ترتيب المصحف | 18 | ترتيب النزول | 69 |
---|---|---|---|
التصنيف | مكيّة | عدد الصفحات | 11.50 |
عدد الآيات | 110 | عدد الأجزاء | 0.60 |
عدد الأحزاب | 1.20 | عدد الأرباع | 4.90 |
ترتيب الطول | 13 | تبدأ في الجزء | 15 |
تنتهي في الجزء | 16 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
الثناء على الله: 4/14 | الحمد لله: 3/5 |
لمَّا نسبُوا إلى اللهِ الولدَ، وبَّخَهُم هنا وبَيَّنَ جَهْلَهم وكَذِبَهم، ثُمَّ نَهَي النَّبيَ ﷺ عن الحُزنِ لعدمِ إيمانِ قومِه، وبَيَّنَ له أنَّ الدُّنيا دارُ امتحانٍ.
قريبًا إن شاء الله
ثُمَّ تعرضُ السورةُ أربعَ قصصٍ، القصَّةُ الأولى: قصَّةُ أصحابِ الكهفِ، فتيةٌ آمنُوا باللهِ وفَرُّوا بدِينِهم من المَلِكِ الكافرِ إلى الكهفِ، فنامُوا فيه سنواتٍ عديدةٍ، ثُمَّ بعثَهُم اللهُ، وبعدَ هذا الإجمالِ تبدأُ التفاصيلُ.
قريبًا إن شاء الله
التفسير :
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي:عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟"{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ولهذا قال هنا:{ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} أي:كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء، وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا:أنه{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال:{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو:الكذب المنافي للصدق.
وقوله- تعالى-: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ توبيخ لهم على تفوههم بكلام يدل على إيغالهم في الجهل والبهتان.
أى: ما نسبوه إلى الله- تعالى- من الولد، ليس لهم بهذه النسبة علم، وكذلك ليس لآبائهم بهذه النسبة علم، لأن ذلك مستحيل له- تعالى-، كما قال- عز وجل-:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ، وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
و «من» في قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ مزيدة لتأكيد النفي، والجملة مستأنفة،و «لهم» خبر مقدم، و «من علم» مبتدأ مؤخر، وقوله وَلا لِآبائِهِمْ معطوف على الخبر.
أى: ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا، وكذلك الحال بالنسبة لآبائهم، فالجملة الكريمة تنفى ما زعموه نفيا يشملهم ويشمل الذين سبقوهم وقالوا قولهم.
قال الكرخي: فإن قيل: اتخاذ الولد محال في نفسه، فكيف قال: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟ فالجواب أن انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به، ونظيره قوله- تعالى-: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ .
وقوله- تعالى-: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ذم شديد لهم على ما نطقوا به من كلام يدل على فرط جهلهم، وعظم كذبهم.
وكبر: فعل ماض لإنشاء الذم، فهو من باب نعم وبئس، وفاعله ضمير محذوف، مفسّر بالنكرة بعده وهي قوله كَلِمَةً المنصوبة على أنها تمييز، والمخصوص بالذم محذوف.
والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء التي تفوهوا بها، وهي قولهم: اتخذ الله ولدا فإنهم ما يقولون إلا قولا كاذبا محالا على الله- تعالى- ومخالفا للواقع ومنافيا للحق والصواب.
وفي هذا التعبير ما فيه من استعظام قبح ما نطقوا به، حيث وصفه- سبحانه- بأنه مجرد كلام لاكته ألسنتهم، ولا دليل عليه سوى كذبهم وافترائهم.
قال صاحب الكشاف: قوله كَبُرَتْ كَلِمَةً قرئ، كبرت كلمة بالرفع على الفاعلية، وبالنصب على التمييز، والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أكبرها كلمة.
وقوله تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق به، وإخراجها من أفواههم، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدثون أنفسهم به من المنكرات، لا يتمالكون أن يتفوهوا به، ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا من إظهاره فكيف بهذا المنكر؟
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في «كبرت» ؟ قلت: إلى قولهم اتخذ الله ولدا. وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها .
وشبيه بهذه الآية في استعظام ما نطقوا به من قبح قوله- تعالى-: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً .
( ما لهم به من علم ) أي : بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه من علم ) ولا لآبائهم ) أي : أسلافهم .
( كبرت كلمة ) : نصب على التمييز ، تقديره : كبرت كلمتهم هذه كلمة .
وقيل : على التعجب ، تقديره : أعظم بكلمتهم كلمة ، كما تقول : أكرم بزيد رجلا ؛ قاله بعض البصريين . وقرأ ذلك بعض قراء مكة : " كبرت كلمة " كما يقال : عظم قولك ، وكبر شأنك .
والمعنى على قراءة الجمهور أظهر ؛ فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم ؛ ولهذا قال : ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) أي : ليس لها مستند سوى قولهم ، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ؛ ولهذا قال : ( إن يقولون إلا كذبا ) .
وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالت لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن ، فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ [ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ ] فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا : فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخبركم غدا بما سألتم عنه " . ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل ، عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه . وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل ، عليه السلام ، من عند الله - عز وجل - بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [ الإسراء : 85 ]
القول في تأويل قوله تعالى : مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا (5)
وقوله : ( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) يقول: ما لقائلي هذا القول، يعني قولهم (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)(بِهِ ) : يعني بالله من علم، والهاء في قوله (بِهِ) من ذكر الله, وإنما معنى الكلام: ما لهؤلاء القائلين هذا القول بالله إنه لا يجوز أن يكون له ولد من علم، فلجهلهم بالله وعظمته قالوا ذلك.
وقوله (ولا لآبائِهمْ) يقول: ولا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم على مثل الذي هم عليه اليوم، كان لهم بالله وبعظمته علم، وقوله: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدنيين والكوفيين والبصريين: (كَبُرَتْ كَلِمَةً) بنصب كلمةً بمعنى: كبُرت كلمتهم التي قالوها كلمةً على التفسير، كما يقال: نعم رجلا عمرو، ونعم الرجل رجلا قام، ونعم رجلا قام، وكان بعض نحوييّ أهل البصرة يقول: نُصبت كلمة لأنها في معنى: أكْبِر بها كلمة ، كما قال جل ثناؤه وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا وقال: هي في النصب مثل قول الشاعر:
ولقـدْ عَلِمْـتُ إذَا اللِّقاحُ تَرَوَّحتْ هَدَجَ
الرّئــــالِ تكُـــبُّهُنَّ شَـــمالا (1)
أي تكبهنّ الرياح شمالا فكأنه قال: كبرت تلك الكلمة، وذُكِر عن بعض المكيين أنه كان يقرأ ذلك: ( كَبُرَتْ كَلِمَةٌ ) رفعا ، كما يقال: عَظُمَ قَولك وكَبُر شأنُك. وإذا قرئ ذلك كذلك لم يكن في قوله (كَبُرَتْ كَلِمةٌ) مُضمر، وكان صفة للكلمة.
والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (كَبُرَتْ كَلِمةً) نصبا لإجماع الحجة من القراء عليها، فتأويل الكلام: عَظُمت الكلمة كلمة تخرج من أفواه هؤلاء القوم الذين قالوا: اتخذ الله ولدا، والملائكة بنات الله.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (كَبُرَتْ كَلِمةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) قولهم: إن الملائكة بنات الله، وقوله: ( إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا ) يقول عز ذكره:
ما يقول هؤلاء القائلون اتخذ الله ولدا بقيلهم ذلك إلا كذبا وفرية افتروها على الله.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 157 | ﴿وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ |
---|
الكهف: 5 | ﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ |
---|
النجم: 28 | ﴿وَ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
كبرت:
وقرئت:
بسكون الباء، وهى فى لغة تميم.
كلمة:
قرئت:
1- بالنصب، على التمييز، وهى قراءة الجمهور.
2- بالرفع، على الفاعلية، وهى قراءة الحسن، وابن يعمر، وابن محيصن، والقواس، عن ابن كثير.
التفسير :
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه صلى الله عليه وسلم عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى:{ لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} وقال{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} وهنا قال{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي:مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك. وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له:{ إنك لا تهدي من أحببت} وموسى عليه السلام يقول:{ رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} الآية، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى:{ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}
ثم ساق- سبحانه- ما يسلى الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من حزن بسبب إعراض المشركين عن دعوة الحق، فقال- تعالى-: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً.
قال بعض العلماء ما ملخصه: اعلم- أولا- أن لفظة لعل تكون للترجى في المحبوب، وللإشفاق في المحذور. واستظهر أبو حيان أن لعل هنا للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم.
وقال بعضهم إن لعل هنا للنهى. أى لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم.. وهو الأظهر، لكثرة ورود النهى صريحا عن ذلك، قال- تعالى-: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ.. .
وقوله باخِعٌ من البخع، وأصله أن تبلغ بالذبح البخاع- بكسر الباء- وهو عرق يجرى في الرقبة. وذلك أقصى حد الذبح. يقال: بخع فلان نفسه بخعا وبخوعا. أى: قتلها من شدة الغيظ والحزن، وقوله: عَلى آثارِهِمْ أى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك، وقوله أَسَفاً أى: هما وغما مع المبالغة في ذلك، وهو مفعول لأجله.
والمعنى: لا تهلك نفسك- أيها الرسول الكريم- هما وغما، بسبب عدم إيمان هؤلاء المشركين. وبسبب إعراضهم عن دعوتك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ، وإِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
قال الزمخشري: شبهه- سبحانه- وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم، وتلهفا على فراقهم .
يقول تعالى مسليا رسوله صلى الله عليه وسلم في حزنه على المشركين ، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه ، كما قال تعالى : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر : 8 ] ، وقال ) ولا تحزن عليهم ) [ النحل : 127 ] ، وقال ( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) [ الشعراء : 3 ]
باخع : أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ؛ ولهذا قال ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ) يعني القرآن ) أسفا ) يقول : لا تهلك نفسك أسفا .
قال قتادة : قاتل نفسك غضبا وحزنا عليهم . وقال مجاهد : جزعا . والمعنى متقارب ، أي : لا تأسف عليهم ، بل أبلغهم رسالة الله ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
يعني تعالى ذكره بذلك: فلعلك يا محمد قاتلٌ نفسك ومهلكها على آثار قومك الذين قالوا لك لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا تمردا منهم على ربهم، إن هم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنـزلته عليك، فيصدقوا بأنه من عند الله حزنا وتلهفا ووجدا، بإدبارهم عنك، وإعراضهم عما أتيتهم به وتركهم الإيمان بك. يقال منه: بخع فلان نفسه يبخعها بخعا وبخوعا، ومنه قول ذي الرُّمة:
ألا أَيُّهَــذَا البــاخِعُ الوَجْـدُ نَفْسَـهُ
لِشَــيْءٍ نَحَتْـهُ عَـنْ يديـه المقـادر (2)
يريد: نحته فخفف.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: (بَاخِعٌ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) يقول: قاتل نفسك.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
و قوله: (أَسَفًا) فإنّ أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: فلعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث غضبا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) قال : غضبا.
وقال آخرون: جَزَعا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (أَسَفًا) قال: جَزعا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: معناه: حزنا عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (أَسَفًا) قال: حزنا عليهم.
وقد بينا معنى الأسف فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وهذه معاتبة من الله عزّ ذكره على وجده بمباعدة قومه إياه فيما دعاهم إليه من الإيمان بالله، والبراءة من الآلهة والأنداد، وكان بهم رحيما.
وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) يعاتبه على حزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم: أي لا تفعل.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الكهف: 6 | ﴿فَـ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ |
---|
الشعراء: 3 | ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
باخع:
قرئ:
1- بالتنوين، و «نفسك» بالنصب، وهى قراءة الجمهور.
2- بالإضافة، على الأصل.
إن لم يؤمنوا:
قرئ:
1- بكسر همزة «إن» للاستقبال.
2- بفتحها، للمضى، يعنى: لأن لم يؤمنوا.
التفسير :
يخبر تعالى:أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، فتنة واختبارا.{ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي:أخلصه وأصوبه، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.
وقوله- تعالى-: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً تعليل للنهى المقصود من الترجي في قوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ ... وزيادة في تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من غم وحزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم.
أى: إنا بمقتضى حكمتنا- أيها الرسول الكريم- قد جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات وأنهار وبنيان.. زينة لها ولأهلها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أى: لنختبرهم عن طريق ما جعلنا زينة للأرض ولأهلها: أيهم أتبع لأمرنا ونهينا، وأسرع في الاستحابة لطاعتنا، وأبعد عن الاغترار بشهواتها ومتعها. وإنا- أيضا- بمقتضى حكمتنا، لجاعلون ما عليهم من هذه الزينة في الوقت الذي نريده لنهاية هذه الدنيا، «صعيدا» ، أى: ترابا «جرزا» أى: لا نبات فيه، يقال أرض جرز، أى: لا تنبت، أو كان بها نبات ثم زال.
ويقال: جرزت الأرض: إذا ذهب نباتها بسبب القحط، أو الجراد الذي أتى على نباتها قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ.
والمقصود من الآيتين: الزيادة في تثبيت قلب النبي- صلى الله عليه وسلم- وفي تسليته عما لحقه من حزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم.
فكأنه- سبحانه- يقول له: امض أيها الرسول الكريم في تبليغ ما أوحيناه إليك، ولا تبال بإصرار الكافرين على كفرهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن حكمتنا قد اقتضت أن نجعل ما على الأرض من كل ما يصلح أن يكون زينة لها ولهم موضع ابتلاء واختبار للناس، ليتميز المحسن من المسيء، كما اقتضت حكمتنا- أيضا أن نصير ما على هذه الأرض عند انقضاء عمر الدنيا ترابا قاحلا لا نبات فيه، ويعقب ذلك الجزاء على الأعمال، وسننتقم لك من أعدائك فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً.
وفي التعبير عما على الأرض بالزينة، إشارة إلى أن ما عليها مهما حسن شكله، وعظم ثمنه.. فهو إلى زوال، شأنه في ذلك شأن ما يتزين به الرجال والنساء من ملابس وغيرها، يتزينون بها لوقت ما ثم يتركونها وتتركهم.
وقوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا تعليل لما اقتضته حكمته من جعل ما على الأرض زينة لها.
أى: فعلنا ذلك لنختبر الناس على ألسنة رسلنا، أيهم أحسن عملا، بحيث يكون عمله مطابقا لما جئت به- أيها الرسول الكريم-، وخالصا لوجهنا، ومبنيا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة.
قال تعالى: بارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
وفي الحديث الشريف: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، واتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء» .
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) .
قال قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء "
القول في تأويل قوله : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا) يقول عز ذكره: إنا جعلنا ما على الأرض زينة للأرض (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) يقول: لنختبر عبادنا أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا) قال: ما عليها من شيء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا) ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إنَّ الدُّنْيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفَكُمْ فِيها، فَناظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فاتَّقُوا الدُّنْيا، واتَّقُوا النِّساء ".
وأما قوله: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو قولنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو عاصم العسقلاني، قال: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) قال: أترك لها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) اختبارا لهم أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي.
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الكهف: 30 | ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ |
---|
هود: 7 | ﴿وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ﴾ |
---|
الكهف: 7 | ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ |
---|
الملك: 2 | ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُور﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم، فنظر إلى باطن الدنيا، حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته، حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين، وما أبعد الفرق بين الطائفتين"
وقوله- سبحانه-: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً زيادة في التزهيد في زينتها، حيث إن مصيرها إلى الزوال، وحض على التزود من العمل الصالح الذي يؤدى بالإنسان إلى السعادة الباقية الدائمة.
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد قررت أن الثناء الكامل إنما هو لله- عز وجل-، وأن الكتاب الذي أنزله على عبده ونبيه صلى الله عليه وسلم لا عوج فيه ولا ميل، وأن وظيفة هذا الكتاب إنذار الكافرين بالعقاب، وتبشير المؤمنين بالثواب، كما أن من وظيفته تثبيت قلبه صلى الله عليه وسلم وتسليته عما أصابه من أعدائه، ببيان أن الله- تعالى- قد جعل هذه الدنيا بما فيها من زينة، دار اختبار وامتحان ليتبين المحسن من المسيء، وليجازى- سبحانه- الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك قصة أصحاب الكهف، وبين أن قصتهم ليست عجيبة بالنسبة لقدرته- عز وجل- فقد أوجد- سبحانه- ما هو أعجب وأعظم من ذلك، فقال- تعالى-:
ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها ، وفراغها وانقضائها ، وذهابها وخرابها ، فقال : ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) أي : وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل كل شيء عليها هالكا ) صعيدا جرزا ) : لا ينبت ولا ينتفع به ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد . وقال مجاهد : ( صعيدا جرزا ) بلقعا .
وقال قتادة : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات .
وقال ابن زيد : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ) [ السجدة : 27 ] .
وقال محمد بن إسحاق : ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) يعني الأرض ، إن ما عليها لفان وبائد ، وإن المرجع لإلى الله فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى .
القول في تأويل قوله : ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يقول عز ذكره: وإنا لمخرّبوها بعد عمارتناها بما جعلنا عليها من الزينة، فمصيروها صعيدا جرزا لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس، وقد قيل: إنه أريد بالصعيد في هذا الموضع: المستوي بوجه الأرض، وذلك هو شبيه بمعنى قولنا في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، وبمعنى الجرز، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، فال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يقول: يهلك كلّ شيء عليها ويبيد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( صَعِيدًا جُرُزًا ) قال: بلقعا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) والصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يعني: الأرض إن ما عليها لفان وبائد، وإن المرجع لإليّ، فلا تأس، ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( صَعِيدًا جُرُزًا ) قال: الجرز: الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى أنه يقول: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا قال: والجرز: لا شيء فيها، لا نبات ولا منفعة، والصعيد: المستوي. وقرأ: لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا قال: مستوية: يقال: جُرِزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد والنعم، وأرَضُون أجراز: إذا كانت لا شيء فيها ، ويقال للسنة المجدبة: جُرُز وسنون أجراز لجدوبها ويبسها وقلة أمطارها، قال الراجز:
قَدْ جَرَفَتْهُنَّ السُّنُونَ الأجْرَازْ (3)
يقال: أجرز القوم: إذا صارت أرضهم جُرُزا، وجَرَزوا هم أرضهم: إذا أكلوا نباتها كله.
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وهذا الاستفهام بمعنى النفي، والنهي. أي:لا تظن أن قصة أصحاب الكهف، وما جرى لهم، غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، ما يتبين به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة، وإنما المراد، أن جنسها كثير جدا، فالوقوف معها وحدها، في مقام العجب والاستغراب، نقص في العلم والعقل، بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها، فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإيقان. وأضافهم إلى الكهف، الذي هو الغار في الجبل، الرقيم، أي:الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، لملازمتهم له دهرا طويلا.
قال الإمام الرازي: اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان، فقال- تعالى-: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السموات والأرض، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم..» .
وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئا عجبا بالنسبة لقدرة الله- تعالى-.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها: أن قريشا بعثت النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول. وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره صلى الله عليه وسلم فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن. فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول.
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ماذا كان من خبرهم. فإنهم قد كان لهم حديث عجيب.
وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره؟ وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش. فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور.
ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا، ثم سألوه عما قالته لهم يهود.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن-: أى. ولم يقل إن شاء الله- فانصرفوا عنه.
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة. لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل- عليه السلام- حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله- تعالى- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا .
والخطاب في قوله- تعالى- أَمْ حَسِبْتَ.. للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من المكلفين.
و «أم» في هذه الآية هي المنقطعة، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة، أى: بل أحسبت، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر، أى: بل حسبت. ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التي للاستفهام الإنكارى أى: أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم.
والكهف: هو النقب المتسع في الجبل، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار، وجمعه كهوف.
والمراد به هنا: ذلك الكهف الذي اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم.
وأما الرقيم فقد ذكروا في المراد به أقوالا متعددة منها: أنه اسم كلبهم، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادي الذي كان فيه الكهف، ومنها أنه اسم القرية التي خرج منها هؤلاء الفتية.
ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذي كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم- فهو فعيل بمعنى مفعول- ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته.
ومنه قوله- تعالى- كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ . أى مكتوب.
قال بعض العلماء: والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم: طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين: أحدهما: معطوف على الآخر، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى، وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم. وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت، وهم البار بوالديه، والعفيف، والمستأجر، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى» .
والمعنى: أظننت- أيها الرسول الكريم- أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا؟ لا، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شيء.
هذا إخبار عن قصة أصحاب الكهف [ والرقيم ] على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك فقال : ( أم حسبت ) يعني : يا محمد ( أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) أي : ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا ، فإن خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب ، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف [ والرقيم ] كما قال ابن جريج عن مجاهد : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك!
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب ، أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم .
وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد ، أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم .
[ وأما " الكهف " فهو : الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون . وأما " الرقيم " ] فقال العوفي ، عن ابن عباس : هو واد قريب من أيلة . وكذا قال عطية العوفي ، وقتادة .
وقال الضحاك : أما " الكهف " فهو : غار الوادي ، و " الرقيم " : اسم الوادي .
وقال مجاهد : " الرقيم " : كان بنيانهم ويقول بعضهم : هو الوادي الذي فيه كهفهم .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " الرقيم " ، قال : يزعم كعب أنها القرية .
وقال ابن جريج عن ابن عباس : " الرقيم " الجبل الذي فيه الكهف .
وقال ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن [ مجاهد عن ] ابن عباس قال : اسم ذلك الجبل بنجلوس .
وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي : أن اسم جبل الكهف بنجلوس ، واسم الكهف حيزم ، والكلب حمران .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : القرآن أعلمه إلا حنانا ، والأواه ، والرقيم .
وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم ؟ أكتاب أم بنيان ؟
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرقيم : الكتاب . وقال سعيد بن جبير : [ الرقيم ] لوح من حجارة ، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم : الكتاب . ثم قرأ : ( كتاب مرقوم ) [ المطففين : 9 ]
وهذا هو الظاهر من الآية ، وهو اختيار ابن جرير قال : " الرقيم " فعيل بمعنى مرقوم ، كما يقول للمقتول : قتيل ، وللمجروح : جريح . والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، فإن ما خلقت من السماوات والأرض، وما فيهنّ من العجائب أعجب من أمر أصحاب الكهف، وحجتي بكل ذلك ثابتة على هؤلاء المشركين من قومك، وغيرهم من سائر عبادي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) قال محمد بن عمرو في حديثه، قال: ليسوا عجبا بأعجب آياتنا ، وقال الحارث في حديثه بقولهم: أعجب آياتنا: ليسوا أعجب آياتنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) كانوا يقولون هم عجب.
حدثنا بشر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) أي وما قدروا من قَدْر فيما صنعت من أمر الخلائق، وما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عَجَبا، فإن الذي آتيتك من العلم والحكمة أفضل منه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وإنما قلنا: إن القول الأول أولى بتأويل الآية، لأنّ الله عزّ وجلّ أنـزل قصة أصحاب الكهف على نبيه احتجاجا بها على المشركين من قومه على ما ذكرنا في الرواية عن ابن عباس، إذ سألوه عنها اختبارا منهم له بالجواب عنها صدقه، فكان تقريعهم بتكذييهم بما هو أوكد عليهم في الحجة مما سألوا عنهم، وزعموا أنهم يؤمنون عند الإجابة عنه أشبه من الخبر عما أنعم الله على رسوله من النعم.
وأما الكهف، فإنه كهف الجبل الذي أوى إليه القوم الذين قصّ الله شأنهم في هذه السورة.
وأما الرقيم، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به، فقال بعضهم : هو اسم قرية، أو واد على اختلاف بينهم في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن عبد الأعلى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: يزعم كعب أن الرقيم: القرية.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) قال: الرقيم: واد بين عُسْفان وأيَلة دون فلسطين، وهو قريب من أيَلة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية، قال: الرقيم: واد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) كنَّا نحدّث أن الرقيم: الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله (الرَّقِيمِ) قال: يزعم كعب: أنها القرية.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قوله: (الرَّقِيمِ) قال: يقول بعضهم: الرقيم: كتاب تبانهم ، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.
حدثنا عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان ، قال: سمعت الضحاك يقول: أما الكهف: فهو غار الوادي، والرقيم : اسم الوادي.
وقال آخرون: الرقيم: الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) يقول: الكتاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا أبي، عن ابن قيس، عن سعيد بن جبير، قال: الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرقيم: كتاب، ولذلك الكتاب خبر فلم يخبر الله عن ذلك الكتاب وعنا فيه، وقرأ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ .
وقال آخرون: بل هو اسم جبل أصحاب الكهف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الرقيم: الجبل الذي فيه الكهف.
قال أبو جعفر: وقد قيل إن اسم ذلك الجبل: بناجلوس.
حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: وقد قيل: إن اسمه بنجلوس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبئي (4) أن اسم جبل الكهف: بناجلوس. واسم الكهف: حيزم. والكلب : حُمران.
وقد روي عن ابن عباس في الرقيم ما حدثنا به الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه، إلا حنانا، والأوّاه، والرقيم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب، أم بنيان؟ .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في الرقيم أن يكون معنيا به: لوح، أو حجر، أو شيء كُتب فيه كتاب، وقد قال أهل الأخبار: إن ذلك لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أوَوْا إلى الكهف.
ثم قال بعضهم: رُفع ذلك اللوح في خزانة الملك، وقال بعضهم: بل جُعل على باب كهفهم، وقال بعضهم: بل كان ذلك محفوظا عند بعض أهل بلدهم ، وإنما الرقيم: فعيل، أصله: مرقوم، ثم صُرف إلى فعيل، كما قيل للمجروح: جريح، وللمقتول: قتيل، يقال منه: رقمت كذا وكذا: إذا كتبته، ومنه قيل للرقم في الثوب رقم، لأنه الخطّ الذي يعرف به ثمنه ، ومن ذلك قيل للحيَّة: أرقم، لما فيه من الآثار ، والعرب تقول: عليك بالرقمة، ودع الضفة: بمعنى عليك برقمة الوادي حيث الماء، ودع الضفة الجانبة. والضفتان: جانبا الوادي، وأحسب أن الذي قال الرقيم: الوادي، ذهب به إلى هذا، أعني به إلى رقمة الوادي.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك فقال:{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} أي:الشباب،{ إِلَى الْكَهْفِ} يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم،{ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير{ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أي:يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعاءهم
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه عند ما حطوا رحالهم في الكهف فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً.
و «إذ» هنا ظرف منصوب بفعل تقديره: اذكر.
و «أوى» فعل ماض- من باب ضرب- تقول: أوى فلان إلى مسكنه يأوى، إذا نزله بنفسه. واستقر فيه.
و «الفتية» : جمع قلة لفتى. وهو وصف للإنسان عند ما يكون في مطلع شبابه.
وقوله: وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا: من التهيئة بمعنى: تيسير الأمر وتقريبه وتسهيله حتى لا يخالطه عسر أو مشقة.
والمراد بالأمر هنا: ما كانوا عليه من تركهم لأهليهم ومساكنهم، ومن مفارقتهم لما كان عليه أعداؤهم من عقائد فاسدة.
والرشد: الاهتداء إلى الطريق المستقيم مع البقاء عليه. وهو ضد الغي. يقال: رشد فلان يرشد رشدا ورشادا، إذا أصاب الحق.
أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- للناس ليعتبروا، وقت أن خرج هؤلاء الفتية من مساكنهم، تاركين كل شيء خلفهم من أجل سلامة عقيدتهم فالتجأوا إلى الكهف، واتخذوه مأوى لهم، وتضرعوا إلى خالقهم قائلين: يا ربنا آتنا من لدنك رحمة، تهدى بها قلوبنا، وتصلح بها شأننا، وتردّيها الفتن عنا، كما نسألك يا ربنا أن تهيئ لنا من أمرنا الذي نحن عليه- وهو: فرارنا بديننا. وثباتنا على إيماننا- ما يزيدنا سدادا وتوفيقا لطاعتك.
وقال- سبحانه-: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ.. بالإظهار- مع أنه قد سبق الحديث عنهم بأنهم أصحاب الكهف لتحقيق ما كانوا عليه من فتوة، وللتنصيص على وصفهم الدال على قلتهم، وعلى أنهم شباب في مقتبل أعمارهم، ومع ذلك ضحوا بكل شيء في سبيل عقيدتهم.
والتعبير بالفعل أَوَى يشعر بأنهم بمجرد عثورهم على الكهف. ألقوا رحالهم فيه واستقروا به استقرار من عثر على ضالته، وآثروه على مساكنهم المريحة، لأنه واراهم عن أعين القوم الظالمين.
والتعبير بالفاء في قوله- سبحانه- فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.. يدل على أنهم بمجرد استقرارهم في الكهف ابتهلوا إلى الله- تعالى- بهذا الدعاء الجامع لكل خير.
والتنوين في قوله: رَحْمَةً: للتهويل والتنويع. أى: آتنا يا ربنا من عندك وحدك لا من غيرك. رحمة عظيمة شاملة لجميع أحوالنا وشئوننا. فهي تشمل الأمان في المنزل، والسعة في الرزق والمغفرة للذنب.
قال القرطبي ما ملخصه: هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والأوطان..
خوف الفتنة، ورجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.. .
قوله : ( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ) يخبر تعالى عن أولئك الفتية ، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه ، فهربوا منه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم : ( ربنا آتنا من لدنك رحمة ) أي : هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا ( وهيئ لنا من أمرنا رشدا ) أي : وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا ، أي : اجعل عاقبتنا رشدا كما جاء في الحديث : " وما قضيت لنا من قضاء ، فاجعل عاقبته رشدا " ، وفي المسند من حديث بسر بن أبي أرطاة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو : " اللهم ، أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " .
القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل، هربا بدينهم إلى الله، فقالوا إذ أووه: ( رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) رغبة منهم إلى ربهم، في أن يرزقهم من عنده رحمة ، وقوله وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ) يقول: وقالوا: يسر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، (رَشَدا) يقول: سدادا إلى العمل بالذي تحبّ.
وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفِتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه ، فقال بعضهم: كان سبب ذلك، أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى، وكان لهم ملك عابد وَثَن، دعاهم إلى عبادة الأصنام، فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم، أو يقتلهم، فاستخفوا منه في الكهف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو في قوله: أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانت الفِتية على دين عيسى على الإسلام، وكان ملكهم كافرا، وقد أخرج لهم صنما، فأبَوا، وقالوا: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا قال: فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله، فقال أحدهم: إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه، فانطلقوا بنا نكن فيه، فدخلوه، وفُقدوا في ذلك الزمان فطُلبوا، فقيل: دخلوا هذا الكهف، فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشدّ من أن نردم عليهم هذا الكهف، فبنوه عليهم ثم ردموه ، ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى، ورفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم ، فقال بعضهم لبعض: كَمْ لَبِثْتُمْ ؟ فـ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ حتى بلغ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وكان ورق ذلك الزمان كبارا، فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام وشراب ، فلما ذهب ليخرج، رأى على باب الكهف شيئا أنكره ، فأراد أن يرجع، ثم مضى حتى دخل المدينة، فأنكر ما رأى، ثم أخرج درهما، فنظروا إليه فأنكروه، وأنكروا الدرهم، وقالوا: من أين لك هذا ، هذا من ورِق غير هذا الزمان، واجتمعوا عليه يسألونه، فلم يزالوا به حتى انطلفوا به إلى ملكهم ، وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون، فنظروا في ذلك اللوح، وسأله الملك، فأخبره بأمره، ونظروا في الكتاب متى فقد، فاستبشروا به وبأصحابه، وقيل له: انطلق بنا فأرنا أصحابك، فانطلق وانطلقوا معه، ليريهم، فدخل قبل القوم، فضرب على آذانهم، فقال الذين غلبوا على أمرهم: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: مَرِج أمر أهل الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم على ذلك بقايا على أمر عيسى ابن مريم، متمسكون بعبادة الله وتوحيده، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم، ملك من الروم يقال له: دَقْيَنوس، كان قد عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين عيسى ابن مريم ، كان ينـزل في قرى الروم، فلا يترك في قرية ينـزلها أحدا ممن يدين بدين عيسى ابن مريم إلا قتله، حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نـزل دقينوس مدينة الفِتية أصحاب الكهف، فلما نـزلها دقينوس كبر ذلك على أهل الإيمان، فاستخْفُوا منه وهربوا في كلّ وجه. وكان دقينوس قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيمان فيُجمعوا له، واتخذ شُرَطا من الكفَّار من أهلها، فجعلوا يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم التي يستخفون فيها، فيستخرجونهم إلى دقينوس، فقدمهم إلى المجامع التي يذبح فيها للطواغيت فيخيرهم بين القتل، وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ويُفْظَع بالقتل فيَفتِتن. ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيمان بالله، جعلوا يُسْلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتلون ويقطعون، ثم يربط ما قطع من أجسادهم، فيعلَّق على سور المدينة من نواحيها كلها، وعلى كلّ باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان، فمنهم من كفر فتُرك، ومنهم من صُلب على دينه فقُتل ، فلما رأى ذلك الفِتية أصحاب الكهف، حزنوا حزنا شديدا، حتى تغيرت ألوانهم، ونَحِلت أجسامهم، واستعانوا بالصلاة والصيام والصدقة، والتحميد، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، والبكاء، والتضرّع إلى الله، وكانوا فتية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم.
فحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لقد حُدّثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورق ، قال ابن عباس: فكانوا كذلك في عبادة الله ليلهم ونهارهم، يبكون إلى الله، ويستغيثونه، وكانوا ثمانية نفر : مَكْسِلمينا، وكان أكبرهم، وهو الذي كلم الملك عنهم، ومُحْسيميلنينا، وَيمليخا، ومَرْطوس، وكشوطوش، وبيرونس، ودينموس، ويطونس قالوس (5) فلما أجمع دقينوس أن يجمع أهل القرية لعبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، بكوا إلى الله وتضرعوا إليه، وجعلوا يقولون: اللهم رب السماوات والأرض، لن ندعو من دونك إلها لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك، ومُنِعوا عبادتك إلا سرّا، مستخفين بذلك، حتى يعبدوك علانية، فبينما هم على ذلك، عرفهم عُرفاؤهم من الكفار، ممن كان يجمع أهل المدينة لعبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، وذكروا أمرهم، وكانوا قد خَلوا في مُصَلّى لهم يعبدون الله فيه، ويتضرّعون إليه، ويتوقَّعون أن يُذْكَروا لدقينوس، فانطلق أولئك الكفرة حتى دخلوا عليهم مُصلاهم، فوجدوهم سجودا على وجوههم يتضرّعون، ويبكون، ويرغبون إلى الله أن ينجيهم من دقينوس وفتنته، فلما رآهم أولئك الكفرة من عُرفائهم قالوا لهم: ما خَلَّفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه! ثم خرجوا من عندهم، فرفعوا أمرهم إلى دقينوس، وقالوا: تجمع الناس للذبح لآلهتك، وهؤلاء فِتية من أهل بيتك، يسخَرون منك، ويستهزئون بك، ويعصون أمرك، ويتركون آلهتك، يَعمِدون إلى مُصَلّى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريم يصلون فيه، ويتضرّعون إلى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى، فلم تتركهم يصنعون هذا وهم بين ظَهراني سلطانك ومُلكك، وهم ثمانية نفر: رئيسهم مكسلمينا، وهم أبناء عظماء المدينة؟ فلما قالوا ذلك لدقينوس، بعث إليهم، فأتي بهم من المصلَّى الذي كانوا فيه تفيض أعينهم من الدموع مُعَفرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم أُسْوة لسَراة أهل مدينتكم، ولمن حضر منَّا من الناس؟ اختاروا مني: إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس، وإما أن أقتلكم! فقال مكسلمينا: إن لنا إلها نعبده ملأ السموات والأرض عظَمتُه، لن ندعو من دونه إلها أبدا، ولن نقر بهذا الذي تدعونا إليه أبدا، ولكنا نعبد الله ربنا، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا، إياه نعبد، وإياه نسأل النجاة والخير. فأما الطواغيت وعبادتها، فلن نقرّ بَها أبدا، ولسنا بكائنين عُبَّادا للشياطين، ولا جاعلي أنفسنا وأجسادنا عُبادا لها، بعد إذ هدانا الله له رهبتَك، أو فَرَقا من عبودتك، اصنع بنا ما بدا لك، ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقينوس مثل ما قال، قال: فلما قالوا ذلك له، أمر بهم فنـزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثم قال: أما إذ فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم أن تكونوا من أهل مملكتي وبطانتي، وأهل بلادي، وسأفرُغ لكم، فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجِّل ذلك لكم إلا أني أراكم فتيانا حديثة أسنانُكم، ولا أحبُّ أن أهلككم حتى أستأنّي بكم، وأنا جاعل لكم أجلا تَذكرون فيه، وتراجعون عقولكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة، فنـزعت عنهم، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده، وانطلق دقينوس مكانه إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبا منها لبعض ما يريد من أمره.
فلما رأى الفتية دقينوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم، فأتمروا بينهم أن يأخذ كلّ واحد منهم نفقة من بيت أبيه، فيتصدّقوا منها، ويتزوّدوا بما بقي، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له: بنجلوس فيمكثوا فيه، ويعبدوا الله حتى إذا رجع دقينوس أتوه فقاموا بين يديه، فيصنع بهم ما شاء، فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتى منهم، فأخذ من بيت أبيه نفقة، فتصدّق منها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، واتبعهم كلْب لهم، حتى أتوا ذلك الكهف، الذي في ذلك الجبل، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد، ابتغاء وجه الله تعالى، والحياة التي لا تنقطع، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له يمليخا، فكان على طعامهم، يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا من أهلها، وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم، فكان يمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثم يأخذ ورقه، فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا، ويتسمَّع ويتجسَّس لهم الخبر، هل ذكر هو وأصحابه بشيء في ملإ المدينة، ثم يرجع إلى أصحابه بطعامهم وشرابهم، ويخبرهم بما سمع من أخبار الناس، فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثم قدم دقينوس الجبَّار المدينة التي منها خرج إلى مدينته، وهي مدينة أفَمْوس ، فأمر عظماء أهلها، فذبحوا للطواغيت، ففزع في ذلك أهل الإيمان، فتخبئوا في كل مخبأ ، وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أن الجبار دقينوس قد دخل المدينة، وأنهم قد ذكروا وافتقدوا والتمسوا مع عظماء أهل المدينة ليذبحوا للطواغيت ، فلما أخبرهم بذلك، فزعوا فزعا شديدا، ووقعوا سجودا على وجوههم يدعون الله، ويتضرّعون إليه، ويتعوّذون به من الفتنة ، ثم إن يمليخا قال لهم: يا إخوتاه، ارفعوا رؤوسكم، فاطعَموا من هذا الطعام الذي جئتكم به، وتوكلوا على ربكم ، فرفعوا رؤوسهم، وأعينهم تفيض من الدمع حذرا وتخوّفا على أنفسهم، فطعموا منه، وذلك مع غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون، ويذكر بعضهم بعضا على حزن منهم، مشفقين مما أتاهم به صاحبهم من الخبر، فبينا هم على ذلك، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون مُوقنون، مصدّقون بالوعد، ونفقتهم موضوعة عندهم ، فلما كان الغد فقدهم دقينوس، فالتمسهم فلم يجدهم، فقال لعظماء أهل المدينة: لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا يظنون أن بي غضبا عليهم فيما صنعوا في أوّل شأنهم، لجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأجهل عليهم في نفسي، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتي، ولو فعلوا لتركتهم، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم، فقال له عظماء أهل المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مَردة عُصاة، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنتَ أجَّلتهم أجلا وأخَّرتهم عن العقوبة التي أصبت بها غيرهم، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنهم لم يتوبوا ولم ينـزعوا ولم يندموا على ما فعلوا، وكانوا منذ انطلقت يبذرون أموالهم بالمدينة ، فلما علموا بقدومك فرّوا فلم يُروا بعد ، فإن أحببت أن تُؤْتَى بهم، فأرسل إلى آبائهم فامتحنهم، واشدُد عليهم يدُلوك عليهم، فإنهم مختبئون منك، فلما قالوا ذلك لدقينوس الجبار، غضب غضبا شديدا. ثم أرسل إلى آبائهم، فأتي بهم فسألهم عنهم وقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوا أمري، وتركوا آلهتي ، ائتوني بهم، وأنبئوني بمكانهم ، فقال له آباؤهم: أما نحن فلم نعص أمرك ولم نخالفك، قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم، فلم تقتلنا في قوم مردة، قد ذهبوا بأموالنا فبذّروها وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا، فارتقوا في جبل يدعى بنجلوس، وبينه وبين المدينة أرض بعيدة هرَبا منك، فلما قالوا ذلك خلَّى سبيلهم، وجعل يأتمر ماذا يصنع بالفتية، فألقى الله عز وجل في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسدّ عليهم كرامة من الله، أراد أن يكرمهم، ويكرم أجساد الفتية، فلا يجول، ولا يطوف بها شيء، وأراد أن يحييهم، ويجعلهم آية لأمة تُستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. فأمر دقينوس بالكهف أن يسدّ عليهم، وقال: دعوا هؤلاء الفتية المَرَدة الذين تركوا آلهتي فليموتوا كما هم في الكهف عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم ، ففعل بهم ذلك عدوّ الله، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد تَوَفّى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، قد غَشَّاه الله ما غشاهم، يُقلَّبون ذات اليمين وذات الشمال ، ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقينوس يكتمان إيمانهما: اسم أحدهما بيدروس، واسم الآخر: روناس ، فأتمرا أن يكتبا شأن الفتية أصحاب الكهف، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبائهم، وقصة خبرهم في لوحين من رَصاص، ثم يصنعا له تابوتا من نحاس، ثم يجعلا اللوحين فيه، ثم يكتبا عليه في فم الكهف بين ظهراني البنيان، ويختما على التابوت بخاتمهما، وقالا لعل الله أن يُظْهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم، ففعلا ثم بنيا عليه في البنيان، فبقي دقينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا، ثم هلك دقينوس والقرن الذي كانوا معه، وقرون بعده كثيرة، وخلفت الخلوف بعد الخلوف.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم، وأهل شرفهم، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أسنهم: إني لأجد في نفسي شيئا ما أظنُّ أن أحدا يجده، قالوا: ماذا تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي ربّ السماوات والأرض، وقالوا: نحن نجد ، فقاموا جميعا، فقالوا: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف، وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس، فلبثوا في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا رقدا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان أصحاب الكهف فتيانا ملوكا مُطَوّقين مُسَوّرين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب، وأخرجوا معهم آلهتم التي يعبدون ، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان فآمنوا، وأخفى كلّ واحد منهم الإيمان عن صاحبه، فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر إيمان بعضهم لبعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظلّ شجرة، فجلس فيه، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر منه، فجاء حتى جلس إليه، ثم خرج الآخرون، فجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فاجتمعوا، فقال بعضهم: ما جمعكم؟ وقال آخر: بل ما جمعكم؟ وكل يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه، ثم قالوا: ليخرج منكم فَتَيان، فيخْلُوَا، فيتواثقا أن لا يفشيَ واحد منهما على صاحبه، ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره، فإنا نرجو أن نكون على أمر واحد ، فخرج فتيان منهم فتواثقا، ثم تكلما، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرَين إلى أصحابهما قد اتفقا على أمر واحد، فإذا هم جميعا على الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: ائتوا إلى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا فدخلوا الكهف، ومعهم كلب صيدهم فناموا، فجعله الله عليهم رقدة واحدة، فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، قال: وفقدهم قومُهم فطلبوهم وبعثوا البرد، فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فلما لم يقدروا عليهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا، فَقَدناهم في عيد كذا وكذا في شهر كذا وكذا في سنة كذا وكذا، في مملكة فلان ابن فلان ، ورفعوا اللوح في الخزانة ، فمات ذلك الملك وغلب عليهم ملك مسلم مع المسلمين، وجاء قرن بعد قرن، فلبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا.
وقال آخرون: بل كان مصيرهم إلى الكهف هربا من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دَعوى جناية ادّعى على صاحب لهم أنه جناها.
ذكر من قال ذلك:
* حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني إسماعيل بن شروس، أنه سمع وهب بن منبه يقول: جاء حواريّ عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له ، فكره أن يدخلها، فأتى حَمَّاما، فكان فيه قريبا من تلك المدينة، فكان يعمل فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام ، ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة ودرّ عليه الرزق، فجعل يعرض عليه الإسلام، وجعل يسترسل إليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة، حتى آمنوا به وصدّقوه، وكانوا على مثل حاله في حُسْن الهيئة ، وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي لا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت ، فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة، فدخل بها الحمام، فعيره الحواريّ، فقال: أنت ابن الملك ، وتدخل معك هذه النكداء ، فاستحيا، فذهب فرجع مرّة أخرى، فقال له مثل ذلك، فسبه وانتهره ولم يلتفت حتى دخل ودخلت معه المرأة، فماتا في الحمام جميعا ، فأتي الملك، فقيل له: قتل صاحب الحمام ابنك، فالتُمس، فلم يقدر عليه هَربا، قال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتية، فالتمسوا، فخرجوا من المدينة، فمروا بصاحب لهم في زرع له، وهو على مثل أمرهم، فذكروا أنهم التُمسوا، فانطلق معهم الكلب ، حتى أواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه، فقالوا: نبيت ههنا الليلة ، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب على آذانهم، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف ، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب، فلم يطق أحد أن يدخله، فقال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى ، قال: فابن عليهم باب الكهف، ودعهم فيه يموتوا عطشا وجوعا، ففعل.
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
وهيئ:
وقرئ:
وهيى، بياءين من غير همز، وهى قراءة أبى جعفر، وشيبة، والزهري.
رشدا:
قرئ:
1- بضم الراء وإسكان الشين، وهى قراءة أبى رجاء.
2- بفتحهما، وهى قراءة الجمهور.
التفسير :
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ} أي أنمناهم{ سِنِينَ عَدَدًا} وهي ثلاث مائة سنة وتسع سنين، وفي النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف، وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة.
ثم بين- سبحانه- ما حدث لهؤلاء الفتية بعد أن لجئوا إلى الكهف، وبعد أن دعوا الله بهذا الدعاء الشامل لكل خير. فقال: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً.
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم، بظاهر جسم آخر بشدة.
يقال: ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها بشدة، وتفرعت عن هذا المعنى معان أخرى ترجع إلى شدة اللصوق.
والمراد بالضرب هنا النوم الطويل الذي غشاهم الله- تعالى- به فصاروا لا يحسون شيئا مما حولهم، ومفعول ضربنا محذوف.
والمعنى: بعد أن استقر هؤلاء الفتية في الكهف، وتضرعوا إلينا بهذا الدعاء العظيم، ضربنا على آذانهم وهم في الكهف حجابا ثقيلا مانعا من السماع، فصاروا لا يسمعون شيئا يوقظهم، واستمروا في نومهم العميق هذا سِنِينَ ذات عدد كثير، بينها- سبحانه- بعد ذلك في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً.
وخص- سبحانه- الآذان بالضرب، مع أن مشاعرهم كلها كانت محجوبة عن اليقظة، لأن الآذان هي الطريق الأول للتيقظ. ولأنه لا يثقل النوم إلا عند ما تتعطل وظيفة السمع.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عند ما علم أن رجلا لا يستيقظ مبكرا أن قال في شأنه:
«ذلك رجل قد بال الشيطان في أذنه» أى: فمنعها من التبكير واليقظة قبل طلوع الشمس.
والتعبير بالضرب- كما سبق أن أشرنا- للدلالة على قوة المباشرة، وشدة اللصوق واللزوم، ومنه قوله تعالى- وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أى: التصقتا بهم التصاقا لا فكاك لهم منه، ولا مهرب لهم عنه.
وقوله : ( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ) أي : ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف ، فناموا سنين كثيرة )
القول في تأويل قوله تعالى : فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
يعني جل ثناؤه بقوله: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ) : فضربنا على آذانهم بالنوم في الكهف : أي ألقينا عليهم النوم، كما يقول القائل لآخر: ضربك الله بالفالج، بمعنى ابتلاه الله به، وأرسله عليه. وقوله: (سِنِينَ عَدَدًا) يعني سنين معدودة، ونصب العدد بقوله (فَضَرَبْنَا).
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أي:من نومهم{ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} أي:لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم، كما قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} الآية، وفي العلم بمقدار لبثهم، ضبط للحساب، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته، فلو استمروا على نومهم، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم.
ثم بين- سبحانه- ما حدث لهم بعد هذا النوم الطويل فقال: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً.
وأصل البعث في اللغة: إثارة الشيء من محله وتحريكه بعد سكون. ومنه قولهم: بعث فلان الناقة- إذا أثارها من مبركها للسير، ويستعمل بمعنى الإيقاظ وهو المقصود هنا من قوله:
بَعَثْناهُمْ أى: أيقظناهم بعد رقادهم الطويل.
وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ بيان للحكمة التي من أجلها أيقظهم الله من نومهم.
وكثير من المفسرين على أن الحزبين أحدهما: أصحاب الكهف والثاني: أهل المدينة الذين أيقظ الله أهل الكهف من رقادهم في عهدهم، وكان عندهم معرفة بشأنهم.
وقيل: هما حزبان من أهل المدينة الذين بعث هؤلاء الفتية في زمانهم، إلا أن أهل هذه المدينة كان منهم حزب مؤمن وآخر كافر.
وقيل: هما حزبان من المؤمنين كانوا موجودين في زمن بعث هؤلاء الفتية، وهذان الحزبان اختلفوا فيما بينهم في المدة التي مكثها هؤلاء الفتية رقودا.
والذي تطمئن إليه النفس أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف، لأن الله- تعالى- قد قال بعد ذلك- وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أى الفتية لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ...
قال الآلوسى: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أى: أيقظناهم وأثرناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أى: منهم، وهم القائلون لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ والقائلون رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.
وقيل: أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم.. والظاهر الأول لأن اللام للعهد، ولا عهد لغير من سمعت.
والمراد بالعلم في قوله لِنَعْلَمَ.. إظهار المعلوم، أى ثم بعثناهم لنعلم ذلك علما يظهر الحقيقة التي لا حقيقة سواها للناس.
ويجوز أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز، أى: ثم بعثناهم لنميز أى الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا.
فهو من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، إذ العلم سبب للتمييز.
ولفظ «أحصى» يرى صاحب الكشاف ومن تابعه أنه فعل ماض، ولفظ «أمدا» مفعوله، و «ما» في قوله لِما لَبِثُوا مصدرية، فيكون المعنى، ثم بعثناهم لنعلم أى الحزبين أضبط أمدا- أى مدة- للبثهم في الكهف.
قال صاحب الكشاف: و «أحصى» فعل ماض، أى: أيهم أضبط «أمدا» لأوقات لبثهم.
فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس.. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به..
وبعضهم يرى أن لفظ «أحصى» صيغة تفضيل، وأن قوله «أمدا» منصوب على أنه تمييز وفي إظهار هذه الحقيقة للناس، وهي أن الله- تعالى- قد ضرب النوم على آذان هؤلاء الفتية ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ثم بعثهم بعد ذلك دون أن يتغير حالهم، أقول: في إظهار هذه الحقيقة دليل واضح على قدرة الله- تعالى- وعلى وجوب إخلاص العبادة له، وعلى أن البعث بعد الموت حق لا ريب فيه.
وبذلك تكون هذه الآيات قد ساقت لنا قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم جاءت آيات بعد ذلك لتحكى لنا قصتهم على سبيل التفصيل والبسط، وهذه الآيات هي قوله- تعالى-.
(ثم بعثناهم ) أي : من رقدتهم تلك ، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاما يأكلونه ، كما سيأتي بيانه وتفصيله ؛ ولهذا قال : ( ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين ) أي المختلفين فيهم ( أحصى لما لبثوا أمدا ) قيل : عددا وقيل : غاية فإن الأمد الغاية كقوله
سبق الجواد إذا استولى على الأمد .
القول في تأويل قوله : ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى ) يقول:
ثم بعثنا هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بعد ما ضربنا على آذانهم فيه سنين عددا من رقدتهم، لينظر عبادي فيعلموا بالبحث، أيُّ الطائفتين اللتين اختلفتا في قدر مبلغ مكث الفتية في كهفهم رقودا ( أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) يقول:
أصوب لقدر لبثهم فيه أمدا ، ويعني بالأمد: الغاية، كما قال النابغة:
إلا لِمِثْلِــكَ أوْ مَــنْ أنْـتَ سـابِقُهُ
سَـبْقَ الجَـوَادِ ِإذا اسْـتَوْلَى على الأمَدِ (6)
وذُكر أن الذين اختلفوا في ذلك من أمورهم، قوم من قوم الفتية، فقال بعضهم: كان الحزبان جميعا كافرين. وقال بعضهم: بل كان أحدهما مسلما، والآخر كافرا.
* ذكر من قال كان الحزبان من قوم الفتية: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) من قوم الفتية.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ) يقول: ما كان لواحد من الفريقين علم، لا لكفارهم ولا لمؤمنيهم.
وأما قوله: (أمَدًا) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: معناه: بعيدا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) يقول: بعيدا.
وقال آخرون: معناه: عددا.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أمَدًا) قال: عددا.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وفي نصب قوله (أمَدًا) وجهان:أحدهما أن يكون منصوبا على التفسير من قوله (أحْصَى) كأنه قيل: أيّ الحزبين أصوب عددا لقدر لبثهم.
وهذا هو أولى الوجهين في ذلك بالصواب، لأن تفسير أهل التفسير بذلك جاء.
والآخر: أن يكون منصوبا بوقوع قوله (لَبِثُوا) عليه، كأنه قال: أيّ الحزبين أحصى للبثهم غاية.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لنعلم:
قرئ:
1- بالنون، وهى قراءة الجمهور.
2- بالياء، وهى قراءة الزهري.
التفسير :
هذا شروع في تفصيل قصتهم، وأن الله يقصها على نبيه بالحق والصدق، الذي ما فيه شك ولا شبهة بوجه من الوجوه،{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} وهذا من جموع القلة، يدل ذلك على أنهم دون العشرة،{ آمَنُوا} بالله وحده لا شريك له من دون قومهم، فشكر الله لهم إيمانهم، فزادهم هدى، أي:بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى، الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح، كما قال تعالى:{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى}
أى: «نحن» وحدنا يا محمد، نقص عليك وعلى أمتك خبر هؤلاء الفتية قصصا لحمته وسداه الحق والصدق، لأنه قصص من ربك الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقوله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً كلام مستأنف جواب عن سؤال تقديره ما قصتهم وما شأنهم بالتفصيل؟
أى: إنهم فتية أخلصوا العبادة لخالقهم، وأسلموا وجوههم لبارئهم، وآمنوا بربوبيته-سبحانه- إيمانا عميقا ثابتا، فزادهم الله ببركة هذا الإخلاص والثبات على الحق، هداية على هدايتهم، وإيمانا على إيمانهم.
وقوله- سبحانه- نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إيماء إلى أن قصة هؤلاء الفتية كانت معروفة لبعض الناس، إلا أن معرفتهم بها كانت مشوبة بالخرافات والأباطيل.
قال ابن كثير: ما ملخصه: ذكر الله- تعالى- أنهم كانوا فتية- أى شبابا-، وهم أقبل للحق من الشيوخ، الذين عتوا في دين الباطل، ولهذا كان اكثر المستجيبين لله ولرسوله شبابا، وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.
واستدل غير واحد من الأئمة كالبخارى وغيره بقوله وَزِدْناهُمْ هُدىً إلى أن الإيمان يزيد وينقص.. .
من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية - وهم الشباب - وهم أقبل للحق ، وأهدى للسبيل من الشيوخ ، الذين قد عتوا وعسوا في دين الباطل ؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا . وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بقوا على دينهم ، ولم يسلم منهم إلا القليل . وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا .
قال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم . فآمنوا بربهم ، أي : اعترفوا له بالوحدانية ، وشهدوا أنه لا إله إلا هو .
( وزدناهم هدى ) : استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله ، وأنه يزيد وينقص ؛ ولهذا قال تعالى : ( وزدناهم هدى ) كما قال ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) [ محمد : 17 ] ، وقال : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ) [ التوبة : 124 ] ، وقال ) ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) [ الفتح : 4 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك .
وقد ذكر أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، والله أعلم - والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية ، فإنه لو كانوا على دين النصرانية ؛ لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم ؛ لمباينتهم لهم . وقد تقدم عن ابن عباس : أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء ، وعن خبر ذي القرنين ، وعن الروح ، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب ، وأنه متقدم على دين النصرانية ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
نحن يا محمد نقص عليك خبر هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بالحق، يعني: بالصدق واليقين الذي لا شك فيه (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) يقول: إن الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف الذين سألك عن نبئهم الملأ من مشركي قومك، فتية آمنوا بربهم، (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) يقول: وزدناهم إلى إيمانهم بربهم إيمانا، وبصيرة بدينهم، حتى صبروا على هجران دار قومهم، والهرب من بين أظهرهم بدينهم إلى الله ، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ولينه، إلى خشونة المكث في كهف الجبل.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
يوسف: 3 | ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـٰذَا الْقُرْآنَ﴾ |
---|
الكهف: 13 | ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي صبرناهم وثبتناهم، وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة، وهذا من لطفه تعالى بهم وبره، أن وفقهم للإيمان والهدى، والصبر والثبات، والطمأنينة.
{ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي:الذي خلقنا ورزقنا، ودبرنا وربانا، هو خالق السماوات والأرض، المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة، لا تلك الأوثان والأصنام، التي لا تخلق ولا ترزق، ولا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فاستدلوا بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية، ولهذا قالوا:{ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} أي:من سائر المخلوقات{ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا} أي:إن دعونا معه آلهة، بعد ما علمنا أنه الرب الإله الذي لا تجوز ولا تنبغي العبادة، إلا له{ شَطَطًا} أي:ميلا عظيما عن الحق، وطريقا بعيدة عن الصواب، فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والتزام ذلك، وبيان أنه الحق وما سواه باطل، وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم، وزيادة الهدى من الله لهم.
ثم حكى- سبحانه- جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا.
وأصل الربط: الشد، يقال، ربطت الدابة، أى: شددتها برباط، والمراد به هنا:
ما غرسه الله في قلوبهم من قوة، وثبات على الحق، وصبر على فراق أهليهم، ومنه قولهم:
فلان رابط الجأش، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب.
والمراد بقيامهم: عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة.
ويصح أن يكون المراد بقيامهم: وقوفهم في وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة، دون أن يبالوا به عند ما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم، وإعلانهم دين التوحيد، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- إِذْ قامُوا يحتمل ثلاثة معان. أحدها: أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا ما دعاهم إليه.
والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد، وتعاهدوا على عبادة الله وحده.
والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله- تعالى- ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا، إذا عزم عليه بغاية الجد .
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي اهتدت إليه، معتزة بالإيمان الذي أشربته، مستبشرة بالإخاء الذي جمع بينها على غير ميعاد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بعد أن استقر الإيمان في نفوسهم فقال: فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ...
أى: أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله- عز وجل- حين قاموا في وجه أعدائهم، وقالوا بكل شجاعة وجرأة: ربنا- سبحانه- هو رب السموات والأرض، وهو خالقهما وخالق كل شيء، ولن نعبد سواه أى معبود آخر.
ونفوا عبادتهم لغيره- سبحانه- بحرف- «لن» للإشعار بتصميمهم على ذلك في كل زمان وفي كل مكان، إذ النفي بلن أبلغ من النفي بغيرها.
قال الآلوسى: وقد يقال إنهم أشاروا بالجملة الأولى- وهي: ربنا رب السموات والأرض- إلى توحيد الربوبية، وأشاروا بالجملة الثانية- لن ندعو من دونه إلها- إلى توحيد الألوهية، وهما أمران متغايران، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا، ويقولون بالأول:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وحكى- سبحانه- عنهم أنهم يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وصح أنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
وقوله- سبحانه- لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله- تعالى-.
والشطط: مصدر معناه مجاوزة الحد في كل شيء، ومنه: أشط فلان في السّوم إذا جاوز الحد، وأشط في الحكم إذا جاوز حدود العدل: وهو صفة لموصوف محذوف، وفي الكلام قسم مقدر، واللام في «لقد» واقعة في جوابه، و «إذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر.
والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله- تعالى- ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا، إذا عزم عليه بغاية الجد .
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي اهتدت إليه، معتزة بالإيمان الذي أشربته، مستبشرة بالإخاء الذي جمع بينها على غير ميعاد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بعد أن استقر الإيمان في نفوسهم فقال: فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ...
أى: أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله- عز وجل- حين قاموا في وجه أعدائهم، وقالوا بكل شجاعة وجرأة: ربنا- سبحانه- هو رب السموات والأرض، وهو خالقهما وخالق كل شيء، ولن نعبد سواه أى معبود آخر.
ونفوا عبادتهم لغيره- سبحانه- بحرف- «لن» للإشعار بتصميمهم على ذلك في كل زمان وفي كل مكان، إذ النفي بلن أبلغ من النفي بغيرها.
قال الآلوسى: وقد يقال إنهم أشاروا بالجملة الأولى- وهي: ربنا رب السموات والأرض- إلى توحيد الربوبية، وأشاروا بالجملة الثانية- لن ندعو من دونه إلها- إلى توحيد الألوهية، وهما أمران متغايران، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا، ويقولون بالأول:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وحكى- سبحانه- عنهم أنهم يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وصح أنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
وقوله- سبحانه- لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله- تعالى-.
والشطط: مصدر معناه مجاوزة الحد في كل شيء، ومنه: أشط فلان في السّوم إذا جاوز الحد، وأشط في الحكم إذا جاوز حدود العدل: وهو صفة لموصوف محذوف، وفي الكلام قسم مقدر، واللام في «لقد» واقعة في جوابه، و «إذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر.
وشبيه بهذه الآية في تعجيز المشركين وتجهيلهم قوله تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ .
وقوله- سبحانه-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ، ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ :
يقول تعالى : وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له : " دقيانوس " ، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه . فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها ، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض . فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه ، وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية . فكان أول من جلس منهم [ وحده ] أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة ، فجاء الآخر فجلس عنده ، وجاء الآخر فجلس إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان ، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقا ، من حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والناس يقولون : الجنسية علة الضم .
والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه ، خوفا منهم ، ولا يدري أنهم مثله ، حتى قال أحدهم : تعلمون - والله يا قوم - إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم ، إلا شيء فليظهر كل واحد منكم ما بأمره . فقال آخر : أما أنا فإني [ والله ] رأيت ما قومي عليه ، فعرفت أنه باطل ، وإنما الذي يستحق أن يعبد [ وحده ] ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء السموات والأرض وما بينهما . وقال الآخر : وأنا والله وقع لي كذلك . وقال الآخر كذلك ، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة ، فصاروا يدا واحدة وإخوان صدق ، فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم ، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم ، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق ، ودعوه إلى الله عز وجل ؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله : ( وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ) و " لن " لنفي التأبيد ، أي : لا يقع منا هذا أبدا ؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ؛ ولهذا قال عنهم : ( لقد قلنا إذا شططا ) أي : باطلا وكذبا وبهتانا .
القول في تأويل قوله : ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول عز ذكره:
وألهمناهم الصبر، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى عزفت أنفسهم عما كانوا عليه من خفض العيش.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول: بالإيمان.
قوله: ( إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: حين قاموا بين يدي الجبار دقينوس، فقالوا له إذ عاتبهم على تركهم عبادة آلهته ( رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: قالوا ربنا ملك السماوات والأرض وما فيهما من شيء، وآلهتك مربوبة، وغير جائز لنا أن نترك عبادة الربّ ونعبد المربوب ( لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ) يقول: لن ندعو من دون ربّ السموات والأرض إلها، لأنه لا إله غيره، وإن كلّ ما دونه فهو خلقه ( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) يقول جل ثناؤه: لئن دعونا إلها غير إله السماوات والأرض، لقد قلنا إذن بدعائنا غيره إلها، شططا من القول: يعني غاليا من الكذب، مجاوزا مقداره في البطول والغلوّ: كما قال الشاعر:
ألا يـا لَقَـوْمي قـد أشْـطَتْ عَوَاذِلي
ويــزْعُمْنَ أنْ أوْدَى بِحَـقِّي بـاطلي (7)
يقال منه: قد أشط فلان في السوم إذا جاوز القدر وارتفع، يشط إشطاطا وشططا. فأما من البعد فإنما يقال: شط منـزل فلان يشطّ شطوطا ، ومن الطول: شطت الجارية تشطّ شطاطا وشطاطة: إذا طالت.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (شَطَطا) قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) يقول كذبا.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) قال: لقد قلنا إذن خطأ، قال: الشطط: الخطأ من القول.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
لما ذكروا ما من الله به عليهم من الإيمان والهدى، والتفتوا إلى ما كان عليه قومهم، من اتخاذ الآلهة من دون الله، فمقتوهم، وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم، بل في غاية الجهل والضلال فقالوا:{ لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي:بحجة وبرهان، على ما هم عليه من الباطل، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك، وإنما ذلك افتراء منهم على الله وكذب عليه، وهذا أعظم الظلم، ولهذا قال:{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على تكذيبهم لقومهم، ووصفهم إياهم بالظلم فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.
أى: لا أحد أشد ظلما من قوم افتروا على الله- تعالى- الكذب، حيث زعموا أن له شريكا في العبادة والطاعة، مع انه- جل وعلا- منزه عن الشريك والشركاء: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ) أي : هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا ؟ ! ) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك ، فيقال : إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم ، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم ، وأجلهم لينظروا في أمرهم ، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه . وكان هذا من لطف الله بهم ، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه ، والفرار بدينهم من الفتنة .
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس ، أن يفر العبد منهم خوفا على دينه ، كما جاء في الحديث : " يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ، ولا تشرع فيما عداها ؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع .
القول في تأويل قوله تعالى : هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
يقول عز ذكره مخبرا عن قيل الفتية من أصحاب الكهف: هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها من دونه ( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يقول: هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة ، وفي الكلام محذوف اجتزئ بما ظهر عما حذف، وذلك في قوله: ( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) فالهاء والميم في " عليهم " من ذكر الآلهة، والآلهة لا يؤتى عليها بسلطان، ولا يسأل السلطان عليها، وإنما يسأل عابدوها السلطان على عبادتهموها، فمعلوم إذ كان الأمر كذلك، أن معنى الكلام: لولا يأتون على عبادتهموها، واتخاذهموها آلهة من دون الله بسلطان بين.
وبنحو ما قلنا في معنى السلطان، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يقول: بعذر بين.
وعنى بقوله عز ذكره: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )
ومن أشدّ اعتداء وإشراكا بالله، ممن اختلق، فتخرّص على الله كذبا، وأشرك مع الله في سلطانه شريكا يعبده دونه، ويتخده إلها.
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) البيت غير منسوب. واللقاح : هي النوق ذوات اللبن ، تنتج في أول الربيع فتكون لقاحا ، واحدتها لقحة ( بفتح اللام وكسرها ) فلا تزال لقاحا حتى يدبر الصيف عنها . ( انظر اللسان: لقح ) . وتروحت : عادت من مراعيها إلى مراحها. أو تروحت : أصابتها الريح . والهدج ( بسكون الدال ) مصدر هدج يهدج هدجا وهدجانا ، وهو المشي الرويد في ضعف . يقال : هدج الظليم يهدج هدجانا والرئال : جمع رأل ، وهو ولد النعام ، وخص بعضهم به الحولي . ويقال في جمعه : أرؤل ، ورئلان ، ورئال ، ورئالة ( اللسان : رأل ) وتكبهن: تلقيهن على صدورهن في الأرض. والشمال : الريح تهب من جهة الشمال . شبه سير اللقاح في رجوعها إلى مراحها بهدجال الرئال ، وهو مشي ضعيف يريد أن اللقاح في ذلك الوقت تهدج في سيرها هدج الرئال حين تسوقهن ريح الشمال .
والشاهد في قوله : تكبهن شمالا ، فإن شمالا منصوب على التمييز ، وهو محول عن الفاعل . والأصل تكبهن شمال . وهو نظير نصب كلمة من قوله تعالى : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً ) فإن كلمة منصوبة على التمييز ، وهو تمييز نسبة محول عن الفاعل والأصل كبرت كلمة ( بالرفع ).
(2) البيت في ديوان ذي الرمة طبع كيمبردج سنة 1919 ص 251 من القصيدة الثانية والثلاثين وعدتها ثمانية وسبعون بيتا. والباخع القاتل : ونحته عدلته وصرفته . والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( 1: 393 ) قال : " فلعلك باخع نفسك " : مهلك نفسك . قال ذو الرمة : " ألا أيهذا ... " البيت.
أي نحته مشدد. ويقال بخعت له نفسي ونصحي : أي جهدت له وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 183 من مصورة الجامعة رقم 24059 ) باخع نفسك مخرج ، وقاتل نفسك .أه وفي ( اللسان بخع ) نفسه يبخعها بخعا وبخوعا : قتلها غيظا أو غما . وفي التنزيل ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ) قال الفراء : أي محرج نفسك ، وقاتل نفسك . وقال ذو الرمة " ألا يهذأ ...بشيء... " البيت . وقال الأخفش : بخعت لك نفسي ونصحي : أي جهدتها . أبخع بخوعا.
(3) البيت من مشطور الرجز . وهو من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن 1 : 394) قال جرزا : أي غلظا لا ينبت شيئا ، والجميع : أرضون أجراز . ويقال للسنة المجدبة : جرز ، وسنون أجراز، ولجدوبها ، ويبسها، وقلة مطرها . ثم أنشد بيتا لذي الرمة ، ثم بيت الشاهد ، والبيت أيضا من شواهد ( اللسان : جرز ) قال : وسنة جرز : إذا كانت جدبة . والجرز السنة المجدبة قال الراجز : " قد جرفتهن ..." البيت ، ومعنى وجرفتهن : أي ذهبت بهن كلهن أو جلهن . والضمير راجع إلى إبله . ويجوز أن يكون معنى جرفتهن بالتشديد : هزلتهن ، وذهبت بما فيهن من شحم ولحم ، ولقلة المرعى.
(4) شعيب الجبئي : هو شعيب بن الأسود الجبئي المحدث من أقران طاووس ، أخذ العلم عنه محمد بن إسحاق وسلمة بن وهران . وهو منسوب إلى الجبأ ، بالهمز والقصر ، كما قال الهمداني في صفة جزيرة العرب في مواضع ، وهو كورة المعافر ، بالقرب من الجند ( انظر معجم ما استعجم للبكري ، طبعة القاهرة ، في رسم الجبأ ص 360 ) .
(5) قال القرطبي في تفسيره (10: 360) وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه ، ونقلها عن الطبري .
(6) البيت للنابغة الذبياني ، في ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ص 152 ) من قصيدته التي مطلعها: يــا دار ميــة بالعليــاء فالسـند
وهي خمسون بيتا ، والشاهد هو السادس والعشرون منها . قال شارحه: الأمد الغاية التي تجري إليها ( وعلى هذا استشهد المؤلف ) يقول : لا تنطو على حقد وغضب ، إلا لمن هو مثلك في الناس ، أو قريب منك.
(7) البيت للأحوص بن محمد . وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 394 ) قال : ( قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) : أي جورا وغلوا ، قال ألا يـا لقـوم قـد أشـطت عـواذلي
...البيت وذكر بعده بيتا آخر وهو:
وَيَلْحَــيْنِي فـي اللَّهْـوِ أنْ لا أُحِبُّـهُ
وللَّهْــوِ داعٍ دائِــبٌ غـيرُ غـافِلِ
وفي ( اللسان : شطط ) : الشطط : مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام أو غير ذلك من كل مشتق منه . أه . وقال : وشط في سلعته وأشط : جاوز القدر ، وتباعد عن الحق . وشط عليه في حكمه يشط شططا. واشتط ، وأشط : جار في قضيته . وقال أبو عبيدة : شططت أشط، بضم الشين ، وأشططت : جرت . قال ابن بري : أشط : بمعنى أبعد، وشط بمعنى بعد . وشاهد أشط بمعنى أبعد ، قول الأحوص : * ألا لقـومي قـد أشـطت عواذلي *
...البيت.
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء