20127128129130131132133134

الإحصائيات

سورة البقرة
ترتيب المصحف2ترتيب النزول87
التصنيفمدنيّةعدد الصفحات48.00
عدد الآيات286عدد الأجزاء2.40
عدد الأحزاب4.80عدد الأرباع19.25
ترتيب الطول1تبدأ في الجزء1
تنتهي في الجزء3عدد السجدات0
فاتحتهافاتحتها
حروف التهجي: 1/29آلم: 1/6

الروابط الموضوعية

المقطع الأول

من الآية رقم (127) الى الآية رقم (131) عدد الآيات (5)

بناءُ البيتِ الحرامِ ودعاءُ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام أن يتقبلَ اللهُ منهما، وأن يجعلَهما مسلمَينِ له، وأن يبعثَ في ذريتِهما رسولًا منهم، وسفهُ من يرغبُ عن ملةِ إبراهيمَ عليه السلام.

فيديو المقطع


المقطع الثاني

من الآية رقم (132) الى الآية رقم (134) عدد الآيات (3)

وصيةُ إبراهيمَ عليه السلام لبنِيهِ، وكذلك وصيةُ يعقوبَ عليه السلام لبنِيهِ بالتمسُّكِ بالإسلامِ دينِ جميعِ الأنبياءِ.

فيديو المقطع


مدارسة السورة

سورة البقرة

استخلاف الإنسان في الأرض/ العبادة/ الإسلام لله تعالى

أولاً : التمهيد للسورة :
  • • فلماذا سميت السورة بالبقرة؟:   قد يتساءل البعض لماذا سميت هذه السورة بسورة البقرة؟ قد يجيب البعض بأنها سميت كذلك لأنّ قصة البقرة جاءت في هذه السورة. فنقول: إنَّ هذه السورة قد جاء بها قصص كثيرة، فلماذا سميت السورة باسم هذه القصة دون غيرها؟ العناوين دلالة الاهتمام، فهذه إشارة إلى أهمية هذه القصة، أو أن أهم موضوع في السورة هو قصة البقرة.
  • • ليست مجرد قصة::   لم تكن قصة (بقرة بني إسرائيل) مجرد قصة من قصص بني إسرائيل، ولكنها تجسيد لحال بني إسرائيل مع أوامر الله، تلكأ في تنفيذ أوامر الله، تعنت، وتشدد، وتحايل، ومماطلة، وجدال، وجحود، وعناد. وهذا في غاية المناسبة لسورة البقرة التي تضمنت تربية المؤمنين على الاستجابة ﻷوامر الله، فقد تضمنت الكثير من التشريعات والأحكام، فكأن الاسم شعار للمؤمنين ليحذروا من التشبه بأصحاب البقرة، لكي يتذكر المسلم المسؤول عن الأرض هذه الأخطاء ويتجنبها. ولهذا خُتمت السورة بقوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (285).
ثانيا : أسماء السورة :
  • • الاسم التوقيفي ::   «سورة البقرة»، وتسمى مع سورة آل عمران بـ«الزَّهراوَين».
  • • معنى الاسم ::   البقرة: حيوان معروف، لحمه يؤكل ولبنه يشرب، والزهراوان: المُنيرتان المُضيئتان، واحدتها زهراء.
  • • سبب التسمية ::   سميت سورة البقرة؛ لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها، ولم ترد أي إشارة إلى هذه القصة في أي سورة غيرها، وتسمى مع سورة آل عمران بـ«الزَّهراوَين»؛ لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما.
  • • أسماء أخرى اجتهادية ::   وتسمى أيضًا «سَنام القرآن» وسنام كل شيء أعلاه، فسميت بذلك تعظيمًا لشأنها، و«فُسطاط القرآن» والفسطاط هو المدينة الجامعة، لما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها.
ثالثا : علمتني السورة :
  • • علمتني السورة ::   وجوب الاستجابة لأوامر لله، والاستسلام الكامل لأحكامه، والانقياد والإذعان لها.
  • • علمتني السورة ::   أن هذا الكتاب العزيز لا شك فيه بأي وجه من الوجوه، لا شك في نزوله، ولا في أخباره، ولا أحكامه، ولاهدايته: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾
  • • علمتني السورة ::   تكريم الله للإنسان بسجود الملائكة له، وتعليمه أسماء جميع الأشياء، وإسكانه الجنة، واستخلافه في الأرض: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ...﴾
  • • علمتني السورة ::   أن من لا يعرف من القرآن إلا تلاوته دون فهم يشابه طائفة من اليهود لم يعلموا من التوراة إلا التلاوة: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾
رابعًا : فضل السورة :
  • • عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ، الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ».
    • عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا». ففي حرَّ يوم القيامة الشديد، عندما تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق، تأتي سورة البقرة لتظلل على صاحبها.تأمل كيف أنّ سورتي البقرة وآل عمران تحاجان -أي تدافعان- عن صاحبهما.
    • عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ الْبَقَرَةُ لاَ يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ».
    • عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ! أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:« يَا أَبَا الْمُنْذِرِ! أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ:" اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعَلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ». زَادَ أَحْمَد: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيِدَهِ! إِنَّ لَهَا لِسَانًا وَشَفَتَينِ، تُقَدِّس الْمَلِكَ عَنْدِ سَاقِ الْعَرشِ».
    • عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِي فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَة لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ».
    • عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنهُ مَلَكٌ»، فَقَالَ: «هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ»، فَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيْتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ».
    • عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ».
    • عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي ثَلاثِ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطه».
    • عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ الأُوَل مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ حَبْرٌ». السبعُ الأُوَل هي: «البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والتوبة»، وأَخَذَ السَّبْعَ: أي من حفظها وعلمها وعمل بها، والحَبْر: العالم المتبحر في العلم؛ وذلك لكثرة ما فيها من أحكام شرعية.
    • عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ».وسورة البقرة من السبع الطِّوَال التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم مكان التوراة.
خامسًا : خصائص السورة :
  • • هي أطول سورة في القرآن الكريم على الإطلاق
    • أول سورة نزلت في المدينة.
    • أول سورة مدنية بحسب ترتيب المصحف.
    • أول سورة -بحسب ترتيب المصحف- تفتح بالحروف المقطعة من أصل 29 سورة افتتحت بذلك.
    • أول سورة -بحسب ترتيب المصحف- تفتح بالحروف المقطعة ﴿الم﴾ من أصل 6 سور افتتحت بذلك.
    • هي السورة الوحيدة التي ذكرت قصة البقرة، ولم يذكر لفظ (البقرة) مفردًا بغير هذه السورة.
    • تحتوي على أعظم آية (آية الكرسي)، وأطول آية (آية الدين).
    • تحتوي على آخر آية نزلت -على الراجح- وهي: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (281).
    • كثرة أحكامها، قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: «فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر».
    • السور الكريمة المسماة بأسماء الحيوانات 7 سور، وهي: «البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والعنكبوت، والعاديات، والفيل».
سادسًا : العمل بالسورة :
  • • أن نستقبل أوامر الله بـ "سمعنا وأطعنا"، وأن نحذر من: "سمعنا وعصينا".
    • أن نرتبط بكتاب الله علمًا وتدبرًا وعملًا؛ لنصل إلى الهداية ونبتعد عن طريق الغواية: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (2).
    • أن نتحلى بصفات المتقين، ومنها: الإيمان بالغيب، إقامة الصلاة، الإنفاق، الإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل على الأنبياء من قبله، الإيمان باليوم الِآخر: ﴿... هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ...﴾ (2-5).
    • أن نحذر من صفات المنافقين، ومنها: لا يعترفون بأخطائهم، يصرون على الذنوب، يمثلون أمام الناس أنهم مصلحون وهم المفسدون، يخادعون أنفسهم (8-20).
    • أن نبتعد عن الكبر؛ فالكبر هو معصية إبليس: ﴿... فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ ...﴾ (34).
    • أن نمتثل أوامر الله تعالى ونحذر من وساوس الشيطان: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ ... فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ...﴾ (35، 36).
    • أن نحذر الذنوب، فبذنبٍ واحد خرج أبونا من الجنة: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ (36).
    • أن نسارع بالتوبة كما فعل أبونا آدم عليه السلام (37).
    • أن نتجنب الأخطاء التي وقعت من بني إسرائيل، ولا نفعل مثل ما فعلوا (40-123).
    • أن نذكِّر الناس ونرشدهم إلى الخير؛ ولا ننسى أنفسنا من ذلك: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ (44). • أن نختار كلماتنا بعناية شديدة: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (83).
    • أن نسارع بالاستجابة لأوامر الله كما فعل إبراهيم عليه السلام : ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (131)، وأن نحذر عناد بني إسرائيل وجدالهم.
    • أن نكثر من ذكر الله تعالى وشكره حتى نكون من الذاكرين: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ (152).
    • أن نقول: «إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» عند المصيبة: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (156).
    • أن نكثر التأمل والتفكر في خلق الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (164).
    • أن نأتي كل أمر من أمورنا من الطريق السهل القريب: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ (189).
    • أن نبادر في قضاء فريضة الحج، ونحرص على عدم الرفث والفسوق والجدال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ...﴾ (197).
    • أن نحذر من خطوات الشيطان ووساوسه: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (208).
    • أن نحسن الظن بالله وبما قدَّره لنا في حياتنا، حتى لو أننا كرهناه فهو بالتأكيد خير لنا، فكل أقداره عز وجل خير: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ...﴾ (216).
    • أن نبتعد عن الخمر والميسر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ...﴾ (219).
    • أن نحافظ على الصلاة تحت أي ظرف: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ﴾ (238).
    • ألا نَمُن على أحد أنفقنا عليه، ولا نؤذيه، ولا ننتظر الأجر إلا من الله: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ...﴾ (262).
    • أن نحذر الربا، ونبتعد عنه: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا ...﴾ (275-279).
    • أن نصبر على المعسر الذي لم يستطع القضاء، أو نسقط عنه الدين كله أو بعضه: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (280).
    • أن نقول لكل ما جاء به الرسول عن ربنا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ (285)، ‏بلا جدال، ولا نقاش، ولا تكاسل.

تمرين حفظ الصفحة : 20

20

مدارسة الآية : [127] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ ..

التفسير :

[127] واذكر -أيها النبي- حين رفع إبراهيم وإسماعيل أسس الكعبة، وهما يدعوان الله في خشوع:ربنا تقبل منَّا صالح أعمالنا ودعاءنا، إنك أنت السميع لأقوال عبادك، العليم بأحوالهم.

أي:واذكر إبراهيم وإسماعيل, في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس, واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء, حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما, حتى يحصل فيه النفع العميم.

ثم حكى القرآن دعوة ثالثة تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

القواعد: جمع قاعدة، وهي أساس البناء الموالي للأرض، وبها يكون ثبات البناء. ورفعها:

إبرازها عن الأرض بالبناء عليها. والمراد بالبيت الكعبة.

والتقبل: القبول، وقبول الله للعمل أن يرضاه أو يثيب عليه.

والمعنى: واذكر يا محمد ما صدر من الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل فقد كانا وهما يقومان يرفع قواعد الكعبة يتضرعان إلى ويقولان: يا ربنا تقبل منا أقوالنا وأعمالنا، إنك أنت السميع العليم.

وتصدير الدعاء بندائه- سبحانه- باسم الرب المضاف إلى ضميرهما مظهر من مظاهر خضوعهما، وإجلالهما لمقامه، والخضوع له- سبحانه-، وإجلال مقامه من أسنى الآداب التي تجعل الدعاء بمقربة من الاستجابة.

وعبر بالمضارع فقال: وَإِذْ يَرْفَعُ مع أن رفع القواعد كان قبل نزول الآية، وذلك ليخرجه في صورة الحاضر في الواقع لأهمّيّته.

وختما دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى، ليؤكدا أن رجاءهما في استجابة دعائهما وثيق، وأن ما عملاه ابتغاء مرضاته جدير بالقبول. لأن من كان سميعا عليما بنيات الداعين وصدق ضمائرهم، كان تفضله باستجابة دعاء المخلصين في طاعته غير بعيد.

وأما قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم )

فالقواعد : جمع قاعدة ، وهي السارية والأساس ، يقول تعالى : واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، البيت ، ورفعهما القواعد منه ، وهما يقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) فهما في عمل صالح ، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما ، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي ، عن وهيب بن الورد : أنه قرأ : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ) ثم يبكي ويقول : يا خليل الرحمن ، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك . وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين المخلصين في قوله تعالى : ( والذين يؤتون ما آتوا ) أي : يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات ( وقلوبهم وجلة ) [ المؤمنون : 60 ] أي : خائفة ألا يتقبل منهم . كما جاء به الحديث الصحيح ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه .

وقال بعض المفسرين : الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم ، والداعي إسماعيل . والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان ، كما سيأتي بيانه .

وقد روى البخاري هاهنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك . قال البخاري ، رحمه الله :

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة يزيد أحدهما على الآخر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، عليهما السلام اتخذت منطقا ليعفي أثرها على سارة . ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ، عليهما السلام ، وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم ، عليه السلام ، منطلقا . فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها . فقالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذا لا يضيعنا . ثم رجعت . فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه ، قال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) [ إبراهيم : 37 ] ، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، عليهما السلام ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ماء السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا . فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي . ثم أتت المروة ، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا . ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " .

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت أيضا . فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث . فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه أو قال : بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه ، وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا " .

قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ; فإن هاهنا بيتا لله ، عز وجل ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله ، عز وجل ، لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء . فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على الماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء . فأرسلوا جريا أو جريين ، فإذا هم بالماء . فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا . قال : وأم إسماعيل عند الماء . فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم .

قال ابن عباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس . فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم . حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل ، عليهما السلام ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل ليطالع تركته . فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة . وشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، كأنه أنس شيئا . فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسأل عنك ، فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول غير عتبة بابك . قال : ذاك أبي . وقد أمرني أن أفارقك ، فالحقي بأهلك . فطلقها وتزوج منهم بأخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد فلم يجده . فدخل على امرأته ، فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم . فقالت : نحن بخير وسعة . وأثنت على الله ، عز وجل . فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء " . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولم يكن لهم يومئذ حب ، ولو كان لهم ، لدعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه " . قال : " فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، ومريه يثبت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير . قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ، عز وجل ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد ، والوالد بالولد . ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر . قال : فاصنع ما أمرك ربك ، عز وجل . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) " قال : " فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) .

[ ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا ] .

ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي عبد الله محمد بن حماد الظهراني . وابن جرير ، عن أحمد بن ثابت الرازي ، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرا .

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي ، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن عبد الملك بن جريج ، عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير ، في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني . فسألوه عن المقام . فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس ، فذكر الحديث بطوله .

ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد . حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن كثير بن كثير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعهم شنة فيها ماء ، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة ، فيدر لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ، ثم رجع إبراهيم إلى أهله ، فاتبعته أم إسماعيل ، حتى بلغوا كداء نادته من ورائه : يا إبراهيم ، إلى من تتركنا ؟ قال : إلى الله ، عز وجل . قالت : رضيت بالله . قال : فرجعت ، فجعلت تشرب من الشنة ، ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا . قال : فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونظرت هل تحس أحدا ، فلم تحس أحدا . فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة ، ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، تعني الصبي ، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت ، فلم تقرها نفسها ، فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا . قال : فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونظرت فلم تحس أحدا ، حتى أتمت سبعا ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، فإذا هي بصوت ، فقالت : أغث إن كان عندك خير . فإذا جبريل ، عليه السلام ، قال : فقال بعقبه هكذا ، وغمز عقبه على الأرض . قال : فانبثق الماء ، فدهشت أم إسماعيل ، فجعلت تحفر .

قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " لو تركته لكان الماء ظاهرا .

قال : فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها .

قال : فمر ناس من جرهم ببطن الوادي ، فإذا هم بطير ، كأنهم أنكروا ذلك ، وقالوا : ما يكون الطير إلا على ماء ، فبعثوا رسولهم فنظر ، فإذا هو بالماء . فأتاهم فأخبرهم . فأتوا إليها فقالوا : يا أم إسماعيل ، أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك ؟ فبلغ ابنها ونكح فيهم امرأة .

قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مطلع تركتي . قال : فجاء فسلم ، فقال : أين إسماعيل ؟ قالت امرأته : ذهب يصيد . قال : قولي له إذا جاء : غير عتبة بيتك . فلما جاء أخبرته ، قال : أنت ذاك ، فاذهبي إلى أهلك .

قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي . قال : فجاء فقال : أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد . فقالت : ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟ فقال : ما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم .

قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " بركة بدعوة إبراهيم "

قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مطلع تركتي . فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له فقال : يا إسماعيل ، إن ربك ، عز وجل ، أمرني أن أبني له بيتا . فقال : أطع ربك ، عز وجل . قال : إنه قد أمرني أن تعينني عليه ؟ فقال : إذن أفعل أو كما قال . قال : فقاما [ قال ] فجعل إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) قال : حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة . فقام على حجر المقام ، فجعل يناوله الحجارة ويقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )

هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء .

والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك ، عن أبي العباس الأصم ، عن محمد بن سنان القزاز ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، عن إبراهيم بن نافع ، به . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . كذا قال . وقد رواه البخاري كما ترى ، من حديث إبراهيم بن نافع ، كأن فيه اقتصارا ، فإنه لم يذكر فيه [ شأن ] الذبح . وقد جاء في الصحيح ، أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة ، وقد جاء أن إبراهيم ، عليه السلام ، كان يزور أهله بمكة على البراق سريعا ثم يعود إلى أهله بالبلاد المقدسة ، والله أعلم . والحديث والله أعلم إنما فيه - مرفوع - أماكن صرح بها ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا ، كما قال ابن جرير :

حدثنا محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى قالا : حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب ، عن علي بن أبي طالب ، قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت ، خرج معه إسماعيل وهاجر . قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة ، فيه مثل الرأس . فكلمه ، قال : يا إبراهيم ، ابن على ظلي أو قال على قدري ولا تزد ولا تنقص : فلما بنى خرج ، وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر : يا إبراهيم ، إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : انطلق ، فإنه لا يضيعنا . قال : فعطش إسماعيل عطشا شديدا ، قال : فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، حتى فعلت ذلك سبع مرات ، فقالت : يا إسماعيل ، مت حيث لا أراك . فأتته وهو يفحص برجله من العطش . فناداها جبريل فقال لها : من أنت ؟ قالت : أنا هاجر أم ولد إبراهيم . قال : فإلى من وكلكما ؟ قالت : وكلنا إلى الله . قال : وكلكما إلى كاف . قال : ففحص الغلام الأرض بأصبعه ، فنبعت زمزم . فجعلت تحبس الماء فقال : دعيه فإنها رواء .

ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما ، وقد يحتمل إن كان محفوظا أن يكون أولا وضع له حوطا وتحجيرا ، لا أنه بناه إلى أعلاه ، حتى كبر إسماعيل فبنياه معا ، كما قال الله تعالى .

ثم قال ابن جرير : أخبرنا هناد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، أن رجلا قام إلى علي ، رضي الله عنه ، فقال : ألا تخبرني عن البيت ، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال : لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة ، مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني : إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض ، قال : فضاق إبراهيم بذلك ذرعا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ، ولها رأسان فأتبع أحدهما صاحبه ، حتى انتهت إلى مكة ، فتطوت على موضع البيت كطي الحجفة ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة . فبنى إبراهيم وبقي حجر ، فذهب الغلام يبغي شيئا . فقال إبراهيم : أبغني حجرا كما آمرك . قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرا ، فأتاه به ، فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه . فقال : يا أبه ، من أتاك بهذا الحجر ؟ فقال : أتاني به من لن يتكل على بنائك ، جاء به جبريل ، عليه السلام ، من السماء . فأتماه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن بشر بن عاصم ، عن سعيد بن المسيب ، عن كعب الأحبار ، قال : كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاما ، ومنه دحيت الأرض .

قال سعيد : وحدثنا علي بن أبي طالب : أن إبراهيم أقبل من أرمينية ، ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتا ، قال : فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا . قلت : يا أبا محمد ، فإن الله يقول : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) قال : كان ذلك بعد .

وقال السدي : إن الله ، عز وجل ، أمر إبراهيم أن يبني [ البيت ] هو وإسماعيل : ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ، فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل ، وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت ؟ فبعث الله ريحا ، يقال لها : ريح الخجوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس . فذلك حين يقول [ الله ] تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) [ الحج : 26 ] فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن . قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني ، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا . قال : يا أبت ، إني كسلان لغب .

قال : علي بذلك . فانطلق فطلب له حجرا ، فجاءه بحجر فلم يرضه ، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا ، فانطلق يطلب له حجرا ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ، ياقوتة بيضاء مثل الثغامة ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبه ، من جاءك بهذا ؟ قال : جاء به من هو أنشط منك . فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى [ بهن ] إبراهيم ربه ، فقال : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )

وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم . وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها . وقد ذهب إلى ذلك ذاهبون ، كما قال الإمام عبد الرزاق أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) قال : القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك .

وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا هشام بن حسان ، عن سوار ختن عطاء عن عطاء بن أبي رباح ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة ، كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم ، يأنس إليهم ، فهابته الملائكة ، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها . فخفضه الله إلى الأرض ، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته . فوجه إلى مكة ، فكان موضع قدمه قرية ، وخطوه مفازة ، حتى انتهى إلى مكة ، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن . فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم ، عليه السلام ، فبناه . وذلك قول الله تعالى : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) [ الحج : 26 ] .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قال آدم : إني لا أسمع أصوات الملائكة ! قال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض ، فابن لي بيتا ثم احفف به ، كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء . فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من حراء . وطور زيتا ، وطور سيناء ، وجبل لبنان ، والجودي . وكان ربضه من حراء . فكان هذا بناء آدم ، حتى بناه إبراهيم ، عليه السلام ، بعد .

وهذا صحيح إلى عطاء ، ولكن في بعضه نكارة ، والله أعلم .

وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند . وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه ، فنقص إلى ستين ذراعا ; فحزن إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم . فشكا ذلك إلى الله ، عز وجل ، فقال الله : يا آدم ، إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي ، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي ، فانطلق إليه آدم ، فخرج ومد له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة . فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك . فأتى آدم البيت فطاف به ، ومن بعده من الأنبياء .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : وضع الله البيت على أركان الماء ، على أربعة أركان ، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني [ عبد الله ] بن أبي نجيح ، عن مجاهد وغيره من أهل العلم : أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر ، وإسماعيل طفل صغير يرضع ، وحملوا فيما حدثني على البراق ، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم . وخرج معه جبريل ، فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل : امضه . حتى قدم به مكة ، وهي إذ ذاك عضاة سلم وسمر ، وبها أناس يقال لهم : " العماليق " خارج مكة وما حولها . والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم . فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا ، فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) إلى قوله : ( لعلهم يشكرون ) [ إبراهيم : 37 ] .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا هشام بن حسان ، أخبرني حميد ، عن مجاهد ، قال : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة .

وكذا قال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : القواعد في الأرض السابعة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية ، عن عبد المؤمن بن خالد ، عن علباء بن أحمر : أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل . فقال : ما لكما ولأرضي ؟ فقالا : نحن عبدان مأموران ، أمرنا ببناء هذه الكعبة . قال : فهاتا بالبينة على ما تدعيان . فقامت خمسة أكبش ، فقلن : نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران ، أمرا ببناء هذه الكعبة . فقال : قد رضيت وسلمت . ثم مضى .

وذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم ، عليه السلام ، بالبيت ، وهذا يدل على تقدم زمانه ، والله أعلم .

وقال البخاري ، رحمه الله : قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) الآية : القواعد : أساسه واحدها قاعدة . والقواعد من النساء : واحدتها قاعد .

حدثنا إسماعيل ، حدثني مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله : أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " فقلت : يا رسول الله ، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال : " لولا حدثان قومك بالكفر " . فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم ، عليه السلام .

وقد رواه في الحج عن القعنبي ، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف . ومسلم عن يحيى بن يحيى ، ومن حديث ابن وهب . والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم ، كلهم عن مالك به .

ورواه مسلم أيضا من حديث نافع ، قال : سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدث عبد الله بن عمر ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال : بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها الحجر " .

وقال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، قال : قال لي ابن الزبير : كانت عائشة تسر إليك حديثا كثيرا ، فما حدثتك في الكعبة ؟ قال قلت : قالت لي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة ، لولا قومك حديث عهدهم فقال ابن الزبير : بكفر لنقضت الكعبة ، فجعلت لها بابين : بابا يدخل منه الناس ، وبابا يخرجون " . ففعله ابن الزبير .

انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ، ولجعلت لها خلفا " .

قال : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب ، قالا : حدثنا ابن نمير ، عن هشام بهذا الإسناد . انفرد به مسلم ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثني ابن مهدي ، حدثنا سليم بن حيان ، عن سعيد يعني ابن ميناء قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول : حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عائشة ، لولا قومك حديث عهد بشرك ، لهدمت الكعبة ، فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين : بابا شرقيا ، وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ; فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة " انفرد به أيضا .

ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، بمدد طويلة وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين وقد نقل معهم في الحجارة ، وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين

قال محمد بن إسحاق بن يسار ، في السيرة :

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ، ويهابون هدمها ، وإنما كانت رضما فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة ، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة ، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك ، مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة ، فقطعت قريش يده . ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك . وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة ، لرجل من تجار الروم ، فتحطمت ، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها . وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فهيأ لهم ، في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم ، فتتشرق على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون . وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينا هي يوما تتشرق على جدار الكعبة ، كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها ، فذهب بها . فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية .

فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها ، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فتناول من الكعبة حجرا ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه . فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس .

قال ابن إسحاق : والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .

قال : ثم إن قريشا تجزأت الكعبة ، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ، ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ، ولبني عدي بن كعب بن لؤي ، وهو الحطيم .

ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها : فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم ترع ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة ، وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ، ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا . فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم [ بهم ] إلى الأساس ، أساس إبراهيم ، عليه السلام ، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا .

قال [ محمد بن إسحاق ] فحدثني بعض من يروي الحديث : أن رجلا من قريش ، ممن كان يهدمها ، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس .

قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوروا وتخالفوا ، وأعدوا للقتال . فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا : لعقة الدم . فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا . ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا .

فزعم بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلهم قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم ، فيه . ففعلوا ، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم : " هلم إلي ثوبا " فأتي به ، فأخذ الركن يعني الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ، ثم قال : " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب " ثم [ قال ] : " ارفعوه جميعا " . ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ، ثم بنى عليه .

وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين . فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا ، قال الزبير بن عبد المطلب ، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :

عجبت لما تصوبت العقاب إلى الثعبان وهي لها اضطراب وقد كانت يكون لها كشيش

وأحيانا يكون لها وثاب إذا قمنا إلى التأسيس شدت

تهيبنا البناء وقد تهاب فلما أن خشينا الزجر جاءت

عقاب تتلئب لها انصباب فضمتها إليها ثم خلت

لنا البنيان ليس له حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء

لنا منه القواعد والتراب غداة نرفع التأسيس منه

وليس على مسوينا ثياب أعز به المليك بني لؤي

فليس لأصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو

عدي ومرة قد تقدمها كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا

وعند الله يلتمس الثواب

قال ابن إسحاق : وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعا ، وكانت تكسى القباطي ، ثم كسيت بعد البرود ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .

قلت : ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين . وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية ، لما حاصروا ابن الزبير ، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم ، عليه السلام ، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض ، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج ، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك ، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :

حدثنا هناد بن السري ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ، وكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرئهم أو يحزبهم على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ، أشيروا علي في الكعبة ، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها ؟ قال ابن عباس : فإني قد فرق لي رأي فيها ، أرى أن تصلح ما وهى منها ، وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها ، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم . فقال ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ، فكيف بيت ربكم ، عز وجل ; إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري . فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها . فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء ، حتى صعده رجل ، فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا ، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض . فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور ، حتى ارتفع بناؤه . وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة ، رضي الله عنها ، تقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه ، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ، ولجعلت له بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه . قال : فأنا أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس . قال : فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر ، حتى أبدى له أسا نظر الناس إليه فبنى عليه البناء . وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا ، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع ، وجعل له بابين : أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه . فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاده في طوله فأقره . وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه . فنقضه وأعاده إلى بنائه .

وقد رواه النسائي في سننه ، عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن الزبير ، عن عائشة بالمرفوع منه . ولم يذكر القصة ، وقد كانت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه ; لأنه هو الذي وده رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر . ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك ; ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وددنا أنا تركناه وما تولى . كما قال مسلم :

حدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج ، سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء ، يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، قال عبد الله بن عبيد : وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته ، فقال عبد الملك : ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها . قال الحارث : بلى ، أنا سمعته منها . قال : سمعتها تقول ماذا ؟ قال : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه " . فأراها قريبا من سبعة أذرع .

هذا حديث عبد الله بن عبيد [ بن عمير ] . وزاد عليه الوليد بن عطاء : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيا وغربيا ، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها ؟ " قالت : قلت : لا . قال : " تعززا ألا يدخلها إلا من أرادوا . فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها ، يدعونه حتى يرتقي ، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط " قال عبد الملك : فقلت للحارث : أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال : نعم . قال : فنكت ساعة بعصاه ، ثم قال : وددت أني تركت وما تحمل .

قال مسلم : وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة ، حدثنا أبو عاصم ( ح ) وحدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، كلاهما عن ابن جريج بهذا الإسناد ، مثل حديث ابن بكر .

قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة ، عن أبي قزعة أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين ، يقول : سمعتها تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة ، لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها من الحجر ، فإن قومك قصروا في البناء " . فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين ، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا . قال : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير .

فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين ، لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد ، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وعروة بن الزبير . فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير . فلو ترك لكان جيدا .

ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال ، فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله ، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير . فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها . فترك ذلك الرشيد .

نقله عياض والنواوي ، ولا تزال والله أعلم هكذا إلى آخر الزمان ، إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " . أخرجاه .

وعن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " كأني به أسود أفحج ، يقلعها حجرا حجرا " . رواه البخاري .

وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ، ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها . ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله " .

الفدع : زيغ بين القدم وعظم الساق .

وهذا والله أعلم إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج ، لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج " .

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت } وَاذْكُرُوا إذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت . وَالْقَوَاعِد جَمْع قَاعِدَة , يُقَال لِلْوَاحِدَةِ مِنْ قَوَاعِد الْبَيْت قَاعِدَة , وَلِلْوَاحِدَةِ مِنْ قَوَاعِد النِّسَاء وَعَجَائِزهنَّ قَاعِد , فَتُلْغَى هَاء التَّأْنِيث ; لِأَنَّهَا فَاعِل مِنْ قَوْل الْقَائِل : قَعَدْت عَنْ الْحَيْض , وَلَا حَظّ فِيهِ لِلذُّكُورَةِ , كَمَا يُقَال : امْرَأَة طَاهِر وَطَامِث ; لِأَنَّهُ لَا حَظّ فِي ذَلِكَ لِلذُّكُورِ . وَلَوْ عَنَى بِهِ الْقُعُود الَّذِي هُوَ خِلَاف الْقِيَام لَقِيلَ قَاعِدَة , وَلَمْ يَجُزْ حِينَئِذٍ إسْقَاط هَاء التَّأْنِيث . وَقَوَاعِد الْبَيْت : أَسَاسه . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْقَوَاعِد الَّتِي رَفَعَهَا إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل مِنْ الْبَيْت , أَهُمَا أَحْدَثَا ذَلِكَ , أَمْ هِيَ قَوَاعِد كَانَتْ لَهُ قَبْلهمَا ؟ فَقَالَ قَوْم : هِيَ قَوَاعِد بَيْت كَانَ بَنَاهُ آدَم أَبُو الْبَشَر بِأَمْرِ اللَّه إيَّاهُ بِذَلِكَ , ثُمَّ دُرِسَ مَكَانه وَتَعَفَّى أَثَره بَعْده حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّه إبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام , فَبَنَاهُ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1677 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء , قَالَ : قَالَ آدَم : يَا رَبّ إنِّي لَا أَسْمَع أَصْوَات الْمَلَائِكَة ! قَالَ : بِخَطِيئَتِك , وَلَكِنْ اهْبِطْ إلَى الْأَرْض وَابْن لِي بَيْتًا , ثُمَّ اُحْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْت الْمَلَائِكَة تَحُفّ بِبَيْتِي الَّذِي فِي السَّمَاء . فَيَزْعُم النَّاس أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَة أَجْبُل : مِنْ حِرَاء , وَطُور زَيْتَا , وَطُور سِينَا , وَجَبَل لُبْنَان , وَالْجُودِيّ , وَكَانَ رُبَضه مِنْ حِرَاء ; فَكَانَ هَذَا بِنَاء آدَم حَتَّى بَنَاهُ إبْرَاهِيم بَعْد . 1678 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ أَيُّوب , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت } قَالَ : الْقَوَاعِد الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِد الْبَيْت قَبْل ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هِيَ قَوَاعِد بَيْت كَانَ اللَّه أَهْبَطَهُ لِآدَم مِنْ السَّمَاء إلَى الْأَرْض , يَطُوف بِهِ كَمَا كَانَ يَطُوف بِعَرْشِهِ فِي السَّمَاء , ثُمَّ رَفَعَهُ إلَى السَّمَاء أَيَّام الطُّوفَان , فَرَفَعَ إبْرَاهِيم قَوَاعِد ذَلِكَ الْبَيْت . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1679 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا عَبْد الْوَهَّاب , قَالَ : ثنا أَيُّوب , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ الْجَنَّة قَالَ : إنِّي مُهْبِط مَعَك - أَوْ مُنْزِل - مَعَك بَيْتًا يُطَاف حَوْله , كَمَا يُطَاف حَوْل عَرْشِي , وَيُصَلَّى عِنْده , كَمَا يُصَلَّى عِنْد عَرْشِي . فَلَمَّا كَانَ زَمَن الطُّوفَان رُفِعَ , فَكَانَتْ الْأَنْبِيَاء يَحُجُّونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانه , حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ وَأَعْلَمهُ مَكَانه , فَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَة أَجْبُل : مِنْ حِرَاء , وَثَبِير , وَلُبْنَان , وَجَبَل الطُّور , وَجَبَل الْخَمْر . * حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا إسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة , قَالَ : ثنا أَيُّوب , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , قَالَ : لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ , ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوه . 1680 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا هِشَام بْن حَسَّان , عَنْ سَوَّار , عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , قَالَ : لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ الْجَنَّة كَانَ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْض وَرَأْسه فِي السَّمَاء , يَسْمَع كَلَام أَهْل السَّمَاء وَدُعَاءَهُمْ , يَأْنَس إلَيْهِمْ , فَهَابَتْهُ الْمَلَائِكَة حَتَّى شَكَتْ إلَى اللَّه فِي دُعَائِهَا وَفِي صَلَاتهَا , فَخَفَضَهُ إلَى الْأَرْض ; فَلَمَّا فَقَدَ مَا كَانَ يَسْمَع مِنْهُمْ , اسْتَوْحَشَ حَتَّى شَكَا ذَلِكَ إلَى اللَّه فِي دُعَائِهِ وَفِي صَلَاته , فَوُجِّهَ إلَى مَكَّة , فَكَانَ مَوْضِع قَدَمه قَرْيَة وَخَطْوه مَفَازَة , حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَّة . وَأَنْزَلَ اللَّه يَاقُوتَة مِنْ يَاقُوت الْجَنَّة , فَكَانَتْ عَلَى مَوْضِع الْبَيْت الْآن , فَلَمْ يَزَلْ يَطُوف بِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه الطُّوفَان , فَرُفِعَتْ تِلْكَ الْيَاقُوتَة , حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ فَبَنَاهُ , فَذَلِكَ قَوْل اللَّه : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت } . 22 26 1681 - حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة , قَالَ : وَضَعَ اللَّه الْبَيْت مَعَ آدَم حِين أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ إلَى الْأَرْض , وَكَانَ مَهْبِطه بِأَرْضِ الْهِنْد , وَكَانَ رَأْسه فِي السَّمَاء وَرِجْلَاهُ فِي الْأَرْض , فَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تَهَابهُ , فَنَقَصَ إلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا . فَحَزِنَ آدَم إذْ فَقَدَ أَصْوَات الْمَلَائِكَة وَتَسْبِيحهمْ فَشَكَا ذَلِكَ إلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ اللَّه : يَا آدَم إنِّي قَدْ أَهَبْت إلَيْك بَيْتًا تَطُوف بِهِ كَمَا يُطَاف حَوْل عَرْشِي , وَتُصَلِّي عِنْده كَمَا يُصَلَّى عِنْد عَرْشِي . فَانْطَلَقَ إلَيْهِ آدَم فَخَرَجَ , وَمُدّ لَهُ فِي خَطْوه , فَكَانَ بَيْن كُلّ خُطْوَتَيْنِ مَفَازَة , فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْمَفَاوِز بَعْد ذَلِكَ , فَأَتَى آدَم الْبَيْت وَطَافَ بِهِ وَمَنْ بَعْده مِنْ الْأَنْبِيَاء . 1682 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ أَبَانَ : أَنَّ الْبَيْت أُهْبِطَ يَاقُوتَة وَاحِدَة أَوْ دِرَّة وَاحِدَة , حَتَّى إذَا أَغْرَقَ اللَّه قَوْم نُوح رَفَعَهُ وَبَقِيَ أَسَاسه , فَبَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيم , فَبَنَاهُ بَعْد ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ كَانَ مَوْضِع الْبَيْت رَبْوَة حَمْرَاء كَهَيْئَةِ الْقُبَّة . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه لَمَّا أَرَادَ خَلْق الْأَرْض عَلَا الْمَاء زُبْدَة حَمْرَاء أَوْ بَيْضَاء , وَذَلِكَ فِي مَوْضِع الْبَيْت الْحَرَام . ثُمَّ دَحَا الْأَرْض مِنْ تَحْتهَا , فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّه إبْرَاهِيم , فَبَنَاهُ عَلَى أَسَاسه . وَقَالُوا : عَلَى أَرْكَان أَرْبَعَة فِي الْأَرْض السَّابِعَة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1683 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ جَرِير بْن حَازِم , حَدَّثَنِي حُمَيْد بْن قَيْس , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : كَانَ مَوْضِع الْبَيْت عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض , مِثْل الزُّبْدَة الْبَيْضَاء , وَمِنْ تَحْته دُحِيَتْ الْأَرْض . 1684 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ , أَخْبَرَنَا ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ عَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار : بَعَثَ اللَّه رِيَاحًا فَصَفَّقَتْ الْمَاء , فَأُبْرِزَتْ فِي مَوْضِع الْبَيْت عَنْ حَشَفَة كَأَنَّهَا الْقُبَّة , فَهَذَا الْبَيْت مِنْهَا فَلِذَلِك هِيَ أُمّ الْقُرَى . قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : قَالَ عَطَاء : ثُمَّ وَتَدهَا بِالْجِبَالِ كَيْ لَا تُكْفَأ بِمَيْدِ , فَكَانَ أَوَّل جَبَل " أَبُو قُبَيْس " . 1685 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَعْقُوب الْقَمِّيّ , عَنْ حَفْص بْن حُمَيْد , عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : وُضِعَ الْبَيْت عَلَى أَرْكَان الْمَاء عَلَى أَرْبَعَة أَرْكَان قَبْل أَنْ تُخْلَق الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَام , ثُمَّ دُحِيَتْ الْأَرْض مِنْ تَحْت الْبَيْت . 1686 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَعْقُوب , عَنْ هَارُونَ بْن عَنْتَرَة , عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , قَالَ : وَجَدُوا بِمَكَّة حَجَرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ : " إنِّي أَنَا اللَّه ذُو بَكَّة بَنَيْته يَوْم صَنَعْت الشَّمْس وَالْقَمَر , وَحَفَفْته بِسَبْعَةِ أَمْلَاك حَفًّا " . 1687 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي يَحْيَى , عَنْ مُجَاهِد وَغَيْره مِنْ أَهْل الْعِلْم : أَنَّ اللَّه لَمَّا بَوَّأَ إبْرَاهِيمَ مَكَان الْبَيْت , خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الشَّام , وَخَرَجَ مَعَهُ بِإِسْمَاعِيل وَأُمّه هَاجَر , وَإِسْمَاعِيل طِفْل صَغِير يَرْضِع , وَحَمَلُوا - فِيمَا حَدَّثَنِي - عَلَى الْبُرَاق وَمَعَهُ جِبْرِيل يَدُلّهُ عَلَى مَوْضِع الْبَيْت وَمَعَالِم الْحَرَم . فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ جِبْرِيل , فَقَالَ : كَانَ لَا يَمُرّ بِقَرْيَةِ إلَّا قَالَ : أَبِهَذِهِ أَمَرْت يَا جِبْرِيل ؟ فَيَقُول جِبْرِيل : امْضِهِ ! حَتَّى قَدِمَ بِهِ مَكَّة , وَهِيَ إذْ ذَاكَ عِضَاه سِلْم وَسَمَر يَرُبّهَا أُنَاس يُقَال لَهُمْ الْعَمَالِيق خَارِج مَكَّة وَمَا حَوْلهَا , وَالْبَيْت يَوْمئِذٍ رَبْوَة حَمْرَاء مَدَرَة , فَقَالَ إبْرَاهِيم لِجِبْرِيل : أَهَهُنَا أُمِرْت أَنْ أَضَعهُمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ! فَعَمَدَ بِهِمَا إلَى مَوْضِع الْحَجَر فَأَنْزَلَهُمَا فِيهِ , وَأَمَرَ هَاجَرَ أُمّ إسْمَاعِيل أَنْ تَتَّخِذ فِيهِ عَرِيشًا , فَقَالَ : { رَبّنَا إنِّي أَسْكَنْت مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْر ذِي زَرْع عِنْد بَيْتك الْمُحَرَّم } 14 37 إلَى قَوْله : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . 14 37 قَالَ ابْن حُمَيْد : قَالَ سَلَمَة : قَالَ ابْن إسْحَاق : وَيَزْعُمُونَ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنَّ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَة أَتَى هَاجَرَ أُمّ إسْمَاعِيل , حِين أَنْزَلَهُمَا إبْرَاهِيم مَكَّة قَبْل أَنْ يَرْفَع إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت , فَأَشَارَ لَهُمَا إلَى الْبَيْت , وَهُوَ رَبْوَة حَمْرَاء مَدَرَة , فَقَالَ لَهُمَا : هَذَا أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْأَرْض , وَهُوَ بَيْت اللَّه الْعَتِيق , وَاعْلَمِي أَنَّ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل هُمَا يَرْفَعَانِهِ . فَاَللَّه أَعْلَم . 1688 - حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا هِشَام بْن حَسَّان , قَالَ : أَخْبَرَنِي حُمَيْد , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : خَلَقَ اللَّه مَوْضِع هَذَا الْبَيْت قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا مِنْ الْأَرْض بِأَلْفَيْ سَنَة , وَأَرْكَانه فِي الْأَرْض السَّابِعَة . 1689 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن عُيَيْنَةَ , قَالَ : أَخْبَرَنِي بِشْر بْن عَاصِم , عَنْ ابْن الْمُسَيِّب , قَالَ : حَدَّثَنَا كَعْب أَنَّ الْبَيْت كَانَ غُثَاءَة عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه الْأَرْض بِأَرْبَعِينَ سَنَة , وَمِنْهُ دُحِيَتْ الْأَرْض . قَالَ : وَحَدَّثَنَا عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَنَّ إبْرَاهِيم أَقْبَلَ مِنْ أَرْمِينِيَّة مَعَهُ السَّكِينَة , تَدُلّهُ عَلَى تَبَوُّء الْبَيْت كَمَا تَتَبَوَّأ الْعَنْكَبُوت بَيْتهَا . قَالَ : فَرَفَعَتْ عَنْ أَحْجَار تُطِيقهُ - أَوْ لَا تُطِيقهُ - ثَلَاثُونَ رَجُلًا . قَالَ : قُلْت يَا أَبَا مُحَمَّد , فَإِنَّ اللَّه يَقُول : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت } قَالَ : كَانَ ذَاكَ بَعْد . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدنَا أَنْ يُقَال : إنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَخْبَرَ عَنْ إبْرَاهِيم خَلِيله أَنَّهُ وَابْنه إسْمَاعِيل رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت الْحَرَام . وَجَائِز أَنْ يَكُون ذَلِكَ قَوَاعِد بَيْت كَانَ أَهْبَطَهُ مَعَ آدَم , فَجَعَلَهُ مَكَان الْبَيْت الْحَرَام الَّذِي بِمَكَّة . وَجَائِز أَنْ يَكُون ذَلِكَ كَانَ الْقُبَّة الَّتِي ذَكَرهَا عَطَاء مِمَّا أَنْشَأَهُ اللَّه مِنْ زَبَد الْمَاء . وَجَائِز أَنْ يَكُون كَانَ يَاقُوتَة أَوْ دُرَّة أُهْبِطَا مِنْ السَّمَاء . وَجَائِز أَنْ يَكُون كَانَ آدَم بَنَاهُ ثُمَّ انْهَدَمَ حَتَّى رَفَعَ قَوَاعِده إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل . وَلَا عِلْم عِنْدنَا بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيّ ; لِأَنَّ حَقِيقَة ذَلِكَ لَا تُدْرَك إلَّا بِخَبَرِ عَنْ اللَّه وَعَنْ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيض , وَلَا خَبَر بِذَلِكَ تَقُوم بِهِ الْحُجَّة فَيَجِب التَّسْلِيم لَهَا , وَلَا هُوَ إذْ لَمْ يَكُنْ بِهِ خَبَر عَلَى مَا وَصَفْنَا مِمَّا يَدُلّ عَلَيْهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْمَقَايِيس فَيُمَثَّل بِغَيْرِهِ , وَيُسْتَنْبَط عِلْمه مِنْ جِهَة الِاجْتِهَاد , فَلَا قَوْل فِي ذَلِكَ هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مَا قُلْنَا . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل } يَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1690 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : يَبْنِيَانِ وَهُمَا يَدْعُوَانِ الْكَلِمَات الَّتِي ابْتَلَى بِهَا إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ , قَالَ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك وَمِنْ ذُرِّيَّتنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَك } { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } . 1691 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْن كَثِير , قَالَ : ثنا سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيلُ } قَالَ : هُمَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت , وَيَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } قَالَ : وَإِسْمَاعِيل يَحْمِل الْحِجَارَة عَلَى رَقَبَته وَالشَّيْخ يَبْنِي . فَتَأْوِيل الْآيَة عَلَى هَذَا الْقَوْل : وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل قَائِلَيْنِ : رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ قَائِل ذَلِكَ كَانَ إسْمَاعِيل . فَتَأْوِيل الْآيَة عَلَى هَذَا الْقَوْل : وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت , وَإِذْ يَقُول إسْمَاعِيل : رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا . فَيَصِير حِينَئِذٍ إسْمَاعِيل مَرْفُوعًا بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْده , و " يَقُول " حِينَئِذٍ خَبَر لَهُ دُون إبْرَاهِيم . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الَّذِي رَفَعَ الْقَوَاعِد بَعْد إجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيم كَانَ مِمَّنْ رَفَعَهَا , فَقَالَ بَعْضهمْ : رَفَعَهَا إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل جَمِيعًا . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1692 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ } قَالَ : فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيم حَتَّى أَتَى مَكَّة , فَقَامَ هُوَ وَإِسْمَاعِيل وَأَخَذَا الْمَعَاوِل لَا يَدْرِيَانِ أَيْنَ الْبَيْت , فَبَعَثَ اللَّه رِيحًا يُقَال لَهَا رِيح الْخُجُوج , لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأْس فِي صُورَة حَيَّة . فَكَنَسَتْ لَهُمَا مَا حَوْل الْكَعْبَة , وَعَنْ أَسَاس الْبَيْت الْأَوَّل , وَاتَّبَعَاهَا بِالْمَعَاوِلِ يَحْفِرَانِ حَتَّى وَضَعَا الْأَسَاس ; فَذَلِكَ حِين يَقُول : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت } . 22 36 فَلَمَّا بَنَيَا الْقَوَاعِد فَبَلَغَا مَكَان الرُّكْن قَالَ إبْرَاهِيم لِإِسْمَاعِيل : يَا بُنَيّ اُطْلُبْ لِي حَجَرًا حَسَنًا أَضَعهُ هَهُنَا ! قَالَ : يَا أَبَت إنِّي كَسْلَان تَعِب ! قَالَ : عَلَيَّ بِذَلِكَ ! فَانْطَلَقَ فَطَلَب لَهُ حَجَرًا فَجَاءَهُ بِحَجَرِ , فَلَمْ يَرْضَهُ , فَقَالَ : ائْتِنِي بِحَجَرِ أَحْسَن مِنْ هَذَا ! فَانْطَلَقَ فَطَلَب لَهُ حَجَرًا ; وَجَاءَهُ جِبْرِيل بِالْحَجَرِ الْأَسْوَد مِنْ الْهِنْد , وَكَانَ أَبْيَض يَاقُوتَة بَيْضَاء مِثْل الثِّغَامَة , وَكَانَ آدَم هَبَطَ بِهِ مِنْ الْجَنَّة فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا النَّاس , فَجَاءَهُ إسْمَاعِيل بِحَجَرِ فَوَجَدَهُ عِنْد الرُّكْن , فَقَالَ : يَا أَبَت مَنْ جَاءَ بِهَذَا ؟ فَقَالَ : مَنْ هُوَ أَنْشَط مِنْك . فَبَنَيَاهُ . 1693 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ عَمْرو بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَةَ , عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر اللَّيْثِيّ , قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل هُمَا رَفَعَا قَوَاعِد الْبَيْت . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ رَفَعَ قَوَاعِد الْبَيْت إبْرَاهِيمُ , وَكَانَ إسْمَاعِيلُ يُنَاوِلهُ الْحِجَارَة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1694 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن ثَابِت الرَّازِيّ , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ أَيُّوب , وَكَثِير بْن كَثِير بْن الْمُطَّلِب بْن أَبِي وَدَاعَة , يَزِيد أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : جَاءَ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل يَبْرِي نَبْلًا قَرِيبًا مِنْ زَمْزَم . فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ , فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَع الْوَالِد بِالْوَلَدِ , وَالْوَلَد بِالْوَالِدِ , ثُمَّ قَالَ : يَا إسْمَاعِيل إنَّ اللَّه أَمَرَنِي بِأَمْرِ , قَالَ : فَاصْنَعْ مَا أَمَرَك رَبّك ! قَالَ : وَتُعِيننِي ؟ قَالَ : وَأُعِينك . قَالَ : فَإِنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِي هَهُنَا بَيْتًا ! وَأَشَارَ إلَى الْكَعْبَة , وَالْكَعْبَة مُرْتَفِعَة عَلَى مَا حَوْلهَا . قَالَ : فَعِنْد ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت . قَالَ : فَجَعَلَ إسْمَاعِيل يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ , وَإِبْرَاهِيم يَبْنِي , حَتَّى إذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاء جَاءَ بِهَذَا الْحَجَر فَوَضَعَهُ لَهُ , فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي , وَإِسْمَاعِيل يُنَاوِلهُ الْحِجَارَة وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } حَتَّى دَوَّرَ حَوْل الْبَيْت . 1695 - حَدَّثَنَا ابْن بَشَّار الْقَزَّاز , قَالَ : ثنا عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الْمَجِيد أَبُو عَلِيّ الْحَنَفِيّ , قَالَ : ثنا إبْرَاهِيم بْن نَافِع قَالَ : سَمِعْت كَثِير بْن كَثِير يُحَدِّث عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : جَاءَ - يَعْنِي إبْرَاهِيم - فَوَجَدَ إسْمَاعِيل يُصْلِح نَبْلًا مِنْ وَرَاء زَمْزَم , قَالَ إبْرَاهِيم : يَا إسْمَاعِيل إنَّ اللَّه رَبّك قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِي لَهُ بَيْتًا ! فَقَالَ لَهُ إسْمَاعِيل : فَأَطِعْ رَبّك فِيمَا أَمَرَك ! فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيم : قَدْ أَمَرَك أَنْ تُعِيننِي عَلَيْهِ . قَالَ : إذًا أَفْعَل . قَالَ : فَقَامَ مَعَهُ , فَجَعَلَ إبْرَاهِيم يَبْنِيه وَإِسْمَاعِيل يُنَاوِلهُ الْحِجَارَة , وَيَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَان وَضَعَفَ الشَّيْخ عَنْ رَفْع الْحِجَارَة , قَامَ عَلَى حَجَر فَهُوَ مَقَام إبْرَاهِيم ; فَجَعَلَ يُنَاوِلهُ وَيَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ الَّذِي رَفَعَ قَوَاعِد الْبَيْت إبْرَاهِيم وَحْده وَإِسْمَاعِيل يَوْمَئِذٍ طِفْل صَغِير . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1696 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار وَمُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَا : ثنا مُؤَمَّل , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ أَبِي إسْحَاق , عَنْ حَارِثَة بْن مُصَرِّف , عَنْ عَلِيّ , قَالَ : لَمَّا أُمِرَ إبْرَاهِيم بِبِنَاءِ الْبَيْت , خَرَجَ مَعَهُ إسْمَاعِيل وَهَاجَر . قَالَ : فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّة رَأَى عَلَى رَأْسه فِي مَوْضِع الْبَيْت مِثْل الْغَمَامَة فِيهِ مِثْل الرَّأْس , فَكَلَّمَهُ فَقَالَ : يَا إبْرَاهِيم ابْن عَلَى ظِلِّيّ - أَوْ عَلَى قَدْرِي - وَلَا تُزِدْ وَلَا تُنْقِص ! فَلَمَّا بَنَى [ خَرَجَ ] وَخَلَفَ إسْمَاعِيل وَهَاجَر , فَقَالَتْ هَاجَر : يَا إبْرَاهِيم إلَى مَنْ تَكِلنَا ؟ قَالَ : إلَى اللَّه . قَالَتْ : انْطَلِقْ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعنَا . قَالَ : فَعَطِشَ إسْمَاعِيل عَطَشًا شَدِيدًا . قَالَ : فَصَعِدَتْ هَاجَر الصَّفَا فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا , ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَة فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا , ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى الصَّفَا فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا , حَتَّى فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْع مَرَّات فَقَالَتْ : يَا إسْمَاعِيل مُتْ حَيْثُ لَا أَرَاك ! فَأَتَتْهُ وَهُوَ يَفْحَص بِرِجْلِهِ مِنْ الْعَطَش . فَنَادَاهَا جِبْرِيل , فَقَالَ لَهَا : مَنْ أَنْت ؟ فَقَالَتْ : أَنَا هَاجَر أُمّ وَلَد إبْرَاهِيم . قَالَ : إلَى مَنْ وَكَلَكُمَا ؟ قَالَتْ : وَكَلَنَا إلَى اللَّه . قَالَ : وَكَلَكُمَا إلَى كَافٍ . قَالَ : فَفَحَصَ الْأَرْض بِأُصْبُعِهِ فَنَبَعَتْ زَمْزَم , فَجَعَلَتْ تَحْبِس الْمَاء . فَقَالَ : دَعِيهِ فَإِنَّهَا رُوَاء . 1697 - حَدَّثَنَا عُبَادَة , قَالَ : ثنا أَبُو الْأَحْوَص , عَنْ سِمَاك , عَنْ خَالِد بْن عُرْعُرَة : أَنَّ رَجُلًا قَامَ إلَى عَلِيّ فَقَالَ : أَلَا تُخْبِرنِي عَنْ الْبَيْت ؟ أَهُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْأَرْض ؟ فَقَالَ : لَا , وَلَكِنْ هُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْبَرَكَة مَقَام إبْرَاهِيم , وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا , وَإِنْ شِئْت أَنْبَأْتُك كَيْف بُنِيَ ; إنَّ اللَّه أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيم أَنْ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْض , قَالَ : فَضَاقَ إبْرَاهِيم بِذَلِكَ ذَرْعًا , فَأَرْسَلَ اللَّه السَّكِينَة وَهَى رِيح خُجُوج , وَلَهَا رَأْسَانِ , فَأَتْبَع أَحَدهمَا صَاحِبه حَتَّى انْتَهَتْ إلَى مَكَّة , فَتَطَوَّتْ عَلَى مَوْضِع الْبَيْت كَتَطَوِّي الْحَجَفَة , وَأَمَرَ إبْرَاهِيم أَنْ يَبْنِي حَيْثُ تَسْتَقِرّ السَّكِينَة . فَبَنَى إبْرَاهِيم وَبَقِيَ حَجَر , فَذَهَبَ الْغُلَام يَبْغِي شَيْئًا , فَقَالَ إبْرَاهِيم : لَا , ابْغِ حَجَرًا كَمَا آمُرك ! قَالَ : فَانْطَلَقَ الْغُلَام يَلْتَمِس لَهُ حَجَرًا , فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ رَكَّبَ الْحَجَر الْأَسْوَد فِي مَكَانه فَقَالَ : يَا أَبَت مَنْ أَتَاك بِهَذَا الْحَجَر ؟ قَالَ : أَتَانِي بِهِ مَنْ لَمْ يَتَّكِل عَلَى بَنَاتك جَاءَ بِهِ جِبْرِيل مِنْ السَّمَاء . فَأَتَمَّاهُ . * حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ سِمَاك , سَمِعْت خَالِد بْن عُرْعُرَة يُحَدِّث عَنْ عَلِيّ بِنَحْوِهِ . * حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو دَاوُد , قَالَ : ثنا شُعْبَة وَحَمَّاد بْن سَلَمَة وَأَبُو الْأَحْوَص كُلّهمْ عَنْ سِمَاك , عَنْ خَالِد بْن عُرْعُرَة , عَنْ عَلِيّ بِنَحْوِهِ . فَمَنْ قَالَ : رَفَعَ الْقَوَاعِد إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل , أَوْ قَالَ رَفَعَهَا إبْرَاهِيم وَكَانَ إسْمَاعِيل يُنَاوِلهُ الْحِجَارَة . فَالصَّوَاب فِي قَوْله أَنْ يَكُون الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل لِإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل , وَيَكُون الْكَلَام حِينَئِذٍ : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل } يَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } . وَقَدْ كَانَ يُحْتَمَل عَلَى هَذَا التَّأْوِيل أَنْ يَكُون الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل لِإِسْمَاعِيل خَاصَّة دُون إبْرَاهِيم , وَلِإِبْرَاهِيم خَاصَّة دُون إسْمَاعِيل ; لَوْلَا مَا عَلَيْهِ عَامَّة أَهْل التَّأْوِيل مِنْ أَنَّ الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل لِإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل جَمِيعًا . وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيل الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيّ أَنَّ إبْرَاهِيم هُوَ الَّذِي رَفَعَ الْقَوَاعِد دُون إسْمَاعِيل , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل عِنْد ذَلِكَ إلَّا لِإِسْمَاعِيل خَاصَّة . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل لِإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل , وَأَنَّ قَوَاعِد الْبَيْت رَفَعَهَا إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل جَمِيعًا ; وَذَلِكَ أَنَّ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل إنْ كَانَا هُمَا بَنَيَاهُمَا وَرَفَعَاهَا فَهُوَ مَا قُلْنَا , وَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيم تَفَرَّدَ بِبِنَائِهَا , وَكَانَ إسْمَاعِيل يُنَاوِلهُ , فَهُمَا أَيْضًا رَفَعَاهَا ; لِأَنَّ رَفْعهَا كَانَ بِهِمَا مِنْ أَحَدهمَا الْبِنَاء مِنْ الْآخَر نَقْل الْحِجَارَة إلَيْهَا وَمَعُونَة وَضْع الْأَحْجَار مَوَاضِعهَا . وَلَا تَمْتَنِع الْعَرَب مِنْ نِسْبَة الْبِنَاء إلَى مَنْ كَانَ بِسَبَبِهِ الْبِنَاء وَمَعُونَته . وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ جَمِيع أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ إسْمَاعِيل مَعْنِيّ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِهِ , وَذَلِكَ قَوْلهمَا : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } فَمَعْلُوم أَنَّ إسْمَاعِيل لَمْ يَكُنْ لِيَقُولَ ذَلِكَ إلَّا وَهُوَ إمَّا رَجُل كَامِل , وَإِمَّا غُلَام قَدْ فَهِمَ مَوَاضِع الضُّرّ مِنْ النَّفْع , وَلَزِمَتْهُ فَرَائِض اللَّه وَأَحْكَامه . وَإِذَا كَانَ - فِي حَال بِنَاء أَبِيهِ , مَا أَمَرَهُ اللَّه بِبِنَائِهِ وَرَفْعه قَوَاعِد بَيْت اللَّه - كَذَلِكَ , فَمَعْلُوم أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَارِكًا مَعُونَة أَبِيهِ , إمَّا عَلَى الْبِنَاء , وَإِمَّا عَلَى نَقْل الْحِجَارَة . وَأَيّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى مَنْ رَفَعَ قَوَاعِد الْبَيْت , وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْل الْمُضْمَر خَبَر عَنْهُ وَعَنْ وَالِده إبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام . فَتَأْوِيل الْكَلَام : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل } يَقُولَانِ : رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا عَمَلنَا وَطَاعَتنَا إيَّاكَ وَعِبَادَتنَا لَك فِي انْتِهَائِنَا إلَى أَمْرك الَّذِي أَمَرْتنَا بِهِ فِي بِنَاء بَيْتك الَّذِي أَمَرْتنَا بِبِنَائِهِ إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم . وَفِي إخْبَار اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَنَّهُمَا رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } دَلِيل وَاضِح عَلَى أَنَّ بِنَاءَهُمَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَسْكَنًا يَسْكُنَانِهِ وَلَا مَنْزِلًا يَنْزِلَانِهِ , بَلْ هُوَ دَلِيل عَلَى أَنَّهُمَا بَنَيَاهُ وَرَفَعَا قَوَاعِده لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْبُد اللَّه تَقَرُّبًا مِنْهُمَا إلَى اللَّه بِذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَا : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } . وَلَوْ كَانَا بَنَيَاهُ مَسْكَنًا لِأَنْفُسِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِمَا : { تَقَبَّلْ مِنَّا } وَجْه مَفْهُوم , لِأَنَّهُ كَانَا يَكُونَانِ لَوْ كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ سَائِلِينَ أَنْ يَتَقَبَّل مِنْهُمَا مَا لَا قُرْبَة فِيهِ إلَيْهِ , وَلَيْسَ مَوْضِعهمَا مَسْأَلَة اللَّه قَبُول مَا لَا قُرْبَة إلَيْهِ فِيهِ .

إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } . وَتَأْوِيل قَوْله : { إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } إنَّك أَنْت السَّمِيع دُعَاءَنَا وَمَسْأَلَتنَا إيَّاكَ قَبُول مَا سَأَلْنَاك قَبُوله مِنَّا مِنْ طَاعَتك فِي بِنَاء بَيْتك الَّذِي أَمَرْتنَا بِبِنَائِهِ ; الْعَلِيم بِمَا فِي ضَمَائِر نَفُوسنَا مِنْ الْإِذْعَان لَك فِي الطَّاعَة وَالْمَصِير إلَى مَا فِيهِ لَك الرِّضَا وَالْمَحَبَّة , وَمَا نُبْدِي وَنَخْفِي مِنْ أَعْمَالنَا . كَمَا : 1698 - حَدَّثَنِي الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : أَخْبَرَنِي أَبُو كَثِير , قَالَ : ثنا سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } يَقُول : تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك سَمِيع الدُّعَاء .

التدبر :

عمل
[127] لما أتما بناء أعظم بيوت الله في الأرض دعوا الله أن يتقبل منهما! لا تغرنك أعمالك، ادع أن يُتقبل منك.
وقفة
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ كأن الله أذن لمن يرفع معالم دينه أن يرفع ذكره في العالمين ويعلي قدره ويعز شأنه.
اسقاط
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ إشراك الابن في مشروعك الخيري والدعوي -ولو بشيء يسير- له آثاره الحميدة.
وقفة
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ مشاركة الأبناء في الأعمال الصالحة تربية عمليّة نافعة.
اسقاط
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ المؤمن المتقي لا يغتر بأعماله الصالحة، بل يخاف أن ترد عليه، ولا تقبل منه، ولهذا يُكْثِرُ سؤالَ الله قَبولها.
لمسة
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ جاء بصيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارًا لهذا الأمر؛ ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها، وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه.
وقفة
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ فيه استحباب الاقتداء بهما في القيام بالطاعات الشاقة والتضرع لله بقبولها.
وقفة
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ قال الرازي: «فيه أن بناء المساجد قربة، وفيه استحباب الدعاء بقبول الأعمال».
اسقاط
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ نبيّان مأموران وعملٌ صالح ثم يخشيان ألّا يُقبل العمل! وتأمنُ أنت؟!
تفاعل
[127] عن وهيب بن الورد أنه قرأ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ ثم بكى، وقال: يا خليل الرحمن! ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشفق أن لا يُتقبَّل منك؟
وقفة
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا ... رَبَّنَا ... رَبَّنَا﴾ مدّة انشغالك بطاعته وقتٌ تُظن فيه الإجابة.
وقفة
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا ... رَبَّنَا ... رَبَّنَا﴾ لحظة انغماسك في عمل الخير موطن دعاء.
تفاعل
[127] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ ادعُ الله الآن أن يتقبل منك أعمالك.
عمل
[127] ﴿وَإِسْمَاعِيلُ﴾ حين يشاركك ابنك في عملٍ، سجل حضوره ونوِّه بمشاركته.
لمسة
[127] ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ قاما بأعظم عمل وهو بناء الكعبة, ثم دعوا الله أن يتقبل منهما! فلا يغرنك عملك مهما عظم, وسل الله القبول.
وقفة
[127] ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ أهمية القبول، وأن المَدار في الحقيقة عليه، وليس على العمل، فكم من إنسان عمل أعمالًا كثيرة، وليس له من عمله إلا التعب، فلم تَنْفَعْه، وكم من إنسان عمل أعمالًا قليلة قُبِلَت فَنَفَعَهُ الله بها!
وقفة
[127] إذا تقبل الله عملك جعل له شأنًا عظيمًا، ربنا تقبل منا ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾.
عمل
[127] تخيَّر ألفاظَ دعائك! ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، سُئل الإمام مالك عن الداعي يقول: يا سيِّدي، فقال: يعجبني دعاءَ الأنبياء (ربَّنا ... ربَّنا).
وقفة
[127] ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ دعوات رددها إبراهيم وابنه وهما يبنيان الكعبة، المشاريع الناجحة بحاجة إلى دعاء صادق من القائمين عليها بالقبول.
وقفة
[127] ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ المؤمن مهما عمل من الصالحات فهو مضطر للدعاء بالقبول والاستغفار من النقص الذي يحصل منه.
وقفة
[127] ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ على العبد ملازمة سؤال اللَّه قبول أعماله بعد أدائه لها.
لمسة
[127] ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ جاء الخبر (السميع العليم) معرفة، ووقع بين (إن) والخبر (السميع) ضمير الفصل (أنت) بقصد المبالغة في كمال الوصفين السميع والعليم له سبحانه وتعالى، ولينزَل سمع وعلم غيره منزلة العدم، ألا ترى أنك لو قلت لرجل أنت سامع إذا أردت أنه أحد السامعين، أما إذا عرَّفت فقلت: (أنت السامع) فهذا يعني أنه السامع لا غيره.
عمل
[127] كلما عملت عملًا تتعبد الله فيه فادعُ بهذا الدعاء: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
عمل
[127] تذكر أعمال خير عملتها، ومع تذكر كل عمل كرِّر قول: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
وقفة
[127] يعمل الإنسان صالحًا ويخاف ألا يتقبل منه، ولذا يسأل الله القبول، وهذا إبراهيم في بناء الكعبة يردد: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
وقفة
[127] ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ أي: عاملنا بفضلك، ولا ترده علينا؛ إشعارًا بالاعتراف بالتقصير؛ لحقارة العبد -وإن اجتهد- في جنب عظمة مولاه.

الإعراب :

  • ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ:
  • الواو: عاطفة. إذ يرفع ابراهيم: معطوفة على الآية الكريمة السابقة «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» وتعرب إعرابها لان الفعل «يَرْفَعُ» مضارع لفظا ماض معنى.
  • ﴿ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ:
  • القواعد: مفعول به منصوب بالفتحة. من البيت: جار ومجرور متعلق بيرفع. واسماعيل: معطوف على «إِبْراهِيمُ» وهو مرفوع مثله بالضمة وهو ايضا ممنوع من الصرف. و «مِنَ» لابتداء الغايه.
  • ﴿ رَبَّنا:
  • التقدير: يقولان أو قائلين: ربّنا. وهو منادى مضاف منصوب بأداة نداء محذوفة «يا» وعلامة نصبه الفتحة و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة. والجملة المقدرة: يقولان أو قائلين: في محل نصب حال. ويجوز ان يكون الجار والمجرور «مِنَ الْبَيْتِ» متعلقا بحال من القواعد. أي حال كونها من القواعد.
  • ﴿ تَقَبَّلْ مِنَّا:
  • التقدير: تقّبل منّا دعاءنا. تقبّل: فعل تضرع ودعاء بصيغة طلب مبني على السكون. والفاعل: ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت منّا جار ومجرور متعلق بتقّبل. وكلمة «دعاءنا» المقدرة والمحذوفة: مفعول به منصوب بالفتحة و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة، وجملة «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» في محل نصب مفعول به «مقول القول».
  • ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ:
  • إن: حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد والكاف: ضمير متصل مبني على الفتح في محل نصب اسم «إن». أنت: ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل نصب توكيد للضمير «الكاف» في «إِنَّكَ».
  • ﴿ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ:
  • خبرا «ان» مرفوعان بالضمة. ويجوز ان تكون «أَنْتَ» مبتدأ خبره «السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» والجملة الاسمية في محل رفع خبر «ان». '

المتشابهات :

البقرة: 127﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
آل عمران: 35﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [127] لما قبلها :     وبعد الحديث عن البيت الحرام، ثم دعاء إبراهيم عليه السلام للبلد الحرام؛ ذكر اللهُ عز وجل هنا قصة بناء إبراهيم وابنه إسماعيل لهذا البيت الحرام، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [128] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ..

التفسير :

[128] ربنا واجعلنا ثابتَيْن على الإسلام، منقادَيْن لأحكامك، واجعل من ذريتنا أمة منقادة لك، بالإيمان، وبصِّرْنا بمعالم عبادتنا لك، وتجاوز عن ذنوبنا. إنك أنت كثير التوبة على عبادك، واسع الرحمة بهم.

ودعوا لأنفسهما, وذريتهما بالإسلام, الذي حقيقته, خضوع القلب, وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح.{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي:علمناها على وجه الإراءة والمشاهدة, ليكون أبلغ. يحتمل أن يكون المراد بالمناسك:أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها, كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك:التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج, تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما, يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل الصالح، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة قالا:{ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

ثم حكى القرآن جملة من الدعوات الخاشعات، التي توجه بها إبراهيم وإسماعيل إلى الله- تعالى- فقال: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ.

مسلمين من الإسلام، وهو الخضوع والإذعان، وقد كانا خاضعين لله مذعنين في كل حال، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك، والإسلام الذي هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد، وتحرى ما رسمه الشارع في العبادات والمعاملات، والإخلاص في أداء ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.

وقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ معناه: واجعل يا ربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك، مذعنة لأوامرك ونواهيك.

ومن (من) للتبعيض، أو للتعيين كقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ. وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه طبعا، والدعاء لهم بالصلاح مرغب فيه شرعا، وقد حكى القرآن من دعاء الصالحين قوله- تعالى-:

رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً وَأَرِنا مَناسِكَنا أى: علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا، كالطواف والسعى والوقوف. أو متعبداتنا التي تقام فيها شرائعنا، كمنى، وعرفات، ونحوهما.

والمناسك: جمع منسك- بفتح السين وكسرها- بمعنى الفعل وبمعنى الموضع من النسك- مثلثة النون وبضمها وضم السين- وهو غاية العبادة والطاعة، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعى وغيرهما.

وَتُبْ عَلَيْنا تسند التوبة إلى العبد فيقال: تاب فلان إلى الله ومعناها الندم على ما لابس من الذنب، والإقلاع عنه، والعزم على عدم العود إليه، ورد المظالم إن استطاع، أو نية ردها إن لم يستطع وتسند إلى الله فيقال: تاب الله على فلان، ومعناها حينئذ توفيقه إلى التوبة، أو قبولها منه. فمعنى وَتُبْ عَلَيْنا وفقنا للتوبة أو تقبلها منا.

والتوبة تكون من الكبائر والصغائر، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدى إلى خطأ في الاجتهاد، وعلى أحد هذين الوجهين، تحمل التوبة التي يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها.

إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التواب: كثير القبول لتوبة المنيبين إليه، وقبول توبتهم يقتضى عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من سيئات، ثم بعد تخلصهم من عقوبة الخطيئة أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان.

وإبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- قد طلبا قبول توبتهما صراحة في قولهما وَتُبْ عَلَيْنا ولوحا إلى طلب الرحمة بذكر اسمه الرحيم، إذ الرحمة صفة من أثرها الإحسان، فكأنهما قالا:

تب علينا وارحمنا، وهذا من أكمل آداب الدعاء وأرجاها للقبول عند الله تعالى.

ثم ختم إبراهيم وإسماعيل دعواتهما بتلك الدعوة التي فيها خيرهم في الدنيا والآخرة، فقالا- كما حكى القرآن عنهما:

قوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم )

قال ابن جرير : يعنيان بذلك ، واجعلنا مستسلمين لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ، ولا في العبادة غيرك .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحصني القرشي ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عبد الكريم : ( واجعلنا مسلمين لك ) قال : مخلصين لك ، ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) قال : مخلصة .

وقال أيضا : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا المقدمي ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية ( واجعلنا مسلمين ) قال : كانا مسلمين ، ولكنهما سألاه الثبات .

وقال عكرمة : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) قال الله : قد فعلت . ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) قال الله : قد فعلت .

وقال السدي : ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) يعنيان العرب .

قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم ; لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ، وقد قال الله تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 159 ]

قلت : وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي ; فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم ، والسياق إنما هو في العرب ; ولهذا قال بعده : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) الآية ، والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) [ الجمعة : 2 ] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود ، لقوله تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [ الأعراف : 158 ] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة .

وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، كما أخبر الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين ، في قوله : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) [ الفرقان : 74 ] . وهذا القدر مرغوب فيه شرعا ، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له ; ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم ، عليه السلام : ( إني جاعلك للناس إماما ) قال : ( ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) وهو قوله : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) [ إبراهيم : 35 ] . وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له "

" وأرنا مناسكنا " قال ابن جريج ، عن عطاء ( وأرنا مناسكنا ) أخرجها لنا ، علمناها .

وقال مجاهد ( وأرنا مناسكنا ) مذابحنا . وروي عن عطاء أيضا ، وقتادة نحو ذلك .

وقال سعيد بن منصور : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : قال إبراهيم : " أرنا مناسكنا " فأتاه جبرائيل ، فأتى به البيت ، فقال : ارفع القواعد . فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا ، قال : هذا من شعائر الله . ثم انطلق به إلى المروة ، فقال : وهذا من شعائر الله ؟ . ثم انطلق به نحو منى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال : كبر وارمه . فكبر ورماه . ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى ، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه . فكبر ورماه . فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا فلم يستطع ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام . فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات . قال : قد عرفت ما أريتك ؟ قالها : ثلاث مرار . قال : نعم .

وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك . وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي العاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال : إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك ، عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه إبراهيم ، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى ، فقال : مناخ الناس هذا . فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة الوسطى ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات ، حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة القصوى ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، فأتى به جمعا . فقال : هذا المشعر . ثم أتى به عرفة . فقال : هذه عرفة . فقال له جبريل : أعرفت ؟ .

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك } وَهَذَا أَيْضًا خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك } يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ : وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِك خَاضِعَيْنِ لِطَاعَتِك , لَا نُشْرِك مَعَك فِي الطَّاعَة أَحَدًا سِوَاك , وَلَا فِي الْعِبَادَة غَيْرك . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِسْلَام الْخُضُوع لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ .

وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ

وَأَمَّا قَوْله : { وَمِنْ ذُرِّيَّتنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَك } فَإِنَّهُمَا خَصَّا بِذَلِكَ بَعْض الذُّرِّيَّة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره قَدْ كَانَ أَعْلَم إبْرَاهِيم خَلِيله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل مَسْأَلَته هَذِهِ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّته مَنْ لَا يَنَال عَهْده لِظُلْمِهِ وَفُجُوره , فَخَصَّا بِالدَّعْوَةِ بَعْض ذُرِّيَّتهمَا . وَقَدْ قِيلَ إنَّهُمَا عَنَيَا بِذَلِكَ الْعَرَب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1699 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَمِنْ ذُرِّيَّتنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَك } يَعْنِيَانِ الْعَرَب . وَهَذَا قَوْل يَدُلّ ظَاهِر الْكِتَاب عَلَى خِلَافه ; لِأَنَّ ظَاهِره يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمَا دَعَوْا اللَّه أَنْ يَجْعَل مِنْ ذُرِّيَّتهمَا أَهْل طَاعَته وَوِلَايَته والمستجيبين لِأَمْرِهِ , وَقَدْ كَانَ فِي وَلَد إبْرَاهِيم الْعَرَب وَغَيْر الْعَرَب , وَالْمُسْتَجِيب لِأَمْرِ اللَّه وَالْخَاضِع لَهُ بِالطَّاعَةِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ; فَلَا وَجْه لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : عَنَى إبْرَاهِيم بِدُعَائِهِ ذَلِكَ فَرِيقًا مِنْ وَلَده بِأَعْيَانِهِمْ دُون غَيْرهمْ إلَّا التَّحَكُّم الَّذِي لَا يَعْجِز عَنْهُ أَحَد . وَأَمَّا الْأُمَّة فِي هَذَا الْمَوْضِع , فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهَا الْجَمَاعَة مِنْ النَّاس , مِنْ قَوْل اللَّه : { وَمِنْ قَوْم مُوسَى أُمَّة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } . 7 159

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } . اخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَهُ بَعْضهمْ : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } بِمَعْنَى رُؤْيَة الْعَيْن , أَيْ أَظْهَرَهَا لِأَعْيُنِنَا حَتَّى نَرَاهَا . وَذَلِكَ قِرَاءَة عَامَّة أَهْل الْحِجَاز وَالْكُوفَة , وَكَانَ بَعْض مَنْ يُوَجِّه تَأْوِيل ذَلِكَ إلَى هَذَا التَّأْوِيل يُسَكِّن الرَّاء مِنْ " أَرِنَا " , غَيْر أَنَّهُ يُشِمّهَا كَسْرَة . وَاخْتَلَفَ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة وَقُرَّاء هَذِهِ الْقِرَاءَة فِي تَأْوِيل قَوْله : { مَنَاسِكنَا } فَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ مَنَاسِك الْحَجّ وَمَعَالِمه . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1700 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } فَأَرَاهُمَا اللَّه مَنَاسِكهمَا الطَّوَاف بِالْبَيْتِ , وَالسَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة , وَالْإِفَاضَة مِنْ عَرَفَات , وَالْإِفَاضَة مِنْ جَمْع , وَرَمْي الْجِمَار , حَتَّى أَكْمَلَ اللَّه الدِّين أَوْ دِينه . 1701 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } قَالَ : أَرِنَا نُسُكنَا وَحَجّنَا . 1702 - حَدَّثَنَا مُوسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل مِنْ بُنْيَان الْبَيْت أَمَرَهُ اللَّه أَنْ يُنَادِي فَقَالَ : { وَأَذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ } فَنَادَى بَيْن أَخْشَبَيْ مَكَّة : يَا أَيّهَا النَّاس إنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تَحُجُّوا بَيْته . قَالَ : فَوَقِرَتْ فِي قَلْب كُلّ مُؤْمِن , فَأَجَابَهُ كُلّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ جَبَل أَوْ شَجَر أَوْ دَابَّة : لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ! فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ! وَأَتَاهُ مَنْ أَتَاهُ . فَأَمَرَهُ اللَّه أَنْ يَخْرُج إلَى عَرَفَات وَنَعَتَهَا فَخَرَجَ ; فَلَمَّا بَلَغَ الشَّجَرَة عِنْد الْعَقَبَة اسْتَقْبَلَهُ الشَّيْطَان , فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَات يُكَبِّر مَعَ كُلّ حَصَاة , فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَة الثَّانِيَة أَيْضًا , فَصَدَّهُ فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ , فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَة الثَّالِثَة , فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ . فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُطِيقهُ , وَلَمْ يَدْرِ إبْرَاهِيم أَيْنَ يَذْهَب , انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى ذَا الْمَجَاز , فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفهُ جَازَ فَلِذَلِك سُمِّيَ ذَا الْمَجَاز . ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى وَقَعَ بِعَرَفَاتِ , فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهَا عَرَفَ النَّعْت , قَالَ : قَدْ عَرَفْت ! فَسُمِّيَتْ عَرَفَات . فَوَقَفَ إبْرَاهِيم بِعَرَفَاتِ . حَتَّى إذَا أَمْسَى ازْدَلَفَ إلَى جَمْع , فَسُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَة . فَوَقَفَ بِجَمْعِ . ثُمَّ أَقَبْل حَتَّى أَتَى الشَّيْطَان حَيْثُ لَقِيَهُ أَوَّل مَرَّة فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَات سَبْع مَرَّات , ثُمَّ أَقَامَ بِمِنَى حَتَّى فَرَغَ مِنْ الْحَجّ وَأَمْره . وَذَلِكَ قَوْله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } . وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَة : الْمَنَاسِك الْمَذَابِح . فَكَانَ تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ ذَلِكَ : وَأَرِنَا كَيْف نَنْسَك لَك يَا رَبّنَا نَسَائِكنَا فَنَذْبَحهَا لَك . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1703 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّحْمَن , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } قَالَ : ذَبْحنَا . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيّ , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء , قَالَ : مَذَابِحنَا . 1704 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَحِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 1705 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ عَطَاء : سَمِعْت عُبَيْد بْن عُمَيْر يَقُول : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } قَالَ : أَرِنَا مَذَابِحنَا . وَقَالَ آخَرُونَ : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } بِتَسْكِينِ الرَّاء . وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : وَعَلِّمْنَا وَدُلَّنَا عَلَيْهَا , لَا أَنَّ مَعْنَاهَا أَرِنَاهَا بِالْأَبْصَارِ . وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ نَظِير قَوْل حَطَائِط بْن يَعْفُر أَخِي الْأَسْوَد بْن يَعْفُر : أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَرِينِي : دُلِّينِي عَلَيْهِ وَعَرِّفِينِي مَكَانه , وَلَمْ يَعْنِ بِهِ رُؤْيَة الْعَيْن . وَهَذِهِ قِرَاءَة رُوِيَتْ عَنْ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1706 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ عَطَاء : { أَرِنَا مَنَاسِكنَا } أَخْرَجَهَا لَنَا , عَلِّمْنَاهَا . 1707 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ ابْن الْمُسَيِّب : قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيم مِنْ بِنَاء الْبَيْت , قَالَ : فَعَلْت أَيْ رَبّ فَأَرِنَا مَنَاسِكنَا , أَبْرِزْهَا لَنَا , عَلِّمْنَاهَا ! فَبَعَثَ اللَّه جِبْرِيل فَحَجّ بِهِ . وَالْقَوْل وَاحِد , فَمَنْ كَسَرَ الرَّاء جَعَلَ عَلَامَة الْجَزْم سُقُوط الْيَاء الَّتِي فِي قَوْل الْقَائِل أَرِنِيهِ , وَأَقَرَّ الرَّاء مَكْسُورَة كَمَا كَانَتْ قَبْل الْجَزْم . وَمَنْ سَكَّنَ الرَّاء مِنْ " أَرِنَا " تَوَهَّمَ أَنَّ إعْرَاب الْحَرْف فِي الرَّاء فَسَكَّنَهَا فِي الْجَزْم كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَكُ . وَسَوَاء كَانَ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَة الْعَيْن , أَوْ مِنْ رُؤْيَة الْقَلْب . وَلَا مَعْنَى لِفَرْقِ مَنْ فَرَّقَ بَيْن رُؤْيَة الْعَيْن فِي ذَلِكَ وَرُؤْيَة الْقَلْب . وَأَمَّا الْمَنَاسِك فَإِنَّهَا جَمْع " مَنْسَك " , وَهُوَ الْمَوْضِع الَّذِي يَنْسَك لِلَّهِ فِيهِ , وَيَتَقَرَّب إلَيْهِ فِيهِ بِمَا يُرْضِيه مِنْ عَمَل صَالِح إمَّا بِذَبْحِ ذَبِيحَة لَهُ , وَإِمَّا بِصَلَاةِ أَوْ طَوَاف أَوْ سَعْي , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة ; وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَشَاعِر الْحَجّ مَنَاسِكه , لِأَنَّهَا أَمَارَات وَعَلَامَات يَعْتَادهَا النَّاس , وَيَتَرَدَّدُونَ إلَيْهَا . وَأَصْل الْمَنْسَك فِي كَلَام الْعَرَب : الْمَوْضِع الْمُعْتَاد الَّذِي يَعْتَادهُ الرَّجُل وَيَأْلَفهُ , يُقَال : لِفُلَانِ مَنْسَك , وَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مَوْضِع يَعْتَادهُ لِخَيْرِ أَوْ شَرّ ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمَنَاسِك مَنَاسِك , لِأَنَّهَا تُعْتَاد وَيَتَرَدَّد إلَيْهَا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَة , وَبِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَقَرَّب بِهَا إلَى اللَّه . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى النُّسُك : عِبَادَة اللَّه , وَأَنَّ النَّاسِك إنَّمَا سُمِّيَ نَاسِكًا بِعِبَادَةِ رَبّه , فَتَأَوَّلَ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة قَوْله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } وَعَلِّمْنَا عِبَادَتك كَيْف نَعْبُدك , وَأَيْنَ نَعْبُدك , وَمَا يُرْضِيك عَنَّا فَنَفْعَلهُ . وَهَذَا الْقَوْل وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا يَحْتَمِلهُ الْكَلَام , فَإِنَّ الْغَالِب عَلَى مَعْنَى الْمَنَاسِك مَا وَصَفْنَا قَبْل مِنْ أَنَّهَا مَنَاسِك الْحَجّ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعْنَاهَا . وَخَرَجَ هَذَا الْكَلَام مِنْ قَوْل إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَى وَجْه الْمَسْأَلَة مِنْهُمَا رَبّهمَا لِأَنْفُسِهِمَا , وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمَا مَسْأَلَة رَبّهمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَذُرِّيَّتهمَا الْمُسْلِمِينَ , فَلَمَّا ضَمَّا ذُرِّيَّتهمَا الْمُسْلِمَيْنِ إلَى أَنْفُسهمَا صَارَا كَالْمُخْبِرَيْنِ عَنْ أَنْفُسهمْ بِذَلِكَ . وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِتَقَدُّمِ الدُّعَاء مِنْهُمَا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتهمَا قَبْل فِي أَوَّل الْآيَة , وَتَأَخُّره بَعْد فِي الْآيَة الْأُخْرَى . فَأَمَّا الَّذِي فِي أَوَّل الْآيَة فَقَوْلهمَا : { رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك وَمِنْ ذُرِّيَّتنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَك } . ثُمَّ جَمَعَا أَنْفُسهمَا وَالْأُمَّة الْمُسْلِمَة مِنْ ذُرِّيَّتهمَا فِي مَسْأَلَتهمَا رَبّهمَا أَنْ يُرِيهِمْ مَنَاسِكهمْ فَقَالَا : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } . وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآيَة الَّتِي بَعْدهَا : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } فَجَعَلَا الْمَسْأَلَة لِذُرِّيَّتِهِمَا خَاصَّة . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود : " وَأَرِهِمْ مَنَاسِكهمْ " , يَعْنِي بِذَلِكَ : وَأَرِ ذُرِّيَّتنَا الْمُسْلِمَة مَنَاسِكهمْ .

وَتُبْ عَلَيْنَا

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَتُبْ عَلَيْنَا } . أَمَّا التَّوْبَة فَأَصْلهَا الْأَوْبَة مِنْ مَكْرُوه إلَى مَحْبُوب , فَتَوْبَة الْعَبْد إلَى رَبّه : أَوْبَته مِمَّا يَكْرَههُ اللَّه مِنْهُ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ وَالْإِقْلَاع عَنْهُ , وَالْعَزْم عَلَى تَرْك الْعَوْد فِيهِ . وَتَوْبَة الرَّبّ عَلَى عَبْده : عَوْده عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ لَهُ عَنْ جُرْمه وَالصَّفْع لَهُ عَنْ عُقُوبَة ذَنْبه , مَغْفِرَة لَهُ مِنْهُ , وَتَفَضُّلًا عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَهَلْ كَانَ لَهُمَا ذُنُوب فَاحْتَاجَا إلَى مَسْأَلَة رَبّهمَا التَّوْبَة ؟ قِيلَ : إنَّهُ لَيْسَ أَحَد مِنْ خَلْق اللَّه إلَّا وَلَهُ مِنْ الْعَمَل فِيمَا بَيْنه وَبَيْن رَبّه مَا يَجِب عَلَيْهِ الْإِنَابَة مِنْهُ وَالتَّوْبَة . فَجَائِز أَنْ يَكُون مَا كَانَ مِنْ قَبْلهمَا مَا قَالَا مِنْ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا خَصَّا بِهِ الْحَال الَّتِي كَانَا عَلَيْهَا مِنْ رَفْع قَوَاعِد الْبَيْت , لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَحْرَى الْأَمَاكِن أَنْ يَسْتَجِيب اللَّه فِيهَا دُعَاءَهُمَا , وَلِيَجْعَلَا مَا فَعَلَا مِنْ ذَلِكَ سُنَّة يُقْتَدَى بِهَا بَعْدهمَا , وَتَتَّخِذ النَّاس تِلْكَ الْبُقْعَة بَعْدهمَا مَوْضِع تَنَصُّل مِنْ الذُّنُوب إلَى اللَّه . وَجَائِز أَنْ يَكُونَا عَنَيَا بِقَوْلِهِمَا : { وَتُبْ عَلَيْنَا } وَتُبْ عَلَى الظَّلَمَة مِنْ أَوْلَادنَا وَذُرِّيَّتنَا , الَّذِينَ أَعْلَمْتنَا أَمْرهمْ مِنْ ظُلْمهمْ وَشِرْكهمْ , حَتَّى يُنِيبُوا إلَى طَاعَتك . فَيَكُون ظَاهِر الْكَلَام عَلَى الدُّعَاء لِأَنْفُسِهِمَا , وَالْمَعْنِيّ بِهِ ذُرِّيَّتهمَا , كَمَا يُقَال : أَكَرَمَنِي فُلَان فِي وَلَدِي وَأَهْلِي , وَبَرَّنِي فُلَان : إذَا بَرَّ وَلَده .

إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

وَأَمَّا قَوْله : { إنَّك أَنْت التَّوَّاب الرَّحِيم } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ : إنَّك أَنْت الْعَائِد عَلَى عِبَادك بِالْفَضْلِ وَالْمُتَفَضِّل عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَان , الرَّحِيم بِهِمْ , الْمُسْتَنْقِذ مَنْ تُشَاء مِنْهُمْ بِرَحْمَتِك مِنْ هَلَكَته , الْمُنْجِي مَنْ تُرِيد نَجَاته مِنْهُمْ بِرَأْفَتِك مِنْ سَخَطك .

التدبر :

وقفة
[128] ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ قال سلام بن أبي مطيع: «كانا مسلمَين، ولكنهما سألاه الثبات».
عمل
[128] ادعُ اليوم بدعاء واشمل به ذريتك، وأشركهم فيه ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
وقفة
[128] ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا﴾ الدعاء بصلاح الذرية شأن الأنبياء والصالحين بعدهم.
وقفة
[128] ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ التوبة تختلف باختلاف التائبين: فتوبة سائر المسلمين: الندم، والعزم على عدم العود، ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص: الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواصِّ الخواص لرفع الدرجات والترقي في المقامات.
وقفة
[128] ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ مهما عظُم ما تقدمه من صالحات فلا تغتر؛ بل أشعر نفسك بالتقصير، وأتبعه بالإستغفار، فهكذا كان صفوة الخلق.
اسقاط
[128] ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ يفرغان من أعظم طاعة، ثم يسألان الله التوبة فكيف بالمذنبين؟!
وقفة
[128] الاستغفار بعد الفراغ من العبادة هو شأن الصالحين، فالخليل وابنه بعد بناء البيت قالا: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾، وأمرنا به عند الانتهاء من الصلاة: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ﴾ [النساء: 103]، وبينت السنة أنه البدء بالاستغفار، وكذا أمرنا به بعد الإفاضة من عرفة، فما أحوجنا إلى تذكر منة الله علينا بالتوفيق للعبادة! واستشعار تقصيرنا الذي يدفعنا للاستغفار.
اسقاط
[128] ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ يفرغان من بناء أعظم بيوت الله في الأرض ويسألان ربهما التوبة! ما أجمل الأدب مع الله!
تفاعل
[128] ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ ادعُ الله الآن أن يتوب عليك.
اسقاط
[128] لقد كانت الأنبياء تسأل الله التوبة؛ فنحن أولى منهم بذلك ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
وقفة
[128] لما كان العبد -مهما كان- لا بد أن يعتريه التقصير ويحتاج إلى التوبة، قالا: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
وقفة
[128] ﴿إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ اســم الله (التواب): الذي يوفق عباده إلى التوبة، ويغفر جميع الذنوب.

الإعراب :

  • ﴿ رَبَّنا:
  • منادى مضاف منصوب بالفتحة باداة نداء محذوفة «يا» و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ وَاجْعَلْنا:
  • الواو: عاطفة. اجعلنا: معطوفة على «تَقَبَّلْ مِنَّا» وهو فعل طلب ودعاء بلفظة أمر مبني على السكون. والفاعل: ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت. و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول.
  • ﴿ مُسْلِمَيْنِ لَكَ:
  • مسلمين: مفعول به ثان منصوب بالياء لانه مثنى والنون: عوض عن تنوين المفرد. لك: جار ومجرور متعلق بمسلمين.
  • ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا:
  • جار ومجرور معطوف بالواو على «اجْعَلْنا» بتقدير: واجعل من ذريتنا. و «مِنْ» حرف جر للتبعيض والجار والمجرور متعلق باجعل أو متعلق بالمفعول المحذوف التقدير: بعضا من ذريتنا. و «نا» ضمير متصل في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ:
  • مفعول به ثان منصوب بالفتحة للفعل المقدر المعطوف «أجعل» والمفعول الاول مقدر على «من» حرف الجر الزائد للتبعيض «أي»: أجعل بعض ذريتنا. مسلمة: صفة لأمة منصوبة مثلها بالفتحة. لك: جار ومجرور متعلق بمسلمة.
  • ﴿ وَأَرِنا مَناسِكَنا:
  • الواو: حرف عطف. أرنا: فعل دعاء وتضرع بصيغة طلب مبني على حذف حرف العله. والفاعل: ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت. و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول مناسكنا. مفعول به ثان منصوب بالفتحة. و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ وَتُبْ عَلَيْنا:
  • الواو: عاطفة. تب: معطوفة على «أَرِنا» وهو فعل دعاء وتضرع بصيغة طلب مبني على السكون وقد حذفت الواو من الفعل تخفيفا. والفاعل: ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت. علينا: جار ومجرور متعلق بتب.
  • ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ:
  • تعرب إعراب «إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» الواردة في نهاية الآية الكريمة السابقة. '

المتشابهات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [128] لما قبلها :     وبعد أن سألَ إبراهيمُ ربَّه أن يتقبل منه هذا العمل؛ سأله هنا: الثبات والدوام على الإسلام، وتعليم شرائع الدين وأعمال الحج، وقال تعالى:
﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

القراءات :

وأرنا:
قرئ:
1- وأرهم، وهى قراءة ابن مسعود، من إعادة الضمير على «الذرية» .
2- وأرنا، بإسكان الراء، وهى قراءة ابن كثير، وأبى عمرو.
3- وأرنا، بالاختلاس، وهى قراءة أبى عمرو.
4- وأرنا، بالإشباع، وهى قراءة أبى عمرو أيضا.

مدارسة الآية : [129] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ..

التفسير :

[129] ربنا وابعث في هذه الأمة رسولاً من ذرية إسماعيل يتلو عليهم آياتك ويعلمهم القرآن والسنة، ويطهرهم من الشرك وسوء الأخلاق. إنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها.

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي:في ذريتنا{ رَسُولًا مِنْهُمْ} ليكون أرفع لدرجتهما, ولينقادوا له, وليعرفوه حقيقة المعرفة.{ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} لفظا, وحفظا, وتحفيظا{ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} معنى.{ وَيُزَكِّيهِمْ} بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال الردية, التي لا تزكي النفوس معها.{ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} أي:القاهر لكل شيء, الذي لا يمتنع على قوته شيء.{ الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك, ابعث فيهم هذا الرسول. فاستجاب الله لهما, فبعث الله هذا الرسول الكريم, الذي رحم الله به ذريتهما خاصة, وسائر الخلق عامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"أنا دعوة أبي إبراهيم "ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم, وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى:

رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

الضمير في قوله: مِنْهُمْ يعود إلى الذرية أو الأمة المسلمة في قوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ.

والرسول: من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه: وتلاوة الشيء: قراءته والمراد بقوله تعالى:

يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ يقرؤها عليهم قراءة تذكير وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع.

والآيات: جمع آية، والمراد بها ما يشهد بوحدانية الله، وبصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عنه، أو المراد بها آيات القرآن الكريم فهو يتلوها عليهم ليحفظوها بألفاظها كما نزلت، ويتعبدوا بتلاوتها، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجها مشرقا من وجوه إعجازها.

والكتاب: القرآن، وتعلمه يكون ببيان معانيه وحقائقه، ليعرفوا ما أقامه لهم من دلائل التوحيد وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب.

والحكمة: العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به. ووضعها بجانب الكتاب يرجح أن المراد بها السنة النبوية المطهرة التي تنتظم أقوال النبي صلّى الله عليه وسلّم وأفعاله، إذ بالكتاب وبالسنة يعرف الناس أصلح الأعمال، وأعدل الأحكام وأسنى الآداب، وتنفتح لهم طرق التفقه في أسرار الدين ومقاصده.

ويزكيهم: أى يطهرهم من أرجاس الشرك ومن كل ما لا يليق التلبس به ظاهرا أو باطنا.

يقال: زكاه الله، أى طهره وأصلحه، ومنه زكاة المال لتطهره بها، وأصل الزكاة- بالمد- النماء والزيادة، يقال. زكا الزرع زكاء وزكوا، أى نما.

والمعنى: ونسألك يا ربنا أن تبعث في الأمة المسلمة، أو في ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك، ويعلمهم كتابك بأن يبين لهم معانيه، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب، كما يهديهم إلى الحكمة التي تتمثل في اتباع سنة نبيك- والتي بها يتم التفقه في الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده، والتي يكمل بها العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم.

أى القادر الذي لا يغلب على أمره، العالم الذي يدبر الأمور على وفق المصلحة، ومن كان قادرا على كل ما يريد، عليما بوجوه المصالح، كانت استجابته قريبة من دعاء الخير الصادر عن إخلاص وابتهال.

وقد جاء ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطهير من كل ما لا يليق التلبس به في الظاهر، أو الباطن.

وقد سأل إبراهيم وإسماعيل ربهما أن تكون بعثة الرسول في ذريتهما فيكون أمر الإيمان قريبا منهم، فإن نشأته بينهم، ومعرفة سيرته قبل الرسالة وشهادتهم له بالصدق والأمانة، وكل ذلك يحمل العقلاء على المبادرة إلى تصديقه فيما يبلغه عن ربه.

ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين، فأرسل في ذريتهما رسولا منهم، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا.

وقد أخبر صلّى الله عليه وسلّم أنه دعوة إبراهيم، فقال: (أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمى التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين) .

ثم عرض القرآن بعد ذلك بالجاحدين والمعاندين الذين تركوا الحق الواضع الذي هو ملة إبراهيم فقال:

يقول تعالى إخبارا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، أي من ذرية إبراهيم . وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولا في الأميين إليهم ، إلى سائر الأعجمين ، من الإنس والجن ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سويد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين " .

وكذلك رواه ابن وهب ، والليث ، وكاتبه عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، وتابعه أبو بكر بن أبي مريم ، عن سعيد بن سويد ، به .

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان بن عامر : سمعت أبا أمامة قال : قلت : يا رسول الله ، ما كان أول بدء أمرك ؟ قال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " .

والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس ، إبراهيم عليه السلام . ولم يزل ذكره في الناس مذكورا مشهورا سائرا حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبا ، وهو عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، حيث قام في بني إسرائيل خطيبا ، وقال : ( إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) [ الصف : 6 ] ; ولهذا قال في هذا الحديث : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ابن مريم " .

وقوله : " ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " قيل : كان مناما رأته حين حملت به ، وقصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة . وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها . ولهذا جاء في الصحيحين : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " . وفي صحيح البخاري : " وهم بالشام " .

قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . فقيل له : قد استجيبت لك ، وهو كائن في آخر الزمان . وكذا قال السدي وقتادة .

وقوله تعالى : ( ويعلمهم الكتاب ) يعني : القرآن ( والحكمة ) يعني : السنة ، قاله الحسن ،

وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك وغيرهم . وقيل : الفهم في الدين . ولا منافاة .

( ويزكيهم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني طاعة الله ، والإخلاص .

وقال محمد بن إسحاق ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) قال : يعلمهم الخير فيفعلوه ، والشر فيتقوه ، ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته ، وتجنبوا ما سخط من معصيته .

وقوله : ( إنك أنت العزيز الحكيم ) أي : العزيز الذي لا يعجزه شيء ، وهو قادر على كل شيء ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، فيضع الأشياء في محالها ; وحكمته وعدله .

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } / وَهَذِهِ دَعْوَة إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل لِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة , وَهِيَ الدَّعْوَة الَّتِي كَانَ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " أَنَا دَعْوَة أَبِي إبْرَاهِيم وَبُشْرَى عِيسَى " . 1708 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ ثَوْر بْن يَزِيد , عَنْ خَالِد بْن مَعْدَان الْكُلَاعِيّ : أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسك ! قَالَ ; " نَعَمْ , أَنَا دَعْوَة أَبِي إبْرَاهِيم , وَبُشْرَى عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . 1709 - حَدَّثَنِي عِمْرَان بْن بَكَّار الْكُلَاعِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو الْيَمَان , قَالَ : ثنا أَبُو كُرَيْب , عَنْ أَبِي مَرْيَم , عَنْ سَعِيد بْن سُوَيْد , عَنْ الْعِرْبَاضِ بْن سَارِيَة السُّلَمِيّ , قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " إنِّي عِنْد اللَّه فِي أُمّ الْكِتَاب خَاتَم النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَم لَمُنْجَدِل فِي طِينَته , وَسَوْفَ أُنَبِّئكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ : أَنَا دَعْوَة أَبِي إبْرَاهِيم وَبِشَارَة عِيسَى قَوْمه وَرُؤْيَا أُمِّي " . * حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا ابْن وَهْب , قَالَ : أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَة , وَحَدَّثَنِي عُبَيْد بْن آدَم بْن أَبِي إيَاس الْعَسْقَلَانِيّ , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : ثنا اللَّيْث بْن سَعْد , عَنْ مُعَاوِيَة بْن صَالِح , قَالَا جَمِيعًا , عَنْ سَعِيد بْن سُوَيْد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن هِلَال السُّلَمِيّ , عَنْ عِرْبَاض بْن سَارِيَة السُّلَمِيّ , عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو صَالِح , قَالَ : ثنا مُعَاوِيَة , عَنْ سَعِيد بْن سُوَيْد , عَنْ عَبْد الْأَعْلَى بْن هِلَال السُّلَمِيّ , عَنْ عِرْبَاض بْن سَارِيَة أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول ; فَذَكَرَ نَحْوه . وَبِاَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1710 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } فَفَعَلَ اللَّه ذَلِكَ , فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ يَعْرِفُونَ وَجْهه وَنَسَبه , يُخْرِجهُمْ مِنْ الظُّلُمَات إلَى النُّور , وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاط الْعَزِيز الْحَمِيد . 1711 - حَدَّثَنَا مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 1712 - حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقِيلَ لَهُ : قَدْ اُسْتُجِيبَ ذَلِكَ , وَهُوَ فِي آخِر الزَّمَان . وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتك } يَقْرَأ عَلَيْهِمْ كِتَابك الَّذِي تُوحِيه إلَيْهِ .

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة } . وَيَعْنِي بِالْكِتَابِ الْقُرْآن . وَقَدْ بَيَّنْت فِيمَا مَضَى لِمَ سُمِّيَ الْقُرْآن كِتَابًا وَمَا تَأْوِيله . وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1713 - حَدَّثَنِي يُونُس قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب } الْقُرْآن . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى الْحِكْمَة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي هَذَا الْمَوْضِع , فَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ السُّنَّة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1714 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , وَالْحِكْمَة : أَيْ السُّنَّة . وَقَالَ بَعْضهمْ : الْحِكْمَة هِيَ الْمَعْرِفَة بِالدِّينِ وَالْفِقْه فِيهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1715 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قُلْت لِمَالِكِ : مَا الْحِكْمَة ؟ قَالَ : الْمَعْرِفَة بِالدِّينِ , وَالْفِقْه فِي الدِّين , وَالِاتِّبَاع لَهُ . 1716 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { وَالْحِكْمَة } قَالَ : الْحِكْمَة : الدِّين الَّذِي لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمهُمْ إيَّاهَا . قَالَ : وَالْحِكْمَة : الْعَقْل فِي الدِّين ; وَقَرَأَ : { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } . 2 269 وَقَالَ لِعِيسَى : { وَيُعَلِّمهُ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل } . 3 48 قَالَ : وَقَرَأَ ابْن زَيْد : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } . 7 175 قَالَ : لَمْ يَنْتَفِع بِالْآيَاتِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ مَعَهَا حِكْمَة . قَالَ : وَالْحِكْمَة شَيْء يَجْعَلهُ اللَّه فِي الْقَلْب يُنَوِّر لَهُ بِهِ . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدنَا فِي الْحِكْمَة , أَنَّهَا الْعِلْم بِأَحْكَامِ اللَّه الَّتِي لَا يُدْرَك عِلْمهَا إلَّا بِبَيَانِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْرِفَة بِهَا , وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِره . وَهُوَ عِنْدِي مَأْخُوذ مِنْ " الْحُكْم " الَّذِي بِمَعْنَى الْفَصْل بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل بِمَنْزِلَةِ " الْجِلْسَة وَالْقَعْدَة " مِنْ " الْجُلُوس وَالْقُعُود " , يُقَال مِنْهُ : إنَّ فُلَانًا لَحَكِيم بَيِّن الْحِكْمَة , يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَبَيِّن الْإِصَابَة فِي الْقَوْل وَالْفِعْل . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَتَأْوِيل , الْآيَة : رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتك , وَيُعَلِّمهُمْ كِتَابك الَّذِي تُنَزِّلهُ عَلَيْهِمْ , وَفَصْل قَضَائِك , وَأَحْكَامك الَّتِي تُعَلِّمهُ إيَّاهَا .

وَيُزَكِّيهِمْ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيُزَكِّيهِمْ } . قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْل عَلَى أَنَّ مَعْنَى التَّزْكِيَة : التَّطْهِير , وَأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاة : النَّمَاء وَالزِّيَادَة . فَمَعْنَى قَوْله : { وَيُزَكِّيهِمْ } فِي هَذَا الْمَوْضِع : وَيُطَهِّرهُمْ مِنْ الشِّرْك بِاَللَّهِ وَعِبَادَة الْأَوْثَان وَيُنَمِّيهِمْ وَيُكَثِّرهُمْ بِطَاعَةِ اللَّه . كَمَا : 1717 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتك وَيُزَكِّيهِمْ } قَالَ : يَعْنِي بِالزَّكَاةِ , طَاعَة اللَّه وَالْإِخْلَاص . 1718 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : قَوْله : { وَيُزَكِّيهِمْ } قَالَ : يُطَهِّرهُمْ مِنْ الشِّرْك وَيُخَلِّصهُمْ مِنْهُ .

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : إنَّك يَا رَبّ أَنْت الْعَزِيز الْقَوِيّ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء أَرَادَهُ , فَافْعَلْ بِنَا وَبِذُرِّيَّتِنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَطَلَبْنَاهُ مِنْك . وَالْحَكِيم : الَّذِي لَا يَدْخُل تَدْبِيره خَلَل وَلَا زَلَل , فَأَعْطِنَا مَا يَنْفَعنَا وَيَنْفَع ذُرِّيَّتنَا , وَلَا يُنْقِصك وَلَا يُنْقِص خَزَائِنك .

التدبر :

وقفة
[129] ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾ بركة دعوة أبي الأنبياء إبراهيم u، حيث أجاب الله دعاءه وجعل خاتم أنبيائه وأفضل رسله من أهل مكة.
وقفة
[129] ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾ رحمة الداعية تغمر الحياة، تعبر القرون، إبراهيم عليه السلام يدعو لأمة تأتي بعده بأربعة آلاف سنة.
وقفة
[129] ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ ومن العجيب أن بين دعوة إبراهيم ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾، وبين إجابتها ببعثة النبي محمد ما يزيد على ألفي عــام! فلمـاذا يتعجــل المتعجِّلـون؟ ولِمَ يقنط الداعون؟ لماذا يتــذمرون ويقولون: دَعَوْنا دَعَوْنا فلم يُستجب لنـا؟
لمسة
[129] ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ وردت في القرآن الكريم مثل هذه الآيات أربع مرات، ثلاث منها عن الله تعالى، ومرة على لسان إبراهيم عليه السلام، وهي: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: ١٥١]، ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: 164]، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2]، وهنا على لسان ابراهيم: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾، فالتقديم والتأخير يعود إلى ترتيب الأولويات والأهمية في الخطابين، فعندما دعا ابراهيم ربه أن يرسل رسولًا أخَّر جانب تزكية الأخلاق إلى آخر مرحلة بعد تلاوة الآيات وتعليمهم الكتاب والحكمة، أما في آية سورة الجمعة وسورة البقرة [١٥١] وسورة آل عمران فالخطاب من الله تعالى بأنه بعث في الأميين رسولًا يتلو عليهم آياته ويزكيهم قبل مرحلة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)؛ لأن الجانب الخُلُقي يأتي قبل الجانب التعليمي، ولأن الإنسان إذا كان غير مزكًّى في خلقه لن يتلقى الكتاب والحكمة على مُراد الله تعالى، والرسول من أهم صفاته أنه على خلق عظيم كما شهد له رب العزة.
وقفة
[129] لقد كان نبي الله إبراهيم يحمل هم هداية الأجيال القادمة، ولم يقصر نظره على جيله أو بيته أو أهله فقال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾، فيا له من همٍّ ما أكمله! ويا لها من نفس ما أزكاها!
وقفة
[129] حفظ القرآن وفهمه والعمل به جاء في آية واحدة: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾.
وقفة
[129] قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ ثم قال في آخر الآية: ﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾؛ فما وجه المناسبة؟ مناسبة العزة والحكمة لبعث الرسول ظاهرة جدًّا؛ لأن ما يجيء به الرسول كله حكمة، وفيه العزة: ﴿وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8] للمؤمنين عربًا وعجمًا، فمن كان مؤمنًا فله العزة؛ ومن لم يكن كذلك فاته من العزة بقدر ما أخلَّ به من الإيمان.
وقفة
[129] ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ هذا الترتيب في الآية لأن آيات القرآن تعلمنا التفكير والمنطق ودقة اللفظ وترتيب الأفكار، والله سبحانه وتعالى رتب هذه الصفات على حسب ترتيب وجودها؛ لأن أول تبليغ الرسالة القرآن، ثم يكون تعليم معانيه، كما في قوله في موضع آخر: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 18، 19]، فإذا ما حصلت على علم القرآن انتقلت إلى المرحلة الأخيرة وهي التزكية.
عمل
[129] مع محافظتك على تلاوة القرآن الكريم؛ حاول أن تبدأ اليوم بقراءة في كتب السنة؛ خاصة صحيحي البخاري ومسلم ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾.

الإعراب :

  • ﴿ رَبَّنا:
  • منادى مضاف منصوب بالفتحة لانه مسبوق باداة نداء محذوفة و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ وَابْعَثْ فِيهِمْ:
  • الواو: عاطفة ابعث: فعل دعاء بصيغة أمر مبني على السكون والفاعل: ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت. فيهم: جار ومجرور متعلق بابعث.
  • ﴿ رَسُولًا مِنْهُمْ:
  • رسولا: مفعول به منصوب بالفتحة المنونه لانة نكرة. منهم: جار ومجرور متعلق بصفة محذوفة من «رَسُولًا» ومن: بيانية.
  • ﴿ يَتْلُوا:
  • فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الواو للثقل والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هو. وجملة «يَتْلُوا» في محل نصب صفة للموصوف رسولا.
  • ﴿ عَلَيْهِمْ آياتِكَ:
  • جار ومجرور متعلق بالفعل «يَتْلُوا». آياتك: مفعول به منصوب بالكسرة بدلا من الفتحة لانه ملحق بجمع المؤنث السالم والكاف: ضمير متصل مبني على الفتح في محل جر بالاضافة. و «هم» في «فِيهِمْ» و «مِنْهُمْ» ضمير الغائبين في محل جر بحرف الجرّ.
  • ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ:
  • الواو: عاطفة. يعلمهم: فعل مضارع معطوف على «يَتْلُوا» مرفوع بالضمة والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هو. الهاء: ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به والميم علامة الجمع. الكتاب: مفعول به ثان منصوب بالفتحة.
  • ﴿ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ:
  • الواو: عاطفة. الحكمة: معطوف على «الْكِتابَ» منصوب مثله بالفتحة. الواو: عاطفة. يزكيهم: معطوفة على «يُعَلِّمُهُمُ» وتعرب إعرابها.
  • ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:
  • تعرب إعراب «إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» الواردة في الآية الكريمة السابعة والعشرين بعد المائة. '

المتشابهات :

البقرة: 129﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
غافر: 8﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
الممتحنة: 5﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
المائدة: 118﴿إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [129] لما قبلها :     ولَمَّا دعا إبراهيمُ ربَّه بالأمن لمكة، وبالرزق لأهلها، وبأن يجعل من ذريته أمَّة مسلمة؛ ختم الدعاء لهم هنا بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة، وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، فشمل دعاؤه لهم الأمنَ والخصب والهداية، قال تعالى:
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [130] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ..

التفسير :

[130] ولا أحد يُعرض عن دين إبراهيم -وهو الإسلام- إلا سفيه جاهل، ولقد اخترنا إبراهيمَ في الدنيا نبيّاً ورسولاً، وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين لهم أعلى الدرجات.

أي:ما يرغب{ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} بعد ما عرف من فضله{ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أي:جهلها وامتهنها, ورضي لها بالدون, وباعها بصفقة المغبون، كما أنه لا أرشد وأكمل, ممن رغب في ملة إبراهيم، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال:{ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أي:اخترناه ووفقناه للأعمال, التي صار بها من المصطفين الأخيار.{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} الذين لهم أعلى الدرجات.

قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ معناه: لا أحد من الناس يكره ملة إبراهيم وينصرف عنها إلى الشرك بالله، إلا من امتهن نفسه، واستخف بها وظلمها بسوء رأيه حيث ترك طريق الحق إلى طريق الضلالة.

يقال رغب لي كذا إذا أراده، ورغب عن كذا إذا كرهه وانصرفت عنه نفسه والملة في الأصل الطريقة، وغلب إطلاقها على أصول الدين من حيث إن صاحبها يصل عن طريقها إلى دار السلام وسفه نفسه امتهنها واستخف بها.

ثم بين الله- تعالى- منزلة نبيه إبراهيم- عليه السلام- وخطأ من يرغب عن طريقته المثلى فقال تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أى: ولقد اخترناه للرسالة وهداية الناس وإرشادهم في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المستقيمين على الطريقة المثلى. فمن يرغب عن ملة من هذا شأنه إلى غيرها من طرق الضلال لا يماثله أحد في سفهه وسوء رأيه.

يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله ، المخالف لملة إبراهيم الخليل ، إمام الحنفاء ، فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى ، فلم يدع معه غيره ، ولا أشرك به طرفة عين ، وتبرأ من كل معبود سواه ، وخالف في ذلك سائر قومه ، حتى تبرأ من أبيه ، فقال : ( يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) [ الأنعام : 78 ، 79 ] ، وقال تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ) [ الزخرف : 26 ، 27 ] ، وقال تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) [ التوبة : 114 ] وقال تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) [ النحل : 120 ، 122 ] ، ولهذا وأمثاله قال تعالى : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم ) أي : عن طريقته ومنهجه . فيخالفها ويرغب عنها ( إلا من سفه نفسه ) أي : ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال ، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد ، من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء فترك طريقه هذا ومسلكه وملته واتبع طرق الضلالة والغي ، فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم )

وقال أبو العالية وقتادة : نزلت هذه الآية في اليهود ; أحدثوا طريقا ليست من عند الله وخالفوا ملة إبراهيم فيما أخذوه ، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) [ آل عمران : 67 ، 68 ] .

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم } وَأَيّ النَّاس يَزْهَد فِي مِلَّة إبْرَاهِيم وَيَتْرُكهَا رَغْبَة عَنْهَا إلَى غَيْرهَا . وَإِنَّمَا عَنَى اللَّه بِذَلِكَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى لِاخْتِيَارِهِمْ مَا اخْتَارُوا مِنْ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة عَلَى الْإِسْلَام ; لِأَنَّ مِلَّة إبْرَاهِيم هِيَ الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْره : { مَا كَانَ إبْرَاهِيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا } 3 67 فَقَالَ تَعَالَى ذِكْره لَهُمْ : وَمَنْ يَزْهَد عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه . كَمَا : 1719 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } رَغِبَ عَنْ مِلَّته الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَاِتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة بِدْعَة لَيْسَتْ مِنْ اللَّه , وَتَرَكُوا مِلَّة إبْرَاهِيم - يَعْنِي الْإِسْلَام - حَنِيفًا , كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّه نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِلَّةِ إبْرَاهِيم . 1720 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } قَالَ : رَغِبَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَلَيْسَتْ مِنْ اللَّه , وَتَرَكُوا مِلَّة إبْرَاهِيم الْإِسْلَام .

إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسه , وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى السَّفَه : الْجَهْل . فَمَعْنَى الْكَلَام : وَمَا يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم الْحَنِيفِيَّة إلَّا سَفِيه جَاهِل بِمَوْضِعِ حَظّ نَفْسه فِيمَا يَنْفَعهَا وَيَضُرّهَا فِي مُعَادهَا . كَمَا : 1721 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } قَالَ : إلَّا مَنْ أَخْطَأَ حَظّه . وَإِنَّمَا نُصِبَ " النَّفْس " عَلَى مَعْنَى الْمُفَسَّر ; ذَلِكَ أَنَّ السَّفَه فِي الْأَصْل لِلنَّفْسِ , فَلَمَّا نُقِلَ إلَى " مَنْ " نُصِبَتْ " النَّفْس " بِمَعْنَى التَّفْسِير , كَمَا يُقَال : هُوَ أَوْسَعكُمْ دَارًا , فَتَدْخُل " الدَّار " فِي الْكَلَام عَلَى أَنَّ السِّعَة فِيهِ لَا فِي الرَّجُل . فَكَذَلِكَ النَّفْس أُدْخِلَتْ , لِأَنَّ السَّفَه لِلنَّفْسِ لَا ل " مَنْ " ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَال سَفِهَ أَخُوك , وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُفَسَّر بِالنَّفْسِ وَهِيَ مُضَافَة إلَى مَعْرِفَة لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيل نَكِرَة . وَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة : إنَّ قَوْله : { سَفِهَ نَفْسه } جَرَتْ مَجْرَى " سَفِهَ " إذَا كَانَ الْفِعْل غَيْر مُتَّعَد . وَإِنَّمَا عَدَّاهُ إلَى " نَفْسه " و " رَأْيه " وَأَشْبَاه ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْو سَفِهَ , إذَا هُوَ لَمْ يَتَعَدَّ . فَأَمَّا " غَبَنَ " و " خَسِرَ " فَقَدْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْره , يُقَال : غَبَنَ خَمْسِينَ , وَخَسِرَ خَمْسِينَ .

وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَا إبْرَاهِيم , وَالْهَاء الَّتِي فِي قَوْله : { اصْطَفَيْنَاهُ } مِنْ ذِكْر إبْرَاهِيم . وَالِاصْطِفَاء : الِافْتِعَال مِنْ الصَّفْوَة , وَكَذَلِكَ اصْطَفَيْنَا افْتَعَلْنَا مِنْهُ , صُيِّرَتْ تَاؤُهَا طَاء لِقُرْبِ مَخْرَجهَا مِنْ مَخْرَج الصَّاد . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { اصْطَفَيْنَاهُ } اخْتَرْنَاهُ وَاجْتَبَيْنَاهُ لِلْخِلَّةِ , وَنَصِيرهُ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ بَعْده إمَامًا . وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَ إبْرَاهِيم فِيمَا سَنَّ لِمَنْ بَعْده فَهُوَ لِلَّهِ مُخَالِف , وَإِعْلَام مِنْهُ خَلْقه أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِإِبْرَاهِيم مُخَالِف ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَخْبَرَ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ لِخِلَّتِهِ , وَجَعَلَهُ لِلنَّاسِ إمَامًا , وَأَخْبَرَ أَنَّ دِينه كَانَ الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة . فَفِي ذَلِكَ أَوْضَح الْبَيَان مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ لِلَّهِ عَدُوّ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِمَام الَّذِي نَصَبَهُ اللَّه لِعِبَادِهِ .

وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ } وَإِنَّ إبْرَاهِيم فِي الدَّار الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ . وَالصَّالِح مِنْ بَنِي آدَم هُوَ الْمُؤَدِّي حُقُوق اللَّه عَلَيْهِ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره عَنْ إبْرَاهِيم خَلِيله أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا لَهُ صَفِيّ , وَفِي الْآخِرَة وَلِيّ , وَإِنَّهُ وَارِد مَوَارِد أَوْلِيَائِهِ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ .

التدبر :

وقفة
[130] ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ دين إبراهيم u هو الملة الحنيفية الموافقة للفطرة، لا يرغب عنها ولا يزهد فيها إلا الجاهل المخالف لفطرته.
وقفة
[130] ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ فيه دلالة على لزوم اتباع ملة إبراهيمu فيما لم يثبت نسخه.
وقفة
[130] السفه الأكبر هو في ترك التوحيد، الذي هو أساس ملة إبراهيم u: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، فمن ترك التوحيد فهو سفيه ولو حمل أعلى الشهادات.
وقفة
[130] ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ اصطفى الله إبراهيم uبالرسالة والخلة وبناء البيت والإمامة واتخاذ مقامه مصلى والنجاة من النار وأذانه بالحج, ولم تنقص هذه العطايا العظام من أجر آخرته شيئًا, فهو في الآخرة من الصالحين, وقد ثبت أن أول من يكسى من الخلق يوم القيامة هو إبراهيم u.
اسقاط
[130] ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لتكن همتك وطموحك أن ترقى لأعلى الدرجات في الآخرة.

الإعراب :

  • ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ:
  • الواو: استئنافية. من: اسم استفهام لفظا معناه التوبيخ مبني على السكون في محل رفع مبتدأ وخبره بمعنى «لا يرغب». يرغب: أي يعوض فعل مضارع مرفوع بالضمة لتجرده عن الناصب والجازم والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هو. جملة «يَرْغَبُ» في محل رفع خبر «مَنْ».
  • ﴿ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ:
  • جار ومجرور متعلق بيرغب. ابراهيم: مضاف اليه مجرور بالاضافة وعلامة جرّه الفتحة لانه ممنوع من الصرف.
  • ﴿ إِلَّا مَنْ:
  • أداة حصر تتضمن معنى النفي. من: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل من المبدل منه الضمير في «يَرْغَبُ».
  • ﴿ سَفِهَ نَفْسَهُ:
  • سفه: فعل ماض مبني على الفتح والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هو. وجملة «سَفِهَ» صلة الموصول لا محل لها. نفسه: مفعول به منصوب بالفتحة. والهاء: ضمير متصل مبني على الضم في محل جر باالاضافة.
  • ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا:
  • الواو: استئنافية. اللام: لام الابتداء تفيد التوكيد. قد: حرف تحقيق. اصطفيناه: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، . والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به. ويجوز ان تنصب «نَفْسَهُ» على التمييز وهو من شذوذ تعريف المميز. أو يكون التقدير: سفه في نفسه محذوف الجار والمجرور. في الدنيا: جار ومجرور متعلق باصطفيناه.
  • ﴿ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ:
  • الواو: استئنافية إنّ: حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد والهاء: ضمير متصل في محل نصب اسمها. في الآخرة: جار ومجرور متعلق بخبر «ان».
  • ﴿ لَمِنَ الصَّالِحِينَ:
  • اللام: مزحلقة تفيد التوكيد. من: حرف جر. الصالحين: اسم مجرور. بمن وعلامة جرّه: الياء لانه جمع مذكر سالم والنون: عوض عن تنوين الاسم المفرد والجار والمجرور متعلق بخبر «ان». '

المتشابهات :

البقرة: 130﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
النحل: 122﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
العنكبوت: 27﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

أسباب النزول :

  • قوله تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم الآية قال ابن عيينة روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخي سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبي مهاجر فنزلت فيه الآية'
  • المصدر أسباب النزول للواحدي

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [130] لما قبلها :     وبعد الحديث عن إبراهيم عليه السلام وبناء البيت الحرام وما دعا به؛ بَيَّنَ اللهُ عز وجل هنا منزلة نبيه إبراهيم عليه السلام، وسفه من يرغب عن ملته، قال تعالى:
﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [131] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ..

التفسير :

[131] وسبب هذا الاختيار مسارعته إلى الإسلام دون تردد، حين قال له ربه:أخلص نفسك لله منقاداً له. فاستجاب إبراهيم وقال:أسلمت لرب العالمين، إخلاصاً وتوحيداً ومحبة وإنابة.

{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ} امتثالا لربه{ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إخلاصا وتوحيدا, ومحبة, وإنابة فكان التوحيد لله نعته.

ثم بين الله تعالى كمال استقامة إبراهيم التي رفعته إلى المنازل العليا فقال تعالى إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أى: اصطفى الله- تعالى- إبراهيم لأنه أمره بطاعته وإسلام وجهه إليه في كل حال فبادر إلى الامتثال وقال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أى: أخلصت ديني لله الذي فطر الخلق جميعا. كما حكى عنه القرآن الكريم نحو هذا القول في قوله تعالى:

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وقوله تعالى : ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) أي : أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد ، فأجاب إلى ذلك شرعا وقدرا .

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إذْ قَالَ لَهُ رَبّه أَسْلِمْ } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إذْ قَالَ لَهُ رَبّه أَسْلِمْ } إذْ قَالَ لَهُ رَبّه : أَخْلِصْ لِي الْعِبَادَة , وَاخْضَعْ لِي بِالطَّاعَةِ , وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الْإِسْلَام فِي كَلَام الْعَرَب , فَأَغْنَى عَنْ إعَادَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْله : { قَالَ أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره : قَالَ إبْرَاهِيم مُجِيبًا لِرَبِّهِ : خَضَعْت بِالطَّاعَةِ , وَأَخْلَصْت بِالْعِبَادَةِ لِمَالِك جَمِيع الْخَلَائِق وَمُدَبِّرهَا دُون غَيْره . فَإِنْ قَالَ قَائِل : قَدْ عَلِمْت أَنَّ " إذْ " وَقْت فَمَا الَّذِي وَقَّتَ بِهِ , وَمَا الَّذِي صِلَته ؟ قِيلَ : هُوَ صِلَة لِقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } . وَتَأْوِيل الْكَلَام : وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حِين قَالَ لَهُ رَبّه أَسْلِمْ , قَالَ : أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . فَأَظْهَر اسْم " اللَّه " فِي قَوْله : { إذْ قَالَ لَهُ رَبّه أَسْلِمْ } عَلَى وَجْه الْخَبَر عَنْ غَائِب , وَقَدْ جَرَى ذِكْره قِيلَ عَلَى وَجْه الْخَبَر عَنْ نَفْسه , كَمَا قَالَ خِفَاف بْن نُدْبَة : أَقُول لَهُ وَالرُّمْح يَأْمُر مَتْنه تَأَمَّلْ خِفَافًا إنَّنِي أَنَا ذَالِكَا فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَهَلْ دَعَا اللَّه إبْرَاهِيم إلَى الْإِسْلَام ؟ قِيلَ لَهُ : نَعَمْ , قَدْ دَعَاهُ إلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ : وَفِي أَيّ حَال دَعَاهُ إلَيْهِ ؟ قِيلَ : حِين قَالَ : { يَا قَوْم إنِّي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } 6 78 : 79 وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْت الَّذِي قَالَ لَهُ رَبّه أَسْلِمْ مِنْ بَعْد مَا امْتَحَنَهُ بِالْكَوَاكِبِ وَالْقَمَر وَالشَّمْس .

التدبر :

وقفة
[131] ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قالها على الفور، دون تريث أو تفكير، فما أحلى أن نتعلَّم منه المسارعة في الخيرات، وعدم التردد لحظة في تنفيذ أمر الله!
تفاعل
[131] حين تقرأ قوله تعالى عن إبراهيم u: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ فقل كما قال إبراهيم u مستشعرًا ربوبية الله للعالمين.
وقفة
[131] ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ما الفرق بين: (أسلم إلى) و(أسلم لـ) في الدلالة؟ أسلم بمعنى انقاد وخضع ومنها الإسلام: الإنقياد، (أسلم إليه الشيء) معناه دفعه إليه أو أعطاه إليه بانقياد أو فوّض أمره إليه، من التوكل وهذا أشهر معنى، (أسلم لله) معناه انقاد له وجعل نفسه سالمًا له أي خالصًا لله، أخلص إليه، لما قالت ملكة سبأ: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44]، ووكذلك إبراهيم عليه السلام قال: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ خضعت له وجعلت نفسي خالصة له، لذلك قال القدامى: أسلم لله أعلى من أسلم إليه؛ لأنه لم يجعل معه لأحد شيء، كما أن أسلم إليه أي دفعه إليه قد يكون لم يصل، لكن سلَّم له اختصاص، واللام للملك (أسلم لله) ملَّك نفسه لله.

الإعراب :

  • ﴿ إِذْ:
  • اسم مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره: أذكر، أو ظرف للفعل «اصْطَفَيْناهُ».
  • ﴿ قالَ لَهُ رَبُّهُ:
  • قال: فعل ماض مبني على الفتح له: جار ومجرور متعلق بقال. ربه: فاعل مرفوع بالضمة. والهاء: ضمير متصل مبني على الضم في محل جر بالاضافة. وجملة «قالَ لَهُ رَبُّهُ» في محل جر بالاضافة لوقوعها بعد «إِذْ».
  • ﴿ أَسْلِمْ:
  • فعل أمر مبني على السكون والفاعل: ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت وجملة «أَسْلِمْ» في محل نصب مفعول به «مقول القول».
  • ﴿ قالَ أَسْلَمْتُ:
  • قال: فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره: هو. أسلمت: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك. التاء: ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل وجملة «أَسْلَمْتُ» في محل نصب مفعول به «مقول القول».
  • ﴿ لِرَبِّ الْعالَمِينَ:
  • جار ومجرور متعلق بأسلمت. العالمين: مضاف اليه مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والنون عوض عن التنوين في المفرد. '

المتشابهات :

البقرة: 131﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
الأنعام: 71﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
غافر: 66﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [131] لما قبلها :     وبعد الثناء على إبراهيم عليه السلام؛ بَيَّنَ اللهُ عز وجل هنا السبب، وهو: كمال استقامته التي رفعته إلى هذه المنزلة، قال تعالى:
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [132] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ..

التفسير :

[132] وحثَّ إبراهيمُ ويعقوبُ أبناءهما على الثبات على الإسلام قائلَيْن:يا أبناءنا إن الله اختار لكم هذا الدين -وهو دين الإسلام- فلا تفارقوه أيام حياتكم، ولا يأتكم الموت إلا وأنتم عليه.

ثم ورثه في ذريته, ووصاهم به, وجعلها كلمة باقية في عقبه, وتوارثت فيهم, حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه. فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصاكم أبوكم بالخصوص, فيجب عليكم كمال الانقياد, واتباع خاتم الأنبياء قال:{ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي:اختاره وتخيره لكم, رحمة بكم, وإحسانا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا بأخلاقه, حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه, لأن من عاش على شيء, مات عليه, ومن مات على شيء, بعث عليه.

وبعد أن بين الله- تعالى- أن إبراهيم- عليه السلام- كان كاملا في نفسه، أتبع ذلك ببيان أنه كان- أيضا- يعمل على تكميل غيره، ودعوته إلى توحيد الله تعالى. فقال- سبحانه-: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

الضمير في «بها» يعود إلى الملة ذكرت قبل ذلك في قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ والمعنى: ووصى إبراهيم بنيه باتباع ملته ويعقوب كذلك أوصى بنيه باتباعها، فقال كل منهما لأبنائه: يا بنى إن الله اصطفى لكم دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا سواه فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أى: فاثبتوا على الإسلام. واستقيموا على أمره حتى يدرككم الموت وأنتم مقيمون على هذا الدين الحنيف.

وقوله : ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ) أي : وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله [ أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله : ( أسلمت لرب العالمين ) ] . لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم ; كقوله تعالى : ( وجعلها كلمة باقية في عقبه ) [ الزخرف : 28 ] وقد قرأ بعض السلف " ويعقوب " بالنصب عطفا على بنيه ، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرا ذلك ، وقد ادعى القشيري ، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ; والظاهر ، والله أعلم ، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة ; لأن البشارة وقعت بهما في قوله : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) [ هود : 71 ] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض ، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة ، وأيضا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) [ الآية : 27 ] وقال في الآية الأخرى : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) [ الأنبياء : 72 ] وهذا يقتضي أنه وجد في حياته ، وأيضا فإنه باني بيت المقدس ، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة ، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول ؟ قال : " المسجد الحرام " ، قلت : ثم أي ؟ قال : " بيت المقدس " . قلت : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " الحديث . فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه وبين إبراهيم أربعين سنة ، وهذا مما أنكر على ابن حبان ، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين ، والله أعلم ، وأيضا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبا ، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين .

وقوله : ( يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) أي : أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه . فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات عليه . وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه . ومن نوى صالحا ثبت عليه . وهذا لا يعارض ما جاء ، في الحديث [ الصحيح ] " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " ; لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث : " فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس . وقد قال الله تعالى : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) [ الليل : 5 - 10 ] .

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ وَيَعْقُوب } / يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَوَصَّى بِهَا } وَوَصَّى بِهَذِهِ الْكَلِمَة ; أَعْنِي بِالْكَلِمَةِ قَوْله : { أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَهِيَ الْإِسْلَام الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ إخْلَاص الْعِبَادَة وَالتَّوْحِيد لِلَّهِ , وَخُضُوع الْقَلْب وَالْجَوَارِح لَهُ . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ } عَهِدَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ . وَأَمَّا قَوْله : { وَيَعْقُوب } فَإِنَّهُ يَعْنِي : وَوَصَّى بِذَلِكَ أَيْضًا يَعْقُوب بَنِيهِ . كَمَا : 1722 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ وَيَعْقُوب } يَقُول : وَوَصَّى بِهَا يَعْقُوب بَنِيهِ بَعْد إبْرَاهِيم . 1723 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ } وَصَّاهُمْ بِالْإِسْلَامِ , وَوَصَّى يَعْقُوب بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَقَالَ بَعْضهمْ : قَوْله : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ } خَبَر مُنْقِض , وَقَوْله : { وَيَعْقُوب } خَبَر مُبْتَدَأ , فَإِنَّهُ قَالَ : وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ بِأَنْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ , وَوَصَّى يَعْقُوب بَنِيهِ أَنَّ : { يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمْ الدِّين فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ; وَلِأَنَّ الَّذِي أَوْصَى بِهِ يَعْقُوب بَنِيهِ نَظِير الَّذِي أَوْصَى بِهِ إبْرَاهِيم بَنِيهِ مِنْ الْحَثّ عَلَى طَاعَة اللَّه وَالْخُضُوع لَهُ وَالْإِسْلَام . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَإِنْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفْت مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ وَيَعْقُوب أَنَّ يَا بَنِيَّ , فَمَا بَال " أَنَّ " مَحْذُوفَة مِنْ الْكَلَام ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْوَصِيَّة قَوْل فَحُمِلَتْ عَلَى مَعْنَاهَا , وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَاءَ بِلَفْظِ الْقَوْل لَمْ تَحْسُن مَعَهُ " أَنَّ " , وَإِنَّمَا كَانَ يُقَال : وَقَالَ إبْرَاهِيم لِبَنِيهِ وَيَعْقُوب : " يَا بَنِيَّ " , فَلَمَّا كَانَتْ الْوَصِيَّة قَوْلًا حُمِلَتْ عَلَى مَعْنَاهَا دُون قَوْلهَا , فَحُذِفَتْ " أَنَّ " الَّتِي تَحْسُن مَعَهَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْره : { يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ } 4 11 وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر : إنِّي سَأُبْدِي لَك فِيمَا أُبْدِي لِي شَجَنَانِ شَجَن بِنَجْدِ وَشَجَن لِي بِبِلَادِ السِّنْد فَحُذِفَتْ " أَنَّ " إذْ كَانَ الْإِبْدَاء بِاللِّسَانِ فِي الْمَعْنَى قَوْلًا , فَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ دُون لَفْظه . وَقَدْ قَالَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة : إنَّمَا حُذِفَتْ " أَنَّ " مِنْ قَوْله : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ وَيَعْقُوب } بِاكْتِفَاءِ النِّدَاء , يَعْنِي بِالنِّدَاءِ قَوْله : " يَا بَنِيَّ " , وَزَعَمَ أَنَّ عِلَّته فِي ذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَأْن الْعَرَب الِاكْتِفَاء بِالْأَدَوَاتِ عَنْ " أَنَّ " كَقَوْلِهِمْ : نَادَيْت هَلْ قُمْت ؟ وَنَادَيْت أَيْنَ زَيْد ؟ قَالَ : وَرُبَّمَا أَدْخَلُوهَا مَعَ الْأَدَوَات فَقَالُوا : نَادَيْت أَنْ هَلْ قُمْت ؟ وَقَدْ قَرَأَ عَهِدَ إلَيْهِمْ عَهْدًا بَعْد عَهْد , وَأَوْصَى وَصِيَّة بَعْد وَصِيَّة .

يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمْ الدِّين } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمْ الدِّين } إنَّ اللَّه اخْتَارَ لَكُمْ هَذَا الدِّين الَّذِي عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ وَاجْتَبَاهُ لَكُمْ . وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْأَلِف وَاللَّام فِي " الدِّين " , لِأَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا مِنْ وَلَدهمَا وَبَنِيهِمَا بِذَلِكَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوهُ بِوَصِيَّتِهِمَا إيَّاهُمْ بِهِ وَوَصِيَّتهمَا إلَيْهِمْ فِيهِ , ثُمَّ قَالَا لَهُمْ بَعْد أَنْ عَرَّفَاهُمُوهُ : إنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمْ هَذَا الدِّين الَّذِي قَدْ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ , فَاتَّقُوا اللَّه أَنْ تَمُوتُوا إلَّا وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ .

الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . إنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَوْ إلَى بَنِي آدَم الْمَوْت وَالْحَيَاة فَيَنْهَى أَحَدهمْ أَنْ يَمُوت إلَّا عَلَى حَالَة دُون حَالَة ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى غَيْر الْوَجْه الَّذِي ظَنَنْت , وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أَيْ فَلَا تُفَارِقُوا هَذَا الدِّين وَهُوَ الْإِسْلَام أَيَّام حَيَاتكُمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْرِي مَتَى تَأْتِيه مَنِيَّته , فَلِذَلِك قَالَا لَهُمْ : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } لِأَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَتَى تَأْتِيكُمْ مَنَايَاكُمْ مِنْ لَيْل أَوْ نَهَار , فَلَا تُفَارِقُوا الْإِسْلَام فَتَأْتِيكُمْ مَنَايَاكُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْر الدِّين الَّذِي اصْطَفَاهُ لَكُمْ رَبّكُمْ فَتَمُوتُوا وَرَبّكُمْ سَاخِط عَلَيْكُمْ فَتَهْلَكُوا .

التدبر :

وقفة
[132] أعظم وصية من الأب لابنه التمسك بالدين.
وقفة
[132] ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ مشروعية الوصية للذرية باتباع الهدى، وأخذ العهد عليهم بالتمسك بالحق والثبات عليه.
لمسة
[132] ما الفرق بين وصى وأوصى؟ (وصَّى) بالتشديد إذا كان أمر الوصية شديدًا ومهمًّا، ولذلك تستعمل في أمور الدين وفي الأمور المعنوية، مثل: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ومثل: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: ١٣١]، أما (أوصى) فتستعمل في الأمور المادية: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11].
وقفة
[132] وردت ﴿يَا بَنِيَّ﴾ ٣ مرات في سياق الأب الناصح، ووردت ﴿يا بُنيَّ﴾ ٦ مرات في سياقات مختلفة، بين يديك العِبَر.
وقفة
[132] من أجمل ما نضمنه وصايانا لأولادنا ومن يأتي بعدنا وصية إبراهيم u ومن بعده: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
وقفة
[132] ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ فقوموا به، واتصفوا بشرائعه، وانصبغوا بأخلاقه، حتى تستمروا على ذلك، فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه؛ لأن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
وقفة
[132] ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ الحياة على الإسلام نعمة، والموت على الإسلام توفيق.
وقفة
[132] ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ تأمين مستقبل الأبناء الحقيقي.
وقفة
[132] ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ إِن قلتَ: إِنَّ الموت ليس في قدرة الِإنسان حتَّى يُنهى عنه؟ قلتُ: النهيُ في الحقيقة، إِنما هو عن عدم إسلامهم حال موتهم، كقولك: لا تُصلِّ إِلَّا وأنتَ خاشعٌ، إِذِ النهيُ فيه إِنما هو عن ترك الخشوع حال صلاته، لا عن الصلاة، والنكتةُ في التعبير بذلك: إظهار أن موتهم لا على الِإسلام موتٌ لا خير فيه، وأن الصلاة التي لا خشوع فيها كـ (لا صلاة).
وقفة
[132] ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101] قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم.

الإعراب :

  • ﴿ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ:
  • الواو عاطفة وصّى: فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف للتعذر. بها: جار ومجرور متعلق بوصى. ابراهيم: فاعل مرفوع بالضمة.
  • ﴿ بَنِيهِ:
  • مفعول به منصوب بالياء لانه ملحق بجمع المذكر السالم وحذفت نون الاسم للاضافة. والهاء: ضمير متصل في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ:
  • الواو: عاطفة. يعقوب: معطوف على «إِبْراهِيمُ» مرفوع مثله بالضمة يا: أداة نداء بنيّ. اسم: منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء لانه ملحق بجمع المذكر السالم وحذفت نون الاسم للاضافة والياء ادغمت بياء المتكلم استعيض عنها بالتشديد، وهي ضمير متصل في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ إِنَّ اللَّهَ:
  • حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل الله: اسم «إِنَّ» منصوب للتعظيم بالفتحة و «إِنَّ» وما بعدها في محل نصب مفعول به لوصى بمعنى وقال.
  • ﴿ اصْطَفى لَكُمُ:
  • فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هو. والجملة الفعلية «اصْطَفى» في محل رفع خبر «إِنَّ». لكم: جار ومجرور متعلق باصطفى بمعنى اختار والميم علامة جمع الذكور والضمة الظاهرة على الميم للاشباع أو هي مضمومة على الأصل.
  • ﴿ الدِّينَ فَلا:
  • الدين: مفعول به منصوب بالفتحة. الفاء: استئنافية. لا: ناهيه جازمة.
  • ﴿ تَمُوتُنَّ:
  • فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه: حذف النون لأنه من الافعال الخمسة: حذفت الواو لالتقائها ساكنة مع نون التوكية الثقلية. وواو الجماعة المحذوفة: ضمير متصل في محل رفع فاعل.
  • ﴿ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ:
  • إلا: أداة حصر لا محل لها من الإعراب. الواو: حالية. انتم: ضمير رفع منفصل في محل رفع مبتدأ. مسلمون: خبر «أَنْتُمْ» مرفوع بالواو لانه جمع مذكر سالم- والنون: عوض عن التنوين والحركة في الاسم المفرد والجملة الاسمية «أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» في محل نصب حال.
  • ﴿

المتشابهات :

البقرة: 132﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَـ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
آل عمران: 102﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [132] لما قبلها :     وبعد بيان أن دين إبراهيم هو الإسلام؛ ذكر الله عز وجل هنا وصية إبراهيم عليه السلام لبنِيهِ، وكذلك وصيةُ يعقوبَ عليه السلام لبنِيهِ بالتمسُّكِ بالإسلامِ دينِ جميعِ الأنبياءِ، (وهذا رد على أهل الكتاب الذين قالوا إن إبراهيم عليه السلام ومن بعده من أبنائه كانو
﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ

القراءات :

ووصى:
قرئ:
1- وأوصى، وهى قراءة نافع، وابن عامر.
2- ووصى، وهى قراءة الباقين.
ويعقوب:
قرئ:
1- بالرفع، وهى قراءة الجمهور، ويعقوب، وهذا إما بالعطف على «إبراهيم» ، ويكون داخلا فى حكم توصية بنيه، وإما على الابتداء وخبره محذوف، والأول أظهر.
2- بالنصب، وهى قراءة إسماعيل بن عبد الله المكي، والضرير، وعمرو بن قائد الأسوارى، ويكون عطفا على «بنيه» .

مدارسة الآية : [133] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ ..

التفسير :

[133] أكنتم -أيها اليهود- حاضرين حين جاء الموتُ يعقوبَ، إذ جمع أبناءه وسألهم:ما تعبدون من بعد موتي؟ قالوا:نعبد إلٰهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلٰهاً واحداً، ونحن له منقادون خاضعون.

ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم:{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} أي:حضورا{ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي:مقدماته وأسبابه، فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به:{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} ؟ فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا:{ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} فلا نشرك به شيئا, ولا نعدل به أحدا،{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فجمعوا بين التوحيد والعمل. ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.

ثم أنكر القرآن الكريم على اليهود افتراءهم على يعقوب وزعمهم أنه كان على اليهودية التي أقاموا عليها تاركين دين الإسلام فقال تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي.

روى أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية، فنزلت هذه الآية الكريمة .

والمعنى: ما كنتم- يا معشر اليهود- حاضرين وقت أن أشرف يعقوب على الموت، ووقت أن قال لبنيه حينئذ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي فكيف تدعون أنه كان على اليهودية التي أنتم عليها وأنه أوصى بها بنيه؟ ومراد يعقوب- عليه السلام- من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بالثبات على ملة أبيهم إبراهيم من بعده، لكي يسعدوا في دنياهم وأخراهم، وقد أجابوه بما يدل على رسوخ إيمانهم إذ قالوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.

وهذا الجواب يتضمن أنهم متمسكون بملة إبراهيم- عليه السلام- وهي ملة لا تثليث فيها ولا تشبيه بمخلوق، وإنما هي إفراد لله- تعالى- بالعبودية والاستسلام له بالخضوع والانقياد.

يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل ، وعلى الكفار من بني إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له ، فقال لهم : ( ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه .

قال النحاس : والعرب تسمي العم أبا ، نقله القرطبي ; وقد استدل بهذه الآية من جعل الجد أبا وحجب به الإخوة ، كما هو قول الصديق . حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير ، ثم قال البخاري : ولم يختلف عليه ، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين ، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء ، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف ; وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة ; وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف ، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي : أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، ولتقريرها موضع آخر .

وقوله : ( إلها واحدا ) أي : نوحده بالألوهية ، ولا نشرك به شيئا غيره ( ونحن له مسلمون ) أي : مطيعون خاضعون كما قال تعالى : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) [ آل عمران : 83 ] وسلم والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] . والآيات في هذا كثيرة والأحاديث ، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد .

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاء إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاء } أَكُنْتُمْ , وَلَكِنَّهُ اسْتَفْهَمَ ب " أَمْ " إذْ كَانَ اسْتِفْهَامًا مُسْتَأْنَفًا عَلَى كَلَام قَدْ سَبَقَهُ , كَمَا قِيلَ : { ألم تَنْزِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } , 32 1 : 3 وَكَذَلِكَ تَفْعَل الْعَرَب فِي كُلّ اسْتِفْهَام ابْتَدَأَتْهُ بَعْد كَلَام قَدْ سَبَقَهُ تَسْتَفْهِم فِيهِ ب " أَمْ " , وَالشُّهَدَاء جَمْع شَهِيد كَمَا الشُّرَكَاء جَمْع شَرِيك , وَالْخُصَمَاء جَمْع خَصِيم . وَتَأْوِيل الْكَلَام : أَكُنْتُمْ يَا مَعْشَر الْيَهُود وَالنَّصَارَى الْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , الْجَاحِدِينَ نُبُوَّته , حُضُور يَعْقُوب وَشُهُوده إذْ حَضَرَهُ الْمَوْت , أَيْ أَنَّكُمْ لَمْ تَحْضُرُوا ذَلِكَ . فَلَا تَدَّعُوا عَلَى أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي الْأَبَاطِيل , وَتَنْحَلُوهُمْ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة , فَإِنِّي ابْتَعَثْت خَلِيلِي إبْرَاهِيم وَوَلَده إسْحَاق وَإِسْمَاعِيل وَذُرِّيَّتهمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ الْمُسْلِمَة , وَبِذَلِكَ وَصُّوا بَنِيهِمْ وَبِهِ عَهِدُوا إلَى أَوْلَادهمْ مِنْ بَعْدهمْ , فَلَوْ حَضَرْتُمُوهُمْ فَسَمِعْتُمْ مِنْهُمْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ عَلَى غَيْر مَا تَنْحَلُوهُمْ مِنْ الْأَدْيَان وَالْمِلَل مِنْ بَعْدهمْ . وَهَذِهِ آيَات نَزَلَتْ تَكْذِيبًا مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ فِي إبْرَاهِيم وَوَلَده يَعْقُوب أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّتهمْ , فَقَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَة : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاء إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } فَتَعْلَمُوا مَا قَالَ لِوَلَدِهِ وَقَالَ لَهُ وَلَده . ثُمَّ أَعْلَمهُمْ مَا قَالَ لَهُمْ وَمَا قَالُوا لَهُ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1724 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع قَوْله : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاء } يَعْنِي أَهْل الْكِتَاب .

إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُد إلَهك وَإِلَه آبَاءَك إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إذْ قَالَ لِبَنِيهِ } إذْ قَالَ يَعْقُوب لِبَنِيهِ . و " إذْ " هَذِهِ مُكَرَّرَة إبْدَالًا مِنْ " إذْ " الْأُولَى بِمَعْنَى : أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاء يَعْقُوب إذْ قَالَ يَعْقُوب لِبَنِيهِ حِين حُضُور مَوْته . وَمَعْنِيّ بِقَوْلِهِ : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } أَيْ شَيْء تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي , أَيْ مِنْ بَعْد وَفَاتِي . { قَالُوا نَعْبُد إلَهك } يَعْنِي بِهِ : قَالَ بَنُوهُ لَهُ : نَعْبُد مَعْبُودك الَّذِي تَعْبُدهُ , وَمَعْبُود آبَائِك إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إلَهًا وَاحِدًا , أَيْ نُخْلِص لَهُ الْعِبَادَة وَنُوَحِّد لَهُ الرُّبُوبِيَّة فَلَا نُشْرِك بِهِ شَيْئًا وَلَا نَتَّخِذ دُونه رَبًّا . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } وَنَحْنُ لَهُ خَاضِعُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَة . وَيَحْتَمِل قَوْله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الْحَال , كَأَنَّهُمْ قَالُوا : نَعْبُد إلَهك مُسْلِمِينَ لَهُ بِطَاعَتِنَا وَعِبَادَتنَا إيَّاهُ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا , فَيَكُون بِمَعْنَى : نَعْبُد إلَهك بَعْدك , وَنَحْنُ لَهُ الْآن وَفِي كُلّ حَال مُسْلِمُونَ . وَأَحْسَن هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَأْوِيل ذَلِكَ أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْحَال , وَأَنْ يَكُون بِمَعْنَى : نَعْبُد إلَهك وَإِلَه آبَائِك إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق مُسْلِمِينَ لِعِبَادَتِهِ . وَقِيلَ : إنَّمَا قَدَّمَ ذِكْر إسْمَاعِيل عَلَى إسْحَاق لِأَنَّ إسْمَاعِيل كَانَ أَسَنّ مِنْ إسْحَاق . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1725 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { قَالُوا نَعْبُد إلَهك وَإِلَه آبَائِك إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق } قَالَ : يُقَال بَدَأَ بِإِسْمَاعِيل لِأَنَّهُ أَكْبَر . وَقَرَأَ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ : " وَإِلَه أَبِيك إبْرَاهِيم " ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ إسْمَاعِيل إذْ كَانَ عَمًّا لِيَعْقُوب , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون فِيمَنْ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ الْآبَاء وَدَاخِلًا فِي عِدَادهمْ . وَذَلِكَ مِنْ قَارِئِهِ كَذَلِكَ قِلَّة عِلْم مِنْهُ بِمَجَارِي كَلَام الْعَرَب . وَالْعَرَب لَا تَمْتَنِع مِنْ أَنْ تَجْعَل الْأَعْمَام بِمَعْنَى الْآبَاء , وَالْأَخْوَال بِمَعْنَى الْأُمَّهَات , فَلِذَلِك دَخَلَ إسْمَاعِيل فِيمَنْ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ الْآبَاء . وَإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق تَرْجَمَة عَنْ الْآبَاء فِي مَوْضِع جَرّ , وَلَكِنَّهُمْ نَصَبُوا بِأَنَّهُمْ لَا يَجُرُّونَ . وَالصَّوَاب مِنْ الْقِرَاءَة عِنْدنَا فِي ذَلِكَ : { وَإِلَه آبَائِك } لِإِجْمَاعِ الْقُرَّاء عَلَى تَصْوِيب ذَلِكَ وَشُذُوذ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ الْقُرَّاء مِمَّنْ قَرَأَ خِلَاف ذَلِكَ , وَنُصِبَ قَوْله إلَهًا عَلَى الْحَال مِنْ قَوْله إلَهك .

المعاني :

لم يذكر المصنف هنا شيء

التدبر :

وقفة
[133] ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ سألهم عن ميراث الدين لا الدنيا !
وقفة
[133] ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ مشروعك الذي تعيش من أجله ستظهر بصماته في لحظاتك الأخيرة.
وقفة
[133] ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ كان يطمئنُّ على أعظم اهتماماته: مستقبل التوحيد في قلوبهم.
وقفة
[133] آية في سورة البقرة أدرج فيها العم ضمن الآباء، فما هي؟ هي قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، قال ابن كثير رحمه الله: وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عم يعقوب.
وقفة
[133] ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ أوجاع الموت لا تُشغل عن هموم التربية.
وقفة
[133] ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ سكرات الموت لم تنسه الدعوة للتوحيد.
وقفة
[133] ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ لله در هذه النفوس الكبيرة التي تظل تعطي حتى آخر قطرة من إناء الحياة!
وقفة
[133] ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ فى مرض الموت، والأولاد كبار، وفيهم من هو نبي، ولا زال هم التربية وترسيخ العقيدة مستمرًا!
وقفة
[133] ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ علم أبناءك التوحيد؛ وهو يحفظهم (بعدك) بإذن الله.
عمل
[133] ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ تفقد سلامة العقيدة دائمًا في نفوس أبنائك، وكن سدًّا منيعًا لهم من الانحرافات الفكرية.
وقفة
[133] ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ﴾، ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي﴾ [يوسف: 38]، ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]، قوة التأثر والالتزام بما عليه الآباء والأجداد حقيقة غالبة وأمر لا ينكر، فالهداية تتوارث فطرة، والضلال يورثه التعصب، لذا لا بد أن يعي الآباء ذلك، فكيفما تحب أن يكون أبناؤك وأحفادك فكن: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: 82].
وقفة
[133] ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ﴾ ما ألطف جوابهم على أبيهم! أثنوا عليه بالتوحيد وبروه بالثناء على آبائه أيضًا, كان يكفي أن يقولوا: (نعبد الله) فقط.
وقفة
[133] ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ﴾ قال ابن عباس: «الجد أب».

الإعراب :

  • ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ:
  • أم: حرف عطف وهي «أَمْ» المتصلة لانها مسبوقة بجملة مقدرة اي اتدعون أم كنتم شهداء، بتقدير، أكنتم غائبين أم كنتم حاضرين كنتم: فعل ماض ناقص مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك والتاء ضمير متصل في محل رفع اسم «كان» والميم علامة جمع الذكور. شهداء: خبر «كان» منصوب بالفتحة ولم ينون لانه ممنوع من الصرف على وزن- فعلاء بمعنى حاضرين.
  • ﴿ إِذْ حَضَرَ:
  • : إذ: بمعنى «حين» وهي ظرف مكان مبني على السكون في محل نصب متعلق بكنتم. حضر: فعل ماض مبني على الفتح.
  • ﴿ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ
  • مفعول به مقدم منصوب بالفتحة. الموت: فاعل مرفوع بالضمة. وجملة «حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ» في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ: إذ:
  • اسم مبني على السكون في محل نصب بدل من المبدل منه «يَعْقُوبَ» وهو مضاف. قال: فعل ماض مبني على الفتح والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره هو. لبنيه: جار ومجرور متعلق بقال، و «بنيه» إسم مجرور باللام وعلامة جرّه الياء لانه ملحق بجمع المذكر السالم وحذفت نون الاسم للاضافة، والهاء: ضمير متصل مبني على الكسر في محل جر بالاضافة. ويجوز أن تكون «أَمْ» منقطعة، والهمزة تفيد الانكار. بمعنى ما كنتم شهداء أي ما كنتم حاضرين وجملة «قالَ لِبَنِيهِ» في محل جر مضاف اليه لوقوعها بعد «إِذْ».
  • ﴿ ما تَعْبُدُونَ:
  • ما: اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. تعبدون: «تَعْبُدُونَ» فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لانه من الافعال الخمسة. والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. والألف فارقة
  • ﴿ مِنْ بَعْدِي قالُوا:
  • جار ومجرور متعلق بتعبدون. والياء: ضمير متصل في محل جر بالاضافة. وجملة «ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي» في محل نصب مفعول به «مقول القول». قالوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة.
  • ﴿ نَعْبُدُ إِلهَكَ:
  • نعبد: فعل مضارع مرفوع بالضمة. والفاعل: ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن. إلهك: مفعول به منصوب بالفتحة، والكاف: ضمير مبني على الفتح في محل جر بالاضافة. وجملة «نَعْبُدُ إِلهَكَ» في محل نصب مفعول به «مقول القول».
  • ﴿ وَإِلهَ آبائِكَ:
  • الواو: عاطفة. إله: معطوف على «إِلهَكَ» منصوب بالفتح مثله. آبائك: مضاف اليه مجرور بالاضافة وعلامة جرّه الكسرة. والكاف: ضمير متصل مبني على الفتح في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ إِبْراهِيمَ:
  • عطف بيان أو بدل من «آبائِكَ» مجرور بالفتحة بدلا من الكسرة لانه ممنوع من الصرف للعجمة والعلمية.
  • ﴿ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ:
  • الاسمان معطوفان بواوي العطف على «إِبْراهِيمَ» ويعربان إعرابه.
  • ﴿ إِلهاً واحِداً:
  • إله: بدل من المبدل منه «إِلهَ آبائِكَ» منصوب بالفتحة ويجوز أن يكون حالا من إلهك. واحدا: صفة أو توكيد «لإلها» منصوب بالفتحة.
  • ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ:
  • الواو: حالية. نحن: ضمير رفع منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. له: جار ومجرور متعلق بخبر المبتدأ. مسلمون خبر نحن مرفوع بالواو لانه جمع مذكر سالم والنون: عوض عن تنوين الاسم المفرد، والجملة الاسمية «نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» في محل نصب حال من فاعل «نَعْبُدُ» أو من مفعوله لرجوع الهاء اليه. '

المتشابهات :

يوسف: 38﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ
ص: 45﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ

أسباب النزول :

  • قال الواحدي: نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى الله وسلم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فنزلت. قلت: ذكره مقاتل بن سليمان بلفظه وذكره الواحدي في "الوسيط" أيضا وزاد {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى لم يقبض نبيا حتى يخيره بين الموت والحياة فلما حضرت وفاة يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله به ذلك، فجمع ولده وهم اثنا عشر رجلا وجمع أولادهم وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَه آبَائِك} إلى آخر الآية وذلك قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْت} الآية. كذا ذكره بغير سند وذكر نحوه الثعلبي عن عطاء وقال أيضا: "قال الكلبي: لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران فجمع ولده وخاف عليهم فقال: ما تعبدون من بعدي؟ ". وقال ابن ظفر: "قيل: إن سبب نزولها أن اليهود اعتذروا عن امتناعهم من الإسلام بأن يعقوب أوصى الأسباط عندما حضره الموت بأن لا يبتغوا بملة اليهود بدلا فنزلت {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاء} . '
  • المصدر المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [133] لما قبلها :     ولَمَّا قرَّر اللهُ عز وجل لليهود والنَّصَارى أنَّ أباهم يعقوبَ ممَّن أوصى بنيه بالإسلام؛ وبخهم هنا، فقال تعالى:
﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

القراءات :

وإله آبائك إبراهيم:
هذه قراءة الجمهور.
وقرئ:
1- وإله إبراهيم، بإسقاط «آبائك» ، وهى قراءة أبى.
2- وإله أبيك، وهى قراءة ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وأبى رجاء.

مدارسة الآية : [134] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا ..

التفسير :

[134] تلك أُمَّة من أسلافكم قد مضَتْ، لهم أعمالهم، ولكم أعمالكم، ولا تُسْألون عن أعمالهم، وهم لا يُسْألون عن أعمالكم، وكلٌّ سيجازى بما فعله، لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، ولا ينفع أحداً إلا إيمانُه وتقواه.

ثم قال تعالى:{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي:مضت{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي:كل له عمله, وكل سيجازى بما فعله, لا يؤخذ أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم, أنكم على ملتهم, والرضا بمجرد القول, أمر فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم, أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها, هل تصلح للنجاة أم لا؟

ثم حذر الله- تعالى- أهل الكتاب من ترك طاعته اتكالا على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين فقال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.

الإشارة (بتلك) إلى إبراهيم وبنيه، أى أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر، ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم في الدنيا فلا يقال لكم على وجه المحاسبة لم عملوا كذا وإنما ستسألون عن أعمالكم وحدها فأصلحوها وحسنوها، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي هو دعوة إبراهيم- عليه السلام- وعلى دينه وملته.

فالآية الكريمة واردة لتقرير سنة من سنن الله العامة في خلقه وهي أن لكل نفس وحدها ثواب ما كسبت من خير وعليها وحدها يقع عقاب ما اكتسبت من شر. وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت بوضوح لبنى إسرائيل وغيرهم أن ملة إبراهيم الإسلام وأنه هو ويعقوب- عليهما السلام- قد أوصيا أبناءهما بأن يثبتوا على هذه الملة حتى الموت، وأن أبناء يعقوب قد عاهدوه عند موته أن يستمروا على ملته وملة إبراهيم عليهما السلام.

وهذا الذي بينته الآيات الكريمة يطابق ما دعاهم إليه محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو الإيمان بالله- تعالى- وتصديق رسوله واتباع تعاليم الإسلام.

وفي القرآن الكريم آيات أخرى صرحت بأن الإسلام اسم للدين الذي دعا اليه كل الأنبياء، وانتسب إليه أتباعهم، فنوح قال لقومه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .

وموسى قال لقومه: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ والحواريون قالوا لعيسى- عليه السلام-: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .

بل إن فريقا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن أشرقت قلوبهم لدعوته وقالوا: آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ .

وإلى هنا نكون قد ذكرنا بعض الآيات الكريمة التي أرشدت إلى أن ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم يطابق ما جاء به الأنبياء السابقون، فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوا، لأن كفرهم به كفر بجميع الرسل السابقين.

وقبل أن نختم هذا الموضوع ننبه إلى مسألة مهمة. وهي أن ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم يطابق- كما قلنا- ما جاء به الأنبياء قبله في أصول الدين وكلياته كتوحيد الله- تعالى- واختصاصه بالعبادة، وتصديق الأنبياء السابقين فيما أتوا به عن الله- تعالى- والإيمان بالبعث وما يكون فيه من نعيم وعذاب والحض على مكارم الأخلاق، أما ما عدا ذلك مما يتعلق بتفاصيل العبادات وأحكام المعاملات فإن الشرائع تختلف فيه بوجه عام حسب ما يتناسب وحالة الأمة التي بعث الله لها رسولا من لدنه كما قال تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً.

ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية بما لم يكن موجودا في الشرائع السابقة، ومن مظاهر ذلك أن القرآن الكريم أعلن للناس، أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم من مميزات شريعته أنها أحلت للناس كل الطيبات وحرمت عليهم كل الخبائث ووضعت عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وشرعت لهم أمورا تتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم امتازت باليسر والتخفيف.

ويعجبني في هذا المقام قول فضيلة أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز: (يجب أن يفهم- أن تعديل الشريعة المتأخرة للمتقدمة- ليس نقضا لها، وإنما وقوفا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر.

مثل ذلك كمثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته، فقصر غذاءه على اللبن، وجاء الثاني من مرحلته التالية فقرر له طعاما لينا، وطعاما نشويا خفيفا، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأمر له بغذاء قوى كامل.

لا ريب أن هاهنا اعترافا ضمنيا من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقا كل التوفيق في علاج الحالة التي عرضت عليه، نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها، لا تختلف باختلاف الأسنان فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين.

هكذا الشرائع السماوية، كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها، وكلها يصدق بعضها بعضا من ألفها إلى يائها، ولكن هذا التصديق على ضربين.

تصديق للقديم مع الإذن ببقائه واستمراره، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية، ذلك أن التشريعات السماوية تحتوى على نوعين من التشريعات.

(تشريعات خالدة) لا تتبدل بتبديل الأصقاع والأوضاع (كالوصايا التسع ونحوها) .

و (تشريعات موقوتة) بآجال طويلة أو قصيرة، فهذه تنتهي بانتهاء وقتها. وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة.

فشريعة التوراة- مثلا- عنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك (لا تقتل) .

(لا تسرق) فطابعها البارز تحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة.

وشريعة الإنجيل تجيء بعدها فتقرر هذه الأمور، ثم تترقى فتزيد آدابا مكملة (أحسن إلى من أساء إليك) .

وأخيرا تجيء شريعة القرآن فتراها تقرر كلا المبدأين في نسق واحد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.

هكذا كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة، ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع. وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أن أكملت البنيان وملأت ما بقي فيه من فراغ وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء.

وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير فقال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» «1» .

وبذلك يتبين لنا أن مطابقة الشريعة الإسلامية لغيرها من الشرائع السابقة إنما هي في الأصول والكليات، لا في الفروع والجزئيات.

ثم حكى القرآن بعد ذلك لونا من ألوان مزاعم أهل الكتاب ورد عليها بما يبطلها فقال:

وقوله تعالى : ( تلك أمة قد خلت ) أي : مضت ( لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ) أي : إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم ، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم : ( ولا تسألون عما كانوا يعملون )

وقال أبو العالية ، والربيع ، وقتادة : ( تلك أمة قد خلت ) يعني : إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط [ ولهذا جاء ، في الأثر : من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ } إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَوَلَدهمْ . يَقُول لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : يَا مَعْشَر الْيَهُود وَالنَّصَارَى دَعَوْا ذِكْر إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْلَادهمْ بِغَيْرِ مَا هُمْ أَهْله وَلَا تَنْحَلُوهُمْ كُفْر الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة فَتُضِيفُوهَا إلَيْهِمْ , فَإِنَّهُمْ أُمَّة - وَيَعْنِي بِالْأُمَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِع الْجَمَاعَة , وَالْقَرْن مِنْ النَّاس - قَدْ خَلَتْ : مَضَتْ لِسَبِيلِهَا . وَإِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي قَدْ مَاتَ فَذَهَبَ : قَدْ خَلَا , لِتَخَلِّيهِ مِنْ الدُّنْيَا , وَانْفِرَاده بِمَا كَانَ مِنْ الْأُنْس بِأَهْلِهِ وَقُرَنَائِهِ فِي دُنْيَاهُ , وَأَصْله مِنْ قَوْلهمْ : خَلَا الرَّجُل , إذَا صَارَ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا أَنِيس لَهُ فِيهِ وَانْفَرَدَ مِنْ النَّاس , فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي الَّذِي يَمُوت عَلَى ذَلِكَ الْوَجْه . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْره لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : إنَّ لِمَنْ نَحَلْتُمُوهُ بِضَلَالِكُمْ وَكُفْركُمْ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي مَا كَسَبَتْ . وَالْهَاء وَالْأَلِف فِي قَوْله : { لَهَا } عَائِدَة إنْ شِئْت عَلَى " تِلْكَ " , وَإِنْ شِئْت عَلَى " الْأُمَّة " . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أَيْ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر , وَلَكُمْ يَا مَعْشَر الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِثْل ذَلِكَ مَا عَمِلْتُمْ . وَلَا تُؤَاخَذُونَ أَنْتُمْ أَيّهَا النَّاحِلُونَ مَا نَحَلْتُمُوهُمْ مِنْ الْمِلَل , فَسَأَلُوا عَمَّا كَانَ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَوَلَدهمْ يَعْمَلُونَ فَيَكْسِبُونَ مِنْ خَيْر وَشَرّ ; لِأَنَّ لِكُلِّ نَفْس مَا كَسَبَتْ , وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ . فَدَعَوْا انْتِحَالهمْ وَانْتِحَال مِلَلهمْ , فَإِنَّ الدَّعَاوَى غَيْر مُغْنِيَتكُمْ عِنْد اللَّه , وَإِنَّمَا يُغْنِي عَنْكُمْ عِنْده مَا سَلَف لَكُمْ مِنْ صَالِح أَعْمَالكُمْ إنْ كُنْتُمْ عَمِلْتُمُوهَا وَقَدَّمْتُمُوهَا .

التدبر :

وقفة
[134] الافتخار بالآباء طريقة الجهلاء إن لم يتبع هذا الفخر عمل واقتداء.
وقفة
[134] ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ ذكَرها مع أَنَّ مضمونَها معلومٌ لِكل مميِّز، للتنبيه على عِظَم العصيان واجتنابه، كما أنَّ قوله ﴿لكُمْ دينكُم وليَ دين﴾ [الكافرون: 6] ذُكر مع أنه معلومٌ، للتنبيه على أن الكفر ممَّا يعود بسوء العاقبة عليهم، وكرَّرها مبالغة في النصح، أو لأن (الأمَّة) في الأولى للأنبياء، وفي الثانية لأسلاف اليهود والنصارى، أو لأن الخطاب في الأولى لهم، وفي الثانية؛ لنا تحذيرًا عن الِإقتداء بهم.
وقفة
[134] ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ﴾ قال الرازي: «يدل على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء، ولا يعذبون على ذنوبهم».
وقفة
[134] ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ﴾ جعلها كالأموال وككسب الإنسان.
وقفة
[134] ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ما ينفع صلاح الآباء إن فسد الأبناء؟! وهل أغنى نبي الله نوح عن ابنه شيئًا؟!
وقفة
[134] قال إبراهيم بن آزر الفقيه: «حضرت أحمد بن حنبل، وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله، هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه، فقال: اقرأ: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾».
عمل
[134] ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ إنْ أحْرقَ تتبع زلَّات الآخرين قلبَك؛ فاستدعِ فِرَق الإطفاء بهذه الآيـة.
عمل
[134] داوِ مراقبة الناس بـ: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، واليأس بـ: ﴿قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: 9]، وألم فوت الفرصة بـ: ﴿عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا﴾ [القلم: 32].

الإعراب :

  • ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ: تلك:
  • إسم إشارة مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. أمة: خبر «تِلْكَ» مرفوع بالضمة» الظاهرة.
  • ﴿ قَدْ خَلَتْ:
  • قد: حرف تحقيق. خلت: فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هي والتاء: تاء التأنيث الساكنة وجملة «خَلَتْ» في محل رفع صفة لأمة.
  • ﴿ لَها ما كَسَبَتْ:
  • لها: جار ومجرور متعلق بخبر مقدم. ما: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. كسبت: فعل ماض مبني على الفتح والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هي. والتاء: تاء التأنيث الساكنة وجملة «كَسَبَتْ» صلة الموصول لا محل لها والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لانه مفعول به. التقدير: ما كسبته.
  • ﴿ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ:
  • الواو: عاطفة. لكم: جار ومجرور معطوف على «لَها» ويعرب إعرابها. والميم: علامة جمع الذكور. ما كسبتم: معطوفة على «كَسَبَتْ» تعرب إعرابها. والفعل مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك. التاء: ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل والميم: علامة جمع المذكرين.
  • ﴿ وَلا تُسْئَلُونَ:
  • الواو: استئنافية. لا: نافية لا عمل لها. تسألون: فعل مضارع مبني للمجهول، مرفوع بثبوت النون لانه من الافعال الخمسة. الواو: ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل.
  • ﴿ عَمَّا كانُوا:
  • عما: جار ومجرور متعلق بتسألون وهي مركبة من «عن» و «ما» اسم الموصول المبني على السكون في محل جر بعن. كانوا: فعل ماض ناقص مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو: ضمير متصل في محل رفع اسم «كان» والألف فارقة. • يَعْمَلُونَ: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لانه من الافعال الخمسة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل، الجملة الفعلية «يَعْمَلُونَ» في محل نصب خبر «كان» وجملة «كانُوا» صلة الموصول لا محل لها والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لانه مفعول به التقدير: يعملونه ويجوز أن تكون «ما» مصدرية أي عملهم. '

المتشابهات :

البقرة: 134﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
البقرة: 141﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
الحجر: 93﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [134] لما قبلها :     وبعد توبيخ اليهود والنَّصَارى؛ حَذَّرَهم اللهُ عز وجل هنا من ترك طاعته؛ اتكالًا على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين، أي: دَعُوا ذِكر الآباء والأجداد؛ إذ لا يَنفعُكم الانتسابُ إليهم وإلى أعمالهم الصالِحة، فخيرُهم لا ينفعُكم إنْ كسبتم شرًّا؛ فإنَّهم ج
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

فهرس المصحف

البحث بالسورة

البحث بالصفحة

البحث في المصحف