ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
وللمزيدِ من الكشفِ عن طبيعةِ المنافقينَ ضربَ اللهُ في هذه الآياتِ مَثَلينِ لبيانِ حالِهم مَع الوحي: الأولُ ناريٌّ (مَنْ استوقدَ نارًا)، والثاني مائيٌّ (الصَيِّبُ وهو المطرُ الشديدُ).
بعدَ ذكرِ أقسامِ النَّاسِ الثلاثةِ أمرَهم اللهُ هنا بعبادتِه، ودعاهم للنظرِ في بعضِ نِعَمِهِ تعالى للإيمانِ به وحده، وأنَّهم لم ولن يستطيعوا أن يأتوا بسورةٍ مثلَ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ.
التفسير :
أي:مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا، أي:كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فذهب عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة:ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار [وبئس القرار].
وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين في الآيات السابقة ، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم ، وشدة حيرتهم واضطرابهم . فقال تعالى :
( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . . )
قوله تعالى : ( مَثَلُهُمْ ) أي : صفتهم ، وأصل المثل بمعنى المثل - بكسر الميم وسكون الثاء - والمثل النظير والشبيه ، ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذي يضرب فيه - لمورده الذي ورد فيه أولا ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شان عجيب وفيها غرابة ، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية ، وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفي وتقريب المعقول من المحسوس ، وعرض الغائب في صورة الشاهد ، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس .
واستوقد النار : طلب وقودها بسطوع نارها واندلاع لهيبا ، أو أوقدها لأن أوقد واستوقد قد يكونان بمعنى واحد كأجاب واستجاب .
والنار : جوهر لطيف حار محرق من نار ينور إذا نفر لحركتها واضطرابها ، وأضاءت ما حوله ، جعلت ما حوله مضئياً ، أو أشرقت فيما حوله . وحول الشيء : ما يحيط به من جميع نواحيه ، ولذا قيل للعام حول ، للفه ودورانه حتى يعود كما كان .
والنور : الضوء الذي يكون للشيء المضيء ، وهو مأخوذ من النار .
ومعنى : ( ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ ) سلبه منهم ، وفي إسناد ذهب إلى الله تعالى - إشعار بأن النور الذي سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم ، لأن الذي سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره .
وقال ( بِنُورِهِمْ ) ولم يقل بنارهم ، لأن إيقاد النار يكون للإِضاءة وللإِحراق والمقصود من إيقاد النار الواردة في المثل إنما هو الإِضاءة .
وقال ( بِنُورِهِمْ ) ولم يقل بنوره ، مع أن الضمير يعود ( الذي استوقد ) وهو بحسب الظاهر مفرد ، لأن ( الذي ) قد يطلق أحيانا قد يطلق بمعنى الذين ، كما في قوله تعالى : ( وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا ) أو لأن ( الذي ) أريد منه جنس المستوقد ، لا مستوقد بعينه ، فصار في معنى جماعة من المستوقدين . وصح أن يعود عليه ضمير الجمع في قوله ( بِنُورِهِمْ ) لذلك .
وأورد الظلمات بصيغة الجمع للمبالغة في شدتها ، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض ، وأكد هذا بقوله ( لاَّ يُبْصِرُونَ ) أي : أن هذه الظلمات بالغة في الشدة حتى أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم أن يبصروا ، كما أن الشأن كذلك بالنسبة للذين طمس على أعينهم .
وعبر - سبحانه - بقوله : ( وَتَرَكَهُمْ ) ولم يقل : ذهب بنورهم وبقوا في ظلمات ، ليدل بذلك على قطع الصلة بينهم وبين ربهم ، وأنهم متروكون غضباً عليهم ونكاية بهم .
هذا ، وللعلماء رأيان في تطبيق هذا المثل على المنافقين ، أما الرأي الأول فيرى أصحابه ، أن هذا المثل قد ضرب في قوم دخلوا في الإِسلام عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الكفر والنفاق فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء المنافقين الذين اكتسبوا بإيمانهم نوراً ، ثم أبطلوا ذلك بنفاقهم ، ووقعوا في حيرة عظيمة ، كقصة من استوقدوا ناراً؛ فلما أضاءت ما حولهم ، سلب الله منهم الضوء فراحوا في ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلا .
وأما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن هذا المثل إنما ضرب في قوم لم يسبق لهم إيمان وإنما دخلوا في الإسلام من أول أمرهم نفاقاً ، فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء الذين دخلوا في الإِسلام نفاقاً ، فظفروا بحقن دمائهم وبغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين ، وتمتعوا بذلك في الدنيا قليلا ثم صاروا إلى ظلمات العذاب الدائم في الآخرة - قصة هؤلاء كقصة من استوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها ، فأضاءت ما حولهم قليلا ، ثم طفئت وصاروا إلى ظلمة شديدة مطبقة .
[ يقال : مثل ومثل ومثيل - أيضا - والجمع أمثال ، قال الله تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) [ العنكبوت : 43 ] .
وتقدير هذا المثل : أن الله سبحانه ، شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى ، بمن استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع ذلك أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى ، واستحبابهم الغي على الرشد . وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع ، والله أعلم .
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) [ البقرة : 8 ] .
والصواب : أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير - رحمه الله - هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ) [ المنافقون : 3 ] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير ] هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة .
قال : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال : ( رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) [ الأحزاب : 19 ] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ لقمان : 28 ] وقال تعالى : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) [ الجمعة : 5 ] ، وقال بعضهم : تقدير الكلام : مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا . وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه . وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع ، في قوله تعالى : ( فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى : ( ذهب الله بنورهم ) أي : ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان ( وتركهم في ظلمات ) وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، ( لا يبصرون ) لا يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها
القول في تأويل قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، وقد علمتَ أن " الهاء والميم " من قوله " مثلهم " كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و " الذي" دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأنّ هؤلاء, أو كأنّ أجسامَ هؤلاء, نخلةٌ؟
قيل: أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ, وفي نظائره (1) كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة الأحزاب: 19]، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة لقمان: 28] بمعنى: إلا كبَعْث نفسٍ واحدة.
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل, فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما.
فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد, فإنما جاز، لأن المرادَ من &; 1-319 &; الخبر عن مَثَل المنافقين، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة, وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا, كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثَلُ إليهم, كما قال نابغةُ بني جَعْدَة:
وَكَــيْفَ تُــوَاصِل مـن أَصْبَحَـتْ
خِلالَتُــــهُ كَـــأَبِي مَرْحَـــبِ (2)
يريد: كخلالة أبي مَرْحب, فأسقط " خلالة ", إذ كان فيما أظهرَ من الكلام، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا، جاز وحَسُنَ قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد, إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد, لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.
ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد, &; 1-320 &; ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب, ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب, - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب, وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول: ما هم إلا نخلة, وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام.
وأما قوله: ( اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، فإنه في تأويل: أوقدَ، كما قال الشاعر:
وَدَاعٍ دَعَـا: يَـا مَـنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى
فَلَــمْ يَسْــتَجِبْهُ عِنْـدَ ذَاكَ مُجِـيبُ (3)
يريد: فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا: مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به, وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم (4) مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره، حتى أضاءت له النارُ ما حوله, يعني: ما حول المستوقِدِ.
وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة: أن " الذي" في قوله: " كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا " بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة الزمر: 33]، وكما قال الشاعر:
فَــإِنَّ الَّـذِي حَـانَتْ بِفَلْـجٍ دِمَـاؤُهُمْ
هُـمُ الْقَـوْمُ كُـلُّ الْقَـوْمِ يَـا أُمَّ خَـالِدِ (5)
قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل &; 1-321 &; ذلك فرقَ ما بين " الذي" في الآيتين وفي البيت. لأن " الذي" في قوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع, وهو قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، وكذلك " الذي" في البيت, وهو قوله " دماؤهم ". وليست هذه الدلالة في قوله: " كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا ". فذلك فَرْق ما بين " الذي" في قوله: " كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا "، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى " الذي" في قوله: " كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا " بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.
ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال:
أحدها- ما:
386- حدثنا به محمد بن حُميد, قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) أي يُبصرون الحق ويقولون به, حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما:
387- حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء, فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه.( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) يقول: في عذاب.
والثالث: ما-
388- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي, فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلالَ من الحرام, والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفَر, فصار لا يعرف الحلال من الحرام, ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر: ما-
389- حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد (6) قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله: ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُـزع منهم، فعتَوْا بعد ذلك.
وقال آخرون: بما-
390- حدثني به بِشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، وإن المنافقَ تكلم &; 1-323 &; بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين (7) ، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه.
391- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعْمَر, عن قتادة " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله " هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون.
392- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني أبو تُميلة, عن عبيد بن سليمان (8) ، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: " كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله "، قال: أما النّور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات, فهي ضلالتهم وكفرهم.
وقال آخرون بما:-
393- حدثني به محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله "، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
394- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, عن شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله "، أما إضاءة النار، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
395- حدثني القاسم, قال: حدثني الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.
396- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا "، قال: إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها, فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له, فإذا شك وقع في الظلمة.
397- حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله: " كمثل الذي استوقد نارًا " إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون (9) .
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك, وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرْك (10) . ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه: ( كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ, وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن (11) . هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها, وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان (12) : حالُ إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر, فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين, وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين.
وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه, إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.
فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك, فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به, وقولهم له وللمؤمنين: آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر, حتى حُكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حَقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السِّباء, وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ, حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة, خَمدت النارُ وانطفأت, (13) فذهب نورُه, وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة.
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ, حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [سورة المجادلة: 18]، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا (14) : من الكذب والإفك، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال, واستهزاء بأنفسهم وخداع, إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون, كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له, فبقي في ظلمته حيران تائهًا، يقول الله جل ثناؤه: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الحديد: 13-15].
فإن قال لنا قائل: إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره " كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله ": خَمدتْ وانطفأتْ, وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ, كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
عَصَيْـتُ إليهَـا الْقَلْـبَ, إِنِّـي لأمرِهَا
سَـمِيعٌ, فَمَـا أَدْرِي أَرُشْـدٌ طِلابهـا! (15)
يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ, فحذف ذكر " أم غيٌّ", إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير:
فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ, أو حِـينَ, نصَّبتْ
لَـهُ مِـن خَـذَا آذَانِهَـا وَهْـو جَـانح (16)
يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: " كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله "، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله: " ذهب الله بنورهم &; 1-329 &; وتركهم في ظلمات لا يبصرون " دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز.
وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه, نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لا يُبصر.
و " الهاء والميم " في قوله " ذهب الله بنورهم "، عائدة على " الهاء والميم " في قوله " مَثَلهم ".
-----------------------
الهوامش :
(1) "وفي نظائره" ، أي هو في نظائره جائز حسن أيضًا . ومثلها ما يأتي بعد أسطر في قوله"ولا في نظائره" ، حذف فيهما جميعًا .
(2) الشعر للنابغة الجعدي . اللسان (رحب) و (خلل) . والخلة والخلالة : الصداقة المختصة التي ليس في علاقتها خلل . وأبو مرحب : كنية الظل ، يريد أنها تزول كما يزول الظل ، لا تبقى به مودة .
(3) الشعر لكعب بن سعد الغنوي . الأصمعيات : 14 ، وأمالي القالي 2 : 151 ، وهي من حسان قصائد الرثاء .
(4) سياق عبارته : "مثل استضاءة هؤلاء . . . فيما الله فاعل بهم ، مثل استضاءة . . " .
(5) الشعر للأشهب بن رميلة . الخزانة 2 : 507 - 508 ، والبيان 4 : 55 ، وسيبويه 1 : 96 ، والمؤتلف والمختلف للآمدي : 33 ، وذكر البغدادي أن أبا تمام أنشد البيت في أبيات لحريث بن محفض ، في كتابه"مختار أشعار القبائل" . وروايته : "وإن الألى" . ولا شاهد فيه . وهم يقولون إن النون حذفت من"الذين" ، فصارت"الذي" لطول الكلام وللتخفيف ، وهي بمعنى الجمع لا المفرد . وفلج : واد بين البصرة وحمى ضرية ، كانت فيه هذه الوقعة التي ذكرها .
(6) في المطبوعة"محمد بن سعيد" ، "سعيد بن محمد" . وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة ، ومن مراجع التراجم . وانظر شرح هذا السند مفصلا : 305 .
(7) في المطبوعة : "وعاد بها المسلمين" ، والصواب من المخطوطة وابن كثير في تفسيره ، والدر المنثور ، كما سيأتي في التخريج .
(8) أبو تميلة ، بضم التاء المثناة وفتح الميم : هو يحيى بن واضح الأنصاري المروزي الحافظ ، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين وابن سعد وأبو حاتم وغيرهم ، ووهم أبو حاتم ، إذ نسب إلى البخاري أنه ذكره في الضعفاء . وما كان ذلك ، والبخاري ترجمه في الكبير 4/2/ 309 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، ولم يذكره في كتاب الضعفاء الصغير . وقال الذهبي في الميزان 3 : 305 حين ذكر كلام أبي حاتم : "فلم أر ذلك ، ولا كان ذلك . فإن البخاري قد احتج به" . ووقع في مطبوعة الطبري هنا"أبو نميلة" بالنون ، وهو خطأ مطبعي . و"عبيد بن سليمان" : هو الباهلي الكوفي أبو الحارث ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وذكر ابن أبي حاتم 2/2/408 أنه سأل عنه أباه ، فقال : "لا بأس به" .
(9) الأخبار 386 - 397 : هذه الآثار السالفة جميعًا ، وما سيأتي إلى قوله تعالى (فهم لا يرجعون) بالأرقام 398 - 404 ساقها ابن كثير 1 : 97 - 99 ، والدر المنثور 1 : 32 - 33 ، وفتح القدير 1 : 35 .
(10) في المطبوعة : "أي ، لا المعلنين" ، وفي المخطوطة : "المعالنين بالكفر" ، وسياق عبارته"إنما ضرب الله هذا المثل للمنافقين . . لا المعلنين بالكفر" .
(11) السياق : "ولو كان المثل لمن آمن إيمانًا صحيحًا . . لم يكن هنالك من القوم . . "
(12) في المطبوعة : "فإن كان القوم . . . " ، وهو خطأ .
(13) في المخطوطة والمطبوعة : "حتى ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله . . . حتى خمدت النار" ، وهي عبارة مختلة ، صوابها ما أثبتناه .
(14) في المطبوعة : "كان به نجاتهم من القتل" ، وهما سواء في المعنى .
(15) ديوان الهذليين 1 : 71 ، وسيأتي في تفسير آية آل عمران : 113 (4 : 34 بولاق) ورواية الطبري للبيت في الموضعين لا يستقيم بها معنى ، ورواية ديوانه :
عَصَـانِي إِلَيْهَـا الْقَلْـبُ إِنِّـي لأَمْـرِهِ
ويروى"دعاني إليها . . " ، وهما روايتان صحيحتان . وتمام معنى البيت في الذي يليه :
فَقُلْـتُ لِقَلْبِـي : يَـا لَـكَ الْخَيْرُ! إِنَّمَا
يُــدَلِّيكَ لِلْمَــوْتِ الْجَــدِيدِ حِبَابُهَـا
فهو يؤامر قلبه ، ولكنه أطاعه .
(16) ديوانه : 108 وسيأتي في تفسير آية يونس : 77 (11 : 101 بولاق) ، وآية سورة النبأ : 10 (30 : 3 بولاق) . يصف عانة حمر ، وقفت ترقب مغيب الشمس ، حتى إذا غربت انطلقت مسرعة إلى مورد الماء الذي تنوى إليه . وقوله : "لبسن الليل" يعني الحمر ، حين غشيهن الليل وهن مترقبات مغيب الشمس . ونصبت : رفعت وأقامت آذانها . وخذيت الأذن خذًّا : استرخت من أصلها مقبلة على الخدين ، وذلك يصيب الحمر في الصيف من حر الشمس والظمأ . ونصبت خذا آذانها ، استعدادًا للعدو إلى الماء . وجنح الليل فهو جانح : أقبل ، وهو من جنح الطائر : إذا كسر من جناحيه ثم أقبل كالواقع اللاجئ إلى موضع . وهو وصف جيد لإقبال الظلام من جانب الأفق . وأراد الطبري أن ذا الرمة أراد أن يقول : أو حين أقبل الليل ، نصبت له من خذا آذانها ، وهو جانح . ولا ضرورة توجب ما قال به من الحذف في هذا البيت
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
ذهب الله بنورهم:
قرئ:
أذهب الله نورهم، وهى قراءة اليماني، وفى هذا دليل على مرادفة الباء للهمزة.
فى ظلمات:
قرئ:
1- بضم اللام، وهى قراءة الجمهور.
2- بسكونها، وهى قراءة الحسن وأبى السماك.
3- بفتحها.
وهذه اللغات الثلاث جائزة فى جمع فعلة، من الاسم الصحيح العين غير المضعف ولا المعتل اللام بالياء.
وقدر قوم مع الفتح أنها جمع «ظلم» ، التي هى جمع «ظلمة» ، فهى على هذا جمع جمع.
4- ظلمة، على التوحيد، وهى قراءة اليماني، يطابق بين إفراد النون والظلمة.
والوجه فى قراءة الجمع أن كل نور له ظلمة تخصه، فجمعت الظلمة لذلك، وحيث وقع ذكر النور والظلمة فى القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات.
التفسير :
فلهذا قال تعالى [عنهم]:{ صُمٌّ} أي:عن سماع الخير،{ بُكْمٌ} [أي]:عن النطق به،{ عُمْيٌ} عن رؤية الحق،{ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.
ثم قال - تعالى - : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ) .
قال القرطبي : والصمم في كلام العرب : الانسداد ، يقال : قناة صماء إذا لم تكن مجوفة ، وصممت القارورة إذا سددتها ، فالأصم من انسدت خروق مسامعه . والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم ، والعمى ذهاب البصر . وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإِدراكات عن حواسهم جملة ، وإنما الغرض نفيها من جهة ما .
والآية الكريمة خبر لضمير مقدر يعود على المنافقين ، أي : هم صم بكم عمي .
ووصف المنافقون بهذه الصفات لأنهم وإن كانت لهم آذان تسمع ، وألسنة تنطق ، وأعين تبصر ، إلا أنهم لا يسمعون خيراً . ولا يتكلمون بما ينفعهم ولا يبصرون سملكا من مسالك الهداية ، ومن كان كذلك كان هو ومن فقد حواسه سواء ، فقد صرف الله عنهم عنايته ووكلهم إلى أنفسهم .
ووردت هذه الصفات مجردة من حرف العطف ، فلم يقل : صم وبكم وعمي ، لما عرف من استعمالات البلغاء . أن تجريد أمثال هذه الأوصاف من حرف العطف يفيد تأكيدها ، حيث إن المتكلم قد قصد إلى تقرير كل صفة منها على حدة .
ومعنى ( فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ) لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو لا يرجعون عن الضلالة بعد أن اشتروها .
والفاء في قوله - تعالى - ( فَهُمْ ) للتفريع أو التسبيب ، لأنها توحى بأن عدم رجوعهم عما هم فيه من النفاق متفرع على تلك الآفات ، ومسبب عن هذه العاهات .
وهم مع ذلك ( صم ) لا يسمعون خيرا ( بكم ) لا يتكلمون بما ينفعهم ( عمي ) في ضلالة وعماية البصيرة ، كما قال تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [ الحج : 46 ] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة .
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه :
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : ( فلما أضاءت ما حوله ) زعم أن ناسا دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة ، فأوقد نارا ، فأضاءت ما حوله من قذى ، أو أذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلال والحرام ، و [ عرف ] الخير والشر ، فبينا هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر .
وقال مجاهد : ( فلما أضاءت ما حوله ) أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى .
وقال عطاء الخراساني في قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) قال : هذا مثل المنافق ، يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ، ثم يدركه عمى القلب .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، والحسن والسدي ، والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين . كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية ، قال : أما النور : فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به ، وأما الظلمة : فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ، ثم نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك .
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز ، كما سلب صاحب النار ضوءه .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها ، وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص ، بلا إله إلا الله ، أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .
وقال الضحاك [ في قوله ] ( ذهب الله بنورهم ) أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ) فهي لا إله إلا الله ؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وقال سعيد ، عن قتادة في هذه الآية : إن المعنى : أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازاهم بها ، ووارثهم بها ، وحقن بها دمه وماله ، فلما كان عند الموت ، سلبها المنافق ؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في عمله .
( وتركهم في ظلمات ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وتركهم في ظلمات ) يقول : في عذاب إذا ماتوا .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وتركهم في ظلمات ) أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق .
وقال السدي في تفسيره بسنده : ( وتركهم في ظلمات ) فكانت الظلمة نفاقهم .
وقال الحسن البصري : ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) فذلك حين يموت المنافق ، فيظلم عليه عمله عمل السوء ، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول : لا إله إلا الله .
( صم بكم عمي ) قال السدي بسنده : ( صم بكم عمي ) فهم خرس عمي .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( صم بكم عمي ) يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه ، وكذا قال أبو العالية ، وقتادة بن دعامة .
( فهم لا يرجعون ) قال ابن عباس : أي لا يرجعون إلى هدى ، وكذلك قال الربيع بن أنس .
وقال السدي بسنده : ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) إلى الإسلام .
وقال قتادة : ( فهم لا يرجعون ) أي لا يتوبون ولا هم يذكرون .
القول في تأويل قول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
قال أبو جعفر: وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة, عند هتك أستارهم, وإظهاره فضائح أسرارهم, وسَلبه ضياءَ أنوارهم، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون, وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه: " صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون " من المؤخّر الذي معناه التقديم, وأنّ معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين, صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون, أو كمثل صَيِّب من السماء.
وإذْ كان ذلك معنى الكلام: فمعلومٌ أن قوله: " صُمٌّ بكمٌ عُميٌ"، يأتيه الرفع من وجهين, والنصب من وجهين:
فأما أحدُ وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم, فتنصِب وتَرفع، وإن كان خبرًا عن معرفة, كما قال الشاعر:
لا يَبْعَــدَنْ قَــوْمِي الَّــذِينَ هُــمُ
سَـــمُّ الْعُــدَاةِ وَآفَــةُ الْجُــزْرِ (17)
النَّــــازِلِينَ بكـــلِّ مُعْـــتَرَكٍ
وَالطَّيِّبِيـــــنَ مَعَــــاقِدَ الأُزْرِ (18)
فيروي: " النازلون " و " النازلين "، وكذلك " الطيِّبون " و " الطيِّبين ", على ما وصفتُ من المدح.
&; 1-330 &;
والوجهُ الآخر: على نية التكرير من أُولَئِكَ , فيكون المعني حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمَّا أحد وَجهي النصب: فأن يكون قَطعًا مما في مُهْتَدِينَ من ذكر أُولَئِكَ (19) ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة, والصم نكرة.
والآخر: أن يكون قطعا من الَّذِينَ , لأن الَّذِينَ معرفة و " الصم " نكرة (20) .
وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا.
فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه, فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف.
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم, والآخرُ: القطع من " الهاء والميم " اللتين في" تركهم ", أو من ذكرهم في لا يُبْصِرُونَ .
وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ، الرفعُ دُون النصب (21) . لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين, بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خِذلان الله عليهم, بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم: الخُرْسُ, وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل:
398- حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: " صمٌّ بكم عُميٌ"، عن الخير.
399- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: " صم بكم عُمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه.
400- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " بكم "، هم الخُرس.
401- حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله " صم بكْم عُمْي": صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه, عمي عن الحق فلا يبصرونه, بُكم عن الحق فلا ينطقون به (22) .
القول في تأويل قوله : فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
قال أبو جعفر: وقوله " فهم لا يرجعون "، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى, وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق, وَبكمَهم عن القيل بهما, وعَماهم عن إبصارهما - (23) أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم, ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا, أو يقولوا حقًّا, أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى, أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم, كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب &; 1-332 &; والمشركين وأحبارهم، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم.
وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
402- حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: " فهم لا يَرجعون "، أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون.
403- وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " فهم لا يَرْجعون ": فهم لا يرجعون إلى الإسلام.
وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:-
404- حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: " فهم لا يَرْجعون "، أي: فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير, فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه (24) .
وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون -عن اشترائهم الضلالة بالهدى- إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت (25) وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت (26) وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين, وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع &; 1-333 &; عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة (27) ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.
-----------------------
الهوامش :
(17) الشعر للخرنق بنت بدر بن هفان ، أخت طرفة لأمه ، أمهما وردة ، ديوانها : 10 ، ترثى زوجها بشر بن عمرو بن مرثد . وسيأتي في تفسير آية سورة غافر : 3 (24 : 27 بولاق) ، وفي سيبويه 1 : 104 ، 246 ، 249 ، وخزانة الأدب 2 : 301 . وقولها"لا يبعدن قومى" : أي لا يهلكن قومي ، تدعو لهم . وفعله : بعد يبعد بعدًا (من باب فرح) : هلك . والعداة جمع عاد ، وهو العدو . والجزر جمع جزور : وهي الناقة التي تنحر . وآفة الجزر : علة هلاكها ، لا يبقون على أموالهم من الكرم .
(18) المعترك : موضع القتال حيث يعتركون ، يطحن بعضهم بعضًا . وإذا ضاق المعترك نزل الفرسان ، وتطاعنوا واقتربوا حتى يعتنق بعضهم بعضًا إذا حمس القتال . والأزر جمع إزار : وهو ما ستر النصف الأسفل ، والرداء : ما ستر الأعلى . ومعاقد الأزر : حيث يعقد لئلا تسقط . وكنت بذلك عن عفتهم وطهارتهم ، لا يقربون فاحشة فيحلون معاقد الأزر .
(19) قطعا : أي حالا ، وانظر ما سلف : 230 تعليق : 4 .
(20) قطعا : أي حالا ، وانظر ما سلف : 230 تعليق : 4 .
(21) في المطبوعة : "والقراءة التي هي قراءة الرفع . . " ، وهو خطأ محض .
(22) هذه الأخبار 398 - 401 : تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية ، بالأرقام : 386 ، 387 ، 388 ، 390 .
(23) سياقه : "إخبار من الله عز وجل . . أنهم لا يرجعون . . " .
(24) هذه الأخبار 402 - 404 : تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية . بالأرقام : 401 ، 400 ، 398 .
(25) في المطبوعة : "إلى وقت دون وقت" ، وهو خطأ .
(26) في المطبوعة : "ينبئ عن أن . . " .
(27) في المخطوطة"دعوى ناظر" ، وصوابها"دعوى باطل" بالإضافة .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 18 | ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ |
---|
البقرة: 171 | ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
صم بكم عمى:
قرئ:
صما بكما عميا، بالنصب، وهى قراءة عبد الله بن مسعود، وحفصة.
وذهب فى نصبها مذاهب:
1- أحدها: أن يكون مفعولا ثانيا ل «ترك» ، ويكون (فى ظلمات) متعلقا بتركهم، أو فى موضع الحال، (لا يبصرون) حال.
2- الثاني: أن يكون منصوبا على الحال من المفعول فى «تركهم» ، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما.
3- الثالث: أن يكون منصوبا بفعل محذوف، تقديره: أعنى.
4- الرابع: أن يكون منصوبا على الحال من الضمير فى «يبصرون» .
5- الخامس: أن يكون منصوبا على الذم.
التفسير :
ثم قال تعالى:{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} يعني:أو مثلهم كصيب، أي:كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي:ينزل بكثرة،{ فِيهِ ظُلُمَاتٌ} ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر،{ وَرَعْدٌ} وهو الصوت الذي يسمع من السحاب،{ وَبَرْقٌ} وهو الضوء [اللامع] المشاهد مع السحاب.
ثم ساق - سبحانه - المثل الثاني فقال : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) .
" أو " للتسوية بين الشيئين وهي مفيدة أن التمثيل بأيهما أو بمجموعهما يؤدى إلى المقصود ، فهي مانعة خلو مجوزة للجمع بينهما .
و ( الصيب ) - كسيد - المطر ، من الصوب وهو النزول . يقال : صاب صوباً ، إذا نزل أو انحدر ، سمى به المطر لنزوله ، وفي الجملة الكريمة إيجاز بحذف ما دل عليه المقام دلالة واضحة .
والتقدير : أو كمثل ذوي صيب . والمعنى أن قصة هؤلاء المنافقين مشبهة بقصة الذي استوقد ناراً ، أو بقصة ذوي صيب .
والسماء : كل ما علاك من سقف ونحوه ، والمراد بها السحاب .
والرعد : الصوت الذي يسمع بسبب اصطدام سحابتين محملتين بشحنتين كهربيتين أحداهما موجبة والأخرى سالبة .
والبرق : هو الضوء الذي يحدث بسبب الاصطدام ذاته .
وإيراد هذه الألفاظ بصفة التنكير للتهويل ، ويكون المعنى : أو أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء تصحبه ظلمات كأنها سواد الليل ، ورعد بصم الآذان ، وبرق يخطف الأبصار؛ وصواعق تحرق ما تصيبه .
ثم قال - تعالى - : ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ) .
ِالصواعق : جمع صاعقة من الصعق وهو شدة الصوت الذي يصحبه - غالباً - قطعة من نار لا تأتي على شيء إلا أهلكته .
( ومن ) في قوله - تعالى - : ( مِّنَ الصواعق ) للعليل . وإنما كانت الصواعق داعية إلى سدهم آذانهم بأصابعهم ، من جهة أنها قد تفضي بصوتها لهائل إلى الموت ، وجاء هذا مصرحا به في قوله - تعالى - ( حَذَرَ الموت ) يدل على أنهم لم يموتوا من تلك المفزعات وهذه المروعات . إمدادا في عذابهم . ومطاولة في نكالهم .
وقوله - تعالى - : ( والله مُحِيطٌ بالكافرين ) جملة معترضة في أثناء ضرب المثل بذوي الصيب .
وإحاطته - سبحانه - بالكافرين على معنى أنهم لا مهرب لهم منه ، فهو محيط بهم إحاطة تامة وهو قادر على النكال بهم متى شاء وكيف شاء .
ولم يقل محيط بهم مع تقدم مرجع الضمير وهو أصحاب الصيب ، إيذاناً بأنهم إنما استحقوا ذلك العذاب بكفرهم .
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين ، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ، ويشكون تارة أخرى ، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ( كصيب ) والصيب : المطر ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصحابة ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعطية العوفي ، وعطاء الخراساني ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقال الضحاك : هو السحاب .
والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات ، وهي الشكوك والكفر والنفاق . ( ورعد ) وهو ما يزعج القلوب من الخوف ، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع ، كما قال تعالى : ( يحسبون كل صيحة عليهم [ هم العدو ] ) [ المنافقون : 4 ] وقال : ( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ) [ التوبة : 56 ، 57 ] .
والبرق : هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان ، من نور الإيمان ؛ ولهذا قال : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ) أي : ولا يجدي عنهم حذرهم شيئا ؛ لأن الله محيط [ بهم ] بقدرته ، وهم تحت مشيئته وإرادته ، كما قال : ( هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط ) [ البروج : 17 - 20 ] .
[ والصواعق : جمع صاعقة ، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد ، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم صاعقة ، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة ، ونقل عن الحسن البصري أنه : قرأ : " من الصواقع حذر الموت " بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النجم :
يحكوك بالمثقولة القواطع شفق البرق عن الصواقع
قال النحاس : وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة ، حكى ذلك القرطبي في تفسيره ] .
أو كصيب من السماء
القول في تأيل قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } قال أبو جعفر : والصيب الفعيل , من قولك : صاب المطر يصوب صوبا : إذا انحدر ونزل , كما قال الشاعر : لست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب وكما قال علقمة بن عبدة : كأنهم صاب عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقيت روايا المزن حين تصوب يعني : حين تنحدر . وهو في الأصل : صيوب , ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة صيرتا جميعا ياء مشددة , كما قيل : سيد من ساد يسود , وجيد من جاد يجود . وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة تصيرهما جميعا ياء مشددة . وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل . 342 - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي , قال : حدثنا محمد بن عبيد , قال : حدثنا هارون بن عنترة , عن أبيه عن ابن عباس في قوله : { أو كصيب من السماء } قال : القطر . 343 - وحدثني عباس بن محمد , قال : حدثنا حجاج , قال : قال ابن جريج , قال لي عطاء : الصيب : المطر . 344 - وحدثني المثنى , قال : حدثنا أبو صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي عن ابن عباس , قال : الصيب : المطر . 345 - وحدثني موسى , قال : حدثنا عمرو , قال : حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس , وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الصيب : المطر . * وحدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي سعد , قال : حدثني عمي الحسين , عن أبيه , عن جده , عن ابن عباس مثله . 346 - وحدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة : { أو كصيب } قال : المطر . * وحدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أنبأنا معمر , عن قتادة مثله . 347 - وحدثني محمد بن عمرو الباهلي , وعمرو بن علي , قالا : حدثنا أبو عاصم , قال : حدثنا عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : الصيب : المطر . * وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة , قال : حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : الصيب : المطر . 348 - حدثني المثنى , قال : حدثنا إسحاق عن ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس : الصيب : المطر . * وحدثت عن المنجاب , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس قال : الصيب : المطر . 349 - وحدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال عبد الرحمن بن زيد : { أو كصيب من السماء } قال : أو كغيث من السماء . 350 - وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري , قال : قال سفيان : الصيب : الذي فيه المطر . * حدثنا عمرو بن علي , قال : حدثنا معاوية , قال : حدثنا ابن جريج , عن عطاء في قوله : { أو كصيب من السماء } قال : المطر . قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر , مثل إضاءة موقد النار بضوء ناره على ما وصف جل ثناؤه من صفته , أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة , وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه . فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين , أهما مثلان للمنافقين أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين فكيف قيل : { أو كصيب } و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام , ولم يقل : وكصيب , بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما , فما وجه ذكر الآخر ب " أو " , وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه , كقول القائل : لقيني أخوك أو أبوك , وإنما لقيه أحدهما , ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما , مع علمه أن أحدهما قد لقيه ; وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء أو عزوب علم شيء عنه فيما أخبر أو ترك الخبر عنه . قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه , و " أو " وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك , فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو إما بسابق من الكلام قبلها , وإما بما يأتي بعدها كقول توبة بن الحمير : وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال , ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه الواو لو كانت مكانها , وضعها موضعها . وكذلك قول جرير : ش جاء الخلافة أو كانت له قدرا /و كما أتى ربه موسى على قدر وكما قال الآخر : فلو كان البكاء يرد شيئا /و بكيت على جبير أو عناق على المرأين إذ مضيا جميعا /و لشأنهما بحزن واشتياق فقد دل بقوله : " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر , بل أراد أن يبكيهما جميعا . فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه : { أو كصيب من السماء } لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه الواو , ولو كانت مكانها كان سواء نطق فيه ب " أو " أو بالواو . وكذلك وجه حذف المثل من قوله : { أو كصيب } لما كان قوله : { كمثل الذي استوقد نارا } دالا على أن معناه : كمثل صيب , حذف المثل واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : { كمثل الذي استوقد نارا } على أن معناه : أو كمثل صيب , من إعادة ذكر المثل طلب الإيجاز والاختصار .فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت
القول في تأويل قوله تعالى : { فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } قال أبو جعفر : فأما الظلمات فجمع , وأحدها ظلمة ; وأما الرعد فإن أهل العلم أختلفوا فيه ; فقال بعضهم : هو ملك يزجر السحاب . ذكر من قال ذلك : 351 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : حدثنا محمد بن جعفر , قال : حدثنا شعبة عن الحكم , عن مجاهد , قال : الرعد ملك يزجر السحاب بصوته . * وحدثنا محمد بن المثنى , قال : حدثنا ابن أبي عدي , عن شعبة عن الحكم عن مجاهد مثله . * وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي , قال : حدثنا فضيل بن عياض , عن ليث , عن مجاهد مثله . 352 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : حدثنا هشيم قال : أنبأنا إسماعيل بن سالم عن أبي صالح , قالا : الرعد ملك من الملائكة يسبح . 353 - وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي , قال : حدثنا محمد بن يعلى , عن أبي الخطاب البصري , عن شهر بن حوشب قال : الرعد : ملك موكل بالسحاب , يسوقه كما يسوق الحادي الإبل , يسبح كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها , فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه فهي الصواعق التي رأيتم . 354 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : الرعد : ملك من الملائكة اسمه الرعد , وهو الذي تسمعون صوته . 355 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : حدثنا أبو أحمد , قال : حدثنا عبد الملك بن حسين عن السدي عن أبي مالك , عن ابن عباس , قال : الرعد : ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير . 356 - وحدثنا الحسن بن محمد , قال : حدثنا علي بن عاصم , عن ابن جريج , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : الرعد : اسم ملك , وصوته هذا تسبيحه , فإذا اشتد زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك فتخرج الصواعق من بينه . 357 - حدثنا الحسن , قال : حدثنا عفان , قال : حدثنا أبو عوانة , عن موسى البزار , عن شهر بن حوشب عن ابن عباس , قال : الرعد : ملك يسوق السحاب بالتسبيح , كما يسوق الحادي الإبل بحدائه . * حدثنا الحسن بن محمد , قال : حدثنا يحيى بن عباد وشبابة قالا : ثنا شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , قال : الرعد : ملك يزجر السحاب . 358 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال : حدثنا عتاب بن زياد , عن عكرمة , قال : الرعد : ملك في السحاب يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل . 359 - وحدثنا بشر , قال : حدثنا يزيد , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة , قال : الرعد : خلق من خلق الله جل وعز سامع مطيع لله جل وعز 360 - حدثنا القاسم بن الحسن , قال : حدثنا الحسين بن داود , قال : حدثني حجاج عن ابن جريج , عن عكرمة , قال : إن الرعد ملك يؤمر بإزجاء السحاب فيؤلف بينه , فذلك الصوت تسبيحه . 361 - وحدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريح , عن مجاهد , قال : الرعد : ملك . 362 - وحدثني المثنى , قال : حدثنا الحجاج بن المنهال , قال : حدثنا حماد بن سلم ة , عن المغيرة بن سالم , عن أبيه أو غيره , أن علي بن أبي طالب قال : الرعد : ملك . 363 - حدثنا المثنى , قال : حدثنا حجاج , قال : حدثنا حماد , قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ؟ فقال : الرعد : ملك . 364 - حدثنا المثنى , قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم , قال : حدثنا عمر بن الوليد السني , عن عكرمة , قال : الرعد : ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل . 365 - حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : حدثنا حفص بن عمر , قال : حدثنا الحكم بن أبان , عن عكرمة , قال : كان ابن عباس إذا سمع الرعد , قال : سبحان الذي سبحت له , قال : وكان يقول : إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه . وقال آخرون : إن الرعد : ريح تختنق تحت السحاب , فتصاعد فيكون منه ذلك الصوت . ذكر من قال ذلك : 366 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال : حدثنا بشر بن إسماعيل , عن أبي كثير , قال : كنت عند أبي الجلد , إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه , فكتب إليه : كتبت تسألني عن الرعد , فالرعد : الريح . 367 - حدثني إبراهيم بن عبد الله قال : حدثنا عمران بن ميسرة , قال : حدثنا ابن إدريس عن الحسن بن الفرات , عن أبيه , قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد , فقال : الرعد : ريح . قال أبو جعفر : فإن كان الرعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد , فمعنى الآية : أو كصيب من السماء فيه ظلمات وصوت رعد ; لأن الرعد إن كان ملكا يسوق السحاب , فغير كائن في الصيب ; لأن الصيب إنما هو ما تحدر من صوب السحاب ; والرعد : إنما هو في جو السماء يسوق السحاب , على أنه لو كان فيه يمر لم يكن له صوت مسموع , فلم يكن هنالك رعب يرعب به أحد ; لأنه قد قيل : إن مع كل قطرة من قطر المطر ملكا , فلا يعدو الملك الذي اسمه الرعد لو كان مع الصيب إذا لم يكن مسموعا صوته أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض في أن لا رعب على أحد بكونه فيه . فقد علم إذ كان الأمر على ما وصفنا من قولة ابن عباس أن معنى الآية : أو كمثل غيث تحدر من السماء فيه ظلمات وصوت رعد ; إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس , وإنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته . وإن كان الرعد ما قاله أبو الجلد فلا شيء في قوله : " فيه ظلمات ورعد " متروك لأن معنى الكلام حينئذ : فيه ظلمات ورعد الذي هو وما وصفنا صفته . وأما البرق , فإن أهل العلم اختلفوا فيه ; فقال بعضهم بما : 368 - حدثنا مطر بن محمد الضبي , قال : حدثنا أبو عاصم ح وحدثني محمد بن بشار قال : حدثني عبد الرحمن بن مهدي ح وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قالوا جميعا : حدثنا سفيان الثوري , عن سلمة بن كهيل , عن سعيد بن أشوع , عن ربيعة بن الأبيض , عن علي قال : البرق : مخاريق الملائكة . 369 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا عبد الملك بن الحسين , عن السدي عن أبي مالك , عن ابن عباس : البرق مخاريق بأيدي الملائكة يزجرون بها السحاب . * حدثني المثنى , قال : حدثنا الحجاج , قال : حدثنا حماد , عن عميرة بن سالم , عن أبيه أو غيره أن علي بن أبي طالب قال : الرعد : الملك , والبرق : ضربه السحاب بمخراق من حديد . وقال آخرون : هو سوط من نور يزج به الملك السحاب . 370 - حدثت عن المنجاب بن الحارث , قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس بذلك . وقال آخرون : هو ماء . ذكر من قال ذلك 371 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال : حدثنا بشر بن إسماعيل , عن أبي كثير , قال : كنت عند أبي الجلد إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه , فكتب إليه : تسألني عن البرق , فالبرق : الماء . 372 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله , قال : حدثنا عمران بن ميسرة , قال : حدثنا ابن إدريس , عن الحسن بن الفرات , عن أبيه , قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق , فقال : البرق ماء . * حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا جرير , عن عطاء , عن رجل من أهل البصرة من قرائهم , قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد رجل من أهل هجر يسأله عن البرق , فكتب إليه : كتبت إليه تسألني عن البرق : وإنه من الماء . وقال آخرون : هو مصع ملك 373 - حدثنا محمد بن بشار , قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , قال : حدثنا سفيان عن عثمان بن الأسود , عن مجاهد , قال : البرق : مصع ملك . 374 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق , قال : حدثنا هشام , عن محمد بن مسلم الطائفي , قال : بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه : وجه إنسان , ووجه ثور , ووجه نسر , ووجه أسد , فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق . 375 - حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن وهب بن سليمان , عن شعيب الجبائي , قال : في كتاب الله الملائكة حملة العرش , لكل ملك منهم وجه إنسان , وثور , وأسد , فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق . وقال أمية بن أبي الصلت : رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد 376 - حدثنا الحسين بن محمد , قال : حدثنا علي بن عاصم , عن ابن جريج , عن مجاهد , عن ابن عباس : البرق : ملك . 377 - وقد حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج قال : الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق يصيب منه من يشاء . قال أبو جعفر : وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد ; وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر علي رضي الله عنه أنها هي البرق هي السياط التي هي من نور التي يزجي بها الملك السحاب , كما قال ابن عباس . ويكون إزجاء الملك السحاب : مصعه إياه بها , وذاك أن المصاع عند العرب أصله المجالدة بالسيوف , ثم تستعمله في كل شيء جولد به في حرب وغير حرب , كما قال أعشى بني ثعلبة وهو يصف جواري يلعبن بحليهن ويجالدن به : إذا هن نازلن أقرانهن وكان المصاع بما في الجون يقال منه : ماصعه مصاعا . وكأن مجاهدا إنما قال : " مصع ملك " , إذ كان السحاب لا يماصع الملك , وإنما الرعد هو المماصع له , فجعله مصدرا من مصعه يمصعه مصعا , وقد ذكرنا ما في معنى الصاعقة ما قال شهر بن حوشب فيما مضى . وأما تأويل الآية , فإن أهل التأويل مختلفون فيه . فروي عن ابن عباس في ذلك أقوال ; أحدها ما : 378 - حدثنا به محمد بن حميد , قال : حدثنا سلمة , قال : حدثنا محمد بن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف , والتخويف منكم - على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب , فحمل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي لشدة ضوء الحق , { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } أي يعرفون الحق ويتكلمون به , فهم من قولهم به على استقامة , فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين . والآخر ما : 379 - حدثني به موسى بن هارون , قال : حدثنا عمرو , قال : حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح عن ابن عباس , وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق } إلى : { إن الله على كل شيء قدير } : أما الصيب والمطر كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين , فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق , فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما , وإذ لمع البرق مشيا في ضوئه , وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان , فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ! فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما . فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة . وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم , جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا , كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما , وإذا أضاء لهم مشوا فيه . فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه , وقالوا : إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق فاستقاموا عليه , كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه , وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا إذا هلكت أموالهم , وولد لهم الجواري , وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد , فارتدوا كفارا كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما والثالث ما : 380 - حدثني به محمد بن سعد ; قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , عن أبيه , عن جده , عن ابن عباس : { أو كصيب من السماء } كمطر { فيه ظلمات ورعد وبرق } إلى آخر الآية , هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل , مراءاة للناس , فإذا خلا وحده عمل بغيره . فهو في ظلمة ما أقام على ذلك . وأما الظلمات فالضلالة , وأما البرق فالإيمان , وهم أهل الكتاب . وإذا أظلم عليهم , فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه . والرابع ما : 381 - حدثني به المثنى , قال : حدثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس { أو كصيب من السماء } وهو المطر , ضرب مثله في القرآن يقول : " فيه ظلمات " , يقول ابتلاء . " ورعد " يقول : فيه تخويف , وبرق { يكاد البرق يخطف أبصارهم } يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين , { كلما أضاء لهم مشوا فيه } يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا اطمأنوا , وإن أصابوا الإسلام نكبة , قالوا : ارجعوا إلى الكفر يقول : { وإذا أظلم عليهم قاموا } كقوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة } 22 11 إلى آخر الآية . ثم اختلف سائر أهل التأويل بعد ذلك في نظير ما روي عن ابن عباس من الاختلاف . 382 - فحدثني محمد بن عمرو الباهلي , قال : حدثنا أبو عاصم , عن عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : إضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل . * وحدثني المثنى , قال : حدثنا أبو حذيفة , قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله . * حدثنا عمرو بن علي , قال : حدثنا أبو عاصم , قال : حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله . 383 - وحدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة في قول الله : { فيه ظلمات ورعد وبرق } إلى قوله : { وإذا أظلم عليهم قاموا } , فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة أوسلوة من عيش , قال : أنا معكم وأنا منكم ; وإذا أصابته شدة حقحق والله عندها فانقطع به فلم يصبر على بلائها , ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها . 384 - وحدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة : { فيه ظلمات ورعد وبرق } يقول : أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت , والله محيط بالكافرين . ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال : { يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه } يقول : هذا المنافق , إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال : لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير , { وإذا أظلم عليهم قاموا } يقول : إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيرين . 385 - وحدثني المثنى , قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج , عن عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس : { فيه ظلمات ورعد وبرق } قال : مثلهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ولها مطر ورعد وبرق على جادة , فلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها , وإذا ذهب البرق تحيروا . وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له , فإذا شك تحير ووقع في الظلمة , فكذلك قوله : { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } ثم قال : في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } قال أبو جعفر : 386 - وحدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثنا أبو تميلة , عن عبيد بن سليمان الباهلي , عن الضحاك بن مزاحم : { فيه ظلمات } قال : أما الظلمات فالضلالة , والبرق : الإيمان . 387 - وحدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله : { فيه ظلمات ورعد وبرق } فقرأ حتى بلغ : { إن الله على كل شيء قدير } قال : هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين , كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق . 388 - وحدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , قال : قال ابن جريج : ليس شيء في الأرض سمعه المنافق إلا ظن أنه يراد به وأنه الموت كراهية له , والمنافق أكره خلق الله للموت , كما إذا كانوا بالبراز في المطر فروا من الصواعق . 389 - حدثنا عمرو بن علي , قال : حدثنا أبو معاوية , قال : حدثنا ابن جريج , عن عطاء في قوله : { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق } قال : مثل ضرب للكفار . وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه , فإنها وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها متقاربات المعاني لأنها جميعا تنبئ عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلا , ومثل ما فيه من ظلمات بضلالته , وما فيه من ضياء برق بنور إيمانه , واتقائه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه بضعف جنانه ونخب فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته , ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه , وقيامه في الظلام بحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه فتأويل الآية إذا إذا كان الأمر على ما وصفنا : أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به , حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين , وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم , وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر , مكذبون , ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون , على عمى منهم وجهالة بما هم عليه من الضلالة لا يدرون أي الأمرين اللذين قد شرع لهم [ فيه ] الهداية في الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدا صلى الله عليه وسلم ما أرسله به إليهم , أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وجلون , وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا . كمثل غيث سرى ليلا في مزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها رعد ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه كثير خطرانه , يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار , ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها تارات صواعق تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق . فالصيب مثل لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق , والظلمات التي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب . وأما الرعد والصواعق فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه , إما في العاجل وإما في الآجل , أي يحل بهم مع شكهم في ذلك : هل هو كائن , أم غير كائن , وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل ؟ مثل . فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقا يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات وذلك تأويل قوله جل ثناؤه : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } يعني بذلك يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار , كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أسابعه فيها حذرا على نفسه منها . وقد ذكرنا الخبر الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان : إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء , أو يذكروا بشيء فيقتلوا . فإن كان ذلك صريحا , ولست أعلمه صحيحا , إذ كنت بإسناده مرتابا ; فإن القول الذي روي عنهما هو القول وإن يكن غير صحيح , فأولى بتأويل الآية ما قلنا ; لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصصهم أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم , وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم . فكذلك ذلك في هذه الآية . وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه . وذلك من المثل نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق , وكذلك قوله : { حذر الموت } جعله جل ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلك الذي توعده بساحتهم , كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه حذر العطب والموت على نفسه أتزهق من شدتها . إنما نصب قوله : { حذر الموت } على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك : زرتك تكرمة لك , تريد بذلك : من أجل تكرمتك , وكما قال جل ثناؤه : { ويدعوننا رغبا ورهبا } 21 90 على التفسير للفعل . وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله : { حذر الموت } : حذرا من الموت . 390 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى , قال : حدثنا عبد الرزاق , قال : أنبأنا معمر عنه . وذلك مذهب من التأويل ضعيف لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من الموت فيكون معناه ما قال إنه مراد به حذرا من الموت , وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم . وكان قتادة وابن جريج يتأولان قوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } أن ذلك من الله جل ثناؤه صفة للمنافقين بالهلع , وضعف القلوب , وكراهة الموت , يتأولان في ذلك قوله : { يحسبون كل صيحة عليهم } 63 4 وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا , وذلك أنه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين بأحد أو دونه . وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم معاونته على أعدائه ; لأنهم لم يكونوا أديانهم مستبصرين ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين , فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين , إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وصف من الله جل ثنائهم لهم بالإشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم , إما عاجلا , وإما آجلا .والله محيط بالكافرين
ثم أخبر جل ثناؤه أن المنافقين الذين نعتهم النعت الذي ذكر وضرب لهم الأمثال التي وصف وإن اتقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به أي كتابه , غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم وحلوله بساحتهم , إما عاجلا في الدنيا , وإما آجلا في الآخرة , للذي في قلوبهم من مرضها والشك في اعتقادها , فقال : { والله محيط بالكافرين } بمعنى جامعهم فمحل بهم عقوبته . وكان مجاهد يتأول ذلك كما : 391 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي , قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميمون , عن عبد الله بن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { والله محيط بالكافرين } قال : جامعهم في جهنم . وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما : 392 - حدثني به ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { والله محيط بالكافرين } يقول : الله منزل ذلك بهم من النقمة * حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج , عن مجاهد في قوله : { والله محيط بالكافرين } قال : جامعهم .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 19 | ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ |
---|
نوح: 7 | ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
حذر الموت:
قرئ:
حذر الموت، على أنه مصدر «حاذر» .
التفسير :
{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} البرق في تلك الظلمات{ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي:وقفوا. فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء. ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى:{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي:الحسية, ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم،{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض. وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله:{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ثم قال - تعالى - : ( يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) .
يكاد من الأفعال التي تدخل على اسم يسند إليه فعل بعده نحو ( البرق يَخْطَفُ ) . فتدل على أن المسند إليه وهو البرق قد قارب أن يقع منه الفعل وهو خطف الأبصار .
والخطف : الأخذ بسرعة . والأبصار : جمع بصر ، وهو قوة مودعة في العين يدرك بها الألوان والأشكال .
والمعنى : أن البرق لشدة لمعانه يقرب من أن يخطف أبصارها ، وهو تصوير بليغ الشدة ذلك البرق ، وترك بيان شدة الرعد اكتفاء بما ذكره في جانب البرق ، ولم يذكر توقيهم للأعين بوضع شيء عليها اكتفاء بما ذكره في توقي الآذان أو لأنهم شغلوا بالآذان عن الأعين .
وقوله - تعالى - : ( كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ) وصف رائع لما يصنعه أهل الصيب في حالتي ظهور البرق واختفائه .
وكل ظرف ، وما مصدرية ولاتصالها بكل أفادت الشرط والعامل فيها هو جوابها وهو ( مَّشَوْاْ ) و ( أَضَآءَ ) و ( أَظْلَمَ ) من الإِظلام وهو اختفاء النور . ( قَامُواْ ) أي وقفوا وثبتوا في مكانهم . من قام الماء إذا جمد . ويقال : قامت الدابة إذا وقفت .
والمعنى : أنهم إذا صادفوا من البرق وميضاً انتهزوا ذلك الوميض فرصة ، فخطوا خطوات يسيرة ، وإذا خفى لمعانه وقفوا في مكانهم ، فالجملة الكريمة تدل على فرط حرصهم على النجاة من شدة ما هم فيه من أهوال .
ثم قال - تعالى - : ( وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) .
لو : أداة شرط ، وشاء بمعنى أراد . أي : لو أراد الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي ضوء البرق فأعماهم . أو يقال : إن قصف الرعد ولمعان البرق المذكورين في المثل سببان كافيان لأن يذهبا بسمع ذوي الصيب وأبصارهم لو شاء الله ذلك .
فيكون قوله تعالى ( وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ ) ، إشعاراً بأن تأثير الأسباب في مسبباتها إنما هو بإرادته - تعالى - .
وخص السمع والبصر بالذهاب مع أنها من جملة مشاعرهم ، لأهميتها . ولأنها هي التي سبق ذكرها ، أو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، لأنه إذا كان قادراً على إذهاب ما حافظوا عليه ، كان قادراً على غيره من باب أولى .
ثم ختم الآية بقوله - تعالى - ( إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
الشيء في أصل اللغة كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، ويحمل في هذه الآية على الممكن خاصة موجوداً كأن أو معدوماً ، لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات دون الواجب والمستحيل .
والقدير : الفعال لما يريد ، يقال : قدره على الشيء أقدره قدرة وقدراً .
وهذه الجملة الكريمة بمنزلة الاستدلال على ما تضمنته الجملة السابقة من أن الله تعالى قادر على أن يذهب بأسماع أصحاب الصيب وأبصارهم متى شاء .
وتطبيق هذا المثل على المنافقين يقال فيه : إن أصحاب الصيب لضعفهم وخورهم لا يطيقون سماع الرعد الهائل ، ولا يستطيعون فتح أعينهم في البرق اللامع ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم فزعاً من قصف الرعد ، وخوفاً من صواعق تجلجل فوق رءوسهم فتدعهم حصيداً خامدين ، وكذلك حال هؤلاء المنافقين فإنهم لضعف بصائرهم ، وانطماس عقولهم ، تشتد عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه ، فتشمئز قلوبهم ويصرفون عنه أسماعهم خشية أن تتلى عليهم آيات تقع على أسماعهم وقع الصواعق المهلكة .
قال ابن كثير : " وذهب ابن جرير ومن تبعه من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين ، وتكون " أو " في قوله تعالى ( أَوْ كَصَيِّبٍ ) بمعنى الواو ، كقوله تعالى ( وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) أو تكون للتخيير ، أي ، اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا ، أو للتساوى مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين . قلت : وهذا يكون باعتبار أجناس المنافقين ، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة بقوله : ( وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي ) ( وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ) ( وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات ) الخ . فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم .
"
هذا ، ويرى فضيلة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز . أن المثلين لطائفتي الكافرين والمنافقين ، فالمثل الأول وهو قوله تعالى ( مثلهم كمثل الذين استوقد ناراً ) ينطبق تمام الانطباق على الأوصاف التي ذكرها الله للكافرين وأن الذي ينطبق على صفات المنافقين إنما هو المثل الثاني وحده وهو قوله تعالى ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ . . . ) فقد ضرب الله لكلتا الطائفتين مثلا يناسبها .
قال فضيلته : فضرب مثلا للمصرّين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون في ظلام الليل فيهم رجل استوقد لهم ناراً يهتدون بضوئها ، فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعينهم لهذا الضوء الباهر ، بل لأمر ما سلبوا نور أبصارهم ، وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجأة ، فذلك مثل النور الذي طلع به محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الأمة على فترة من الرسل، فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك ، لكنه لم يوافق أهواء المستكبرين الذين ألفوا العيش في ظلام الجاهلية ، فلم يرفعوا له رأسا بل نكسوا على رؤسهم، ولم يفتحو له عيناً بل خروا عليه صما وعمياناً .
وضرب مثلا للمترددين المخادعين بقوم جاءهم السماء بغيث منهمر في ليلة ذات رعد وبرق ، فأما الغيث فلم يلقوا له بالا ولم ينالوا منه نيلا ، فلا شربوا منه قطرة ، ولا استنبتوا به ثمرة . . وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هي مثار اهتمامهم ، ومناط تفكيرهم ، ولذلك جعلوا يترصدونها ، ويدبرون أمورهم على وفقها ، لابسين لكل حال لبوسهها : سيراً تارة ، ووقوفاً تارة ، واختفاء تارة أخرى .
فكانوا إذا رأوا عرضاً قريباً وسفراً قاصداً وبرقت لهم ( بروق ) الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنباً إلى جنب ، وإذا دارت رحا الحرب وانقضت صواعقها منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين " إن بيوتنا عورة " حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة ، بل اشتبهت عليهم الأمور فهناك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون ، ولكن يلزمون شقة الحياد ريثما تنقشع سحابة الشك ( فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين ) ذلك دأب المنافقين في كل أمرهم ، إن توقعوا ربحاً عاجلاً التمسوه في أي صف وجدوه ، وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء مكروه؛ وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيداً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ أما الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإن له قبله واحدة يولى وجهه شطرها ، هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم :
وليس يبالي حين يقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعه
هذا هو رأي فضيلة الدكتور دراز ، وهو رأي مستساغ يتمشى مع روح الآيات وأهداف السورة ، وأياما كان فالمثلان يصوران أحوال المبطلين بصورة حسية واضحة تتجلى فيها بلاغة القرآن الكريم في إبراز المعاني المعقولة في صورة محسة واضحة من شأنها أن تهدي الناس إلى طريق الحق والرشاد .
ثم قال : ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) أي : لشدته وقوته في نفسه ، وضعف بصائرهم ، وعدم ثباتها للإيمان .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين .
وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) أي لشدة ضوء الحق ، ( كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه ، وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) يقول : كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه ، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر ، كقوله : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به [ وإن أصابته فتنة ] ) الآية [ الحج : 11 ] .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) أي : يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر ( قاموا ) أي : متحيرين .
وهكذا قال أبو العالية ، والحسن البصري ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي بسنده ، عن الصحابة وهو أصح وأظهر . والله أعلم .
وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم ، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء له أخرى ، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى . ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين ، الذين قال تعالى فيهم : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) [ الحديد : 13 ] وقال في حق المؤمنين : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات ) الآية [ الحديد : 12 ] ، وقال تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ) [ التحريم : 8 ] .
ذكر الحديث الوارد في ذلك :
قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله تعالى : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات ) الآية [ الحديد : 12 ] ، ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ، أو بين صنعاء ودون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه . رواه ابن جرير .
ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داور القطان ، عن قتادة ، بنحوه .
وهذا كما قال المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يرى نوره كالنخلة ، ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نورا على إبهامه يطفأ مرة ويقد مرة .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن ابن مثنى ، عن ابن إدريس ، عن أبيه ، عن المنهال .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس ، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود : ( نورهم يسعى بين أيديهم ) [ التحريم : 8 ] قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا أبو يحيى الحماني ، حدثنا عتبة بن اليقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره ، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين ، فهم يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا .
وقال الضحاك بن مزاحم : يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورا ؛ فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا ، فقالوا : ربنا أتمم لنا نورنا .
فإذا تقرر هذا صار الناس أقساما : مؤمنون خلص ، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة ، وكفار خلص ، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها ، ومنافقون ، وهم قسمان : خلص ، وهم المضروب لهم المثل الناري ، ومنافقون يترددون ، تارة يظهر لهم لمع من الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي ، وهم أخف حالا من الذين قبلهم .
وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور ، من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور ، بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري ، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط ، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله .
ثم ضرب مثل العباد من الكفار ، الذين يعتقدون أنهم على شيء ، وليسوا على شيء ، وهم أصحاب الجهل المركب ، في قوله : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) الآية [ النور : 39 ] .
ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط ، وهم الذين قال [ الله ] فيهم : ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) [ النور : 40 ] فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين : داعية ومقلد ، كما ذكرهما في أول سورة الحج : ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ) [ الحج : 3 ] وقال بعده : ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) [ الحج : 8 ] وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان ، إلى قسمين : سابقون وهم المقربون ، وأصحاب يمين وهم الأبرار .
فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات : أن المؤمنين صنفان : مقربون وأبرار ، وأن الكافرين صنفان : دعاة ومقلدون ، وأن المنافقين - أيضا - صنفان : منافق خالص ، ومنافق فيه شعبة من نفاق ، كما جاء في الصحيحين ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان .
استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان ، وشعبة من نفاق . إما عملي لهذا الحديث ، أو اعتقادي ، كما دلت عليه الآية ، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء ، كما تقدم ، وكما سيأتي ، إن شاء الله . قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو معاوية يعني شيبان ، عن ليث ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القلوب أربعة : قلب أجرد ، فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح ، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن ، سراجه فيه نوره ، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر ، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص ، عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة ، يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه . وهذا إسناد جيد حسن .
وقوله : ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ) قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ) قال : لما تركوا من الحق بعد معرفته .
( إن الله على كل شيء قدير ) قال ابن عباس أي : إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة ، أو عفو قدير .
وقال ابن جرير : إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ؛ لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط ، و [ أنه ] على إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير ، ومعنى ( قدير ) قادر ، كما أن معنى ( عليم ) عالم .
[ وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون " أو " في قوله تعالى : ( أو كصيب من السماء ) بمعنى الواو ، كقوله تعالى : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) [ الإنسان : 24 ] ، أو تكون للتخيير ، أي : اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا ، قاله القرطبي . أو للتساوي مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، على ما وجهه الزمخشري : أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ، ويكون معناه على قوله : سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم .
قلت : وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين ، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة " براءة " - ومنهم ، ومنهم ، ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال ، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم ، والله أعلم ، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار : الدعاة والمقلدين في قوله تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) إلى أن قال : ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج ) الآية [ النور : 39 ، 40 ] ، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب ، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين ، والله أعلم بالصواب ] .
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم, والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم, وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم, فقال: " يكاد البرق "، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.
" يَخطفُ أبصَارهم "، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه .
469- كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, في قوله: " يكاد البرقُ يخطف أبصارهم "، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل (97) .
قال أبو جعفر: والخطف السلب, ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة (98) . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
خَطَـاطِيفُ حُجْـنٌ فِـي حِبَـالٍ متينةٍ
تَمُــدُّ بهــا أَيــدٍ إِلَيْـكَ نَـوَازِعُ (99)
فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره, مثلا.
ثم قال تعالى ذكره: " كلما أضاء لهم "، يعني أن البرق كلما أضاء لهم, وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء, وإصابةِ الغنائم في المغازي, وكثرة الفتوح, ومنافعها, والثراء في الأموال, والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك, ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم, وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [سورة الحج: 11].
ويعني بقوله " مشوا فيه "، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه, كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه, إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها.
" وإذا أظلم "، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم.
ويعني بقوله " عليهم "، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم (100) ، أو إدبارٍ من &; 1-359 &; دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم (101) ، وَثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره (102) إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق, فحارَ في طريقه، فلم يعرف مَنهجه.
* * *
القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ &; 1-360 &; لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
قال أبو جعفر: وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم (103) - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين, أعني قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ ، وقوله: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم, وعيدًا من الله لهم, كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم, لإحلال سَخَطه بهم, وإنـزال نِقْمته عليهم, ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته, ومخوِّفَهم به عقوبته, ليتقوا بأسَه, ويُسارعوا إليه بالتوبة.
470- كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة , أو عن سعيد بن حبير, عن ابن عباس: " ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم "، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته (104) .
471- وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ثم قال -يعني قال الله- في أسماعهم، يعني أسماعَ المنافقين، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس: " ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم " (105) .
قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله: " لذهب بسمعهم وأبصارهم "، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبتُ ببصره, وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه: آتِنَا غَدَاءَنَا [سورة الكهف: 62]، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدَائنا (106) .
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: " لذهب بسمعهم " فوحَّد, وقال: " وأبصارهم " فجمع؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة (107) ، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة؟ (108)
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك, فقال بعض نحويي الكوفة: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق, وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم: أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة (109) . ويحتج في ذلك بقول الله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [سورة إبراهيم: 43]، يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم, وبقوله: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر: 45]، &; 1-361 &; يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع, فكان في دلالته على المراد منه, وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مُغنيًا عن جِمَاعه (110) . ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع, أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار -من الجمع والتوحيد- كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر:
كُلُــوا فِي بَعْـضِ بَطْنِكُـمُ تَعِفُّـوا
فَإِنَّ زَمَــانَنَا زَمَـــنٌ خَــمِيصُ (111)
فوحّد البطن, والمرادُ منه البطون، لما وصفنا من العلة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قال أبو جعفر: وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع, لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال: فاتقوني أيُّها المنافقون، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي، لا أحِلَّ بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى " قدير " قادر, كما معنى " عليم " عالم, على ما وصفتُ فيما &; 1-362 &; تَقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم (112) .
-------------------------
الهوامش :
(97) الخبر 469- لم أجده . والتمع البصر أو غيره : اختلسه واختطفه وذهب به . ومنه الحديث : "إذا كان أحدكم في الصلاة ، فلا يرفع بصره إلى السماء يلتمع بصره" ، أي يختلس .
(98) الذي ذكره ابن الأثير في النهاية أن الخطفة : ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية ، لأن كل ما أبين من حي فهو ميت ، وذلك أن النهي عن الخطفة كان لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، رأى الناس يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم ويأكلونها . قال : والخطفة المرة الواحدة من الخطف ، فسمى بها العضو المختطف ، وأما النهبة والنهبى ، فاسم لما ينهب ، وجاء بيانها في حديث سنن أبي داود 3 : 88"فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها ، فقام عبد الرحمن بن سمرة خطيبًا ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبى" . وفي الباب نفسه من سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد ، وأصابوا غنما فانتهبوها ، فإن قدورنا لتغلى إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه ، فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال : إن النهبة ليست بأحل من الميتة" .
(99) ديوانه : 41 ، وقبله البيت المشهور :
فَــإِنَّكَ كَـالليلِ الَّـذِي هُـوَ مُـدْرِكِي
وَإِنْ خِـلْتُ أَنَّ الْمُنْتَـأَى عَنْـكَ وَاسِـعُ
خطاطيف : جمع خطاف . وحجن : جمع أحجن ، وهو المعوج الذي في رأسه عقافة . وقال"تمد بها" ولم يقل : تمدها ، لأنه لم يرد مد الحبال ذوات الخطاطيف ، وإنما أراد اليد التي تمتد بها وفيها الخطاطيف ، لأن اليد هي الذي تتبع الشيء حيث ذهب (انظر ما سيأتي من إدخال الباء على مثل هذا الفعل ص 360 س : 6 - 9) وقوله"إليك" متعلق بقوله"نوازع" . ونوازع جمع نازع ونازعة ، من قولهم نزع الدلو من البئر ينزعها : جذبها وأخرجها . أي أن هذه الأيدي تجذب ما تشاء إليك ، وترده عليك . والبيت متصل بالذي قبله ، وبيان لقوله"فإنك كالليل الذي هو مدركى" ، أراد تهويل الليل وما يرى فيه ، تتبعه حيث ذهب خطاطيف حجن لا مهرب له منها .
(100) في المطبوعة"وإنالة عدوهم" ، وهو خطأ . والإدالة : الغلبة ، وهي من الدولة في الحرب ، وهو أن يهزم الجيش مرة ، ويهزمه الجيش الآخر تارة أخرى . يقال : اللهم أدلنا من عدونا! أي اللهم اجعل لنا الدولة عليه وانصرنا .
(101) في المطبوعة : "قاموا على نفاقهم" . وهذه أجود .
(102) في المطبوعة والمخطوطة : "كما قام السائرون في الصيب" ، وهو خطأ ، صوابه من مخطوطة أخرى .
(103) في المخطوطة : "دون سائر أجسامهم" .
(104) الخبر 470- من تمام الخبر الذي ساقه في الدر المنثور 1 : 32 - 33 ، وقد مضى صدره آنفًا : 451 ، 467 .
(105) الأثر 471- هو من الأثر السالف رقم : 460 .
(106) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 19 . وانظر ما مضى ص 357 تعليق : 3
(107) في المخطوطة : "أن الخبر بالسمع" ، وهذه أجود ، وأجودهن"الخبر عن السمع" كما سيأتي في الذي يلي .
(108) في المطبوعة : "كما الخبر في الأبصار" ، والذي في المخطوطة أجود .
(109) في المخطوطة : "لمعنى جماعة" ، وهي صواب جيد .
(110) في المطبوعة : "فكان فيه دلالة على المراد منه ، وأدى معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة ، مغنيًا عن جماعة" ، وهو كلام لا معنى له . وفي المخطوطة : " . . على المراد منه واوا معنى الواحد . . " ، وقد صححت قراءتها كما ترى . وقوله" مغنيًا عن جماعه" أي عن جمعه ، والطبري يكثر استعمال"جماع" مكان جمع ، كما مضى وكما سيأتي .
(111) البيت من أبيات سيبويه التي لا يعلم قائلها ، سيبويه 1 : 108 ، والخزانة 3 : 379 - 381 ، وانظر أمالي ابن الشجري 1 : 311 ، 2 : 35 ، 38 ، 343 ، وروايته : "في نصف بطنكم" . وفي المخطوطة : "تعيشوا" ، مكان"تعفوا" ، وهي رواية ذكرها صاحب الخزانة . وروايتهم جميعًا "فإن زمانكم . . " .
(112) انظر تفسير قوله تعالى : "الرحيم" ، فيما مضى : ص 126 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
يخطف:
قرئ:
1- يخطف، سكون الخاء وكسر الطاء.
قال الزمخشري: الفتح فى المضارع أفصح، والكسر فى الماضي لغة قريش، وهى أفصح، وبعض العرب يقول:
خطف بالفتح، يخطف، بالكسر.
2- يختطف، وهى قراءة على، وابن مسعود.
3- يتخطف، وهى قراءة أبى.
4- يخطف، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة، وهى قراءة الحسن.
5- يخطف، بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وهى قراءة الحسن أيضا، وأبى رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة.
6- يخطف، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء، وهى قراءة الحسن أيضا، والأعمش.
7- يخطف، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة، من «خطف» ، وهى قراءة زيد بن على.
8- يخطف، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة، وهى فى الحقيقة اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان، لأنه يؤدى إلى التقاء الساكنين على غير التقائهما.
التفسير :
هذا أمر عام لكل الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
وبعد أن بينت السورة الكريمة أقسام الناس الثلاثة ، وعاقبة كل قسم منهم ، ساقت لهم نداء عاماً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده ، قال تعالى :
( يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا . . . )
في هاتين الآيتين توجيه للناس إلى الأمر الذي خلقوا من أجله وهو عبادة الله دون ما سواه ، وبيان البراهين الساطعة التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته .
و " يا " حرف نداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا ، فهو أصل حروف النداء .
و " أي " اسم مبهم لكن يزول إبهامه بالاسم المقصود بالنداء الذي يأتي بعده .
و " ها " المتصلة به مؤكدة للتنبيه المستفاد من النداء .
و " العبادة " الخضوع البالغ الغاية .
وقد كثر النداء في القرآن الكريم بهذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيراً ما يقتضيه المقام .
وفي ذكره تعالى باسم الرب ، وإضافته إلى المخاطبين ، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته .
فإن الإِنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكاً له ، أو مربياً له وتذكر ما يحفه به من رفق ، وما يجود به عليه من إنعام ، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من الخضوع والخشوع والإِجلال .
وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى ، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإِفراد والإِضافة إلى جميع الناس إلا الله .
ثم بين - سبحانه - الموجبات التي من شأنها أن تحملهم على عبادته وحده فقال: ( الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ ) .
والخلق : أصله الإِيجاد على تقدير وتسوية ، ويطلق في القرآن وفي عرف الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة ، فهو إخراجها من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر .
والمعنى : اجعلوا أيها الناس عبادتكم لله تعالى وحده ، لأنه هو الذي أوجدكم في أحسن تقويم بعد أن كنتم في عدم ، كما أوجد الذين تقدموكم .
وقدم وصفه بخلق المخاطبين مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم ، لأن علم الإِنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره .
وقوله تعالى : ( والذين مِن قَبْلِكُمْ ) فيه رد على الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .
فكان قوله : ( والذين مِن قَبْلِكُمْ ) تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لابد أن ينتهوا إلى أب أول قد خلقه الله تعالى .
وجملة " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " تعليل للأمر بالعبادة ، ولذلك فصلت .
و " لعل " حرف موضوع ليدل على الترجي ، وهو توقع حصول الشيء عندما يحصل سيبه وتنتفى موانعه . والشيء المتوقع حصوله في الآية هو التقوى وسببه العبادة ، إذ بالعبادة يستعد الإِنسان لأن يبلغ درحة التقوى وهي الفوز بالهدى والفلاح ، والترجي قد يكون من جهة المتكلم وهو الشائع وقد تستعمل لعل في الكلام على أن يكون الترجي مصروفاً للمخاطب ، فيكون المترجي هو المخاطب لا المتكلم ، وعلى هذا الوجه يحمل الترجي في هذه الآية ، لاستحالة توقع حصول الشيء من عالم الغيب والشهادة ، لأن توقع الإِنسان لحصول الشيء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه مع رجحان الوقوع ، وعليه فيكون المعنى : اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين ، الذين بلغوا الغاية في الهدى والفلاح .
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته ، بأنه تعالى هو المنعم على عبيده ، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة
القول في تأويل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
قال أبو جعفر: فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون (113) ، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم (114) ، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنّا بالله وباليوم الآخر, مع استبطانه خلافَ ذلك, ومرض قلبه, وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة, وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم, وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ (115) .
وكان ابن عباس: فيما رُوي لنا عنه، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه, غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى " اعبُدوا ربكم ": وحِّدوا ربكم. وقد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى العبادة: الخضوعُ لله بالطاعة، &; 1-363 &; والتذلل له بالاستكانة (116) . والذي أراد ابن عباس -إن شاء الله- بقوله في تأويل قوله: " اعبدوا ربكم " وحِّدوه، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه (117) .
472- حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قال الله: " يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم "، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين, أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم (118) .
473- وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم " يقول: خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم (119) .
قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا، بعبادته والتوبة من كفره, بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون.
القول في تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم, وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه, وإفرادكُم له العبادة (120) لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم, وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.
وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله: " لعلكم تتقون ": تُطيعون.
474- حدثنا ابن وكيع, قال: حدثني أبي، عن سفيان, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: " لعلكم تتقون "، قال: لعلكم تطيعون (121) .
قال أبو جعفر: والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: " لعلكم تتقون "؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه, حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا, فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟
قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ, وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم, لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة (122) ، كما قال الشاعر:
وَقُلْتُــمْ لَنَـا كُفُّـوا الْحُـرُوبَ, لَعَلَّنَـا
نَكُــفُّ! وَوَثَّقْتُـمْ لَنَـا كُـلَّ مَـوْثِقِ (123)
فَلَمَّـا كَفَفْنَـا الْحَـرْبَ كَـانَتْ عُهُودُكُمْ
كَــلَمْحِ سَـرَابٍ فِـي الْفَـلا مُتَـأَلِّقِ (124)
يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن " لعل " في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق.
------------------
الهوامش :
(113) في المخطوطة : "أأنذرتهم أم لم تنذرهم" ، وهما سواء في المعنى .
(114) في المطبوعة : " . . وعلى سمعهم وأبصارهم" ، والصواب حذف"وأبصارهم" ، لأنها غير داخلة في معنى الطبع ، كما مضى في تفسير الآية .
(115) في المخطوطة : "على ضرر ولا نفع" ، وهما سواء .
(116) مضى في تفسير قوله تعالى"إياك نعبد" ص : 160 .
(117) في المخطوطة"وحدوه له أفردوا . . " ، وليس لها معنى .
(118) الخبر 472- في الدر المنثور 1 : 33 ، وابن كثير 1 : 105 ، والشوكاني 1 : 38 . وفي الدر والشوكاني : "من الكفار والمؤمنين" ، ووافق ابن كثير أصول الطبري .
(119) الخبر 473- في الدر المنثور 1 : 33 ، ولم ينسب إخراجه لابن جرير . وفي المخطوطة : "خلقكم والذين . . " .
(120) في المطبوعة : "له بالعبادة" وهو خطأ .
(121) الأثر 474- في الدر المنثور 1 : 34 .
(122) يريد الطبري أن العرب تستعمل"لعل" مجردة من الشك ، بمعنى لام كي ، كما قال ابن الشجري في أماليه 1 : 51 .
(123) لم أعرف قائلهما ، ورواهما ابن الشجري نقلا عن الطبري ، فيما أرجح ، في أماليه 1 : 51 .
(124) رواية ابن الشجري"في الملا" . والفلا جمع فلاة : وهي الأرض المستوية ليس فيها شيء والصحراء الواسعة . والملا : الصحراء والمتسع من الأرض - فهما سواء في المعنى .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 21 | ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ |
---|
النساء: 1 | ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ |
---|
الحج: 1 | ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ |
---|
لقمان: 33 | ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم.{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} والسماء:[هو] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون:المراد بالسماء هاهنا:السحاب، فأنزل منه تعالى ماء،{ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [وزروع] وغيرها{ رِزْقًا لَكُمْ} به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون.{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أي:نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون،{ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه. وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك. وقوله تعالى:{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يحتمل أن المعنى:أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى:أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.
ثم أضاف - سبحانه - أسباباً أخرى تحمل الناس على عبادته وطاعته فقال : ( الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ) .
الفراش : ما يفترشه الإِنسان ليستقر عليه بنحو الجلوس أو المنام . أي : اجعلوا عبادتكم لله الذي صير الأرض لأجلكم مهاداً كالبساط المفروش ، فذللها لكم ولم يجعلها صعبة غليظة ، لكي يتهيأ لكم الاستقرار عليها . والتقلب في مناكبها ، والانتفاع بما أودع الله في باطنها من خيرات .
وتصوير الأرض بصورة الفراش لا ينافي كونها كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع بها .
( والسماء بِنَآءً ) يقال لسقف البيت بناء أي : جعل السماء كالسقف للأرض ، لأنها تظهر كالقبة المضروبة فوقها كما قال - تعالى - (وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) وقدم خلق الأرض على خلق السماء لأن الأرض أقرب إلى المخاطبين ، وانتفاعهم بها أظهر وأكثر من انتفاعهم بالسماء .
قال بعض الأدباء : " إذا تأملت هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح ، والإِنسان كما لك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعه ، وضروب الحياة مصروفة لمصالحه " فهذه جملة واضحة داله على أن العالم مخلوق بتدبير كامل ، وتقدير شامل ، وحكمة بالغة ، وقدرة غير متناهية " .
ثم قال - تعالى - ( وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ) :
السماء : السحاب ، والثمرات : ما ينتجه الشجر . والرزق : ما يصلح لأن ينتفع به . والباء في . ( به ) للسببية .
أي : أنه جعل الماء سبباً في خروج الثمرة ، وهو القادر على أن ينشئها بلا سبب كما أنشأ الأسباب .
وأورد ( مَآءً ) و ( رِزْقاً ) في صيغة التنكير التي تستعمل عند إرادة بعض أفراد المعنى الذي وضع له اللفظ لغة ، وذلك لأن من الماء ما لم ينزل من السماء ، ومن الرزق ما لا يكون من الثمرات . فمعنى الجملة الكريمة : أنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به من الثمرات بعض ما يكون رزقاً لكم .
ثم قال - تعالى - ( فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .
الأنداد : جمع ند ، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه .
وأصله من : ند البعير يند ندا ونداداً ونداً ، إذا تفرد وذهب على وجهه شارداً .
والمعنى : فلا تجعلوا لله أمثالاً ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة ، وتعتقدون فيها النفع والضر ، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده ، وأنتم تعلمون أنها أشياء لا يصح جعلها أنداداً مساوية له تعالى ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي : وأنتم من ذوي العلم والنظر ، فلو تأملتم أدنى تأمل لانصرفتم بقوة إلى عبادة الله وحده .
ولتركتم الإِشراك به .
وصدرت الجملة الكريمة بالفاء لترتبها على الكلام السابق ، المترتب على الأمر بعبادة الله وحده .
وسمى القرآن الشركاء المزعومين أنداداً تهكماً بالعابدين لها ، ولأن المشركين لما تركوا عبادة الله إلى عبادة الأوثان ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة ، قادرة على مخالفته ومضادته ، وذلك معنى جعلها أنداداً الذي هو مصب النهي في الآية .
وجملة ( وأنتم تعلمون ) ، حالية ، ومفعول تعلمون متروك ، لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول ، بل قصد إثباته لفاعله فقد فنزل منزلة اللازم ، وفي هذه الجملة مبالغة في زجرهم عن عبادة الأوثان من دون الله ، لأن ارتكاب الباطل من الجاهل قبيح ، وهو من العالم ببطلانه أشد قبحاً ، وأدعى إلى أن يقابل بأغلظ ألوان الإِنكار . كما أن فيها إثارة لهممهم ليقلعوا عن عبادة غير الله ، فإن من كان من ذوي العلم لا يصح منه أن يفعل أفعال من لا عقل له ، وهذا لون جليل من ألوان التربية ، فإن من سمات المربي الناجح أن يجمع بين القسوة في النهي عن القبيح ، وبين إثارة همة الموعوظ حتى لا يقتل همته باليأس ، لأن الإِنسان إذا ساءت ظنونه بنفسه خارت عزيمته ، وفترت همته .
هذا ، وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تدعو إلى توحيد الله ، وتنهى عن الإِشراك ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : " قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ " قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك " " .
قال الإِمام ابن كثير : وهذه الآية دالة على توحيده - تعالى - بالعبادة وحده لا شريك له ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانتها وطباعها ومنافعها ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الله - تعالى -؟ فقال : يا سبحانه الله!! إن البعير ليدل على البعير؛ وإن أثر القدم يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل هذا على وجود اللطيف الخبير .
بأن جعل لهم الأرض فراشا ، أي : مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ، ( والسماء بناء ) وهو السقف ، كما قال في الآية الأخرى : ( وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ) [ الأنبياء : 32 ] وأنزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا - في وقته عند احتياجهم إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد ؛ رزقا لهم ولأنعامهم ، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن . ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى : ( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ) [ غافر : 64 ] ومضمونه : أنه الخالق الرازق مالك الدار ، وساكنيها ، ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ؛ ولهذا قال : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا ، وهو خلقك الحديث . وكذا حديث معاذ : أتدري ما حق الله على عباده ؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا الحديث وفي الحديث الآخر : لا يقولن أحدكم : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن ليقل ما شاء الله ، ثم شاء فلان .
وقال حماد بن سلمة : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، عن الطفيل بن سخبرة ، أخي عائشة أم المؤمنين لأمها ، قال : رأيت فيما يرى النائم ، كأني أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : من أنتم ؟ فقالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : عزير ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . قال : ثم مررت بنفر من النصارى ، فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن النصارى . قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : هل أخبرت بها أحدا ؟ فقلت : نعم . فقام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده . هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة ، به . وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر ، عن عبد الملك بن عمير به ، بنحوه .
وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس ، قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت . فقال : أجعلتني لله ندا ؟ قل : ما شاء الله وحده . رواه ابن مردويه ، وأخرجه النسائي ، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس ، عن الأجلح ، به .
وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد ، والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين ، أي : وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .
وبه عن ابن عباس : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) أي : لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه . وهكذا قال قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ، حدثنا أبي عمرو ، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله ، عز وجل ( فلا تجعلوا لله أندادا [ وأنتم تعلمون ] ) قال : الأنداد هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها فلان . هذا كله به شرك .
وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، فقال : أجعلتني لله ندا . وفي الحديث الآخر : نعم القوم أنتم ، لولا أنكم تنددون ، تقولون : ما شاء الله ، وشاء فلان .
قال أبو العالية : ( فلا تجعلوا لله أندادا ) أي عدلاء شركاء . وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، وأبو مالك : وإسماعيل بن أبي خالد .
وقال مجاهد : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) قال : تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل .
ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة :
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ، وكان يعد من البدلاء ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل ، أمر يحيى بن زكريا ، عليه السلام ، بخمس كلمات أن يعمل بهن ، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وكان يبطئ بها ، فقال له عيسى ، عليه السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن ، وإما أن أبلغهن . فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي . قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد ، فقعد على الشرف ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن ، وأولهن : أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، فإن مثل ذلك مثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب ، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأمركم بالصلاة ؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا . وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة ، كلهم يجد ريح المسك . وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك . وأمركم بالصدقة ؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ، فشدوا يديه إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وأمركم بذكر الله كثيرا ؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره ، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ؛ فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم . قالوا : يا رسول الله ، وإن صام وصلى ؟ فقال : وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل : المسلمين المؤمنين عباد الله .
هذا حديث حسن ، والشاهد منه في هذه الآية قوله : وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا .
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له ، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال : وهي دالة على ذلك بطريق الأولى ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب ، وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال : يا سبحان الله ، إن البعرة لتدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟
وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات ، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ، فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ، فقال : ويحكم ، هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ! ! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه .
وعن الشافعي : أنه سئل عن وجود الصانع ، فقال : هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم ، وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرا وروثا ، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد .
وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصن حصين أملس ، ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء ، وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة .
وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات
بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز :
فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وقال آخرون : من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال : ( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 27 ، 28 ] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء ، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا
وقوله: " الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا " مردود على الَّذِي الأولى في قوله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، وهما جميعًا من نَعت رَبَّكُمُ , فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم, والخالقَ الذين من قبلكم, الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً (125) وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره -بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم (126) ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته -تعطُّفًا منه بذلك عليهم, ورأفةً منه بهم, ورحمةً لهم, من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم, ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.
475- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة (127) ، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " الذي جعل لكم الأرض فراشًا " فهي فراشٌ يُمشى عليها, وهي المهاد والقرار (128) .
476- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: " الذي جَعل لكم الأرض فراشًا "، قال: مهادًا لكم.
477- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " الذي جعل لكم الأرض فراشًا " ، أي مهادًا.
القول في تأويل قوله : وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
قال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه, وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ (129) ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه, كما قال الفرزدق:
سَــمَوْنَا لِنَجْــرَانَ الْيَمَـانِي وَأَهْلِـهِ
وَنَجْــرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُـدَيَّثْ مَقَاوِلُـهْ (130)
وكما قال نابغة بني ذُبيانَ:
سَــمَتْ لِـي نَظْـرَةٌ, فَـرَأيتُ مِنْهَـا
تُحَــيْتَ الْخِــدْرِ وَاضِعَـةَ الْقِـرَامِ (131)
يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت, فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.
478- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " والسّماء بناء ", فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة, وهي سقف على الأرض. (132)
479- حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة في قول الله: " والسماءَ بناءً"، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ.
وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم, لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم, وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع.
القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ
يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنـزل من السماء مطرًا, فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات (133) - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه, وذكَّرهم به آلاءَه لديهم, وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة. &; 1-368 &; ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم, وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل, ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.
القول في تأويل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
قال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ, والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل, كما قال حسان بن ثابت:
أَتَهْجُـــوهُ وَلَسْــتَ لَــهُ بِنِــدٍّ?
فَشَـــرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَـــا الْفِــدَاءُ (134)
يعني بقوله: " ولستَ له بند "، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند (135) .
480- كما حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أي عُدَلاء (136) .
481- حدثني المثنى, قال: حدثني أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبل, عن ابن أبي نَحيح, عن مجاهد: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أي عُدَلاء (137) .
482- حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله (138) .
483- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (139) في قول الله: " فلا تَجعلوا لله أندادًا "، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
484- حُدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بِشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، قال: أشباهًا (140) .
485- حدثني محمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ, لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك (141) .
فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه, أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة, فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم, ونعمي التي أنعمتها عليكم (142) - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة, &; 1-370 &; وأخلصُوا ليَ العبادة, ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي, فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي (143) .
القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية:
فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل (144) .
ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:
486- حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: نَـزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله: " فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون "، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ, وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره, وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه (145) .
487- حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد، عن سعيد, عن قتادة في قوله: " وأنتمْ تعلمون " أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض, ثم تجعلون له أندادًا (146) .
ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين:
488- حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: " فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون "، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.
489- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا قَبيصة, قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله (147) .
490- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " وأنتم تعلمون "، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل (148) .
قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل, وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها, وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته, غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها, فقال جل ثناؤه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة الزخرف: 87]، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [سورة يونس: 31].
فالذي هو أولى بتأويل قوله: " وأنتم تعلمون " - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله, وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم, نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل &; 1-373 &; ثناؤه عني بقوله: " وأنتم تعلمون " أحدَ الحزبين, بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم, لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة, من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله (149) ، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه, كائنًا من كان من الناس, عربيًّا كان أو أعجميًّا, كاتبًا أو أميًّا, وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
--------------------
الهوامش :
(125) في المطبوعة : "مهادًا وموطئًا" ، وفي المخطوطة"مهادًا توتطا" ، وكأن الصواب ما أثبتناه . والموطأ : المهيأ الملين الممهد . وسيأتي أن الفراش هو المهاد .
(126) في المطبوعة"زيادة نعمه عندهم ، وآلائه لديهم" ، والصواب ما في المخطوطة . وقوله"عباده" مفعول : "يذكر ربنا . . " .
(127) قوله"وعن مرة" ، ساقطة من المطبوعة ، وهذا هو الصواب .
(128) الخبر 475- في الدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 38 .
(129) في المطبوعة"سماؤه" ، وكلتاهما صواب ، سماء البيت ، وسماوته : سقفه .
(130) ديوانه : 735 ، والنقائض : 600 . ونجران : أرض في مخاليف اليمن من ناحية مكة . وذكر نجران ، على لفظه وأصل معناه ، والنجران في كلام العرب : الخشبة التي يدور عليها رتاج الباب . وديث البعير : ذلـله بعض الذل حتى تذهب صعوبته . والمقاول : جمع مقول . والمقول والقيل : الملك من ملوك حمير . يقول : هي أرض عز عزيز ، لم يلق ملوكها ضيما يذلهم ويحني هاماتهم .
(131) ديوانه : 86 ، وروايته : "صفحت بنظرة" . وقوله"صفحت" ، أي تصفحت الوجوه بنظرة ، أو رميت بنظرة متصفحًا . والقرام : ستر رقيق فيه رقم ونقوش . والخدر : خشبات تنصب فوق قتب البعير مستورة بثوب ، وهو الهودج . ووضع الشيء : ألقاه . وتحيت : تصغير"تحت" ، وصغر"تحت" ، لأنه أراد أن ستر الخدر بعد وضع القرام لا يبدى منها إلا قليلا ، وهذا البيت متعلق بما قبله وما بعده . وقبله :
فَلَــوْ كَــانَتْ غَـدَاةَ الْبَيْـنِ مَنَّـتْ
وَقَـدْ رَفَعُـوا الْخُـدُورَ عَـلَى الْخِيَـامِ
صَفَحْـــــتُ بنظــــرةٍ . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تَــرَائِبَ يســتضئُ الحــليُ فيهـا
كَجــمْرِ النـارِ بُـذِّرَ فِـي الـظَّـلامِ
(132) الخبر 478- في الدر المنثور 1 : 34 ، جمعه مع الخبر : 475 خبرًا واحدًا .
(133) في المخطوطة : "زرعهم وغروسهم" ، وهما سواء .
(134) ديوانه : 8 ، روايته"بكفء" ، وكذلك في رواية الطبري الآتية (18 : 69 - 70 بولاق) وقصيدة حسان هذه ، يهاجى بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، قبل إسلامه ، وكان هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(135) في المطبوعة : "كان نظيرًا لشيء وشبيهًا" .
(136) الأثر 481- في الدر المنثور 1 : 35 ، والعدلاء : جمع عديل ، وهو النظير والمثيل ، كالعدل .
(137) الأثر- 481- في الدر المنثور 1 : 35 ، والعدلاء : جمع عديل ، وهو النظير والمثيل ، كالعدل .
(138) الخبر 482- في الدر المنثور 1 : 34 - 35 ، والشوكاني 1 : 39 .
(139) في المطبوعة : "ابن يزيد" ، وهو خطأ .
(140) الخبر 484- في الدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 39 .
(141) الأثر 485- جاء مثله في خبر عن ابن عباس في ابن كثير 1 : 105 ، والشوكاني 1 : 39 . وفي المطبوعة : "أي تقولوا : لولا كلبنا . . " ، وليست بشيء . وفي المخطوطة"ونحو هذا" مكان"ونحو ذلك" . والخبر الذي في ابن كثير ، ساقه مطولا بالإسناد من تفسير ابن أبي حاتم ، من طريق الضحاك بن مخلد ، وهو أبو عاصم النبيل الذي في هذا الإسناد ، عن شبيب ، وهو ابن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ولعل الطبري قصر بهذا الإسناد ، لأنه يروي مثل هذه الروايات ، بهذا الإسناد إلى عكرمة ، عن ابن عباس ، كما مضى برقم : 157 . وعن ذلك إعراض ابن كثير عن نقل رواية الطبري ، واختياره رواية ابن أبي حاتم . وسياق رواية ابن أبي حاتم -عن ابن عباس- فيها فوائد جمة . ولفظها : "قال : الأنداد ، هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت . وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها"فلان" . هذا كله به شرك" . ثم قال ابن كثير : "وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت! قال : أجعلتني لله ندًّا؟!" . والحديث الذي يشير إليه ابن كثير ، رواه أحمد في المسند بأسانيد صحاح ، عن ابن عباس : 1839 ، 1964 ، 2561 ، 3247 . وكذلك رواه البخاري في الأدب المفرد ص : 116 ونسبه الحافظ ابن حجر في الفتح 11 : 470 للنسائي وابن ماجه .
(142) في المطبوعة : "ونعمتي" بالإفراد .
(143) في المطبوعة : " . . كل نعمة عليكم مني" . وهذه أجود .
(144) في المطبوعة : "أهل الكتابين التوراة والإنجيل" .
(145) الخبر 486- مضى صدره في رقم : 472 ، وتمامه في ابن كثير 1 : 105 ، والدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 39 .
(146) الأثر 487- في الدر المنثور 1 : 35 .
(147) الإسناد 489- قبيصة ، بفتح القاف : هو ابن عقبة بن محمد السوائي الكوفي ، وهو ثقة معروف ، من شيوخ البخاري ، وأخرج له أصحاب الكتب الستة ، تكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري ، بأنه يخطئ في بعض روايته ، بأنه سمع من الثوري صغيرًا ، ولكن لم يجرحه البخاري في الكبير 4/1/177 ، وقال ابن سعد في الطبقات 6 : 281 : "كان ثقة صدوقًا ، كثير الحديث عن سفيان الثوري" . وسأل ابن أبي حاتم (الجرح 3/2/126) أباه عن قبيصة وأبي حذيفة ، فقال : "قبيصة أجل عندي ، وهو صدوق . لم أر أحدًا من المحدثين يأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره ، سوى قبيصة بن عقبة ، وعلي بن الجعد ، وأبي نعيم - في الثوري" .
(148) الأثر 490- ذكره ابن كثير 1 : 105 ، والدر المنثور 1 : 35 ، بنحوه .
(149) في المخطوطة : "من أنه معنى بذلك . . " ، وهما سواء .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 22 | ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ |
---|
غافر: 64 | ﴿اللَّـهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ |
---|
طه: 53 | ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ |
---|
الزخرف: 10 | ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ |
---|
الملك: 15 | ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال:{ وإن كنتم} معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله:{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة:[هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق. وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه. وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وفي مقام الإنزال، فقال:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وفي قوله:{ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال:{ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها
وبعد أن ساق - سبحانه - في هاتين الآيتين البراهين الساطعة الدالة على وحدانية الله؛ ونفي عقيدة الشرك ، أورد بعد ذلك الدلائل الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن ليس من صنع بشر ، وإنما هو كلام واهب القوى والقدر فقال - تعالى - :
( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ . . . )
في هاتين الآيتين انتقال لإِثبات الجزء الثاني من جزأي الإِيمان ، وهو صدق النبي صلى الله عليه وسلم - في رسالته ، بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك وهو وحدانية الله - تعالى - وعظيم قدرته .
والمعنى : إن رتبتم أيها المشركون في شأن هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد على مهل وتدريج ، فأتوا أنتم بسورة من مثله في سمو الرتبة ، وعلو الطبقة واستعينوا على ذلك بآلهتكم وبكل من تتوقعون منهم العون ، ليساعدوكم في مهمتكم ، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يمائله ، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن الكريم .
والمقصود بقوله : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا . . . ) نفي الريب عن المنزل عليه - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - بنفيه عن المنزل وهو القرآن الكريم .
والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب للإِيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم هو الارتياب في شأنه ، أو للتنبيه على أن كلامهم في شأن القرآن هو بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح الدلائل الدالة على أن القرآن من عند الله - تعالى- .
وعبر بقوله : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) ولم يقل : وإن ارتبتم فيما نزلنا ، للإِشارة إلى أن ذات القرآن لا يتطرق إليها ريب ، ولا يطير إلى أفقها شرارة من شك ، وأنه إن أثير حوله أي شك فمرجعه إلى انطماس بصيرتهم ، وضعف تفكيرهم ، واستيلاء الحقد والعناد على نفوسهم .
وأتى بإن المفيدة للشك مع أن كونهم في ريب مما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمر محقق ، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيهاً لساحة القرآن عن أن يتحقق الشك فيه من أي أحد ، وتوبيخاً لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها .
ووجه الإِتيان بفي الدالة على الظرفية ، للإِشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف .
وقال ( نَزَّلْنَا ) دون أنزلنا ، لأن المراد النزول على سبيل التدريج ، ومن المعروف أن القرآن قد نزل منجما في مدة تزيد على عشرين سنة .
قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : لم قيل : ( مما نزلنا ) على لفظ التنزيل دون الإِنزال؟ قلت : لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وذلك أنهم كانوا يقولون : لو كان هذا القرآن من عند الله ، لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة ، وآيات عقب آيات ، على حسب النوازل ، وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من جود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة . . . فقيل لهم : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج ، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبة ، وهاتوا نجماً فردا من نجومه : سورة من أصغر السور ، أو آيات شتى مفترقات ، وهذا غاية التبكيت ومنتهى إزاحة العلل ) اهـ. ملخصاً .
والمراد بالعبد في قوله - تعالى - : ( على عَبْدِنَا ) محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي إضافته إلى الله - تعالى - تنبيه على شرف منزلته عنده ، واختصاصه به .
وفي ذكره صلى الله عليه وسلم باسم العبودية ، تذكير لأمته بهذا المعنى ، حتى لا يغالوا في تعظيمه فيدعوا ألوهية كما غالت بعض الفرق في تعظيم أبنيائها أو زعمائهم فادعت ألوهيتهم .
والسورة : الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص ، والتي أقلها ثلاث آيات ، والضمير في قوله ( من مثله ) يعود على المنزل وهو القرآن .
والمراد من مثل القرآن : ما يشابهه في حسن النظم ، وبراعة الأسلوب وحكمة المعنى . وهذا الوجه من الإِعجاز يتحقق في كل سورة .
وقيل : إن الضمير في قوله ( من مثله ) يعود على المنزل عليه القرآن ، وهو - النبي صلى الله عليه وسلم - ولكن الرأي الأول أرجح .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : وعود الضمير إلى القرىن أرجح لوجوه :
أحدها : أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في سورة يونس من قوله : ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ . . . ) .
وثانيها : أن البحث إنما وقع في المنزل وهو القرآن ، لأنه قال : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا . . . ) فوجب صرف الضمير إليه ، ألا ترى أن المعنى ، وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله ، وقضية الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمدا منزل عليه فهاتوا قرآنا مثله .
وثالثها : أن الضمير لو كان عائدا إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإِتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو عالمين ، أما لو كان عائداً إلى محمد صلى الله عليه وسلم فذلك لا يقتضي إلا كون آحادهم من الأميين عاجزين عنه ، لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الأمي ، فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد ، لأن الجماعة لا تماثل الواحد . والقارئ لا يكون مثل الأمي ، ولا شك أن الإِعجاز على الوجه الأول أقوى .
ورابعها : أننا لو صرفنا الضمير إلى محمد صلى الله عليه وسلم لكان ذلك يوهم أن صدور مثل القرآن مما لم يكن مثل محمد في كونه أميا ممكن ، ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثله من الأمي ومن غير الأمي ممتنع فكان هذا أولى .
وقوله - تعالى - : ( وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله ) معطوف على قوله : ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ ) .
وادعوا : من الدعاء ، والمراد به هنا : طلب حضور المدعو أي : نادوهم .
وشهداءكم : أي : آلهتكم ، جمع شهيد وهو القائم بالشهادة ، فقد كانوا يزعمون أن آلهتهم تشهد لهم يوم القيامة بأنهم على حق .
وقيل : الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو الناصر أو الإِمام ، وكأنه سمي به لأنه يحضر المجالس وتمر بمحضره الأمور .
ودون : بمعنى غير : وتطلق في أصل اللغة على أدنى مكان من الشيء ، ومنه تدوين الكتب لأنه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للتفاوت في الرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ، ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ، وتخطى أمر إلى أمر .
قال الجمل : ( والمعنى ) : وادعوا إلى المعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله ، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله . . ، أو ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ، ولا تستشهدوا بالله ، فإن الاستشهاد به من عادة المبهوت العاجز عن إقامة الحجة ، أو شهداءكم الذين اتخذتموهم من دون الله آلأهة وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة . . . .
وفي أمرهم بدعوة أصنامهم وهي جماد ، وفي تسميتها شهداء مع إضافتها إليهم مع أنه لا تعقل ولا تنطق ، في كل ذلك أقوى ألوان التهكم ، لكي يثير في نفوسهم من الألم ما قد يكون سبباً لتنبيههم ، إلى جهلهم ، وانصرافهم عن ضلالهم .
وقوله - تعالى - : ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) جملة معترضة في آخر الكلام وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق دلالة واضحة حتى صار ذكره في نظم الكلام مما ينزل به عن مرتبة البلاغة .
والمعنى : إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن فأتوا بسورة من مثله . وادعوا آلهتكم وبلغاءكم وجميع البشر ليعينوكم أو ليشهدو لكم أنكم أتيتم بما يماثله في حكمة معانيه وحسن بيانه .
وفي هذه الآية الكريمة إثارة لحماستهم ، إذ عرض بعدم صدقهم ، فتتوفر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها .
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو ، فقال مخاطبا للكافرين : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ( فأتوا بسورة ) من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله ، فعارضوه بمثل ما جاء به ، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله ، فإنكم لا تستطيعون ذلك .
قال ابن عباس : ( شهداءكم ) أعوانكم [ أي : قوما آخرين يساعدونكم على ذلك ] .
وقال السدي ، عن أبي مالك : شركاؤكم [ أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم ] .
وقال مجاهد : ( وادعوا شهداءكم ) قال : ناس يشهدون به [ يعني : حكام الفصحاء ] .
وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن ، فقال في سورة القصص : ( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ) [ القصص : 49 ] وقال في سورة سبحان : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ الإسراء : 88 ] وقال في سورة هود : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) [ هود : 13 ] ، وقال في سورة يونس : ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) [ يونس : 37 ، 38 ] وكل هذه الآيات مكية .
ثم تحداهم [ الله تعالى ] بذلك - أيضا - في المدينة ، فقال في هذه الآية : ( وإن كنتم في ريب ) أي : [ في ] شك ( مما نزلنا على عبدنا ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . ( فأتوا بسورة من مثله ) يعني : من مثل [ هذا ] القرآن ؛ قاله مجاهد وقتادة ، واختاره ابن جرير . بدليل قوله : ( فأتوا بعشر سور مثله ) [ هود : 13 ] وقوله : ( لا يأتون بمثله ) [ الإسراء : 88 ] وقال بعضهم : من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، يعني : من رجل أمي مثله . والصحيح الأول ؛ لأن التحدي عام لهم كلهم ، مع أنهم أفصح الأمم ، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة ، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ، ومع هذا عجزوا عن ذلك
القول في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضُرباءَهم يَعني بها (150) ، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ -وهو الريب- مما نـزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي, وأنّي الذي أنـزلته إليه, فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول, فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته (151) ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك -وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة (152) - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه, لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه, أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " فأتوا بسورَة من مثله ".
491- فحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فأتوا بسورة من مثله "، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب.
492- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا &; 1-374 &; مَعمر، عن قتادة في قوله: " فأتوا بسورة من مثله "، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن (153) .
493- حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: " فأتوا بسورة من مثله "، مثلِ القرآن.
494- حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
495- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: " فأتوا بسورة مِنْ مثله "، قال: " مثله " مثلِ القرآن (154) .
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما (155) : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب, كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.
وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: " فأتُوا بسورة من مثله "، من مثل محمد من البشر , لأن محمدًا بشر مثلكم (156) .
قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس: 38]، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه, فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد.
فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله (157) " ، فأتوا بسورة من مثله "، &; 1-375 &; من مثل هذا القرآن, فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟
قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه, وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنـزله الله بلسان عربيّ, فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين, فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن (158) ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان, إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم, وكلامًا نـزل بلسانهم, فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنـزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي, فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية, إذْ كنتم عربًا, وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم, وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نـزل به القرآن, فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به, وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به, فليس لك علينا بهذا حجة (159) . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله (160) - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله, لأن مثله من الألسن ألسنكم (161) ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه, إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - &; 1-376 &; أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم (162) ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا -وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ (163) ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
فقال ابن عباس بما:
496- حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: " وادعوا شُهداءكم من دون الله "، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه, إن كنتم صادقين.
497- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " وادعوا شُهداءكم "، ناس يَشهدون.
498- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
499- حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, قال: قوم يشهدون لكم.
&; 1-377 &;
500- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: " وادعوا شهداءكم "، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج: " شهداءكم " عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن (164) .
وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله " فادعوا "، يعني: استنصروا واستغيثوا (165) ، كما قال الشاعر:
فَلَمَّــا الْتَقَــتْ فُرْسَـانُنَا وَرِجَـالُهُمْ
دَعَـوْا: يَـا لَكَـعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَـا لِعَامِرِ (166)
يعني بقوله: " دعوْا يالكعب "، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم (167) .
وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد, كما الشركاء جمع شريك (168) ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان -يعني به مُجالسَه, ونديمه - يعني به مُنادِمَه, وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه.
فإذا كانت " الشهداء " محتملةً أن تكون جمعَ" الشهيد " الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ, فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس, وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء, لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من &; 1-378 &; مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح, وأهل كفر صحيح, وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين, فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة, ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين (169) . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم (170) ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن (171) ؟
ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء: 88]، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى: " وإنْ كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين ". يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي, فأتوا بسورة &; 1-379 &; من مثله, وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ, ويَصحَّ عندكم أنه تنـزيلي وَوحيي إلى عبدي.
-------------------
الهوامش :
(150) في المطبوعة : "وأخبر بأهم نعوتها" ، وهي في المخطوطة"+وحرناهم تعنى بها" غير منقوطة ولا بينة ، فاختار المصححون لها قراءة لا تحمل معنى! والضرباء : جمع ضريب؛ فلان ضريب فلان : نظيره أو مثله .
(151) في المطبوعة : "وبرهانه على نبوته" .
(152) في المطبوعة : "والدارية" ، ولا معنى لها هنا ، وستأتي بعد أسطر على الصواب . والذرابة : الحدة في كل شيء ، وحدة اللسان وفصاحته ولدده . ذرب الرجل يذرب ذربًا وذرابة : فصح وصار حديد اللسان ، فهو ذرب اللسان (بفتح الذال وكسر الراء) .
(153) الأثر 492- في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 .
(154) الآثار 493 - 495 في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 ، وابن كثير 1 : 108 .
(155) في المطبوعة : "اللذين ذكرنا عنهما" .
(156) يعني فأتوا بسورة من عند بشر مثل محمد .
(157) في المطبوعة : "إنك ذكرت" ، بغير فاء .
(158) في المطبوعة : "بما احتج له عليهم" ، أسقط"به" .
(159) في المطبوعة : "حجة بهذا" على التأخير .
(160) في المطبوعة : "لسنا بأهله" .
(161) في المطبوعة : "ألسنتكم" .
(162) يقول : "وأنتم . . . أقدر على اختلاقه . . " ، مبتدأ وخبر ، وما بينهما فصل . وفي المطبوعة مكان"ورصفه" ، "ووضعه" . والرصف : ضم الشيء بعضه إلى بعض ونظمه وإحكامه حتى يستوي . ومنه : كلام رصيف : أي محكم لا اختلاف فيه .
(163) في المطبوعة"وهو وحده" ، وهذه أجود .
(164) الآثار 496 - 500 : في ابن كثير 1 : 108 بعضها ، والدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 ، وفي المخطوطة في بعض المواضع : "أناس" مكان"ناس" ، وهما سواء .
(165) في المطبوعة : "واستعينوا" ، وهما متقاربتان ، والأولى أجود ، وهي كذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 19 .
(166) البيت للراعي النميري ، اللسان (عزا) . واعتزى : انتسب ، ودعا في الحرب بمثل قوله : يا لفلان ، أو يا للمهاجرين ، أو يا للأنصار ، والاسم العزاء والعزوة ، وهي دعوى المستغيث .
(167) في المطبوعة : "واستعانوا" ، كما سلف في أختها قبل .
(168) في المطبوعة : "كالشركاء" .
(169) قوله"من المؤمنين" متعلق بقوله آنفًا "أن لهم شهداء . . " ، يعني شهداء من المؤمنين . ثم فصل ، لأن قوله"على حقيقة ما كانوا يأتون به . . " متعلق أيضًا ، بشهداء .
(170) في المطبوعة : "لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم" . وتترع إلى الشيء : تسرع إليه ، يقال في التسرع إلى الشر وما لا ينبغي . وما في المخطوطة"تتارعوا" صحيح في اشتقاق العربية ، وإن لم تذكره المعاجم ، وهو مثل تسرع وتسارع ، سواء .
(171) في المطبوعة"فمن أي الفرق . . " ، وكلام الطبري استفهام واستنكار . لأن من المحال أن يشهد المؤمنون على هذا الباطل ، والكفار وأهل النفاق يتسرعون إلى الشهادة بالباطل لإبطال الحق ، فكان محالا أن يكون معنى"الشهداء" هنا : الذين يشهدون لهم ، أن ما جاءوا به نظير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى . وصار حتما أن يكون معنى"الشهداء" : الذين يظاهرونهم ويعاونونهم ، كما جاء في الآية التالية .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 23 | ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ |
---|
يونس: 38 | ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ |
---|
هود: 13 | ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ |
---|
القصص: 49 | ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال:{ وإن كنتم} معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله:{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة:[هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق. وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه. وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وفي مقام الإنزال، فقال:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وفي قوله:{ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال:{ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها
ثم قال - تعالى - : ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة ) .
المعنى : فإن لم تفعلوا أي : تعارضوا القرآن ، وتبين لكم أن أحداً لا يستطيع معارضته ، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين وهو النار التي وقودها الناس والحجارة " .
والوقود : ما يلقى في النار لإِضرامها كالحطب ونحوه ، والحجارة : الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله كما قال - تعالى - : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار غيرهما بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن أن الجن والشياطين يدخلونها .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء ب " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم ، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام .
والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يعاديه : إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكماً به .
وقال : فإن لم تفعلوا ، ولم يقل فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، لأن قوله ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ) جار مجرى الكناية التي تعطي اختصاراً ووجازة تغني عن طول المكنى عنه ، ولأن الإِتيان ما هو إلا فعل من الأفعال ، تقول : أتيت فلانا . فيقال لك : نعم ما فعلت .
وجملة ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) جملة معترضة بين الشرط والجزاء ، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته . فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيدا لنفيها في الحال .
قال الإِمام الرازي : ( فإن قيل : فما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ فالجواب أنه إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : ( فاتقوا النار ) قائماً مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا هو الإِيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد ، لإِنابه اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار ) .
ومعنى ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) هيئت لهم ، لأنهم الذين يخلدون فيها ، أو أنهم خصوا بها وإن كانت معدة للفاسقين - أيضاً لأنه يريد بذلك ناراً مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال - تعالى - ( إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار ) وفي هذه الآية الكريمة معجزة من نوع الإِخبار بالغيب ، إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر .
قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو عليه حتى يكون معجزة؟ قلت : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه ، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال ، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه ، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به ، فكان معجزة ) .
وقال بعض العلماء : ( هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدي الكافرين بالتزيل الكريم ) . وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص :
( قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وقال في سورة الإِسراء : ( قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً )
وقال في سورة يونس : ( أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وكل هذه الآيات مكية .
ثم تحداهم أيضا في المدينة بهذه الآية ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) . . إلخ . فعجزوا عن آخرهم ، وهم فرسان الكلام ، وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقه وفيهم غريزة وقوة . يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال . . . ومع هذا فلم يتصد لمعارضة القرآن منهم أحد ، ولم ينهض - لمقدار سورة منه - ناهض من بلغائهم ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإِفراط في المضارة والمضادة . وقد جرد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجة أولا ، والسيف آخراً فلم يعارضوا إلا السيف وحده ، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة ، وبذلك يظهر أن في قوله - تعالى - ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا . . .
وحيث عجزت عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . . فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر ، بل هو كلام خالق القوى والقدر أنزله تصديقاً لرسوله ، وتحقيقاً لمقوله . . .
وبعد أن ذكر القرآن الكفار ومآلهم ، عطف على ذلك ذكر المؤمنين وما يفوزون به من نعيم في حياتهم الباقية ، كما هي سنة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد فقال - تعالى - :
( وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا . . . )
ولهذا قال تعالى : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) ولن : لنفي التأبيد أي : ولن تفعلوا ذلك أبدا . وهذه - أيضا - معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا وكذلك وقع الأمر ، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وأنى يتأتى ذلك لأحد ، والقرآن كلام الله خالق كل شيء ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ؟ !
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، قال الله تعالى : ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) [ هود : 1 ] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف ، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر كما قال : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء ، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه ، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيها بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته .
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة ، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا ، وكلما تكرر حلا وعلا ، لا يخلق عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء ، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن ، كما قال في الترغيب : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [ السجدة : 17 ] وقال : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) [ الزخرف : 71 ] ، وقال في الترهيب : ( أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ) [ الإسراء : 68 ] ، ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ) [ الملك : 16 ، 17 ] وقال في الزجر : ( فكلا أخذنا بذنبه ) [ العنكبوت : 40 ] ، وقال في الوعظ : ( أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) [ الشعراء : 205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة ، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي ، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا ) فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه . ولهذا قال تعالى : ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) الآية [ الأعراف : 157 ] ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم .
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة لفظ مسلم . وقوله : وإنما كان الذي أوتيته وحيا أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه ، بخلاف غيره من الكتب الإلهية ، فإنها ليست معجزة [ عند كثير من العلماء ] والله أعلم . وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته ، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة .
[ وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية ، فقال : إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته ، كما قررنا ، إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر ) و إنا أعطيناك الكوثر ) ] .
وقوله تعالى : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) أما الوقود ، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه ، كما قال : ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) [ الجن : 15 ] وقال تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [ الأنبياء : 98 ] .
والمراد بالحجارة هاهنا : هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت ، أجارنا الله منها .
قال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله تعالى : ( وقودها الناس والحجارة ) قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ، يعدها للكافرين . رواهابن جرير ، وهذا لفظه . وابن أبي حاتم ، والحاكم في مستدركه وقال : على شرط الشيخين .
وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ) أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون به مع النار .
وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة . وقال أبو جعفر محمد بن علي : [ هي ] حجارة من كبريت . وقال ابن جريج : حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم .
[ وقيل : المراد بها : حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) الآية [ الأنبياء : 98 ] ، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول ؛ قال : لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى ، وهذا الذي قاله ليس بقوي ؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة - أيضا - مشاهد ، وهذا الجص يكون أحجارا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك . وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها . وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها ، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال : ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) [ الإسراء : 97 ] . وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال : ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها ، قال : وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مؤذ في النار وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف ثم قال القرطبي : وقد فسر بمعنيين ، أحدهما : أن كل من آذى الناس دخل النار ، والآخر : كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك ] .
وقوله تعالى : ( أعدت للكافرين ) الأظهر أن الضمير في ( أعدت ) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، ويحتمل عوده على الحجارة ، كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى ؛ لأنهما متلازمان .
و ( أعدت ) أي : أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، كما قال [ محمد ] بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أعدت للكافرين ) أي : لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله : ( أعدت ) أي : أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : تحاجت الجنة والنار ومنها : استأذنت النار ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة ، الآن وصل إلى قعرها وهو عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى ، وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس .
تنبيه ينبغي الوقوف عليه :
قوله : ( فأتوا بسورة من مثله ) وقوله في سورة يونس : ( بسورة مثله ) [ يونس : 38 ] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة ؛ لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه ، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها ، وهذا ما أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا ، وقد قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره : فإن قيل : قوله : ( فأتوا بسورة من مثله ) يتناول سورة الكوثر وسورة العصر ، و ( قل يا أيها الكافرون ) ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن . فإن قلتم : إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين : قلنا : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن كذلك ، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزا ، فعلى التقديرين يحصل المعجز ، هذا لفظه بحروفه . والصواب : أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة .
قال الشافعي ، رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) [ سورة العصر ] . وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم ، فقال له مسيلمة : ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين ؟ فقال له عمرو : لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال : وما هي ؟ فقال : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل علي مثلها ، فقال : وما هو ؟ فقال : يا وبر يا وبر ، إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر فقر ، ثم قال : كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فإن لم تفعلوا "، إن لم تأتوا بسورة من مثله, فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم (172) ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه, وعلمتم أنه من عندي, ثم أقمتم على التكذيب به.
وقوله: " ولن تفعلوا "، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.
501- كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا "، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه (173) .
502- حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا "، فقد بَين لكم الحق (174) .
القول في تأويل قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله " فاتقوا النار "، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنـزيلي, بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي, وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي, بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.
ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها, وأن الحجارة وَقُودها, فقال: " التي وَقودها الناس والحجارة "، يعني بقوله: " وَقُودُها " حَطبها, والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنـزلة الحطب.
فإذا ضَمت الواو من " الوقود " كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا, يراد بذلك أنها التهبتْ.
فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟
&; 1-381 &;
قيل: إنها حجارةُ الكبريت, وهي أشد الحجارة -فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت.
503- كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد, عن عبد الرحمن بن سَابط, عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله بن مسعود، في قوله: " وقُودها الناس والحجارة "، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين.
504- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا ابن عُيينة, عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون, عن ابن مسعود في قوله: " وقودها الناسُ والحجارة "، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء (175) .
505- حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة "، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار (176) .
506- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج في قوله: " وقودها الناس والحجارة "، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم (177) .
507- حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود, قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء (178) .
* * *
القول في تأويل قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن " الكافر " في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء (179) ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده, وتغطيته نَعماءَه قِبَله.
فمعنى قوله إذًا: " أعدت للكافرين "، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم, الذي جَعل لهم الأرض فراشًا, والسماء بناءً, وأنـزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة (180) ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق (181) .
508- كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: " أعدت للكافرين "، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر (182) .
---------------
الهوامش :
(172) في المطبوعة : "وقد تظاهرتم" ، وما في المخطوطة أجود ، وسيأتي بعد قليل بيان ذلك .
(173) الأثر 501- ذكره السيوطي 1 : 35 بنحوه ، ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير . وكتب فيه خطأ مطبعيًّا"ابن جريج" .
(174) الأثران 501 ، 502- في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 . ولفظ الطبري في تفسير هذه الآية وفي التي تليها ، وما استدل به من الأثر الأخير ، يدل على أنه يرى أن جواب الشرط محذوف ، لأنه معلوم قد دل عليه السياق؛ وجواب الشرط"فقد بين لكم الحق ، وأقمتم على التكذيب به وبرسولي" ، ثم قال مستأنفًا : "فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي ، أنه جاءكم بوحيي وتنزيلي ، بعد أن تبين لكم أنه كتابي ومن عندي" .
ولم أجد من تنبه لهذا غير الزمخشري ، فإنه قال في تفسير الآية من كتابه"الكشاف" ما نصه : "فإن قلت : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار ، انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت : إنهم إذا لم يأتوا بها ، وتبين عجزهم عن المعارضة ، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا صح عندهم صدقه ، ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا ، استوجبوا العقاب بالنار . فقيل لهم : إن استبنتم العجز فاتركوا العناد . فوضع"فاتقوا النار" موضعه ، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، من حيث إنه من نتائجه . لأن من اتقى النار ترك المعاندة . ونظيره أن يقول الملك لحشمه : "إن أردتم الكرامة عندي ، فاحذروا سخطي" . يريد : فأطيعوني واتبعوا أمري ، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط . وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة . وفائدته : الإيجاز ، الذي هو حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد ، بإنابة اتقاء النار منابه ، وإبرازه في صورته ، مشيعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها" .
فقد تبين بهذا مراد الطبري ، وأنه أراد أن يبين أن اتقاء النار غير داخل في الشرط ، ولا هو من جوابه ، ليخرج بذلك من أن يكون معنى الكلام : قصر اتقائهم النار ، على عجزهم عن الإتيان بمثله . وتفسير الآتي دال على هذا المعنى تمام الدلالة . وهو من دقيق نظر الطبري رحمه الله وغفر للزمخشري .
(175) الخبر 503 ، 504- مسعر ، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين : هو ابن كدام - بكسر الكاف وتخفيف الدال ، وهو ثقة معروف ، أحد الأعلام . عبد الملك بن مَيسرة الهلالي الكوفي الزراد ، نسبة إلى عمل الزرود : ثقة كثير الحديث ، من صغار التابعين . عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي : تابعي ثقة . عمرو بن ميمون الأودي : من كبار التابعين المخضرمين ، كان مسلمًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يره .
وهذا الخبر رواه الطبري بهذين الإسنادين وبالإسناد الآتي : 507 . وفي الأول والثالث أن عبد الملك ابن ميسرة يرويه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون ، وفي الثاني : 504"عبد الملك الزراد عن عمرو بن ميمون" مباشرة ، بحذف"عبد الرحمن بن سابط" . ولو كان هذا الإسناد وحده لحمل على الاتصال ، لوجود المعاصرة ، فإن عبد الملك الزراد يروي عن ابن عمر المتوفى سنة 74 ، وعمرو بن ميمون مات سنة 74 أو 75 . ولكن هذين الإسنادين : 503 ، 504 دلا على أنه إنما رواه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون .
والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 261 ، من طريق محمد بن عبيد عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود . فهذه طريق ثالثة تؤيد الطريقين اللذين فيهما زيادة عبد الرحمن في الإسناد . وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي . وذكره ابن كثير 1 : 1101 - 111 من رواية الطبري ، ونسبه لابن أبي حاتم والحاكم ، ونقل تصحيحه إياه ولم يتعقبه . وذكره السيوطي 1 : 36 وزاد نسبته إلى : عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وهناد بن السري في كتاب الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني في الكبير ، والبيهقي في الشعب .
(176) الخبر 505- ذكره ابن كثير 1 : 111 دون أن ينسبه ، والسيوطي 1 : 36 ، ونسبه لابن جرير وحده .
(177) الأثر 506- في ابن كثير 1 : 111 دون نسبة .
(178) الخبر 507- سبق تفصيل إخراجه مع 503 ، 504 .
(179) انظر ما مضى : 255 .
(180) قوله"المشركين" من صفة قوله آنفًا : "للجاحدين" .
(181) في المخطوطة : "بالأشياء" ، وهو خطأ .
(182) الخبر 508- في ابن كثير 1 : 111 ، والدر المنثور 1 : 36 ، والشوكاني 1 : 41 .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 24 | ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ |
---|
التحريم: 6 | ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
وقودها:
قرئ:
1- بفتح الواو، وهى قراءة الجمهور، وعلى هذه القراءة، فمعناه: الحطب.
2- بضمها، وهى قراءة الحسن، باختلاف، ومجاهد، وطلحة، وأبى حيوة، وعيسى بن عمر الهمذاني وعلى هذه القراءة فهو مصدر.
أعدت:
وقرئ:
1- اعتدت من العتاد، بمعنى: العدة، وهى قراءة عبد الله.
2- أعدها الله للكافرين، وهى قراءة ابن أبى عبلة.