ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
بعدَ السؤالِ الرابعِ عن النفقةِ يأتي السؤالُ السادسُ عن اليتامى للتذكيرِ بطائفةٍ من النَّاسِ هي أحقُّ بالإنفاقِ عليها، ثُمَّ النهي عن نكاحِ المشركاتِ وإنكاحِ المشركينَ.
السؤالُ السابعُ: عن الحيضِ، وبيانُ تحريمِ جماعِ الزوجةِ حتى تطهرَ وتغتسلَ، ثُمَّ الحديثُ عن الأيمانِ، فلا نجعلُها مانعًا من فعلِ الخيرِ، وعدم المؤاخذةِ في يمينِ اللَغوِ.
التفسير :
لما نزل قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} شق ذلك على المسلمين, وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى, خوفا على أنفسهم من تناولها, ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها, وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأخبرهم تعالى أن المقصود, إصلاح أموال اليتامى, بحفظها وصيانتها, والاتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى, لأنهم إخوانكم, ومن شأن الأخ مخالطة أخيه, والمرجع في ذلك إلى النية والعمل، فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم, وليس له طمع في ماله, فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس، ومن علم الله من نيته, أن قصده بالمخالطة, التوصل إلى أكلها وتناولها, فذلك الذي حرج وأثم, و "الوسائل لها أحكام المقاصد "وفي هذه الآية, دليل على جواز أنواع المخالطات, في المآكل والمشارب, والعقود وغيرها, وهذه الرخصة, لطف من الله [تعالى] وإحسان, وتوسعة على المؤمنين، وإلا فـ{ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} أي:شق عليكم بعدم الرخصة بذلك, فحرجتم. وشق عليكم وأثمتم،{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أي:له القوة الكاملة, والقهر لكل شيء، ولكنه مع ذلك{ حَكِيمٌ} لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة, فعزته لا تنافي حكمته، فلا يقال:إنه ما شاء فعل, وافق الحكمة أو خالفها، بل يقال:إن أفعاله وكذلك أحكامه, تابعة لحكمته, فلا يخلق شيئا عبثا, بل لا بد له من حكمة, عرفناها, أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة, أو راجحة, ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة, لتمام حكمته ورحمته.
أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ.
أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال:لما نزل قوله- تعالى-: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
وقوله- تعالى-:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه. وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله- تعالى- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم «1» .
والمعنى: ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونون معهم فقل لهم: إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة.
والمعاملة الحسنة، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم، وتركهم، ولذا قال- تعالى- بعد ذلك:
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أى: وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة والإنسانية، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة.
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها. و «إصلاح» مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نكرة وصفه بالجار والمجرور «لهم» و «خير» خبره، وقوله: فَإِخْوانُكُمْ الفاء واقعة في جواب الشرط، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط.
وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وعد ووعيد، وترغيب في الإصلاح وترهيب من الإفساد، أى: والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها، كما أنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وسيجازى كل إنسان على حسب عمله، فاحذروا الإفساد ولا تتحروا غير الإصلاح.
ثم قال- تعالى-: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ العنت: الشدة والمشقة والتضييق. يقال:
أعنته في كذا يعنته إعناتا، إذا أجهده وألزمه ما يشق عليه.
أى: ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى، وبغير ذلك مما يشرع لكم، ولكنه- سبحانه- وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن، فاشكروه على ذلك.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: إن الله- تعالى- غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من أذلهم، حكيم في كل تصرفاته وأفعاله، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها.
وقد استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، وعلى أن للولي أن يخالط اليتيم بنفسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة.
وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما» .
وروى الطبراني عن أبى الدرداء. قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحانى، والقلب الرحيم، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها. ورضاه الله- في أخراها.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة، والإيلاء والطلاق، والعدة، والنفقة، والرضاعة، والخطبة، والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها، وبنائها على أفضل الدعائم، وأحكم الروابط، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، ومن مجموعها يتكون، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان، وإذا تصدعت تصدع.
ولقد ابتدأت الآيات التي معنا حديثها عن الأسرة بالحديث عن الزواج لأنه أعمق الروابط وأقواها ومنه تتأتى الذرية، لذا جعل أساس الاختيار فيه هو التدين السليم، والخلق القويم، الذي يسعد ولا يشقى، ويبنى ولا يهدم، ويحفظ ولا يضيع.. ولا يتأتى ذلك إلا باختيار المسلمة الصالحة والإعراض عن المشركة الكافرة.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك فيقول:
وقوله : ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) أي : كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ، ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو أسامة ، عن الصعق العيشي قال : شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة : ( لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) قال : هي والله لمن تفكر فيها ، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ، ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ، ثم دار بقاء .
وهكذا قال قتادة ، وابن جريج ، وغيرهما .
وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة : لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا . وفي رواية عن قتادة : فآثروا الآخرة على الأولى .
[ وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران : 190 ] آثارا كثيرة عن السلف في معنى التفكر والاعتبار ] .
وقوله : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم ) الآية : قال ابن جرير :
حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الإسراء : 34 ] و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود بمثله . وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
قال وكيع بن الجراح : حدثنا هشام الدستوائي عن حماد ، عن إبراهيم قال : قالت عائشة :
إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عرة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .
فقوله : ( قل إصلاح لهم خير ) أي : على حدة ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) أي : وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم ; لأنهم إخوانكم في الدين ; ولهذا قال : ( والله يعلم المفسد من المصلح ) أي : يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح .
وقوله : ( ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) أي : ولو شاء لضيق عليكم وأحرجكم ولكنه وسع عليكم ، وخفف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام : 152 ] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
القول في تأويل قوله عز ذكره : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
اختلف أهل التأويل فيمَ نـزلت هذه الآية. (1)
فقال بعضهم: نـزلت [ في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره، وذلك حين نـزلت وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ سورة الأنعام: 152]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ سورة النساء : 10 ] .
* ذكر من قال ذلك] : (2)
4182 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ سورة الأنعام: 152، والإسراء: 34 ] عزلوا أموال اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنـزلت: " وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلمَ المفسدَ من المصْلح، ولو شاء الله لأعنتكم "، فخالطوهم. (3)
&; 4-350 &;
4183 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [ سورة النساء: 10]، انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامَه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل الشيء من طعامه فيُحبس له حتى يأكله أو يفسُد. فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله عز وجل: " ويسألونك عن اليتامى قل إصْلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم "، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم . (4)
4184 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، قال: كنا نصنع لليتيم طعامًا فيفضُل منه الشيء، فيتركونه حتى يَفسد، فأنـزل الله: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " . (5)
4185- حدثنا يحيى بن داود الوسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم قال: سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم فقال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، اجتُنبت مخالطتهم، واتقوا كل شيء، حتى اتقوا الماء، فلما نـزلت " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: فخالطوهم.
4186 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " ويسألونك عن اليتامى " الآية كلها، قال: كان الله أنـزل قبل ذلك في &; 4-351 &; " سورة بني إسرائيل " (6) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره، فاشتد ذلك عليهم، فأنـزل الله الرخصة فقال: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " .
4187 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال، قال: فشق ذلك على الناس، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عز وجل: " ويسألونك عن اليتامى قُل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " .
4188 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم " الآية، قال: فذكر لنا والله أعلمُ أنه أنـزل في" بني إسرائيل ": (7) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فاشتد ذلك عليهم، فأنـزل الله الرخصة فقال: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم "، يقول: مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم. يقول: الوليّ الذي يلي أمرهم، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
4189 - حدثني عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ الآية، قال: كان يكون في حِجْر الرجل اليتيمُ فيعزل طعامه وشرابه وآنيته، فشقّ ذلك على المسلمين، فأنـزل &; 4-352 &; الله: " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح "، فأحل خُلطتهم. (8)
4190 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي قال: لما نـزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ، قال: فاجتنب الناس الأيتامَ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه، وماله من ماله، وشرابه من شرابه. قال: فاشتد ذلك على الناس، فنـزلت: " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ". قال الشعبي: فمن خالط يتيما فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل.
4191 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: قوله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير "، وذلك أن الله لما أنـزل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ، كره المسلمون أن يضمُّوا اليتامى، وتحرَّجوا أن يخالطوهم في شيء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله: " قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " .
4192 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: لما نـزلت " سورة النساء "، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا يشقُّ علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا! فنـزلت: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " = قال ابن جريج، وقال مجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدْمهم عن أدْمِهم، (9) فشقّ ذلك عليهم، فنـزلت: " وإن تخالطوهم &; 4-353 &; فإخوانكم "، قال: مخالطة اليتيم في المراعي والأدْم = قال ابن جريج، وقال ابن عباس: الألبان وخِدمة الخادم وركوب الدابة = قال ابن جريج: وفي المساكن، قال: والمساكن يومئذ عزيزةٌ.
4193 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، أخبرنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ، قال: اجتنب الناس مالَ اليتيم وطعامه، حتى كان يفسُد، إنْ كان لحمًا أو غيره. فشقّ ذلك على الناس، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير " (10)
4194 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس بن سعد، شك أبو عاصم - عن مجاهد: " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: مخالطة اليتيم في الرِّعْي والأدْم. (11)
* * *
وقال آخرون: بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم، فأفتوا بما بيَّنه الله في كتابه.
* ذكر من قال ذلك:
4195 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح "، قال: كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرًا، ولا يستخدموا له خادمًا، &; 4-354 &; فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه، فقال: " قل إصلاح لهم خيرٌ"، يصلح له ماله وأمره له خيرٌ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويرْكب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه، فهو أجودُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ .
4196 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ" إلى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، وإن الناس كانوا إذا كان في حِجْر أحدهم اليتيمُ جعل طعامه على ناحية، ولبنه على ناحية، مخافة الوِزر، وإنه أصاب المؤمنين الجَهْد، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدمًا لليتامى، فقال الله: " قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم " إلى آخر الآية.
4197 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " ويسألونك عن اليتامى "، كانوا في الجاهلية يعظِّمون شأنَ اليتيم، فلا يمسُّون من أموالهم شيئًا، ولا يركبون لهم دابة، ولا يطعمون لهم طعامًا. فأصابهم في الإسلام جَهْدٌ شديد، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شأنِ اليتامَى وعن مخالطتهم، فأنـزل الله: " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، يعني" بالمخالطة ": ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشربَ اللبن.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة، فقل لهم: تفضُّلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم - من غير مَرْزِئة شيء من أموالهم، (12) وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم - خيرُ لكم عند الله وأعظمُ &; 4-355 &; لكم أجرًا، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب = وخيرٌ لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم =" وإنْ تخالطوهم " فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضمُّوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويكنُفُ بعضهم بعضًا، (13) فذو المال يعينُ ذا الفاقة، وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالى ذكره: فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك، إن خالطتموهم بأموالكم = فخلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم، وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتم من أموالهم فَضْل مَرْفَق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبابهم، على النظر منكم لهم نظرَ الأخ الشفيق لأخيه، العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه = فذلك لكم حلالٌ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض، كما:-
4198 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: قد يخالط الرجل أخاه.
4199 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مسكين، عن إبراهيم قال: إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعُرة . (14)
4200 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مالُ اليتم عندي عُرَّةً، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. (15)
* * *
&; 4-356 &;
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال: " فإخوانُكم "، فرفع " الإخوان " ؟ وقال في موضع آخر: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا [ سورة البقرة: 239]
قيل: لافتراق معنييهما. وذلك أنّ أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. و " الإخوان " مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره، وهو " هم " لدلالة الكلام عليه = وأنه لم يرد " بالإخوان " الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانًا من أجل مخالطة وُلاتهم إياهم. ولو كان ذلك المراد، لكانت القراءة نصبًا، وكان معناه حينئذ: وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرئ رفعًا لما وصفت: من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم، خالطوهم أو لم يخالطوهم.
وأما قوله: فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا ، فنصبٌ، لأنهما حالان للفعل، غير دائمين، (16) ولا يصلح معهما " هو " . وذلك أنك لو أظهرت " هو " معهما لاستحال الكلام. ألا ترى أنه لو قال قائل: " إن خفت من عدوك أن تصلي قائمًا فهو راجل أو راكب "، لبطل المعنى المرادُ بالكلام ؟ وذلك أن تأويل الكلام. فإن خفتم أن تصلوا قيامًا من عدوكم، فصلوا رجالا أو ركبانًا . ولذلك نصبه إجراءً على ما قبله من الكلام، كما تقول في نحوه من الكلام: " إن لبست ثيابًا فالبياض " فتنصبه، لأنك تريد: إن لبست ثيابًا فالبس البياض - ولستَ تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض. ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت: " إن لبستَ ثيابًا فالبياضُ" رفعًا، إذ كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس، أنّ كل ما يلبس من الثياب فبياضٌ . لأنك تريد حينئذ: إن لبست ثيابًا فهي بياضٌ. (17)
&; 4-357 &;
فإن قال: فهل يجوز النصب في قوله: " فإخوانكم " .
قيل: جائز في العربية . فأما في القراءة، فإنما منعناه لإجماع القرأة على رفعه. وأما في العربية، فإنما أجزناه، لأنه يحسن معه تكريرُ ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما: وإن تخالطوهم، فإخوانكم تخالطون - فيكون ذلك جائزًا في كلام العرب. (18)
* * *
(19)
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن ربكم قد أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به، (20) فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قِبل لكم بها، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه - فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه - ما الذي يقصد بمخالطته إياه : إفسَاد ماله وأكله بالباطل، أم إصلاحه وتثميره؟ لأنه لا يخفى عليه منه شيء، (21) ويعلم أيُّكم المريد إصلاح ماله، من المريد إفسادَه. كما:-
&; 4-358 &;
4201 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: " والله يعلم المفسد من المصلح " قال: الله يعلم حين تخلط مالك بماله : أتريد أن تصلح ماله، أو تفسده فتأكله بغير حق؟
4202 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي: " والله يعلم المفسد من المصلح "، قال الشعبي: فمن خالط يتيمًا فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعلْ. (22)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: ولو شاء الله لحرَّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالَهم، فجَهَدكم ذلك وشقّ عليكم، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حق الله تعالى والواجب عليكم في ذلك من فرضه، ولكنه رخَّص لكم فيه وسهله عليكم، رحمةً بكم ورأفةً.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " لأعنتكم ". فقال بعضهم بما:-
4203 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد - أو عيسى، عن قيس بن سعد - عن مجاهد = شك أبو عاصم = في قول الله تعالى ذكره: " ولو شاء الله لأعنتكم " لحرم عليكم المرعى والأدْم.
&; 4-359 &;
قال أبو جعفر: يعني بذلك مجاهد : رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم ، والأكلَ من إدامه . لأنه كان يتأول في قوله: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ، أنه خُلْطة الوليّ اليتيم بالرِّعْي والأدْم. (23)
* * *
4204 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " ولو شاء الله لأعنتكم "، يقول: لو شاء الله لأحرجكم فضيَّق عليكم، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [ سورة النساء: 6 ]
4205 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده: " ولو شاء الله لأعنتكم "، يقول: لجهدكم، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدُّوا فريضة.
4206 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع نحوه = إلا أنه قال: فلم تعملوا بحقّ.
4207 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ولو شاء الله لأعنتكم "، لشدد عليكم.
4208 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: " ولو شاء الله لأعنتكم "، قال: لشقّ عليكم في الأمر. ذلك العنتُ.
4209 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قوله: " ولو شاء الله لأعنتكم "، قال: ولو شاء الله لجعل ما أصبتُم من أموال اليتامى مُوبقًا.
* * *
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرت عنه، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها، فإنها متقارباتُ المعاني. لأن من حُرِّم عليه شيء فقد ضُيِّق عليه في ذلك &; 4-360 &; الشيء، ومن ضُيق عليه في شيء فقد أحْرِج فيه، ومن أحرج في شيء أو ضيِّق عليه فيه فقد جُهِد. وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه: الشدة والمشقة.
ولذلك قيل: " عَنِت فلانٌ" = إذا شق عليه الأمر، وجهده، = (24) " فهو يعنَتُ عَنَتًا "، كما قال تعالى ذكره: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [ سورة التوبة: 128 ] ، يعني ما شق عليكم وآذاكم وجَهدكم، ومنه قوله تعالى ذكره: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [ سورة النساء: 25]. فهذا إذا عَنِت العانِت. فإن صيَّره غيره كذلك، قيل: " أعنته فلانٌ في كذا " = إذ جهده وألزمه أمرًا جهده القيام به =" يُعْنِته إعناتًا " . فكذلك قوله: " لأعنتكم " معناه: لأوجب لكم العنَت بتحريمه عليكم ما يَجْهدكم ويحرجكم، مما لا تطيقون القيام باجتنابه، وأداء الواجب له عليكم فيه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقكم وأهلككم.
* ذكر من قال ذلك:
4210 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قرأ علينا: " ولو شاء الله لأعنتكم "، قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا.
4211 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل - وجرير، عن منصور = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور = عن الحكم، &; 4-361 &; عن مقسم، عن ابن عباس: " ولو شاء الله لأعنتكم " قال: لجعل ما أصبتم مُوبقًا. (25)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله " عزيز " في سلطانه، لا يمنعه مانع مما أحل بكم من عقوبة لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه فقصرتم في القيام به، ولا يقدرُ دافعٌ أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله، (26) ولكنه بفضل رحمته منَّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك = وهو " حكيم " في ذلك لو فعله بكم وفي غيره من أحكامه وتدبيره، لا يدخل أفعاله خلل ولا نقصٌ ولا وَهْي ولا عيب، (27) لأنه فِعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقبَ الأمور فيدخل تدبيره مذمّة عاقبة، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختيارهم فيها ابتداءً.
----------------------
الهوامش :
الهوامش:
(1) في المطبوعة : "فيما نزلت" ، والأجود ما أثبت .
(2) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق الكلام ، واستجزت أن أزيدها بين الأقواس في متن الكتاب ، حتى لا تنقطع على القارئ قراءته ، وكان مكانها في المطبوعات والمخطوطات بياض .
(3) الأثر : 4182 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 278 مطولا ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي . وكان في المطبوعة . "فإخوانكم ولو شاء لأعنتكم" ، فأتممت الآية على تنزيلها .
(4) الأثر : 4183 - أخرجه أبو داود 3 : 155 رقم : 2871 ، والنسائي 6 : 256 .
(5) الأثر : 4184 - قوله"عن سعيد قال" يعني قال ابن عباس ، كما هو ظاهر الخبر .
(6) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء" .
(7) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء" .
(8) الأثر : 4189- أخرجه النسائي 6 : 256- 257 . وفي المطبوعة : "فأحل لهم خلطم والهصوا من النسائي .
(9) الأدم (بضم فسكون) والإدام : ما يؤتدم به ، أي ما يؤكل بالخبر أي شيء كان ، وفي الحديث : "نعم الإدام الخل" .
(10) الأثر : 4193- أخرجه النسائي 6 : 256 .
(11) الرعي (بكسر الراء وسكون العين) : الكلأ نفسه ، كالمرعى .
(12) يقال : "رزأه في ماله رزءًا (بضم فسكون) ومرزئة (بفتح الميم وسكون الراء وكسر الزاي) : أصاب منه خيرًا ما كان ، فنقص من ماله .
(13) كنفه يكنفه : حاطه وصانه وكان إلى جنبه وعاونه ، والمكانفة : المعاونة . وأصلها من"الكنف" ، وهو حضن الرجل . ويقال : "هو في كنف الله" ، أي في كلاءته وحفظه وحرزه ورعايته .
(14) العرة : القذر وعذرة الناس ، يريد : أن يتجنبه تجنب القذر .
(15) الأثر : 4200- في تفسير ابن كثير 1 : 505 ، والدر المنثور 1 : 256 ، ولم أجده في مكان آخر . و"العرة" ، سلف شرحها . وفي تفسير ابن كثير"عندي حدة" ، ولعل صوابها ما في التفسير .
(16) في المطبوعة"غير ذاتيين" : ، وهو تصحيف فاحش لا معنى له ، والصواب ما أثبت والحال غير الدائمة ، هي الحال المشتقة المنتقلة ، والدائم هو الجامد والثابت .
(17) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1 : 141- 142 .
(18) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1 : 141- 142 .
(19) من أول تفسير هذه الآية يبدأ الجزء الرابع من المخطوطة العتيقة التي اعتمدناها . وأولها :
{ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم}
ربّ أَعِن برَحْمَتِك }
(20) في المطبوعة والمخطوطة : "إن ربكم وإن أذن لكم . . . " وهو كلام مختل ، وكأن الذي أثبت قريب من الصواب .
(21) في المخطوطة"لا نها عليه منه شيء" ، وفيها تصحيف لم أتبينه ، والذي في المطبوعة جيد في سياق المعنى .
(22) الأثر : 4202- في المخطوطة والمطبوعة : "حدثني أبو السائب ، قال حدثنا أشعث . . . " ، وهو إسناد ناقص ، أسقط"قال حدثنا حفص بن غياث" ، وقد مضى هذا الإسناد مرارًا ، أقربه : 4190 ، وهذا الأثر مختصره .
(23) انظر الأثر السالف رقم : 4194 .
(24) في المطبوعة : "عنت فلانًا" وهو خطأ ، والفعل لازم ، كما سيأتي . وفي المخطوطة والمطبوعة : "إذا شق عليه وجهده" ، والصواب زيادة"الأمر" .
(25) الأثر : 4211- قد سلف بالإسناد الثاني برقم : 4209 .
(26) في المطبوعة : "لو فعله هو لكنه" ، والصواب الجيد من المخطوطة .
(27) في المخطوطة : "ولا وهاء ولا عيب" . وقد سلف في هذا الجزء 4 : 18 ، 155 ، والتعليق رقم : 1 ، وما قيل في خطأ ذلك ، واستعمال الفقهاء له .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 220 | ﴿فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ﴾ |
---|
التوبة: 11 | ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾ |
---|
الأحزاب: 5 | ﴿فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
إصلاح لهم:
وقرى:
إصلاح إليهم وهى قراءة طاووس.
لأعنتكم:
قرئ:
1- بتخفيف الهمزة، وهى قراءة الجمهور.
2- بتليين الهمزة، وهى قراءة البزي.
3- بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام.
التفسير :
أي:{ وَلَا تَنْكِحُوا} النساء{ الْمُشْرِكَاتِ} ما دمن على شركهن{ حَتَّى يُؤْمِنَّ} لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة, ولو بلغت من الحسن ما بلغت, وهذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة, في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى:{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وهذا عام لا تخصيص فيه. ثم ذكر تعالى, الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة, لمن خالفهما في الدين فقال:{ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي:في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم, فمخالطتهم على خطر منهم, والخطر ليس من الأخطار الدنيوية, إنما هو الشقاء الأبدي. ويستفاد من تعليل الآية, النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع, لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى, وخصوصا, الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم, كالخدمة ونحوها. وفي قوله:{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} دليل على اعتبار الولي [في النكاح].{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} أي:يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة, التي من آثارها, دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة, والتوبة النصوح, والعلم النافع, والعمل الصالح.{ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ} أي:أحكامه وحكمها{ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه, وعلم ما جهلوه, والامتثال لما ضيعوه.
قوله- تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ النكاح في اللغة الضم وتداخل أجزاء الشيء بعضها في بعض. ثم أطلق على العقد الذي به تكون العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة مشروعة.
والمشرك في لسان الشرع: من يدين بتعدد الآلهة مع الله- تعالى- وأصله من الإشراك بمعنى أن تجعل الشيء بينك وبين غيرك شركة، فمن يعبد مع الله- تعالى- إلها آخر يعد مشركا، وهو في الآخرة من الخاسرين.
ويرى كثير من العلماء أن إطلاق كلمة: مشرك، ومشركين، ومشركات في القرآن الكريم تعنى عبدة الأوثان، وأنها صارت في استعمال القرآن حقيقة عرفية فيهم، ولم يطلقها القرآن على اليهود والنصارى وإنما عبر عنهم بهذا الاسم أو بأهل الكتاب، أو بوصف الكفر دون الشرك كما في قوله- تعالى-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وعليه فالمراد بالمشركات والمشركين في الآية عبدة الأوثان.
وذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يشمل بمقتضى عمومه المرأة الوثنية، واليهودية، والنصرانية.
وقد ترتب على هذا الخلاف في إطلاق كلمة «مشرك» أن أصحاب الرأى الأول قالوا: إن النهى في الآية إنما هو عن زواج المشركات اللائي يعبدن الأوثان ولا كتاب لهن، وأنه يجوز- مع الكراهة- أن يتزوج المسلّم الكتابية، لأن القرآن يقول: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ، وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.. الآية . ولأنه قد جاءت الروايات بأن بعض الصحابة قد تزوج بكتابيات. فعثمان بن عفان تزوج نصرانية ثم أسلمت، وطلحة ابن عبيد الله وحذيفة بن اليمان تزوجا يهوديتين.
أما من قال بالرأى الثاني فيرى حرمة الزواج بالوثنية واليهودية والنصرانية لأن لفظ المشركات يشملهن جميعا. وأصحاب هذا الرأى- كما يقول الآلوسى- يجعلون آية المائدة وهي قوله- تعالى-: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ.. منسوخة بالآية التي معنا نسخ الخاص بالعام.. وإلى هذا الرأى ذهب الإمامية وبعض الزيدية .
وروى عن عمر وعبد الله ابنه- رضي الله عنهما- أنهما حرما ذلك وفي رواية أنها كرهاه.
وهي الأصح.
قال القرطبي: وروى عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب. فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة. قال ابن عطية وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن.
ثم قال القرطبي: وكان ابن عمر إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية. قال حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة منهم عثمان وطلحة وابن عباس.. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد.. وفقهاء الأمصار عليه، وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة، لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل، وإنما الآخر ينسخ الأول- أو يخصصه- وأما قول ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر- رضي الله عنه- كان متوقفا، فلما سمع الآيتين في واحدة التحليل وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل .
والذي نراه أن زواج المسلّم بالكتابية جائز لأن القرآن صريح في ذلك، ولأن عمر- رضي الله عنه- أقر بأنه ليس بحرام، فتكون آية المائدة مخصصة لآية البقرة على فرض عمومها، ومبينة لحكم جديد خاص بالكتابيات، وهو الجواز ولكن هذا الجواز لا يمنع كراهته، لأن الزواج بالكتابية كثيرا ما يؤثر في إضعاف العاطفة الدينية عند المسلّم، وعند الأطفال الذين يكونون ثمرة لهذا الزواج، لأنهم يخرجون إلى الحياة وقد رضعوا الميل إلى دين أمهم، ولأن المرأة الكتابية التي تقبل الزواج بالمسلّم كثيرا ما تكون منحرفة في سلوكها وأن الدافع لها إلى هذا الزواج إنما هو المال أو الجمال أو الجاه وليس الدين أو الخلق، لأنه لو كان الدافع ذلك لرضيت بالإسلام دينا، وبآدابه خلقا لها، وما أحكم قول عمر لحذيفة: «لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن» .
هذه خلاصة لآراء العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى أقوالهم في مظانها .
والمعنى: أنها كم أيها المؤمنون أن تتزوجوا بالنساء المشركات حتى يؤمن بالله- تعالى- ويذعن لتعاليم الإسلام وآدابه.
وقوله: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ تعليل للنهى، وبيان لفضل المؤمنات على المشركات، ولفضل طهارة النفس على جمال الجسم، والمراد بالأمة هنا الأنثى المملوكة من الرقيق، وبالمشركة الحرة الجميلة بقرينة المقابلة.
أى: ولأنثى رقيقة مؤمنة مع ما بها من الرق وقلة الجاه والجمال خير في التزوج بها من امرأة حرة مشركة ولو أعجبتكم بجمالها ونسبها وغير ذلك من منافع دنيوية، لأن ما يتعلق بالمنافع الدينية يجب أن يقدم على المنافع الدنيوية، ولأن الزواج ارتباط روحي بين قلبين، ومن العسير أن يتم هذا الترابط بين قلب يخلص لله في عبادته، وقلب لا يدين بذلك.
وصدرت الجملة بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أتباعه أن يجعلوا الدين أساس رغبتهم في الزواج، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» .
وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل» .
والأحاديث النبوية في هذا المعنى كثيرة.
ثم قال- تعالى-: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أى: لا تزوجوا أيها المؤمنون النساء المؤمنات للرجال المشركين حتى يتركوا ما هم عليه من شرك ويدخلوا في دين الإسلام، فإذا فعلوا ذلك حل لكم أن تزوجوهم النساء المسلمات، لأنهم بدخولهم في الإسلام قد أصبحوا إخوانا لكم.
والنهى هنا يتناول المشرك الذي يعبد الأوثان ويتناول غيره ممن لا يدين بالإسلام كأهل الكتاب، لأن القرآن قد جعل الإيمان غاية للنهى، فإذا لم يكن هناك إيمان من الرجل لم يكن له أن يتزوج من المرأة المؤمنة، لأن الله- تعالى- يقول في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يجوز، وكلمة كافر تشمل أهل الكتاب بدليل قوله- تعالى-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.. وقوله تعالى ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
قال الفخر الرازي: لا خلاف هاهنا في أن المراد به- أى بلفظ المشركين- الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر ألبتة على اختلاف أنواع الكفرة .
وقوله: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بيان لفضل الإيمان على الشرك، كما في قوله- تعالى-: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ إذ نسبة المؤمن أو المؤمنة إلى هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده أفضل وأجل من الانتساب إلى أى شيء آخر.
ثم بين- سبحانه- علة النهى عن الزواج بالمشركين والمشركات فقال- تعالى-: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ.
أى: أولئك المذكورون من المشركين والمشركات يدعون من يقارنهم ويعاشرهم إلى الأقوال والأفعال والعقائد التي تقضى بصاحبها إلى دخول النار في الآخرة والله- تعالى- يدعو عباده على ألسنة رسله إلى الأقوال والأعمال والعقائد التي توصل إلى جنته ومغفرته.
فالمراد بالدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها وإلى ما يوصل إليها، وكان الاقتران بهؤلاء المشركين والمشركات سببا في الوصول إليها، لأن الزواج من شأنه الألفة والمودة والمحبة وشدة الاتصال، وكل ذلك يجعل المسلّم أو المسلمة يتقبلان ما عليه المشرك أو المشركة من فسوق وعصيان لله- تعالى- بل ربما بمرور الأيام لا يكتفيان بالتقبل بل يستحسنان فعلهما، وبذلك تنحل عرا الإسلام من نفس المسلّم والمسلمة عروة فعروة، حتى لا يبقى منه سوى الاسم، كما نشاهد ذلك في كثير من المسلمين الذين تزوجوا بغير مسلمات.
والمقصود من قوله- تعالى-: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ إغراء المؤمنين بالتمسك بتعاليم دينهم، وتنفيرهم من الاقتران بغير من يكون على شاكلتهم في الدين، لأن من يخالفهم في عقيدتهم طريقه يغاير طريقهم، وهدفه يخالف هدفهم، وعاقبته تباين عاقبتهم.
والدعاء إلى الجنة والمغفرة المراد به الدعاء إلى أسبابهما كما في الجملة السابقة المقابلة وقيد- سبحانه- الدعاء إلى الجنة والمغفرة بقوله بِإِذْنِهِ أى بأمره وإرادته وعلمه، لأنه- سبحانه- هو المالك لكل شيء، ولا يقع في ملكه إلا ما يريده ويقدره.
قال بعض العلماء ما ملخصه: وقد يقول قائل: هذه الدعوة إلى النار قد تكون أيضا في زواج المسلّم بالكتابية، كما هي في زواج المسلّم بالمشركة، وكان مقتضى هذا أن يحرم زواج المسلّم بغير المسلمة مطلقا، كما حرم زواج المسلمة بغير المسلّم مطلقا، وإن لذلك الكلام موضعه، ولذلك أجمع الفقهاء على كراهة زواج المسلّم بالكتابية، بل زعم بعض العلماء أن زواج المسلّم من الكتابية محرم كزواجه من المشركة.
ولكن الجمهور لا يقطعون بالتحريم أمام النص القاطع بالحل، ولا يعملون العلة ليهمل النص، بل يرون علة التحريم لا تتوافر في الكتابية توافرها في المشركة، فإن المشركة لا ترتبط بأى قانون خلقي يعصمها من الزلل.. أما الكتابية فإن مجموع الفضائل الإنسانية.. لا تزال باقية في تعاليم دينها فيمكن الاحتكام إليها.
والقرآن في جدله مع أهل الكتاب كان يلاحظ إمكان التفاهم معهم على قواعد يمكن حملهم على الإقرار بها كما في قوله- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً.. الآية.
وأمرنا أن نجادلهم بالتي هي أحسن فقال: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.. الآية.
فكان من اطراد تلك المعاملة الحسنة المقربة غير المبعدة، أن أباح الإسلام الزواج من الكتابيات.
بيد أنه يلاحظ في إباحة الزواج من الكتابيات أمران:
أولهما: أن النص القرآنى المبيح خاص بالمحصنات منهن، إذ قال- سبحانه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والمحصنات- في أظهر التفسير- هن العفيفات، فأولئك الذين يعمدون إلى المنحرفات منهن في أخلاقهن وعقولهن ولا يتخيرون، خارجون عن موضع الإباحة فيما أحسب، لأن الله أحل المحصنات وهم استحلوا المنحرفات.
ثانيهما: أن ولى الأمر إذا رأى خطرا على الدولة الإسلامية أو على المجتمع الإسلامى له أن يمنع الناس من ذلك الزواج بوضع عقوبات لمن يقدم عليه سدا للذريعة ومنعا للشر، وذلك من باب السياسة الشرعية، لا من باب تحريم ما أحل الله، لأن الحل قائم على أصله، والمنع وارد على الضرر الذي يلحق المسلمين، إذ في ذلك من الاعتداء على جماعتهم ما فيه، كما أن أصل الأكل حلال، ولكن اغتصاب أموال الناس لنأكلها حرام، ولذلك سارت الدولة على منع بعض رجالها من الزواج بالأجنبيات .
وقوله- تعالى- في ختام الآية: وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ معطوف على يدعو إلى الجنة. أى أنه- سبحانه- يدعو الناس إلى ما يوصلهم إلى جنته ومغفرته ويبين لهم آياته وأوامره ونواهيه في شئون الزواج وفي غير ذلك من الأحكام لكي يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرهم الله به فيعملوه، وما نهاهم عنه فيتركوه.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد رسمت للناس أقوم السبل، لكي يعيشوا في ظل أسرة فاضلة، تظلها السعادة، ويسودها الأمان والاطمئنان ويتعاون أفرادها على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
وبعد أن أمر الله- المسلّم بأن يجعل التدين وحسن الخلق محط اختياره في الزواج، اتبع ذلك بإرشاده إلى بعض الآداب التي يجب عليه أن يسلكها مع زوجه حتى تكون علاقتهما قائمة على ما يقتضيه الطبع السليم والخلق القويم وحتى تكون في أعلى درجات التطهر والتنزه والعفاف فقال- تعالى-:
هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان . ثم إن كان عمومها مرادا ، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : ( والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين [ ولا متخذي أخدان ] ) [ المائدة : 5 ] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب . وهكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والحسن ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، والربيع بن أنس ، وغيرهم .
وقيل : بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان ، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية ، والمعنى قريب من الأول ، والله أعلم .
فأما ما رواه ابن جرير : حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري ، حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام ، قال الله عز وجل : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) [ المائدة : 5 ] . وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا ، حتى هم أن يسطو عليهما . فقالا : نحن نطلق يا أمير المؤمنين ، ولا تغضب ! فقال : لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن ، ولكني أنتزعهن منكم صغرة قمأة فهو حديث غريب جدا . وهذا الأثر عن عمر غريب أيضا .
قال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات : وإنما كره عمر ذلك ، لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، كما حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الصلت بن بهرام ، عن شقيق قال : تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : خل سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن .
وهذا إسناد صحيح ، وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل ، عن وكيع ، عن الصلت نحوه .
وقال ابن جرير : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب قال : قال [ لي ] عمر بن الخطاب : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة .
قال : وهذا أصح إسنادا من الأول .
ثم قال : وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق الأزرق عن شريك ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " .
ثم قال : وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فالقول به لإجماع الجميع من الأمة على صحة القول به .
كذا قال ابن جرير ، رحمه الله .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عمر : أنه كره نكاح أهل الكتاب ، وتأول ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن )
وقال البخاري : وقال ابن عمر : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : ربها عيسى .
وقال أبو بكر الخلال الحنبلي : حدثنا محمد بن هارون حدثنا إسحاق بن إبراهيم ( ح ) وأخبرني محمد بن علي ، حدثنا صالح بن أحمد : أنهما سألا أبا عبد الله أحمد بن حنبل ، عن قول الله : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) قال : مشركات العرب الذين يعبدون الأوثان .
وقوله : ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) قال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء ، فغضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها . فقال له : " ما هي ؟ " قال : تصوم ، وتصلي ، وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فقال : " يا أبا عبد الله ، هذه مؤمنة " . فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها . ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، وقالوا : نكح أمة . وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله : ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم )
وقال عبد بن حميد : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكحوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، وانكحوهن على الدين ، فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل " . والإفريقي ضعيف .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ولجمالها ، ولدينها ; فاظفر بذات الدين تربت يداك " . ولمسلم عن جابر مثله . وله ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " .
وقوله : ( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) أي : لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات ، كما قال تعالى : ( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) [ الممتحنة : 10 ] .
ثم قال تعالى : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) أي : ولرجل مؤمن ولو كان عبدا حبشيا خير من مشرك ، وإن كان رئيسا سريا ( أولئك يدعون إلى النار ) أي : معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة ، وعاقبة ذلك وخيمة ( والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ) أي : بشرعه وما أمر به وما نهى عنه ( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون )
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل نـزلت مرادًا بها كل مشركة، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ (28) وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا؟
فقال بعضهم: نـزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت، عابدةَ وثن كانت (29) أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إلى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ سورة المائدة: 4-5 ]
* ذكر من قال ذلك:
4212 - حدثني علي بن واقد قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، ثم استثنى نساءَ أهل الكتاب فقال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لكم إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ . (30)
4213 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين &; 4-363 &; بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب، أحلّهُن للمسلمين.
4214 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "، قال: نساءُ أهل مكة ومن سواهنّ من المشركين، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب.
4215 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
4216 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " ولا تنكحوا المشركات " إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، قال: حرم الله المشركات في هذه الآية، ثم أنـزل في" سورة المائدة "، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ .
* * *
وقال آخرون: بل أنـزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب، لم ينسخ منها شيء ولم يُستثن، وإنما هي آية عامٌّ ظاهرُها، خاصٌّ تأويلها. (31)
* ذكر من قال ذلك:
4217 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "، يعني : مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه. (32)
4218 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا &; 4-364 &; معمر، عن قتادة قوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: المشركات، مَنْ ليس من أهل الكتاب، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية. (33)
4219 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتابٌ يقرأنه.
4220 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير قوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: مشركات أهل الأوثان.
* * *
وقال آخرون: بل أنـزلت هذه الآية مرادًا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت، غير مخصوص منها مشركةٌ دون مشركة، وثنيةً كانت أو مجوسية أو كتابيةً، ولا نُسخ منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
4221 - حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرَّم كل ذات دين غير الإسلام، وقال الله تعالى ذكره: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [ سورة المائدة: 5 ]، وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبًا شديدًا، حتى همّ بأن يسطُو عليهما. فقالا نحن نطلِّق يا أمير المؤمنين، &; 4-365 &; ولا تغضب! فقال: لئن حل طلاقُهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صَغَرة قِماءً. (34)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة : من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ" من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات = وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء = وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها. وذلك أنّ الله تعالى ذكره أحل بقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ - للمؤمنين من نكاح محصناتهن، مثلَ الذي أباح لهم من نساء المؤمنات.
وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا، وفي كتابنا( كتاب اللطيف من البيان ) : (35) أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيًا حكم الآخر في فطرة العقل، فغير جائز أن يقضَى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر، إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مَجيئُه. وذلك غير موجود، أن قوله: (36) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ناسخٌ ما كان قد وجبَ تحريمه من النساء بقوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ" . فإذ لم يكن ذلك موجودًا كذلك، (37) فقول القائل: " هذه ناسخة هذه "، دعوى لا برهان له عليها، والمدعي دعوَى &; 4-366 &; لا برهان له عليها متحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ. (38)
* * *
وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه : من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين، فقولٌ لا معنى له - لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك، بإسناد هو أصح منه، وهو ما:-
4222 - حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب قال، قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. (39)
* * *
وإنما ذكره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاحَ اليهودية والنصرانية، حذارًا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما. كما:
4223 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: " خلِّ سبيلها " ، فكتب إليه: " أتزعُمُ أنها حرامٌ فأخلي سبيلها؟" ، فقال: " لا أزعم &; 4-367 &; أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن " . (40)
وقد :-
4224 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوَّجون نساءَنا. (41)
* * *
فهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به، لإجماع الجميع على صحة القول به، أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركاتٍ، غير أهل الكتاب، حتى يؤمنَّ فيصدِّقن بالله ورسوله وما أنـزل عليه.
* * *
&; 4-368 &;
القول في تأويل قوله تعالى : وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: " ولأمة مؤمنة " بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خيرٌ عند الله وأفضل من حرة مشركة كافرة، وإن شرُف نسبها وكرُم أصلها. يقول: ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله، فإنّ الإماء المسلمات عند الله خير مَنكحًا منهن.
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في رجل نكح أمة، فعُذل في ذلك، وعُرضت عليه حرة مشركة.
* ذكر من قال ذلك:
4225 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم "، قال: نـزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداءُ، وأنه غضب عليها فلطمها. ثم فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما هي يا عبد الله؟ قال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوءَ وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: &; 4-369 &; هذه مؤمنة! فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتِقنَّها ولأتزوجنَّها! ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: تزوج أمة!! وكانوا يريدون أن يَنكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنـزل الله فيهم: " ولأمةٌ مؤمنة خيرٌ من مشركة " و " عبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك " .
4226 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج قال، قال ابن جريج في قوله: " ولا تنكحوا إلى المشركات حتى يؤمنَّ"، قال: المشركات - لشرفهن - حتى يؤمن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال، فلا تنكحوها، فإن الأمة المؤمنة خيرٌ عند الله منها.
* * *
وإنما وضعت " لو " موضع " إن " لتقارب مخرجيهما، ومعنييهما، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صَاحبتها، على ما قد بينا فيما مضى قبْل. (42)
* * *
&; 4-370 &;
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك، أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك، ومن أيّ أصناف الشرك كان، فلا تنكحوهنَّ أيها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام عليكم، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، ولو شرُف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.
* * *
وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول: هذا القولُ من الله تعالى ذكره، دلالةٌ على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.
4227 - حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي قال، أخبرنا حفص بن غياث، عن شيخ لم يسمه، قال أبو جعفر: النكاح بوليّ في كتاب الله، ثم قرأ: " ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " برفع التاء.
4228 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري في قوله: " ولا تنكحوا المشركين "، قال: لا يحل لك أن تنكح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك.
4229 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: " ولا تنكحوا المشركين " - لشرفهم -" حتى يؤمنوا " .
4230 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري: " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا "، قال: حرَّم المسلمات على رجالهم - يعني رجال المشركين.
* * *
&; 4-371 &;
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: " أولئك "، هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم، يدعونكم إلى النار = يعني: يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون، ولا تستنصحوهم، ولا تنكحوهم ولا تنكحوا إليهم، فإنهم لا يألونكم خبالا ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به فاعملوا به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه يدعوكم إلى الجنة = يعني بذلك يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة، ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم، فيعفو عنها ويسترها عليكم.
* * *
وأما قوله: " بإذنه "، (43) فإنه يعني : أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيلَه وطريقَه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة.
* * *
ثم قال تعالى ذكره: " ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون "، يقول: ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنـزله على لسان رسوله لعباده، ليتذكروا فيعتبروا، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دَعَّاءٌ إلى النار والخلود فيها، والآخر دَعَّاءٌ إلى الجنة وغفران الذنوب، فيختاروا خيرهما لهم. ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ [ غَبين ] الرأي مدخول العقل.
------------
(28) في المطبوعة : "أم مرادًا بحكمها" ، بالنصب ، وأثبت ما في المخطوطة .
(29) في المطبوعة : "عابدة وثن أو كانت يهودية . . . " ، وفي المخطوطة : "عابدة وثن كانت يهودية . . . " ، وكلاهما مضطرب ، والصواب ما أثبت بزيادة"كانت" .
(30) الأثر : 4212- في المخطوطة والمطبوعة"حدثني علي بن واقد ، قال حدثني عبد الله ابن صالح" ، والصواب ما أثبت . وهذا إسناد كثير الدوران فيما مضى وفيما سيأتي ، وأقربه رقم : 4204 . والآية في المطبوعة والمخطوطة كما أثبتها ، بين جزئي الآية بقوله : "حل لكم" ، وإسقاط قوله تعالى"من قبلكم" ، وأخشى أن يكون ناسخ قد تصحف عليه فجعل هذه هذه . ولكني أثبت ما اتفقت عليه النسخ .
(31) في المخطوطة ، والمطبوعة : "بل هي آية عامة ظاهرها . . . " ، والصواب ما أثبت .
(32) في المخطوطة ، "يقرأ به" وتلك أجود .
(33) يعني : حذيفة بن اليمان ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو صاحب سره صلى الله عليه وسلم في المنافقين . لم يعلمهم أحد إلا حذفة ، أعلمه بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وانظر الأثر الآتي برقم : 4221 .
(34) الأثر : 4221-"عبد الحميد بن برهام الفزاري" ، مترجم في التهذيب ، وثقه أبو داود وابن معين وغيرهما ، وقال شعبة : صدوق إلا أنه يروي عن شهر بن حوشب ، وعابوا عليه كثرة روايته عن شهر ، وشهر ضعيف . وقد سلف كلام أخي في توثيق شهر رقم : 1389 ، وفي عبد الله بن بهرام : 1605 . وقال ابن كثير في التفسير 1 : 507 بعد روايته الخبر : "هو حديث غريب جدًا ، وهذا الأثر غريب عن عمر" . وكلام الطبري الآتي بعد قاض بضعفه .
والصغرة جمع صاغر : هو الراضي بالذل . وقماء جمع قميء : وهو الذليل الصاغر وإن لم يكن قصيرًا . والقميء : القصير . وفي المخطوطة وابن كثير"قمأة" ، وليس جمعًا قياسيا ، ولا هو وارد في كتب اللغة ، ولكن إن صح الخبر ، فهو إتباع لقوله : "صغرة" ومثله كثير في كلامهم .
(35) انظر ما سلف 2 : 534- 535/ ثم 3 : 385 ، 563 .
(36) في المطبوعة : "بأن قوله" : وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أعرق في العربية .
(37) في المخطوطة والمطبوعة : "فإن لم يكن ذلك" ، وهو خطأ صرف ، والصواب ما أثبت . وإلا تناقض كلام أبي جعفر .
(38) حجج أبي جعفر في استدلاله ، قاضية له على كل خصم خالفه ، وهي حجج بصير بالمعاني ، مؤيد بالعقل ، قادر على البيان عن المعاني الخفية ، والفصل بين المعاني المتداخلة .
(39) الحديث : 4222- هذا إسناد صحيح متصل إلى عمر .
محمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي الحافظ : ثقة باتفاقهم . سفيان بن سعيد : هو الثوري . زيد بن وهب الجهني . تابعي كبير مخضرم ، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقبض وهو في الطريق . وهو ثقة كثير الحديث . له ترجمة في تاريخ بغداد 8 : 440- 442 ، والإصابة 3 : 46- 47 .
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 172 ، من طريق سفيان -وهو الثوري- بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير 1 : 507- 508 ، عن رواية الطبري ، وصحح إسناده .
(40) الخبر : 4223- الصلت بن بهرام التيمي الكوفي : ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما . وقد فصلنا القول في شأنه في صحيح ابن حبان ، رقم : 81 بتحقيقنا .
شقيق : هو ابن سلمة الأسدي ، التابعي الكبير المشهور . مضى في : 177 .
والخبر رواه البيهقي أيضًا 7 : 172 ، من طريق سفيان ، بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير 1 : 507 ، عن رواية الطبري ، وقال : "وهذا إسناد صحيح . وروى الخلال ، عن محمد بن إسماعيل ، عن وكيع ، عن الصلت ، نحوه" . وذكره السيوطي 1 : 256 ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق .
وذكره الجصاص في أحكام القرآن 1 : 333 ، والقرطبي في تفسيره : 3 : 68 ، بدون إسناد . ووقع في المطبوعة هنا ، وفي ابن كثير ، والسيوطي"المؤمنات"!! بدل"المومسات" . وهو تحريف غريب ، في ثلاثة كتب . وصوابه وتصححه من البيهقي والجصاص والقرطبي .
(41) الحديث : 4224- إسحق الأزرق : هو إسحق بن يوسف ، مضى في : 332 . شريك : هو ابن عبد الله النخعي القاضي ، مضى في : 2527 . الحسن : هو البصري .
وهذا الحديث لم أجده في شيء من دواوين الحديث ، غير هذا الموضع . ونقله عنه ابن كثير 1 : 508 ثم نقل كلام الطبري الذي عقبه ، ثم قال : "كذا قال ابن جرير رحمه الله" .
وتعقيب ابن جرير بأنه"وإن كان في إسناده ما فيه" - لعله يشير رحمه الله إلى القول بأن الحسن البصري لم يسمع من جابر . ففي المراسيل لابن أبي حاتم ، ص : 13"حدثنا محمد بن أحمد بن البراء ، قال : قال علي بن المديني : الحسن لم يسمع من جابر بن عبد الله شيئًا . سئل أبو زرعة : الحسن لقي جابر بن عبد الله؟ قال : لا . حدثنا محمد بن سعيد بن بلج ، قال : سمعت عبد الرحمن بن الحكم يقول سمعت جريرًا يسأل بهزًا عن الحسن : من لقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال : لم يسمع من جابر بن عبد الله . سألت أبي : سمع الحسن من جابر؟ قال : ما أرى ، ولكن هشام بن حسان يقول : عن الحسن ، حدثنا جابر بن عبد الله ، وأنا أنكر هذا ، إنما الحسن عن جابر كتاب ، مع أنه أدرك جابرًا" .
وأنا أرى أن رواية هشام بن حسان كافية في إثبات سماع الحسن من جابر . فقد قال ابن عيينة : "كان هشام أعلم الناس بحديث الحسن" .
ومعنى هذا الحديث ثابت عن جابر ، موقوفا عليه من كلامه . رواه الشافعي في الأم ج 5 ص 6 ، من رواية أبي الزبير ، عن جابر ، وكذلك رواه البيهقي 7 : 172 ، من طريق الشافعي .
والموقوف -عندنا- لا يعلل به المرفوع ، بل هو يؤيده ويثبته ، كما بينا ذلك في غير موضع من كتبنا . والحمد لله .
(42) انظر ما سلف 2 : 458 ومعاني القرآن للفراء 1 : 143 .
(43) انظر معنى"الإذن" فيما سلف 2 : 449/ ثم هذا الجزء 4 : 286
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 221 | ﴿وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا﴾ |
---|
البقرة: 221 | ﴿ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ﴾ |
---|
النساء: 22 | ﴿ وَلَا تُنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ |
---|
الأحزاب: 53 | ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّـهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
المغفرة:
قرئ:
1- بالخفض، وهى قراءة الجمهور، عطفا على «الجنة» .
2- بالرفع، وهى قراءة الحسن، على الابتداء والخبر.
التفسير :
يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض, وهل تكون المرأة بحالها بعد الحيض, كما كانت قبل ذلك, أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟. فأخبر تعالى أن الحيض أذى, وإذا كان أذى, فمن الحكمة أن يمنع الله تعالى عباده عن الأذى وحده, ولهذا قال:{ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} أي:مكان الحيض, وهو الوطء في الفرج خاصة, فهذا هو المحرم إجماعا، وتخصيص الاعتزال في المحيض, يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها, في غير الوطء في الفرج جائز. لكن قوله:{ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} يدل على أن المباشرة فيما قرب من الفرج, وذلك فيما بين السرة والركبة, ينبغي تركه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض, أمرها أن تتزر, فيباشرها. وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحُيَّض{ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي:ينقطع دمهن, فإذا انقطع الدم, زال المنع الموجود وقت جريانه, الذي كان لحله شرطان, انقطاع الدم, والاغتسال منه. فلما انقطع الدم, زال الشرط الأول وبقي الثاني, فلهذا قال:{ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي:اغتسلن{ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي:في القبل لا في الدبر, لأنه محل الحرث. وفيه دليل على وجوب الاغتسال للحائض, وأن انقطاع الدم, شرط لصحته. ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده, وصيانة عن الأذى قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أي:من ذنوبهم على الدوام{ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أي:المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث. ففيه مشروعية الطهارة مطلقا, لأن الله يحب المتصف بها, ولهذا كانت الطهارة مطلقا, شرطا لصحة الصلاة والطواف, وجواز مس المصحف، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة, والصفات القبيحة, والأفعال الخسيسة.
روى الإمام مسلّم في صحيحه عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت أى لا يسكنون معهن- فسأل الصحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله- تعالى-: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً. الآية فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظنا أن قد وجد عليهما- أى غضب- فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.
والمحيض: الحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا فهي حائض، وأصله السيلان. يقال حاض الوادي إذا سال، ومنه الحوض لسيلان الماء إليه.
ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في أوقات مخصوصة على وجه مخصوص.
والأذى: الشيء الذي يتأذى منه الإنسان ويصيبه الضرر بسببه.
والسؤال كان من بعض الصحابة، لأنه لقوة إيمانهم كانوا يحبون أن يعرفوا حكم الإسلام في شئونهم الخاصة والعامة، ولأنهم وجدوا أن اليهود وغيرهم يعاملون المرأة في حال حيضها معاملة غير كريمة فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا الأمر الذي يتصل بأدق العلاقات بين الرجل والمرأة وهو حكم مباشرة النساء في حال الحيض، فأجابهم الله- تعالى- جوابا شافيا.
والمعنى: ويسألك أصحابك يا محمد عن حكم مباشرة النساء في حال الحيض فقل لهم معلما وموجها: إن الحيض أى الدم الذي يلفظه رحم المرأة في وقت معين أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسيما، فرائحته يتأذى منها من يشمها، وهو في ذاته شيء متقذر تعافه النفوس، وتنفر منه الطباع.
وقوله: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ بيان للحكم المتفرع على تلك الحالة التي يتأذى منها وهي حالة الحيض.
والاعتزال: التباعد، وهو هنا كناية عن ترك الجماع والمباشرة، كما أن النهى عن قربهن كناية عن النهى عن جماعهن، يقال: قرب الرجل امرأته إذا جامعها.
ويَطْهُرْنَ من الطهر- بضم الطاء- بمعنى النقاء من الوسخ والقذر-.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تمتنعوا عن مباشرة النساء في زمن حيضهن، ولا تجامعوهن حتى يطهرن من ذلك، لأن غشيانهن في هذه الحالة يؤذيكم بسبب عدم نقاء المحل الذي يكون فيه الغشيان للمرأة، والمرأة أيضا تتأذى من مباشرتها في زمن الحيض لأنها لا تكون في حالة تستسيغ معها المباشرة، فجهازها التناسلى في حالة اضطراب، وهيئتها العامة في حالة تجعلها من شأنها أن تنفر من الجماع، والولد الذي يأتى عن طريق الجماع في حالة الحيض- على فرض إتيانه في هذه الحالة- كثيرا ما يأتى مشوها ضعيفا، لأن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض، أخذت البويضات في التخلق قبل وقت صلاحيتها للتخلق النافع الذي يكون وقته بعد انتهاء فترة الحيض وقد قال بذلك الأطباء الثقاة . وعرفه العرب القدامى بالتجربة، قال أبو كبير الهذلى.
ومبرأ من كل غبّر حيضة ... وفساد مرضعة وداء معضل
وقد أجمع العلماء- كما بينا- على أن المراد بالاعتزال هو اجتناب المباشرة، إلا أنهم اختلفوا فيما يجب اعتزاله من المرأة بعد ذلك.
فبعضهم يرى اعتزال جميع بدن المرأة، وحجتهم أن الله أمر باعتزال النساء ولم يخصص من ذلك شيئا دون شيء.
وبعضهم يرى اعتزال موضع الأذى- أى مكان خروج الدم- لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» .
وبعضهم يرى اعتزال ما بين السرة إلى الركبة من المرأة وله ما سوى ذلك، لقول عائشة:
كانت إحدانا إذا كانت حائضة أمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر ثم يباشرها. وقوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تأكيد لحكم الاعتزال وتقرير له، وتنبيه على أن المراد به عدم جماعهن لا عدم القرب منهن أو مخالطتهن أو الأكل معهن كما كان يفعل اليهود وبعض العرب.
والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «كنت أرجل رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا حائض» .
وروى البخاري عن عائشة- أيضا- قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن.
وروى مسلّم عنها أيضا قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلّى الله عليه وسلّم فيضع فاه على موضع فىّ فيشرب.
وقوله: حَتَّى يَطْهُرْنَ بيان لغاية الاعتزال. وقرأ حمزة الكسائي حَتَّى يَطْهُرْنَ بفتح الطاء والهاء مع التشديد.
ومعناه عند جمهور الفقهاء ولا تجامعوهن حتى يغتسلن، لأن القراءتين معناهما واحد، ولأن الله- تعالى- قد علق الإتيان على التطهر فقال: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ والتطهر هو الاغتسال. فالمرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد الاغتسال.
ويرى الأحناف أن معنى حَتَّى يَطْهُرْنَ أى حتى ينقطع الدم، لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم فانقطاعه طهور منه، وبناء على ذلك فيجوز للرجل أن يباشر زوجته قبل أن تغتسل متى انقطع دمها لأقصى مدة الحيض، وهو عشرة أيام. أخذا بالقراءة المشهورة يَطْهُرْنَ بالتخفيف. أما إذا انقطع الدم قبل ذلك فلا تحل مباشرتها إلا بالتأكيد من زوال الدم بعمل من جانبها وهو الاغتسال الفعلى، لأن قراءة يَطْهُرْنَ بالتشديد عندهم معناها يغتسلن.
وقال بعض الفقهاء يكفى في حلها أن تتوضأ عند انقطاع الدم.
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.
وفي هاتين الجملتين الكريمتين فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ من سمو التعبير، وبديع الكناية ما يغرس في نفس السامع حسن الأدب، ويصون سمعه عن الألفاظ التي يجافى سماعها الأذواق السليمة، وما أحوج المسلمين إلى التأسى بهذا الأدب الذي يحفظ عليهم مروءتهم وكرامتهم.
ثم قال- تعالى-: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أى: فإذا تطهرن من المحيض فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدوه إلى غيره.
والأمر في قوله- تعالى-: فَأْتُوهُنَّ المراد به إباحة المباشرة، لأن من المقرر عند العلماء أن الأمر بعد النهى يكون للإباحة، خصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام، وليس المراد به الحتم واللزوم، لأن الإتيان مبنى على الرغبة والطاقة وشبه بهذا التعبير قوله- تعالى-: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
قال الجمل: ومن في قوله: «من حيث» فيها قولان:أحدهما: أنها لابتداء الغاية، أى من الجهة التي تنتهي إلى موضع الحيض.
والثاني: أن تكون بمعنى في أى المكان الذي نهيتم عنه في الحيض. ورجح بعضهم هذا بأنه ملائم لقوله فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ .
وعلى كلا القولين فالمقصود أن يأتى الرجل زوجته في المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية، وهو القبل إذ هو مكان البذر والإنسال، ولا يخرج عن ذلك إلا الذين أصيبوا بشذوذ في عقولهم، وضعف في دينهم..
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا زل وهفا.
والمتطهر: هو الإنسان المتنزه عن الفواحش والأقذار.
أى: إن الله- تعالى- يحب عباده الذين يكثرون الرجوع إليه إذا ما ظلموا أنفسهم بسيئة من السيئات، والذين يصونون أنفسهم وينزهونها عن المعاصي والآثام، ويرضى عنهم في الدنيا والآخرة.
قال الآلوسى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يبدر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المستدعى لعقاب الله- تعالى- فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أصبت امرأتى وهي حائض فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق نسمة» وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر، أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار» .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسأل أصحاب النبي [ النبي ] صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن ) حتى فرغ من الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " . فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه ! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله ، إن اليهود قالت كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما ، فخرجا ، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما .
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة .
فقوله : ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) يعني [ في ] الفرج ، لقوله : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " ; ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج .
قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ، ألقى على فرجها ثوبا .
وقال أبو داود أيضا : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد الله يعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن يعني ابن زياد عن عمارة بن غراب : أن عمة له حدثته : أنها سألت عائشة قالت : إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد ؟ قالت : أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخل فمضى إلى مسجده قال أبو داود : تعني مسجد بيتها فما انصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقال : " ادني مني " . فقلت : إني حائض . فقال : " اكشفي عن فخذيك " . فكشفت فخذي ، فوضع خده وصدره على فخذي ، وحنيت عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم . وقال : أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة : أن مسروقا ركب إلى عائشة ، فقال : السلام على النبي وعلى أهله . فقالت عائشة : أبو عائشة ! مرحبا مرحبا . فأذنوا له فدخل ، فقال : إني أريد أن أسألك عن شيء ، وأنا أستحي . فقالت : إنما أنا أمك ، وأنت ابني . فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت : له كل شيء إلا فرجها .
ورواه أيضا عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن ، عن مروان الأصفر ، عن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا ؟ قالت : كل شيء إلا الجماع .
وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وعكرمة .
وروى ابن جرير أيضا ، عن أبي كريب ، عن ابن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن ميمون بن مهران ، عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار .
قلت : وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف . قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض ، فيقرأ القرآن . وفي الصحيح عنها قالت : كنت أتعرق العرق وأنا حائض ، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وأشرب الشراب فأناوله ، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن جابر بن صبح سمعت خلاسا الهجري قال : سمعت عائشة تقول : كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد ، وإني حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء ، غسل مكانه لم يعده ، وإن أصاب يعني ثوبه شيء غسل مكانه لم يعده ، وصلى فيه .
فأما ما رواه أبو داود : حدثنا سعيد بن عبد الجبار ، حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن أبي اليمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة : أنها قالت : كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير ، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر فهو محمول على التنزه والاحتياط .
وقال آخرون : إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض . وهذا لفظ البخاري . ولهما عن عائشة نحوه .
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث العلاء بن الحارث ، عن حزام بن حكيم ، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال : " ما فوق الإزار " .
ولأبي داود أيضا ، عن معاذ بن جبل قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض . قال : " ما فوق الإزار ، والتعفف عن ذلك أفضل " . وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وشريح .
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله ، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم . ومأخذهم أنه حريم الفرج ، فهو حرام ، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل ، الذي أجمع العلماء على تحريمه ، وهو المباشرة في الفرج . ثم من فعل ذلك فقد أثم ، فيستغفر الله ويتوب إليه . وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا ؟ فيه قولان :
أحدهما : نعم ، لما رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض : " يتصدق بدينار ، أو نصف دينار " . وفي لفظ للترمذي : " إذا كان دما أحمر فدينار ، وإن كان دما أصفر فنصف دينار " . وللإمام أحمد أيضا ، عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ، دينارا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل ، فنصف دينار .
والقول الثاني : وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي ، وقول الجمهور : أنه لا شيء في ذلك ، بل يستغفر الله عز وجل ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ، فإنه [ قد ] روي مرفوعا كما تقدم وموقوفا ، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ، فقوله تعالى : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) تفسير لقوله : ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودا ، ومفهومه حله إذا انقطع ، [ وقد قال به طائفة من السلف . قال القرطبي : وقال مجاهد وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ ] .
وقوله : ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال . وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة ، لقوله : ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) وليس له في ذلك مستند ، لأن هذا أمر بعد الحظر . وفيه أقوال لعلماء الأصول ، منهم من يقول : إنه للوجوب كالمطلق . وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ، ومنهم من يقول : إنه للإباحة ، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب ، وفيه نظر . والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي ، فإن كان واجبا فواجب ، كقوله تعالى : ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) [ التوبة : 5 ] ، أو مباحا فمباح ، كقوله تعالى : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) [ المائدة : 2 ] ، ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) [ الجمعة : 10 ] وعلى هذا القول تجتمع الأدلة ، وقد حكاه الغزالي وغيره ، واختاره بعض أئمة المتأخرين ، وهو الصحيح .
وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم ، إن تعذر ذلك عليها بشرطه ، [ إلا يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري ، فإنه ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض ، ومنهم من ينقله عن ابن عبد الحكم أيضا ، وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما تقدم ] . إلا أن أبا حنيفة ، رحمه الله ، يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض ، وهو عشرة أيام عنده : إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل [ ولا يصح لأقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل عليها وقت صلاة إلا أن تكون دمثة ، فيدخل بمجرد انقطاعه ] والله أعلم .
وقال ابن عباس : ( حتى يطهرن ) أي : من الدم ( فإذا تطهرن ) أي : بالماء . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، ومقاتل بن حيان ، والليث بن سعد ، وغيرهم .
وقوله : ( من حيث أمركم الله ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني الفرج ; قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) يقول في الفرج ولا تعدوه إلى غيره ، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى .
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) أي : أن تعتزلوهن . وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ، كما سيأتي تقريره قريبا .
وقال أبو رزين ، وعكرمة ، والضحاك وغير واحد : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) يعني : طاهرات غير حيض ، ولهذا قال تعالى : ( إن الله يحب التوابين ) أي : من الذنب وإن تكرر غشيانه ، ( ويحب المتطهرين ) أي : المتنزهين عن الأقذار والأذى ، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض ، أو في غير المأتى .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: " ويسألونك عن المحيض "، ويسألك يا محمد أصحابك عن الحيض.
* * *
وقيل : " المحيض " ، لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتح عين الفعل، وكسرها في الاستقبال، مثل قول القائل: " ضرَب يضرِب، وحبَس يحبِس، ونـزل ينـزل "، فإن العرب تبني مصدره على " المفعَل " والاسم على " المفعِل "، مثل " المضرَب، والمضرِب " من " ضربتُ"،" ونـزلت منـزلا ومنـزلا ". ومسموع في ذوات الياء والألف والياء،" المعيش والمعاش " و " المعيبُ والمعاب " ، كما قال رؤبة في المعيش:
إلَيْـــكَ أَشْـــكُو شِــدَّةَ المَعيشِ
وَمَــرَّ أَعْــوَامٍ نَتَفْــنَ رِيشِــي (44)
* * *
وإنما كان القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر لنا - عن الحيض، لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم ما يتبينون من أمره، لا يساكنون حائضًا في بيت، ولا يؤاكلونهنَّ في إناء ولا يشاربونهن. فعرَّفهم الله بهذه الآية، أنّ الذي عليهم في أيام حيض نسائهم : أن يجتنَّبوا جماعهن فقط، دون ما عدا ذلك من &; 4-373 &; مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن، كما :-
4231 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " ويسألونك عن المحيض " حتى بلغ: حَتَّى يَطْهُرْنَ فكان أهلُ الجاهلية لا تساكنهم حائضٌ في بيت، ولا تؤاكلهم في إناءٍ، فأنـزل الله تعالى ذكره في ذلك، فحرَّم فرْجها ما دامت حائضًا، وأحل ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك، إذا كان عليها إزارٌ محتجزةً به دونك. (45)
4232 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقد قيل: إنهم سألوا عن ذلك، لأنهم كانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهنّ في أدبارهن، فنهاهم الله عن أن يقربوهن في أيام حيضهن حتى يطهرن، ثم أذن لهم - إذا تطهَّرن من حيضهن - في إتيانهن من حيث أمرَهم باعتزالهنَّ، وحرم إتيانهن في أدبارهنَّ بكل حال.
* ذكر من قال ذلك:
4233 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد قال، كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنـزل الله: " ويسألونك عن المحيض " إلى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ - في الفرج لا تعدوه. (46)
* * *
&; 4-374 &;
وقيل: إن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابتَ بن الدَّحداح الأنصاري.
4234 - حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هُوَ أَذًى
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض : " هو أذى ".
* * *
" والأذى " هو ما يؤذى به من مكروه فيه. وهو في هذا الموضع يسمى " أذى " لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعان شتى من خلال الأذى، غير واحدة.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك، على تقارب معاني بعض ما قالوا فيه من بعض.
فقال بعضهم : قوله: " قل هو أذى "، قل هو قَذَر.
* ذكر من قال ذلك:
4235 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: " قل هو أذى "، قال: أما " أذى " فقذرٌ.
4236 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " قل هو أذى "، قال: " قل هو أذى " ، قال: قذرٌ.
* * *
&; 4-375 &;
وقال آخرون: قل هو دمٌ.
* ذكر من قال ذلك:
4237 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى "، قال: الأذى الدم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: " فاعتزلوا النساء في المحيض "، فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهن في محيضهنّ، كما:-
4238 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " فاعتزلوا النساء في المحيض "، يقول: اعتزلوا نكاحَ فُروجهنّ.
* * *
واختلف أهل العلم في الذي يجب على الرجل اعتزاله من الحائض.
فقال بعضهم: الواجبُ على الرجل، اعتزالُ جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه.
* ذكر من قال ذلك:
4239 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما يحلُّ لي من امرأتي إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد، واللحاف شتى. (47)
&; 4-376 &;
4240 - حدثني تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا محمد، عن الزهري، عن عروة، عن ندبة مولاة آل عباس قالت: بعثتني ميمونة ابنة الحارث - أو: حفصة ابنة عمر - إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابةٌ من قبل النساء، فوجدت فراشَها معتزلا فراشَه، فظنت أن ذلك عن الهجران، فسألتها عن اعتزال فراشِه فراشَها، فقالت: إنيّ طامث، وإذا طمثت اعتزل فراشي. فرجعتُ فأخبرتُ بذلك ميمونة - أو حفصة - فردَّتني إلى ابن عباس، تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه وإنها لحائض، وما بينه وبينها إلا ثوبٌ ما يجاوز الركبتين. (48)
4241 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد واللحاف شتى، فإن لم يجد إلا أن يردَّ عليها من ثوبه، ردَّ عليها منه.
* * *
&; 4-377 &;
واعتل قائلو هذه المقالة: بأنّ الله تعالى ذكره أمر باعتزال النساء في حال حيضهنّ، ولم يخصصن منهن شيئًا دون شيء، وذلك عامٌّ على جميع أجسادهنّ، واجبٌ اعتزالُ كل شيء من أبدانهن في حيضهنّ.
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن، موضع الأذى، وذلك موضعُ مخرج الدم.
* ذكر من قال ذلك:
4242 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن قال، حدثنا مروان الأصفر، عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. (49)
&; 4-378 &;
4243 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سعيد بن زريع قال، حدثنا سعيد = وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد = عن قتادة قال: ذكر لنا عن عائشة أنها قالت: وأين كان ذو الفراشَين وذو اللحافين؟! (50)
4244 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحرم على الرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت : فرجها. (51)
4245 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن كتاب أبي قلابة: أنّ مسروقًا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته. فقالت عائشة: أبو عائشة! مرحبًا! فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت: إنما أنا أمُّك، وأنت ابني! فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت له: كل شيء إلا فرجها. (52)
4246 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن ميمون بن مهران، عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار. (53)
&; 4-379 &;
4247 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع: أن عائشة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان عليها إزار.
4248 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي معشر قال: سألتُ عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج. (54)
4249 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال، قال ابن عباس: إذا جعلت الحائض على فرجها ثوبًا أو ما يكفُّ الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدُها زوجَها. (55)
4250 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه سئل: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: ما فوق الإزار.
4251 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا الحكم بن فضيل، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اتق من الدم مثل موضع النعل. (56)
&; 4-380 &;
4252 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة، عن أم سلمة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان على فرجها خرقة. (57)
4253 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج - يعني وهي حائض.
4254 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن قال: يبيتان في لحاف واحد - يعني الحائض - إذا كان على الفرج ثوب.
4255 - حدثنا تميم قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن ليث قال: تذاكرنا عند مجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض، قال: اطعن بذكرك حيث شئت فيما بين الفخذين والأليتين والسرة، ما لم يكن في الدبر أو الحيض. (58)
4256 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر قال: يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ قال: إذا كفَّت الأذى.
4257 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني &; 4-381 &; عمران بن حدير قال، سمعت عكرمة يقول، كل شيء من الحائض لك حلال غير مجرى الدم.
* * *
قال أبو جعفر : وعلة قائل هذه المقالة، قيامُ الحجة بالأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حُيَّض، ولو كان الواجبُ اعتزالَ جميعهنّ، لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله: " فاعتزلوا النساءَ في المحيض "، هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قُبُلها، دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها.
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهنّ في حال حيضهن، ما بين السرّة إلى الركبة، وما فوق ذلك ودونه منها.
* ذكر من قال ذلك:
4258 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن شريح قال : له ما فوق السرة - وذكر الحائض.
4259 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يزيد، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن الحائض: ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار.
4260 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قال شريح: له ما فوق سُرَّتها.
4261 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن واقد &; 4-382 &; بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: سئل سعيد بن المسيب: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما فوق الإزار.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة، صحةُ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:-
4262 - حدثني به ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني = وحدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الشيباني = قال حدثنا عبد الله بن شداد بن الهاد قال، سمعت ميمونة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض، أمرها فأتزرت ".
4263 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشرها وهي حائض فوق الإزار. (59)
4264 - حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، أمرها فأتزرت بإزار ثم يباشرها.
4265 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرَها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتزر، ثم يباشرها. (60)
&; 4-383 &;
ونظائر ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب ذكر جميعها الكتاب (61)
قالوا: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فجائز، وهو مباشرة الحائض ما دون الإزار وفوقه، وذلك دون الركبة وفوق السرة، وما عدا ذلك من جسد الحائض فواجبٌ اعتزالُه، لعموم الآية.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتَزَر ودونه، لما ذكرنا من العلة لهم. (62)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (63) فقرأه بعضهم: " حتى يطهرن " بضم " الهاء " وتخفيفها. وقرأه آخرون بتشديد " الهاء " وفتحها.
وأما الذين قرءوه بتخفيف " الهاء " وضمها، فإنهم وجهوا معناه إلى: ولا تقربوا النساء في حال حيضهنّ حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطهُرن. وقال بهذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4266 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " ولا تقربوهن حتى يطهرن "، قال: انقطاع الدم.
&; 4-384 &;
4267 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، - أو عثمان بن الأسود - : " ولا تقربوهن حتى يطهرن "، حتى ينقطع الدم عنهن.
4268 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله: " ولا تقربوهن حتى يطهرن "، قال: حتى ينقطع الدم. (64)
* * *
وأما الذين قرءوا ذلك بتشديد " الهاء " وفتحها، فإنهم عنوا به: حتى يغتسلن بالماء. وشددوا " الطاء " لأنهم قالوا: معنى الكلمة: حتى يتطهَّرْنَ، أدغمت " التاء " في" الطاء " لتقارب مخرجيهما.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: ( حَتَّى يَطَّهَّرْنَ ) بتشديدها وفتحها، بمعنى: حتى يغتسلن - لإجماع الجميع على أن حرامًا على الرجل أن يقرَب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتى تطهر.
* * *
وإنما اختُلف في" التطهر " الذي عناه الله تعالى ذكره، فأحل له جماعها.
فقال بعضهم: هو الاغتسال بالماء، لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغسل جميع بدنها. (65)
وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة.
وقال آخرون: بل هو غسل الفرج، فإذا غسلت فرجها، فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانُها.
* * *
&; 4-385 &;
فإذا كان إجماعٌ من الجميع أنها لا تحلُّ لزوجها بانقطاع الدم حتى تطَّهر، كان بيِّنًا أن أولى القراءتين بالصواب أنفاهما للَّبس عن فهم سامعها. وذلك هو الذي اخترنا، إذ كان في قراءة قارئها بتخفيف " الهاء " وضمها، ما لا يؤمن معه اللبس على سامعها من الخطأ في تأويلها، فيرى أن لزوج الحائض غشيانَها بعد انقطاع دم حيضها عنها، (66) وقبل اغتسالها وتطهُّرها.
* * *
فتأويل الآية إذًا: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهنّ، ولا تقربوهن حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: " فإذا تطهَّرن فأتوهن "، فإذا اغتسلن فتطهَّرن بالماء فجامعوهن.
* * *
فإن قال قائل: أففرض جماعهن حينئذ؟
قيل: لا.
فإن قال: فما معنى قوله إذًا: " فأتوهن " ؟
قيل: ذلك إباحة ما كان منَع قبل ذلك من جماعهن، وإطلاقٌ لما كان حَظَر في حال الحيض، وذلك كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ سورة المائدة: 2 ]، وقوله : فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [ سورة الجمعة: 10 ]، وما أشبه ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فإذا تطهرن " .
فقال بعضهم: معنى ذلك، فإذا اغتسلن.
* ذكر من قال ذلك:
&; 4-386 &;
4269 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاومة بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " فإذا تطهَّرن " يقول: فإذا طهُرت من الدم وتطهَّرت بالماء.
4270 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " فإذا تطهرن "، فإذا اغتسلن. (67)
4271 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله: " فإذا تطهرن "، يقول: اغتسلن.
4272 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو عثمان بن الأسود:-" فإذا تطهرن "، إذا اغتسلن.
4273 - حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عامر، عن الحسن: في الحائض ترى الطهر، قال: لا يغشاها زوجُها حتى تغتسل وتحلَّ لها الصلاة. (68)
4275 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيره، عن إبراهيم: أنه كره أن يطأها حتى تغتسل - يعني المرأة إذا طهُرت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك : فإذا تطهَّرن للصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
4276 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن طاوس ومجاهد أنهما قالا إذا طهُرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرَها &; 4-387 &; بالوضوء قبل أن تغتسل - إذا أدركه الشَّبَق فليُصب.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال : معنى قوله : " فإذا تطهَّرن "، فإذا اغتسلن، لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرًا الطُّهرَ الذي يحل لها به الصلاة. وإن القولَ لا يخلو في ذلك من أحد أمرين :
= إما أن يكون معناه: فإذا تطهَّرن من النجاسة فأتوهن.
فإن كان ذلك معناه، فقد ينبغي أن يكون متى انقطع عنها الدم فجائزٌ لزوجها جماعُها، إذا لم تكن هنالك نجاسة ظاهرة. هذا، إن كان قوله: " فإذا تطهَّرن " جائزًا استعماله في التطهُّر من النجاسة، ولا أعلمه جائزًا إلا على استكراه الكلام.
= أو يكون معناه: فإذا تطهَّرن للصلاة. وفي إجماع الجميع من الحجة على أنه غير جائز لزوجها غشيانها بانقطاع دم حيضها، (69) إذا لم يكن هنالك نجاسة، دون التطهر بالماء إذا كانت واجدته = أدلُّ الدليل على أن معناه: فإذا تطهرن الطهرَ الذي يجزيهن به الصلاة.
وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحل لها إلا بالاغتسال، أوضح الدلالة على صحة ما قلنا: من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال، وأن معنى قوله: " فإذا تطهرن "، فإذا اغتسلن فصرن طواهرَ الطهرَ الذي يجزيهنّ به الصلاة.
* * *
&; 4-388 &;
القول في تأويل قوله تعالى : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله ".
فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهَّرن من الوجه الذي نهيتُكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن، وذلك : الفرجُ الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض. (70)
* ذكر من قال ذلك:
4277 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس في قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهُنَّ.
4278 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، يقول: في الفرج، لا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد اعتدَى.
4279 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوا.
4280 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس: أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو : يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ قال: بلى! فقرأ: وَيَسْأَلُونَكَ &; 4-389 &; عَنِ الْمَحِيضِ حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، منْ ثَمَّ أمِرت أن تأتي. (71)
4281 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن عثمان، عن مجاهد قال: دبُر المرأة مثله من الرجل، ثم قرأ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ إلى " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن. (72)
4282 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: أمِروا أن يأتوهن من حيث نُهوا عنه.
4283 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، في الفرج، ولا تعْدوه.
4284 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، يقول: إذا تطهرن فأتوهن من حيث نُهي عنه في المحيض.
4285 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو: عثمان بن الأسود-: " فأتوهن من حيث أمركم الله " باعتزالهنّ منه.
4286 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، أي : من الوجه الذي يأتي منه المحيض، طاهرًا غيرَ حائض، ولا تعدوا ذلك إلى غيره.
&; 4-390 &;
4287 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: طواهرَ من غير جماع ومن غير حيض، من الوجه الذي يأتي [ منه ] المحيض، ولا يتعدَّه إلى غيره = قال سعيد: ولا أعلمه إلا عن ابن عباس. (73)
4288 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله "، من حيث نُهِيتم عنه في المحيض = وعن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله: " فإذا تطهَّرن فأتوهن من حيث أمركم الله "، من حيث نُهيتهم عنه، واتقوا الأدبار.
4289 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن يزيد بن الوليد، عن إبراهيم في قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: في الفرج.
* * *
وقال آخرون: معناها: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه. وذلك الوجه، هو الطهر دون الحيض. فكان معنى قائل ذلك في الآية: فأتوهنّ من قُبْل طُهرهنّ لا من قُبْل حيضهن. (74)
* ذكر من قال ذلك:
4290 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، &; 4-391 &; حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، يعني أن يأتيها طاهرًا غيرَ حائض.
4291 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من قُبْل الطهر. (75)
4292 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بمثله.
4293 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، يقول: ائتوهنّ من عند الطهر.
4294 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا علي بن هاشم، عن الزبرقان، عن أبي رزين: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من قُبْل الطهر، ولا تأتوهن من قُبْل الحيضة. (76)
4295 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، يقول: إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله. يقول: طواهر غير حُيَّض. (77)
4296 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال يقول: طواهر غيرَ حُيَّض. (78)
4297 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا &; 4-392 &; أسباط، عن السدي قوله: " من حيث أمركم الله "، من الطهر.
4298 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: " فأتوهن "، طُهَّرًا غير حيَّض. (79)
4299 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: ائتوهن طاهرات غير حُيَّض.
4300 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: طهَّرًا غير حيَّض في القُبُل. (80)
* * *
وقال آخرون: بلى معنى ذلك: فأتوا النساء من قِبل النكاح، لا من قِبل الفُجور.
* ذكر من قال ذلك:
4301 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل الأزرق، عن أبي عمر الأسدي، عن ابن الحنفية: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من قِبل الحلال، من قِبل التزويج.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قولُ من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قُبْل طهرهن. وذلك أن كل أمر بمعنى، فنهيٌ عن خلافه وضده. وكذلك النهي عن الشيء أمرٌ بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، فأتوهن من قِبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن - لوجب أن يكون قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ، &; 4-393 &; تأويله: ولا تقربوهن في مخرج الدم، دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهن.
وفي إجماع الجميع = : على أن الله تعالى ذكره لم يُطْلِق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئًا حرَّمه في حال الطُّهر، ولا حرِّم من ذلك في حال الطهر شيئًا أحله في حال الحيض = ما يُعلم به فسادُ هذا القول.
وبعد، فلو كان معنى ذلك على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة، لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله = (81) حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوله، ويكون ذلك أمرًا بإتيانهن في فروجهن. لأنّ الكلام المعروفَ إذا أريد ذلك، أن يقال: " أتى فلان زَوجته من قِبَل فرجها " - ولا يقال: أتاها من فرجها - إلا أن يكون أتاها من قِبَل فرجها في مكان غير الفرج.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإنَّ ذلك وإنْ كان كذلك، فليس معنى الكلام: فأتوهن في فروجهن - وإنما معناه : فأتوهن من قِبَل قُبُلهن في فروجهن - ، كما يقال: " أتيتُ هذا الأمرَ من مَأتاه " .
قيل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك على ما زعمتم، فقد يجب أن يكون معنى قوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله "، غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم، ومن حيث أمِرتم باعتزالهن - ولكن الواجبُ أن يكون تأويلُه على ذلك: فأتوهن من قبل وُجوههنّ في أقبالهن، كما كان قول القائل: " ائت الأمر من مأتاه " ، إنما معناه: اطلبه من مطلبه، ومطلبُ الأمر غيرُ الأمر المطلوب. &; 4-394 &; فكذلك يجب أن يكون مأتى الفرج - الذي أمر الله في قولهم بإتيانه - غير الفرج. (82)
وإذا كان كذلك، وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههن في فروجهن - وجب أن يكون على قولهم محرَّمًا إتيانهن في فروجهن من قِبل أدبارهن. وذلك إن قالوه، خرج من قاله من قِيل أهل الإسلام، وخالف نص كتاب الله تعالى ذكره، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الله يقول: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ، وأذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن.
فقد تبين إذًا إذْ كان الأمر على ما وصفنا، فسادُ تأويل من قال ذلك: فأتوهن في فروجهن حيث نهيتكم عن إتيانهنّ في حال حيضهن = وصحةُ القول الذي قلناه، وهو أن معناه: فأتوهن في فروجهنّ من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن، وذلك حال طهْرهن وتطهُّرهن، دون حال حيضهن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: " إن الله يحب التوابين "، المنيبين من الإدبار عن الله وعن طاعته، إليه وإلى طاعته. وقد بينا معنى " التوبة " قبل. (83)
* * *
واختلف في معنى قوله: " ويحب المتطهِّرين " .
فقال بعضهم: هم المتطهِّرون بالماء.
* ذكر من قال ذلك:
&; 4-395 &;
4302 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا طلحة، عن عطاء قوله: " إن الله يحب التوابين "، قال: التوابين من الذنوب =" ويحب المتطهرين " = قال: المتطهرين بالماء للصلاة.
4303 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا طلحة، عن عطاء، مثله.
4304 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: " إن الله يحب التوابين " من الذنوب، لم يصيبوها =" ويحب المتطهرين "، بالماء للصلوات. (84)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك : " إن الله يحب التوابين " ، من الذنوب =" ويحب المتطهرين " ، من أدبار النساء أن يأتوها.
* ذكر من قال ذلك:
4305 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت سليمان مولى أم علي قال، سمعت مجاهدًا يقول: من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين. (85)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: " ويحب المتطهرين " ، من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة منها.
* ذكر من قال ذلك:
&; 4-396 &;
4306 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: " يحب التوابين "، من الذنوب، لم يصيبوها =" ويحب المتطهرين "، من الذنوب، لا يعودون فيها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال: " إنّ الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء للصلاة ". لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانيه.
وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر أمرَ المحيض، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها في جاهليتهم : من تركهم مساكنة الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وأشياء غير ذلك مما كان تعالى ذكره يكرهها من عباده. فلما استفتى أصحابُ رسولِ الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (86) أوحى الله تعالى إليه في ذلك، فبيَّن لهم ما يكرهه مما يرضاه ويحبه، وأخبرهم أنه يحب من خلقه من أناب إلى رضاه ومحبته، تائبًا مما يكرهه.
وكان مما بيَّن لهم من ذلك، (87) أنه قد حرّم عليهم إتيان نسائهم وإن طهُرن من حيضهن حتى يغتسلن، ثم قال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ، فإن الله يحب المتطهرين = يعني بذلك : المتطهرين من الجنابة والأحداث للصلاة، والمتطهرات بالماء - من الحيض والنفاس والجنابة والأحداث - من النساء.
* * *
وإنما قال: " ويحب المتطهرين " - ولم يقل " المتطهرات " - وإنما جرى قبل ذلك ذكرُ التطهر للنساء، لأن ذلك بذكر " المتطهرين " يجمع الرجال والنساء. ولو ذكر ذلك بذكر " المتطهرات " ، لم يكن للرجال في ذلك حظ، وكان للنساء خاصة. فذكر الله تعالى ذكره بالذكر العام جميعَ عباده المكلفين، إذ كان قد &; 4-397 &; تعبَّد جميعَهم بالتطهر بالماء، وإن اختلفت الأسباب التي توجب التطهر عليهم بالماء في بعض المعاني، واتفقت في بعض.
------------------
(44) ديوانه : 78 ، من قصيدة يمدح فيها الحارث بن سليم الهجيمي ، وبين البيتين في الديوان :
* دَهْـرًا تَنَفَّـى المُـخَّ بِالتَّمْشِـيشِ *
ورواية الديوان ، بعده :
وَجَــهْدَ أَعْــوَامٍ بَــرَيْنَ رِيشِـي
نَتْـفَ الحُبَـارى عَـنْ قَـرًى رَهِيشِ
(45) احتجز بالإزار : إذا شده على وسطه . والحجزة (بضم الحاء وسكون الجيم) : موضع شد الإزار ، ثم يسمى الإزار نفسه حجزة ، وجمعه حجز .
(46) في المطبوعة : "ولا تعدوه" ، والصواب في المخطوطة بحذف الواو .
(47) الأثر : 4239- في المطبوعة والمخطوطة : "اللحاف واحد والفراش شتى" . وهو باطل المعنى ، وسيأتي على الصواب من طريق آخر برقم : 4241 .
(48) الحديث : 4240- يزيد : هو ابن هرون . محمد : هو ابن إسحاق . ندبد مولاة آل عباس : هي مولاة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين ، خالة ابن عباس . فلعلها نسبت هنا"مولاة آل عباس" للقرابة بين ابن عباس وميمونة . وهي ثقة ، ذكرها ابن حبان في الثقات ص : 359 ، ولكنه وهم إذ ذكر أنه يروي عنها الزهري؛ والزهري روى عنها بالواسطة . وترجمها ابن سعد 8 : 364 . وذكرها ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة .
واختلف في ضبط اسمها ، فقيل بضم النون أو فتحها مع سكون الدال ثم فتح الباء الموحدة . وقيل بدية" بضم الباء الموحدة ثم فتح الدال ثم فتح الياء التحتية المشددة .
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 332 (حلبي) عن يزيد بن هرون ، بهذا الإسناد ، نحوه ، مع بعض اختصار . وهو في روايته عن ميمونة جزمًا ، ليس فيه الشك بينها وبين حفصة . وهو الصواب ولعل الشك هنا من الطبري ، أو من شيخه تميم بن المنتصر .
ثم إن ابن إسحاق خطأ هنا في جعل الحديث"عن الزهري ، عن عروة" . ولعل الخطأ من يزيد بن هرون . والصواب أنه"عن الزهري ، عن حبيب مولى عروة ، عن ندبة" . وبذلك تضافرت الروايات في هذا الإسناد ، كما سيأتي . ويؤيده أن ابن سعد ذكر في ترجمتها أنها تروي عن عروة ، وروى بإسناده خبرًا عنها عن عروة بن الزبير .
و"حبيب مولى عروة" : هو حبيب الأعور ، مولى عروة بن الزبير . وهو تابعي ثقة ، قال ابن سعد : "مات قديمًا في آخر سلطان بني أمية" . وأخرج له مسلم في صحيحه .
والحديث رواه -على الصواب- البيهقي في السنن الكبرى 1 : 313 ، من طريق بشر بن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن الزهري ، قال : "أخبرني حبيب مولى عروة بن الزبير ، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس . . . " ، فذكره مطولا .
ثم إن الحديث معروف من هذا الوجه على الصواب ، مختصرًا بدون ذكر قصة ابن عباس .
فرواه أحمد في المسند 6 : 332 (حلبي) ، عن حجاج وأبي كامل ، عن الليث ، عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة ، ولم يذكر لفظه ، وأحاله على الرواية السابقة . ثم رواه بعد ذلك ، ص : 335- 336 ، عن حجاج وأبي كامل ، بالإسناد نفسه . وذكر لفظه مختصرًا عن ميمونة ، دون القصة .
وكذلك رواه أبو داود : 267 ، وابن حبان في صحيحه 2 : 569 (مخطوطة الإحسان) . والبيهقي 1 : 313 - كلهم من طريق الليث بن سعد ، به . وكذلك رواه النسائي 1 : 54- 55 ، 67 ، من طريق يونس والليث- كلاهما عن ابن شهاب ، به مختصرًا .
فعن هذه الروايات كلها استيقنت أن رواية ابن إسحاق -هنا وعند أحمد-"عن الزهري ، عن عروة" خطأ .
(49) الحديث : 4242- مروان الأصفر ، أبو خلف : تابعي ثقة : و"الأصفر" : بالفاء ، ووقع في المطبوعة بالغين . وهو تحريف .
مسروق بن الأجدع الهمداني : تابعي كبير ثقة ، من سادات التابعين وفقهائهم .
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1 : 510 عن هذا الموضع . وكذلك نقله السيوطي 1 : 260 ، ولم ينسباه لغير الطبري .
وهو عندنا حديث مرفوع بالمعنى ، وإن كان لفظه موقوفًا على عائشة . لأن الصحابي إذا حكى عما يحل ويحرم فالثقة به أن لا يحكي ذلك إلا عمن يؤخذ عنه الحلال والحرام ، وهو معلم الخير ، صلى الله عليه وسلم . وهذا عند الإطلاق ، إلا أن تدل دلائل على أنه يقول ذلك اجتهادًا واستنباطًا من دلائل الكتاب والسنة . وانظر الأحاديث التالية لهذا .
(50) في المخطوطة : "وأينا كان . . . " .
(51) الحديث : 4244- سالم ابن أبي الجعد : تابعي ثقة معروف ، أخرج له الأئمة الستة . وهذا الحديث في معنى الحديث السابق : 4242 ، من وجه آخر ، وبلفظ آخر . وإسناده صحيح .
(52) الحديث : 4245- وهذا في معنى الحديثين السابقين ، مع تفصيل في قصة السؤال والجواب . وإسناده صحيح أيضًا .
(53) الحديث : 4246- ابن أبي زائدة : هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، مضى في : 2338 . حجاج : هو ابن أرطأة .
وهذا في معنى ما قبله .
(54) الحديث : 4248- هكذا وقع هذا الإسناد هنا . وهو إسناد ناقص على اليقين . فإن"أبا معشر" : هو زياد بن كليب التميمي الحنظلي ، وهو يروي عن التابعين . وهو ثقة ، ولكنه لم يدرك عائشة ، فلا يمكن أن يقول : "سألت عائشة" .
وصواب الإسناد ، كما في المحلى لابن حزم 2 : 183"روينا عن أيوب السختياني ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم النخعي ، عن مسروق ، قال : سألت عائشة : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قالت : كل شيء إلا الفرج" . فسقط من الإسناد رجلان : إبراهيم النخعي ، ومسروق ، وهو الذي سأل عائشة . وهكذا ذكره ابن حزم ، فلم يذكر إسناده إلى أيوب .
وقد رواه الطحاوي في معاني الآثار 2 : 22 ، بإسناده ، من طريق عمرو بن خالد ، عن عبيد الله -وهو ابن عمرو الرقى الجزري-"عن أيوب ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عائشة" . ولم يذكر لفظه ، إحالة على رواية أخرى قبله ، بمعناه .
(55) الخبر : 4249 -هذا إسناد منقطع- محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي : تابعي ثقة معروف . ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة ، كما صرح بذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 32/184 .
(56) الخبر : 4251- الحكم بن فضيل ، أبو محمد الواسطي : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره . مترجم في الكبير 1/2/337 ، وابن أبي حاتم 1/2/126- 127 ، والتعجيل ، والميزان ، ولسان الميزان . وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد 8 : 221- 223 . والبخاري لم يذكر فيه حرجًا .
والخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 1 : 314 ، من طريق الحسن بن مكرم . عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، بهذا الإسناد .
(57) الحديث : 4252 - هذا إسناد صحيح . وهو وإن كان موقوفًا على أم سلمة ، فإن معناه ثابت عنها مرفوعًا أيضًا :
فروى البيهقي 1 : 311 ، من طريق يزيد بن زريع ، "حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن أم سلمة : أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحاف ، فأصابها الحيض ، فقال لها : قومي فاتزري ثم عودي" .
وثبت نحو معناه عن أم سلمة أيضًا ، بأطول من هذا ، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، مرفوعًا . رواه مسلم 1 : 95 ، والبيهقي 1 : 311 ، وذكر أنه أخرجه البخاري ومسلم .
(58) في المطبوعة : "حيثما شئت" ، وأثبت ما في المخطوطة .
(59) الحديثان : 4262 ، 4263 - حفص : هو ابن غياث ، الشيباني سليمان : هو أبو إسحاق الشيباني سليمان بن أبي سليمان . وسفيان في الحديث الثاني : هو الثوري .
والحديثان في معنى واحد . وقد ذكره ابن كثير 1 : 511 ، بلفظ أولهما عن الصحيحين ، وكذلك ذكره السيوطي 1 : 259 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة . وأبي داود ، والبيهقي . وانظر البخاري 1 : 64 ، ومسلم 1 : 95 ، والسنن الكبرى 1 : 311 .
(60) الحديثان : 4264 ، 4265- هما حديث واحد بإسنادين . وذكره السيوطي 1 : 259 ، عن ابن أبي شيبة ، والصحيحين ، وأبي داود ، وابن ماجه ، بزيادة في آخره . وانظر البخاري 1 : 63 . ومسلم 1 : 95 ، وأبا داود : 112 ، 113 ، والنسائي 1 : 54 ، 67 ، والبيهقي 1 : 310- 311 .
(61) في ال
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 222 | ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّـهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ |
---|
التوبة: 108 | ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
يطهرن:
قرئ:
1- يطهرن، بتشديد الطاء والفتح، وهى قراءة حمزة، والكسائي، وعاصم، وكذا هو فى مصحف أبى، وعبد الله، وأصله: يتطهرن.
2- يطهرن، بالتخفيف، مضارع «طهر» ، وهى قراءة الباقين.
التفسير :
{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل, لكونه موضع الحرث, وهو الموضع الذي يكون منه الولد. وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر, لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك, ولعن فاعله.{ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} أي:من التقرب إلى الله بفعل الخيرات, ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته, ويجامعها على وجه القربة والاحتساب, وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم.{ وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي:في جميع أحوالكم, كونوا ملازمين لتقوى الله, مستعينين بذلك لعلمكم،{ أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها. ثم قال:{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لم يذكر المبشر به ليدل على العموم, وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل خير واندفاع كل ضير, رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة. وفيها محبة الله للمؤمنين, ومحبة ما يسرهم, واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.
ثم قال- تعالى-: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
روى الشيخان عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول. فأنزل الله- تعالى- قوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية.
والحرث في الأصل: تهيئة الأرض بالحراثة لإلقاء البذر فيها. وقد تطلق كلمة الحرث على الأرض المزروعة كما في قوله- تعالى- أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أى على حديقتكم لجمع ما فيها من ثمار.
وشبهت المرأة بالأرض لأن كليهما يمد الوجود الإنسانى بأسباب بقائه، فالزوجة تمده بعناصر تكوينه، والأرض تمده بأسباب حياته.
وأَنَّى شِئْتُمْ بمعنى كيف شئتم، أو متى شئتم في غير وقت الحيض.
والمعنى: نساؤكم هن مزرع لكم ومنبت للولد، أعدهن الله لذلك كما أعد الأرض للزراعة والإنبات، فأتوهن إذا تطهرن من الحيض في موضع الحرث كيف شئتم مستلقيات على ظهورهن أو غير ذلك ما دمتم تؤدون شهوتكم في صمام واحد وهو الفرج.
وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل، ويشير إلى ذلك قوله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ إذ من شأن الحرث الصالح الإنتاج وإشعار كذلك بما شرعه الله للزوجين من مؤانسة ومباسطة ويشير إلى ذلك قوله- تعالى-: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
ويرى صاحب الكشاف أن التشبيه بين ما يلقى في الأرحام من النطفة وبين البذر الذي يلقى في الأرض من حيث إن كلا منهما ينمو في مستودعه ويكون به البقاء والتوالد، فقد قال- رحمه الله-:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ مواضع الحرث لكم. وهذا مجاز شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور، وقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تمثيل، أى فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تحرثونها من أى جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة.
والمعنى: جامعوهن من أى شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث.
ثم قال: وقوله- تعالى-: هُوَ أَذىً، فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ وقوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وقوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ من الكنايات اللطيفة والتعريضات الحسنة. وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم.
فإن قلت: ما موقع قوله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ مما قبله؟ قلت: موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يعنى أن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث ترجمة له وتفسيرا، أو إزالة للشبهة ودلالة على أن الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض» .
ثم ختم الله- تعالى- الآية بقوله: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
أى: عليكم أيها المؤمنون أن تقدموا في حاضركم لمستقبلكم من الأعمال الصالحة ما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم، بأن تختاروا في زواجكم ذات الدين، وأن تسيروا في حياتكم الزوجية على الطريقة التي رسمها لكم خالقكم وعليكم كذلك أن تتقوه بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه، وأن تعلموا علم اليقين أنكم ستلقونه فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكهم عليها بما تستحقون.
وقوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بشارة طيبة لمن آمن وعمل صالحا، وتلقى ما كلفه الله- تعالى- بالطاعة والامتثال.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد أرشدتا المسلّم إلى أفضل الوسائل، وأقوى الدعائم التي يقوم عليها صرح الحياة الزوجية السعيدة، والتي عن طريقها تأتى الذرية الصالحة الرشيدة، وأن الإسلام في تعاليمه لا يحاول أن ينكر أو يحطم غرائز الإنسان وضرورياته، وإنما الإسلام يعترف بغرائز الإنسان وضرورياته ثم يعمل على تهذيبها وتقويمها بالطرق التي من شأنه إذا ما اتبعها أن يظفر بالسعادة والطمأنينة في دنياه وأخراه.
وبعد أن بينت لنا السورة الكريمة حكم المباشرة في فترة الحيض تابعت حديثها عن شئون الأسرة فذكرت حكم الإيلاء أى الحلف بالامتناع عن المباشرة بعد أن قدمت له بالحديث عن الحلف في ذاته. استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى ذلك فتقول:
وقوله : ( نساؤكم حرث لكم ) قال ابن عباس : الحرث موضع الولد ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) أي : كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد ، كما ثبتت بذلك الأحاديث .
قال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن ابن المنكدر قال : سمعت جابرا قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) ورواه داود من حديث سفيان الثوري به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري : أن محمد بن المنكدر حدثهم : أن جابر بن عبد الله أخبره : أن اليهود قالوا للمسلمين : من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول ، فأنزل الله عز وجل : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم )
قال ابن جريج في الحديث : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مقبلة ومدبرة ، إذا كان ذلك في الفرج " .
وفي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : يا رسول الله ، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : " حرثك ، ائت حرثك أنى شئت ، غير ألا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في المبيت . الحديث ، رواه أحمد ، وأهل السنن .
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عامر بن يحيى ، عن حنش بن عبد الله ، عن عبد الله بن عباس قال : أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن أشياء ، فقال له رجل : إني أجبي النساء ، فكيف ترى في ذلك ، فأنزل الله : ( نساؤكم حرث لكم ) .
حديث آخر : قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه " مشكل الحديث " : حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا يعقوب بن كاسب ، حدثنا عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أصاب امرأة في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزل الله : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) ورواه ابن جرير عن يونس وعن يعقوب ، به .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن سابط قال : دخلت على حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت : إني سائلك عن أمر ، وإنى أستحيي أن أسألك . قالت : فلا تستحيي يا ابن أخي . قال : عن إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت : حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا لا يجبون النساء ، وكانت اليهود تقول : إنه من جبى امرأته كان الولد أحول ، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار ، فجبوهن ، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت : لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك ، فقالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيت الأنصارية أن تسأله ، فخرجت ، فحدثت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ادعي الأنصارية " : فدعيت ، فتلا عليها هذه الآية : " ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) صماما واحدا " .
ورواه الترمذي ، عن بندار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، عن ابن خثيم به . وقال : حسن .
قلت : وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة ، عن أبيه ، عن ابن خثيم عن يوسف بن ماهك ، عن حفصة أم المؤمنين : أن امرأة أتتها فقالت : إن زوجي يأتيني محيية ومستقبلة فكرهته ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا بأس إذا كان في صمام واحد " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا يعقوب يعني القمي عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت ! قال : " ما الذي أهلكك ؟ " قال : حولت رحلي البارحة ! قال : فلم يرد عليه شيئا . قال : فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) أقبل وأدبر ، واتق الدبر والحيضة " .
رواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن حسن بن موسى الأشيب ، به . وقال : حسن غريب .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين ، حدثني الحسن بن ثوبان ، عن عامر بن يحيى المعافري ، عن حنش ، عن ابن عباس قال : أنزلت هذه الآية : ( نساؤكم حرث لكم ) في أناس من الأنصار ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " آتها على كل حال ، إذا كان في الفرج " .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سريج حدثنا عبد الله بن نافع ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد قال : أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أثفر فلان امرأته ، فأنزل الله عز وجل : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) .
وقال أبو داود : حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ ، قال : حدثني محمد يعني ابن سلمة عن محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن ابن عمر والله يغفر له أوهم ، إنما كان أهل هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع أهل هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرته عليه ، وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف . فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني ، فسرى أمرهما ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) أي : مقبلات ، ومدبرات ، ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد .
تفرد به أبو داود ، ويشهد له بالصحة ما تقدم من الأحاديث ، ولا سيما رواية أم سلمة ، فإنها مشابهة لهذا السياق .
وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها ، حتى انتهيت إلى هذه الآية : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) فقال ابن عباس : إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة ، ويتلذذون بهن . . فذكر القصة بتمام سياقها .
وقول ابن عباس : " إن ابن عمر والله يغفر له أوهم " . كأنه يشير إلى ما رواه البخاري :
حدثنا إسحاق ، حدثنا النضر بن شميل ، أخبرنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه ، فأخذت عليه يوما فقرأ سورة البقرة ، حتى انتهى إلى مكان قال : أتدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا . قال : أنزلت في كذا وكذا . ثم مضى . وعن عبد الصمد قال : حدثني أبي ، حدثني أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) قال : يأتيها في . . .
هكذا رواه البخاري ، وقد تفرد به من هذه الوجوه .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا ابن عون ، عن نافع قال : قرأت ذات يوم : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) فقال ابن عمر : أتدري فيم نزلت ؟ قلت : لا . قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن .
وحدثني أبو قلابة ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني أبي ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) قال : في الدبر .
وروي من حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولا يصح .
وروى النسائي ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر : أن رجلا أتى امرأته في دبرها ، فوجد في نفسه من ذلك وجدا شديدا ، فأنزل الله : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) .
قال أبو حاتم الرازي : لو كان هذا عند زيد بن أسلم ، عن ابن عمر لما أولع الناس بنافع . وهذا تعليل منه لهذا الحديث .
وقد رواه عبد الله بن نافع ، عن داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عمر فذكره .
وهذا محمول على ما تقدم ، وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها ، لما رواه النسائي أيضا عن علي بن عثمان النفيلي ، عن سعيد بن عيسى ، عن المفضل بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل ، عن كعب بن علقمة ، عن أبي النضر : أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر : إنه قد أكثر عليك القول : إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال : كذبوا علي ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر : إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده ، حتى بلغ : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) فقال : يا نافع ، هل تعلم من أمر هذه الآية ؟ قلت : لا . قال : إنا كنا معشر قريش نجبي النساء ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار ، أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه ، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود ، إنما يؤتين على جنوبهن ، فأنزل الله : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) .
وهذا إسناد صحيح ، وقد رواه ابن مردويه ، عن الطبراني ، عن الحسين بن إسحاق ، عن زكريا بن يحيى الكاتب العمري ، عن مفضل بن فضالة ، عن عبد الله بن عياش عن كعب بن علقمة ، فذكره . وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا ، وأنه لا يباح ولا يحل كما سيأتي ، وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم ، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك ، رحمه الله . وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه ; فقال الحسن بن عرفة :
حدثنا إسماعيل بن عياش عن سهيل بن أبي صالح ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استحيوا ، إن الله لا يستحيي من الحق ، لا يحل مأتى النساء في حشوشهن " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن عبد بن شداد عن رجل عن خزيمة بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يعقوب ، سمعت أبي يحدث ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ابن الهاد : أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حدثه أن هرمي بن عبد الله الواقفي حدثه : أن خزيمة بن ثابت الخطمي حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يستحيي الله من الحق ، لا يستحيي الله من الحق ثلاثا لا تأتوا النساء في أعجازهن " .
ورواه النسائي ، وابن ماجه من طرق ، عن خزيمة بن ثابت . وفي إسناده اختلاف كثير .
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي ، والنسائي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الضحاك بن عثمان ، عن مخرمة بن سليمان ، عن كريب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر " . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه . وصححه ابن حزم أيضا . ولكن رواه النسائي ، عن هناد ، عن وكيع ، عن الضحاك ، به موقوفا .
وقال عبد : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه : أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها ، قال : تسألني عن الكفر ! [ إسناد صحيح ] .
وكذا رواه النسائي ، من طريق ابن المبارك ، عن معمر به نحوه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى " .
وقال عبد الله بن أحمد : حدثني هدبة ، حدثنا همام ، قال : سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها . فقال قتادة : حدثنا عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هي اللوطية الصغرى " .
قال قتادة : وحدثني عقبة بن وساج ، عن أبي الدرداء قال : وهل يفعل ذلك إلا كافر ؟ .
وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قوله . وهذا أصح ، والله أعلم .
وكذلك رواه عبد بن حميد ، عن يزيد بن هارون ، عن حميد الأعرج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، موقوفا من قوله .
طريق أخرى : قال جعفر الفريابي : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ، ويقول : ادخلوا النار مع الداخلين : الفاعل والمفعول به ، والناكح يده ، وناكح البهيمة ، وناكح المرأة في دبرها ، وجامع بين المرأة وابنتها ، والزاني بحليلة جاره ، والمؤذي جاره حتى يلعنه " .
ابن لهيعة وشيخه ضعيفان .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن علي بن طلق ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن ; فإن الله لا يستحيي من الحق .
وأخرجه أحمد أيضا ، عن أبي معاوية ، وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضا ، عن عاصم الأحول [ به ] وفيه زيادة ، وقال : هو حديث حسن .
ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب ، كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل والصحيح أنه علي بن طلق .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " .
وحدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا سهيل ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها " .
وكذا رواه ابن ماجه من طريق سهيل .
وحدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي من طريق وكيع ، به .
طريق أخرى : قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا هناد ، ومحمد بن إسماعيل واللفظ له قالا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " .
ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي ، وإنما الذي فيه عن سهيل ، عن الحارث بن مخلد ، كما تقدم .
قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي : ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند ، وهم منه ، وقد ضعفوه .
طريق أخرى : رواها مسلم بن خالد الزنجي ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى عليه وسلم قال : " ملعون من أتى النساء في أدبارهن " .
ومسلم بن خالد فيه كلام ، والله أعلم .
طريق أخرى : رواها الإمام أحمد ، وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة ، عن حكيم الأثرم ، عن أبي تميمة الهجيمي ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها ، أو كاهنا فصدقه ، فقد كفر بما أنزل على محمد " .
وقال الترمذي : ضعف البخاري هذا الحديث . والذي قاله البخاري في حديث حكيم [ الأثرم ] عن أبي تميمة : لا يتابع في حديثه .
طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا عثمان بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من كتابه ، عن عبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " استحيوا من الله حق الحياء ، لا تأتوا النساء في أدبارهن " .
تفرد به النسائي من هذا الوجه .
قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ : هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ، ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد ; فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد ، فإنما سمعه بعد الاختلاط ، وقد رواه الزهري عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك ، فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا . انتهى كلامه .
وقد أجاد وأحسن الانتقاد ; إلا أن عبد الملك [ بن محمد ] الصنعاني لا يعرف أنه اختلط ، ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة الكناني ، وهو ثقة ، ولكن تكلم فيه دحيم ، وأبو حاتم ، وابن حبان ، وقال : لا يجوز الاحتجاج به ، فالله أعلم . وقد تابعه زيد بن يحيى بن عبيد ، عن سعيد بن عبد العزيز . وروي من طريقين آخرين ، عن أبي سلمة . ولا يصح منها شيء .
طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : إتيان الرجال النساء في أدبارهن كفر .
ثم رواه ، عن بندار ، عن عبد الرحمن ، به . قال : من أتى امرأة في دبرها ملك كفره . هكذا رواه النسائي ، من طريق الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة موقوفا . وكذا رواه من طريق علي ابن بذيمة ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة موقوفا . ورواه بكر بن خنيس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى شيئا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر " والموقوف أصح ، وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة ، وتركه آخرون .
حديث آخر : قال محمد بن أبان البلخي : حدثنا وكيع ، حدثنا زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه وعن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يزيد بن الهاد قالا قال عمر بن الخطاب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن " .
وقد رواه النسائي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، عن عثمان بن اليمان ، عن زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن الهاد ، عن عمر قال : " لا تأتوا النساء في أدبارهن " .
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم ، عن زمعة بن صالح ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن عبد الله بن الهاد الليثي قال : قال عمر رضي الله عنه : استحيوا من الله ، فإن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن . الموقوف أصح .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا غندر ومعاذ بن معاذ قالا : حدثنا شعبة عن عاصم الأحول ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أستاههن " .
وكذا رواه غير واحد ، عن شعبة . ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عاصم الأحول ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن علي ، والأشبه أنه علي بن طلق ، كما تقدم ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو بكر الأثرم في سننه : حدثنا أبو مسلم الحرمي ، حدثنا أخي أنيس بن إبراهيم أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره ، عن أبيه أبي القعقاع ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " محاش النساء حرام " .
وقد رواه إسماعيل بن علية ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، وغيرهم ، عن أبي عبد الله الشقري واسمه سلمة بن تمام : ثقة عن أبي القعقاع ، عن ابن مسعود موقوفا . وهو أصح .
طريق أخرى : قال ابن عدي : حدثنا أبو عبد الله المحاملي ، حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا محمد بن حمزة ، عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تأتوا النساء في أعجازهن " محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه ، فيهما مقال .
وقد روي من حديث أبي بن كعب والبراء بن عازب ، وعقبة بن عامر وأبي ذر ، وغيرهم . وفي كل منها مقال لا يصح معه الحديث ، والله أعلم .
وقال الثوري ، عن الصلت بن بهرام ، عن أبي المعتمر ، عن أبي جويرية قال : سأل رجل عليا عن إتيان امرأة في دبرها ، فقال : سفلت ، سفل الله بك ! ألم تسمع إلى قول الله عز وجل : ( أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) [ الأعراف : 80 ] .
وقد تقدم قول ابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمرو في تحريم ذلك ، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، أنه يحرمه .
قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الدارمي في مسنده : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري ، أنحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكر الدبر . فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟
وكذا رواه ابن وهب وقتيبة ، عن الليث ، به . وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك ، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر حدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك بن أنس أنه قيل له : يا أبا عبد الله ، إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال : كذب العبد ، أو العلج ، على أبي [ عبد الله ] فقال مالك : أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر مثل ما قال نافع . فقيل له : فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار : أنه سأل ابن عمر فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ فقال : وما التحميض ؟ فذكر له الدبر . فقال ابن عمر : أف ! أف ! أيفعل ذلك مؤمن أو قال : مسلم . فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب ، عن ابن عمر ، مثل ما قال نافع .
وروى النسائي ، عن الربيع بن سليمان ، عن أصبغ بن الفرج الفقيه ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال : قلت لمالك : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد بن يسار ، قال : قلت لابن عمر : إنا نشتري الجواري ، فنحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ قلت : نأتيهن في أدبارهن . فقال : أف ! أف ! أو يعمل هذا مسلم ؟ فقال لي مالك : فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر ، فقال : لا بأس به .
وروى النسائي أيضا من طريق يزيد بن رومان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها .
وروى معن بن عيسى ، عن مالك : أن ذلك حرام .
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري : حدثني إسماعيل بن حصين ، حدثني إسماعيل بن روح : سألت مالك بن أنس : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن : قال : ما أنتم قوم عرب . هل يكون الحرث إلا موضع الزرع ، لا تعدو الفرج .
قلت : يا أبا عبد الله ، إنهم يقولون : إنك تقول ذلك ؟ ! قال : يكذبون علي ، يكذبون علي .
فهذا هو الثابت عنه ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة . وهو قول سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، وعكرمة ، وطاوس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف : أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ، ومنهم من يطلق على فاعله الكفر ، وهو مذهب جمهور العلماء .
وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة ، حتى حكوه عن الإمام مالك ، وفي صحته عنه نظر .
[ وقد روى ابن جرير في كتاب النكاح له وجمعه عن يونس بن عبد الأحوص بن وهب إباحته ] .
قال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن القاسم قال : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال . يعني وطء المرأة في دبرها ، ثم قرأ : ( نساؤكم حرث لكم ) ثم قال : فأي شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاوي .
وقد روى الحاكم ، والدارقطني ، والخطيب البغدادي ، عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك . ولكن في الأسانيد ضعف شديد ، وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في ذلك ، فالله أعلم .
وقال الطحاوي : حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء . والقياس أنه حلال . وقد روى ذلكأبو بكر الخطيب ، عن أبي سعيد الصيرفي ، عن أبي العباس الأصم ، سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، سمعت الشافعي يقول . . . فذكر . قال أبو نصر الصباغ : كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد كذب يعني ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه ، والله أعلم .
وقال القرطبي في تفسيره : وممن ينسب إليه هذا القول وهو إباحة وطء المرأة في دبرها سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون . وهذا القول في العتبية . وحكى ذلك عن مالك في كتاب له أسماه كتاب السر ، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجل من أن يكون له كتاب السر ووقع هذا القول في العتبية ، وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من رواية كثيرة من كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن هذا لفظه قال : وحكى الكيا الهراسي الطبري عن محمد بن كعب القرظي أنه استدل على جواز ذلك بقوله : ( أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ) الشعراء : [ 165 ، 166 ] .
يعني مثله من المباح ثم رده بأن المراد بذلك من خلق الله لهم من فروج النساء لا أدبارهن . قلت : وهذا هو الصواب وما قاله القرظي إن كان صحيحا إليه فخطأ . وقد صنف الناس في هذه المسألة مصنفات منهم أبو العباس القرطبي وسمى كتابه إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار .
وقوله تعالى : ( وقدموا لأنفسكم ) أي : من فعل الطاعات ، مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك المحرمات ; ولهذا قال : ( واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ) أي : فيحاسبكم على أعمالكم جميعا .
( وبشر المؤمنين ) أي : المطيعين لله فيما أمرهم ، التاركين ما عنه زجرهم .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن عطاء قال : أراه عن ابن عباس : ( وقدموا لأنفسكم ) قال : يقول : " باسم الله " ، التسمية عند الجماع .
وقد ثبت في صحيح البخاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا " .
نساؤكم حرث لكم
القول في تأويل قوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم } يعني تعالى ذكره بذلك : نساؤكم مزدرع أولادكم , فأتوا مزدرعكم كيف شئتم , وأين شئتم . وإنما عنى بالحرث المزدرع , والحرث هو الزرع , ولكنهن لما كن من أسباب الحرث جعلن حرثا , إذ كان مفهوما معنى الكلام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 3446 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي , قال : ثنا ابن المبارك , عن يونس , عن عكرمة , عن ابن عباس : { فأتوا حرثكم } قال : منبت الولد . 3447 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { نساؤكم حرث لكم } أما الحرث فهي مزرعة يحرث فيها .فأتوا حرثكم أنى شئتم
القول في تأويل قوله تعالى : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } يعني تعالى ذكره بذلك : فانكحوا مزدرع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى . والإتيان في هذا الموضع كناية عن اسم الجماع . واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { أنى شئتم } فقال بعضهم : معنى أنى : كيف . ذكر من قال ذلك : 3448 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن عطية , قال : ثنا شريك , عن عطاء , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : يأتيها كيف شاء ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض . * - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا شريك , عن عطاء , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قوله : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : ائتها أنى شئت مقبلة ومدبرة , ما لم تأتها في الدبر والمحيض . 3449 - حدثنا علي بن داود قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس قوله : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } يعني بالحرث : الفرج , يقول : تأتيه كيف شئت مستقبلة ومستدبرة وعلى أي ذلك أردت بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره , وهو قوله : { فأتوهن من حيث أمركم الله } . 3450 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا شريك , عن عبد الكريم , عن عكرمة : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : يأتيها كيف شاء ما لم يعمل عمل قوم لوط . 3451 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا الحسن بن صالح , عن ليث , عن مجاهد : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : يأتيها كيف شاء , واتق الدبر والحيض . 3452 - حدثني عبيد الله بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , قال : ثني يزيد أن ابن كعب كان يقول : إنما قوله : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } يقول : ائتها مضطجعة وقائمة ومنحرفة ومقبلة ومدبرة كيف شئت إذا كان في قبلها . 3453 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا حصين , عن مرة الهمداني , قال : سمعته يحدث : أن رجلا من اليهود لقي رجلا من المسلمين , فقال له : أيأتي أحدكم أهله باركا ؟ قال : نعم , قال : فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم , قال : فنزلت هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } يقول : كيف شاء بعد أن يكون في الفرج . 3454 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } إن شئت قائما أو قاعدا أو على جنب إذا كان يأتيها من الوجه الذي يأتي منه المحيض , ولا يتعدى ذلك إلى غيره . 3455 - حدثنا موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } ائت حرثك كيف شئت من قبلها , ولا تأتيها في دبرها , { أنى شئتم } قال : كيف شئتم . 3456 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرنا عمرو بن الحارث , عن سعيد بن أبي هلال أن عبد الله بن علي حدثه : أنه بلغه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يوما ورجل من اليهود قريب منهم , فجعل بعضهم يقول : إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة , ويقول الآخر : إني لآتيها وهي قائمة , ويقول الآخر : إني لآتيها على جنبها وباركة فقال اليهودي : ما أنتم إلا أمثال البهائم , ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة , فأنزل الله تعالى ذكره : { نساؤكم حرث لكم } فهو القبل . وقال آخرون : معنى : { أنى شئتم } من حيث شئتم , وأي وجه أحببتم . ذكر من قال ذلك : 3457 - حدثنا سهل بن موسى الرازي , قال : ثنا ابن أبي فديك , عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي , عن داود بن الحصين , عن عكرمة , عن ابن عباس : أنه كان يكره أن تؤتى المرأة في دبرها ويقول : إنما الحرث من القبل الذي يكون منه النسل والحيض . وينهى عن إتيان المرأة في دبرها ويقول : إنما نزلت هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } يقول : من أي وجه شئتم . 3458 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا ابن واضح , قال : ثنا العتكي , عن عكرمة : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : ظهرها لبطنها غير معاجزة , يعني الدبر . 3459 - حدثنا عبيد الله بن سعد , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن يزيد , عن الحارث بن كعب , عن محمد بن كعب , قال : إن ابن عباس كان يقول : اسق نباتك من حيث نباته . 3460 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } يقول : من أين شئتم . ذكر لنا والله أعلم أن اليهود قالوا : إن العرب يأتون النساء من قبل أعجازهن , فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول ; فأكذب الله أحدوثتهم , فقال : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } . 3461 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد قال : يقول : ائتوا النساء في [ غير ] أدبارهن على كل نحو , قال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : تذاكرنا هذا عند ابن عباس , فقال ابن عباس : ائتوهن من حيث شئتم مقبلة ومدبرة فقال رجل : كأن هذا حلال . فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا , وأنكره , كأنه إنما يريد الفرج مقبلة ومدبرة في الفرج . وقال آخرون : معنى قوله : { أنى شئتم } متى شئتم . ذكر من قال ذلك : 3462 - حدثنا عن حسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد , قال : أخبرنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } يقول : متى شئتم . 3463 - حدثني يونس بن عبد الأعلى , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : ثنا أبو صخر , عن أبي معاوية البجلي , وهو عمار الدهني , عن سعيد بن جبير أنه قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس , أتاه رجل فوقف على رأسه , فقال : يا أبا العباس - أو يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض ؟ فقال : بلى ! فقرأ : { ويسألونك عن المحيض } حتى بلغ آخر الآية , فقال ابن عباس : من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي , فقال له الرجل : يا أبا الفضل كيف بالآية التي تتبعها { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ؟ فقال : إي ويحك وفي الدبر من حرث ؟ لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا اشتغل من ههنا جئت من ههنا ! ولكن أنى شئتم من الليل والنهار . وقال آخرون : بل معنى ذلك : أين شئتم , وحيث شئتم . ذكر من قال ذلك : 3464 - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا ابن عون , عن نافع , قال : كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم , قال : فقرأت ذات يوم هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } فقال : أتدري فيمن نزلت هذه الآية ؟ قلت : لا , قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن . * - حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم أبو مسلم , قال : ثنا أبو عمر الضرير , قال : ثنا إسماعيل بن إبراهيم , صاحب الكرابيسي , عن ابن عون , عن نافع , قال : كنت أمسك على ابن عمر المصحف , إذ تلا هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } فقال : أن يأتيها في دبرها . 3465 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : ثنا عبد الملك بن مسلمة , قال : ثنا الدراوردي , قال : قيل لزيد بن أسلم : إن محمد بن المنكدر ينهى عن إتيان النساء في أدبارهن فقال زيد : أشهد على محمد لأخبرني أنه يفعله . 3466 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : ثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر , قال : ثني عبد الرحمن بن القاسم , عن مالك بن أنس , أنه قيل له : يا أبا عبد الله إن الناس يروون عن سالم : " وكذب العبد أو العلج على أبي " , فقال مالك : أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني , عن سالم بن عبد الله , عن ابن عمر مثل ما قال نافع . فقيل له : إن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر , فقال له : يا أبا عبد الرحمن إنا نشتري الجواري , فنحمض لهن ؟ فقال : وما التحميض ؟ قال : الدبر فقال ابن عمر : أف أف , يفعل ذلك مؤمن ؟ أو قال مسلم . فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع . 3467 - حدثني محمد بن إسحاق , قال : أخبرنا عمرو بن طارق , قال : أخبرنا يحيى بن أيوب , عن موسى بن أيوب الغافقي , قال : قلت لأبي ماجد الزيادي : إن نافعا يحدث عن ابن عمر : في دبر المرأة فقال : كذب نافع , صحبت ابن عمر ونافع مملوك , فسمعته يقول : ما نظرت إلى فرج امرأتي منذ كذا وكذا . 3468 - حدثني أبو قلابة قال : ثنا عبد الصمد , قال : ثني أبي , عن أيوب , عن نافع , عن ابن عمر : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : في الدبر . 3469 - حدثني أبو مسلم , قال : ثنا أبو عمر الضرير , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال ثنا روح بن القاسم , عن قتادة قال : سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن , فقال : هل يفعل ذلك إلا كافر قال روح : فشهدت ابن أبي مليكة يسأل عن ذلك , فقال : قد أردته من جارية لي البارحة فاعتاص علي , فاستعنت بدهن أو بشحم , قال : فقلت له : سبحان الله أخبرنا قتادة أن أبا الدرداء قال : هل يفعل ذلك إلا كافر ! فقال : لعنك الله ولعن قتادة ! فقلت : لا أحدث عنك شيئا أبدا , ثم ندمت بعد ذلك . واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم بما : 3470 - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي أويس الأعشى , عن سليمان بن بلال , عن زيد بن أسلم , عن ابن عمر : أن رجلا أتى امرأته في دبرها , فوجد في نفسه من ذلك , فأنزل الله : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } . 3471 - حدثني يونس , قال : أخبرني ابن نافع , عن هشام بن سعد , عن زيد بن أسلم , عن عطاء بن يسار : أن رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنكر الناس ذلك وقالوا : أثفرها فأنزل الله تعالى ذكره : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } . وقال آخرون : معنى ذلك : ائتوا حرثكم كيف شئتم , إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا . ذكر من قال ذلك : 3472 - حدثني أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا الحسن بن صالح , عن ليث , عن عيسى بن سنان , عن سعيد بن المسيب : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } إن شئتم فاعزلوا , وإن شئتم فلا تعزلوا . 3473 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا وكيع , عن يونس , عن أبي إسحاق , عن زائدة بن عمير , عن ابن عباس قال : إن شئت فاعزل , وإن شئت فلا تعزل . وأما الذين قالوا : معنى قوله : { أنى شئتم } كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرج والقبل , فإنهم قالوا : إن الآية إنما نزلت في استنكار قوم من اليهود استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قبل أدبارهن , قالوا : وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من أن معنى ذلك على ما قلنا . واعتلوا لقيلهم ذلك بما : 3474 - حدثني به أبو كريب , قال : ثنا المحاربي , قال : ثنا محمد بن إسحاق , عن أبان بن صالح , عن مجاهد , قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها , حتى انتهى إلى هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } فقال ابن عباس : إن هذا الحي من قريش , كانوا يشرحون النساء بمكة , ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات . فلما قدموا المدينة تزوجوا في الأنصار , فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة , فأنكرن ذلك وقلن : هذا شيء لم نكن نؤتى عليه فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } إن شئت فمقبلة وإن شئت فمدبرة وإن شئت فباركة وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث , يقول : ائت الحرث من حيث شئت . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا يونس بن بكير , عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه . 3475 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا ابن مهدي , قال : ثنا سفيان , عن محمد بن المنكدر , قال : سمعت جابرا يقول : إن اليهود كانوا يقولون : إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها كان ولده أحول , فأنزل الله تعالى ذكره : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } . * - حدثنا مجاهد بن موسى , قال : ثنا يزيد بن هارون , قال : أخبرنا الثوري , عن محمد بن المنكدر , عن جابر بن عبد الله قال : قالت اليهود : إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها وكان بينهما ولد كان أحول , فأنزل الله تعالى ذكره : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } . 3476 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عبد الرحيم بن سليمان , عن عبد الله بن عثمان ابن خثيم , عن عبد الرحمن بن سابط , عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر , عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم , قالت : تزوج رجل امرأة , فأراد أن يجبيها , فأبت عليه وقالت : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم , قالت أم سلمة : فذكرت ذلك لي . فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : " أرسلي إليها ! " فلما جاءت قرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } " صماما واحدا , صماما واحدا " . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا معاوية بن هشام , عن سفيان بن عبد الله بن عثمان , عن ابن سابط , عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر , عن أم سلمة , قالت : قدم المهاجرون فتزوجوا في الأنصار , وكانوا يجبون , وكانت الأنصار لا تفعل ذلك , فقالت امرأة لزوجها : حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله عن ذلك . فأتت النبي صلى الله عليه وسلم , فاستحيت أن تسأله , فسألت أنا . فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقرأ عليها : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم . أنى شئتم } " صماما واحدا صماما واحدا " . * - حدثني أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا سفيان , عن عبد الله بن عثمان , عن عبد الرحمن بن سابط , عن حفصة بنت عبد الرحمن , عن أم سلمة , عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . * - حدثنا ابن بشار وابن المثنى , قالا : ثنا ابن مهدي , قال : ثنا سفيان الثوري , عن عبد الله بن عثمان بن خثيم , عن عبد الرحمن بن سابط , عن حفصة ابنة عبد الرحمن , عن أم سلمة , عن النبي صلى الله عليه وسلم : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : " صماما واحدا , صماما واحدا " . * - حدثني محمد بن معمر البحراني , قال : ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي , قال : ثني وهيب , قال : ثني عبد الله بن عثمان , عن عبد الرحمن بن سابط قال : قلت لحفصة : إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي منك أن أسألك , قالت : سل يا بني عما بدا لك ! قلت : أسألك عن غشيان النساء في أدبارهن ؟ قالت : حدثتني أم سلمة , قالت : كانت الأنصار لا تجبي , وكان المهاجرون يجبون , فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار . ثم ذكر نحو حديث أبي كريب , عن معاوية بن هشام . * - حدثنا ابن المثنى , قال : ثني وهب بن جرير , قال : ثنا شعبة , عن ابن المنكدر : قال : سمعت جابر بن عبد الله , يقول : إن اليهود كانوا يقولون : إذا أتى الرجل امرأته باركة جاء الولد أحول , فنزلت { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } . 3477 - حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي , قال : ثنا الحسن بن موسى , قال : ثنا يعقوب القمي , عن جعفر , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت ! قال : " وما الذي أهلكك ؟ " قال : حولت رحلي الليلة , قال : فلم يرد عليه شيئا , قال : فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } " أقبل وأدبر , واتق الدبر والحيضة " . 3478 - حدثنا زكريا بن يحيى المصري , قال : ثنا أبو صالح الحراني , قال : ثنا ابن لهيعة , عن يزيد بن أبي حبيب أن عامر بن يحيى أخبره عن حنش الصنعاني , عن ابن عباس : أن ناسا من حمير أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء , فقال رجل منهم : يا رسول الله إني رجل أحب النساء , فكيف ترى في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى ذكره في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه , وأنزل فيما سأل عنه الرجل : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وائتها مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج " . والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : معنى قوله { أنى شئتم } من أي وجه شئتم , وذلك أن أنى في كلام العرب كلمة تدل إذا ابتدئ بها في الكلام على المسألة عن الوجوه والمذاهب , فكأن القائل إذا قال لرجل : أنى لك هذا المال ؟ يريد من أي الوجوه لك , لذلك يجيب المجيب فيه بأن يقول : من كذا وكذا , كما قال تعالى ذكره مخبرا عن زكريا وفي مسألته مريم : { أنى لك هذا قالت هو من عند الله } 3 37 وهي مقاربة أين وكيف في المعنى , ولذلك تداخلت معانيها , فأشكلت " أنى " على سامعها ومتأولها حتى تأولها بعضهم بمعنى أين , وبعضهم بمعنى كيف , وآخرون بمعنى متى , وهي مخالفة جميع ذلك في معناها وهن لها مخالفات . وذلك أن " أين " إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال , وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها . ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال : أين مالك ؟ لقال بمكان كذا , ولو قال له : أين أخوك ؟ لكان الجواب أن يقول : ببلدة كذا , أو بموضع كذا , فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله , فيعلم أن أين مسألة عن المحل . ولو قال قائل لآخر : كيف أنت ؟ لقال : صالح أو بخير أو في عافية , وأخبره عن حاله التي هو فيها , فيعلم حينئذ أن كيف مسألة عن حال المسئول عن حاله . ولو قال له : أنى يحيي الله هذا الميت ؟ لكان الجواب أن يقال : من وجه كذا ووجه كذا , فيصف قولا نظير ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال : { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } 2 259 فعلا حين بعثه من بعد مماته . وقد فرقت الشعراء بين ذلك في أشعارها , فقال الكميت بن زيد : تذكر من أنى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل وقال أيضا : أنى ومن أين نابك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب فيجاء ب " أنى " للمسألة عن الوجه و " أين " للمسألة عن المكان , فكأنه قال : من أي وجه ومن أي موضع رجعك الطرب . والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } كيف شئتم , أو تأوله بمعنى حيث شئتم , أو بمعنى متى شئتم , أو بمعنى أين شئتم ; أن قائلا لو قال لآخر : أنى تأتي أهلك ؟ لكان الجواب أن يقول : من قبلها أو من دبرها , كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذ سئلت : { أنى لك هذا } أنها قالت : { هو من عند الله } 3 37 . وإذ كان ذلك هو الجواب , فمعلوم أن معنى قول الله تعالى ذكره : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } إنما هو : فأتوا حرثكم من حيث شئتم من وجوه المأتى , وأن ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل . وإذ كان ذلك هو الصحيح , فبين خطأ قول من زعم أن قوله : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } دليل على إباحة إتيان النساء في الأدبار , لأن الدبر لا يحترث فيه , وإنما قال تعالى ذكره : { حرث لكم } فأتوا الحرث من أي وجوهه شئتم , وأي محترث في الدبر فيقال ائته من وجهه . وتبين بما بينا صحة معنى ما روي عن جابر وابن عباس من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين إذا أتى الرجل المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول .وقدموا لأنفسكم
القول في تأويل قوله تعالى : { وقدموا لأنفسكم } اختلف أهل التأويل في معنى ذلك , فقال بعضهم : معنى ذلك : قدموا لأنفسكم الخير . ذكر من قال ذلك : 3479 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , أما قوله : { وقدموا لأنفسكم } فالخير . وقال آخرون : بل معنى ذلك { وقدموا لأنفسكم } ذكر الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه ذكر من قال ذلك : 3480 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني محمد بن كثير , عن عبد الله بن واقد , عن عطاء , قال : أراه عن ابن عباس : { وقدموا لأنفسكم } قال : التسمية عند الجماع يقول بسم الله . والذي هو أولى بتأويل الآية , ما روينا عن السدي , وهو أن قوله : { وقدموا لأنفسكم } أمر من الله تعالى ذكره عباده بتقديم الخير , والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم , عدة منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب , فإنه قال : تعالى ذكره : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } 2 110 وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية , لأن الله تعالى ذكره عقب قوله : { وقدموا لأنفسكم } بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه , فكان الذي هو أولى بأن يكون الذي قبل التهديد على المعصية عاما الأمر بالطاعة عاما . فإن قال لنا قائل : وما وجه الأمر بالطاعة بقوله : { وقدموا لأنفسكم } من قوله : { نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ؟ قيل : إن ذلك لم يقصد به ما توهمته , وإنما عنى به وقدموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأجيبوا عنه مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الآيات , ثم قال تعالى ذكره : قد بينا لكم ما فيه رشدكم وهدايتكم إلى ما يرضي ربكم عنكم , فقدموا لأنفسكم الخير الذي أمركم به , واتخذوا عنده به عهدا لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم , واتقوه في معاصيه أن تقربوها وفي حدوده أن تضيعوها , واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم , فمجاز المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته .واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين
القول في تأويل قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين } وهذا تحذير من الله تعالى ذكره عباده أن يأتوا شيئا مما نهاهم عنه من معاصيه , وتخويف لهم عقابه عند لقائه , كما قد بينا قبل , وأمر لنبيه محمد أن يبشر من عباده بالفوز يوم القيامة , وبكرامة الآخرة , وبالخلود في الجنة من كان منهم محسنا مؤمنا بكتبه ورسله وبلقائه , مصدقا إيمانه قولا بعمله ما أمره به ربه , وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه ومن حقوقه , وبتجنبه ما أمره بتجنبه من معاصيه .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 223 | ﴿وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ |
---|
التوبة: 112 | ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّـهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ |
---|
يونس: 87 | ﴿أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ |
---|
الأحزاب: 47 | ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّـهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ |
---|
الصف: 13 | ﴿وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّـهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
المقصود من اليمين، والقسم تعظيم المقسم به, وتأكيد المقسم عليه، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان, وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين, يتضمن ترك ما هو أحب إليه، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة, أي:مانعة وحائلة عن أن يبروا:أن يفعلوا خيرا, أو يتقوا شرا, أو يصلحوا بين الناس، فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه, وحرم إقامته على يمينه، ومن حلف على ترك مستحب, استحب له الحنث، ومن حلف على فعل محرم, وجب الحنث, أو على فعل مكروه استحب الحنث، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث. ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة, أنه "إذا تزاحمت المصالح, قدم أهمها "فهنا تتميم اليمين مصلحة, وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء, مصلحة أكبر من ذلك, فقدمت لذلك. ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال:{ وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أي:لجميع الأصوات{ عَلِيمٌ} بالمقاصد والنيات, ومنه سماعه لأقوال الحالفين, وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته, وأن أعمالكم ونياتكم, قد استقر علمها عنده
العرضة: فعله- بضم الفاء- بمعنى مفعول كالقبضة والغرفة، وهي اسم لكل ما يعترض الشيء فيمنع من الوصول إليه، واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعا للناس من السلوك والمرور يقال فلان عرضة دون الخير أى حاجز عنه.
وتطلق كذلك على النصبة التي تتعرض للسهام وتكون هدفا لها، ومنه قولهم: فلان عرضة للناس إذا كانوا يقعون فيه ويعرضون له بالمكروه. قال الشاعر:
دعوني أنح وجدا كنوح الحمائم ... ولا تجعلوني عرضة للوائم
يريد اتركوني أنح من الشوق ولا تجعلوني معرضا للوم اللوائم.
والأيمان: جمع يمين وتطلق بمعنى الحلف والقسم، واصل ذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا توثيق عهودهم بالقسم يقسمونه وضع كل واحد من المتعاهدين يمينه في يمين صاحبه، و «تبروا» من البر وهو الأمر المستحسن شرعا.
والمعنى على الوجه الأول: لا تجعلوا الحلف بالله- أيها المؤمنون- حاجزا ومانعا عن البر والتقوى والإصلاح بين الناس، وذلك أن بعض الناس كان إذا دعى إلى فعل الخير وهو لا يريد أن يفعله يقول: حلفت بالله ألا أفعله فنهاهم الله- تعالى- عن سلوك هذا الطريق.
وهذا المعنى هو الذي رجحه كثير من المفسرين لأنه هو المناسب لما يجيء بعد ذلك من قوله- تعالى-: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ووجه المناسبة أن الله- تعالى- يكره للمؤمن أن يجعل الحلف به مانعا من رجوعه إلى أهله ولأن هناك أحاديث كثيرة تحض من حلف على ترك أمر من أمور الخير أن يكفر عن يمينه وأن يأتى الأمر الذي فيه خير، ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنى والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» .
وروى مسلّم في صحيحه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» .
وشبيه بهذه الآية في النهى عن الحلف على ترك فعل الخير قوله- تعالى- في شأن سيدنا أبى بكر عند ما أقسم ألا ينفق على قريبه الذي خاض في شأن ابنته عائشة وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ .
فالآية على هذا الوجه تنهى المؤمن عن المحافظة على اليمين إذا كانت هذه اليمين مانعة من فعل الخير.
واللام في قوله: لِأَيْمانِكُمْ متعلق بعرضة، وقوله أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا مفعول لأجله أى: لا تجعلوا الحلف بالله سببا في الامتناع عن عمل البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
والمعنى على أن عرضة بمعنى النصبة التي تتعرض للسهام: لا تجعلوا- أيها المؤمنون- اسم الله- تعالى- هدفا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل، وذلك لأجل البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإن من شأن الذي يكثر الحلف أن تقل ثقة الناس به وبإيمانه، وقد ذم الله- تعالى- من يكثر الحلف بقوله وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ وأمر بحفظ الأيمان فقال: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ.
قال الإمام الرازي: والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان، أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلى في اليمين، وأيضا كلما كان الإنسان أكثر تعظيما لله. كان أكمل في العبودية، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله- تعالى- أجل وأعلا عنده من أن يستشهد به في غرض دنيوى، وأما قوله بعد ذلك أَنْ تَبَرُّوا فهو علة لهذا النهى. أى: إرادة أن تبروا والمعنى إنما نهيتم عن هذا- أى عن الإكثار من الحلف- لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونون يا معشر المؤمنين بسبب عدم إكثاركم من الأيمان- بررة أتقياء مصلحين» .
وهذا الوجه أيضا استحسنه كثير من العلماء، ولا تنافى بينهما لأن الله- تعالى- ينهانا عن أن نجعل القسم به مانعا من فعل الخير، كما ينهانا في الوقت نفسه عن أن نكثر من الحلف به في عظيم الأمور وحقيرها.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أى: سميع لأقوالكم وأيمانكم عند النطق بها عليم بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم لتنالوا رضاه ومثوبته.
يقول تعالى : لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها ، كقوله تعالى : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) [ النور : 22 ] ، فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير . كما قال البخاري :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه " .
وهكذا رواه مسلم ، عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق ، به . ورواه أحمد ، عنه ، به .
ثم قال البخاري : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا معاوية ، هو ابن سلام ، عن يحيى ، وهو ابن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استلج في أهله بيمين ، فهو أعظم إثما ، ليس تغني الكفارة " .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم قال : لا تجعلن عرضة ليمينك ألا تصنع الخير ، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير .
وهكذا قال مسروق ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، ومجاهد ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وعكرمة ، ومكحول ، والزهري ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، والسدي . ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " وثبت فيهما أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة : " يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك " .
وروى مسلم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا خليفة بن خياط ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فتركها كفارتها " .
ورواه أبو داود من طريق عبيد الله بن الأخنس ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ، ولا في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها ، وليأت الذي هو خير ، فإن تركها كفارتها " .
ثم قال أبو داود : والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها : " فليكفر عن يمينه " وهي الصحاح .
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سعيد الكندي ، حدثنا علي بن مسهر ، عن حارثة بن محمد ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على قطيعة رحم أو معصية ، فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه " .
وهذا حديث ضعيف ; لأن حارثة [ هذا ] هو ابن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن ، متروك الحديث ، ضعيف عند الجميع .
ثم روى ابن جرير عن ابن جبير وسعيد بن المسيب ، ومسروق ، والشعبي : أنهم قالوا : لا يمين في معصية ، ولا كفارة عليها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " .
فقال بعضهم: معناه: ولا تجعلوه عِلَّة لأيمانكم، وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الخير والإصلاح بين الناس قال: " عليّ يمين بالله ألا أفعل ذلك " - أو " قد حلفت بالله أن لا أفعله "، فيعتلّ في تركه فعل الخير والإصلاح بين الناس بالحلف بالله.
* ذكر من قال ذلك:
&; 4-420 &;
4351 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: " ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم "، قال: هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح، ثم يعتلّ بيمينه، يقول الله: " أن تبرُّوا وتتقوا " هو خير له من أن يمضي على ما لا يصلح، وإن حلفت كفَّرت عن يمينك وفعلت الذي هو خيرٌ لك.
4352 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مثله = إلا أنه قال: وإن حلفت فكفِّر عن يمينك، وافعل الذي هو خير.
4353 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته ولا يتصدق، أو أن يكون بينه وبين إنسان مغاضبة فيحلف لا يُصلح بينهما ويقول: " قد حلفت ". قال: يكفّر عن يمينه: " ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم " .
4354 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " ولا تجعلوا الله عُرضةً لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا "، يقول: لا تعتلُّوا بالله، أن يقول أحدكم إنه تألَّى أن لا يصل رَحمًا، (135) ولا يسعى في صلاح، ولا يتصدَّق من ماله. مهلا مهلا بارك الله فيكم، فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان، فلا تطيعوه، ولا تُنْفِذوا له أمرًا في شيء من نذروكم ولا أيمانكم.
4355 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "، قال: هو الرجل يحلف لا يصلح بين الناس ولا يبر، فإذا قيل له، قال: " قد حلفتُ".
&; 4-421 &;
4356 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله: " ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "، قال: الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير، الأمرَ الحسن، يقول: " حلفت "! قال الله: افعل الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك، ولا تجعل الله عرضةً.
4357 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " الآية: هو الرجل يحرّم ما أحل الله له على نفسه، فيقول: " قد حلفت! فلا يصلح إلا أن أبرَّ يميني"، فأمرهم الله أن يكفّروا أيمانهم ويأتوا الحلال. (136)
4358 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "، أما " عُرضة "، فيعرض بينك وبين الرجل الأمرُ، فتحلف بالله لا تكلمه ولا تصله. وأما " تبرُّوا "، فالرجل يحلف لا يبرُّ ذا رحمه فيقول: " قد حلفت!" ، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبَرَّه، ولا يبالي بيمينه. وأما " تصلحوا "، فالرجل يصلح بين الاثنين فيعصيانه، فيحلف أن لا يصلح بينهما، فينبغي له أن يصلح ولا يبالي بيمينه. وهذا قبل أن تنـزل الكفَّارات. (137)
4359 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين، فلا يمنعه يمينُه.
* * *
&; 4-422 &;
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تعترضوا بالحلف بالله في كلامكم فيما بينكم، فتجعلوا ذلك حجة لأنفسكم في ترك فعل الخير.
* ذكر من مال ذلك:
4360 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "، يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفِّر عن يمينك واصنع الخير.
4361 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "، كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا " .
4362 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "، قال: هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. يقول: فليفعل، وليكفِّر عن يمينه.
4363 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن إبراهيم النخعي في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "، قال: لا تحلف أن لا تتقي الله، ولا تحلف أن لا تبرَّ ولا تعمل خيرًا، ولا تحلف أن لا تصل، ولا تحلف أن لا تصلح بين الناس، ولا تحلف أن تقتل وتقطَع.
4364 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن داود، عن سعيد بن جبير = ومغيرة، عن إبراهيم في قوله: " ولا تجعلوا الله &; 4-423 &; عرضة " الآية، قالا هو الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يتقي، ولا يصلح بين الناس. وأمِر أن يتقي الله، ويصلحَ بين الناس، ويكفّر عن يمينه.
4365 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس. فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعله، وليدع يمينه. (138)
4366 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " الآية، قال: ذلك في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. فأمره الله أن يدع يمينه، ويصل رحمه، ويأمر بالمعروف، ويصلح بين الناس.
4367 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "، قالت: لا تحلفوا بالله وإن بررتم.
4368 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: حُدثت أن قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "، الآية، نـزلت في أبي بكر، في شأن مِسْطَح.
4369 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " الآية، قال: يحلف الرجل أن لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يصل رحمه.
&; 4-424 &;
4370 - حدثني المثنى، حدثنا سويد، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. فلا يمنعه يمينه. (139)
4371 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبى سلمة، عن سعيد، عن مكحول أنه قال في قول الله تعالى ذكره: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرًا، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. نهاهم الله عن ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية، تأويلُ من قال: معنى ذلك : " لا تجعلوا الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير فيما بينكم وبينَ الله وبين الناس ".
* * *
وذلك أن " العُرْضة "، في كلام العرب، القوة والشدة. يقال منه: " هذا الأمر عُرْضة لك " (140) يعني بذلك: قوة لك على أسبابك، ويقال: " فلانة عُرْضة للنكاح "، أي قوة، (141) ومنه قول كعب بن زهير في صفة نوق:
مِـنْ كُـلِّ نَضَّاحةِ الذِّفْرَى إذَا عَرِقَتْ,
عُرْضَتُهَـا طَـامِسُ الأَعْـلامِ مَجْهُولُ (142)
يعني بـ " عرضتها ": قوتها وشدتها.
* * *
&; 4-425 &;
فمعنى قوله تعالى ذكره: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " إذًا: لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البر والإصلاح بين الناس، فليحنث في يمينه، وليبرَّ، وليتق الله، وليصلح بين الناس، وليكفّر عن يمينه.
* * *
وترك ذكر " لا " من الكلام، لدلالة الكلام عليها، واكتفاءً بما ذُكر عما تُرِك، كما قال أمرؤ القيس:
فَقُلْــتُ يَمِيــنَ اللـهِ أَبْـرَحُ قَـاعِدًا
وَلَـوْ قَطَّعُـوا رَأْسِـي لَدَيكَ وَأَوْصَالِي (143)
بمعنى: فقلت: يمين الله لا أبرح، فحذف " لا " ، اكتفاء بدلالة الكلام عليها.
* * *
وأما قوله: " أن تبروا "، فإنه اختلف في تأويل " البر "، الذي عناه الله تعالى ذكره.
فقال بعضهم: هو فعل الخير كله. وقال آخرون: هو البر بذي رحمه، وقد ذكرت قائلي ذلك فيما مضى. (144)
* * *
وأولى ذلك بالصواب قول من قال: " عني به فعل الخير كله ". وذلك أن أفعال الخير كلها من " البر "، ولم يخصص الله في قوله: " أن تبرُّوا " معنى دون معنى من معاني" البر "، فهو على عمومه، والبر بذوي القرابة أحد معاني" البر ".
* * *
وأما قوله: " وتتقوا "، فإن معناه: أن تتقوا ربكم فتحذروه وتحذروا عقابه في &; 4-426 &; فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدَّوْها. وقد ذكرنا تأويل من تأوَّل ذلك أنه بمعنى " التقوى " قبل. (145)
* * *
وقال آخرون في تأويله بما:-
4372 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: " أن تبروا وتتقوا " قال: كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " الآية. قال: ويقال: لا يتق بعضكم بعضًا بي، تحلفون بي وأنتم كاذبون، ليصدقكم الناس وتصلحون بينهم، فذلك قوله: " أن تبروا وتتقوا "، الآية. (146)
* * *
وأما قوله: " وتصلحوا بين الناس "، فهو الإصلاح بينهم بالمعروف فيما لا مَأثَم فيه، وفيما يحبه الله دون ما يكرهه.
* * *
وأما الذي ذكرنا عن السدي: من أنّ هذه الآية نـزلت قبل نـزول كفارات الأيمان، (147) فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة. والخبر عما كان، لا تدرك صحته إلا بخبر صادق، وإلا كان دعوى لا يتعذر مِثلها وخلافها على أحد. (148)
وغير محال أن تكون هذه الآية نـزلت بعد بيان كفارات الأيمان في" سوره المائدة "، واكتفى بذكرها هناك عن إعادتها ههنا، إذ كان المخاطبون بهذه الآية قد علموا الواجبَ من الكفارات في الأيمان التي يحنث فيها الحالف.
* * *
&; 4-427 &;
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: " والله سميع " لما يقوله الحالفُ منكم بالله إذا حلف فقال: " والله لا أبر ولا أتقي ولا أصلح بين الناس "، ولغير ذلك من قيلكم وأيمانكم =" عليم " بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك، ألخير تريدون أم غيره؟ لأني علام الغيوب وما تضمره الصدور، لا تخفى عليّ خافية، ولا ينكتم عني أمر عَلَن فطهر، أو خَفي فبَطَن.
وهذا من الله تعالى ذكره تهدُّد ووعيدٌ. يقول تعالى ذكره: واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول، أو بأبدانكم من الفعل، ما نهيتكم عنه - أو تضمروا في أنفسكم وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنيات بفعل ما زجرتكم عنه، فتستحقوا بذلك مني العقوبة التي قد عرَّفتكموها، فإنّي مطَّلع على جميع ما تعلنونه أو تُسرُّونه.
* * *
------------------------------
الهوامش:
(135) تألى الرجل : أقسم بالله ، ومثله"آل" .
(136) الأثر : 4357- في المطبوعة : "حدثت عن عمار بن الحسن ، قال سمعت أبا معاذ" وهو خطأ صرف والصواب من المخطوطة ، وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير أقربه رقم : 4324 . و"الحسين" هو"الحسين بن الفرج" .
(137) انظر كلام أبي جعفر في هذا الأثر فيما بعد ص : 426 .
(138) الأثر : 4365- هو في المخطوطة إسناد واحد جاء هكذا : "حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح . . . " والذي في المطبوعة هو الصحيح ، وهما إسنادان دائران في التفسير . الأول منهما أقربه رقم : 4132 والثاني منهما أقربه رقم : 3872
(139) الأثر : 4370- هذا الأثر ليس في المخطوطة في هذا المكان ، وهو الصواب . وهو مكرر الذي مضى برقم : 4359- وفي المطبوعة هنا"فلا ينفعه يمينه" وهو خطأ ظاهر . وكأن أولى أن يحذف ولكني أبقيته للدلالة على اختلاف النسخ .
(140) في المخطوطة والمطبوعة : "عرضة له" وأثبت ما هو أولى بالصواب .
(141) أخشى أن يكون الصواب الجيد : "أي قرية" .
(142) ديوانه : 9 ، وسيأتي في التفسير 5 : 79/11 : 108/27 : 62 (بولاق) من قصيدته المشهورة . نضح الرجل بالعرق نضحا ، فض به حتى سال سيلانًا . ونضاحة : شديدة النضح . والذفرى : الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن ، وهو من الناس والحيوان جميعا : العظم الشاخص خلف الأذن . وسيلان عرقها هناك ، ممدوح في الإبل . والطامس : الدارس الذي أمحى أثره . والأعلام : أعلام الطريق ، تبنى في جادة الطريق ليستدل بها عليه إذا ضل الضال . وأرض مجهولة : إذا كان لا أعلام فيها ولا جبال ، فلا يهتدي فيها السائر . يقول : إذا نزلت هذه المجاهل ، عرفت حينئذ قوتها وشدتها وصبرها على العطش والسير في الفلوات .
(143) ديوانه : 141 وسيأتي في التفسير 13 : 28 (بولاق) وهو من قصيدته التي لا تبارى وهي مشهورة وما قبل البيت وما بعده مشهور .
(144) انظر ما سلف في معاني"البر" 2 : 8/ ثم 3 : 336- 338 ، 556 .
(145) انظر الآثار رقم : 4361 ، 4363 ، 4364 .
(146) الأثر : 4372- هو الأثر السالف رقم : 4361 وتتمته .
(147) يعني الأثر السالف رقم : 4358 .
(148) في المخطوطة"لا يبعد مثلها . . . " غير منقوطة كأنها"لا سعد" ، والذي في المطبوعة أجود .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء