125104105106107108

الإحصائيات

سورة المائدة
ترتيب المصحف5ترتيب النزول112
التصنيفمدنيّةعدد الصفحات21.50
عدد الآيات120عدد الأجزاء1.07
عدد الأحزاب2.15عدد الأرباع8.60
ترتيب الطول6تبدأ في الجزء6
تنتهي في الجزء7عدد السجدات0
فاتحتهافاتحتها
النداء: 2/10يا أيها الذين آمنوا: 1/3

الروابط الموضوعية

المقطع الأول

من الآية رقم (104) الى الآية رقم (105) عدد الآيات (2)

لمَّا حرَّمَ المشركونَ ما أحلَّ اللهُ نسبوه هنا لآبائِهم، ثُمَّ بَيَّنَ أن من اهتدى لا يضرُّه ضلالُ من ضلَّ.

فيديو المقطع


المقطع الثاني

من الآية رقم (106) الى الآية رقم (108) عدد الآيات (3)

لمَّا ذكرَ اللهُ في الآيةِ السابقةِ أن المرجعَ إليه بعدَ الموتِ فيُحاسِبُنا ويُجازينا ناسَبَ هنا أنْ يُرشِدْنا إلى الوصيَّةِ قبلَ الموتِ، وإلى العنايةِ بالإشهادِ عليها لئلَّا تضيعَ.

فيديو المقطع


مدارسة السورة

سورة المائدة

الوفاء بالعهود والمواثيق/ الحلال والحرام.

أولاً : التمهيد للسورة :
  • • ما "المائدة" التي سميت بها السورة؟:   الحواريون (أصحاب عيسى عليه السلام الخُلَّص) طلبوا من عيسى عليه السلام أن يدعو اللهَ أن ينزل عليهم مائدة من السماء، ليأكلوا منها وتزداد قلوبهم اطمئنانًا إلى أنه صادق فيما يبلغه عن ربه: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (112-113)، فاستجاب عيسى عليه السلام لهم ودعا ربه، فوعده الله بها، وأخذ عليهم عهدًا وحذرهم من نقضه: أن من كفر بعد نزولها ولم يؤمن فسوف يعذبه عذابًا شديدًا: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ (115). وهذا توجيه وتحذير للمسلمين بأن عليهم الوفاء بالعهود والمواثيق، وإلا سيكون العذاب جزاؤهم كما في قصة المائدة. السورة تنادي: - التزموا بالعقود التي ألزمكم الله بها، وأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. - احذروا من التهاون بهذه العقود أو إضاعتها كما حصل من اليهود والنصارى.
  • • هدف السورة واضح من أول نداء:   لجاء في السورة: ﴿يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ أي أوفوا بعهودكم، لا تنقضوا العهود والمواثيق.
ثانيا : أسماء السورة :
  • • الاسم التوقيفي ::   «المائدة».
  • • معنى الاسم ::   المائدة: الخِوَانُ الموضوع عليه طعام، والعرب تقول للخُوان إذا كان عليه طعام: مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام لم تقل له مائدة.
  • • سبب التسمية ::   لورود قصة المائدة بها.
  • • أسماء أخرى اجتهادية ::   ‏‏«سورة العقود»؛ لافتتاحها بطلب الإيفاء بالعقود، و«المنقذة»، و«الأحبار».
ثالثا : علمتني السورة :
  • • علمتني السورة ::   الوفاء بالعقود مع الله، ومع الناس، ومع النفس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...﴾
  • • علمتني السورة ::   أن الأخلاق الفاضلة هي أثر للعقيدة الصحيحة والتشريعات الحكيمة.
  • • علمتني السورة ::   أن الإنسان غال عند ربه، من أجل ذلك شرع الله الشرائع التي تضبط حياته، وتصون حرمته ودمه وماله (سورة المائدة أكثر سورة ذكرًا لآيات الأحكام).
  • • علمتني السورة ::   أنه ينبغي على الدعاة أن يبدأوا مع الناس بما أبيح أولًا، ثمّ يبينوا المحرّمات بعد ذلك، لكي يكسبوا القلوب: ﴿يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاْنْعَامِ﴾ (1)، فلم يبدأ ربنا بما قد حُرِّم لكي لا ينفروا، فكلمة ﴿أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ توحي بأن الخطاب بعدها شديد اللهجة، فتأتي مباشرة كلمة ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة.
رابعًا : فضل السورة :
  • • عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا».
    • عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (118)، فَلَمَّا أَصْبَحَ قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا»، قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا».
    • عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ الأُوَل مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ حَبْرٌ». السبعُ الأُوَل هي: «البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والتوبة»، وأَخَذَ السَّبْعَ: أي من حفظها وعلمها وعمل بها، والحَبْر: العالم المتبحر في العلم؛ وذلك لكثرة ما فيها من أحكام شرعية.
    • عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ». وسورة المائدة من السبع الطِّوَال التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم مكان التوراة.
    • عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ لِعُمَرَ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (3)؛ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا»، فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَةَ».
    • قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: «الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، وَفِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا».
خامسًا : خصائص السورة :
  • • هي الأكثر ذكرًا لآيات الأحكام.
    • أول سورة -بحسب ترتيب المصحف- تبدأ بنداء المؤمنين: ﴿يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ﴾ من أصل 3 سور افتتحت بذلك، وهي: «المائدة، والحجرات، والممتحنة».
    • آخر سورة نزلت بالأحكام الشرعية.
    • تمتاز بالمواجهة الشديدة مع أهل الكتاب، فهي أكثر السور تكفيرًا لليهود والنصارى.
    • أكثر السور تأكيدًا على أن التشريع حق لله تعالى وحده، حيث خُتِمت ثلاث آيات بالتحذير من الحكم بغير ما أنزل الله، وهي: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (44)، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (45)، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (47).
سادسًا : العمل بالسورة :
  • • أن نفي بالعقود والعهود مع الله، ومع الناس، ومع النفس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...﴾ (1).
    • أن نتعاون دومًا على البر والتقوى، ففي التقوى رضى الله، وفي البر رضى الناس.
    • أن ندرس بابَ الأطعمةِ من أحد كتبِ الفقه لنتعلَّمَ ما يُبَاح وما يحْرُم: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ...﴾ (3).
    • أن نزور أحد المرضى ونعلمه صفة التيمم: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ (6).
    • أن نتوخي العدل دائمًا؛ حتى في معاملة المخالفين: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ (8).
    • أن نفوض أمورنا إلى الله تعالى، ونعتمد عليه، ونفعل الأسباب، ولا نعتمد عليها: ﴿وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (11).
    • ألا نُظهِر البلاء على ألسنتنا؛ فالبلاء موكّل بالمنطق، فاليهود لما قالوا: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ (النساء 155)، أي لا تعي شيء، حلّ بهم البلاء: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ (13).
    • أن نجمع بين البشارة والنذارة أثناء دعوة الناس إلى الله: ﴿فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ (19).
    • أن نعدد ثلاثًا من النعم التي اختصنا الله بها دون أقراننا، ونشكره عليها: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ﴾ (20).
    • ألا يغيب عنا التفاؤل أبدًا: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ (23).
    • أن نحذر الحسد؛ لأنه صفة ذميمة تؤذي صاحبها وتجره إلى معصية الله، وتجعله يسخط ويعترض على ربه، فهو أول ذنب عُصي الله به في السماء والأرض: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ...﴾ (27).
    • أن نشدد العقوبة بحق من يفسدون في الأرض ويقطعون الطريق؛ حتى نمنع مجرمين آخرين من الظهور: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ ...﴾ (33).
    • أن نشتغل بالإصلاح بعد التوبة؛ لأن هذا سبب لقبولها: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّـهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (39).
    • أن نحدد أمورًا تتطهر بها قلوبنا، ثم نفعلها، ونتحل بها؛ مثل: حسن الظن، والعفو: ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّـهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ (41).
    • أن نسبق اليوم غيرنا إلى نوع من الطاعات؛ كالصف الأول، والصدقة لمضطر محتاج، أو غيرها من أبواب الخير: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (48).
    • ألا نتخذ اليهود والنصارى أولياء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ...﴾ (51).
    • أن نتذكّر قول الله: ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾ (54) عندما نرى من أقراننا من هو أفضل منا فهمًا أو علمًا أو مالًا أو نعمة.
    • أن نحفظ ألسنتنا عن كثرة الحلِف: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ (89).
    • أن نتجنب الخمر والميسر والأزلام والأنصاب، ونبين للناس حرمة ذلك: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ...﴾ (90).
    • أن نحدد بعض المنكرات ونبلغ الناس حكم الله فيها: ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ (99).
    • ألا نسأل عن الأمور التي لا فائدة من وراءها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (101).
    • أن نكتب الوصية قبل النوم، وننصح غيرنا بذلك، ونبين لهم أهمية كتابة الوصية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ (106).
    • أن نحذر أشد الحذر من كفران النعم، فإن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ (115).
    • أن نسأل الله كثيرًا أن يرزقنا الصدق في القول والعمل: ﴿قَالَ اللَّـهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ (119).

تمرين حفظ الصفحة : 125

125

مدارسة الآية : [104] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى ..

التفسير :

[104] وإذا قيل لهؤلاء الكفار المحرِّمين ما أحلَّ الله:تعالوا إلى تنزيل الله وإلى رسوله ليتبين لكم الحلال والحرام، قالوا:يكفينا ما ورثناه عن آبائنا من قول وعمل، أيقولون ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً أي:لا يفهمون حقّاً ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه؟

فإذا دعوا{ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أعرضوا فلم يقبلوا، و{ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من الدين، ولو كان غير سديد، ولا دينًا ينجي من عذاب الله. ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان الأمر. ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا، أي:ليس عندهم من المعقول شيء، ولا من العلم والهدى شيء. فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح، ولا عقل رجيح، وترك اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله الذي يملأ القلوب علما وإيمانا, وهدى, وإيقانا.

ثم حكى- سبحانه- ما كان عليه هؤلاء العوام المقلدون من جمود وخضوع للباطل فقال.

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا.

أى: وإذا قال قائل- على سبيل النصح والإرشاد إلى الخير- لهؤلاء المقلدين المنقادين انقيادا أعمى للأوهام إذا قال لهم هذا القائل: تعالوا أى: أقبلوا واستجيبوا لما أنزل الله في كتابه، ولما أنزل على رسوله من هدايات لتسعدوا وتفوزوا قالوا: بعناد وغباء- حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا: كافينا في هذا الشأن ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وتقاليد وعادات. فلا نلتفت إلى ما سواه.

وهذه حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه بغير تعقل ولا تدبر. إنه يترك معاني العزة والكرامة وإعمال الفكر ليعيش أسير ذلته للأوهام التي شب عليها وسار خلفها مقلدا غيره ومنقادا له انقياد الخانعين الأذلاء.

ولم يذكر- سبحانه- القائل في قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ للإشارة إلى أن الذين يدعونهم إلى طريق الحق متعددون، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم، والمؤمنون يدعونهم. والأدلة الدالة على صدق هذا الدين تدعوهم. ومع كل ذلك فهم في ضلالهم سادرون، وتحت سلطان سادتهم خانعون.

وقوله- تعالى- أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ رد عليهم بأسلوب التأنيب والتعجيب من جهالاتهم وخضوعهم للباطل بدون مراجعة أو تفكير.

والواو في قوله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ واو الحال. والهمزة التي دخلت عليها للإنكار والتعجب من ضلالهم.

والمعنى: أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. ويغلقون على أنفسهم باب الهداية ليبقوا في ظلمات الضلالة ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الحق ولا يهتدون إليه لانطماس بصيرتهم.

وليس المراد أن آباءهم لو كانوا يعلمون شيئا أو يهتدون إلى شيء لجاز لهم ترك ما أنزل الله وإنما المراد هنا تسجيل الواقع المظلم الذي كانوا عليه وكان عليه آباؤهم من قبلهم. فآباؤهم كانوا كذلك يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم بدون تأمل أو تفكير.

فالآية الكريمة زيادة في توبيخهم وتوبيخ آبائهم لأنهم جميعا مشتركون في الانغماس في الضلال والجهل.

وبعد أن بين- سبحانه- ما بين من التكاليف والأحكام والحلال والحرام، وذم المقلدين لآبائهم تقليدا أعمى. وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، أمرهم فيه بأن يلزموا أنفسهم طاعة الله، وأنهم ليس عليهم شيء من آثام غيرهم ماداموا قد نصحوهم وأرشدوهم إلى الخير فقال- تعالى-:

( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) أي : إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وترك ما حرمه ، قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك ، قال الله تعالى ( أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ) أي : لا يفهمون حقا ، ولا يعرفونه ، ولا يهتدون إليه ، فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟ لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم ، وأضل سبيلا .

القول في تأويل قوله : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيِّبون السوائب؟ الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى ذكره يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنـزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله, ليتبين لكم كذبُ قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريمكم ما تحرِّمون من هذه الأشياء (1) = أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءَنا يعملون به, ويقولون: " نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة, وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل ". (2) قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَ لو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئًا؟ يقول: لم يكونوا يعلمون أنّ ما يضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كذبٌ وفريةٌ على الله, لا حقيقة لذلك ولا صحة، لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدءوا تحريم ذلك، افتراءً على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون = ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب, (3) بل كانوا على ضلالة وخطأ.

-------------------

الهوامش :

(1) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف 6: 474 ، 483 ، 485/8: 513.

(2) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 4: 244/7: 405.

(3) في المطبوعة: "ما كانوا فيما هم به عاملون" ، وفي المخطوطة: "كانوا" بغير"ما" ، والسياق يقتضي ما أثبت ، لأنه معطوف على قوله آنفاً: "يقول: لم يكونوا يعلمون. . ."

التدبر :

وقفة
[104] من أهم أسباب ضياع الناس في دينهم ودنياهم: ترك اتباع ما أنزل الله، وتقليد الآباء والمجتمع في أخطائهم.
وقفة
[104] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ علمنا القرآن عداوة التقليد الأعمى ومحاربة التعصب الجاهل.
وقفة
[104] اتباع العادات والتقاليد محمود إذا لم يخالف شرع الله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾.
وقفة
[104] ﴿قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ تقديم أفعال الآباء والمورث من العادات والتقاليد على شرع الله يناقض حقيقة الاستسلام لله.

الإعراب :

  • ﴿ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ:
  • الواو: استئنافية. إذا: ظرف زمان مبني على السكون أداة شرط غير جازمة خافض لشرطه. قيل: فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح. لهم: جار ومجرور متعلق بقيل و «هم» ضمير الغائبين في محل جر باللام.
  • ﴿ تَعالَوْا:
  • فعل أمر مبني على حذف النون لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. والألف: فارقة. وجملة «قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا» في محل جر بالاضافة. وجملة «تَعالَوْا» في محل رفع نائب فاعل للفعل «قِيلَ».
  • ﴿ إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ:
  • جار ومجرور متعلق بتعالوا. ما: اسم موصول مبني على السكون في محل جر بإلى. أنزل: فعل ماض مبني على الفتح. الله لفظ الجلالة: فاعل مرفوع بالضمة. وجملة «أَنْزَلَ اللَّهُ» صلة الموصول لا محل لها.
  • ﴿ وَإِلَى الرَّسُولِ:
  • الواو: عاطفة. إلى الرسول: جار ومجرور متعلق بتعالوا. أي لمقابلة الرسول.
  • ﴿ قالُوا:
  • فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. والألف: فارقة. وجملة «قالُوا» جواب شرط غير جازم لا محل لها والعائد الى الموصول في «ما أَنْزَلَ اللَّهُ» ضمير محذوف اختصارا منصوب المحل لأنه مفعول به. التقدير: إلى ما أنزله الله.
  • ﴿ حَسْبُنا ما وَجَدْنا:
  • الجملة: في محل نصب مفعول به- مقول القول-. حسبنا: مبتدأ مرفوع بالضمة. و «نا» ضمير المتكلمين مبني على السكون في محل جر بالاضافة. ما: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. وجدنا: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. وجملة «وَجَدْنا» صلة الموصول لا محل لها. وحسبنا: كفانا.
  • ﴿ عَلَيْهِ آباءَنا:
  • جار ومجرور متعلق بوجدنا. آباءنا: مفعول به منصوب بالفتحة. و «نا» ضمير متصل- ضمير المتكلمين- في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ:
  • أو لو: الهمزة ألف انكار في لفظ استفهام. الواو: حالية وتقديرها أحسبهم ذلك. وبمعنى: أكفاهم ما كان عليه آباؤهم ولو كانوا جهلاء ضالين؟ كان: فعل ماض ناقص مبني على الفتح. آباء: اسمها مرفوع بالضمة و «هم» ضمير الغائبين في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً:
  • الجملة في محل نصب خبر «كانَ». لا: نافية لا عمل لها. يعلمون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون. والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. شيئا: مفعول به منصوب بالفتحة المنونة.
  • ﴿ وَلا يَهْتَدُونَ:
  • الجملة معطوفة بواو العطف على «لا يَعْلَمُونَ» وتعرب إعرابها. '

المتشابهات :

البقرة: 170﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ
لقمان: 21﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ
المائدة: 104﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ
النساء: 61﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [104] لما قبلها :     ولَمَّا حرَّمَ المشركونَ ما أحلَّ اللهُ؛ نسبوه هنا لآبائِهم، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [105] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ ..

التفسير :

[105] يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ألْزِموا أنفسكم بالعمل بطاعة الله واجتناب معصيته، وداوموا على ذلك وإن لم يستجب الناس لكم، فإذا فعلتم ذلك فلا يضركم ضلال مَن ضلَّ إذا لزمتم طريق الاستقامة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، إلى الله مرجع

يقول تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي:اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم، فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم، ولم يهتد إلى الدين القويم، وإنما يضر نفسه. ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما، فإنه لا يتم هداه, إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه، فإنه لا يضره ضلال غيره. وقوله:{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أي:مآلكم يوم القيامة، واجتماعكم بين يدي الله تعالى.{ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير وشر.

وقوله عَلَيْكُمْ اسم فعل أمر بمعنى: الزموا وقوله: أَنْفُسَكُمْ منصوب على الإغراء بقوله: عَلَيْكُمْ.

قال الجمل: واختلف النحويون في الضمير المتصل بها- أى بكلمة عَلَيْكُمْ- والصحيح أنه في موضع جر كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء» » .

والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، الزموا العمل بطاعة الله، بأن تؤدوا ما أمركم به، وتنتهوا عما نهاكم عنه، وأنتم بعد ذلك «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» أى: لا يضركم ضلال من ضل وغوى، ما دمتم أنتم قد أديتم حق أنفسكم عليكم بصيانتها عما يغضب الله وأديتم حق غيركم عليكم بإرشاده ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. فإن أبى هذا الغير الاستجابة لكم بعد النصح والإرشاد والأخذ على يده من الوقوع في الظلم فلا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله، فإن مصيركم ومرجعكم جميعا إلى الله- تعالى- وحده فَيُنَبِّئُكُمْ يوم القيامة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من خير أو شر، ويجازى أهل الخير بما يستحقون من ثواب، ويجازى أهل الشر بما يستحقون من عقاب.

هذا، وقد يقول قائل: إن ظاهر هذه الآية قد يفهم منه بعض الناس، أنه لا يضر المؤمنين أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ماداموا قد أصلحوا أنفسهم لأنها تقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فهل هذا الفهم مقبول؟

والجواب على ذلك، أن هذا الفهم ليس مقبولا، لأن الآية الكريمة مسوقة لتسلية المؤمنين، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم.

فكأنها تقول لهم: إنكم- أيها المؤمنون- إذا قمتم بما يجب عليكم، لا يضركم تقصير غيركم. ولا شك أن مما يجب عليهم القيام به: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إذ لا يكون المرء مهتديا إلى الحق مع تركه لفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما يكون مهتديا متى أصلح نفسه ودعا غيره إلى الخير والصلاح.

أى أن الهداية التي ذكرها- سبحانه- في قولهم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا تتم إلا بإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الخير والبر.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المعاني بقوله: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يَضُرُّكُمْ الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين. وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه .

ويبدو أن هذه الآية الكريمة قد فهمها بعض الناس فهما غير سليم- حتى في الصدر الأول من الإسلام.

قال القرطبي: روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبى حازم قال: خطبنا أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- فقال: أيها الناس- إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» .

وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبى أمية الشعبانى قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة. وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.

وفي رواية قيل يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال «بل أجر خمسين منكم» .

وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنى لأصغر القوم فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فقلت أنا: أليس الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فأقبلوا على بلسان واحد وقالوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها.

ولا تدرى ما تأويلها- حتى تمنيت أنى لم أكن تكلمت- ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا تدرى ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت» .

والخلاصة أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إنها- كما قال الحاكم- لو استدل بها على وجوبهما لكان أولى، لأن قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه: الزموا أن تصلحوا أنفسكم باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله والعقليات المؤيدة بها، ودعوة الإخوان إلى ذلك، بإقامة الحجج ودفع الشبه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولا تقصروا في ذلك» .

ونقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإنه- سبحانه- قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعنى عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار. وهذا كقوله فاقتلوا أنفسكم، يعنى أهل دينكم فقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعنى بأن يعظ بعضكم بعضا. ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات» ثم ختمت السورة حديثها الطويل المتنوع عن الأحكام الشرعية ببيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع الإسلامى فتحدثت عن التشريع الخاص بالإشهاد على الوصية في حالة السفر، وعن الضمانات التي شرعتها لكي يصل الحق إلى أهله كاملا غير منقوص فقال- تعالى:

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ومخبرا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريبا منه أو بعيدا .

قال العوفي ، عن ابن عباس عند تفسير هذه الآية : يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده ، إذا عمل بما أمرته به .

وكذا روى الوالبي عنه . وهكذا قال مقاتل بن حيان . فقوله : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ) نصب على الإغراء ( لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) أي : فيجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا كان فعل ذلك ممكنا ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله :

حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زهير - يعني ابن معاوية - حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، حدثنا قيس قال : قام أبو بكر ، - رضي الله عنه - ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) إلى آخر الآية ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله ، عز وجل ، أن يعمهم بعقابه " . قال : وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس ، إياكم والكذب ، فإن الكذب مجانب الإيمان .

وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه ، وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به متصلا مرفوعا ، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصديق وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق ، - رضي الله عنه - .

وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، وحدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، حدثنا عمرو بن جارية اللخمي ، عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ فقال : أية آية؟ قلت : قوله [ تعالى ] ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم " - قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة : قيل يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منهم أو منا؟ قال : " بل أجر خمسين منكم " .

ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح . وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن عتبة بن أبي حكيم .

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها اليوم مقبولة . ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها ، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا - أو قال : فلا يقبل منكم - فحينئذ ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل )

ورواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) الآية ، قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا ، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه ، فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله يقول : ( [ يا أيها الذين آمنوا ] عليكم أنفسكم ) الآية . قال : فسمعها ابن مسعود فقال : مه ، لم يجئ تأويل هذه بعد ، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار . فما دامت قلوبكم واحدة ، وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا . فإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه ، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية . رواه ابن جرير .

وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا الربيع بن صبيح ، عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال : ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ؟ فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا فليبلغ الشاهد الغائب " . فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا ، إن قالوا لم يقبل منهم .

وقال أيضا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عوف عن سوار بن شبيب قال : كنت عند ابن عمر ، إذ أتاه رجل جليد في العين ، شديد اللسان ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك . فقال رجل من القوم : وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟

فقال الرجل : إني لست إياك أسأل ، إنما أسأل الشيخ . فأعاد على عبد الله الحديث ، فقال عبد الله : لعلك ترى ، لا أبا لك ، أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم! عظهم وانههم ، فإن عصوك فعليك نفسك فإن الله ، عز وجل يقول : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ) الآية .

وقال أيضا : حدثني أحمد بن المقدام ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا قتادة ، عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم من المسلمين جلوس ، فقرأ أحدهم هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل ) فقال أكبرهم لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم .

وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا ابن فضالة ، عن معاوية بن صالح عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإني لأصغر القوم ، فتذاكروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ؟ فأقبلوا علي بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن ولا تعرفها ، ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت ، وأقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن ، وإنك نزعت بآية ولا تدري ما هي؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت .

وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال : تلا الحسن هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال الحسن : الحمد لله بها ، والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ، ولا مؤمن فيما بقي ، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله .

وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت .

رواه ابن جرير ، وكذا روي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي العميس ، عن أبي البختري ، عن حذيفة مثله ، وكذا قال غير واحد من السلف .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كعب في قوله : ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال : إذا هدمت كنيسة دمشق ، فجعلت مسجدا ، وظهر لبس العصب ، فحينئذ تأويل هذه الآية .

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فأصلحوها, واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ذكره, وانظروا لها فيما يقرِّبها من ربها, فإنه " لا يضركم من ضَلّ" ، يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه, فحرمتم حرامه وحللتم حلاله.

* * *

ونصب قوله: " أنفسكم " بالإغراء, والعرب تغري من الصفات ب " عليك " و " عندك "، و " دونك "، و " إليك ". (4)

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم معناه: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " ، إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم .

* ذكر من قال ذلك:

12848 - حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبو الأشهب, عن الحسن: أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم "، فقال ابن مسعود: " ليس هذا بزمانها, قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم ". (5)

12849 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن أبي الأشهب, عن الحسن قال : ذكر عند ابن مسعود (6) " يا أيها الذين آمنوا " ، ثم ذكر نحوه.

12850- حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن الحسن قال : قال رجل لابن مسعود: ألم يقل الله: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم " ؟ قال: ليس هذا بزمانها, قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدَّت عليكم فعليكم أنفسكم. (7)

12851 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا شبابة بن سوار قال ، حدثنا الربيع بن صبيح, عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه, فإن الله تعالى ذكره يقول: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ"، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغَيَب, (8) ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. (9)

12852 - حدثنا أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال ، حدثنا قتادة, عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة, فإذا قومٌ من المسلمين جلوس, فقرأ أحدهم هذه الآية: " عليكم أنفسكم "، فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. (10)

12853- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عمرو بن عاصم قال ، حدثنا المعتمر, عن أبيه, عن قتادة, عن أبي مازن, بنحوه. (11)

12854 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عوف, عن سوّار بن شبيب قال ، كنت عند ابن عمر, إذ أتاه رجل جليدٌ في العين, شديد اللسان, فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه, (12) وكلهم مجتهد لا يألو, وكلهم بغيضٌ إليه أن يأتي دناءةً, (13) وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأيَّ دناءة تريد، أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! (14) قال: فقال الرجل: إني لستُ إيّاك أسأل, أنا أسأل الشيخ! فأعاد على عبد الله الحديث, فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك، إني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! (15) عظهم وانههم, فإن عصوك فعليك بنفسك, فإن الله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون " . (16)

12855- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ، قال: إن هذا ليس بزمانها, إنها اليوم مقبولة, (17) ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانٌ تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا = أو قال: فلا يقبل منكم = فحينئذ: عليكم أنفسكم, لا يضركم من ضلّ". (18)

12856- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة، في حلقة فيهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا فيهم شيخ يُسْنِدون إليه, (19) فقرأ رجل: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ، فقال الشيخ: إنما تأويلها آخرَ الزمان.

12857- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال ، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد من بني الحُدَّان، (20) قال : انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة, فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, (21) فقرأ رجل من القوم هذه الآية " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ، قال فقالَ رجلٌ من أسنِّ القوم: دَعْ هذه الآية, فإنما تأويلها في آخر الزمان. (22)

12858 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا ابن فضالة, عن معاوية بن صالح, عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنّي لأصغر القوم, فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، (23) ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: " إنك غلام حدَثُ السن, وإنك نـزعت بآية لا تدري ما هي, وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا, وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه, فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. (24)

12859 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن عبد الله بن مسعود في قوله: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون "، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا, فكان بين رجلين ما يكون بين الناس, حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه, فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرُهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك, فإن الله تعالى يقول: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ! قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ، (25) لَمَّا يجئ تأويل هذه بعد! (26) إن القرآن أنـزل حيث أنـزل، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينـزلن, ومنه ما وقع تأويلهن على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم, ومنه آيٌ وَقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير, (27) ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم, ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من الساعة, (28) ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، (29) فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تُلبَسوا شيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض, فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض, فامرؤ ونفسه, فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. (30)

12860- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن ابن مسعود: أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس, حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه, ثم ذكر نحوه. (31)

12861- حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا حرمي......... قال : سمعت الحسن يقول: تأوّل بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم "، فقال بعض أصحابه: دعوا هذه الآية، فليست لكم. (32)

12862 - حدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل الرّملي قال ، حدثنا أيوب بن سويد قال ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم, عن عمرو بن جارية اللخمي, عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، فقال: لقد سألت عنها خبيرًا, سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبا ثعلبة، ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, فإذا رأيت دنيا مؤثَرة، وشحًّا مطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه, فعليك نفسك! إنّ من بعدكم أيام الصبر, (33) للمتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عاملا! قالوا: يا رسول الله, كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: لا كأجر خمسين عاملا منكم. (34)

12863- حدثنا علي بن سهل قال ، أخبرنا الوليد بن مسلم, عن ابن المبارك وغيره, عن عتبة بن أبي حكيم, [عن عمرو بن جارية اللخمي]، عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني: كيف نَصنع بهذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خبيرًا, سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه, فعليك بِخُوَيصة نفسك, (35) وذَرْ عوامَّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم. (36)

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك أنّ العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضَلَّ بعده وهلك.

* ذكر من قال ذلك:

12864 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَ"، يقول: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام, فلا يضره من ضل بعدُ، إذا عمل بما أمرته به.

12865 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم "، يقول: أطيعوا أمري, واحفظوا وصيَّتي.

12866 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي جعفر الرازي, عن صفوان بن الجون قال : دخل عليه شابّ من أصحاب الأهواء, فذكر شيئًا من أمره, فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خصَّ بها أولياءه؟" يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل " ، الآية. (37)

12867 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثنا أبو المطرف المخزومي قال ، حدثنا جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال : " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ، ما لم يكن سيف أو سوط. (38)

12868- حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال ، تلا الحسن هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ، فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها, ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكرَه عمله. (39)

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، فاعملوا بطاعة الله =" لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ، فأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر.

* ذكر من قال ذلك:

12869 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم, عن عنبسة, عن سعد البقال, عن سعيد بن المسيب: " لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم "، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر, لا يضرك من ضل إذا اهتديت.

12870 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن أبي العميس, عن أبي البختري, عن حذيفة: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ، قال: إذا أمرتم ونهيتم.

12871- حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي = عن ابن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر: تقرءون هذه الآية: " لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ، وإن الناس إذا رأوا الظالم = قال ابن وكيع = فلم يأخذوا على يديه, أوشك أن يعمّهم الله بعقابه. (40)

12872- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير وابن فضيل, عن بيان, عن قيس قال ، قال أبو بكر: إنكم تقرءون هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ، وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه, يعمُّهم الله بعقابه. (41)

12873- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن إسماعيل, عن قيس, عن أبي بكر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه.

12874 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ، يقول: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترُّوا بقول الله: " عليكم أنفسكم " ، فيقول أحدكم: عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليَستعملن عليكم شراركم، فليسومنّكم سوء العذاب, ثم ليدعون الله خياركم، فلا يستجيب لهم.

12875- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا بيان, عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر وهو على المنبر: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها: " لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم "، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه, عَمَّهم الله بعقابه.

12876 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثني عيسى بن المسيب البجلي قال ، حدثنا قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى الناسُ المنكر فلم يغيِّروه، والظالم فلم يأخذوا على يديه, فيوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. (42)

12877- حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا سعيد بن سالم قال ، حدثنا منصور بن دينار, عن عبد الملك بن ميسرة, عن قيس بن أبي حازم قال : صَعد أبو بكر المنبرَ منبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدُّونها رُخصة، والله ما أنـزل الله في كتابه أشدَّ منها: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم "، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, &; 11-151 &; أو ليعمنكم الله منه بعقاب. (43)

12878- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا إسحاق بن إدريس قال ، حدثنا سعيد بن زيد قال ، حدثنا مجالد بن سعيد, عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ : " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم "، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب. (44)

* * *

وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب.

* ذكر من قال ذلك:

12879 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في قوله: " لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ، قال: يعني من ضلّ من أهل الكتاب.

12880- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ، قال: أنـزلت في أهل الكتاب.

* * *

وقال آخرون: عنى بذلك كل من ضل عن دين الله الحق.

* ذكر من قال ذلك:

12881 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَل إذا اهتديتم " ، قال: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفَّهت آباءك وضللتهم, وفعلت وفعلت, وجعلت آباءك كذا وكذا! كان ينبغي لك أن تنصرهم، وتفعل!

فقال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم ".

* * *

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها, وهو: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " ، الزموا العملَ بطاعة الله وبما أمركم به, وانتهوا عما نهاكم الله عنه =" لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ، يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله, (45) وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم &; 11-153 &; الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه, والأخذ على يديه إذا رام ظلمًا لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النـزوع عن ذلك, ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب, لأن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى. ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان للناس تركُ ذلك, لم يكن للأمر به معنًى، إلا في الحال التي رخَّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ ذلك, وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصًا له تركه، إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه.

وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى, فبيِّنٌ أنه قد دخل في معنى قوله: " إذا اهتديتم " ، ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك: " إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ", ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

القول في تأويل قوله : إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا، أيها المؤمنون، بما أمرتكم به, وانتهوا عما نهيتكم عنه, ومروا أهل الزَّيغ والضلال وما حاد عن سبيلي بالمعروف, وانهوهم عن المنكر. فإن قبلوا، فلهم ولكم, وإن تمادَوْا في غيهم وضلالهم، فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم, (46) وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر, فأخبر هناك كلَّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا، (47) ثم أجازيه على عمله الذي قَدِم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه, فإنه لا يخفى عليَّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.

----------------------

الهوامش :

(4) "الصفات" حروف الجر ، والظروف ، كما هو بين من سياقها. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 322 ، 323.

(5) الأثر: 12848 -"سوار بن عبد الله بن سوار العنبري" ، القاضي ، شيخ الطبري. ثقة ، مترجم في التهذيب. وأبوه: "عبد الله بن سوار العنبري" القاضي ، ثقة. مترجم في التهذيب.

و"أبو الأشهب" هو: "جعفر بن حيان السعدي العطاردي" ، ثقة ، روي له الستة ، مضى برقم: 11408.

وسيأتي تخريج الأثر في التعليق على رقم: 12850.

(6) في المطبوعة: "ذكر ابن مسعود" ، بإسقاط"عند" ، والصواب من المخطوطة.

(7) في الأثر: 12848 - 12850 - خبر الحسن ، عن ابن مسعود ، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 19 ، وقال: "رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من ابن مسعود".

(8) "الغيب" (بفتح الغين والياء) جمع"غائب" ، مثل"خادم" و"خدم".

(9) الأثر: 12851 -"الحسن بن عرفة العبدي البغدادي" ، شيخ الطبري ، مضى برقم: 9373.

و"شبابة بن سوار الفزازي" ، مضى برقم: 37 ، 6701 ، 10051.

و"الربيع بن صبيح السعدي" ، مضى برقم: 6403 ، 6404 ، 10533.

و"سفيان بن عقال" ، مترجم في الكبير2/2/94 ، وابن أبي حاتم 2/1/219 ، وكلاهما قال: "روي عن ابن عمر ، روى عنه الربيع" ، ولم يزيدا.

وخرجه في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته لابن مردويه.

(10) الأثر: 12852 ، 12853 -"أبو مازن الأزدي الحداني" ، كان من صلحاء الأزد ، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة ، عن صاحب له ، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم 4/2/44 . ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة ، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: 12856"عن قتادة ، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة" ، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن" ، ولا شك. ثم يأتي في رقم: 12857"عن قتادة ، حدثنا أبو مازن ، رجل من صالحي الأزد ، من بني الحدان" ، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه ، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ.

وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وأبي الشيخ.

(11) الأثر: 12852 ، 12853 -"أبو مازن الأزدي الحداني" ، كان من صلحاء الأزد ، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة ، عن صاحب له ، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم 4/2/44 . ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة ، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: 12856"عن قتادة ، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة" ، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن" ، ولا شك. ثم يأتي في رقم: 12857"عن قتادة ، حدثنا أبو مازن ، رجل من صالحي الأزد ، من بني الحدان" ، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه ، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ.

وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وأبي الشيخ.

(12) في المطبوعة: "قد قرأوا" بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.

(13) في ابن كثير 3: 259 ، رواه عن هذا الموضع من التفسير ، وزاد فيه هنا: ". . . أن يأتي دناءة ، إلا الخير" ، وليست في مخطوطتنا.

(14) في المطبوعة: "وأي دناءة تزيد" ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(15) في المطبوعة ، وابن كثير: "فتقتلهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب قديم.

(16) الأثر: 12854 -"سوار بن شبيب السعدي الأعرجي" ، و"بنو الأعرج" ، حي من بني سعد. و"الأعرج" هو"الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم" ، قطعت رجله يوم"تياس" ، فسمي"الأعرج". وهو ثقة ، كوفي ، روى عن ابن عمر ، روى عنه عوف ، وعكرمة بن عمار. مترجم في الكبير 2/2/168 ، وابن أبي حاتم 2/1/270.

وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 259 ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 341 ، واقتصر على نسبته إلى ابن مردويه.

(17) قوله: "إنها اليوم مقبولة" ، يعني: كلمة الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(18) الأثر: 12855 - انظر التعليق على الآثار: 12848 - 12850.

وكان في المطبوعة هنا: " . . . من ضل إذا اهتديتم" ، بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.

(19) قوله: "يسندون إليه" أي: ينتهون إلى عمله ومعرفته وفقهه ، ويلجئون إليه في فهم ما يشكل عليهم. ويقال: "أسندت إليه أمري" ، أي: وكلته إليه ، واعتمدت عليه. وقال الفرزدق:

إلَـى الأَبْـرَشِ الكَـلْبِيّ أَسْـنَدْتُ حَاجَةً

تَوَاكَلَهــا حَيًّــا تَمِيــمٍ ووَائِــلِ

وهذا كله مما ينبغي تقييده في كتب اللغة ، فهو فيها غير بين.

(20) في المطبوعة: "بني الجدان" بالجيم ، وهو خطأ.

(21) في المطبوعة: "فيها أصحاب رسول الله: ، وفي المخطوطة: "فيها من أصحاب رسول الله" ، فضرب بالقلم على"فيها" فأثبتها على الصواب.

(22) الأثران: 12856 ، 12857 - انظر التعليق على الأثرين السالفين رقم: 12852 ، 12853.

(23) في المطبوعة: "تنزع بآية من القرآن" ، غير ما في المخطوطة ، وما غيره صواب.

ولكن يقال: "انتزع معنى جيدًا ، ونزعه" ، أي: استخرجه واستنبطه ويقال: "انتزع بالآية والشعر" ، أي: تمثل به.

(24) الأثر: 12858 -"ابن فضالة" هو: "مبارك بن فضالة بن أبي أمية" ، أبو فضالة البصري. وفي تفسير ابن كثير: "حدثنا أبو فضالة" ، ومضى برقم: 154 ، 597 ، 611 ، 1901.

و"معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي" ، أحد الأعلام ، مضى مرارًا منها: 186 ، 187 ، 2072 ، 8472 ، 11255 ، ولم تذكر لمعاوية بن صالح ، رواية عن جبير بن نفير ، بل روى عنه ابنه عبد الرحمن بن جبير.

و"جبير بن نفير" إسلامي جاهلي ، مضى برقم: 6656 ، 7009.

وهذا الخبر منقطع الإسناد ، ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 260 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.

(25) "مه" ، هكذا في المطبوعة ، وابن كثير ، والدر المنثور و"مه" كلمة زجر بمعنى: كف عن هذا. وفي المخطوطة مكانها: "مهل" ، وأخشى أن تكون خطأ من الناسخ ، ولو كتب"مهلا" ، لكان صوابًا ، يقال: "مهلا يا فلان" أي: رفقًا وسكونًا ، لا تعجل.

(26) في المطبوعة: "لم يجئ" ، ومثلها في ابن كثير والدر المنثور ، وأثبت ما في المخطوطة.

(27) في المطبوعة: "آي قد وقع" بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.

(28) في المطبوعة: "على ما ذكر من أمر الساعة" ، بزيادة"أمر" ، وفي المخطوطة أسقط الناسخ"على" ، وإثباتها هو الصواب.

(29) في المطبوعة: "من أمر الحساب" بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.

(30) الأثر: 12859 -"ليث بن هرون" ، لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.

و"إسحق الرازي" ، هو: "إسحق بن سليمان الرازي" ، مضى برقم: 6456 ، 102338 ، 11240. وانظر الإسناد الآتي رقم: 12866.

وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 258 ، 259 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 339 ، 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، ونعيم بن حماد في الفتن ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب.

وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.

(31) الأثر: 12860 - انظر الأثر السالف.

(32) الأثر: 12861 - هذا إسناد ناقص لا شك في ذلك.

"أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي" ، أبو الأشعث. روى عنه البخاري والترمذي والنسائي ، وغيرهم. صالح الحديث. ولد في نحو سنة 156 ، وتوفي سنة 253.

و"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي" ، مضى برقم: 8513. ومات سنة 201 ، ومحال أن يكون أدرك الحسن وسمع منه. فإن"الحسن البصري" مات في نحو سنة 110 فالإسناد مختل ، ولذلك وضعت بينه وبين الحسن نقطًا ، دلالة على نقص الإسناد.

(33) في المطبوعة: "أرى من بعدكم" ، والصواب من المخطوطة. وفي المخطوطة: "المتمسك" بغير لام الجر ، وكأن الصواب ما في المطبوعة.

(34) الأثر: 12862 - سيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.

"إسمعيل بن إسرائيل اللآل الرملي" ، مضى برقم: 10236 ، 12213 ، وذكرنا هناك أنه في ابن أبي حاتم"السلال" ، ومضى هناك" 10236"الدلال" ، وجاء هنا"اللآل" ، صانع اللؤلؤ وبائعه ، ولا نجد ما يرجح واحدة من الثلاث.

و"أيوب بن سويد الرملي" ، ثقة متكلم فيه. مضى برقم: 12213.

و"عتبة بن أبي حكيم الشعباني الهمداني ، ثم الأردني" ، ثقة ، ضعفه ابن معين. مضى برقم: 12213.

و"عمرو بن جارية اللخمي" ، ثقة ، مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"عمرو بن خالد" وهو خطأ محض. وفي المخطوطة كتب"خالد" ثم جعلها"جارية" ، وهو الصواب.

و"أبو أمية الثعباني" اسمه"يحمد" (بضم الياء وكسر الميم) وقيل: اسمه"عبد الله بن أخامر". ثقة. مترجم في التهذيب.

و"أبو ثعلبة الخشني" اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا. صحابي.

وسيأتي تخريجه في الذي يليه.

(35) "خويصة" تصغير"خاصة".

(36) الأثر: 12863 -"عتبة بن أبي حكيم" ، في المخطوطة: "عبدة بن أبي حكيم" ، وهو خطأ ظاهر.

وفي المخطوطة والمطبوعة ، أسقط: [عن عمرو بن جارية اللخمي] ، فوضعتها بين قوسين.

وهذا هو نفسه إسناد الترمذي.

وهذا الخبر ، رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق سعيد بن يعقوب الطالقاني ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عقبة بن أبي حكيم ، بنحو لفظه هنا. ثم قال الترمذي: "قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة = قيل: يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: لا ، بل أجر خمسين رجلا منكم". ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".

وأخرجه ابن ماجه في سننه رقم: 4014 من طريق هشام بن عمار ، عن صدقة بن خالد ، عن عتبة بن أبي حكيم ، بنحو لفظه.

ورواه أبو داود في سننه 4: 174 ، رقم: 4341 ، من طريق أبي الربيع سليمان بن داود العتكي ، عن ابن المبارك ، بمثله.

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 258 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 339 ، وزاد نسبته إلى البغوي في معجمه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والحاكم في المستدرك وصححه.

(37) الأثر: 12866 -"ليث بن هرون" ، لم أجده ، وانظر الإسناد السالف رقم 12859.

و"إسحق" ، هو: "إسحق بن سليمان الرازي" ، وانظر رقم: 12859.

وأما "صفوان بن الجون" ، فهو هكذا في المخطوطة أيضًا ، ولم أجد له ترجمة. وفي الدر المنثور 2: 341 ، "عن صفوان بن محرز" ، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم.

و"صفوان بن محرز بن زياد المازني ، أو الباهلي". روى عن ابن عمر ، وابن مسعود ، وأبي موسى الأشعري. روى عنه جامع بن شداد ، وعاصم الأحول ، وقتادة. كان من العباد ، اتخذ لنفسه سربًا يبكي فيه. مات سنة 74 ، مترجم في التهذيب. ومضى برقم: 6496.

(38) الأثر: 12867 -"عبد الكريم بن أبي عمير" ، مضى برقم: 7578 ، 11368 و"أبو المطوف المخزومي" ، لم أجد له ذكرًا.

(39) الأثر: 12868-"ضمرة بن ربيعة الفلسطيني الرملي" ، ثقة ، مضى برقم: 7134. وكان في المطبوعة: "مرة بن ربيعة" ، لم يحسن قراءة المخطوطة.

وهذه الكلمة التي قالها الحسن ، لو خفيت على الناس قديمًا ، فإن مصداقها في زماننا هذا يراه المؤمن عيانًا في حيث يغدو ويروح.

(40) الأثر: 12871 - خبر قيس بن أبي حازم ، عن أبي بكر ، رواه أبو جعفر بأسانيد ، من رقم: 12871 - 12878 ، موقوفًا على أبي بكر ، إلا رقم: 12876 ، 12878 ، فرواهما متصلين مرفوعين ، وإلا رقم: 12874 ، فهو مرسل. وأكثر طرق أبي جعفر طرق ضعاف.

ورواه من طريق"إسمعيل بن أبي خالد" ، عن قيس بن أبي حازم برقم: 12871 ، 12873. فمن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده رقم: 1 ، 16 ، 29 ، 30 ، 53 ، متصلا مرفوعًا. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 258: "وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة ، وابن حبان في صحيحه ، وغيرهم ، من طرق كثيرة ، عن جماعة كثيرة ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، به متصلا مرفوعًا. ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق. وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره".

و"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي" ، ثقة. مضى برقم: 5694 ، 5777.

و"قيس بن أبي حازم الأحمسي" ، ثقة ، روى له الستة ، روى عن جماعة من الصحابة ، وهو متقن الرواية. مترجم في التهذيب.

وهذا إسناد صحيح.

(41) الأثر: 12872 -"ابن فضيل" هو: "محمد بن فضيل بن غزوان الضبي" ، مضى مرارًا كثيرة.

و"بيان" هو: "بيان بن بشر الأحمسي" ، ثقة ، مضى برقم 6501.

وقد مضى تخريج الخبر في الذي قبله ، وسيأتي من هذه الطريق أيضًا برقم: 12875.

وهو إسناد صحيح.

(42) الأثر: 12876 -"الحارث" هو: "الحارث بن محمد بن أبي أسامة" ، مضى مرارًا ، آخرها رقم: 10553 ، وترجمته في رقم: 10295.

و"عبد العزيز" ، هو: "عبد العزيز بن أبان الأموي" ، مضت ترجمته برقم: 10295 ، قال ابن معين: "كذاب خبيث ، يضع الأحاديث".

و"عيسى بن المسيب البجلي" ، قاضي الكوفة. وكان شابًا ولاه خالد بن عبد الله القسري. ضعيف متكلم فيه ، حتى قال ابن حبان: "كان قاضي خراسان ، يقلب الأخبار ، ولا يفهم ، ويخطئ ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/288 ، وميزان الاعتدال 2: 317 ، وتعجيل المنفعة: 328 ، ولسان الميزان 4: 405.

فهذا إسناد هالك ، مع روايته من طرق صحاح عن قيس ، عن أبي بكر.

(43) الأثر: 12877 -"أسد بن موسى المرداني" ، "أسد السنة" ، مضى برقم: 23 ، 2530.

و"سعيد بن سالم القداح" ، متكلم فيه ، وثقه ابن معين ، غير أن ابن حبان قال: "يهم في الأخبار حتى يجيء بها مقلوبة ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في التهذيب.

و"منصور بن دينار التميمي الضبي" ، ضعفوه. مترجم في الكبير 4/ 1/ 347 ، وابن أبي حاتم 4/1/171 ، وميزان الاعتدال 3: 201 ، وتعجيل المنفعة: 412 ، ولسان الميزان 6 : 95.

و"عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد" ، ثقة ، من صغار التابعين مضى برقم: 503 ، 504

فهذا خبر ضعيف الإسناد ، مع روايته من طرق صحاح عن قيس ، عن أبي بكر.

(44) الأثر: 12878 -"محمد بن بشار" ، هو"بندار" ، مضى مئات من المرات. وكان في المطبوعة هنا"محمد بن سيار" ، أساء قراءة المخطوطة.

"وإسحق بن إدريس الأسواري البصري" ، منكر الحديث ، تركه الناس ، قال ابن معين: "كذاب ، يضع الحديث". وقال ابن حبان: "كان يسرق الحديث". مترجم في الكبير 1/1/382 ، وابن أبي حاتم 1/1/213 ، وميزان الاعتدال 1: 86 ، ولسان الميزان 1: 352.

و"سعيد بن زيد بن درهم الجهضمي" ، ثقة ، متكلم فيه ، حتى ضعفوا حديثه. مضى برقم: 11801.

و"مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني" ، قال أحمد: "يرفع حديثًا لا يرفعه الناس" ، وهو ثقة ، متكلم فيه. ومضى برقم: 1614 ، 2987 ، 2988 ، 11156.

وهذا أيضًا إسناد ضعيف.

(45) في المطبوعة: "إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله" ، وهو لا معنى له ، أساء قراءة ما في المخطوطة ، لسوء كتابتها.

(46) انظر تفسير"المرجع" فيما سلف 6: 464/10: 391 ، تعليق: 2.

(47) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ).

التدبر :

وقفة
[105] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يضر العبد تركهما وإهمالهما، فإنه لا يتم هداه إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه، وأنكره بقلبه فإنه لا يضره ضلال غيره.
وقفة
[105] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ لن أجتهد وأخوض في تحديد مصيرهم؛ وما على الرسول إلا البلاغ.
وقفة
[105] إذا ألزم العبد نفسه بطاعة الله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر بحسب طاقته، فلا يضره بعد ذلك ضلال أحد، ولن يُسْأل عن غيره من الناس، وخاصة أهل الضلال منهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.
وقفة
[105] ضلال الناس لا يضر المؤمنين إذا أمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.
عمل
[105] أنكر اليوم منكرًا بنصيحة مؤثرة، وكلمة طيبة، لعلك تكون ممن يرفع الله بهم العذاب عن أهل الأرض ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.
عمل
[105] ليكن شعارك: «قل عني ما شئت فلسانك أنت من يملكه، لكنني أجزم بأنك لن تملك قلبي» ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.
وقفة
[105] ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ قال شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري: «عليكم أنفسكم فأصلحوها، واعملوا في خلاصها من عقاب الله، وانظروا لها فيما يقربها من ربها، فإنه ﴿لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ﴾، يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربکم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيها نهاكم عنه، فحرمتم حرامه وحللتم حلاله».
وقفة
[105] قال الزمخشري: «كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾، وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى، ﴿لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ﴾ ضلال غیرکم عن دینکم إذا كنتم مهتدين».
وقفة
[105] ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ قال ابن تيمية في معرض حديثه عن فوائد هذه الآية: «ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم؛ بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، فإن كثيرًا من الأمرين الناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم».
وقفة
[105] كل ما امتدت عروق الشجرة أرضا كل ما صمدت أمام الريح، فكذلك المؤمن كل ما زاد إيمانه زاد ثباتا في المحن ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.

الإعراب :

  • ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:
  • يا: أداة نداء. أيّ: منادى مبني على الضم في محل نصب. و «ها» للتنبيه. الذين: اسم موصول مبني على الفتح بدل من «أيّ». آمنوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. وجملة «آمَنُوا» صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
  • ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ:
  • عليكم: اسم فعل أمر بمعنى «إلزموا». أنفسكم: مفعول به منصوب بالفتحة. الكاف: ضمير متصل في محل جر مضاف إليه والميم علامة جمع الذكور. أي الزموا إصلاح أنفسكم وهو للإغراء.
  • ﴿ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ:
  • لا: نافية لا عمل لها. يضركم: فعل مضارع مرفوع بالضمة. الكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به مقدم والميم علامة جمع الذكور. ويجوز أن تكون «لا يَضُرُّكُمْ» بفتح الراء لكونها جوابا لفعل الطلب مجزوما وضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل «لا يضرركم». من: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. ضل: فعل ماض مبني على الفتح والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. وجملة «ضَلَّ» صلة الموصول لا محل لها.
  • ﴿ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ:
  • إذا: ظرف زمان مبني على السكون أداة شرط غير جازمة. اهتديتم: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك. التاء: ضمير متصل في محل رفع فاعل. والميم علامة جمع الذكور. وجملة «اهْتَدَيْتُمْ» في محل جر بالاضافة. وجواب الشرط محذوف لتقدم معناه. ويجوز ان تكون جملة «لا يَضُرُّكُمْ» في محل رفع خبرا مقدما و «مَنْ» مبتدأ مؤخرا.
  • ﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً:
  • الى الله: جار ومجرور للتعظيم في محل رفع خبر مقدم. مرجعكم: مبتدأ موخر مرفوع بالضمة والكاف: ضمير متصل في محل جر بالاضافة والميم علامة جمع الذكور. جميعا: حال منصوب بالفتحة من ضمير الجمع.
  • ﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ:
  • الفاء استئنافية. ينبئكم: فعل مضارع مرفوع بالضمة والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. والكاف: ضمير متصل في محل نصب مفعول به والميم علامة جمع الذكور. بما: الباء حرف جر و «ما» اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالباء. كنتم: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع. التاء: ضمير متصل في محل رفع اسم «كان» الفعل الناقص والميم علامة جمع الذكور. والجار والمجرور «بِما» متعلق بينبئ. والعائد الى الموصول «ما» ضمير محذوف منصوب المحل لانه مفعول به التقدير: تعملونه.
  • ﴿ تَعْمَلُونَ:
  • فعل مضارع مرفوع بثبوت النون. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة «تَعْمَلُونَ» في محل نصب خبر «كان». '

المتشابهات :

هود: 4﴿ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
المائدة: 48﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
المائدة: 105﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُون

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [105] لما قبلها :     وبعد دعوة المشركين ليتركوا ما هم عليه من ضلال، وبيان رفضهم وإصرارهم على تقليد الآباء؛ بَيَّنَ اللهُ عز وجل للمؤمنين هنا أنهم لن يحاسبوا على ضلال هؤلاء المشركين، فإن من اهتدى لا يضرُّه ضلالُ من ضلَّ، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

القراءات :

أنفسكم:
قرئ:
بالرفع، على الابتداء، والخبر «عليكم» ، وهى قراءة شاذة.
لا يضركم:
قرئ:
1- بضم الضاد والراء وتشديدها، وهى قراءة الجمهور.
2- بضم الضاد وسكون الراء، من ضار يضور، وهى قراءة الحسن.
3- بكسر الضاد وسكون الراء، من ضار يضير، وهى قراءة النخعي.

مدارسة الآية : [106] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ ..

التفسير :

[106] يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا قَرُب الموت من أحدكم، فلْيُشْهد على وصيته اثنين أمينين من المسلمين، أو آخرين من غير المسلمين عند الحاجة وعدم وجود غيرهما من المسلمين، تُشهدونهما إن أنتم سافرتم في الأرض فحلَّ بكم الموت، وإن ارتبتم ف

يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه. فينبغي له أن يكتب وصيته، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما.{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي:من غير أهل دينكم، من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين.{ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي:سافرتم فيها{ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي:فأشهدوهما، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول، ويؤكد عليهما، بأن يحبسا{ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} التي يعظمونها.{ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أنهما صدقا، وما غيرا ولا بدلا، هذا{ إِنِ ارْتَبْتُمْ} في شهادتهما، فإن صدقتموهما، فلا حاجة إلى القسم بذلك. ويقولان:{ لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي:بأيماننا{ ثَمَنًا} بأن نكذب فيها، لأجل عرض من الدنيا.{ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} فلا نراعيه لأجل قربه منا{ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} بل نؤديها على ما سمعناها{ إِنَّا إِذًا} أي:إن كتمناها{ لَمِنَ الْآثِمِينَ}

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة في تفاصيلها إلا أنها متقاربة في مغزاها.

ومن ذلك ما ذكره ابن كثير بقوله: روى ابن أبى حاتم عن أبن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قال: برىء الناس منها غيرى وغير عدى بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له «بديل بن أبى مريم» بتجارة، معه جام من فضة أى إناء من فضة- يريد به الملك، وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله- أى:

يوصلا ما تركه من متاع لورثته.

قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمنا الثمن أنا وعدى، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.

قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه، فحلف فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ الآيات فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفاه فنزعت الخمسمائة من عدى بن بداء وقال القرطبي: ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدى بن بداء، روى البخاري والدّارقطنيّ وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدى بن بداء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بنى سهم فتوفى بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب- أى عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل- فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كتمتما ولا اطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا:

اشتريناه من عدى وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن الجام للسهمى، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا، قال: فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآيات .

هذا، والمعنى الإجمالى لهذه الآيات: أن الله- تعالى- شرع لكم- أيها المؤمنون- الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا، والاثنان أحوط، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت. وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين بالله بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئا من وصية وما خانا.

فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثة الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت، ليحلفا بالله أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها.

ثم بين- سبحانه- في الآية الثالثة أن ما شرعه الله لهم هو أضمن طريق لأداء الشهادة على وجهها الصحيح وعليهم أن يراقبوه ويتقوه لكي يكونوا من المؤمنين الصادقين:

هذا هو المعنى الإجمالى للآيات الكريمة سقناه قبل تفصيل القول في تفسيرها حتى يتهيأ الذهن لفهمها بوضوح.

قال الآلوسى: وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ.. إلخ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم، إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وفيه من إظهار العناية بمضمونه ما لا يخفى.

وللشهادة معان منها، الإحضار والقضاء، والحكم، والحلف، والعلم والإيصاء، والمراد بها هنا الأخير، كما نص عليه جماعة من المفسرين» .

وقوله: شَهادَةُ يصح أن يكون مبتدأ وخبره قوله: اثْنانِ على حذف مضاف. أى:

شهادة اثنين.

ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف. أى: فيما أمرتم به أن يشهد اثنان: ويكون قوله اثْنانِ فاعلا لقوله شَهادَةُ وعليه تكون إضافة قوله شَهادَةُ إلى الظرف وهو بَيْنِكُمْ على التوسع.

قال القرطبي: قوله شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قيل: معناه شهادة ما بينكم فحذفت «ما» وأضيفت الشهادة إلى الظرف،، واستعمل اسما على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة. ومنه قوله- تعالى- هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أى،: ما بيني وبينك» والمراد بقوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ظهور أماراته وعلاماته وهو ظرف متعلق بقوله:

«شهادة» .

وقوله: حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من الظرف. وفي هذا الإبدال تنبيه على أن الوصية لا ينبغي أن يتهاون فيها.

وقوله: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفة لقوله اثْنانِ وقوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ معطوف على قوله اثْنانِ.

والمراد من غير المسلمين، ويرى بعضهم أن المراد بقوله مِنْكُمْ أى: من قبيلتكم، وبقوله: مِنْ غَيْرِكُمْ أى: من غير قبيلتكم.

وقوله: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بيان لمكان الوصية وزمانها.

والمراد بالضرب في الأرض السفر فيها وقيل للمسافر ضارب في الأرض لأنه يضربها برجليه أو بعصاه.

والمراد بقوله: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أى: فقاربتم نهاية أجلكم بأن أحسستم بدنو الموت منكم. فليس المراد الموت بالفعل وإنما المراد مشارفته ومقاربته.

وسمى- سبحانه- الموت مصيبة، لأنه بطبيعته يؤلم، أو يصحبه أو يقاربه أو يسبقه آلام نفسية.

قال القرطبي: وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما، وادعو عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة، أى تستوثقوا منهما»

فقوله: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ كلام مستأنف لبيان ما يجب على الحاكم أن يفعله عند الشك في أمانة الرجلين اللذين دفع إليهما الميت ما له ليوصلاه إلى أهله.

ومعنى تَحْبِسُونَهُما توقفونهما وتمسكونهما لأداء اليمين اللازمة عليهما والمراد بالصلاة: صلاة العصر. وقد روى ذلك عن ابن عباس وجماعة من التابعين.

قال الفخر الرازي: إنما عرف هذا التعيين بوجوه:

أحدها: أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده، فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ.

وثانيها: ما روى أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد.

وثالثها: أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه، ويحترزون عن الحلف الكاذب .

وقال الزهري: المراد بالصلاة، الصلاة مطلقا: وإنما كان الحلف بعد الصلاة، لأنها داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور.

أى: توقفون- أيها المسلمون- هذين الرجلين بعد الصلاة لأداء اليمين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أى: فيحلفان بالله إِنِ ارْتَبْتُمْ في صدقهما، بأن يقولا: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أى: لا نحصل بيمين الله عرضا من أعراض الدنيا، ولو كان من نقسم له ونشهد عليه قريبا لنا.

وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أى: ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله بإظهارها وأدائها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أى: إنا إذا لنكونن معدودين من المستقرين في الذنوب والآثام إن كتمناها وبدلناها عن وجهها الصحيح.

وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين.

وجواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله. أى: إن ارتبتم فحلفوهما.

والضمير في قوله: بِهِ يعود إلى القسم المفهوم من قوله: فَيُقْسِمانِ أى: فيقسمان بالله لا نشتري بصحة القسم ثمنا مهما كان هذا الثمن.

وقوله: وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى تأكيد لتنزههما عن الحلف الكاذب.

قال صاحب الكشاف: والضمير في بِهِ للقسم وفي كانَ للمقسم له. يعنى:

لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا. أى: لا نحلف كاذبين لأجل المال، ولو كان من يقسم له قريبا منا، على معنى: أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون تحت قوله- تعالى- كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ .

فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أكد هذا القسم بجملة من المؤكدات منها: أن الحالفين يحلفان بأنهما لا يحصلان بيمين الله ثمنا مهما كانت قيمته، وبأنهما لن يحابيا إنسانا مهما بلغت درجة قرابته وبأنهما لن يكتما الشهادة التي أمرهما الله بأدائها على وجهها الصحيح، وبأنهما يقران على أنفسهما باستحقاق عقوبة الآثم المذنب إن كتما أو خانا أو حادا عن الحق، وهذا كله لأجل أن تصل وصية الميت إلى أهله كاملة غير منقوصة.

اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز ، قيل : إنه منسوخ رواه العوفي من ابن عباس . وقال حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم : إنها منسوخة . وقال آخرون - وهم الأكثرون ، فيما قاله ابن جرير - : بل هو محكم ; ومن ادعى النسخ فعليه البيان .

فقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ) هذا هو الخبر ; لقوله : ( شهادة بينكم ) فقيل تقديره : " شهادة اثنين " ، حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان .

وقوله : ( ذوا عدل ) وصف الاثنين ، بأن يكونا عدلين .

وقوله : منكم أي : من المسلمين . قاله الجمهور . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( ذوا عدل منكم ) قال : من المسلمين . رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : روي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك .

قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى : ذلك ( ذوا عدل منكم ) أي : من حي الموصي . وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما .

وقوله : ( أو آخران من غيركم ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن عون ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله : ( أو آخران من غيركم ) قال : من غير المسلمين ، يعني : أهل الكتاب .

ثم قال : وروي عن عبيدة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك .

وعلى ما حكاه ابن جرير ، عن عكرمة وعبيدة في قوله : ( منكم ) أي : المراد من قبيلة الموصي ، يكون المراد هاهنا : ( أو آخران من غيركم ) أي : من غير قبيلة الموصي . وقد روي عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري والزهري ، رحمهما الله .

وقوله : ( إن أنتم ضربتم في الأرض ) أي : سافرتم ( فأصابتكم مصيبة الموت ) وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين ، أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما صرح بذلك شريح القاضي .

قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية .

ثم رواه عن أبي كريب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : قال شريح ، فذكر مثله .

وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله تعالى . وهذه المسألة من إفراده ، وخالفه الثلاثة فقالوا : لا تجوز . وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضا .

وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري قال : مضت السنة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين .

وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام ، والأرض حرب ، والناس كفار ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض ، وعمل الناس بها .

رواه ابن جرير ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .

وقال ابن جرير : اختلف في قوله : ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) هل المراد به أن يوصي إليهما ، أو يشهدهما؟ على قولين :

أحدهما : أن يوصي إليهما ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال : سئل ابن مسعود ، - رضي الله عنه - ، عن هذه الآية قال هذا رجل سافر ومعه مال ، فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته ، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين .

رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع .

والقول الثاني : أنهما يكونان شاهدين . وهو ظاهر سياق الآية الكريمة ، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان : الوصاية والشهادة ، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء ، كما سيأتي ذكرها آنفا ، إن شاء الله وبه التوفيق .

وقد استشكل ابن جرير كونهما شاهدين ، قال : لأنا لا نعلم حكما يحلف فيه الشاهد . وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، وهو حكم مستقل بنفسه ، لا يلزم أن يكون جاريا على قياس جميع الأحكام ، على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص ، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره ، فإذا قامت قرائن الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة .

وقوله تعالى : ( تحبسونهما من بعد الصلاة ) قال [ العوفي ، عن ] ابن عباس : يعني صلاة العصر . وكذا قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وعكرمة ومحمد بن سيرين . وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، وقال السدي ، عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما .

والمقصود : أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم ( فيقسمان بالله ) أي : فيحلفان بالله ( إن ارتبتم ) أي : إن ظهرت لكم منهما ريبة ، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله ( لا نشتري به ) أي : بأيماننا . قاله مقاتل بن حيان ) ثمنا ) أي : لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ( ولو كان ذا قربى ) أي : ولو كان المشهود عليه قريبا إلينا لا نحابيه ( ولا نكتم شهادة الله ) أضافها إلى الله تشريفا لها ، وتعظيما لأمرها .

وقرأ بعضهم : " ولا نكتم شهادة آلله " مجرورا على القسم . رواها ابن جرير ، عن عامر الشعبي . وحكي عن بعضهم أنه قرأ : " ولا نكتم شهادة الله " ، والقراءة الأولى هي المشهورة .

( إنا إذا لمن الآثمين ) أي : إن فعلنا شيئا من ذلك ، من تحريف الشهادة ، أو تبديلها ، أو تغييرها أو كتمها بالكلية .

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: " يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم " ، يقول: ليشهد بينكم =" إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية " ، يقول: وقت الوصية=" اثنان ذوا عدل منكم "، يقول: ذوا رشد وعقل وحِجًى من المسلمين، (48) كما:-

12882 - حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [سورة الطلاق: 2]، قال: ذَوَي عقل. (49)

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " ذوا عدل منكم " .

فقال بعضهم: عنى به: من أهل ملتكم.

* ذكر من قال ذلك:

12883 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب قال : شاهدان " ذوا عدل منكم "، من المسلمين.

12884 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: " اثنان ذوا عدل منكم " ، من المسلمين.

12885- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: " اثنان ذوا عدل منكم "، قال: اثنان من أهل دينكم.

12886 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : سألته, عن قول الله تعالى ذكره: " اثنان ذوا عدل منكم " ، قال: من الملة.

12887- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, بمثله = إلا أنه قال فيه: من أهل الملة.

12888- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية: " اثنان ذوا عدل منكم " ، قال: من أهل الملة.

12889- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن ابن عون, عن ابن سيرين, عن عبيدة, مثله.

12890- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين, عن زائدة, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة, فذكر مثله.

12891 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي, عن حماد, عن ابن أبي نجيح = وقال، حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد, مثله.

12892 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: " ذوا عدل منكم " ، قال: ذوا عدل من أهل الإسلام.

12893 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: " ذوا عدل منكم " ، قال: من المسلمين.

12894- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول: " اثنان ذوا عدل منكم " ، أي: من أهل الإسلام.

* * *

وقال آخرون: عنى بذلك: ذوا عدل من حَيِّ الموصِي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.

* * *

واختلفوا في صفة " الاثنين " اللذين ذكرهما الله في هذه الآية، ما هي, وما هما؟

فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي.

* * *

وقال آخرون: هما وصيان.

* * *

وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان. قولَه: " شهادة بينكم " ، ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم.

* * *

وتأويل الذين قالوا: " هما وصيان لا شاهدان " قولَه: " شهادة بينكم "، بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريضُ, من قولك: " شهدت وصية فلان ", بمعنى حضرته. (50)

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله: " اثنان ذوا عدل منكم " ، تأويلُ من تأوّله بمعنى أنهما من أهل الملة، دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله تعالى ذكره، عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " فغير جائز أن يصرف ما عمَّه الله تعالى ذكره إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون العائدُ من ذكره على العموم, (51) كما كان ذكرهم ابتداءً على العموم.

* * *

وأولى المعنيين بقوله: " شهادة بينكم " اليمين, لا " الشهادة " التي يقوم بها مَنْ عنده شهادة لغيره، لمن هي عنده، على مَن هي عليه عند الحكام. (52) لأنا لا نعلم لله تعالى ذكره حكمًا يجب فيه على الشاهد اليمين, فيكون جائزًا صرفُ" الشهادة " في هذا الموضع، إلى " الشهادة " التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة.

وفي حكم الآية في هذه، اليمينَ على ذوي العدل = وعلى من قام مقامهم، باليمين بقوله (53) " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله " = أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، من أن " الشهادة " فيه: الأيمان، دون الشهادة التي يقضَى بها للمشهود له على المشهود عليه = وفسادِ ما خالفه.

* * *

فإن قال قائل: فهل وجدتَ في حكم الله تعالى ذكره يمينًا تجب على المدَّعي، فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟

فإن قلتَ: " لا ", تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت, لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله: " فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما " ، هما المدعيين.

وإن قلت: " بلى ", قيل لك: وفي أيّ حكم لله تعالى ذكره وجدتَ ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني. وذلك في حكم الرجل يدَّعي قِبَل رجل مالا فيقرّ به المدّعَى عليه قِبَله ذلك، ويدّعي قضاءه. فيكون القول قول ربّ الدين = (54)

والرجل يعرّف في يد الرجل السلعةَ, فيزعم المعرّف في يده أنه اشتراها من المدّعِي، أو أنّ المدعي وهبها له, وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجبَ الله تعالى ذكره في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه. (55)

قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في الرافع قولَه: " شهادة بينكم ", وقولَه: " اثنان ذوا عدل منكم " .

فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: " شهادة بينكم " ، شهادة اثنين ذوي عدل, ثم ألقيت " الشهادة "، وأقيم " الاثنان " مقامها, فارتفعا بما كانت " الشهادة " به مرتفعة لو جعلت في الكلام. (56) قال: وذلك = في حذف ما حذف منه، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف = نظيرُ قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف: 82] ، وإنما يريد: واسأل أهل القرية, وانتصبت " القرية " بانتصاب " الأهل "، وقامت مقامه, ثم عطف قوله: " أو آخران " على " الاثنين ".

* * *

وقال بعض نحويي الكوفة: رفع " الاثنين " ب " الشهادة "، أي: ليشهدكم اثنان من المسلمين, أو آخران من غيركم.

* * *

وقال آخر منهم: رفعت " الشهادة "، ب " إذا حضر ". وقال: إنما رفعت بذلك، لأنه قال: " إذا حضر " فجعلها " شهادة " محذوفة مستأنفة, ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق, لأنه قال تعالى ذكره: " أو آخران من غيركم ", وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال, وليست مما يثبت. (57)

* * *

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: " الشهادة " مرفوعة بقوله: " إذا حضر " ، لأن قوله: " إذا حضر "، بمعنى: عند حضور أحدكم الموت, و " الاثنان " مرفوع بالمعنى المتوهَّم, وهو: أن يشهد اثنان = فاكتفي من قيل: " أن يشهد "، بما قد جرى من ذكر " الشهادة " في قوله: " شهادة بينكم ".

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن " الشهادة " مصدر في هذا الموضع, و " الاثنان " اسم, والاسم لا يكون مصدرًا. غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. (58) فالأمر وإن كان كذلك, فصرْفُ كل ذلك إلى أصح وُجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها.

* * *

القول في تأويل قوله : أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت، عدلان من المسلمين, أو آخران من غير المسلمين.

* * *

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " أو آخران من غيركم " .

فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم، نحو الذي قلنا فيه.

* ذكر من قال ذلك:

12859 - حدثنا حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ قالا (59) حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: " أو آخران من غيركم " ، من أهل الكتاب.

12896- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت قتادة يحدث, عن سعيد بن المسيب: " أو آخران من غيركم " ، من أهل الكتاب.

12897- حدثني أبو حفص الجبيري، عبيد الله بن يوسف قال ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله. (60)

12898 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد, مثله.

12899- حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسليمان التيمي, عن سعيد بن المسيب, أنهما قالا في قوله: " أو آخران من غيركم " ، قالا من غير أهل ملتكم.

12900- حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة قال ، حدثني من سمع سعيد بن جبير يقول, مثل ذلك.

12901 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا التيمي, عن أبي مجلز قال : من غير أهل ملتكم.

12902 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, مثله.

12903 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم قال : إن كان قُرْبَه أحدٌ من المسلمين أشهدهم, وإلا أشهد رجلين من المشركين.

12904 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا هشيم, عن المغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير في قوله: " أو آخران من غيركم " ، قالا من غير أهل ملتكم. (61)

12905- حدثنا عمرو قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد: " أو آخران من غيركم "، قال: من أهل الكتاب.

12906- حدثنا عمرو قال ، حدثنا محمد بن سواء قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله. (62)

12907- حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي = عن شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.

12908 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: " اثنان ذوا عدل منكم "، من المسلمين, فإن لم تجدوا من المسلمين, فمن غير المسلمين.

12909 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود, عن عامر, عن شريح في هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته, فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا, فشهادتهم جائزة. (63) فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما, أجيزت شهادة المسلمين, وأبطلت شهادة الآخرَيْن. (64)

12910 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية, ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفَر.

12911- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصرانيّ إلا في سفر, ولا تجوز في سفر إلا في وصية. (65)

12912 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح, نحوه.

12913 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي قال ، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قال : كتب هشام بن هُبَيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين, فكتب: " لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية, ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرًا ".

12914 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن أشهب, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : سألته عن قول الله تعالى ذكره: " أو آخران من غيركم " ، قال: من غير الملة.

12915- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, بمثله.

12916- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة, عن ذلك فقال: من غير أهل الملة.

12917- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن هشام, عن ابن &; 11-164 &; سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل الصلاة.

12918- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل دينكم.

12919- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين, عن زائدة, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل الملة.

12920- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا أبو حرّة, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة: " أو آخران من غيركم " ، قال: من غير أهل ملتكم.

12921- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال، حدثنا هشام بن محمد قال ، سألت سعيد بن جبير عن [ قول الله: " أو آخران من غيركم " ، قال: من غير أهل ملتكم] . (66)

12922 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

12923- حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال : من غير أهل ملتكم.

12924 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: " أو آخران من غيركم " ، من غير أهل الإسلام.

12925 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، قال أبو إسحاق: " أو آخران من غيركم " ، قال: من اليهود والنصارى = قال قال شريح: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصراني إلا في وصية, ولا تجوز في وصية إلا في سفر.

12926 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا, عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقَا هذه. (67) قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهده رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة, فأتيا الأشعريّ فأخبراه, وقدِما بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأحلفهما وأمضى شهادتهما. (68)

12927 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة الأزرق, عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدَقوقَا.

12928 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم قال ، حدثنا عوف, عن محمد: أنه كان يقول في قوله: " اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " ، شاهدان من المسلمين وغير المسلمين.

12929 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: " أو آحران من غيركم " ، من غير أهل الإسلام.

12930- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو حفص, عن ليث, عن مجاهد قال : من غير أهل الإسلام.

12931 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش قال : قال زيد بن أسلم في هذه الآية: " شهادة بينكم " الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام, وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار, إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة, وكان الناس يتوارثون بالوصية, ثم نُسِخت الوصية وفرضت الفرائض, وعمل المسلمون بها. (69)

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيِّكم وعشيرتكم.

* ذكر من قال ذلك:

12932 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم قال ، حدثنا عوف, عن الحسن في قوله: " اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " ، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم. (70)

12933 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري قال : مضت السُّنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر, إنما هي في المسلمين. (71)

12934- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال : كان الحسن يقول: " اثنان ذوا عدل منكم " ، أي: من عشيرته =" أو آخران من غيركم " ، قال: من غير عشيرته.

12935 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن ثابت بن زيد, عن عاصم, عن عكرمة: " أو آخران من غيركم " ، قال: من غير أهل حيِّكم.

12936- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي, عن ثابت بن زيد, عن عاصم, عن عكرمة: " أو آخران من غيركم "، قال: من غير حيكم.

12937- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا ثابت بن زيد, عن عاصم الأحول, عن عكرمة في قول الله تعالى ذكره: " أو آخران من غيركم " ، قال: من غير أهل حيه = يعني: من المسلمين.

12938- حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك, عن الحسن: " أو آخران من غيركم " ، قال: من غير عشيرتك, ومن غير قومك، كلهم من المسلمين.

12939- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن عبيدة قوله: " أو آخران من غيركم " ، قال: مسلمين من غير حيكم.

12940 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى ذكره: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " ، إلى قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ، قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله، من غير أهل المرء الموصي، أهما من المسلمين، أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما, أتراهما من [غير] أهل المرء الموصي، (72) أم هما من غير المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أئمة العامة، سنة أذكرها, وقد كنا نتذاكرها أناسًا من علمائنا أحيانًا, فلا يذكرون فيها سُنة معلومة، ولا قضاءً من إمام عادل, ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيًا إلينا، الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين, يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه، ويغيب عنه بعضهم, ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضرُوا من وصية. فإن سلّموا جازت وصيته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدَّلوا قولَ الميت، وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء، حَلَف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة، وهي صلاة المسلمين, فيقسمان بالله: " إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين ". فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما، ما لم يعثر على أنهما [استحقا إثمًا في شيء من ذلك, فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا في شيء من ذلك ] ، (73) قام آخران مقامهما من أهل الميراث، من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوَّلان المستحلفان أول مرة, فيقسمان بالله لشهادتنا [ أحق من شهادتكما] ، (74) على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به = وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ = ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ، الآية.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب، تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام. وذلك أن الله تعالى عرَّف عباده المؤمنين عند &; 11-169 &; الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم, وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم = أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين.

فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام, فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه. (75)

وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى: " ذوا عدل منكم " ، إنما هو من أهل دينكم وملتكم، بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه.

وإذ صح ذلك بما دللنا عليه, فمعلوم أن معنى قوله: " أو آخران من غيركم " ، إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك, فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا، يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدَيْ وثَن، أو على أي دين كانا. لأنّ الله تعالى ذكره لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دونَ ملة، بعد أن يكونا من [غير] أهل الإسلام. (76)

* * *

القول في تأويل قوله : إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ وقتَ الوصية, أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، أيها المؤمنون، أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم, إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض.

* * *

وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر: " الضارب في الأرض ". (77)

=" فأصابتكم مصيبة الموت " ، يقول: فنـزل بكم الموت. (78)

* * *

ووجَّه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير، وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم إن وجدا, فإن لم يوجدا فآخران من غيركم = وإنما فعل ذلك من فعله, لأنه وجَّه معنى " الشهادة " في قوله: " شهادة بينكم " ، إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيامَ صاحبها عند الحاكم, أو يُبطلها. * ذكر بعض من تأول ذلك كذلك:

12941 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: " ذوا عدل منكم " ، من المسلمين. فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.

12942 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: " اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " ، قال: اثنان من أهل دينكم =" أو آخران من غيركم " ، من أهل الكتاب، إذا كان ببلادٍ لا يجد غيرهم.

12943 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود, عن عامر, عن شريح في هذه الآية: " شهادة بينكم " إلى قوله: " أو آخران من غيركم " ، قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته, فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا, فشهادتهم جائزة.

12944 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " ، قال: هذا في الحضر=" أو آخران من غيركم " ، في السفر =" إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " ، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين, (79) فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما.

12945 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " الآية ، قال : إذا حضر الرجلَ الوفاةُ في سفر, فيشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب.

12946 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى قوله: " ذوا عدل منكم " ، فهذا لمن مات وعنده المسلمون, فأمره الله أن يشهد على وصيته عَدْلين من المسلمين. ثم قال: " أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " ، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين, فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين.

* * *

ووجَّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير, وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمانَ الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدِّياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يتَّمِن الرجلُ على ماله من رآه موضعًا للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر. (80) وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى, وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد.

* * *

القول في تأويل قوله : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت, إن شهد اثنان ذوا عدل منكم, أو كان أوصى إليهما = أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنيّة، فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم. فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فأصابتكم مصيبة الموت, فأدَّيا إلى ورثتكم ما اتَّمنتموهما وادَّعوا عليهما خيانة خاناها مما اتُّمنا عليه, (81) فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما = يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف, وهو: " فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم وصيتكم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال ", فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة =" فيقسمان بالله إن ارتبتم " ، يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اُّتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها = و " الارتياب "، هو الاتهام (82) =" لا نشتري به ثمنًا " ، &; 11-173 &; يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنًا, يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه، وعلى مال نذهب به، (83) أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وَليُّهم وميِّتهم. (84)

* * *

و " الهاء " في قوله: " به "، من ذكر " الله " , والمعنيُّ به الحلف والقسم، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به, فعُرِف معنى الكلام, اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. (85)

=" ولو كان ذا قربى " ، يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضًا فنكذب فيها لأحد, ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا. (86)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.

* ذكر من قال ذلك:

12947- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت "، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين, فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلا.

* * *

وقوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة " ، من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة، إن ارتبتم بهما, فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى.

* * *

واختلفوا في" الصلاة " التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فقال: " تحبسونهما من بعد الصلاة " .

فقال بعضهم: هي صلاة العصر.

* ذكر من قال ذلك:

12948 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا, فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة, فأتيا الأشعري فأخبراه, وقدما بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما، ولا غيَّرا, وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. (87)

12949 - حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: " أو آخران من غيركم " ، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب, فإنهما يحلفان بعد العصر.

12950 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, بمثله.

12951 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى " فأصابتكم مصيبة الموت "، فهذا رجل مات بغُرْبة من الأرض، وترك تركته، وأوصى بوصيته، وشهد على وصيته رجلان. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر. وكان يقال: عندها تصير الأيمان.

12952 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنهما قالا في هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " ، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر, فليشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب. فإذا قدما بتركته, فإن صدّقهما الورثة قُبِل قولهما, وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خُنَّا ولا غيَّرنا.

12953- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن القطان قال ، حدثنا زكريا قال ، حدثنا عامر: أن رجلا توفي بدَقُوقا, فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها. فأحلفهما أبو موسى دُبُر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غيرا, وأن هذه الوصية. فأجازها. (88)

* * *

وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما.

* ذكر من قال ذلك:

12954 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى قوله: " ذوا عدل منكم " ، قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما لَهُ وعليه، قال : هذا في الحضر=" أو آخران من غيركم " في السفر =" إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " ، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين, فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مالَ صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم " . قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتُهِى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره, (89) ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخوَّنوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر, فقلت له: " إنهما لا يباليان صلاة العصر, ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما, فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, ويحلفان بالله: لا نشتري ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذًا لمن الآثمين, أنّ صاحبهم لبهذا أوصى, وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما, ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك, فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا, قولُ من قال: " تحبسونهما من بعد صلاة العصر ". لأن الله تعالى عرَّف " الصلاة " في هذا الموضع بإدخال " الألف واللام " فيها, ولا تدخلهما العرب إلا في معروف, إما في جنس, أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك, وكانت " الصلاة " في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات, لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى, لأن لهم صلوات ليست واحدة, فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك, صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك, وكان النبي صلى الله عليه وسلم صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات (90) = كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة "، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت, وذلك لقربه من غروب الشمس.

* * *

وكان ابن زيد يقول في قوله: " لا نشتري به ثمنًا " ، ما:-

12955 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " لا نشتري به ثمنًا " ، قال: نأخذ به رشوة.

* * *

القول في تأويل قوله : وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106)

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة " الشهادة " إلى " الله " ، وخفض اسم الله تعالى = يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا.

* * *

وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:-

12956 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن ابن عون, عن عامر: أنه كان يقرأ: ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) = بقطع " الألف "، وخفض اسم الله = هكذا حدثنا به ابن وكيع.

* * *

وكأن الشعبي وجَّهَ معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا، &; 11-178 &; ولا نكتم شهادةً عندنا. ثم ابتدأ يمينًا باستفهام: بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين.

* * *

وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية, وذلك ما:-

12957- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا عباد بن عباد, عن ابن عون, عن الشعبي: أنه قرأ: ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) = (91) قال أحمد: قال أبو عبيد: تنوّن " شهادة " ويخفض " الله " على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع " الألف " على الاستفهام. (92)

* * *

قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام. (93)

* * *

وقرأها بعضهم: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بتنوين " الشهادة "، ونصب اسم " الله " بمعنى: ولا نكتم الله شهادةً عندنا.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب, قراءة من قرأ: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة " الشهادة " إلى اسم " الله " ، وخفض اسم " الله " لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة.

* * *

وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا. (94)

12958 - حدثني بذلك يونس قال ، أخبرنا ابن زيد، عنه.

----------------------------

الهوامش :

(48) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.

(49) الأثر: 12882 -"عبيد الله بن يوسف الجبيري" ، "أبو حفص البصري" ، شيخ الطبري ، ثقة. روي له ابن ماجه. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة: "عبد الله بن يوسف" ، وهو خطأ. ومضى في رقم: 109 ، ولم يترجم هناك.

وهذا الخبر في تفسير الآية الثانية من"سورة الطلاق" ، ولم يذكره أبو جعفر هناك في تفسير الآية. فهذا من ضروب اختصاره تفسيره.

(50) انظر تفسير"شهد" فيما سلف من فهارس اللغة ، واختلاف معانيها.

(51) في المطبوعة: "من ذكرهم" ، وما في المخطوطة صواب محض.

(52) كان صدر هذه العبارة في المخطوطة: "شهادة بينكم ، لأن الشهادة . . ." ، أسقط لفظ"اليمين" ، وجعل"لا الشهادة" ، "لأن الشهادة" ، وهو فاسد ، والذي في المطبوعة هو الصواب المحض إن شاء الله ، وهو مطابق لما رواه القرطبي في تفسيره 6: 348 ، عن أبي جعفر الطبري.

(53) في المطبوعة هنا"في اليمين بقوله" غير ما في المخطوطة ، وأفسد الكلام. والسياق"وفي حكم الآية . . . باليمين . . . أوضح الدليل . . .".

(54) قوله: "والرجل يعترف" ، معطوف على قوله: "في حكم الرجل . . . .". وكان في المطبوعة هنا"والرجل يعترف . . . فيزعم المعترفة" ، وهو خطأ ، وصوابه ما أثبت كما في المخطوطة.

(55) في المطبوعة: " . . . على الجانبين فيما جنيا فيه" ، وهو لا معنى له هنا. وفي المخطوطة: "على الجانبين فيما صاهما فيه" ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(56) في المطبوعة والمخطوطة: "بما كانت الشاهدة به مرتفعة" ، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه ما أثبت.

(57) في المطبوعة: "مما ثبت" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(58) "الأفعال": المصادر. وانظر فهارس المصطلحات فيما سلف.

(59) في المطبوعة والمخطوطة: "يونس بن معاذ" ، وهو خطأ محض. و"بشر بن معاذ" عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة" إسناد دائر في أكثر صفحات هذا التفسير.

(60) الأثر: 12897 -"أبو حفص الجبيري" ، "عبيد الله بن يوسف" ، مضى قريبًا رقم: 12882.

(61) الأثر: 12904 -"أبو قتيبة" هو"سلم بن قتيبة الشعيري الفريابي". مضى برقم: 1899 ، 1924 ، 6395 ، 9714. وكان في المطبوعة: "قتيبة" ، غير كنية ، والصواب من المخطوطة.

(62) الأثر: 12906 -"عمرو" هو"عمرو بن علي الفلاس" ، مضى مرارًا.

و"محمد بن سواء بن عنبر السدوسي العنبري". صدوق ، ثقة ، متكلم فيه. مترجم في التهذيب.

وكان في المطبوعة: "محمد بن سوار" وهو خطأ ، وفي المخطوطة: "محمد بن سوا" ، وأساء الناشر قراءته.

(63) في المطبوعة: "فشهادتها" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، وسيأتي كذلك في رقم: 12974.

(64) الأثر: 12909 - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثني المثنى". والصواب ما أثبته ، وسيأتي هذا الخبر في موضعين بهذا الإسناد على الصواب ، وذلك رقم: 12943 ، 12974 ، ولذلك رددته إلى الصواب.

(65) في المطبوعة: "اليهود والنصارى" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(66) الأثر: 12921 - انتهى هذا الأثر في المخطوطة عند قوله: " . . . سعيد بن جبير عن" ووضع الناسخ في المخطوطة حرف (ط) بالأحمر في الهامش ، دلالة على الخطأ والشك. أما المطبوعة ، فزادت ما وضعته بين القوسين ، وهو صواب في المعنى إن شاء الله.

(67) "دقوقا" و"دقوقاء" ، مقصورًا وممدودًا؛ مدينة بين إربل وبغداد معروفة ، لها ذكر في الأخبار والفتوح ، كان بها وقعة للخوارج ، وكثر ذكرها في بعض أشعار الخوارج.

وكان في المطبوعة: " . . . بدقوقا ، ولم يجد أحدًا من المسلمين" ، حذف ما أثبته من المخطوطة.

وأساء. وظاهر من الخبر أن الشعبي قال هذا ، وهو يومئذ بدقوقا. وهو أيضًا ثابت في سنن أبي داود.

(68) الأثر: 12926 - رواه أبو داود في سننه 3: 417 رقم: 3605 .

(69) الأثر: 12931 -"عبد الله بن عياش بن عباس القتباني" ، "أبو حفص" المصري. مضى برقم: 12177. وكان في المطبوعة: "عبد الله بن عباس" ، وهو خطأ ، وهو على الصواب في المخطوطة.

(70) الأثر: 12932 -"عثمان بن الهيثم بن الجهم بن عيسى العصري العبدي" ، وهو"الأشج العصري" ثقة. علق عنه البخاري. يروي عن عوف الأعرابي ، مترجم في التهذيب.

(71) الأثر: 12933 -"صالح بن أبي الأخضر اليمامي" ، خادم الزهري ، مضى برقم: 9312.

(72) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها. وفي المخطوطة كما كانت في المطبوعة ، إلا أن الناسخ وضع في الهامش علامة الشك ، وهي هكذا (1) ، فأثبت الصواب إن شاء الله.

(73) هذه الجملة التي بين القوسين ، ليست في المخطوطة ، ووضع في المطبوعة مكانها: "فإن عثر" ، واقتصر على ذلك ، واستظهرت الجملة من سياق أبي جعفر.

(74) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من الآية والسياق.

(75) في المطبوعة: "صرف مغلق كلام الله" ، وفي المخطوطة: "معلق" ، وصواب قراءتها"معنى"

(76) هذه الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، وإلا فسد الكلام.

(77) انظر تفسير"الضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593/7: 332/9: 123.

(78) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف 8: 514 ، 538 ، 555/10: 393 ، 404

(79) في المطبو

التدبر :

وقفة
[106] سبب النزول: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ r، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلَفَا: (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا)، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ﴾. [البخاري 2780].
وقفة
[106] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ...﴾ الترغيب في كتابة الوصية، مع صيانتها بإشهاد العدول عليها.
وقفة
[106] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ...﴾ الميت إذا حضره الموت في سفر، فينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين، فإن لم يجد إلا شاهدین کافرین، جاز أن يوصى إليهما، ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما، فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة، أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين، فإن شاء أولياء الميت، فليقم منهم اثنان، فيقسان بالله: لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما خانا وكذبا، فيستحقون منها ما يدعون.
عمل
[106] اكتب وصيتك قبل نومك هذه الليلة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ...﴾.
عمل
[106] انصح من حولك بالحرص على كتابة الوصية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ...﴾.
وقفة
[106] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾ الوصية معتبرة، ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته، ما دام عقله ثابتًا.
وقفة
[106] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ شهادة الوصية لابد فيها من شاهدين اثنين ذوي عدل.
وقفة
[106] ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ المفعول به (أَحَدَكُمُ) مقدم للاهتمام به، ولإبعاد شبح الموت الحقيقي بتأخير الفاعل (الْمَوْتُ).
وقفة
[106] ﴿فَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ﴾ وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة، والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى، فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر.
وقفة
[106] ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّـهِ﴾ إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة: تعظيمًا للوقت، وإرهابًا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت.
وقفة
[106] ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّـهِ﴾ الصلاة تنهى عن المنكر، ومن ضمن هذه المنكرات: الكذب.
وقفة
[106] ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّـهِ﴾ لا يصلي أحد صلاة كما أمر الله إلا وعظم شأن الكذب في قلبه.
وقفة
[106] ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّـهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّـهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ﴾ بيان الصورة الشرعية لسؤال الشهود عن الوصية.
وقفة
[106] ﴿وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّـهِ﴾ أي: الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها، وإضافتها إلى الله تعظيمًا لها.

الإعراب :

  • ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:
  • يا: أداة نداء. أي: منادى مبني على الضم في محل نصب و «ها» للتنبيه. الذين: اسم موصول مبني على الفتح بدل من «أيّ». آمنوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. وجملة «آمَنُوا» صلة الموصول لا محل لها.
  • ﴿ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ:
  • شهادة: مبتدأ مرفوع بالضمة. بينكم: مضاف إليه مجرور بالكسرة والكاف ضمير متصل في محل جر بالاضافة والميم للجمع.
  • ﴿ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ:
  • إذا: ظرف زمان مبني على السكون أداة شرط غير جازمة. حضر: فعل ماض مبني على الفتح. أحدكم: مفعول به مقدم منصوب بالفتحة. الكاف: ضمير متصل في محل جر بالاضافة والميم علامة جمع الذكور حركت بالضم للاشباع. وجملة «حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» في محل جر بالاضافة. و «إِذا» متعلق بالشهادة. وجواب الشرط محذوف بتقدير. اذا حضر أحدكم الموت فانتخبوا شاهدين من أقاربكم لذلك.
  • ﴿ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ:
  • الموت: فاعل مرفوع بالضمة. حين: ظرف زمان منصوب بالفتحة متعلق بحضر. الوصية: مضاف إليه بالكسرة. وشبه الجملة «حِينَ الْوَصِيَّةِ» بدل من «إِذا حَضَرَ».
  • ﴿ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ:
  • خبر المبتدأ «شَهادَةُ» مرفوع بالألف لأنه مثنى. ذوا: صفة لاثنان مرفوع بالألف لأنه مثنى «ذو» وحذفت النون للاضافة. عدل: مضاف إليه مجرور بالكسرة. منكم: جار ومجرور متعلق بصفة محذوفة من «اثْنانِ» والميم علامة جمع الذكور والتقدير: شهادة بينكم. شهادة اثنين ويجوز أن تعرب «اثْنانِ» فاعلا على معنى: فيما فرض عليكم ان يشهد اثنان.
  • ﴿ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ:
  • أو: حرف عطف للتخيير. آخران: معطوفة بالواو على «اثْنانِ» مرفوعة مثلها بتقدير أو شاهدان آخران. من غيركم: جار ومجرور متعلق بصفة محذوفة من «آخَرانِ». الكاف ضمير متصل في محل جر بالاضافة والميم علامة الجمع.
  • ﴿ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ:
  • إن: حرف شرط جازم. أنتم: ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع فاعل لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور بعده. ضربتم: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع. والتاء ضمير متصل في محل رفع فاعل والميم علامة جمع الذكور وجواب الشرط محذوف لأن الشرط دل عليه. أي بتقدير: وان كنتم على سفر فيصح أن يكونا من غير أقاربكم ... أو بتقدير: إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم. فاستشهدوا أجنبيين على الوصية. في الأرض: جار ومجرور متعلق بضربتم. وجملة ضربتم في محل جزم بإن لأنها فعل الشرط.
  • ﴿ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ:
  • فأصابتكم: الفاء: عاطفة. أصابت: فعل ماض مبني على الفتح والتاء تاء التأنيث الساكنة. الكاف: ضمير متصل في محل نصب مفعول به مقدم. الميم علامة جمع الذكور. مصيبة: فاعل مرفوع بالضمة. الموت: مضاف إليه مجرور بالكسرة.
  • ﴿ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ:
  • تحبسون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون. والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. الهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. الميم: حرف عماد والألف علامة التثنية. من بعد: جار ومجرور متعلق بتحبسون. الصلاة: مضاف إليه مجرور بالكسرة.
  • ﴿ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ:
  • الفاء: استئنافية. يقسمان: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لانه من الافعال الخمسة الالف ضمير متصل في محل رفع فاعل. بالله: جار ومجرور للتعظيم مقسم به متعلق بيقسمان.
  • ﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً:
  • إن: حرف شرط جازم. ارتبتم: تعرب إعراب «ضَرَبْتُمْ» والفعل «ارتاب» فعل الشرط في محل جزم بأن. وجواب الشرط محذوف لتقدم معناه. أي: إن ارتبتم في شهادتهما فاحبسوهما من بعد الصلاة. لا: نافية لا عمل لها. نشتري: فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: نحن. به: جار ومجرور متعلق بنشتري. ثمنا: مفعول به منصوب بالفتحة. وجملة «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً» في محل نصب مفعول به- مقول القول- لفعل محذوف أو لمصدر الفعل بتقدير: فيقسمان لكم بالله قائلين وجملة «إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً» جملة اعتراضية بين القسم والمقسم عليه لا محل لها من الإعراب.
  • ﴿ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى:
  • الواو: اعتراضية. لو: وصلية. كان: فعل ماض ناقص مبني على الفتح واسمها ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو أي المتوفى. ذا: خبر «كانَ» منصوب بالألف لأنه من الاسماء الخمسة وهو مضاف. قربى: مضاف إليه مجرور بالكسرة المقدرة على الألف للتعذر وجملة «لَوْ كانَ ذا قُرْبى» جملة اعتراضية لا محل لها. وأعربت «لَوْ» وصلية بمعنى «إن» ويجوز أن تعرب أداة شرط غير جازمة وجواب الشرط محذوف لتقدم معناه. بتقدير: ولو كان ذا قربى فلا نشتري به ثمنا.
  • ﴿ وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ:
  • الواو: عاطفة. لا: زائدة لتأكيد النفي. نكتم: معطوفة على «نَشْتَرِي» وتعرب إعرابها وعلامة رفع الفعل الضمة الظاهرة شهادة: مفعول به منصوب بالفتحة. الله لفظ الجلالة: مضاف إليه مجرور للتعظيم بالكسرة.
  • ﴿ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ:
  • إنّ: حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل و «نا» ضمير متصل في محل نصب اسمها. إذا: حرف جواب لا عمل له. لمن: اللام: كلمة لام التوكيد مزحلقة. من: حرف جر. الآثمين: اسم مجرور بمن وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض عن تنوين المفرد. والجار والمجرور في محل رفع خبر «إن». '

المتشابهات :

البقرة: 180﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ
المائدة: 106﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ

أسباب النزول :

  • * سَبَبُ النُّزُولِ: أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مُخوَّصاً من ذهب فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم وجد الجامُ بمكة، فقالوا ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أوليائه فحلفالشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم قال: وفيهم نزلت هذه الآيةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ). * دِرَاسَةُ السَّبَبِ: هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث ومثله معه منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.قال ابن عطيةلا نعلم خلافًا أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء كانا نصرانيين.) اهـ ثم ساق الحديث.وقال القرطبيولا أعلم خلافاً أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء) اهـ.وقال السعديوهذه الآيات الكريمة، نزلت في قصة تميم الداري، وعدي بن بداء المشهورة حين أوصى لهما العدوي والله أعلم) اهـ.وقال ابن عاشوروقد حدثت في آخر حياة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية وذكر كلامًا إلى أن قال: ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية وهي أن رجلين أحدهما تميم الداري والآخر عدي بن بداء.وحيث إن السبب المذكور معنا مختصر لا يتحقق بقراءته فهم القصة فإني سأذكر القصة كما سردها الطاهر بن عاشور في تفسيره فقال: ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية: هي أن رجلين أحدهما تميم الداري اللخمي، والآخر عدي بن بداء، كانا من نصارى العرب تاجرين، وهما من أهل دارين، وكانا يتجران بين الشام، ومكة، والمدينة. فخرج معهما من المدينة بُديل بن أبي مريم مولى بني سهم - وكان مسلماً - بتجارة إلى الشام، فمرض بديل (قيل في الشام وقيل في الطريق براً أو بحراً) وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوَّص بالذهب قاصداً به ملك الشام، فلما اشتد مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسَّها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلّغاه مواليَه من بني سهم، وكان بديل مولى للعاصي بن وائلٍ السهمي، فولاؤه بعد موته لابنه عمرو بن العاص.وبعض المفسرين يقول: إن ولاء بُديل لعمرو ابن العاصي والمطلب بن وداعة، ويؤيد قولهم أن المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أن الجام لبديل بن أبي مريم. فلما رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا ما لبديل إلى مواليه. فلما نشروه وجدوا الصحيفة فقالوا لتميم وعدي: أين الجام فأنكرا أن يكون دفع إليهما جامًا. ثم وجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال: إنه ابتاعه من تميم وعدي.وفي رواية أن تميماً لما أسلم في سنة تسع تأثم مما صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع إليه الخمسمائة درهم الصائرة إليه من ثمنه، وطالب عمرو عدياً ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه. وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية ... إلى أن قال: واتفقت الروايات على أن الفريقين تقاضوا في ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونزلت هذه الآية في ذلك، فحلف عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على أن تميمًا وعديًا أخفيا الجام، وأن بُديلاً صاحبه وما باعه ولا خرج من يده، ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذ نصراني) اهـ. ولأن الآيات النازلة على هذا السبب لا يتأتى معرفة تفسيرها لكل أحد فسأذكر تفسيرها نقلاً من تفسير السعدي - رحمه الله - حيث قال:(يخبر تعالى خبرًا متضمنًا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية إذا حضر الإنسان مقدمات الموت وعلائمه، فينبغي له أن يكتب وصيته ويُشهد عليها (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ) ممن تعتبر شهادتهما، (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي: من غير أهل دينكم من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين، (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم فيها، (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي: فأشهدوهما ولم يأمر بإشهادهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ويؤكد عليهما، أن يحبسا من بعد الصلاة التي يعظمونها، (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ) أنهما صدقا وما غيرا وما بدلا هذا (إِنِ ارْتَبْتُمْ) في شهادتهما، فإن صدقتموهما فلا حاجة إلى القسم بذلك.ويقولانلَا نَشْتَرِي بِهِ) أي بأيماننا (ثَمَنًا) بأن نكذب فيها لأجل عرض من الدنيا (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) فلا نراعيه لأجل قربه منا (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ) بل نؤديها على ما سمعناها (إِنَّا إِذًا) أي إن كتمناها (لَمِنَ الْآثِمِينَ).(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا) أي الشاهدين (اسْتَحَقَّا إِثْمًا) بأن وجد من القرآن ما يدل على كذبهما، وأنهما خانا (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) أي: أنهما كذبا وغيَّرا وخانا، (وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي: إن ظلمنا واعتدينا وشهدنا بغير الحق.قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانةذَلِكَ أَدْنَى) أي أقرب (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) أي: أن لا تقبل أيمانهم ثم ترد على أولياء الميت (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي الذين وصفهم الفسق فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.وحاصل هذا أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين - أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين، فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين جاز أن يوصي إليهما. ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، ولا بدَّلا فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما.فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين فإن شاء أولياء الميت فليقم منهم اثنان فيقسمان بالله: لشهادتنا أحق من شهادة الشاهدين الأولين وأنهما خانا وكذبا فيستحقون منهما ما يدّعون) اهـ. * النتيجة: أن سبب النزول المذكور في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كان سبباً لنزول الآيات الكريمات وذلك لصحة إسناده، وموافقة سياقه لظاهر الآية واحتجاج المفسرين به وتعويلهم عليه والله أعلم.'
  • المصدر لباب النقول

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [106] لما قبلها :     لمَّا ذكرَ اللهُ عز وجل أن المرجعَ إليه بعدَ الموتِ فيُحاسِبُنا ويُجازينا؛ ناسَبَ أنْ يُرشدَنا هنا إلى الوصيَّةِ قبلَ الموتِ، وإلى العنايةِ بالإشهادِ عليها لئلَّا تضيعَ، قال تعالى:
﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ

القراءات :

شهادة:
قرئ:
1- بالرفع، لإضافته إلى «بينكم» ، وهى قراءة الجمهور.
2- بالرفع والتنوين، وهى قراءة الشعبي، والحسن، والأعرج.
3- بالنصب والتنوين، وهى قراءة السلمى.
ولا نكتم:
وقرئ:
بجزم الميم، نهيا، وهى قراءة الحسن، والشعبي.
شهادة الله:
قرئا:
1- بنصبهما وتنوين «شهادة» ، والتقدير: ولا نكتم الله شهادة، وهى قراءة على، ونعيم بن ميسرة، والشعبي، بخلاف عنه.
2- بتنوين «شهادة» ، و «الله» بمد همزة الاستفهام، التي هى عوض من حرف القسم، دخلت تقريرا وتوفيقا لنفوس المقسمين، أو لمن خاطبوه، وقد رويت عن على، والسلمى، والحسن البصري.
3- الوقوف على «شهادة» بالهاء الساكنة، و «الله» بقطع الف الوصل دون مد الاستفهام، وقد رويت عن الشعبي.

مدارسة الآية : [107] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا ..

التفسير :

[107] فإن اطَّلع أولياء الميت على أن الشاهدين المذكورين قد أثما بالخيانة في الشهادة أو الوصية، فليقم مقامهما في الشهادة اثنان من أولياء الميت فيقسمان بالله:لَشهادتنا الصادقة أولى بالقَبول من شهادتهما الكاذبة، وما تجاوزنا الحق في شهادتنا، إنا إن اعتدينا و

{ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا} أي:الشاهدين{ اسْتَحَقَّا إِثْمًا} بأن وجد من القرائن ما يدل على كذبهما وأنهما خانا{ فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} أي:فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه.{ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي:أنهما كذبا، وغيرا وخانا.{ وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي:إن ظلمنا واعتدينا، وشهدنا بغير الحق.

ثم بين- سبحانه- الحكم فيما إذا تبين أن الرجلين اللذين دفع إليهما الموصى ما له لم يكونا أمينين فقال: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ.

وقوله: عُثِرَ أى: اطلع. يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه. ويقال:

عثرت منه على خيانة أى: اطلعت.

وقوله: الْأَوْلَيانِ تثنية أولى بمعنى أقرب. فالمراد بقوله الْأَوْلَيانِ أى: الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت.

والمعنى: فان اطلع بعد تحليف الشاهدين الوصيين من جهة الميت على أنهما اسْتَحَقَّا إِثْماً أى: فعلا ما يوجب الإثم من خيانة أو كتمان أو ما يشبههما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أى:

فرجلان آخران يقومان مقام اللذين اطلع على خيانتهما: أى يقفان موقفهما في الحبس بعد الصلاة والحلف ويكون هذان الرجلان الآخران مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ.

قال القرطبي: قال ابن السرى: أى من الذين استحق عليهم الإيصاء واختاره ابن العربي وأيضا فإن التفسير عليه، لأن المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية وقال بعض العلماء: قوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أى: من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أى: الأقربان إلى الميت، الوارثان له. الأحقان بالشهادة، أى:

اليمين. فقوله الْأَوْلَيانِ فاعل اسْتَحَقَّ.

ومفعول اسْتَحَقَّ محذوف، قدره بعضهم «وصيتهما» وقدره ابن عطية «ما لهم وتركتهم» وقدره الزمخشري. أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين.

وقرئ اسْتَحَقَّ على البناء للمفعول. أى من الذين استحق عليهم الإثم أى «جنى عليهم» ، وهم أهل الميت وعشريته. وعليه فقوله: الْأَوْلَيانِ هو بدل من الضمير في يَقُومانِ أو من فَآخَرانِ .

وقوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ بيان لكيفية اليمين التي يحلفها هذان الأوليان.

أى: فيحلف بالله هذان الأوليان- أى الأقربان إلى الميت- قائلين لَشَهادَتُنا أى:

ليميننا أَحَقُّ بالقبول مِنْ شَهادَتِهِما أى: من يمينهما وَمَا اعْتَدَيْنا أى: وما تجاوزنا الحق في يميننا وفيما نسبناه إليهما من خيانة إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أى إنا إذا اعتدينا وقلنا فيهما خلاف الحق لنكونن في زمرة الظالمين لأنفسهم المستحقين لسخط الله وعقابه.

قال الآلوسى: وقوله فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ معطوف على يَقُومانِ في قوله: فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما والسببية ظاهرة وقوله: لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما جواب القسم. والمراد بالشهادة هنا- عند الكثيرين- اليمين كما في قوله- تعالى- فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ.

وصيغة التفضيل أَحَقُّ إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما» .

ثم قال تعالى : ( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) أي : فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين ، أنهما خانا أو غلا شيئا من المال الموصى به إليهما ، وظهر عليهما بذلك ( فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) هذه قراءة الجمهور : " استحق عليهم الأوليان " . وروي عن علي وأبي والحسن البصري أنهم قرؤوها : ( استحق عليهم الأوليان ) .

وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفروي ، عن سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ : ( من الذين استحق عليهم الأوليان ) ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .

وقرأ بعضهم ، ومنهم ابن عباس : " من الذين استحق عليهم الأولين " . وقرأ الحسن : " من الذين استحق عليهم الأولان " ، حكاه ابن جرير .

فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك : أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال ( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ) أي : لقولنا : إنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة ) وما اعتدينا ) أي : فيما قلنا من الخيانة ( إنا إذا لمن الظالمين ) أي : إن كنا قد كذبنا عليهما .

وهذا التحليف للورثة ، والرجوع إلى قولهما والحالة هذه ، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل ، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم ، كما هو مقرر في باب " القسامة " من الأحكام .

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبي النضر ، عن باذان - يعني : أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب - عن ابن عباس ، عن تميم الداري في هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) قال : برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء . وكانا نصرانيين ، يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم ، يقال له : بديل بن أبي مريم ، بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك ، وهو عظم تجارته . فمرض فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله - قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام ، فبعناه بألف درهم ، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء . فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا . وفقدوا الجام فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره - قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا إليه أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) إلى قوله : ( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا ، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء .

وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، عن محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، به فذكره - وعنده : فأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم البينة فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) إلى قوله : ( أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر ، فحلفا . فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء .

ثم قال : هذا حديث غريب ، وليس إسناده بصحيح وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، وقد تركه أهل العلم بالحديث ، وهو صاحب التفسير ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول : محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، ثم قال : ولا نعرف لسالم أبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ ، وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه .

حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن أبي زائدة ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء ، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم ، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووجدوا الجام بمكة ، فقيل : اشتريناه من تميم وعدي . فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وأن الجام لصاحبهم . وفيهم نزلت : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم )

وكذا رواه أبو داود ، عن الحسن بن علي ، عن يحيى بن آدم ، به . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وهو حديث ابن أبي زائدة .

ومحمد بن أبي القاسم ، كوفي ، قيل : إنه صالح الحديث ، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين منهم : عكرمة ومحمد بن سيرين وقتادة . وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر رواه ابن جرير . وكذا ذكرها مرسلة : مجاهد والحسن والضحاك . وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها .

ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا ما رواه أبو جعفر بن جرير :

حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا زكريا ، عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ، قال : فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري - يعني : أبا موسى الأشعري ، رضي الله عنه - فأخبراه وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فأحلفهما بعد العصر : بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته . قال : فأمضى شهادتهما .

ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس ، عن أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن مغيرة الأزرق ، عن الشعبي ; أن أبا موسى قضى بدقوقا .

وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي ، عن أبي موسى الأشعري .

فقوله : " هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء ، قد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري ، - رضي الله عنه - ، كان في سنة تسع من الهجرة فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا ، يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام ، والله أعلم .

وقال أسباط ، عن السدي : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ) قال : هذا في الوصية عند الموت ، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وما عليه ، قال : هذا في الحضر ( أو آخران من غيركم ) في السفر ( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) هذا الرجل يدركه الموت في سفره ، وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ، ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به ، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا [ مال صاحبهم ] تركوا الرجلين ، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان . فذلك قوله تعالى : ( تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم ) قال عبد الله بن عباس : كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة ، فأنكر أهل الميت وخونوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت له : إنهما لا يباليان صلاة العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما ، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما ، فيحلفان : بالله لا نشتري به ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين : أن صاحبهم لبهذا أوصى ، وأن هذه لتركته . فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ، ولم تجز لكما شهادة ، وعاقبتكما . فإذا قال لهما ذلك ، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها . رواه ابن جرير .

وقال ابن جرير : حدثنا الحسين ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسعيد بن جبير ، أنهما قالا في هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) الآية ، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإذا قدما بتركته ، فإن صدقهما الورثة قبل قولهما ، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر : بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله : ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا . فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما ، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله : أن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فذلك قوله : ( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا ( فآخران يقومان مقامهما ) يقول : من الأولياء ، فحلفا بالله : أن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فنرد شهادة الكافرين ، وتجوز شهادة الأولياء .

وهكذا روى العوفي ، عن ابن عباس . رواهما ابن جرير .

وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف ، رضي الله عنهم ، وهو مذهب الإمام أحمد ، رحمه الله .

فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان

القول في تأويل قوله تعالى : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } يعني تعالى ذكره بقوله : { فإن عثر } فإن اطلع منهما , أو ظهر . وأصل العثر : الوقوع على الشيء والسقوط عليه , ومن ذلك قولهم : عثرت إصبع فلان بكذا : إذا صدمته وأصابته , ووقعت عليه ; ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس : بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا يعني بقوله : " عثرت " : أصاب ميسم خفها حجر أو غيره , ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيا , كقولهم : " عثرت على الغزل بأخرة , فلم تدع بنجد قردة " , بمعنى : وقعت . وأما قوله : { على أنهما استحقا إثما } فإنه يقول تعالى ذكره : فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية بعد حلفهما بالله : لا نشتري بأيماننا ثمنا , ولو كان ذا قربى , ولا نكتم شهادة الله على أنهما استحقا إثما , يقول : على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثما , وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خنا , ولا بدلنا , ولا غيرنا , فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئا , أو غيرا وصيته , أو بدلا , فأثما بذلك من حلفهما بربهما ; { فآخران يقومان مقامهما } يقول : يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت الأوليان الموصى إليهما . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك : 10084 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير : { أو آخران من غيركم } قال : إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب , فإنهما يحلفان بعد العصر , فإذا اطلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئا , حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا , ثم استحقوا . 10085 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن مغيرة , عن إبراهيم , بمثله . 10086 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , في قوله : { أو آخران من غيركم } من غير المسلمين تحبسونهما من بعد الصلاة , فإن ارتيب في شهادتهما , استحلفا بعد الصلاة بالله : ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا ; فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما , قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله : إن شهادة الكافرين باطلة , وإنا لم نعتد ; فذلك قوله : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا , { فآخران يقومان مقامهما } يقول : من الأولياء , فحلفا بالله : إن شهادة الكافرين باطلة , وإنا لم نعتد . فترد شهادة الكافرين , وتجوز شهادة الأولياء . 10087 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } أي اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما . واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حكم الله تعالى ذكره على الشاهدين بالأيمان فنقلها إلى الآخرين بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثما . فقال بعضهم : إنما ألزمهما اليمين إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى لغير الذي يجوز في حكم الإسلام , وذلك أن يشهدا أنه أوصى بماله كله , أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله ذكر من قال ذلك : 10088 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } إلى قوله : { ذوا عدل منكم } من أهل الإسلام , { أو آخران من غيركم } من غير أهل الإسلام , { إن أنتم ضربتم في الأرض } إلى : { فيقسمان بالله } يقول : فيحلفان بالله بعد الصلاة , فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى من الفريضة , يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام , فآخران يقومان مقامهما من أولياء الميت , فيحلفان بالله : ما كان صاحبنا ليوصي بهذا , أو : إنهما لكاذبان , ولشهادتنا أحق من شهادتهما . 10089 - حدثني محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن مفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما , يحلفان بالله : لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله , إنا إذن لمن الآثمين إن صاحبكم لبهذا أوصى , وإن هذه لتركته ! فإذا شهدا , وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا , قال لأولياء الرجل : اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما , فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة أو أحدا يطعن عليهما رددنا شهادتهما ! فينطلق الأولياء فيسألون , فإن وجدوا أحدا يطعن عليهما أو هما غير مرضيين عندهم , أو اطلع على أنهما خانا شيئا من المال وجدوه عندهما , فأقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام وحلفوا بالله : لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليهما أحق من شهادتهما بما شهدا , وما اعتدينا . فذلك قوله : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } وقال آخرون : بل إنما ألزم الشاهدان اليمين ; لأنهما ادعيا أنه أوصى لهما ببعض المال . وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك إذا ارتابوا بدعواهما ذكر من قال ذلك : 10090 - حدثنا عمران بن موسى القزاز , قال : ثنا عبد الوارث بن سعد , قال : ثنا إسحاق بن سويد , عن يحيى بن يعمر في قوله : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } قال : زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا , { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } أي بدعواهما لأنفسهما , { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } أن صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان . والصواب من القول في ذلك عندنا , أن الشاهدين ألزما اليمين في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله , ودعواهم قبلها خيانة مال معلوم المبلغ , ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما , وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما , فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما أو على أحدهما إنما صحح دعواه إذا حقق حقه , أو الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادعى عليهما الوارث أو بجميعه , ثم دعواهما في الذي أقرا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة , ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بينة , فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت . وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة ; لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكما يجب فيه اليمين على الشهود ارتيب بشهادتهما أو لم يرتب بها , فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرا لذلك . ولم نجد ذلك كذلك صح بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بإجماع من الأمة , لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى , فيكون أصلا مسلما . والمقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة , كان واضحا فساده . وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا , فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله أفسد من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أن من حكم الله تعالى أن مدعيا لو ادعى في مال ميت وصية أن القول قول ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم , دون قول مدعي ذلك مع يمينه , وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة . وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما , وإنما نقل الأيمان عنهم إلى أولياء الميت , إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثما في أيمانهم ; فمعلوم بذلك فساد قول من قال : ألزم اليمين الشهود لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت في ماله , على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به حين نزلت هذه الآية بين الذين نزلت فيهم وبسببهم ذكر من قال ذلك : 10091 - حدثني ابن وكيع , قال : ثنا يحيى بن آدم , عن يحيى بن أبي زائدة , عن محمد بن أبي القاسم , عن عبد الملك بن سعيد بن جبير , عن أبيه , عن ابن عباس , قال : . خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء , فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم , فلما قدما بتركته , فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب , فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم وجد الجام بمكة , فقالوا : اشتريناه من تميم الداري وعدي بن بداء . فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا : لشهادتنا أحق من شهادتهما , وأن الجام لصاحبهم . قال : وفيهم أنزلت : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } . 10092 - حدثنا الحسن بن أبي شعيب الحراني , قال : ثنا محمد بن سلمة الحراني , قال : ثنا محمد بن إسحاق , عن أبي النضر , عن زاذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب , عن ابن عباس , عن تميم الداري في هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } قال : برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء , وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام , فأتيا الشام لتجارتهما , وقدم عليهما مولى لبني سهم , يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة , ومعه جام فضة يريد به الملك , وهو عظم تجارته , فمرض , فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله . قال تميم : فلما مات , أخذنا ذلك الجام , فبعناه بألف درهم فقسمناه أنا وعدي بن بداء , فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا , وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا : ما ترك غير هذا , وما دفع إلينا غيره . قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك , فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر , وأديت إليهم خمسمائة درهم , وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها , فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم , فسألهم البينة فلم يجدوا , فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه , فحلف , فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } إلى قوله : { أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فقام عمرو بن العاص , ورجل آخر منهم , فحلفا , فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء . 10093 - حدثنا القاسم : ثنا الحسين , قال : ثنا أبو سفيان , عن معمر , عن قتادة وابن سيرين وغيره . قال : وثنا الحجاج , عن ابن جريج , عن عكرمة , دخل حديث بعضهم في بعض : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الآية , قال : كان عدي وتميم الداري - وهما من لخم - نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية . فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة , فقدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة , وهو يريد الشام تاجرا . فخرجوا جميعا , حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية , فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه , ثم أوصى إليهما . فلما مات , فتحا متاعه , فأخذا ما أرادا . ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا , ففتح أهله متاعه , فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به , وفقدوا شيئا فسألوهما عنه , فقالوا : هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا ! قال لهما أهله : فباع شيئا أو ابتاعه ؟ قالا : لا . قالوا : فهل استهلك من متاعه شيئا ؟ قالا : لا . قالوا : فهل تجر تجارة ؟ قالا : لا . قالوا : فإنا قد فقدنا بعضه ! فاتهما , فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } إلى قوله : { إنا إذا لمن الآثمين } قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر : بالله الذي لا إله إلا هو , ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا ! قال : فمكثنا ما شاء الله أن نمكث , ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموه بذهب , فقال أهله : هذا من متاعه , قالا : نعم , ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا , فكرهنا أن نكذب أنفسنا ! فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنزلت الآية الأخرى : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه . ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم , وكان يقول : صدق الله ورسوله , أنا أخذت الإناء . 10094 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } الآية كلها , قال : هذا شيء حين لم يكن الإسلام إلا بالمدينة , وكانت الأرض كلها كفرا , فقال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } من المسلمين , { أو آخران من غيركم } من غير أهل الإسلام , { إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } قال : كان الرجل يخرج مسافرا والعرب أهل كفر , فعسى أن يموت في سفره فيسند وصيته إلى رجلين منهم , فيقسمان بالله إن ارتبتم في أمرهما إذا قال الورثة : كان مع صاحبنا كذا وكذا , فيقسمان بالله : ما كان معه إلا هذا الذي قلنا . { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } إنما حلفا على باطل وكذب . { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } بالميت ; { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين } ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا , قال هؤلاء : لم يكن معه . قال : ثم عثر على بعض المتاع عندهما , فلما عثر على ذلك ردت القسامة على وارثه , فأقسما , ثم ضمن هذان . قال الله تعالى : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان } فتبطل أيمانهم , { واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين } الكاذبين الذين يحلفون على الكذب . وقال ابن زيد : قدم تميم الداري وصاحب له , وكانا يومئذ مشركين ولم يكونا أسلما , فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجل , وجاءا بتركته , فقال أولياء الميت : كان مع صاحبنا كذا وكذا , وكان معه إبريق فضة ; وقال الآخران : لم يكن معه إلا الذي جئنا به . فحلفا خلف الصلاة . ثم عثر عليهما بعد والإبريق معهما ; فلما عثر عليهما ردت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم , ثم ضمنها الذي حلف عليه الأوليان . 10095 - حدثنا الربيع , قال : ثنا الشافعي , قال : أخبرنا سعيد بن معاذ بن موسى الجعفري , عن بكير بن معروف , عن مقاتل بن حيان , قال بكر : قال مقاتل : أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك في قول الله : { اثنان ذوا عدل منكم } أن رجلين نصرانيين من أهل دارين , أحدهما تميمي والآخر يماني , صاحبهما مولى لقريش في تجارة , فركبوا البحر ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورقة . فمرض القرشي , فجعل وصيته إلى الداريين , فمات . وقبض الداريان المال والوصية , فدفعاه إلى أولياء الميت , وجاءا ببعض ماله . وأنكر القوم قلة المال , فقالوا للداريين : إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به , فهل باع شيئا أو اشترى شيئا فوضع فيه ؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا : لا . قالوا : فإنكما خنتمانا ! فقبضوا المال ورفعوا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } إلى آخر الآية . فلما نزل : أن يحبسا من بعد الصلاة , أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقاما بعد الصلاة , فحلفا بالله رب السموات ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به , وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا من الدنيا ولو كان ذا قربى , ولا نكتم شهادة الله , إنا إذن لمن الآثمين ! فلما حلفا خلي سبيلهما . ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت , فأخذ الداريان فقالا : اشتريناه منه في حياته ! وكذبا , فكلفا البينة فلم يقدرا عليها . فرفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى : { فإن عثر } يقول : فإن اطلع على أنهما استحقا إثما , يعني الداريين إن كتما حقا , فآخران من أولياء الميت يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان , فيقسمان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا , وإن الذي يطلب قبل الداريين لحق , وما اعتدينا , إنا إذن لمن الظالمين . هذا قول الشاهدين أولياء الميت , ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها , يعني : الداريين والناس أن يعودوا لمثل ذلك . قال أبو جعفر : ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا دليل واضح على صحة ما قلنا من أن حكم الله تعالى باليمين على الشاهدين في هذا الموضع , إنما هو من أجل دعوى ورثته على المسند إليهما الوصية خيانة فيما دفع الميت من ماله إليهما , أو غير ذلك مما لا يبرأ فيها المدعي ذلك قبله إلا بيمين , وإن نقل اليمين إلى ورثة الميت , بما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين أنهما استحقا إثما في أيمانهما , ثم ظهر على كذبهما فيها , إن القوم ادعوا فيما صح أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك , مما يكون اليمين فيها على ورثة الميت دون المدعى , وتكون البينة فيها على المدعي ; وفساد ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل . وفيها أيضا البيان الواضح على أن معنى الشهادة التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين , كما قال الله تعالى في مواضع أخر : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } , فالشهادة في هذا الموضع معناها القسم من قول القائل : أشهد بالله إنه لمن الصادقين , وكذلك معنى قوله : { شهادة بينكم } إنما هو قسم بينكم , { إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } أن يقسم { اثنان ذوا عدل منكم } إن كانا ائتمنا على ما قال , فارتيب بهما , أو اؤتمن آخران من غير المؤمنين فاتهما . وذلك أن الله تعالى لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظهر على خيانتهما إلى الآخرين , قال : { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } ومعلوم أن أولياء الميت المدعين قبل اللذين ظهر على خيانتهما , غير جائز أن يكونا شهداء بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعى عليه لمدع ; لأنه لا يعلم لله تعالى حكم قضى فيه لأحد بدعواه , ويمينه على مدعى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعى عليه ولا برهان . فإذا كان معلوما أن قوله : { لشهادتنا أحق من شهادتهما } إنما معناه : قسمنا أحق من قسمهما , وكان قسم اللذين عثر على أنهما أثما هو الشهادة التي ذكر الله تعالى في قوله : { أحق من شهادتهما } صح أن معنى قوله : { شهادة بينكم } بمعنى الشهادة في قوله : { لشهادتنا أحق من شهادتهما } وأنها بمعنى القسم . واختلفت القراء في قراءة قوله : { من الذين استحق عليهم الأوليان } فقرأ ذلك قراء الحجاز والعراق والشام : " من الذين استحق عليهم الأوليان " بضم التاء . وروي عن علي وأبي بن كعب والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك : { من الذين استحق عليهم } بفتح التاء . واختلفت أيضا في قراءة قوله : { الأوليان } فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشام والبصرة : { الأوليان } , وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة : " الأولين " . وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك : " من الذين استحق عليهم الأولان " . وأولى القراءتين بالصواب في قوله : " من الذين استحق عليهم " قراءة من قرأ بضم التاء , لإجماع الحجة من القراء عليه , مع مساعدة عامة أهل التأويل على صحة تأويله , وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله : فآخران من أهل الميت الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم , يقومان مقام المستحق الإثم فيهما بخيانتهما ما خانا من مال الميت . وقد ذكرنا قائل ذلك أو أكثر قائليه فيما مضى قبل , ونحن ذاكروا باقيهم إن شاء الله تعالى ذلك . 10096 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله تعالى : { شهادة بينكم } أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران لا يحضره غير اثنين منهم , فإن رضي ورثته ما عاجل عليه من تركته فذاك , وحلف الشاهدان إن اتهما إنهما لصادقان , فإن عثر وجد لطخ حلف الاثنان الأوليان من الورثة , فاستحقا , وأبطلا أيمان الشاهدين . وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح التاء , أرادوا أن يوجهوا تأويله إلى : فآخران يقومان مقامهما مقام المؤتمنين اللذين عثر على خيانتهما في القسم والاستحقاق به عليهما دعواهما قبلهما من الذين استحق على المؤتمنين على المال على خيانتهما القيام مقامهما في القسم والاستحقاق في الأوليان بالميت . وكذلك كانت قراءة من رويت هذه القراءة عنه , فقرأ ذلك : { من الذين استحق } بفتح التاء على معنى : الأوليان بالميت وماله . وذلك مذهب صحيح وقراءة غير مدفوعة صحتها , غير أنا نختار الأخرى لإجماع الحجة من القراء عليها مع موافقتها التأويل الذي ذكرنا عن الصحابة والتابعين . 10097 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا يحيى بن آدم , عن إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن أبي عبد الرحمن وكريب عن علي , أنه كان يقرأ : " من الذين استحق عليهم الأوليان " . 10098 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا مالك بن إسماعيل , عن حماد بن زيد , عن وائل مولى أبي عبيد , عن يحيى بن عقيل , عن يحيى بن يعمر , عن أبي بن كعب , أنه كان يقرأ : " من الذين استحق عليهم الأوليان " . وأما أولى القراءات بالصواب في قوله : { الأوليان } عندي , فقراءة من قرأ : { الأوليان } بصحة معناها وذلك لأن معنى : فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق فيهم الإثم , ثم حذف " الإثم " وأقيم مقامه " الأوليان " , لأنهما هما اللذان ظلما وأثما فيهما بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم وعثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان ائتمنهما عليه الميت , كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مثل ذلك من حذفهم الفعل اجتزاء بالاسم , وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل . ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة , وهو قوله : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان } ومعناه : أن يشهد اثنان , وكما قال : { فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا } فقال " به " , فعاد بالهاء على اسم " الله " ; وإنما المعنى : لا نشتري بقسمنا بالله , فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر , والمراد به : لا نشتري بالقسم بالله ; استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم . وكذلك اجتزئ بذكر الأوليين من ذكر الإثم الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إياها , إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته , وذلك قوله : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } وأما الذين قرءوا ذلك " الأولين " فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن " الذين " , فأخرجوا ذلك على وجه الجمع , إذ كان " الذين " جمعا وخفضا , إذ كان " الذين " مخفوضا . وذلك وجه من التأويل , غير أنه إنما يقال للشيء أول إذا كان له آخر هو له أول , وليس للذين استحق عليهم الإثم آخرهم له أول , بل كانت أيمان الذين عثر على أنهما استحقا إثما قبل إيمانهم , فهم إلى أن يكونوا إذ كانت أيمانهم آخرا أولى أن يكونوا آخرين من أن يكونوا أولين وأيمانهم آخرة لأولى قبلها . وأما القراءة التي حكيت عن الحسن , فقراءة عن قراءة الحجة من القراء شاذة , وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بعدها من الصواب . واختلف أهل العربية في الرافع لقوله : { الأوليان } إذا قرئ كذلك , فقال بعض نحويي البصرة : يزعم أنه رفع ذلك بدلا من " آخران " في قوله : { فآخران يقومان مقامهما } وقال : إنما جاز أن يبدل الأوليان وهو معرفة من آخران وهو نكرة , لأنه حين قال : { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } كان كأنه قد حدهما حتى صارا كالمعرفة في المعنى , فقال : " الأوليان " , فأجرى المعرفة عليهما بدلا . قال : ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير . واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز : علي يوم يملك الأمورا صوم شهور وجبت نذورا وبادنا مقلدا منحورا قال : فجعله " علي واجب " ; لأنه في المعنى قد أوجب . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول : لا يجوز أن يكون " الأوليان " بدلا من " آخران " من أجل أنه قد نسق " فيقسمان " على " يقومان " في قوله : { فآخران يقومان } فلم يتم الخبر عند من قال : لا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر , كما قال : غير جائز " مررت برجل قام زيد وقعد " وزيد بدل من رجل . والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : " الأوليان " مرفوعان بما لم يسم فاعله , وهو قوله : " استحق عليهم " وأنهما موضع الخبر عنهما , فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما ; وذلك أن معنى الكلام : فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الإثم بالخيانة , فوضع " الأوليان " موضع " الإثم " كما قال تعالى في موضع آخر : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } ومعناه : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر ؟ وكما قال : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } , وكما قال بعض الهذليين : يمشي بيننا حانوت خمر من الخرس الصراصرة القطاط وهو يعني صاحب حانوت خمر , فأقام الحانوت مقامه لأنه معلوم أن الحانوت لا يمشي , ولكن لما كان معلوما عنده أنه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه حذف الصاحب , واجتزأ بذكر الحانوت منه , فكذلك قوله : " من الذين استحق عليهم الأوليان " إنما هو من الذين استحق فيهم خيانتهما , فحذفت " الخيانة " وأقيم " المختانان " مقامها , فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر . وأما قوله : " عليهم " في هذا الموضع , فإن معناها : فيهم , كما قال تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } يعني : في ملك سليمان , وكما قال : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } ف " في " توضع موضع " على " , و " على " في موضع " في " كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام , ومنه قول الشاعر : متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث وقد تأولت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى : " فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان " أنهما رجلان آخران من المسلمين , أو رجلان أعدل من المقسمين الأولين ذكر من قال ذلك : 10099 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا عبد الأعلى , قال : ثنا داود بن أبي هند , عن عامر , عن شريح في هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } قال : إذا كان الرجل بأرض غربة , ولم يجد مسلما يشهده على وصيته , فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا , فشهادتهم جائزة . فإن جاء رجلان مسلمان , فشهدا بخلاف شهادتهم , أجيزت شهادة المسلمين وأبطلت شهادة الآخرين . 10100 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فإن عثر } أي اطلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما , فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلاف ما قالا , أجيزت شهادة الآخرين وأبطلت شهادة الأولين . 10101 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جرير , عن عبد الملك , عن عطاء , قال : كان ابن عباس يقرأ : " من الذين استحق عليهم الأوليان " قال : كيف يكون " الأوليان " , أرأيت لو كان الأوليان صغيرين . * - حدثنا هناد وابن وكيع , قال : ثنا عبدة , عن عبد الملك , عن عطاء , عن ابن عباس , قال : كان يقرأ : " من الذين استحق عليهم الأوليان " قال : وقال : أرأيت لو كان الأوليان صغيرين , كيف يقومان مقامهما . قال الإمام أبو جعفر : فذهب ابن عباس فيما أرى إلى نحو القول الذي حكيت عن شريح وقتادة , من أن ذلك رجلان آخران من المسلمين يقومان مقام النصرانيين , أو عدلان من المسلمين هما أعدل وأجوز شهادة من الشاهدين الأولين أو المقسمين . وفي إجماع جميع أهل العلم على أن لا حكم لله تعالى يجب فيه على شاهد يمين فيما قام به من الشهادة , دليل واضح على أن غير هذا التأويل الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى : { فآخران يقومان مقامهما } أولى به . وأما قوله { الأوليان } فإن معناه عندنا : الأولى - بالميت من المقسمين الأولين - فالأولى , وقد يحتمل أن يكون معناه : الأولى باليمين منهما فالأولى , ثم حذف " منهما " ; والعرب تفعل ذلك فتقول : فلان أفضل , وهي تريد أفضل منك , وذلك إذا وضع أفعل موضع الخبر . وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه الألف واللام , فعلوا ذلك أيضا إذا كان جوابا لكلام قد مضى , فقالوا : هذا الأفضل , وهذا الأشرف ; يريدون هو الأشرف منك . وقال ابن زيد : معنى ذلك : الأوليان بالميت . 10102 - حدثني يونس , عن ابن وهب , عنه .فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما

القول في تأويل قوله تعالى : { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } يقول تعالى ذكره : فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما بخيانتهما مال الميت الأوليان باليمين والميت من الخائنين : { لشهادتهما أحق من شهادتهما } يقول : لأيماننا أحق من أيمان المقسمين المستحقين الإثم وأيمانهما الكاذبة في أنهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميتنا , وكذا في أيمانهما التي حلفا بها .وما اعتدينا

قول : وما تجاوزنا الحق في أيماننا . وقد بينا أن معنى الاعتداء : المجاوزة في الشيء حده .إنا إذا لمن الظالمين

يقول : إنا إن كنا اعتدينا في أيماننا , فحلفنا مبطلين فيها كاذبين , { لمن الظالمين } يقول : لمن عداد من يأخذ ما ليس له أخذه , ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس .

التدبر :

وقفة
[107] هنا ذكر الله جل وعلا التحريف في الوصية: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾، ثم أتبعه بتحريف من نوع آخر، وهو تحريف النصارى لوصية عيسى بالتوحيد: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ [116].
وقفة
[107] ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّـهِ﴾ في الآية دليل على جواز تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم.
وقفة
[107] ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّـهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الإسلام يحفظ حقوق الجميع، حتى حقوق الميت! ولذا فالحالفان يحلفان بأنهما لا يحصلان بيمين الله ثمنًا مهما كانت قيمته، وأنهما لن يحابيا إنسانًا مهما بلغت درجة قرابته، ولن يكتما الشهادة التي أمرهما الله بأدائها على وجهها الصحيح، وبأنهما يقران على أنفسهما باستحقاق عقوبة الآثم المذنب إن كتما أو خانا أو حادا عن الحق، وهذا كله لكي تصل وصية الميت إلى أهله كاملة غير منقوصة.
وقفة
[107] ﴿إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الظَّالِمُونَ) هذه الفاصلة ترددت في القرآن الكريم مئة وست مرات، كلها جاءت في وضع الشيء في غير موضعه، وأحيانًا يكون المعنى واضحًا، وحينًا يحتاج إلى مزيد تأمل وتدبر، وأعلى درجات الظلم هو الشرك، وأيضًا التعدي على حقوق الآخرين، ومن الأمثلة: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 229]، التعدي = الظلم، ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، الشرك = الظلم، ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّـهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ﴾ [يوسف: 79]، وضع الشيء في غير موضعه = الظلم.

الإعراب :

  • ﴿ فَإِنْ عُثِرَ:
  • الفاء: عاطفة. إن: حرف شرط جازم. عثر: فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محل جزم بإن لأنه فعل الشرط بمعنى فإن اطّلع.
  • ﴿ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً:
  • حرف جر. أنّ: حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. الميم حرف عماد والألف علامة التثنية. استحقا: فعل ماض مبني على الفتح و «الألف» ضمير متصل في محل رفع فاعل. إثما: مفعول به منصوب بالفتحة. وجملة «اسْتَحَقَّا إِثْماً» في محل رفع خبر «أن» و «أن» مع اسمها وخبرها بتأويل مصدر في محل جر بعلى. والجار والمجرور في محل رفع نائب فاعل للفعل «عُثِرَ».
  • ﴿ فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما:
  • الفاء: رابطة لجواب الشرط. آخران: فاعل مرفوع بالالف لأنه مثنى وفعله يفسره ما بعده. والنون عوض عن الحركة في الاسم المفرد. يقومان: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لانه من الافعال الخمسة. والألف ضمير متصل في محل رفع فاعل. وجملة «يَقُومانِ» في محل رفع صفة للموصوف «آخران» وجملة «فَآخَرانِ يَقُومانِ» بتقدير: فليقم شاهدان آخران جواب شرط جازم مقترن بالفاء في محل جزم. مقامهما: مفعول مطلق منصوب بالفتحة- نائب عن المصدر بتقدير: يقومان مقاما مثل مقامهما ثم أقيم المضاف اليه مكان المضاف. والهاء في محل جر بالاضافة. الميم للعماد والالف علامة التثنية.
  • ﴿ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ:
  • من: حرف جر. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بمن. استحق: فعل ماض مبني على الفتح. عليهم: جار ومجرور متعلق باستحق و «هم» ضمير الغائبين في محل جر بعلى وحركت الميم بالضمة للاشباع. الأوليان: فاعل مرفوع بالالف لانه مثنى والنون عوض عن تنوين المفرد. وجملة «اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ» صلة الموصول أي جنى عليهم الأحقّان لأن «الْأَوْلَيانِ» مثنى «أولى» أي أحقّ. و«مِنَ الَّذِينَ» متعلق بصفة محذوفة من آخران.
  • ﴿ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ:
  • معطوفة بالفاء على «يَقُومانِ» وتعرب إعرابها. بالله: جار ومجرور للتعظيم متعلق بيقسمان.
  • ﴿ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ:
  • اللام واقعة في جواب القسم لا عمل لها. شهادتنا: مبتدأ مرفوع بالضمة. و «نا» ضمير متصل في محل جر بالاضافة. أحق: خبر المبتدأ مرفوع بالضمة ولم ينوّن لأنه ممنوع من الصرف على وزن «أفعل» صيغة تفضيل وبوزن الفعل.
  • ﴿ مِنْ شَهادَتِهِما:
  • جار ومجرور متعلق بأحق والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة. الميم حرف عماد والألف علامة التثنية.
  • ﴿ وَمَا اعْتَدَيْنا:
  • الواو: استئنافية. ما: نافية لا عمل لها. اعتدينا: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع. و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
  • ﴿ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ:
  • تعرب إعراب «إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» الواردة في الآية الكريمة السابقة. '

المتشابهات :

المائدة: 106﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّـهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ
المائدة: 107﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّـهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا

أسباب النزول :

  • * سَبَبُ النُّزُولِ: أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مُخوَّصاً من ذهب فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم وجد الجامُ بمكة، فقالوا ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أوليائه فحلفالشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم قال: وفيهم نزلت هذه الآيةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ). * دِرَاسَةُ السَّبَبِ: هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث ومثله معه منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.قال ابن عطيةلا نعلم خلافًا أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء كانا نصرانيين.) اهـ ثم ساق الحديث.وقال القرطبيولا أعلم خلافاً أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء) اهـ.وقال السعديوهذه الآيات الكريمة، نزلت في قصة تميم الداري، وعدي بن بداء المشهورة حين أوصى لهما العدوي والله أعلم) اهـ.وقال ابن عاشوروقد حدثت في آخر حياة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية وذكر كلامًا إلى أن قال: ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية وهي أن رجلين أحدهما تميم الداري والآخر عدي بن بداء.وحيث إن السبب المذكور معنا مختصر لا يتحقق بقراءته فهم القصة فإني سأذكر القصة كما سردها الطاهر بن عاشور في تفسيره فقال: ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية: هي أن رجلين أحدهما تميم الداري اللخمي، والآخر عدي بن بداء، كانا من نصارى العرب تاجرين، وهما من أهل دارين، وكانا يتجران بين الشام، ومكة، والمدينة. فخرج معهما من المدينة بُديل بن أبي مريم مولى بني سهم - وكان مسلماً - بتجارة إلى الشام، فمرض بديل (قيل في الشام وقيل في الطريق براً أو بحراً) وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوَّص بالذهب قاصداً به ملك الشام، فلما اشتد مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسَّها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلّغاه مواليَه من بني سهم، وكان بديل مولى للعاصي بن وائلٍ السهمي، فولاؤه بعد موته لابنه عمرو بن العاص.وبعض المفسرين يقول: إن ولاء بُديل لعمرو ابن العاصي والمطلب بن وداعة، ويؤيد قولهم أن المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أن الجام لبديل بن أبي مريم. فلما رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا ما لبديل إلى مواليه. فلما نشروه وجدوا الصحيفة فقالوا لتميم وعدي: أين الجام فأنكرا أن يكون دفع إليهما جامًا. ثم وجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال: إنه ابتاعه من تميم وعدي.وفي رواية أن تميماً لما أسلم في سنة تسع تأثم مما صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع إليه الخمسمائة درهم الصائرة إليه من ثمنه، وطالب عمرو عدياً ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه. وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية ... إلى أن قال: واتفقت الروايات على أن الفريقين تقاضوا في ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونزلت هذه الآية في ذلك، فحلف عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على أن تميمًا وعديًا أخفيا الجام، وأن بُديلاً صاحبه وما باعه ولا خرج من يده، ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذ نصراني) اهـ. ولأن الآيات النازلة على هذا السبب لا يتأتى معرفة تفسيرها لكل أحد فسأذكر تفسيرها نقلاً من تفسير السعدي - رحمه الله - حيث قال:(يخبر تعالى خبرًا متضمنًا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية إذا حضر الإنسان مقدمات الموت وعلائمه، فينبغي له أن يكتب وصيته ويُشهد عليها (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ) ممن تعتبر شهادتهما، (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي: من غير أهل دينكم من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين، (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم فيها، (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي: فأشهدوهما ولم يأمر بإشهادهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ويؤكد عليهما، أن يحبسا من بعد الصلاة التي يعظمونها، (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ) أنهما صدقا وما غيرا وما بدلا هذا (إِنِ ارْتَبْتُمْ) في شهادتهما، فإن صدقتموهما فلا حاجة إلى القسم بذلك.ويقولانلَا نَشْتَرِي بِهِ) أي بأيماننا (ثَمَنًا) بأن نكذب فيها لأجل عرض من الدنيا (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) فلا نراعيه لأجل قربه منا (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ) بل نؤديها على ما سمعناها (إِنَّا إِذًا) أي إن كتمناها (لَمِنَ الْآثِمِينَ).(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا) أي الشاهدين (اسْتَحَقَّا إِثْمًا) بأن وجد من القرآن ما يدل على كذبهما، وأنهما خانا (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) أي: أنهما كذبا وغيَّرا وخانا، (وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي: إن ظلمنا واعتدينا وشهدنا بغير الحق.قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانةذَلِكَ أَدْنَى) أي أقرب (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) أي: أن لا تقبل أيمانهم ثم ترد على أولياء الميت (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي الذين وصفهم الفسق فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.وحاصل هذا أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين - أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين، فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين جاز أن يوصي إليهما. ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، ولا بدَّلا فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما.فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين فإن شاء أولياء الميت فليقم منهم اثنان فيقسمان بالله: لشهادتنا أحق من شهادة الشاهدين الأولين وأنهما خانا وكذبا فيستحقون منهما ما يدّعون) اهـ. * النتيجة: أن سبب النزول المذكور في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كان سبباً لنزول الآيات الكريمات وذلك لصحة إسناده، وموافقة سياقه لظاهر الآية واحتجاج المفسرين به وتعويلهم عليه والله أعلم.'
  • المصدر لباب النقول

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [107] لما قبلها :     وبعد أن أرشدنا اللهُ عز وجل إلى الوصيَّةِ قبلَ الموتِ، والإشهادِ عليها؛ بَيَّنَ هنا الحكم فيما إذا تبين أن الشاهدين الحالفين لم يكونا أمينين، قال تعالى:
﴿ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ

القراءات :

استحق:
قرئ:
1- مبنيا للمفعول، وهى قراءة حمزة، وأبى بكر.
2- مبنيا للفاعل، وهى قراءة الحسن.

مدارسة الآية : [108] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ ..

التفسير :

[108] ذلك الحكم عند الارتياب في الشاهدين من الحلف بعد الصلاة وعدم قبول شهادتهما، أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها خوفاً من عذاب الآخرة، أو خشية من أن تُرَدَّ اليمين الكاذبة من قِبَل أصحاب الحق بعد حلفهم، فيفتضح الكاذب الذي رُدَّت يمينه في الدنيا وقت

قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها، وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانة:{ ذَلِكَ أَدْنَى} أي:أقرب{ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات.{ أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي:أن لا تقبل أيمانهم، ثم ترد على أولياء الميت.{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي:الذين وصْفُهم الفسق، فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم. وحاصل هذا، أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين- أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين. فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين، جاز أن يوصي إليهما، ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة، أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، ولا بدلا، فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما. فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين، فإن شاء أولياء الميت، فليقم منهم اثنان، فيقسمان بالله:لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما خانا وكذبا، فيستحقون منهما ما يدعون. وهذه الآيات الكريمة نزلت في قصة "تميم الداري"و "عدي بن بداء"المشهورة حين أوصى لهما العدوي، والله أعلم. ويستدل بالآيات الكريمات على عدة أحكام:منها:أن الوصية مشروعة، وأنه ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي. ومنها:أنها معتبرة، ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته، ما دام عقله ثابتا. ومنها:أن شهادة الوصية لابد فيها من اثنين عدلين. ومنها:أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود الضرورة، وهذا مذهب الإمام أحمد. وزعم كثير من أهل العلم:أن هذا الحكم منسوخ، وهذه دعوى لا دليل عليها. ومنها:أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه، أن شهادة الكفار -عند عدم غيرهم، حتى في غير هذه المسألة- مقبولة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. ومنها:جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور. ومنها:جواز السفر للتجارة. ومنها:أن الشاهدين -إذا ارتيب منهما، ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما، وأراد الأولياء- أن يؤكدوا عليهم اليمين، ويحبسوهما من بعد الصلاة، فيقسمان بصفة ما ذكر الله تعالى. ومنها:أنه إذا لم تحصل تهمة ولا ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما، وتأكيد اليمين عليهما. ومنها:تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه، وأنه يجب الاعتناء بها والقيام بها بالقسط. ومنها:أنه يجوز امتحان الشاهدين عند الريبة منهما، وتفريقهما لينظر عن شهادتهما. ومنها:أنه إذا وجدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة - قام اثنان من أولياء الميت فأقسما بالله:أن أيماننا أصدق من أيمانهما، ولقد خانا وكذبا. ثم يدفع إليهما ما ادعياه، فتكون القرينة -مع أيمانهما- قائمة مقام البينة.

ثم بين - سبحانه - وجه الحكمة والمصلحة فيما شرعه مما تقدم تفصيله فقال ( ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) .

فاسم الإِشارة ( ذلك ) يعود إلى ما شرعه الله من أحكام تتعلق بالوصية التي تكون في السفر ويموت صاحبها .

أي : ذلك الحكم المذكور ( أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ ) أي : أقرب إلى أن يؤدي الأوصياء الشهادة في هذه الحادثة وأمثالها على وجهها الصحيح . أي : على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من عذاب الآخرة . فالوجه في قوله ( على وَجْهِهَآ ) بمعنى الذات والحقيقة .

والجملة الكريمة بيان لحكمة مشروعية التحليف بالتغليظ المتقدم ، وقوله : ( أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) بيان لحكمة رد اليمين على الورثة . وهو معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام فكأنه قيل : ذلك الذي شرعناه لكم أقرب إلى أن يأتي الأوصياء بالشهادة على وجهها الصحيح فكأنه قيل : ذلك الذي شرعناه لكم أقرب إلى أن يأتي الأوصياء بالشهادة على وجهها الصحيح ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة ، أو يخافوا أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم فيظهر كذبهم على رؤوس الأشهاد ، فيكون ذلك الخوف داعيا لهم إلى النطق بالحق وترك الكذب والخيانة .

فأي الخوفين حصل عندهم سيقودهم إلى التزام الحق وترك الخيانة وإيصال الحقوق لذويها كاملة غير منقوصة .

فمن لم يمنعه خوف اله من أن يكذب أو يخون لضعف دينه منعه خوف الفضيحة على رءوس الأشهاد .

ثم قال - سبحانه ( ذلك أدنى ) أي أقرب إلى الحق وأبعد عن الباطل لأن معرفة الحق من كل وجوهه وجزئياته ، مرجعها إلى الله العليم بخفايا الأمور وبواطنها وبواعثها . أما الحاكم فإنه يحكم على حسب ما يظهر له من حق ، وحكمه قابل للخطأ والصواب .

والضمير في قوله ( يَأْتُواْ ) ( يخافوا ) ( وَأَيْمَانِهِمْ ) يعود إلى الأوصياء الذين أوصاهم الميت بإيصال ما يريد إيصاله لورثته ، ثم حدث شك من الورثة في أمانتهم .

وجاء الضمير مجموعا مع أن السياق لاثنين فقط ، لأن المراد ما يعم هذين المذكورين وما يعم غيرهما من بقية الناس .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : ( واتقوا الله واسمعوا والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ) .

أي : واتقوا الله في كل ما يأتون وتذرون من أموركم واسمعوا ما تؤمرون به سماع إذاعان وقبول وطاعة واعلموا أن الله - تعالى - لا يوفق القوم الخارجين عن طاعته إلى طريق الخير والفلاح ، لأنهم آثروا الغي على الرشد واستحبوا العمى على الهدى .

فهذا الخنام للآية الكريمة اشتمعل على ابلغ ألوان التحذير من معصية الله ومن مخالفة أمره .

هذا؛ ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتي :

1 - الحث على الوصية وتأكيد أمرها ، وعدم التهاون فيها بسبب السفر أو غيره ، لأن الوصية تثبت الحقوق ، وتمنع التنازل ولهذا شدد الإِسلام في ضرورة كتابة الوصية ، والشخص قوى معافي ، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " .

قال ابن عمر - راوي هذا الحديث - : " ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك إلا وعندي وصيتي " .

2 - الإِشهاد على الوصية في الحضر والسفر ، ليكون أمرها أمرها أثبت ، والرجاء في تنفيذها أقوى ، فإن عدم الإِشهاد عليها كثيراً ما يؤدي إلى التنازل وإلى التشكك في صحتها .

3 - شرعية اختيار الأوقات والأمكنة والصيغ المغلظة التي تؤثر في قلوب الشهود وفي قلوب مقسمى الأِيمان ، وتحملهم على النطق بالحق .

قال صاحب المنار : ويشهد لاختيار الأوقات جعل القسم بعد الصلاة ، ومثله في ذلك اختيار المكان ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود . عن جابر مرفوعا ، " لا يحلف أحد عند منبري كاذاب إلا تبوأ مقعده من النار " .

ويشهد بجواز التغليظ على الحالف على صيغة اليمين - بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب - ما جاء في الآيات الكريمة من قوله - تعالى - ( فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين ) .

4 - جواز تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم ، وقد روى عن ابن عباس أنه حلف المرأة التي شهدت في قضية رضاع بين زوجين .

5 - جواز شهادة غير المسلمين على المسلمين عند الضرورة ، وقد بسط الإِمام القرطبي القول في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :

الأول : أن الكاف والميم في قوله ( اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ) ضمير للمسلمين ، وفي قوله ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) للكافرين . فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية . وهو الأشبه بسياق مع ما تقرر من الأحاديث .

وهوقول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وهم : أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود وعبدالله بن عباس ، وتبعهم في ذلك جمع من التابعين ، واختاره أحمد بن حنبل وقال : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ، كلهم يقولون : " منكم " من المؤمنين . ومعنى ( مِنْ غَيْرِكُمْ ) يعني الكفار .

القول الثاني : أن قوله - سبحانه - ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) منسوخ وهذا قول زيد بن أسلم؛ والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء .

واحتجوا بقوله - تعالى - ( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء ) وبقوله : ( وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ ) فهؤلاء زعموا أن الآية الدين من آخر ما نزل وأن فيها ( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء ) فهو ناسخ لذلك ، ولم يكن الإِسلام يومئذ إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب . وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم .

قال القرطبي : قلت : ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم وأما مع وجو مسلم فلا .

ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل ، وقد قال بالأولى ثلاثة من الصحابة ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم .

ويقوى هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما : إنه لا منسوخ فيها ، وما ادعوه من النسخ لا يصح ، فإن النسخ لابد فيه من إثبات الناسخ على وجه ينافي الجمع بينهما مع تراخي الناسخ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا ، فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة ، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات .

القول الثالث : أن الآية لا نسخ فيها . قاله الزهري والحسن وعكرمة ، ويكون معنى قوله ( منكم ) أي من عشيرتكم وقرابتكم . . ومعنى ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي : من غيرالقرابة والعشيرة .

وهذا ينبي على معنى غامض في العربية ، وذلك أن معنى ( آخر ) في العربية من جنس الأول ، تقول : مررت بكريم وكريم آخر ولا تقول مررت بكريم وخسيس آخر ، فوجب على هذا أن يكون قوله ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي عدلان من غير عشيرتكم من المسلمين .

وقوله : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ) أي : شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين وقد استريب بهما ، أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي .

وقوله : ( أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) أي : يكون الحامل لهم على الإتيان بالشهادة على وجهها ، هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله ، والخوف من الفضيحة بين الناس إذا ردت اليمين على الورثة ، فيحلفون ويستحقون ما يدعون ، ولهذا قال : ( أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم )

ثم قال : ( واتقوا الله ) أي : في جميع أموركم ) واسمعوا ) أي : وأطيعوا ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) يعني : الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته .

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " ذلك " ، هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء = إذا ارتبتم في أمرهم، واتهمتموهم بخيانة لمالِ من أوصى إليهم، من حبسهم بعد الصلاة, واستحلافكم إيَّاهم على ما ادَّعى قِبَلهم أولياء الميت =" أدنى " لهم " أن يأتوا بالشهادة على وجهها " ، يقول: هذا الفعل، إذا فعلتم بهم، أقربُ لهم أن يصدُقوا في أيمانهم, (164) ولا يكتموا, ويقرُّوا بالحق ولا يخونوا (165) =" أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم " ، يقول: أو يخاف هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقُّوا إثمًا في أيمانهم بالله, أن تردَّ أيمانهم على أولياء الميت، بعد أيمانهم التي عُثِر عليها أنها كذب, فيستحقُّوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم, فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم، مخافةَ الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانُوا فيه أولياء الميِّت وورثته.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد تقدّمت الروايةُ بذلك عن بعضهم, نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعضِ من بَقي منهم.

12979 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ، يقول: إن اطُّلع على أنّ الكافرين كذبَا = فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ، يقول: من الأولياء, فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد, فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها, أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم. وليس على شُهود المسلمين أقسْام, وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين.

12980 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة " الآية, يقول: ذلك أحرَى أن يصدقوا في شهادتهم, وأن يخافوا العَقِب. (166)

12981 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: " أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم " ، قال: فتبطل أيمانهم, وتؤخذ أيمانُ هؤلاء.

* * *

وقال آخرون: [معنى ذلك تحبسونهما من بعد الصلاة. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها, على أنهما استحقا إثمًا, فآخران يقومان مقامهما]. (167)

* ذكر من قال ذلك:

12982 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, فيحلفان بالله: " لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين, أنّ صاحبكم لبهذا أوصى, وأنّ هذه لتركته ". فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: " إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما، فضحتكما في قومكما، ولم أجز لكما شهادة، وعاقبتكما ". فإن قال لهما ذلك, فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.

* * *

القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وخافوا الله، أيها الناس, وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تُذْهبوا بها مال من يَحْرم عليكم ماله, وأن تخونوا من اتَّمنكم (168) =" واسمعوا "، يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به, فاعملوا به، وانتهوا إليه =" والله لا يهدي القوم الفاسقين "، يقول: والله لا يوفِّق من فَسَق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطانَ وعصى ربَّه.

* * *

وكان ابن زيد يقول: " الفاسق "، في هذا الموضع، هو الكاذب. (169)

12983 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: " والله لا يهدي القومَ الفاسقين " ، الكاذبين، يحلفون على الكذب.

* * *

وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفُوعٍ, إلا أن الله تعالى ذكره عَمَّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفسَّاق, ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض بخبر ولا عقلٍ, فذلك على معاني" الفسق " كلها، حتى يخصِّص شيئًا منها ما يجب التسليمُ له، فيُسلِّم له.

* * *

ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين, هل هو منسوخ, أو هو مُحكَم ثابت؟

فقال بعضهم: هو منسوخ

* ذكر من قال ذلك:

12984 - حدثنا أبو كريب قال ، ثنا ابن إدريس, عن رجل قد سماه, عن حماد, عن إبراهيم قال : هي منسوخة.

12985 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: هي منسوخة = يعني هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ، الآية.

* * *

وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قولَ أكثرهم فيما مضَى.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غيرُ منسوخ (170) وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام, من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا, أنّ من ادُّعِي عليه دَعْوى ممَّا يملكه بنو آدم، أنّ المدَّعَى عليه لا يبرئه مما ادُّعي عليه إلا اليمين، إذا لم يكن للمدَّعِي بيّنة تصحح دَعواه = وأنه إن اعترف في يَدِ المدَّعى [عليه] سلعةً له, (171) فادَّعَى أنها له دون الذي في يده, فقال الذي هي في يده: " بل هي لي، اشتريتها من هذا المدَّعِي", أنّ القول قول من زَعَم الذي هي في يده أنه اشتراها منه، دون من هي في يده مع يمينه، إذا لم يكن للذي هي في يده بيّنة تحقق به دعواه الشراءَ منه.

فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلافَ فيه بين أهل العلم, وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمرَ وصية الموصِي إلى عدلين من المسلمين، أو إلى آخرين من غيرهم, إنما ألزَم النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر عنه، الوصيَّين اليمينَ حين ادَّعَى عليهما الورثة ما ادَّعوا، ثم لم يلزم المدَّعَى عليهما شيئًا إذ حلفا, حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفُوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم, فحينئذ ألزم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورثَة الميِّت اليمين, لأن الوصيين تحوَّلا مُدَّعِيين بدعواهما ما وجدَا في أيديهما من مال الميِّت أنه لهما، اشتريَا ذلك منه، فصارَا مُقِرَّين بالمال للميِّت، مدَّعيين منه الشراء, فاحتاجا حينئذ إلى بيِّنةٍ تصحِّح دعواهما، وصارتْ وورثة الميتِ ربِّ السلعة، (172) أولى باليمين منهما. فذلك قوله تعالى ذكره: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ، الآية.

فإذ كان تأويل ذلك كذلك، فلا وجه لدعوَى مدَّعٍ أن هذه الآية منسوخة, لأنه غير جائز أن يُقْضَى على حُكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ، إلا بخبَرٍ يقطع العذرَ: أمّا من عند الله، أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم, أو بورود النَّقل المستفيض بذلك. فأمَّا ولا خبر بذلك, ولا يدفع صحته عقل, فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ.

---------------

الهوامش :

(164) انظر تفسير"أدنى" فيما سلف 6: 78/7: 548.

(165) انظر تفسير"على وجهه" فيما سلف 2: 511.

(166) في المطبوعة: "وأن يخافوا العقاب" ، والصواب ما في المخطوطة و"العقب" (بفتح فكسر): العاقبة ، وذلك عاقبة أمرهما في وبطلان أيمانهم ، وعاقبة رد الفضيحة على أنفسهم.

(167) هذه الجملة كلها مضطربة المعنى ، ولا تطابق الأثر التالي ، وظني أن في الكلام سقطًا ، أسقط الناسخ سطرًا أو نحوه ، وتركتها على حالها في المخطوطة والمطبوعة ، ولكني وضعتها بين قوسين ، شكًّا مني في صحتها.

(168) انظر ما كتبته في"اتمن" فيما سلف ص: 197 ، تعليق: 3.

(169) انظر تفسير"الفاسق" بهذا المعنى من تفسير ابن زيد ، فيما سلف رقم: 12103 في الجزء 10: 376. ثم انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق).

(170) في المطبوعة والمخطوطة: "أن حكم الآية منسوخ" ، وهو خطأ فاحش ، فإن أبا جعفر يقول بعد ذلك أنها غير منسوخة ، كما سترى ، فالصواب ما أثبته.

(171) في المطبوعة: "وأنه إن اعترف وفي يدي المدعي سلعة" ، غير ما في المخطوطة ، وفيها: "وأنه إن اعترف في يد المدعي سلعة" ، فأثبت ذلك ، وهو الصواب ، وزدت"عليه" بين القوسين ، لأنه حق المعنى.

وقوله: "اعترف" بمعنى: عرفها وميزها ، كما سيأتي في سائر الفقرة.

(172) في المطبوعة: " . . . تصحح دعواهما ، وورثة الميت رب السلعة" ، حذف قوله"وصارت" ، مع أن الكلام لا يستقيم إلا بها ، وهي في المخطوطة ثابتة ، إلا أن الناسخ أساء كتابتها.

التدبر :

وقفة
[108] لماذا الشهادة على الوصية في الحضر والسفر؟! لأن عدم الإشهاد عليها كثيرًا ما يؤدي إلى التنازع وإلى التشكيك في صحتها.
وقفة
[108] ﴿وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاسْمَعُوا﴾ سمع إجابة وقَبول جميع ما تُؤمرون به، ﴿وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾: تذييل لما تقدم, والمراد: فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة, واللهُ تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته؛ لا يهديهم إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة.
تفاعل
[108] ﴿وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ استعذ بالله أن تكون من هؤلاء.

الإعراب :

  • ﴿ ذلِكَ أَدْنى:
  • ذا: اسم اشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. اللام: للبعد والكاف للخطاب. أدنى: خبر المبتدأ مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر.
  • ﴿ أَنْ يَأْتُوا:
  • أن: حرف مصدرية ونصب. يأتوا: فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه: حذف النون. الواو ضير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة وان وما تلاها بتأويل مصدر في محل جر بحرف جر مقدر وجملة «يَأْتُوا» صلة «أَنْ».
  • ﴿ بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها:
  • جار ومجرور متعلق بيأتوا. على وجهها: جار ومجرور متعلق بحال محذوفة من الشهادة. و «ها» ضمير متصل في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ:
  • أو: عاطفة. يخافوا: معطوفة على «يَأْتُوا» وتعرب إعرابها. أن: حرف مصدري ناصب. تردّ: فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن وعلامة نصبه الفتحة. وجملة «تُرَدَّ أَيْمانٌ» صلة «أَنْ» لا محل لها.
  • ﴿ أَيْمانٌ:
  • نائب فاعل مرفوع بالضمة. و «أَنْ» وما تلاها بتأويل مصدر في محل نصب مفعول به للفعل «يخاف».
  • ﴿ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ:
  • ظرف مكان متعلق بتردّ منصوب بالفتحة. أيمانهم: مضاف إليه مجرور بالكسرة و «هم» ضمير الغائبين في محل جر للاضافة.
  • ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا:
  • الواو: استئنافية. اتقوا: فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. الله لفظ الجلالة: مفعول به منصوب للتعظيم بالفتحة. واسمعوا: معطوفة بالواو على «اتَّقُوا» وتعرب إعرابها.
  • ﴿ وَاللَّهُ لا يَهْدِي:
  • الواو: استئنافية. الله لفظ الجلالة: مبتدأ مرفوع للتعظيم بالضمة. لا: نافية لا عمل لها. يهدي: فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. وجملة * لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» في محل رفع خبر المبتدأ.
  • ﴿ الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ:
  • مفعول به منصوب بالفتحة. الفاسقين: صفة- نعت- للقوم منصوبة مثلها وعلامة نصبها الياء لانها جمع مذكر سالم والنون عوض تنوين الاسم المفرد. '

المتشابهات :

المائدة: 108﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُواْۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
التوبة: 24﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
التوبة: 80﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
الصف: 5﴿فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
المنافقون: 6﴿سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ أَسۡتَغۡفَرۡتَ لَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ لَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

أسباب النزول :

  • * سَبَبُ النُّزُولِ: أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مُخوَّصاً من ذهب فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم وجد الجامُ بمكة، فقالوا ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أوليائه فحلفالشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم قال: وفيهم نزلت هذه الآيةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ). * دِرَاسَةُ السَّبَبِ: هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث ومثله معه منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.قال ابن عطيةلا نعلم خلافًا أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء كانا نصرانيين.) اهـ ثم ساق الحديث.وقال القرطبيولا أعلم خلافاً أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء) اهـ.وقال السعديوهذه الآيات الكريمة، نزلت في قصة تميم الداري، وعدي بن بداء المشهورة حين أوصى لهما العدوي والله أعلم) اهـ.وقال ابن عاشوروقد حدثت في آخر حياة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية وذكر كلامًا إلى أن قال: ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية وهي أن رجلين أحدهما تميم الداري والآخر عدي بن بداء.وحيث إن السبب المذكور معنا مختصر لا يتحقق بقراءته فهم القصة فإني سأذكر القصة كما سردها الطاهر بن عاشور في تفسيره فقال: ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية: هي أن رجلين أحدهما تميم الداري اللخمي، والآخر عدي بن بداء، كانا من نصارى العرب تاجرين، وهما من أهل دارين، وكانا يتجران بين الشام، ومكة، والمدينة. فخرج معهما من المدينة بُديل بن أبي مريم مولى بني سهم - وكان مسلماً - بتجارة إلى الشام، فمرض بديل (قيل في الشام وقيل في الطريق براً أو بحراً) وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوَّص بالذهب قاصداً به ملك الشام، فلما اشتد مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسَّها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلّغاه مواليَه من بني سهم، وكان بديل مولى للعاصي بن وائلٍ السهمي، فولاؤه بعد موته لابنه عمرو بن العاص.وبعض المفسرين يقول: إن ولاء بُديل لعمرو ابن العاصي والمطلب بن وداعة، ويؤيد قولهم أن المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أن الجام لبديل بن أبي مريم. فلما رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا ما لبديل إلى مواليه. فلما نشروه وجدوا الصحيفة فقالوا لتميم وعدي: أين الجام فأنكرا أن يكون دفع إليهما جامًا. ثم وجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال: إنه ابتاعه من تميم وعدي.وفي رواية أن تميماً لما أسلم في سنة تسع تأثم مما صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع إليه الخمسمائة درهم الصائرة إليه من ثمنه، وطالب عمرو عدياً ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه. وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية ... إلى أن قال: واتفقت الروايات على أن الفريقين تقاضوا في ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونزلت هذه الآية في ذلك، فحلف عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على أن تميمًا وعديًا أخفيا الجام، وأن بُديلاً صاحبه وما باعه ولا خرج من يده، ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذ نصراني) اهـ. ولأن الآيات النازلة على هذا السبب لا يتأتى معرفة تفسيرها لكل أحد فسأذكر تفسيرها نقلاً من تفسير السعدي - رحمه الله - حيث قال:(يخبر تعالى خبرًا متضمنًا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية إذا حضر الإنسان مقدمات الموت وعلائمه، فينبغي له أن يكتب وصيته ويُشهد عليها (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ) ممن تعتبر شهادتهما، (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي: من غير أهل دينكم من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين، (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم فيها، (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي: فأشهدوهما ولم يأمر بإشهادهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ويؤكد عليهما، أن يحبسا من بعد الصلاة التي يعظمونها، (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ) أنهما صدقا وما غيرا وما بدلا هذا (إِنِ ارْتَبْتُمْ) في شهادتهما، فإن صدقتموهما فلا حاجة إلى القسم بذلك.ويقولانلَا نَشْتَرِي بِهِ) أي بأيماننا (ثَمَنًا) بأن نكذب فيها لأجل عرض من الدنيا (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) فلا نراعيه لأجل قربه منا (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ) بل نؤديها على ما سمعناها (إِنَّا إِذًا) أي إن كتمناها (لَمِنَ الْآثِمِينَ).(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا) أي الشاهدين (اسْتَحَقَّا إِثْمًا) بأن وجد من القرآن ما يدل على كذبهما، وأنهما خانا (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) أي: أنهما كذبا وغيَّرا وخانا، (وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي: إن ظلمنا واعتدينا وشهدنا بغير الحق.قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانةذَلِكَ أَدْنَى) أي أقرب (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) أي: أن لا تقبل أيمانهم ثم ترد على أولياء الميت (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي الذين وصفهم الفسق فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.وحاصل هذا أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين - أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين، فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين جاز أن يوصي إليهما. ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، ولا بدَّلا فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما.فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين فإن شاء أولياء الميت فليقم منهم اثنان فيقسمان بالله: لشهادتنا أحق من شهادة الشاهدين الأولين وأنهما خانا وكذبا فيستحقون منهما ما يدّعون) اهـ. * النتيجة: أن سبب النزول المذكور في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كان سبباً لنزول الآيات الكريمات وذلك لصحة إسناده، وموافقة سياقه لظاهر الآية واحتجاج المفسرين به وتعويلهم عليه والله أعلم.'
  • المصدر لباب النقول

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [108] لما قبلها :     وبعد الحديث عن الوصية والإشهاد؛ بَيَّنَ اللهُ عز وجل هنا الحكمةَ من هذه الشهادة وهذه الأيمان، قال تعالى:
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

فهرس المصحف

البحث بالسورة

البحث بالصفحة

البحث في المصحف