ترتيب المصحف | 10 | ترتيب النزول | 51 |
---|---|---|---|
التصنيف | مكيّة | عدد الصفحات | 13.50 |
عدد الآيات | 109 | عدد الأجزاء | 0.65 |
عدد الأحزاب | 1.30 | عدد الأرباع | 5.30 |
ترتيب الطول | 10 | تبدأ في الجزء | 11 |
تنتهي في الجزء | 11 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 4/29 | آلر: 1/5 |
لمَّا استمَرُّوا في طلبِ المعجزاتِ بَيَّنَ اللهُ هنا أنَّ عادتَهم المَكرُ والعِنادُ وعدمُ الإنصافِ، وأنَّ طبيعةَ الإنسانِ: يُخْلِصُ الدعاءَ في الضَّراءِ وينسى في السرَّاءِ، وأنَّ بغيَ الإنسانِ عائدٌ على نفسِه.
قريبًا إن شاء الله
بعدَ التَّحذيرِ مِن البَغيِ وهو: الإفرَاطُ في حبِّ التمتُّعِ بما في الدُّنيا من الزِّينةِ واللَّذَّاتِ؛ ضرَبَ هنا مثلًا بَليغًا للحياةِ الدُّنيا، يُذَكِّرُ من يبْغي فيها بسُرعةِ زَوالِها، ثُمَّ رغَّبَ في الآخرةِ.
قريبًا إن شاء الله
التفسير :
يقول تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف، نسوا ما أصابهم من الضراء، ولم يشكروا الله على الرخاء والرحمة، بل استمروا في طغيانهم ومكرهم.
ولهذا قال: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} أي يسعون بالباطل، ليبطلوا به الحق.
{قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فمقصودهم منعكس عليهم، ولم يسلموا من التبعة، بل تكتب الملائكة عليهم ما يعملون، ويحصيه الله عليهم، ثم يجازيهم [الله] عليه أوفر الجزاء.
وقوله أَذَقْنَا من الذوق وحقيقته إدراك الطعام ونحوه بالذوق باللسان واستعمل هنا على سبيل المجاز في إدراك ما يسر وما يؤلم من المعنويات كالرحمة والضراء.
قال الآلوسى «والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل، لما روى من أن الله- تعالى- سلط عليهم القحط سبع سنين، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب، ووعدوه بالإيمان، فلما دعا لهم ورحمهم الله- تعالى- بالمطر، طفقوا يطعنون في آياته- تعالى- ويعاندون نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن الناس عام لجميع الكفار» .
والضراء من الضر، وهو ما يصيب الإنسان في نفسه من أمراض وأسقام.
والمكر: هو التدبير الخفى الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد.
والمعنى: وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغنى من بعد ضراء أصابتهم في أنفسهم أو فيمن يحبون، ما كان منهم إلا المبادرة إلى الطعن في آياتنا الدالة على قدرتنا، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها.
وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة، وأسند المساس إلى الضراء، رعاية للأدب مع الله- تعالى-، لأنه وإن كان كل شيء من عنده، إلا أن الأدب معه- سبحانه- يقتضى إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما في قوله- تعالى-: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وفي الحديث: «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» .
وإذا الأولى شرطية، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط.
وجاء التعبير بإذا الفجائية في الجواب، للإشارة إلى توغلهم في الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة، عادوا إلى عنادهم وجهلهم، ونسبوا كل خير إلى غيره- تعالى-.
قال الرازي: «واعلم أنه- تعالى- ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة في قوله- تعالى- وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ.. إلا أنه- تعالى- زاد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة.
وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر .
وقوله: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أمر من الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بما يبطل مكرهم.
أى: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الذين يسرعون بالمكر في مقام الشكر، إن الله- تعالى- أسرع مكرا منكم لأنه لا يخفى عليه شيء من مكركم، ولأن الحفظة من الملائكة يسجلون عليكم أقوالكم وأفعالكم، التي تحاسبون عليها في يوم القيامة حسابا عسيرا، وسترون أن مكركم السيئ لا يحيق إلا بكم.
وقوله: أَسْرَعُ أفعل تفضيل من الفعل الثلاثي سرع- كضخم وحسن-، أو من الفعل الرباعي «أسرع» عند من يرى ذلك.
والجملة الكريمة تحقيق للانتقام منهم. وتنبيه على أن مكرهم الخفى غير خاف على الحفظة من الملائكة فضلا عن الخالق- عز وجل- الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وسمى- سبحانه- إنكارهم لآياته واستهزاءهم بها مكرا، لأنهم كانوا كثيرا ما يتجمعون سرا، ليتشاوروا في المؤامرات التي يعرقلون بها سير الدعوة الإسلامية، وفي الشبهات التي يوجهونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، كالرخاء بعد الشدة ، والخصب بعد الجدب ، والمطر بعد القحط ونحو ذلك ( إذا لهم مكر في آياتنا ) .
قال مجاهد : استهزاء وتكذيب . كما قال : ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) [ يونس : 12 ] ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على أثر سماء - مطر - أصابهم من الليل ثم قال : " هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ " قالوا الله ورسوله أعلم . قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب " .
وقوله : ( قل الله أسرع مكرا ) أي : أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب ، وإنما هو في مهلة ، ثم يؤخذ على غرة منه ، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ، ويحصونه عليه ، ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة ، فيجازيه على الحقير والجليل والنقير والقطمير .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب ، ورخاء بعد شدّة أصابتهم.
وقيل: عنى به المطر بعد القحط، و " الضراء " : وهي الشدة، و " الرحمة " : هي الفرج. يقول: (إذا لهم مكر في آياتنا) ، استهزاء وتكذيبٌ ، (1) كما:-
17592- حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إذا لهم مكر في آياتنا) قال: استهزاء وتكذيب.
17593-. . . قال: حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17594- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله: (قل الله أسرع مكرًا) يقول تعالى ذكره: : (قل) لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا ، يا محمد ، ( الله أسرع مكرًا)، أي : أسرع مِحَالا بكم ، (2) واستدراجًا لكم وعقوبةً، منكم ، من المكر في آيات الله.
* * *
والعرب تكتفي ب " إذا " من " فعلت " و " فعلوا "، فلذلك حُذِف الفعل معها. (3) وإنما معنى الكلام: ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ) ، مكروا في آياتنا فاكتفى من " مكروا "، ب " إذا لهم مكر ".
* * *
، ( إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) ، يقول: إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم ، أيها الناس ، يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
-----------------------
الهوامش :
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف 14 : 230 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
، وتفسير " الضراء " فيما سلف 12 : 573 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
، وتفسير " المس " فيما سلف ص : 36 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
، وتفسير " المكر " فيما سلف 13 : 502 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) " المحال " ( بكسر الميم ) : الكيد والمكر .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 459 ، 460 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
يونس: 21 | ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾ |
---|
الروم: 36 | ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ |
---|
هود: 9 | ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ |
---|
الشورى: 48 | ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ﴾ |
---|
فصلت: 50 | ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
رسلنا:
وقرئ:
بالتخفيف، وهى قراءة الحسن، وابن أبى إسحاق، وأبى عمرو.
تمكرون:
1- بالتاء، على الخطاب، وهى قراءة السبعة.
وقرئ:
2- بالياء، على الغيبة، جريا على ما سبق، وهى قراءة الحسن، وقتادة، ومجاهد، والأعرج.
التفسير :
لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء، واليسر بعد العسر، ذكر حالة، تؤيد ذلك، وهي حالهم في البحر عند اشتداده، والخوف من عواقبه، فقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} بما يسر لكم من الأسباب المسيرة لكم فيها، وهداكم إليها.
{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} أي: السفن البحرية {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.
{وَفَرِحُوا بِهَا} واطمأنوا إليها، فبينما هم كذلك، إذ {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} شديدة الهبوب {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي: عرفوا أنه الهلاك، فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده، فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام، فقالوا: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}
ثم ساق- سبحانه- مشهدا حيا. تراه العيون، وتهتز له القلوب، ويجعل المشاعر تتجه إلى الله وحده بالدعاء فقال- تعالى- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...
والسير معناه: الانتقال من مكان إلى آخر. والتسيير معناه: جعل الإنسان أو الحيوان أو غيرهما يسير بذاته، أو بواسطة دابة أو سفينة أو غيرهما، مما سخره الله- تعالى- له بقدرته ورحمته.
أى: هو- سبحانه- الذي يسيركم بقدرته ورحمته في البر والبحر، بواسطة ما وهبكم من قدرة على السير، أو ما سخر لكم من دواب وسفن وغيرهما مما تستعملونه في سفركم، وكل ذلك من أجل مصلحتكم ومنفعتكم.
ثم قال- تعالى- حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها....
والفلك: ما عظم من السفن. ويستعمل هذا اللفظ عند كثير من العلماء للواحد والجمع.
والظاهر أن المراد به هنا الجمع، بدليل قوله وَجَرَيْنَ أى: السفن.
والمراد بالريح الطيبة: الريح المناسبة لسير السفن، والموافقة لا تجاهها.
أى: هو- سبحانه- وحده الذي ينقلكم من مكان إلى آخر في البر والبحر، حتى إذا كنتم في إحدى مرات تسييركم راكبين في السفن التي سخرها لكم، وجرت هذه السفن بمن فيها بسبب الريح الطيبة إلى المكان الذي تقصدونه، وأنتم في حالة فرح غامر، وسرور شامل.. جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ....
والريح العاصف: هي الريح الشديدة القوية. يقال: عصفت الريح وأعصفت فهي عاصف إذا اشتدت في سرعتها وهيجانها.
والموج: ما ارتفع من مياه البحار، والظن هنا بمعنى اليقين أو الاعتقاد الراجح، وقوله:
أُحِيطَ بِهِمْ، أى: أحاط بهم البلاء من كل ناحية. يقال لمن وقع في بلية: قد أحيط به.
وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بعدوه جعله على حافة الهلاك.
أى بعد أن جرت السفن بهؤلاء القوم في البحر وهم في فرح وحبور، جاءت إليهم ريح عاصفة شديدة السرعة والتقلب، وارتفع إليها الموج من كل مكان، واعتقد ركابها- الذين كانوا منذ قليل فرحين مبتهجين- أنهم قد أحاط بهم الهلاك كما يحيط العدو بعدوه.
وقوله: بِهِمْ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، لأنه كان الظاهر أن يقال: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم لكن جاء الكلام على أسلوب الالتفات للمبالغة في تقبيح أحوالهم، وسوء صنيعهم.
قال صاحب الكشاف «فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟ قلت:
المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح» .
وقوله: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ بيان لما قالوه بعد أن داهمتهم الرياح العاصفة، والأمواج العالية وبعد أن أيقنوا أنهم على حافة الموت.
أى في تلك الساعات العصيبة، واللحظات الحرجة، توجهوا إلى الله وحده قائلين: نقسم لك يا ربنا، ويا من لا يعجزك شيء، لئن أنجيتنا من تلك الأهوال التي نحن فيها، لنكونن من الشاكرين لك، المطيعين لأمرك، المتبعين لشرعك.
وهنا، وبعد هذا الدعاء العريض، هدأت العاصفة. وانخفضت الأمواج، وسكنت النفوس بعض السكون، ووصلت السفن إلى شاطئ الأمان فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة كما صورها القرآن الكريم: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...
ثم أخبر تعالى أنه : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر ) أي : يحفظكم ويكلؤكم بحراسته ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها ) أي : بسرعة سيرهم رافقين ، فبينما هم كذلك إذ ( جاءتها ) أي : تلك السفن ( ريح عاصف ) أي : شديدة ( وجاءهم الموج من كل مكان ) أي : اغتلم البحر عليهم ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) أي : هلكوا ( دعوا الله مخلصين له الدين ) أي : لا يدعون معه صنما ولا وثنا ، بل يفردونه بالدعاء والابتهال ، كما قال تعالى : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ) [ الإسراء : 67 ]وقال هاهنا : ( دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه ) أي : هذه الحال ( لنكونن من الشاكرين ) أي : لا نشرك بك أحدا ، ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء هاهنا
القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يسيركم، أيها الناس ، في البر على الظهر وفي البحر في الفلك ، (حتى إذا كنتم في الفلك) ، وهي السفن (4) ، (وجرين بهم) يعني: وجرت الفلك بالناس ، (بريح طيبة)، في البحر ، (وفرحوا بها) ، يعني: وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها.
* * *
و " الهاء " في قوله: " بها " عائدة على " الريح الطيبة " .
* * *
، (جاءتها ريح عاصف) ، يقول: جاءت الفلك ريحٌ عاصف، وهي الشديدة.
* * *
والعرب تقول: " ريح عاصف ، وعاصفة " ، و " وقد أعصفت الريح ، وعَصَفت " و " أعصفت " ، في بني أسد، فيما ذكر، قال بعض بني دُبَيْر: (5)
حَـتَّى إِذَا أَعْصَفَـتْ رِيـحٌ مُزَعْزِعَـةٌ
فِيهَـا قِطَـارٌ وَرَعْـدٌ صَوْتُـهُ زَجِـلُ (6)
* * *
، (وجاءهم الموج من كل مكان) يقول تعالى ذكره: وجاء ركبانَ السفينة الموجُ من كل مكان ، (وظنوا أنهم أحيط بهم) ، يقول: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق (7) ، (دعوا الله مخلصين له الدين) ، يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك ، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، كما:-
17595- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (دعوا الله مخلصين له الدين) ، قال: إذا مسّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء.
17596- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة في قوله: (مخلصين له الدين) ، ، " هيا شرا هيا " (8) تفسيره: يا حي يا قوم.
17597- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون .
* * *
، (لئن أنجيتنا) من هذه الشدة التي نحن فيها ، (لنكونن من الشاكرين) ، لك على نعمك ، وتخليصك إيانا مما نحن فيه ، بإخلاصنا العبادة لك ، وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (هو الذي يسيركم) فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ) من " السير " بالسين.
* * *
وقرأ ذلك أبو جعفر القاري: ( هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ ) ، من " النشر "، وذلك البسط، من قول القائل: " نشرت الثوب "، وذلك بسطه ونشره من طيّه.
* * *
فوجّه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عباده فيبسطهم برًّا وبحرًا ، وهو قريب المعنى من " التسيير ".
* * *
وقال: (وجرين بهم بريح طيبة) ، وقال في موضع آخر: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يس: 41] فوحد .
* * *
والفلك: اسم للواحدة ، والجماع ، ويذكر ويؤنث. (9)
* * *
قال: (وجرين بهم) ، وقد قال (هو الذي يسيركم) فخاطب ، ثم عاد إلى الخبر عن الغائب. وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (10)
* * *
وجواب قوله: (حتى إذا كنتم في الفلك) ، ( جاءتها ريح عاصف).
* * *
وأما جواب قوله: (وظنوا أنهم أحيط بهم) ف (دعوا الله مخلصين له الدين).
----------------------
الهوامش :
(4) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12 : 502 .
(5) لم أعرف قائله . و " بنو دبير " من بني أسد .
(6) معاني القرآن للفراء 1 : 460 " مزعزعة " ، شديدة الهبوب ، تحرك الشجر توشك أن تقتلعه .
و " قطار " جمع " قطر " ، وهو المطر . و " رعد زجل " رفيع الصوت متردده عاليه .
(7) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 14 : 289 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(8) هكذا جاءت الكلمة ، ولم أستطع أن أعرف ما هي ، وهي أعجمية بلا ريب .
(9) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 460 .
(10) انظر ما سلف 1 : 154 ، 196 / 3 : 304 ، 305 / 6 : 238 ، 464 / 8 : 447 / 11 : 264 ، ومواضع أخر ، اطلبها في فهارس النحو والعربية وغيرهما .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
يونس: 22 | ﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ |
---|
العنكبوت: 65 | ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ |
---|
لقمان: 32 | ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ﴾ |
---|
غافر: 14 | ﴿فَٱ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
يسيركم:
قرئ:
1- ينشركم، من «النشر» ، وهى قراءة زيد بن ثابت، والحسن، وأبى العالية، وزيد بن على، وأبى جعفر، وعبد الله بن جبير، وأبى عبد الرحمن، وشيبة، وابن عامر.
2- ينشركم، من الإنشار، وهو الإحياء، وهى قراءة الحسن.
3- ينشركم، بالتشديد للتكثير، وهى قراءة بعض الشاميين.
4- يسيركم، وهى قراءة باقى السبعة، والجمهور.
التفسير :
{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما ألزموه أنفسهم، فأشركوا بالله، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد، ولا يدفع عنهم المضايق، فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء، كما أخلصوها في الشدة؟!!
ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم، ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: غاية ما تؤملون ببغيكم، وشرودكم عن الإخلاص لله، أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا وجاهها النزر اليسير الذي سينقضي سريعًا، ويمضي جميعًا، ثم تنتقلون عنه بالرغم.
{ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} في يوم القيامة {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.
أى: فحين أنجاهم الله- تعالى- بفضله ورحمته من هذا الكرب العظيم الذي كانوا فيه، إذا هم يسعون في الأرض فسادا. ويرتكبون البغي الفاضح الذي لا يخفى قبحه على أحد.
وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأنه لا يكون إلا كذلك، إذا البغي معناه: تجاوز الحق، يقال: بغى الجرح إذا تجاوز حده في الفساد.
فقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لما يفيده البغي من التعدي والظلم، فهو بغى ظاهر سافر لا يخفى قبحه على أحد.
وقيل قيده بذلك ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه. فإنه يسمى بغيا في الجملة، لكنه بحق. وهو قول ضعيف، لأن دفع البغي لا يسمى بغيا وإنما يسمى إنصافا من الظالم، ولذا قال القرآن الكريم: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ .
وجاء التعبير بالفاء وإذا الفجائية، للإشعار بأنهم قوم بلغ بهم اللؤم والجحود، أنهم بمجرد أن وطئت أقدامهم بر الأمان، نسوا ما كانوا فيه من أهوال، وسارعوا إلى الفساد في الأرض، دون أن يردعهم رادع، أو يصدهم ترغيب أو ترهيب.
والتعبير بقوله فِي الْأَرْضِ للإشارة إلى أن بغيهم قد شمل أقطارها، ولم يقتصر على جانب من جوانبها.
وقوله- سبحانه- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خطاب منه- سبحانه- لأولئك البغاة في كل زمان ومكان، قصد به التهديد والوعيد.
أى: يا أيها الناس الذين تضرعوا إلينا في ساعات الشدة، وهرولوا إلى البغي بعد زوال تلك الشدة، اعلموا أن بغيكم هذا مرجعه إليكم لا إلى غيركم فأنتم وحدكم الذين تتحملون سوء عاقبته في الدنيا والآخرة.
من الشاكرين لك، المطيعين لأمرك، المتبعين لشرعك.
وهنا، وبعد هذا الدعاء العريض، هدأت العاصفة. وانخفضت الأمواج، وسكنت النفوس بعض السكون، ووصلت السفن إلى شاطئ الأمان فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة كما صورها القرآن الكريم: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...
أى: فحين أنجاهم الله- تعالى- بفضله ورحمته من هذا الكرب العظيم الذي كانوا فيه، إذا هم يسعون في الأرض فسادا. ويرتكبون البغي الفاضح الذي لا يخفى قبحه على أحد.
وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأنه لا يكون إلا كذلك، إذا البغي معناه: تجاوز الحق، يقال: بغى الجرح إذا تجاوز حده في الفساد.
فقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لما يفيده البغي من التعدي والظلم، فهو بغى ظاهر سافر لا يخفى قبحه على أحد.
وقيل قيده بذلك ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه. فإنه يسمى بغيا في الجملة، لكنه بحق. وهو قول ضعيف، لأن دفع البغي لا يسمى بغيا وإنما يسمى إنصافا من الظالم، ولذا قال القرآن الكريم: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ .
وجاء التعبير بالفاء وإذا الفجائية، للإشعار بأنهم قوم بلغ بهم اللؤم والجحود، أنهم بمجرد أن وطئت أقدامهم بر الأمان، نسوا ما كانوا فيه من أهوال، وسارعوا إلى الفساد في الأرض، دون أن يردعهم رادع، أو يصدهم ترغيب أو ترهيب.
والتعبير بقوله فِي الْأَرْضِ للإشارة إلى أن بغيهم قد شمل أقطارها، ولم يقتصر على جانب من جوانبها.
وقوله- سبحانه- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خطاب منه- سبحانه- لأولئك البغاة في كل زمان ومكان، قصد به التهديد والوعيد.
أى: يا أيها الناس الذين تضرعوا إلينا في ساعات الشدة، وهرولوا إلى البغي بعد زوال تلك الشدة، اعلموا أن بغيكم هذا مرجعه إليكم لا إلى غيركم فأنتم وحدكم الذين تتحملون سوء عاقبته في الدنيا والآخرة.
واعلموا أن هذا البغي إنما تتمتعون به متاع الحياة الدنيا التي لا بقاء لها، وإنما هي إلى زوال وفناء.
واعلموا كذلك أن مردكم إلينا بعد هذا التمتع الفاني. فنخبركم يوم الدين بكل أعمالكم، وسنجازيكم عليها بالجزاء الذي تستحقونه.
وقوله: إِنَّما بَغْيُكُمْ مبتدأ وخبره عَلى أَنْفُسِكُمْ أى هو عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم.
وقوله: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا: قرأ حفص عن عاصم مَتاعَ بفتح العين على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر. أى: تتمتعون به متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية.
وقرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: هو متاع الحياة الدنيا. وقوله:
ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تذييل قصد به تهديدهم على بغيهم، ووعيدهم عليه بسوء المصير حتى يرتدعوا وينزجروا.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- أن من الواجب على العاقل أن يكثر من ذكر الله في حالتي الشدة والرخاء، وأن لا يكون ممن يدعون الله عند الضر وينسونه عند العافية، ففي الحديث الشريف: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» .
2- ان الناس جبلوا على الرجوع إل الله وحده عند المصائب والمحن، وفي ذلك يقول الآلوسى: «روى أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبى وقاص قال: لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبى جهل فركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أصحاب السفينة لركابها: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا. فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره. اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمدا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما. قال: فجاء فأسلم.
وفي رواية ابن سعد عن أبى مليكه: أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله- تعالى- ويوحدونه فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله- تعالى-. قال: «فهذا ما يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا بنا» . فرجع وأسلم ... » .
وقال الفخر الرازي: «يحكى أن واحدا قال لجعفر الصادق: اذكر لي دليلا على إثبات الصانع؟ فقال له: أخبرنى عن حرفتك: فقال: أنا رجل أتجر في البحر. فقال له: صف لي كيفية حالك. فقال: ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها، وجاءت الرياح العاصفة. فقال جعفر: هل وجدت في قلبك تضرعا ودعاء. فقال: نعم.
فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت» .
وقد ساق صاحب المنار قصة ملخصها «أن رجلا إنجليزيا قرأ ترجمة قوله- تعالى- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. فراعته بلاغة وصفها لطغيان البحر.. وكان يعمل قائدا لإحدى السفن.. فسأل بعض المسلمين: أتعلمون أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد سافر في البحار؟ فقالوا له: لا.. فأسلم الرجل لأنه اعتقد أن القرآن ليس من كلام البشر وإنما هو كلام الله- تعالى ... » .
3- دل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ... على أن البغي يجازى أصحابه عليه في الدنيا والآخرة.
فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنذار أهله بأنه- سبحانه- سيجازيهم عليه أسوأ الجزاء.
وأما في الدنيا فبدليل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ويؤيده ما رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة سوى البغي وقطيعة الرحم» .
قال الآلوسى. وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى «فقد أخرج أبو نعيم والخطيب والديلمي وغيرهم عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنكث والبغي» ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. وقوله- تعالى- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وقوله- تعالى- وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» .
وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعه ... فارجع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل ... لاندك منه أعاليه وأسفله
ثم ساق- سبحانه- مثلا لمتاع الحياة الدنيا الزائل، ولزخرفها الفاني، فقال- تعالى-:
قال الله تعالى : ( فلما أنجاهم ) أي : من تلك الورطة ( إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) أي : كأن لم يكن من ذاك شيء ( كأن لم يدعنا إلى ضر مسه )
ثم قال تعالى : ( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) أي : إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم ، كما جاء في الحديث : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " .
وقوله : ( متاع الحياة الدنيا ) أي : إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة ( ثم إلينا مرجعكم ) أي : مصيركم ومآلكم ( فننبئكم ) أي : فنخبركم بجميع أعمالكم ، ونوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنُّوا في البحر أنهم أحيط بهم ، من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدُوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه ، من الكفر به ، والعمل بمعاصيه على ظهرها. (11)
يقول الله: يا أيها الناس ، إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم ، وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه ، (متاع الحياة الدنيا)، يقول: ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم. (12)
* * *
وعلى هذا التأويل، " البغي" يكون مرفوعًا بالعائد من ذكره في قوله: (على أنفسكم) (13) ويكون قوله ( متاع الحياة الدنيا ) ، مرفوعًا على معنى: ذلك متاع الحياة الدنيا، كما قال: لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ ، [سورة الأحقاف: 35] ، بمعنى: هذا بلاغ.
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم، لأنكم بكفركم تكسبونها غضبَ الله، متاع الحياة الدنيا، كأنه قال: إنما بغيكم متاعُ الحياة الدنيا، فيكون " البغي" مرفوعًا ب " المتاع "، و " على أنفسكم " من صلة " البغي".
* * *
وبرفع " المتاع " قرأت القراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق ، فإنه نصبه ، بمعنى: إنما بغيكم على أنفسكم متاعًا في الحياة الدنيا، فجعل " البغي" مرفوعًا بقوله: (على أنفسكم) ، و " المتاع " منصوبًا على الحال. (14)
* * *
وقوله: (ثم إلينا مرجعكم) يقول: ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم، وذلك بعد الممات (15) ، يقول: فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا. (16)
------------------------
الهوامش :
(11) انظر تفسير " البغي " فيما سلف 12 : 403 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(12) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف 14 : 340 ، تعليق 3 ، والمراجع هناك .
(13) قراءتنا في مصحفنا اليوم ، في مصر وغيرها ، بنصب " متاع " ، وهي القراءة الأخرى التي سيذكرها أبو جعفر ، ولكنه جرى فيما سلف على تفسير قراءة الرفع .
(14) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 461 ، في تأويل القراءتين .
(15) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص : 20 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(16) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص : 46 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
يونس: 23 | ﴿فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم﴾ |
---|
الشورى: 42 | ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
متاع الحياة الدنيا:
وقرئ:
متاعا الحياة الدنيا، ينصب «متاع» ، وتنوينه ونصب «الحياة» ، وهى قراءة ابن أبى إسحاق.
التفسير :
وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها.
فذلك {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أي: نبت فيها من كل صنف، وزوج بهيج {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} كالحبوب والثمار {و} مما تأكل {الْأَنْعَامِ} كأنواع العشب، والكلأ المختلف الأصناف.
{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} أي: تزخرفت في منظرها، واكتست في زينتها، فصارت بهجة للناظرين، ونزهة للمتفرجين، وآية للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما بين أخضر، وأصفر، وأبيض وغيره.
{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي: حصل معهم طمع، بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه.
فبينما هم في تلك الحالة {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أي: كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان، وضرب الأمثال {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم.
وأما الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان.
وقوله- سبحانه- إِنَّما مَثَلُ ... المثل بمعنى المثل، والمثل: النظير والشبيه، ثم اطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه- لمورده الذي ورد فيه أولا، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية وأشباهها.
والأمثال إنما تضرب لتوضيح المعنى الخفى، وتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس، وعرض الأمر الغائب في صورة المشاهد، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس.
والمعنى: إنما صفة الحياة الدنيا وحالها في سرعة زوالها، وانصرام نعيمها بعد إقباله. كحال ماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أى: فكثر بسببه نبات الأرض حتى التف وتشابك بعضه ببعض لازدهاره وتجاوزه ونمائه.
وشبه- سبحانه- الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض، لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه بزيادة أو نقص- بخلاف ماء الأرض- فكان تشبيه الحياة به أنسب.
وقوله: مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ معناه: وهذا النبات الذي نما وازدهر بسبب نزول المطر من السماء، بعضه مما يأكله الناس كالبقول والفواكه. وبعضه مما تأكله الأنعام كالحشائش والأعشاب المختلفة.
وجملة مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حال من النبات.
وقوله: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ.. تصوير بديع لما صارت عليه الأرض بعد نزول الماء عليها، وبعد أن أنبتت من كل زوج بهيج.
ولفظ حَتَّى غاية لمحذوف: أى نزل المطر من السماء فاهتزت الأرض وربت وأنبتت النبات الذي ما زال ينمو ويزدهر حتى أخذت الأرض زخرفها.
والزخرف: الذهب وكمال حسن الشيء. ومن القول أحسنه، ومن الأرض ألوان نباتها.
أى: حتى إذا استوفت الأرض حسنها وبهاءها وجمالها، وازينت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر البديعة، والألوان المتعددة.
قال صاحب الكشاف: «وهو كلام فصيح. جعلت الأرض آخذة زخرفها وزينتها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزينة، أصل ازينت تزينت» .
وقوله: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أى: وظن أهل تلك الأرض الزاخرة بالنباتات النافعة. أنهم قادرون على قطف ثمارها، ومتمكنون من التمتع بخيراتها، ومن الانتفاع بغلاتها.
وقوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً.. تصوير معجز لما أصاب زرعها من هلاك بعد نضرته واستوائه وأَوْ للتنويع أى: تارة يأتى ليلا وتارة يأتى نهارا.
والجملة الكريمة جواب إذا في قوله حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها ...
أى: بعد أن بلغت الأرض الذروة في الجمال وفي تعلق الآمال بمنافع زروعها، أتاها قضاؤنا النافذ، وأمرنا المقدر لإهلاكها بالليل وأصحابها نائمون، أو بالنهار وهم لا هون، فجعلناها بما عليها كالأرض المحصودة، التي استؤصل زرعها.
وقوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ تأكيد لهلاكها واستئصال ما عليها من نبات بصورة سريعة حاسمة.
أى: جعلناها كالأرض المحصودة التي قطع زرعها، حتى لكأنها لم يكن بها منذ وقت قريب: الزرع النضير، والنبات البهيج، والنخل الباسق، والطلع النضيد.
قال القرطبي قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أى: لم تكن عامرة. من غنى بالمكان إذا أقام فيه وعمره، والمغانى في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس» .
وقال ابن كثير: قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أى كأنها ما كانت حينا قبل ذلك، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، ولهذا جاء في الحديث الشريف: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا.
ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط فيقول لا» .
والمراد بالأمس هنا: الوقت الماضي القريب: لا خصوص اليوم الذي قبل يومك.
وقوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تذييل قصد به الحض على التفكير والاعتبار.
أى: كهذا المثل في وضوحه وبيانه لحال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها نفصل الآيات ونضرب الأمثال الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لقوم يحسنون التفكير والتدبر في ملكوت السموات والأرض.
قال الجمل ما ملخصه: «وهذه الآية مثل ضربه الله- تعالى- للمتشبث في الدنيا الراغب في زهرتها وحسنها.. ووجه التمثيل أن غاية هذه الدنيا التي ينتفع بها المرء، كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها» .
وبعد أن بين- سبحانه- حال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها، أتبع ذلك بدعوة الناس جميعا إلى العمل الصالح الذي يوصلهم إلى الجنة فقال- تعالى-:
ضرب [ تبارك و ] تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء ، مما يأكل الناس من زرع وثمار ، على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك ، ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) أي : زينتها الفانية ، ( وازينت ) أي : حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان ، ( وظن أهلها ) الذين زرعوها وغرسوها ( أنهم قادرون عليها ) أي : على جذاذها وحصادها فبينا هم كذلك إذ جاءتها صاعقة ، أو ريح باردة ، فأيبست أوراقها ، وأتلفت ثمارها ؛ ولهذا قال تعالى : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ) أي : يبسا بعد [ تلك ] الخضرة والنضارة ، ( كأن لم تغن بالأمس ) أي : كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك .
وقال قتادة : ( كأن لم تغن ) كأن لم تنعم .
وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ؛ ولهذا جاء في الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا ، فيغمس في النار غمسة ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط ؟ [ هل مر بك نعيم قط ؟ ] فيقول : لا . ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا "
وقال تعالى إخبارا عن المهلكين : ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ) [ هود : 94 ، 95 ] .
ثم قال تعالى : ( كذلك نفصل الآيات ) أي : نبين الحجج والأدلة ، ( لقوم يتفكرون ) فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع اغترارهم بها ، وتمكنهم بمواعيدها وتفلتها منهم ، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها ، والطلب لمن هرب منها ، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض ، في غير ما آية من كتابه العزيز ، فقال في سورة الكهف : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) [ الكهف : 45 ] ، وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء .
وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان - يعني : ابن الحكم - يقرأ على المنبر : " وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها " ، قال : قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس : هكذا يقرؤها ابن عباس . فأرسلوا إلى ابن عباس فقال : هكذا أقرأني أبي بن كعب .
وهذه قراءة غريبة ، وكأنها زيادة للتفسير .
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها ، مع ما قد وُكِّلَ بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت، ، كمثل ماءٍ أنـزلناه من السماء، يقول: كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض ، (فاختلط به نبات الأرض) ، يقول: فنبت بذلك المطر أنواعٌ من النبات ، مختلطٌ بعضها ببعض، كما:-
17598- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (إنما مَثَل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) ، قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس ، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. (17)
* * *
وقوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) يعني: ظهر حسنها وبهاؤها (18) ، (وازينت) ، يقول : وتزينت (19) ، ( وظن أهلها) ، يعني: أهل الأرض ، ( أنهم قادرون عليها) ، يعني: على ما أنبتت.
* * *
وخرج الخبر عن " الأرض " والمعنى للنبات، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عُنِي به.
* * *
وقوله: (أتاها أمرنا ليلا أو نهارًا) ، يقول: جاء الأرض ، " أمرنا " ، يعني : قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات ، إما ليلا وإما نهارًا ، (فجعلناها)، يقول: فجعلنا ما عليها ، (حصيدًا) يعني: مقطوعة مقلوعة من أصولها. (20)
* * *
، وإنما هي " محصودة " صرفت إلى " حصيد ".
* * *
، ( كأن لم تغن بالأمس) ، يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتةً قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس.
* * *
وأصله: من " غَنِيَ فلان بمكان كذا ، يَغْنَى به " ، إذا أقام به، (21) كما قال النابغة الذبياني:
غَنِيَــتْ بِـذَلِكَ إِذْ هُـمُ لَـكَ جِـيرَةٌ
مِنْهَــا بِعَطْــفِ رِسَــالَةٍ وَتَـوَدُّد (22)
* * *
يقول: فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرُنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها ، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس، كأن لم تكن قبل ذلك نباتًا على ظهرها.
يقول الله جل ثناؤها: (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) ، يقول: كما بينَّا لكم أيها الناس ، مثل الدنيا وعرّفناكم حكمها وأمرها، كذلك نُبين حججنا وأدلَّتنا لمن تفكَّر واعتبر ونظر. (23)
وخصَّ به أهل الفكر، لأنهم أهل التمييز بين الأمور ، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشُّبَه في الصدور.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17599- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها)، الآية، : أي والله، لئن تشبَّثَ بالدنيا وحَدِب عليها ، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه.
17600- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وازينت) ، قال : أنبتت وحسُنَت .
17601- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا) ، قال: قد قرأتها، وليست في المصحف. فقال عباس بن عبد الله بن العباس: هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا أقرأني أبيُّ بن كعب. (24)
17602- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة: ( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول : كأن لم تعشْ ، كأن لم تَنْعَم.
17603- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : في قراءة أبيّ : ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (25)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (وازينت) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: (وَازَّيَّنَتْ) بمعنى: وتزينت، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته، إذ كانت التاء قد سكنت ، والساكن لا يُبْتَدأ به.
* * *
وحكي عن أبي العالية ، وأبي رجاء ، والأعرج ، وجماعة أخر غيرهم ، أنهم قرءوا ذلك: (وَأَزْيَنَتْ) على مثال " أفعلت ".
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك: (وَازَّيَّنَتْ) لإجماع الحجة من القراء عليها.
--------------------------
الهوامش :
(17) انظر تفسير " الأنعام " فيما سلف 13 : 280 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(18) انظر تفسير " الزخرف " فيما سلف 12 : 55 ، 56 .
(19) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص : 37 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(20) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 277 .
(21) انظر تفسير " غني بالمكان " فيما سلف 12 : 569 ، 570 .
(22) ديوانه : 65 ، وسيأتي في التفسير 12 : 66 ( بولاق ) ، وغيرهما ، من قصيدته المشهورة التي وصف فيها المتجردة ، وقبله :
فِــي إثْــرِ غانيـةٍ رَمَتْـكَ بِسَـهْمِاَ
فأَصَـابَ قَلْبَـكَ غَـيْرَ أَنْ لَـمْ تَقْصِدِ
وكان في المطبوعة : " إذ هم لي جيرة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لرواية ديوانه .
(23) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص : 24 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(24) الأثر : 17601 - " الحارث " ، هو : " الحارث بن أبي أسامة " ، ثقة ، مضى مرارًا .
و " عبد العزيز " ، هو : " عبد العزيز " بن أبان الأموي ، كذاب خبيث ، وضاع للأحاديث ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 14333 .
وأما " عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام " ، فلم أجحد له ذكرا في التوراة .
وأبوه " أبو بكر بن عبد الرحمن " ، " راهب قريش " ، ثقة ، عالم ، عاقل ، سخي ، كثير الحديث ، أحد فقهاء المدينة السبعة . ترجم له ابن حجر في التهذيب ، وابن سعد في الطبقات 5 : 153 والزبيري في نسب قريش : 303 ، 304 . وذكر ابن سعد ولده فقال : " فولد أبو بكر : عبد الرحمن لا بقية له ، وعبد الله ، وعبد الملك ، وهشاما . . . " . ولم يذكر ذلك الزبيري في نسب قريش ، ولكنه ذكر قصة قال في أولها " فقال لابنه عبد الله اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن . . . " ثم قال في نفس القصة بعد قليل : " فذهب عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن " : " وسماه ابن سعد لما عد أولاد ، أبي بكر بن عبد الرحمن : عبد الرحمن " ، ولكن نص ابن سعد مخالف لما قال الحافظ ابن حجر فهما عنده رجلان بلا شك في ذلك . ولم أجد ما أستقصي من الأخبار حتى أفضل في هذا الاختلاف . و " عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن " ، ليس بثقة . و " مروان " ، هو : " مروان بن الحكم " . وهذا الخبر كما ترى ، هالك الإسناد من نواحيه . والقراءة التي فيه إذا صحت من غير هذا الطريق الهالك ، فهي قراءة تفسير ، كما هو معروف ، وكما أشرنا إليه مرارًا في أشباهها . ولا يجل لقارئ أنة يقرأ بمثلها على أنها نص التلاوة ، لشذوذها ، ولمخالفتها رسم المصحف بالزيادة ، بغير حجة يجب التسليم لها .
(25) الأثر : 17603 - " أبو أسامة " ، هو " حماد بن أسامة بن يزيد القرشي " ، ثقة ، روى له الجماعة مضى مرارًا .
" وإسماعيل " ، هو " إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . وأما " أبو سلمة بن عبد الرحمن " ، فلم يسمع من أبي بن كعب . فهو إسناد مرسل .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
يونس: 24 | ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ﴾ |
---|
الكهف: 45 | ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
وازينت:
1- هذه قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- وتزينت، وهى قراءة أبى عبد الله، وزيد بن على، والأعمش.
3- وأزينت، على وزن «أفعلت» ، كأحصد الزرع، أي حضرت زينتها، وهى قراءة سعد بن أبى وقاص، وأبى عبد الرحمن، وابن يعمر، والحسن، والشعبي، وأبى العالية، وقتادة، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، وعيسى الثقفي.
4- وازيأنت، بهمزة مفتوحة، بوزن «افعألت» ، وهى قراءة أبى عثمان النهدي.
5- وازيانت، بألف ساكنة ونون مشددة، وهى قراءة أشياخ عوف بن أبى جميلة.
6- وازاينت، وهى قراءة فرقة.
لم تغن:
وقرئ:
لم يغن: بالياء، وهى قراءة الحسن، وقتادة.
التفسير :
عم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلام، والحث على ذلك، والترغيب، وخص بالهداية من شاء استخلاصه واصطفاءه، فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة بعد البيان والرسل، وسمى الله الجنة "دار السلام" لسلامتها من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه، وحسنه من كل وجه.
والمقصود بدار السلام: الجنة التي أعدها الله- تعالى- لعباده المؤمنين، وسميت بذلك، لأنها الدار التي سلم أهلها من كل ألم وآفة. أو لأن تحيتهم فيها سلام، أو لأن السلام من أسماء الله- تعالى- فأضيفت إليه تعظيما لشأنها، وتشريفا لقدرها، كما يقال للكعبة: بيت الله.
وقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ... معطوف على محذوف يدل عليه السياق.
والتقدير: الشيطان يدعوكم إلى إيثار متاع الحياة الدنيا وزخرفها، والله- تعالى- يدعو الناس جميعا إلى الإيمان الحق الذي يوصلهم إلى دار كرامته.
وقوله: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو المؤدى بصاحبه إلى رضوان الله ومغفرته.
والمراد بالصراط المستقيم: الدين الحق الذي شرعه الله لعباده. وبلغه لهم عن طريق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ) الآية : لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة [ عطبها و ] زوالها ، رغب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار السلام أي : من الآفات ، والنقائص والنكبات ، فقال : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .
قال أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قيل لي : لتنم عينك ، وليعقل قلبك ، ولتسمع أذنك فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني . ثم قيل : سيد بنى دارا ، ثم صنع مأدبة ، وأرسل داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار الإسلام ، والمأدبة الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا حديث مرسل ، وقد جاء متصلا من حديث الليث ، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا . فقال : اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها بيتا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من تركه ، فالله الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها " رواه ابن جرير .
وقال قتادة : حدثني خليد العصري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، إن ما قل وكفى ، خير مما كثر وألهى " . قال : وأنزل ذلك في القرآن ، في قوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لعباده: أيها الناس ، لا تطلبوا الدنيا وزينتَها، فإن مصيرها إلى فناءٍ وزوالٍ ، كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلا إلى هلاكٍ وبَوَارٍ، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية، ولها فاعملوا، وما عند الله فالتمسوا بطاعته، فإن الله يدعوكم إلى داره، وهي جناته التي أعدَّها لأوليائه، تسلموا من الهموم والأحزان فيها، وتأمنوا من فناء ما فيها من النَّعيم والكرامة التي أعدَّها لمن دخلها، وهو يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم، وهو الإسلام الذي جعله جل ثناؤه سببًا للوصول إلى رضاه ، وطريقًا لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانه وكرامته، (26) كما:-
17604- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: " الله " ، السلام، ودارُه الجنة.
17605- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام) ، قال: " الله " هو السلام، ودارُه الجنة.
17606- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، قيل لي: " لتنم عينُك، وليعقِل قلبك، ولتسمع أُذُنك " فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل: " سيّدٌ بنى دارًا، ثم صنع مأدُبة، ثم أرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي ، لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرضَ عنه السيد "، فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم ". (27)
17607- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)، ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا: " يا باغي الخير هلمّ ، ويا باغي الشرِّ انتَهِ".
17608- حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة قال ، حدثنا عبد الملك بن عمرو قال ، حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال ، حدثني خُلَيد العَصَريّ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجَنَبَتَيْها ملكان يناديان، يسمعُه خلق الله كلهم إلا الثَّقلين (28)
: " يا أيها الناس هلمُّوا إلى ربِّكم، إنّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وأَلْهَى ". قال: وأنـزل ذلك في القرآن في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). (29)
17609- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: إني رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا ! فقال: اسْمَع سمعتْ أُذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلك ومَثَل أمتك ، كمثل ملك اتخذ دارًا ، ثم بنى فيها بيتًا ، ثم جعل فيها مأدُبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه . فالله الملك، والدار الإسلام، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد الرسولُ، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. (30)
------------------------
الهوامش:
(26) انظر تفسير " الهداية " و " الصراط المستقيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) ، ( سرط) ، ( قوم ) .
(27) الأثر : 17606 - " أبو قلابة " ، هو : " عبد الله بن زيد الجرمي " ، أحد أعلام التابعين ، مضى مرارًا . فهذا خبر " مرسل " ، وسيأتي نحوه متصلا في تخريج الأثر رقم : 17609 .
(28) " الجنبة " ( بفتح الجيم والنون ، وبفتحها وإسكان النون ) الناحية ، ورواة الحديث يروون " الجنبة " فتحتين ، وأهل اللغة يؤثرون سكون النون . ويستدلون على ذلك بقول أبي صعترة البولاني :
فمـا نُطْفَـةٌ مِـنْ حَـبِّ مُزْنٍ تَقَاذَفَتْ
بــه جَنْبَتَـا الجُـودِيِّ والليـلُ دَامِسُ
بِـأَطْيَبِ مَـنْ فِيهَا , وَمَا ذُقْتُ طَعْمَهُ ,
وَلكِـنَّنِي فِيمـا تَـرَى العَيْـنُ فَـارِسُ
والذي رواه أهل الحديث جيد صحيح .
(29) الأثر : 17608 - " الحسين بن سلمة بن إسماعيل بن يزيد بن أبي كبشة الأزدي الطحان " ، شيخ الطبري ، ثقة . روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما ، مترجم في التهذيب ، وأبي ابن حاتم 1 / 2 / 54 . و " عبد الملك بن عمرو " ، هو " أبو عامر العقدي " ، ثقة ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 12795 . و" عباد بن راشد التميمي " ، ثقة وليس بالقوي ، روى له البخاري مقرونا بغيره ، مضى برقم : 11060 ، 12527 . و" خليد بن عبد الله العصري " ، روى عن أبي الدرداء ، وقال ابن حبان في الثقات ، وذكره : يقال إن هذا مولى لأبي الدرداء . وفرق البخاري في الكبير بين " خليد مولى أبي الدرداء " ، و " خليد بن عبد الله العصري " ، وكذلك ابن أبي حاتم . مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 181 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 383 . وهذا خبر صحيح الإسناد ، ورواه أحمد في مسنده مطولا 5 : 197 ، من طريق همام ، عن قتادة ، عن خليد العصري . وزيادته : " وَلَا آبَت شمس قَطُّ إلا بعث بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَان يُناديان ، يُسْمِعان أهل الأرض إلا الثَّقلين : اللهمّ أعطِ مُنْفقًا خلفًا ، وأعط مُمْسكًا تَلَفًا " . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 304 ، مطولًا ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان .
(30) الأثر : 17069 - " خالد بن يزيد الجمحي المصري " ثقة مضى مرارًا ، آخرها رقم : 13377 . و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري " ، ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17429 ، روايته عن جابر مرسلة ، وحديثه عن جابر أورده البخاري معلقًا ، متابعة . وفي الترمذي : " سعيد بن أبي هلال ، لم يدرك جابرًا " . فهذا خبر مرسل عن جابر ، وصله الحاكم في المستدرك 2 : 338 من طريق " عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال قال : سمعت أبا جعفر محمد بن على بن الحسين ، وتلا هذه الآية : " والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" فقال : حدثني جابر بن عبد الله " ، ثم قال الحاكم : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي " .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 304 ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، بمثل لفظ الحاكم وإسناده . وكان في المطبوعة : " أكل منها " ، وهو موافق لما في سائر المراجع ، وأثبت ما في المخطوطة ، لأنه واضح لا إشكال في قراءته ، ولا في معناه .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 142 | ﴿قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ |
---|
البقرة: 213 | ﴿فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ |
---|
يونس: 25 | ﴿وَاللَّـهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ |
---|
النور: 46 | ﴿لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء