلى تلك العقوبات العادلة التي عاقبهم الله بها بسبب كفرهم وفسقهم.
والآيات: تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله- تعالى- وربوبيته وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل- عليهم الصلاة والسلام- فيما يبلغون عن الله- تعالى-، وهي التي يسميها علماء التوحيد بالمعجزات.
وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع يَكْفُرُونَ.
أى: ذلك الذي أصابهم من عقوبات رادعة، سببه أنهم كانوا يكفرون بآيات الله وأدلته الدالة على وحدانيته وعلى صدق رسله- عليهم الصلاة والسلام- وتلك هي جريمة بنى إسرائيل الأولى.
أما جريمتهم الثانية فقد عبر عنها- سبحانه- بقوله وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أى أنهم لم يكتفوا بالكفر، بل امتدت أيديهم الأثيمة إلى دعاة الحق وهم أنبياء الله- تعالى- الذين أرسلهم لهدايتهم فقتلوهم بدون أدنى شبهة تحمل على الإساءة إليهم فضلا عن قتلهم.
وقال- سبحانه- بِغَيْرِ حَقٍّ مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا. لإفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه.
قال- تعالى- مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً .
فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم، وتخليد مذمتهم، وتقبيح إجرامهم حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم، أو تأويل في الحكم أو شبهة في الأمر، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا، ومخالفون لشرع الله عن تعمد وإصرار.
ولذا قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق، فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم.
فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم وقال الفخر الرازي ما ملخصه: فإن: قيل: قال هنا: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وقال في سورة البقرة وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فما الفرق؟ قلت: إن الحق المعلوم بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في حديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق» . فالحق المذكور في سورة البقرة إشارة إلى هذا.
وأما الحق المنكر هنا فالمراد به تأكيد العموم أى لم يكن هناك أى حق يستندون إليه، لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .
ونسب- سبحانه- القتل إلى أولئك اليهود المعاصرين للعهد النبوي مع أن القتل قد صدر عن أسلافهم، لأن أولئك المعاصرين كانوا راضين بفعل آبائهم وأجدادهم، فصحت نسبة القتل إليهم، ولأن بعض أولئك المعاصرين قد همّ بقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم فكف الله- تعالى- أيديهم الأثيمة عنه.
ثم سجل الله- تعالى- جريمتهم الثالثة بقوله ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
العصيان: الخروج عن طاعة الله، والاعتداء: تجاوز الحد الذي حده الله- تعالى- لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه.
وللمفسرين في مرجع اسم الإشارة ذلِكَ في قوله ذلِكَ بِما عَصَوْا رأيان:
أولهما: أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم لأنبيائه، وعليه يكون المعنى:
إن هؤلاء اليهود قد ألفوا العصيان لخالقهم والتعدي لحدوده بجرأة وعدم مبالاة، فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه، وباشروا تلك الكبائر بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة.
والجملة الكريمة على هذا الرأى تفيد أن التردي في المعاصي، وارتكاب ما نهى الله عنه، وتجاوز الحدود المشروعة، يؤدى إلى الانتقال من صغير الذنوب إلى كبيرها ومن حقيرها إلى عظيمها لأن هؤلاء اليهود حين استمرءوا المعاصي، هانت على نفوسهم الفضائل، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا فكذبوا بآيات الله تكذيبا، وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق.
وثانيهما: أن اسم الإشارة ذلِكَ في قوله ذلِكَ بِما عَصَوْا يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإشارة الأول وهو قوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ.
وتكون الحكمة في تكرار الإشارة هو تمييز المشار إليه، حرصا على معرفته، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم واستحقاقهم لغضب الله كما أشرنا من قبل.
والإشارة حينئذ من قبيل التكرير المغني عن العطف كما في قوله- تعالى- أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
والمعنى: أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا وقتلهم أنبياءنا وخروجهم عن طاعتنا، وتعديهم حدودنا.
وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب فقد بدأ- سبحانه- بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته. ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائه، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته، ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء وتخطى الحدود، وعدم المبالاة بالعهود.
وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام مشفوعة بعللها وأسبابها.
وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد بدأت حديثها بمدح الأمة الإسلامية بأنها خير أمة أخرجت للناس، ثم ثنت بدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام وبإخبار المؤمنين بأن أعداءهم لن يضروهم ضررا يؤثر في كيانهم ماداموا معتصمين بتعاليم دينهم، ثم ختمت حديثها ببيان العقوبات التي حلت باليهود بسبب كفرهم وبغيهم.
وبعد هذا الحديث الحكيم عن أهل الكتاب، وعن العقوبات التي أنزلها- سبحانه- باليهود بسبب فسقهم وظلمتهم، بعد كل ذلك ساق- سبحانه- آيات كريمة تمدح من يستحق المدح من أهل الكتاب إنصافا لهم وتكريما لذواتهم فقال- تعالى:
ثم قال تعالى : ( ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) أي : ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون ( إلا بحبل من الله ) أي : بذمة من الله ، وهو عقد الذمة لهم وضرب الجزية عليهم ، وإلزامهم أحكام الملة ( وحبل من الناس ) أي : أمان منهم ولهم ، كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين ولو امرأة ، وكذا عبد ، على أحد قولي العلماء .
قال ابن عباس : ( إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) أي : بعهد من الله وعهد من الناس ، [ و ] هكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقوله : ( وباءوا بغضب من الله ) أي : ألزموا فالتزموا بغضب من الله ، وهم يستحقونه ( وضربت عليهم ) أي : ألزموها قدرا وشرعا . ولهذا قال : ( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ) أي : وإنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد ، فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبدا ، متصلا بذلة الآخرة ، ثم قال تعالى : ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) أي : إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله وقيضوا لذلك أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله ، عز وجل ، والغشيان لمعاصي الله ، والاعتداء في شرع الله ، فعياذا بالله من ذلك ، والله المستعان .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر الأزدي ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي ، ثم يقوم سوق بقلهم في آخر النهار .
القول في تأويل قوله : لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن يضركم، يا أهل الإيمان بالله ورسوله، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم وتكذيبهم نبيَّكم محمدًا صلى الله عليه وسلم شيئا =" إلا أذى "، يعني بذلك: ولكنهم يؤذونكم بشركهم، وإسماعكم كفرهم، وقولهم في عيسى وأمه وعزير، ودعائهم إياكم إلى الضلالة، ولن يضروكم بذلك، (23) .
* * *
وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله، كما قيل: " ما اشتكى شيئًا إلا خيرًا "، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعًا.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
7626- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " لن يضروكم إلا أذى "، يقول: لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم.
7627- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: " لن يضروكم إلا أذى "، قال: أذى تسمعونه منهم.
7628- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن &; 7-109 &; ابن جريج، قوله: " لن يضروكم إلا أذى "، قال: إشراكهم في عُزير وعيسى والصَّليب.
7629- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: " لن يضروكم إلا أذى " الآية، قال: تسمعون منهم كذبًا على الله، يدعونكم إلى الضلالة.
* * *
القول في تأويل قوله : وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن يقاتلكم أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى يهزَموا عنكم، فيولوكم أدبارهم انهزامًا.
* * *
فقوله: " يولوكم الأدبار "، كناية عن انهزامهم، لأن المنهزم يحوِّل ظهره إلى جهة الطالب هربًا إلى ملجأ وموئل يئل إليه منه، خوفًا على نفسه، والطالبُ في أثره. فدُبُر المطلوب حينئذ يكون محاذي وجه الطالب الهازِمِِة.
* * *
=" ثم لا ينصرون "، يعني: ثم لا ينصرهم الله، أيها المؤمنون، عليكم، لكفرهم بالله ورسوله، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. لأن الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوبهم، فأيدكم أيها المؤمنون بنصركم. (24) .
* * *
وهذا وعدٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان، نصرَهم على الكفرة به من أهل الكتاب.
* * *
وإنما رفع قوله: " ثم لا ينصرون " وقد جَزم قوله: " يولوكم الأدبار "، على جواب الجزاء، ائتنافًا للكلام، لأن رؤوس الآيات قبلها بالنون، فألحق هذه بها، كما قال: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [سورة المرسلات: 36]، رفعًا، وقد قال في موضع آخر: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [سورة فاطر: 36] إذْ لم يكن رأس آية. (25)
----------------
الهوامش :
(23) في المطبوعة: "ولا يضرونكم" ، وفي المخطوطة: "ولا يضروكم" ، والصواب هو ما أثبت.
(24) في المطبوعة: "قد ألقى الرعب في قلوب كائدكم" ، وهو تصحيح لما في المخطوطة: "قد ألقى الرعب في قلوب فأيدكم" ، وظاهر أن"قلوب" صوابها"قلوبهم" ، واستقام الكلام على ما في المخطوطة.
(25) انظر معاني القرآن للفراء 1: 229.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 61 | ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ |
---|
آل عمران: 21 | ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ |
---|
آل عمران: 112 | ﴿ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
لما بين تعالي الفرقة الفاسقة من أهل الكتاب وبين أفعالهم وعقوباتهم، بين هاهنا الأمة المستقيمة، وبين أفعالها وثوابها، فأخبر أنهم لا يستوون عنده، بل بينهم من الفرق ما لا يمكن وصفه، فأما تلك الطائفة الفاسقة فقد مضى وصفهم، وأما هؤلاء المؤمنون، فقال تعالى منهم{ أمة قائمة} أي:مستقيمة على دين الله، قائمة بما ألزمها الله به من المأمورات، ومن ذلك قيامها بالصلاة{ يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} وهذا بيان لصلاتهم في أوقات الليل وطول تهجدهم وتلاوتهم لكتاب ربهم وإيثارهم الخضوع والركوع والسجود له.
فالضمير في قوله- تعالى- لَيْسُوا سَواءً يعود لأهل الكتاب الذين تقدم الحديث عنهم وهو اسم ليس، وخبرها قوله سَواءً والجملة مستأنفة للثناء على من يستحق الثناء منهم بعد أن وبخ القرآن من يستحق التوبيخ منهم.
قال ابن كثير: والمشهور عند كثير من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم. أى لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال- تعالى- لَيْسُوا سَواءً أى ليسوا كلهم على حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم .
وقوله- تعالى- مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من إيهام.
أى: ليس أهل الكتاب متساوين في الكفر وسوء الأخلاق، بل منهم طائفة قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه مستقيمة على طريقته ثابتة على الحق ملازمة له، لم تتركه كما تركه الأكثرون من أهل الكتاب وضيعوه.
فمعنى قائمة. مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام بمعنى استقام.
أو معناها: ثابتة على التمسك بالدين الحق، ملازمة له غير مضطربة في التمسك به، كما في قوله- تعالى- إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أى ملازما لمطالبته يحقك. ومنه قوله- تعالى- شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ أى ملازما له.
والمراد بهذه الطائفة من أهل الكتاب التي وصفها الله- تعالى- بأنها أُمَّةٌ قائمة أولئك الذين أسلموا منهم واستقاموا على أمر الله وأطاعوه في السر والعلن، كعبد الله بن سلام، وأصحابه، والنجاشيّ ومن آمن معه من النصارى. فهؤلاء قد آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، ولم يفرقوا بين أنبياء الله ورسله، فمدحهم الله على ذلك وأثنى عليهم.
ثم تابع القرآن حديثه عن أوصافهم الكريمة فقال يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
وقوله يَتْلُونَ من التلاوة وهي القراءة، وأصل الكلمة من الإتباع، فكأن التلاوة هي إتباع اللفظ اللفظ.
والمراد بآيات الله هنا: ما أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من قرآن.
وقوله: آناءَ اللَّيْلِ أى أوقاته وساعاته. والآناء جمع إنى- كمعا وأمعاء- أو جمع أنى- كعصا-، أو جمع أنى وإنى وإنو. فالهمزة في آناء منقلبة عن ياء كرداء: أو عن واو ككساء.
والمراد بالسجود في قوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ الصلاة لأن السجود لا قراءة فيه وإنما فيه التسبيح، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنى نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» .
والمعنى: ليس أهل الكتاب متساوين في الاتصاف بما ذكر من القبائح، بل منهم قوم سلموا منها، وهم الذين استقاموا على الحق ولزموه، وأكثروا من تلاوة آيات الله في صلاتهم التي يتقربون بها إلى الله- تعالى- آناء الليل وأطراف النهار.
قال الآلوسى ما ملخصه. والمراد بصلاتهم هذه التهجد- على ما ذهب إليه البعض-.
وعلل هذا بأنه أدخل في المدح وفيه تتيسر لهم التلاوة، لأنها في المكتوبة وظيفة الإمام.
والذي عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة. واستدل عليه بما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود قال أخر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: «أما إنه لا يصلى هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب» . وعبر عن الصلاة بالسجود، لأنه أدل على كمال الخضوع والصلاة تسمى سجودا وسجدة، وركوعا وركعة .
قال ابن أبي نجيح : زعم الحسن بن يزيد العجلي ، عن ابن مسعود في قوله تعالى : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ) قال لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وهكذا قال السدي ، ويؤيد هذا القول الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده .
حدثنا أبو النضر وحسن بن موسى قالا حدثنا شيبان ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود قال : أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة : فقال : " أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم " . قال : وأنزلت هذه الآيات : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب [ أمة قائمة ] ) إلى قوله ( والله عليم بالمتقين ) .
والمشهور عن كثير من المفسرين - كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره ، ورواه العوفي عن ابن عباس - أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وغيرهم ، أي : لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب [ وهؤلاء الذين أسلموا ، ولهذا قال تعالى : ( ليسوا سواء ) أي : ليسوا كلهم على حد سواء ، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم ، ولهذا قال تعالى : ( من أهل الكتاب ] أمة قائمة ) أي : قائمة بأمر الله ، مطيعة لشرعه متبعة نبي الله ، [ فهي ] ) قائمة ) يعني مستقيمة ( يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) أي : يقومون الليل ، ويكثرون التهجد ، ويتلون القرآن في صلواتهم
القول في تأويل قوله : ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه " ضُربت عليهم الذلة "، ألزموا الذلة. و " الذلة "" الفعلة " من " الذل "، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (26)
* * *
" أينما ثقفوا " يعني: حيثما لقوا. (27)
* * *
يقول جل ثناؤه: ألزِم اليهود المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض، وبأي مكان كانوا من بقاعها، من بلاد المسلمين والمشركين =" إلا بحبل من الله، وحبل من الناس "، كما:-
7630- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن &; 7-111 &; الحسن في قوله: " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة "، (28) قال: أدركتهم هذه الأمة، وإن المجوس لتجبيهم الجزية.
7631- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال: حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، قال: أذلهم الله فلا مَنْعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين.
* * *
وأما " الحبل " الذي ذكره الله في هذا الموضع، (29) فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم، من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يُثْقَفوا في بلاد الإسلام. كما:-
7632- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " إلا بحبل من الله "، قال: بعهد =" وحبل من الناس "، قال: بعهدهم.
7633- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7634- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
7635- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد، عن عثمان بن غياث، قال، (30) عكرمة: يقول: " إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، قال: بعهد من الله، وعهد من الناس.
7636- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7637- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: " إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7638- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، فهو عهد من الله وعهد من الناس، كما يقول الرجل: " ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم "، فهو الميثاق.
7639- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، قال: بعهد من الله وعهد من الناس لهم = قال ابن جريج، وقال عطاء: العهدُ حبل الله.
7640- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، قال: إلا بعهد، وهم يهود. قال: والحبل العهد. قال: وذلك قول أبي الهيثم بن التَّيَّهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار في العقبة: " أيها الرجل، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس "، يقول: عهودًا، قال: واليهود لا يأمنون في أرضٍ من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل. وقرأ: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران: 55]، قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذَلُّون، قال الله: وَقَطَّعْنَاهُمْ &; 7-113 &; فِي الأَرْضِ أُمَمًا [سورة الأعراف: 168]، يهود. (31)
7641- حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: " إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، يقول: بعهد من الله وعهد من الناس.
7642- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب " الباء " في قوله: " إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، فقال بعض نحويي الكوفة: (32) الذي جلب " الباء " في قوله: " بحبل "، فعل مضمر قد تُرك ذكره. قال: ومعنى الكلام: ضُربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا أن يعتصموا بحبل من الله = فأضمر ذلك، واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر: (33)
رَأَتْنِــي بِحَبْلَيْهــا فَصَـدَّتْ مَخَافَـةً
وَفِـي الحَـبْلِ رَوْعَـاءُ الفُـؤَادِ فَرُوقُ (34)
وقال: أراد: أقبلت بحبليها، وبقول الآخر: (35)
&; 7-114 &; حَــنْتنِي حَانِيَــاتُ الدَّهْــرِ حَـتَّى
كـــأَنِّي خَــاتِلٌ أَدْنُــو لِصَيْــدِ (36)
قَـرِيبُ الخَـطُوِ يَحْسِـبُ مَـنْ رَآنِـي
وَلْسُـــت مقَيــدًا أَنِّــى بِقَيْــدِ
فأوجب إعمال فعل محذوف، وإظهار صلته وهو متروك. (37) وذلك في مذاهب العربية ضعيف، ومن كلام العرب بعيد. وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات، فغير دالّ على صحة دعواه، لأن في قول الشاعر: " رأتني بحبليها "، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكًا، ففي إخباره عنها أنها " رأته بحبليها "، إخبارٌ منه أنها رأته ممسكًا بالحبلين. فكان فيما ظهر من الكلام مستغنًى عن ذكر " الإمساك "، وكانت " الباء " صلة لقوله: " رأتني"، كما في قول القائل: (38) " أنا بالله "، مكتف بنفسه، ومعرفةِ السامع معناه، أن تكون " الباء " محتاجة إلى كلام يكون لها جالبًا غير الذي ظهر، وأن المعنى: " أنا بالله مستعين ".
* * *
وقال بعض نحويي البصرة، قوله: " إلا بحبل من الله " استثناء خارجٌ من أول الكلام.قال: وليس ذلك بأشد من قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا [سورة مريم: 62]
* * *
وقال آخرون من نحويي الكوفة: هو استثناء متصل، والمعنى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، أي: بكل مكان = إلا بموضع حبل من الله، كما تقول: ضُربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان.
* * *
وهذا أيضًا طلب الحق فأخطأ المفصل. وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلا كما زعم، لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة. وليس ذلك صفة اليهود، لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس، أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس، فالذلة مضروبة عليهم، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل. فلو كان قوله: " إلا بحبل من الله وحبل من الناس "، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثُقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلةُ مضروبةً عليهم. وذلك خلاف ما وصَفهم الله به من صفتهم، وخلافُ ما هم به من الصفة، فقد تبين أيضًا بذلك فساد قول هذا القائل أيضًا.
* * *
قال أبو جعفر: ولكن القول عندنا أن " الباء " في قوله: " إلا بحبل من الله "، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتضٍ في المعنى " الباء ". وذلك أن معنى قوله: " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا " ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا = ثم قال: " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " على غير وجه الاتصال بالأول، ولكنه على الانقطاع عنه. ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، &; 7-116 &; كما قيل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً [سورة النساء: 92]، فالخطأ وإن كان منصوبًا بما عمل فيما قبل الاستثناء، فليس قوله باستثناء متصل بالأول بمعنى: " إلا خطأ "، فإن له قتله كذلك = ولكن معناه: ولكن قد يقتله خطأ. فكذلك قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله " ، وإن كان الذي جلب " الباء " التي بعد " إلا " الفعل الذي يقتضيها قبل " إلا "، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله، بمعنى: أن القوم إذا لُقوا، فالذلة زائلة عنهم، بل الذلة ثابتة بكل حال. ولكن معناه ما بينا آنفا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: " وباءوا بغضب من الله "، وتحمَّلوا غضب الله فانصرفوا به مستحقِّيه. وقد بينا أصل ذلك بشواهده، ومعنى " المسكنة " وأنها ذل الفاقة والفقر وخُشوعهما، ومعنى: " الغضب من الله " فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (39)
* * *
وقوله: " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله "، يعني جل ثناؤه بقوله: " ذلك "، أي بوْءُهم الذي باءوا به من غضب الله، وضْربُ الذلة عليهم، بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله = يقول: مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه، وما فرض عليهم من فرائضه =" ويقتلون الأنبياء بغير حق "، يقول: وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم، اعتداءً على الله وجرأة عليه بالباطل، وبغير حق استحقوا منهم القتل.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ألزِموا الذلة بأي مكان لُقوا، إلا بذمة من الله وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من الله متحمِّليه، وألزموا ذل الفاقة وخشوع الفقر، بدلا مما كانوا يجحدون بآيات الله وأدلته وحججه، ويقتلون أنبياءه بغير حق ظلمًا واعتداء.
* * *
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم، وقتلهم الأنبياء، ومعصيتهم ربَّهم، واعتدائهم أمرَ ربهم.
* * *
وقد بينا معنى " الاعتداء " في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته (40) .
* * *
فأعلم رُّبنا جل ثناؤه عبادَه، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا، مع ما ذخر لهم في الأجل من العقوبة والنكال وأليم العذاب، (41) إذ تعدوا حدودَ الله، واستحلوا محارمه = تذكيرًا منه تعالى ذكره لهم، وتنبيهًا على موضع البلاء الذي من قِبَاله أتوا لينيبوا ويذّكروا، وعِظة منه لأمتنا أن لا يستنُّوا بسنتهم ويركبوا منهاجهم، (42) فيسلك بهم مسالكهم، ويحل بهم من نقم الله ومثُلاته ما أحل بهم. كما:-
7643- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون "، اجتنِبُوا المعصية والعدوان، فإن بهما أهلِك مَنْ أُهْلك قبلكم من الناس.
---------------------
الهوامش :
(26) انظر تفسير"ضربت عليهم الذلة" فيما سلف 2: 136.
(27) انظر تفسير"ثقف" فيما سلف 3: 564.
(28) سقط من الناسخ: "وباءوا بغضب من الله" ، ومضت على ذلك المطبوعة ، فأثبت وجه التلاوة.
(29) انظر تفسير"الحبل" فيما سلف قريبا ص: 70 ، 71.
(30) في المخطوطة: "عثمان بن عتاب" ، والصواب ما في المطبوعة.
(31) الأثر: 7640 - مضى مختصرًا برقم: 7155.
(32) هو الفراء في معاني القرآن 1: 230.
(33) هو حميد بن ثور الهلالي.
(34) ديوانه: 35 ، ومعاني القرآن للفراء 1: 230 ، واللسان (نسع) و (فرق) وفي رواية البيت في مادة (فرق) خطأ قبيح وتصحيف ، صوابه ما في التفسير هنا. وأما رواية الديوان فهي:
فَجِــئْتُ بِحَبْلَيْهَــا، فَـرَدَّتْ مَخَافـةً
إِلـى النَّفْسِ رَوْعَـاءُ الجنـانِ فَـرُوقُ
و"روعاء الجنان": شديدة الذكاء ، حية النفس ، شهمة ، كأن بها فزعًا من حدتها وخفة روحها. و"فروق": شديدة الفزع. لم يرد ذمًا ، ولكنه مدح ناقته بحدة الفؤاد ، تفزع لكل نبأة من يقظتها ، كما قالوا في مدحها: "مجنونة". يقول ذلك في ناقته: رأتني أقبلت بالحبلين ، لأشد عليها رحلي ، فصدت خائفة. يصفها بأنها كريمة لم تبتذلها الأسفار. ثم قال: فلما شددت عليها الرحل ، كانت في الحبل ذكية شهمة ، تتوجس لكل نبأة من يقظتها وتوقدها.
(35) هو أبو الطمحان القينى ، حنظلة بن الشرقي ، من بني كنانة بن القين. وهو أحد المعمرين وينسب هذا الشعر أيضًا لعدي بن زيد ، وللمسحاج بن سباع الضبي.
(36) كتاب المعمرين: 57 ، ومعاني القرآن للفراء 1: 230 ، والأغاني 2: 353 ، 356 ، وفيه أيضا 12: 347 ، وحماسة البحتري: 202 ، وأمالي القالي 1: 110 ، وأمالي الشريف 1: 46 ، 257 ، ومجموعة المعاني: 123 ، والمعاني الكبير: 1214 ، مع اختلاف كبير في الرواية ، واللسان (ختل) ، وغيرها. هذا ، وقد اقتصرت المطبوعة والمخطوطة على البيت الأول ، وهو عمل فاسد جدًا ، وليس من فعل أبي جعفر بلا شك ، ولكنه من سهو الناسخ. لأن أبا جعفر نقل مقالة الفراء في معاني القرآن ، وإسقاط البيت الثاني ، وهو بيت الشاهد ، فساد عظيم ، فأثبت البيت ، وأثبت أيضًا تعقيب الفراء عليه ، وهو قوله: "يريد مقيدًا بقيد" ، ولم أضع هذا بين أقواس ، لأن سهو الناسخ أمر مقطوع به بالدليل البين.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "أحنو لصيد" ، وهو تصحيف لا شك فيه. ذلك أن أبا جعفر إنما ينقل مقالة الفراء ، وهو في كتاب الفراء ، وفيما نقله عنه الناقلون في المراجع السالفة ، هو الذي أثبته. هذا مع ظهور التصحيف وقربه ، ومع فساد معنى هذا التصحيف ، ومع فقدان هذه الرواية الغريبة. وقوله: "خاتل" ، يعني صائدًا ، يقال: "ختل الصيد" ، أي: استتر الصائد بشيء ليرمي الصيد ، فهو في سبيل ذلك يمشي قليلا قليلا في خفية ، لئلا يسمع الصيد حسه. فهذا هو الختل والمخاتلة.
(37) "الصلة" هنا: الجار والمجرور.
(38) في المطبوعة: "كما في قول القائل" بزيادة"في" ، وهي أشد إفسادًا للكلام من تصحيف هذا الناسخ في بعض ما يكتب. وقوله: "مكتف بنفسه" خبر لقوله: "كما قول القائل" وقوله: "ومعرفة السامع" معطوف على قوله: "بنفسه" أي: مكتف بنفسه وبمعرفة السامع معناه.
(39) انظر تفسير"باء" فيما سلف 2: 138 ، 345. وتفسير"غضب الله" 1: 188 ، 189 / 2: 138 ، 345. وتفسير"ضربت عليهم" 2: 136 / 7: 110 وتفسير"المسكنة" 2: 137 ، 292 ، 293 / 3: 345 / 4: 295.
(40) انظر ما سلف 2: 142 ، 167 ، 307 / 3 : 375 ، 376 ، 564 ، 580 / 4: 583 ، 584 ، وغيرها.
(41) في المطبوعة: "مع ما ادخر لهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما سواء في المعنى.
(42) في المطبوعة: "منها جهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أجود.
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ يؤمنون بالله واليوم الآخر} أي:كإيمان المؤمنين إيمانا يوجب لهم الإيمان بكل نبي أرسله، وكل كتاب أنزله الله، وخص الإيمان باليوم الآخر لأن الإيمان الحقيقي باليوم الآخر يحث المؤمن به على ما يقر به إلى الله، ويثاب عليه في ذلك اليوم، وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم{ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} فحصل منهم تكميل أنفسهم بالإيمان ولوازمه، وتكميل غيرهم بأمرهم بكل خير، ونهيهم عن كل شر، ومن ذلك حثهم أهل دينهم وغيرهم على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم وصفهم بالهمم العالية{ و} أنهم{ يسارعون في الخيرات} أي:يبادرون إليها فينتهزون الفرصة فيها، ويفعلونها في أول وقت إمكانها، وذلك من شدة رغبتهم في الخير ومعرفتهم بفوائده وحسن عوائده، فهؤلاء الذين وصفهم الله بهذه الصفات الجميلة والأفعال الجليلة{ من الصالحين} الذين يدخلهم الله في رحمته ويتغمدهم بغفرانه وينيلهم من فضله وإحسانه،
ثم وصفهم- سبحانه- بصفات أخرى كريمة فقال: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والمراد بهذا الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول الذي نطق به الشرع، وجاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أى ويؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار وقوله:
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إشعار بأنهم لم يكتفوا بتكميل أنفسهم بالفضائل التي من أشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر، والإكثار من إقامة الصلاة ومن تلاوة القرآن، بل أضافوا إلى ذلك إرشاد غيرهم إلى الخير الذي أمر الله به، ونهيه عن الباطل الذي يبغضه الله، وتستنكره العقول السليمة.
وقوله- تعالى- وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أى يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات التي ترفع درجاتهم عند الله- تعالى- بدون تردد أو تقصير.
وقال- سبحانه-: وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ولم يقل إلى الخيرات للإشعار بأنهم مستقرون في كل أعمالهم في طريق الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها ولا يخرجون منها. فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، وإنما ينتقلون مسارعين من خير إلى خير وهذا هو سر التعبير بفي المفيدة للظرفية.
والمسارعة في الخير هي فرط الرغبة فيه، لأن من رغب في الأمر يسارع في توليه وفي القيام به، واختيار صيغة المفاعلة «يسارعون» للمبالغة في سرعة نهوضهم لهذا العمل الجامع لفنون الخير، وألوان البر.
قال صاحب الكشاف. وقوله: يَتْلُونَ ويُؤْمِنُونَ في محل الرفع صفتان لأمة. أى:
قائمة تالون مؤمنون. وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين، ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمان، لإشراكهم به عزيزا، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض: ومن الإيمان باليوم الآخر، لأنهم يصفونه بخلاف صفته. ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأنهم كانوا مداهنين. ومن المسارعة في الخيرات، لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها» .
واسم الإشارة في قوله: وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ يعود إلى الموصوفين بتلك الصفات السابقة من تلاوة الكتاب ومن إيمان بالله واليوم الآخر..
أى وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم، واستحقوا ثناءه عليهم.
وفي التعبير بقوله: مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى أنهم بهذه المزايا وتلك الصفات، قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله- تعالى- ووصفهم بأن أكثرهم من الفاسقين.
فهم بسبب إيمانهم وأفعالهم الحميدة قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.
قال الفخر الرازي: واعلم أن وصفهم بالصلاح في غاية المدح، ويدل عليه القرآن والمعقول. أما القرآن، فهو أن الله- تعالى- مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء، فقال بعد ذكر إدريس وإسماعيل وذي الكفل وغيرهم وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وذكر حكاية عن سليمان أنه قال: «وأدخلنى برحمتك في عبادك الصالحين» . وأما المعقول، فهو أن الصلاح ضد الفساد، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء أكان ذلك في العقائد أم في الأعمال، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون فقد حصل الصلاح، فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات .
( يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ) وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله [ لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ] ) [ الآية : 199 ]
القول في تأويل قوله تعالى : لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " ليسوا سواء "، ليس فريقًا أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر: سواء. يعني بذلك: أنهم غير متساوين. يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد، والخير والشر. (43) .
* * *
وإنما قيل: " ليسوا سواء "، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ، (44) ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، المؤمنة منهما والكافرة فقال: " ليسوا سواء "، أي: ليس هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الخبرَ جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل &; 7-119 &; الكتاب، ومدحَهم، وأثنى عليهم، بعد ما وصف الفِرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع، ونَخْب الجَنان، (45) ومحالفة الذل والصغار، وملازمة الفاقة والمسكنة، وتحمُّل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة، فقال: " من أهل الكتاب أمَّة قائمةٌ يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون "، الآيات الثلاث، إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ .
* * *
فقوله: (46) " أمة قائمة " مرفوعةٌ بقوله: " من أهل الكتاب ".
* * *
وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدَّمين منهم في صناعتهم: (47) أن ما بعد " سواء " في هذا الموضع من قوله: " أمة قائمة "، ترجمةٌ عن " سواء " وتفسيرٌ عنه، (48) بمعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة. وزعموا أنّ ذكر الفرقة الأخرى، ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين، وهي" الأمة القائمة "، ومثَّلوه بقول أبي ذئيب:
عَصَيْـتُ إلَيْهَـا القَلْـبَ: إنِّـي لأمْرِهَا
سَـمِيعٌ، فَمَـا أَدْرِي أَرُشْـدٌ طِلابُهَـا? (49)
ولم يقل: " أم غير رشد "، اكتفاء بقوله: " أرشد " من ذكر " أم غير رشد "،. وبقول الآخر: (50)
أَرَاك فَــلا أَدْرِي أَهَــمٌّ هَمَمْتُــه?
وَذُو الهَــمِّ قِدْمًـا خَاشِـعٌ مُتَضَـائِلُ (51)
* * *
قال أبو جعفر: وهو مع ذلك عندهم خطأٌ قولُ القائل المريد أن يقول: " سواء أقمتَ أم قعدت " =: " سواء أقمت "، حتى يقول: " أم قعدت ".، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيًا بواحد، دون ما كان ناقصًا عن ذلك، وذلك نحو: " ما أبالي" أو " ما أدري"، فأجازوا في ذلك: " ما أبالي أقمت "، وهم يريدون: " ما أبالي أقمت أم قعدت "، لاكتفاء " ما أبالي" بواحد = وكذلك في" ما أدري". وأبوا الإجازة في" سواء "، من أجل نقصانه، وأنه غير مكتف بواحد، فأغفلوا في توجيههم قوله: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " على ما حكينا عنهم، إلى ما وجهوه إليه -مذاهبَهم في العربية = (52) إذّ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع " سواء "، وأخطأوا تأويل الآية. فـ" سواء " في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء، لا بالمعنى الذي تأوَّله من حكينا قوله.
* * *
وقد ذكر أن قوله: " من أهل الكتاب أمة قائمة " الآيات الثلاث، نـزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم.
*ذكر من قال ذلك:
7644- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سَعْية، وأسَيْد بن سعية، وأسد بن عُبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدَّقوا ورغبوا في الإسلام، ورسخوا &; 7-121 &; فيه، (53) قالت: أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا! (54) ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله " إلى قوله: وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ . (55)
7645- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير، (56) عن محمد بن إسحاق قال، حدثني بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه. (57)
7646- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " الآية، يقول: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية. (58)
7647- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: " أمة قائمة "، عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سلام أخوه، وسعية، (59) ومبشر، وأسَيْد وأسد ابنا كعب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله، سواء عند الله.
*ذكر من قال ذلك:
7648- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة "، قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمةُ محمد صلى الله عليه وسلم . (60)
7649- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة "، الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود، كمثل هذه الأمة التي هي قائمة.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك، قولُ من قال: قد تمت القصة عند قوله: " ليسوا سواء "، عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم، وأنّ قوله: " من أهل الكتاب أمة قائمة "، خبر مبتدأ عن مدح مؤمنهم ووصفهم بصفتهم، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله: " أمة قائمة "، جماعة ثابتةٌ على الحق.
* * *
وقد دللنا على معنى " الأمة " فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (61)
وأما " القائمة "، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناها: العادلة.
*ذكر من قال ذلك:
7650- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " أمة قائمة "، قال: عادلة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه.
*ذكر من قال ذلك:
7651- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: " أمة قائمة "، يقول: قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده.
7652- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: " أمة قائمة "، يقول: قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه.
7653- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " من أهل الكتاب أمة قائمة "، يقول: أمة مهتدية، قائمة على أمر الله، لم تنـزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.
* * *
وقال آخرون. بل معنى " قائمة "، مطيعة.
*ذكر من قال ذلك:
7654- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " أمة قائمة "، الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله و " القانتة "، المطيعة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم، وإن كان سائر الأقوال الأخَر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله: " قائمة "، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه، والعدلُ والطاعةُ &; 7-124 &; وغير ذلك من أسباب الخير، (62) من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك، الخبرُ الذي رواه النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
7655-" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم ركبوا سفينة "، ثم ضرب لهم مثلا. (63) .
* * *
فالقائم على حدود الله: هو الثابت على التمسك بما أمره الله به، واجتناب ما نهاهُ الله عنه.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله : يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
قال أبو جعفر: يعني بقوله: " يتلون آيات الله "، يقرءون كتاب الله آناء الليل. ويعني بقوله: "آيات الله "، ما أنـزل في كتابه من العبَر والمواعظ. يقول: يتلون ذلك آناء الليل، يقول: في ساعات الليل، فيتدبَّرونه ويتفكرون فيه.
* * *
وأما "آناء الليل "، فساعات الليل، واحدها " إنْيٌ"، كما قال الشاعر: (64)
حُـلْوٌ وَمُـرٌّ كَـعَطْفِ القِـدْحِ مِرَّتُـهُ
فِـي كُـلِّ إِنْـيٍ حـذَاه اللَّيْـلُ يَنْتَعِـلُ (65)
وقد قيل إنّ واحد " الآناء "،" إنًى " مقصور، كما واحد " الأمعاء "" مِعًى ".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: ساعات الليل، كما قلنا.
*ذكر من قال ذلك:
7656- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " يتلون آيات الله آناء الليل "، أي: ساعات الليل.
* * *
7657- حدثت عن عمار قال، حدثنا أبن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: "آناء الليل "، ساعات الليل.
7658- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال، عبد الله بن كثير: سمعنا العرب تقول: "آناء الليل "، ساعات الليل.
وقال آخرون "آناء الليل "، جوف الليل.
*ذكر من قال ذلك:
7659- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " يتلون آيات الله آناء الليل "، أما "آناء الليل "، فجوفُ الليل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك قومٌ كانوا يصلون العشاء الآخرة. (66)
*ذكر من قال ذلك:
7660- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود في قوله: " يتلون آيات الله آناء الليل "، صلاة العَتَمة، هم يصلُّونها، ومَنْ سِواهم من أهل الكتاب لا يصلِّيها. (67)
7661- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن سليمان، عن زِرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، كان عند بعض أهله ونسائه: فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليلٌ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فبشَّرنا وقال: " إنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب " فأنـزل الله: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " (68)
* * *
7662- حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي يحيى الخراساني، عن نصر بن طريف، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ننتظر العشاء -يريد العَتَمة- فقال لنا: ما على الأرض أحدٌ من أهل الأديان ينتظر هذة الصلاة في هذا الوقت غيركم! قال: فنـزلت: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " (69)
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
7663- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور قال، بلغني أنها نـزلت: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " فيما بين المغرب والعشاء.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرتُها على اختلافها، متقاربة المعاني. وذلك أن الله تعالى ذكره وَصف هؤلاء القوم بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وهي آناؤه، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليًا لها آناء الليل، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء، ومن تلاها جوفَ الليل، فكلٌّ تالٍ له ساعات الليل. غير أن أولى الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال: " عني بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء "، لأنها صلاة لا يصلِّيها أحد من أهل الكتاب "، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله " .
* * *
وأما قوله: " وهم يسجدون "، فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى " السجود " في هذا الموضع، اسم الصلاة لا للسجود، (70) لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع. فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون، (71) .
* * *
وليس المعنى على ما ذهب إليه، وإنما معنى الكلام: من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم، وهم مع ذلك يسجدون فيها، فـ" السجود "، هو " السجود " المعروف في الصلاة.
----------------------
الهوامش :
(43) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256.
(44) هي الآية السالفة قبل قليل: 110 من سورة آل عمران.
(45) النخب (بفتح فسكون): الجبن وضعف القلب. ورجل منخوب الجنان ونخيب الجنان: جبان لا قلب له ، كأنه منتزع الفؤاد فلا فؤاد له.
(46) في المطبوعة: "قوله" بغير فاء في أولها ، والصواب من المخطوطة.
(47) يعني الفراء في معاني القرآن 1: 230 ، 231 ، وهذا قريب من نص كلامه ، وبعض شواهده.
(48) الترجمة: يعني البدل ، وانظر تفسير ذلك فيما سلف 2: 340 ، 374 ، 420 ، 424 ، 426 ، وغيرها من المواضع في فهرس المصطلحات.
(49) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1: 327.
(50) لم أعرف قائله.
(51) معاني القرآن للفراء 1: 231 . وكان في المطبوعة: "أزال فلا أدري ..." ، وهو لا معنى له ، والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن. ولست أدري أيخاطب امرأة فيقول لها: إن الهم يغلبني إذا رأيتك. فأنا له خاشع متضائل = أم هو يريد الهم والفتك ، فيقول: إن الذي يضمر في نفسه شيئًا يهم به من الفتك ، يخفى شخصه حتى يبلغ غاية ثأره بعدوه. ولا أرجح شيئًا حتى أجد إخوة هذا البيت.
(52) قوله: "مذاهبهم" مفعول"فأغفلوا". والسياق: فأغفلوا في توجيههم قوله إلى ما وجهوه إليه - مذاهبهم في العربية. . .
(53) في المطبوعة: "ومنحوا فيه" ، وفي المخطوطة: "ومحوا" غير منقوطة ، وهي تصحيف للذي أثبته من سيرة ابن هشام.
(54) في المطبوعة والمخطوطة: "أشرارنا" كما أثبتها ، والذي في سيرة ابن هشام"شرارنا". وهي أجود.
(55) الأثران: 7644 ، 7645 - سيرة ابن هشام 2: 206.
(56) في المخطوطة والمطبوعة: "يونس عن بكير" ، وهو خطأ ، وهذا إسناد كثير الدوران في التفسير أقربه رقم: 7334.
(57) في المطبوعة والمخطوطة: "أشرارنا" كما أثبتها ، والذي في سيرة ابن هشام"شرارنا". وهي أجود.
(58) في المخطوطة"لله فيهم عليه" غير منقوطة ، وتركت ما في المطبوعة ، لأنه وافق ما في الدر المنثور 2: 64 ، 65.
(59) في المطبوعة: "شعية" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(60) الحديث: 7648- أبو عاصم: هو النبيل ، الضحاك بن مخلد. مضى في : 2155. عيسى: هو ابن ميمون الجرشي المكي. مضى في: 278.
الحسن بن يزيد العجلى: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات ، وترجمة البخاري في الكبير ، 1 / 2 / 306 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 42 - فلم يذكرا فيه جرحًا وهذا الحديث ذكره ابن كثير 2: 224 ، عن ابن أبي نجيح غير منسوب لتخريج وسيأتي له بقية بهذا الإسناد 7660 ، وقد جمعها السيوطي حديثا واحدا 2: 65 ، كما سيأتي هناك .
(61) انظر ما سلف قريبًا ص: 106 والتعليق: 2 ، وفيه المراجع.
(62) في المخطوطة والمطبوعة: "بالعدل والطاعة. . ." ، وهو خطأ وفساد كبير في السياق ، والصواب ما أثبت ، لأن الطبري فسر"قائمة" بمعنى مستقيمة ، ثم ذكر أقوال أهل التأويل التي قالوها قبل من"العدل" و"الطاعة" ، ثم قال إنها"من صفة أهل الاستقامة". فهي بذلك داخلة في معنى"قائمة" كما فسرها.
(63) الحديث: 7655- هذا حديث صحيح ، أشار إليه الطبري إشارة ، دون أن يذكره بتمامه ، ولم يذكر إسناده.
وقد رواه أحمد في المسند 4: 268 (حلبي) ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بَشِير قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ القائم على حدود الله تعالى ، والمُدْهِنِ فيها ، كَمَثَلِ قوم اسْتَهَمُوا على سَفِينة في البحر فأصاب بعضُهم أَسْفَلهَا ، وأصاب بعضُهم أَعْلاها ، فكان الذين في أسفلها يَصْعَدُون فيَسْتَقُون الماءَ ، فيَصُبُّون على الذين في أعلاها ، فقال الذين في أَعلاها: لا نَدَعُكم تَصْعَدون فتؤْذوننا ، فقال الذين في أسفلها: فإننا نَنْقُبُها من أسفلها فنَسْتَقِي! قال: فإن أَخَذُوا على أيديهم فمَنَعُوهم نَجَوْا جميعًا ، وإن تركوهم غَرِقُوا جميعًا".
ثم رواه أحمد أيضًا 4: 269 ، عن يحيى بن سعيد ، عن زكريا ، و 270 ، عن إسحاق بن يوسف ، عن زكريا بن أبي زائدة ، و 273 - 274 ، عن سفيان ، عن مجالد - كلاهما ، أعني زكريا ومجالد ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير ، نحوه.
ورواه البخاري 5: 94 (فتح) ، عن أبي نعيم ، عن زكريا ، عن الشعبي.
ثم رواه أيضا 5: 216 : 217 ، عن عمر بن حفص بن غياث ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن الشعبي ، به نحوه.
(64) هو المتنخل الهذلي ، ولكنه سيأتي في الطبري منسوبًا إلى"المنخل السعدي" ، وهو خطأ حققته في موضعه بعد.
(65) ديوان الهذليين 2: 35 ، ومجاز القرآن 1: 102 ، وسيرة ابن هشام 2: 206 ، واللسان"أنى" ، وسيأتي من التفسير 16: 168 (بولاق) ، من قصيدته في رثاء ابنه أثيلة ، والبيت في صفة ولده ، وقد رواه ابن الأنباري ، كما جاء في اللسان:
السَّــالِكُ الثَّغْــرَ مَخْشِـيًّا مَـوَارِدُهُ
بِكُــلِّ إِنْــيٍ قَضَـاه اللَّيـلُ يَنْتَعِـلُ
فذكر الأزهري رواية ابن الأنباري ، وقال: وأنشده الجوهري ، ثم ساق البيت كما هو في التفسير ، ثم قال: "ونسبه أيضا للمنخل ، فإما أن يكون هو البيت بعينه ، أو آخر من قصيدة أخرى". وهذا كلام لا شك في ضعفه ، والذي رواه ابن الأنباري خلط خلطه من بيت آخر في القصيدة ، أخطأ في روايته. وهو قوله قبل ذلك بأبيات:
السَّــالِكُ الثَّغْــرَةَ اليَقْظَـانَ كَالِئُهَـا
مَشْـىَ الهَلُـوكِ عَلَيْهـا الخَيْعَلُ الفُضُلُ
وأما معنى البيت الذي رواه في التفسير ، فإنه يعني بقوله: "حلو ومر" ، أنه سهل لمن لاينه ، صعب على من خاشنة. وقوله"كعطف القدح" ، يريد أنه يطوى كما يطوى القدح ثم يعود إلى شدته واستقامته. والمرة: القوة والشدة. ورواية الديوان والطبري"حذاه الليل" ، أي قطعه الليل حذاء ، وهو شبيه في المعنى بقوله: "قضاه" ، لأن معنى"قضاه": أي صنعه وقدره وفصله. وانتعل الليل: اتخذه نعلا ، يعني سرى فيه ، غير حافل بما يلقى. هذا ، وقد كان في المطبوعة من التفسير: "قضاه الليل" ، نقله ناشر من مكان غير التفسير ، لأن في المخطوطة"حداه" غير منقوطة ، فلم يعرف معناها ، ولم يعرف صوابها فاستبدل بها ما أثبته من اللسان أو غيره.
(66) في المطبوعة: "العشاء" الأخيرة" ، والصواب من المخطوطة.
(67) الحديث: 7660- هذا تتمة الحديث الماضي بهذا الإسناد: 7648 ، كما أشرنا هناك. وقد جمعهما السيوطى 2: 65 حديثًا واحدًا ، نسبه للفريابي ، والبخاري في تاريخه. وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
ولم نر من هذه المصادر إلا ابن جرير ، وهو قد رواه مفرقًا حديثين ، كما ترى - وإلا التاريخ الكبير للبخاري ، وهو لم يروه كله. بل روى هذا القسم الأخير وحده موجزًا كعادته ، في ترجمة الحسن بن يزيد 1 / 2 / 306 ، قال ، "قال محمد بن يوسف ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن ابن مسعود (يتلون آيات الله آناء الليل) ، قال: صلاة العتمة. وروى عمر بن ذر ، عن الحسن بن يزيد العجلى ، مرسلا".
وانظر الحديثين بعد هذا.
(68) الحديث: 7661- عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي: ثقة ، وثقه البخاري فيما نقل عنه الترمذي ، كما في التهذيب ، وكذلك وثقه أحمد بن صالح ، فيما روى عنه أبو داود. وضعفه أحمد ، وابن معين ، وابن المديني. وروى ابن أبي حاتم 2 / 2 / 315 عن أبيه ، أنه قال: "لين الحديث". وعن أبي زرعة ، أنه قال: "لا بأس به ، صدوق". ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء ، ونرى أن من تكلم فيه إنما هو من أجل نسخة يرويها عن علي بن يزيد الألهاني ، الحمل فيها على علي بن يزيد. وانظر التهذيب.
و"زحر": بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة.
سليمان: هو الأعمش.
وأنا أخشى أن يكون قد سقط من هذا الإسناد"عن عاصم" - بين سليمان الأعمش وزر بن حبيش. فإن الأعمش لم يذكر أنه يروى عن زر ، وإنما روايته عنه بواسطة"عاصم بن أبي النجود" وأقرانه من هذه الطبقة.
والحديث سيأتي -نحوه- عقب هذا. وتخريجه هناك.
(69) الحديث: 7662- علي بن معيد بن شداد العبدي. الرقي ، نزيل مصر: ثقة ، روى عنه أبو حاتم ووثقه. وقال الحاكم: "شيخ من جلة المحدثين".
أبو يحيى الخراساني: لم أعرف من هو ، بعد طول البحث والتتبع. وفي كنية"أبي يحيى" ، وفي نسبة"الخراساني" كثرة.
نصر بن طريف ، أبو جزى القصاب الباهلي: ضعيف جدًا ، أجمعوا على ضعفه. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 105 ، وقال: "سكتوا عنه ، ذاهب" ، وابن سعد 7 / 2 / 41 ، وقال: "ليس بشيء ، وقد ترك حديثه". وقال يحيى: "من المعروفين بوضع الحديث"؛ وذكره الفلاس فيمن"أجمع عليه من أهل الكذب أنه لا يروى عنهم".
وكنيته"أبو جزى": بفتح الجيم وكسر الزاي ، كما ضبطه الذهبي في المشتبه ، ص 104. والحديث ثابت ، بنحوه - بإسناد آخر صحيح ، يغني عن إسنادى الطبري هذين: فرواه أحمد في المسند: 3760 ، عن أبي النضر وحسن بن موسى ، كلاهما عن شيبان ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 312. وقال: "رواه أحمد ، وأبو يعلى ، والبزار ، والطبراني في الكبير" ، ثم ذكره بنحوه ، بلفظ يكاد يكون لفظ الرواية الماضية: 7661. ثم قال: "ورجال أحمد ثقات ، ليس فيهم غير عاصم بن أبي النجود ، وهو مختلف في الاحتجاج به. وفي إسناد الطبراني عبيد الله بن زحر. وهو ضعيف". وذكره السيوطي 2: 65 ، وزاد نسبته للنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
(70) في المطبوعة: "لا السجود" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(71) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 231.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 104 | ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ |
---|
آل عمران: 114 | ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَـٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ |
---|
التوبة: 71 | ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وأنهم مهما فعلوا{ من خير} قليلا كان أو كثيرا{ فلن يكفروه} أي:لن يحرموه ويفوتوا أجره، بل يثيبهم الله على ذلك أكمل ثواب، ولكن الأعمال ثوابها تبع لما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والتقوى، فلهذا قال{ والله عليم بالمتقين} كما قال تعالى:{ إنما يتقبل الله من المتقين}
ثم بين- سبحانه- أنه لن يضيع شيئا مما قدموه من أعمال صالحة، بل سيكافئهم على ذلك بما هو أفضل وأبقى فقال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أى أن هؤلاء الذين وصفهم بتلك الصفات الطيبة لن يضيع الله شيئا مما قدموه من عمل صالح، وإنما سيجازيهم بما هم أهله من ثواب جزيل، وأجر كبير بدون أى نقصان أو حرمان.
وما في قوله: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ شرطية. وفعل الشرط قوله: يَفْعَلُوا وجوابه قوله: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ.
ومِنْ في قوله: مِنْ خَيْرٍ لتأكيد العموم أى ما يفعلوا من أى خير سواء أكان قليلا أم كثيرا فلن يحرموا ثوابه.
وأصل الكفر: الستر والتغطية. وقد صح تعدية الفعل كفر إلى مفعولين لأنه هنا بمعنى حرم.
ولذا قال صاحب الكشاف: فإن قلت لم عدى إلى مفعولين، وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول: شكر النعمة وكفرها؟ قلت: ضمن معنى الحرمان فكأنه قيل: فلن يحرموه بمعنى: فلن يحرموا جزاءه» .
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ تذييل مقرر لمضمون ما قبله. أى هو- سبحانه- عليم بأحوال عباده وسيجازى المتقين بما يستحقون من ثواب، وسيجازى الكافرين بما يستحقون من عقاب.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد أنصفت المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب، ووصفتهم بجملة من الصفات الطيبة.
وصفتهم بأنهم طائفة ثابتة على الحق. وأنهم يتلون آيات آناء الليل وأطراف النهار، وأنهم مكثرون من التضرع إلى الله في صلواتهم وسجودهم، وأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وأنهم يأمرون بالمعروف، وأنهم ينهون عن المنكر، وأنهم يسارعون في الخيرات، وأنهم من الصالحين.
ثم بشرهم- سبحانه- بعد وصفهم بهذه الصفات الكريمة بأن ما يقدموه من خير فلن يحرموا ثوابه، لأنه- سبحانه- عليم بأحوال عباده ولن يضيع أجر من أحسن عملا.
وبعد هذا الحديث المؤثر عن أحوال المؤمنين من أهل الكتاب وبيان ما أعده الله لهم من ثواب جزيل، أتبعه بالحديث عن الكافرين وعن سوء عاقبتهم وعن أهم الأسباب التي أدت إلى جحودهم وفسوقهم فقال- تعالى-:
وهكذا قال هاهنا : ( وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ) أي : لا يضيع عند الله بل يجزيكم به أوفر الجزاء . ( والله عليم بالمتقين ) أي : لا يخفى عليه عمل عامل ، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا .
القول في تأويل قوله : يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: " يؤمنون بالله واليوم الآخر "، يصدِّقون بالله وبالبعث بعد الممات، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم; وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله، ويعبدون معه غيره، ويكذبون بالبعث بعد الممات، وينكرون المجازاة على الأعمال والثوابَ والعقابَ.
* * *
وقوله: " ويأمرون بالمعروف "، يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. (72) " وينهون عن المنكر "، يقول: وينهون الناس عن الكفر بالله، وتكذيب محمد وما جاءهم به من عند الله: (73) يعني بذلك: أنهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به، وينهونهم عن المعروف من الأعمال، وهو تصديق محمد فيما أتاهم به من عند الله. =" ويسارعون في الخيرات "، يقول: ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب، هم من عداد الصالحين، (74) لأن من كان منهم فاسقًا، قد باء بغضب من الله لكفره بالله وآياته، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وعصيانه ربّه واعتدائه في حدوده.
---------------------
الهوامش :
(72) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف ص: 105 تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(73) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف ص: 105 تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(74) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 3: 91 / 6: 380.
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 115 | ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ |
---|
التوبة: 44 | ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
وما يفعلوا:
قرئ:
1- بالياء، وهى قراءة ابن عباس، وحمزة، والكسائي، وحفص، وعيد الوارث.
2- بالتاء، وهى قراءة نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبى بكر.