12071727374757677

الإحصائيات

سورة المائدة
ترتيب المصحف5ترتيب النزول112
التصنيفمدنيّةعدد الصفحات21.50
عدد الآيات120عدد الأجزاء1.07
عدد الأحزاب2.15عدد الأرباع8.60
ترتيب الطول6تبدأ في الجزء6
تنتهي في الجزء7عدد السجدات0
فاتحتهافاتحتها
النداء: 2/10يا أيها الذين آمنوا: 1/3

الروابط الموضوعية

المقطع الأول

من الآية رقم (71) الى الآية رقم (71) عدد الآيات (1)

= نقضِ بني إسرائيلَ لميثاقِهم، وضلالِهم.

فيديو المقطع


المقطع الثاني

من الآية رقم (72) الى الآية رقم (74) عدد الآيات (3)

لَمَّا تَكلَّم اللهُ عن اليهودِ في الآياتِ السَّابقةِ، تَكلَّم هاهنا عن النَّصَارى، وبَيَّنَ كفرَهم وزعمَهم ألوهيةَ المسيحِ عليه السلام وتَوعَّدَهم، ثُمَّ دعاهُم إلى التوبةِ.

فيديو المقطع


المقطع الثالث

من الآية رقم (75) الى الآية رقم (76) عدد الآيات (2)

لمَّا تَوعَّدَهم ثُمَّ دعاهُم إلى التوبةِ وبَّخَهم هنا ببيانِ بشريةِ عِيسى عليه السلام ، فهو يأكلُ الطعامَ ليعيشَ فإن نفدَ الطَّعامُ ماتَ، فهل هذه صفةُ الإلهِ؟!

فيديو المقطع


مدارسة السورة

سورة المائدة

الوفاء بالعهود والمواثيق/ الحلال والحرام.

أولاً : التمهيد للسورة :
  • • ما "المائدة" التي سميت بها السورة؟:   الحواريون (أصحاب عيسى عليه السلام الخُلَّص) طلبوا من عيسى عليه السلام أن يدعو اللهَ أن ينزل عليهم مائدة من السماء، ليأكلوا منها وتزداد قلوبهم اطمئنانًا إلى أنه صادق فيما يبلغه عن ربه: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (112-113)، فاستجاب عيسى عليه السلام لهم ودعا ربه، فوعده الله بها، وأخذ عليهم عهدًا وحذرهم من نقضه: أن من كفر بعد نزولها ولم يؤمن فسوف يعذبه عذابًا شديدًا: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ (115). وهذا توجيه وتحذير للمسلمين بأن عليهم الوفاء بالعهود والمواثيق، وإلا سيكون العذاب جزاؤهم كما في قصة المائدة. السورة تنادي: - التزموا بالعقود التي ألزمكم الله بها، وأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. - احذروا من التهاون بهذه العقود أو إضاعتها كما حصل من اليهود والنصارى.
  • • هدف السورة واضح من أول نداء:   لجاء في السورة: ﴿يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ أي أوفوا بعهودكم، لا تنقضوا العهود والمواثيق.
ثانيا : أسماء السورة :
  • • الاسم التوقيفي ::   «المائدة».
  • • معنى الاسم ::   المائدة: الخِوَانُ الموضوع عليه طعام، والعرب تقول للخُوان إذا كان عليه طعام: مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام لم تقل له مائدة.
  • • سبب التسمية ::   لورود قصة المائدة بها.
  • • أسماء أخرى اجتهادية ::   ‏‏«سورة العقود»؛ لافتتاحها بطلب الإيفاء بالعقود، و«المنقذة»، و«الأحبار».
ثالثا : علمتني السورة :
  • • علمتني السورة ::   الوفاء بالعقود مع الله، ومع الناس، ومع النفس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...﴾
  • • علمتني السورة ::   أن الأخلاق الفاضلة هي أثر للعقيدة الصحيحة والتشريعات الحكيمة.
  • • علمتني السورة ::   أن الإنسان غال عند ربه، من أجل ذلك شرع الله الشرائع التي تضبط حياته، وتصون حرمته ودمه وماله (سورة المائدة أكثر سورة ذكرًا لآيات الأحكام).
  • • علمتني السورة ::   أنه ينبغي على الدعاة أن يبدأوا مع الناس بما أبيح أولًا، ثمّ يبينوا المحرّمات بعد ذلك، لكي يكسبوا القلوب: ﴿يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاْنْعَامِ﴾ (1)، فلم يبدأ ربنا بما قد حُرِّم لكي لا ينفروا، فكلمة ﴿أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ توحي بأن الخطاب بعدها شديد اللهجة، فتأتي مباشرة كلمة ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة.
رابعًا : فضل السورة :
  • • عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا».
    • عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (118)، فَلَمَّا أَصْبَحَ قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا»، قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا».
    • عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ الأُوَل مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ حَبْرٌ». السبعُ الأُوَل هي: «البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والتوبة»، وأَخَذَ السَّبْعَ: أي من حفظها وعلمها وعمل بها، والحَبْر: العالم المتبحر في العلم؛ وذلك لكثرة ما فيها من أحكام شرعية.
    • عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ». وسورة المائدة من السبع الطِّوَال التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم مكان التوراة.
    • عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ لِعُمَرَ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (3)؛ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا»، فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَةَ».
    • قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: «الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، وَفِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا».
خامسًا : خصائص السورة :
  • • هي الأكثر ذكرًا لآيات الأحكام.
    • أول سورة -بحسب ترتيب المصحف- تبدأ بنداء المؤمنين: ﴿يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ﴾ من أصل 3 سور افتتحت بذلك، وهي: «المائدة، والحجرات، والممتحنة».
    • آخر سورة نزلت بالأحكام الشرعية.
    • تمتاز بالمواجهة الشديدة مع أهل الكتاب، فهي أكثر السور تكفيرًا لليهود والنصارى.
    • أكثر السور تأكيدًا على أن التشريع حق لله تعالى وحده، حيث خُتِمت ثلاث آيات بالتحذير من الحكم بغير ما أنزل الله، وهي: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (44)، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (45)، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (47).
سادسًا : العمل بالسورة :
  • • أن نفي بالعقود والعهود مع الله، ومع الناس، ومع النفس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...﴾ (1).
    • أن نتعاون دومًا على البر والتقوى، ففي التقوى رضى الله، وفي البر رضى الناس.
    • أن ندرس بابَ الأطعمةِ من أحد كتبِ الفقه لنتعلَّمَ ما يُبَاح وما يحْرُم: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ...﴾ (3).
    • أن نزور أحد المرضى ونعلمه صفة التيمم: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ (6).
    • أن نتوخي العدل دائمًا؛ حتى في معاملة المخالفين: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ (8).
    • أن نفوض أمورنا إلى الله تعالى، ونعتمد عليه، ونفعل الأسباب، ولا نعتمد عليها: ﴿وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (11).
    • ألا نُظهِر البلاء على ألسنتنا؛ فالبلاء موكّل بالمنطق، فاليهود لما قالوا: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ (النساء 155)، أي لا تعي شيء، حلّ بهم البلاء: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ (13).
    • أن نجمع بين البشارة والنذارة أثناء دعوة الناس إلى الله: ﴿فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ (19).
    • أن نعدد ثلاثًا من النعم التي اختصنا الله بها دون أقراننا، ونشكره عليها: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ﴾ (20).
    • ألا يغيب عنا التفاؤل أبدًا: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ (23).
    • أن نحذر الحسد؛ لأنه صفة ذميمة تؤذي صاحبها وتجره إلى معصية الله، وتجعله يسخط ويعترض على ربه، فهو أول ذنب عُصي الله به في السماء والأرض: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ...﴾ (27).
    • أن نشدد العقوبة بحق من يفسدون في الأرض ويقطعون الطريق؛ حتى نمنع مجرمين آخرين من الظهور: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ ...﴾ (33).
    • أن نشتغل بالإصلاح بعد التوبة؛ لأن هذا سبب لقبولها: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّـهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (39).
    • أن نحدد أمورًا تتطهر بها قلوبنا، ثم نفعلها، ونتحل بها؛ مثل: حسن الظن، والعفو: ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّـهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ (41).
    • أن نسبق اليوم غيرنا إلى نوع من الطاعات؛ كالصف الأول، والصدقة لمضطر محتاج، أو غيرها من أبواب الخير: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (48).
    • ألا نتخذ اليهود والنصارى أولياء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ...﴾ (51).
    • أن نتذكّر قول الله: ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾ (54) عندما نرى من أقراننا من هو أفضل منا فهمًا أو علمًا أو مالًا أو نعمة.
    • أن نحفظ ألسنتنا عن كثرة الحلِف: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ (89).
    • أن نتجنب الخمر والميسر والأزلام والأنصاب، ونبين للناس حرمة ذلك: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ...﴾ (90).
    • أن نحدد بعض المنكرات ونبلغ الناس حكم الله فيها: ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ (99).
    • ألا نسأل عن الأمور التي لا فائدة من وراءها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (101).
    • أن نكتب الوصية قبل النوم، وننصح غيرنا بذلك، ونبين لهم أهمية كتابة الوصية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ (106).
    • أن نحذر أشد الحذر من كفران النعم، فإن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ (115).
    • أن نسأل الله كثيرًا أن يرزقنا الصدق في القول والعمل: ﴿قَالَ اللَّـهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ (119).

تمرين حفظ الصفحة : 120

120

مدارسة الآية : [71] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ ..

التفسير :

[71] وظنَّ هؤلاء العُصاة من اليهود أن الله لن يأخذهم بالعذاب جزاء عصيانهم وعُتُوِّهم، فمضوا في شهواتهم، وعمُوا عن الهدى فلم يبصروه، وصَمُّوا عن سماع الحقِّ فلم ينتفعوا به، فأنزل الله بهم بأسه، فتابوا فتاب الله عليهم، ثم عَمِي كثيرٌ منهم، وصمُّوا، بعدما تب

{ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ْ} أي:ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم لا يجر عليهم عذابا ولا عقوبة، فاستمروا على باطلهم.{ فَعَمُوا وَصَمُّوا ْ} عن الحق{ ثُمَّ ْ} نعشهم و{ تاب الله عَلَيْهِمْ ْ} حين تابوا إليه وأنابوا{ ثُمَّ ْ} لم يستمروا على ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة.{ فعَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ْ} بهذا الوصف، والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم.{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ْ} فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أنهم مع ما فعلوه مع رسلهم من التكذيب والقتل لم ينزجروا، ولم يندموا ... بلغ بهم الغرور والسفه أنهم ظنوا أن ما فعلوه شيء هين وأنه لن يكون له أثر سىء في حياتهم. فقال- تعالى- وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.

وقوله: وَحَسِبُوا معطوف على قوله كَذَّبُوا وهو من الحسبان بمعنى الظن: وقوله:

فِتْنَةٌ من الفتن وهو إدخال الذهب في النار لتظهر جودته. والمراد بها هنا: الشدائد والمحن والمصائب التي تنزل بالناس.

وقوله: فَعَمُوا وَصَمُّوا من العمى الذي هو ضد الإبصار، ومن الصمم الذي هو ضد السمع. وقد استعير هنا للإعراض عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل.

والمعنى إن بنى إسرائيل قد أخذنا عليهم العهد المؤكد، وأرسلنا إليهم الرسل لهدايتهم، فكان حالهم أنهم كذبوا بعض الرسل، وقتلوا البعض الآخر. ولم يكتفوا بهذا بل ظنوا- لسوء أعمالهم وفساد قلوبهم واستيلاء الغرور والتكبر على نفوسهم- أنهم لن يصيبهم بلاء ولا عقاب بتكذيبهم للرسل وقتلهم لهم فأمنوا عقاب الله وتمادوا في فنون البغي والفساد وعموا وصموا عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل واشتملت عليها الكتب السماوية ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أى: قبل توبتهم بعد أن رجعوا عما كانوا عليه من فساد ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا أى: ثم نكسوا على رءوسهم مرة أخرى فعادوا إلى فسادهم وضلالهم وعدوانهم على هدايتهم، إلا عددا قليلا منهم بقي على إيمانه وتوبته فأنت ترى أن الآية الكريمة مسوقة لبيان فساد معتقدات بنى إسرائيل وما جبلت عليه نفوسهم من جحود وغرور. حيث ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم ومنكرات تقشعر لها الأبدان ومع كل ذلك حسبوا أن الله- تعالى- لا يعاقبهم عليها، لأنهم- كما يزعمون- أبناء الله وأحباؤه. ثم إنهم بعد أن تاب الله عليهم نقضوا عهودهم معه وعادوا إلى عماهم عن الدين الذي جاءتهم به رسلهم وإلى صممهم عن الاستماع إلى الحق الذي ألقوه إليهم.

وقوله: أَلَّا تَكُونَ قراءة أبو عمر والكسائي وحمزة بضم النون على اعتبار «أن» هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فتنة. فخففت أن وحذف ضمير الشأن- وهو اسمها- وحسبوا على هذه القراءة بمعنى علموا.

وتعليق فعل الحسبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لتمكنه في قلوبهم.

وقرأه الباقون بفتح النون على اعتبار أن «أن» ناصبة لتكون. وحسب على هذه القراءة على بابها من الشك والظن.

وسد مسد مفعولي حسب على القراءتين ما اشتمل عليه الكلام من المسند والمسند إليه وهو أن وما في حيزها.

وقوله فَعَمُوا معطوف على حَسِبُوا وجيء بالفاء التي للسببية للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها.

أى أن عماهم عن الطريق القويم وصممهم عن سماع الحق كان سببه ظنهم الفاسد، واعتقادهم الباطل أن ما ارتكبوه من قبائح لن يعاقبوا عليه في الدنيا.

ومن بديع إيجاز القرآن الكريم أن أومأ إلى عدم اهتمامهم بمصيرهم في الآخرة ببيان أن ظنهم لن تنزل بهم مصائب في الدنيا يسبب مفاسدهم، هذا الظن هو الذي جعلهم يرتكبون ما يرتكبون من قبائح.. أما الآخرة فلا مكان لها في تفكيرهم، لأنهم قوم تعساء يحرصون على الدنيا حرصا شديدا دون أن يعيروا الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب أى اهتمام.

وهذا شأن الأمم إذا ما استحوذ عليها الشيطان وتغلب عليها حب الشهوات وضعف الوازع الديني في نفوس أفرادها. إنهم في هذه الحالة يصير همهم مقصورا على تدبير شئون دنياهم، فإذا ما وجدوا فيها مأكلهم وشربهم وملذاتهم اغمضوا أعينهم عن آخرتهم، بل وربما استهانوا وتهكموا بمن يذكرهم بها فتكون نتيجة إيثارهم الدنيا على الآخرة الشقاء والتعاسة.

وجيء بحرف العطف ثُمَّ المفيد للتراخي في قوله ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ للإشارة إلى أن قبول توبتهم كان بعد مفاسد عظيمة وقعت منهم أى: ثم تاب الله عليهم بعد أن كان منهم ما كان من منكرات وجرائم وإعراض عن الرشد والهدى.

وقوله ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا بيان لنقضهم لعهودهم مع الله، وارتكاسهم في الذنوب والخطايا والمنكرات. ارتكاسا شديدا بحيث صاروا ليسوا أهلا لقبول التوبة منهم بعد ذلك.

أى: بعد أن قبل الله توبتهم من جرائمهم المنكرة. عادوا إلى الانتكاس مرة أخرى فوقعوا في الذنوب والجرائم بإصرار وعناد فأصابهم ما أصابهم من عقوبات لم يتب الله عليهم بعدها.

وقوله كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير في قوله عَمُوا وَصَمُّوا وهذا الإبدال في غاية الحسن. لأنه لو قال عَمُوا وَصَمُّوا بدون هذا البدل لأوهم ذلك أنهم جميعا صاروا كذلك.

فلما قال كَثِيرٌ مِنْهُمْ دل على أن العمى والصمم قد حدث للكثيرين منهم، وهناك قلة منهم لم تنقض عهودها مع الله- تعالى- بل بقيت على إيمانها وصدق توبتها.

وهذا- كما قلنا مرارا- من إنصاف القرآن للناس في أحكامه، ودقته في ألفاظه، واحتراسه فيما يصدر من أحكامه.

وقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ تذييل قصد به بطلان حسبانهم المذكور، والبصير مبالغة في المبصر وهو هنا بمعنى العليم بكل ما يكون منهم من أعمال سواه أبصرها الناس أم لم يبصروها.

والمقصود من هذا الخبر لازم معناه، وهو الإنذار والتذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء.

وسيحاسبهم على أعمالهم.

أى: والله- تعالى- عليم بما يعملونه علم من يبصر كل شيء دون أن تخفى عليه خافية، وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقونه من عذاب أليم.

هذا، وقد تكلم المفسرون عن وقت التوبة التي كانت بعد عماهم وصممهم وعن العمى والصمم الذي أصابهم بعد ذلك وقد أجمل الإمام الرازي كلامهم فقال:

والآية تدل على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين. واختلف المفسرون في المراد بهاتين المرتين على وجوه:

الأول: المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى- عليهم السلام- ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان: ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان محمد صلى الله عليه وسلم بأن أنكروا نبوته. وقلة منهم هي التي آمنت به.

الثاني: المراد أنهم عموا وصموا حين عبدوا العجل، ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم، ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت وهو طلبهم رؤية الله جهرة.

الثالث: قال القفال: ذكر الله- تعالى- في سورة الإسراء ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً .

والذي نراه أن تحديد عماهم وصممهم وتوبتهم بزمان معين أو بجريمة أو جرائم معينة تابوا بعدها هذا التحديد غير مقنع.

ولعل أحسن منه أن نقول: إن القرآن الكريم يصور ما عليه بنو إسرائيل من صفات ذميمة، وطبائع معوجة، ومن نقض للعهود والمواثيق. فهم أخذ الله عليهم العهود فنقضوها، وأرسل إليهم الرسل فاعتدوا عليهم وظنوا أن عدوانهم هذا شيء هين ولن يصيبهم بسببه عقاب دنيوى، فلما أصابهم العقاب الدنيوي كالقحط والوباء والهزائم. بسبب مفاسدهم، تابوا إلى الله فقبل الله توبتهم ورفع عنهم عقابه، فعادوا إلى عماهم وصممهم- إلا قليلا منهم-، وارتكبوا ما ارتكبوا من منكرات بتصميم وتكرار فأصابهم- سبحانه- بفتن لم يتب عليهم منها. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .

وبعد أن بين- سبحانه- أنماطا من قبائح اليهود ومن صفاتهم الذميمة شرع في بيان قبائح النصارى وضلالاتهم وأرشدهم إلى طريق الحق والصواب، وحذرهم من السير في طريق الغواية والعناد فقال- تعالى:

(وحسبوا ألا تكون فتنة ) أي : وحسبوا ألا يترتب لهم شر على ما صنعوا ، فترتب ، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا ، فلا يسمعون حقا ولا يهتدون إليه ( ثم تاب الله عليهم ) أي : مما كانوا فيه ( ثم عموا وصموا )

أي : بعد ذلك ( [ وصموا ] كثير منهم والله بصير بما يعملون ) أي : مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية .

القول في تأويل قوله : وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)

قال أبو جعفر: يقول تعالى: وظن هؤلاء الإسرائيليون (1) = الذين وصف تعالى ذكره صفتهم: أنه أخذ ميثاقهم: وأنه أرسل إليهم رسلا وأنهم كانوا كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا= أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبارٌ بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون (2)

=" فعموا وصموا "، يقول: فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم، من إخلاص عبادتي، والانتهاء &; 10-479 &; إلى أمري ونهيي، والعمل بطاعتي، بحسبانهم ذلك وظنهم =" وصموا " عنه = ثم تبت عليهم. يقول: ثم هديتهم بلطف مني لهم حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليه من معاصيَّ وخلاف أمري والعمل بما أكرهه منهم، إلى العمل بما أحبه، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي =" ثم عموا وصموا كثير منهم "، (3) يقول: ثم عموا أيضًا عن الحق والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم: من العمل بطاعتي، والانتهاء إلى أمري، واجتناب معاصيَّ =" وصموا كثير منهم "، يقول: عمى كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل، باتباع رسلي والعمل بما أنـزلت إليهم من كتبي (4) = عن الحق وصموا، بعد توبتي عليهم، واستنقاذي إياهم من الهلكة =" والله بصير بما يعملون "، يقول " بصير "، فيرى أعمالهم خيرَها وشرَّها، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. (5)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

12288 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وحسبوا ألا تكون فتنة "، الآية، يقول: حسب القوم أن لا يكون بلاءٌ =" فعموا وصموا "، كلما عرض بلاء ابتلوا به، هلكوا فيه.

12289 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا "، يقول: حسبوا أن لا يبتلوا، فعموا عن الحق وصمُّوا.

12290 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مبارك، عن الحسن: " وحسبوا ألا تكون فتنة "، قال: بلاء.

12291 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: " وحسبوا ألا تكون فتنة "، قال: الشرك.

12292 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا "، قال: اليهود.

12293 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: " فعموا وصموا "، قال: يهود= قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: هذه الآية لبني إسرائيل. قال: و " الفتنة "، البلاء والتَّمحيص.

* * *

التدبر :

وقفة
[71] ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارًا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الإمهال.
وقفة
[71] ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ الفتنة تصيب دومًا من لم يحسب حسابها، وأكثر من يظن أنه بعيد عن الفتنة هو أكثر الناس وقوعًا فيها.
وقفة
[71] ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ الفتنة تصيب من لا يحسب لها حسابًا، فلا تستغرب اندفاعه في تقرير أفكاره.
وقفة
[71] ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ إذا فتن (القلب) عمي (البصر)، وصمت (الآذان)؛ فتخبطت (الجوارح).
وقفة
[71] ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ ظن بنو إسرائيل ألا يعاقبهم الله على نقض المواثيق وتكذيب المرسلين بعقوبات في الدنيا ولا في الآخرة، ومن أمن العقاب أساء الأدب.
وقفة
[71] ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ إذا فتن القلب عمي البصر وصمت اﻷذن؛ فتخبطت (الجوارح).
وقفة
[71] اعلم أن الغرور وطول الأمل يصدان العبد عن طريق الله تعالى، فاحذر ذلك ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ۚ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾.
عمل
[71] ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ﴾ لا تفقد الأمل في هداية أحد، فهؤلاء عميت أبصارهم عن رؤية الحق، وصمت أذانهم عن سماع دعوة الحق، ومع ذلك تاب الله عليهم.
وقفة
[71] ﴿ثُمَّ تَابَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ﴾ أي: رجع بهم إلى الطاعة والحق، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم.
تفاعل
[71] ﴿ثُمَّ تَابَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ﴾ ادعُ الله الآن أن يتوب عليك.

الإعراب :

  • ﴿ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ:
  • الواو: عاطفة. حسبوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. ألّا: مكونة من «أن» حرف مصدري ناصب و «لا» نافية لا عمل لها. تكون: فعل مضارع تام بمعنى «تقع» منصوب بأن. فتنة: فاعل «تَكُونَ» مرفوع بالضمة. و «أن» وما تلاها بتأويل مصدر سدّ مسدّ مفعولي «حسب» وجملة «لا تكون» صلة «أن» المصدرية لا محل لها.
  • ﴿ فَعَمُوا وَصَمُّوا:
  • الفاء: سببية. عموا: فعل ماض مبني على الضمة الظاهرة على الياء المحذوفة لاتصاله بواو الجماعة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. أي عموا عن رؤية الحق. وصموا: معطوفة بالواو على «عموا» وتعرب إعراب «حَسِبُوا» أي وصموا عن سماع الحق.
  • ﴿ ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ:
  • ثم: حرف عطف. تاب: فعل ماض مبني على الفتح. الله: فاعل مرفوع للتعظيم بالضمة. عليهم: جار ومجرور متعلق بتاب عليهم. على: حرف جر و «هم» ضمير الغائبين في محل جر بعلى. والجملة معطوفة على جملة مقدرة أي: وتابوا فتاب الله عليهم. و «عَلَيْهِمْ» متعلق بتاب.
  • ﴿ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ:
  • سبق اعرابها. كثير: بدل من الضمير في «عَمُوا وَصَمُّوا» أي واو الجماعة وهو بدل البعض من المبدل منه «الكل» والتقدير ثم عاد وعمى كثير منهم وصمّوا. منهم: تعرب اعراب «عَلَيْهِمْ» ويجوز ان تكون «كَثِيرٌ» خبرا لمبتدأ محذوف. أي أولئك كثير منهم. و «مِنْهُمْ» متعلق بصفة محذوفة من «كَثِيرٌ».
  • ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما:
  • الواو: استئنافية. الله لفظ الجلالة: مبتدأ مرفوع بالضمة. بصير: خبر المبتدأ مرفوع بالضمة. بما: جار ومجرور متعلق ببصير. ما: اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالباء.
  • ﴿ يَعْمَلُونَ:
  • فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. وجملة «يَعْمَلُونَ» صلة الموصول لا محل لها. والعائد الى الموصول في «بِما يَعْمَلُونَ» ضمير محذوف منصوب المحل لانه مفعول به. التقدير: بما يعملونه. أو تكون «ما» مصدرية التقدير. بعملهم. '

المتشابهات :

الحجرات: 18﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
البقرة: 96﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمۡ لَوۡ يُعَمَّرُ أَلۡفَ سَنَةٖ وَمَا هُوَ بِمُزَحۡزِحِهِۦ مِنَ ٱلۡعَذَابِ أَن يُعَمَّرَۗ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
آل عمران: 163﴿هُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِۗ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
المائدة: 71﴿ْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٞ مِّنۡهُمۡۚ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [71] لما قبلها :     وبعد أن بَيَّنَ اللهُ عز وجل نقض بني إسرائيلَ لميثاقِهم، وتكذيب الأنبياء وقتلهم؛ بَيَّنَ هنا ما جبلت عليه نفوسهم من جحود وغرور، حيث ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، ومع ذلك حسبوا أن الله لا يعاقبهم عليها؛ لأنهم -كما يزعمون- أبناء الله وأحباؤه، قال تعالى:
﴿ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

القراءات :

تكون:
قرئ:
1- بنصب نونه، ب «أن» الناصبة للمضارع، وهو على الأصل، وهى قراءة الحرميين، وعاصم، وابن عامر.
2- برفعها، على أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، وهى قراءة النحويين، وحمزة.
فعموا:
وقرئ:
بضم العين والصاد وتخفيف الميم، وهى قراءة النخعي، وابن وثاب.
كثير:
وقرئ:
كثيرا، بالنصب، وهى قراءة ابن أبى عبلة.

مدارسة الآية : [72] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ..

التفسير :

[72] يقسم الله تعالى بأن الذين قالوا:إن الله هو المسيح بن مريم، قد كفروا بمقالتهم هذه، وأخبر تعالى أن المسيح قال لبني إسرائيل:اعبدوا الله وحده لا شريك له، فأنا وأنتم في العبودية سواء. إنه من يعبد مع الله غيره فقد حرَّم الله عليه الجنة، وجعل النار مُستَق

يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم:{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ْ} بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية، والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى، وقال لهم:{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ْ} فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق.{ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ ْ} أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره.{ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ْ} وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق، وصرف ما خلقه الله له - وهو العبادة الخالصة - لغير من هي له، فاستحق أن يخلد في النار.{ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ْ} ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم.

قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما استقصى الكلام مع اليهود، شرع هاهنا في الكلام مع النصارى، فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم.

وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلها، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله- تعالى- حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى .

واللام في قوله: لَقَدْ كَفَرَ واقعة جوابا لقسم مقدر.

والمراد بالكفر: ستر الحق وإنكاره والانغماس في الباطل والضلال.

أى: اقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا: إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح ابن مريم.

وقد أكد- سبحانه- كفرهم بالقسم المقدر لأنهم غالوا في إطراء عيسى وفي وضعه في غير موضعه كما غالت اليهود في الكفر به وفي وصفه بالأوصاف التي هو برىء منها.

ثم حكى- سبحانه- ما قاله عيسى في الرد على من جعلوه إلها فقال: وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.

أى: وقال المسيح مكذبا لمن وصفه بالألوهية: يا بنى إسرائيل اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، فهو ربي الذي خلقني وتعهدنى بالتربية والرعاية، وهو ربكم- أيضا- الذي أنشأكم وأوجدكم ورزقكم من الطيبات.

والواو في قوله: وَقالَ الْمَسِيحُ للحال. والجملة حالية من الواو التي هي فاعل قالُوا.

أى: قالوا ما قالوا، والحال أن عيسى قد تبرأ مما قالوه. وقال لبنى إسرائيل حين إرساله إليهم: اعبدوا الله ربي وربكم.

وقوله: رَبِّي وَرَبَّكُمْ تنبيه إلى ما هو الحجة القاطعة على فساد قولهم المذكور لأن عيسى لم يفرق بينه وبين غيره في العبودية لله- تعالى- لأنه- سبحانه- هو الخالق له ولهم ولكل شيء.

ثم حكى- سبحانه- ما قاله عيسى محذرا من الإشراك فقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.

وهذه الجملة تعليل للأمر بعبادة الله وحده. والضمير المقترن بإن ضمير الشأن والمراد بتحريم الجنة على المشرك: منعه من دخولها، لإشراكه مع الله آلهة أخرى.

والمأوى: المكان الذي يأوى إليه الإنسان. أى يرجع إليه ويستقر فيه.

أى: قال المسيح لبنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، لأنه أى الحال والشأن مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا في عبادته- سبحانه- فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أى: منعه من دخولها، بسبب شركه وكفره، وجعل مَأْواهُ النَّارُ أى: جعل مستقره ومكانه النار بدل الجنة وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم بأن ينقذوهم مما هم فيه من بلاء وشقاء مقيم.

فالجملة الكريمة تحذير شديد من الإشراك بالله، وبيان لما سيؤول إليه حال المشركين من تعاسة وشقاء.

وجمع- سبحانه- بين العقوبة السلبية للمشركين وهي حرمانهم من الجنة وبين العقوبة الإيجابية وهي استقرارهم في النار، للإشارة إلى عظيم جرمهم حيث أشركوا بالله، وتقولوا عليه الأقاويل الباطلة التي تدل على جهلهم وسفاهتهم.

والمراد بالظالمين: المشركون الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم فتكون ال للعهد.

ويجوز أن يراد بهم كل ظالم بسبب إشراكه وكفره ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا فتكون أل للجنس.

وقال- سبحانه- وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ بصيغة الجمع لكلمة «أنصار» ، وبالتأكيد بمن المفيدة للاستغراق، للإيذان بأنه إذا كان الظالمون لن يستطيع الأنصار مجتمعين أن ينصروهم فمن باب أولى لن يستطيع واحد أن ينصرهم.

أى: مالهم من أحد كائنا من كان أن ينقذهم من عقاب الله بأى طريقة من الطرق.

وهذه الجملة الكريمة يحتمل أن تكون من كلام عيسى الذي حكاه الله عنه- كما سبق أن ذكرنا- ويحتمل أن تكون من كلام الله- تعالى- وقد ساقها- سبحانه- لتأكيد ما قاله المسيح من أمره لقومه بعبادة الله وحده ولتقرير مضمونه المفيد للتحذير من الإشراك.

يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنسطورية ممن قال منهم بأن المسيح هو الله ، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوا كبيرا .

هذا وقد تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله ورسوله ، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال : ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) ولم يقل : أنا الله ، ولا ابن الله . بل قال : ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) إلى أن قال : ( وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) [ مريم : 30 - 36 ] .

وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته ، آمرا لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له ; ولهذا قال تعالى : ( وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله ) أي : فيعبد معه غيره ( فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) أي : فقد أوجب له النار ، وحرم عليه الجنة ، كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ، 116 ] ، وقال تعالى : ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ) [ الأعراف : 50 ] .

وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في الناس : " إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة " ، وفي لفظ : " مؤمنة " .

وتقدم في أول سورة النساء عند قوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) [ النساء : 48 ، 116 ] حديث يزيد بن بابنوس ، عن عائشة : الدواوين ثلاثة فذكر منهم ديوانا لا يغفره الله ، وهو الشرك بالله ، قال الله تعالى : ( من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [ ومأواه النار ] ) الحديث في مسند أحمد .

ولهذا قال [ الله ] تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) أي : وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه .

القول في تأويل قوله : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن بعض ما فَتَن به الإسرائيلين الذين أخبر عنهم أنهم حسبوا أن لا تكون فتنة. يقول تعالى ذكره: فكان مما ابتليتهم واختبرتهم به، فنقضوا فيه ميثاقي، وغيَّروا عهدي الذي كنت أخذته عليهم بأن لا يعبدوا سواي، ولا يتخذوا ربًّا غيري، وأن يوحِّدوني، وينتهوا إلى طاعتي= عبدي عيسى ابن مريم، فإني خلقته، وأجريت على يده نحوَ الذي أجريت على يد كثير من رسلي، فقالوا كفرًا منهم: " هو الله ". (6)

وهذا قول اليعقوبيّة من النصارى عليهم غضب الله.

يقول الله تعالى ذكره: فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به، أشركوا بي، وقالوا لخلق من خلقي، وعبدٍ مثلهم من عبيدي، وبشر نحوهم معروفٍ نسبه وأصله، مولود من البشر، يدعوهم إلى توحيدي، ويأمرهم بعبادتي وطاعتي، &; 10-481 &; ويقرّ لهم بأني ربه وربهم، وينهاهم عن أن يشركوا بي شيئًا: " هو إلههم "، جهلا منهم بالله وكفرًا به، ولا ينبغي لله أن يكون والدًا ولا مولودًا.

ويعني بقوله: " وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم "، يقول: اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يَذِلّ كل شيء، وله يخضع كل موجود (7) =" ربي وربكم "، يقول: مالكي ومالككم، وسيدي وسيدكم، الذي خلقني وإياكم (8) =" إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة "، أن يسكنها في الآخرة=" ومأواه النار "، يقول: ومرجعه ومكانه- الذي يأوي إليه ويصير في معاده، من جعل لله شريكًا في عبادته- نارُ جهنم (9) =" وما للظالمين "، يقول: وليس لمن فعل غير ما أباح الله له، وعبد غير الذي له عبادة الخلق (10) =" من أنصار "، ينصرونه يوم القيامة من الله، فينقذونه منه إذا أورده جهنم. (11)

----------------

الهوامش :

(1) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 7: 384 ، 421.

(2) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف ص: 392 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.

(3) انظر تفسير"العمى" و"الصمم" ، فيما سلف 1: 328- 331/3: 315.

(4) انظر القول في رفع"كثير" في معاني القرآن للفراء 1: 316 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 174.

(5) انظر تفسير"بصير" فيما سلف من فهارس اللغة.

(6) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف 10: 146 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.

(7) انظر تفسير"العبادة" فيما سلف من فهارس اللغة (عبد).

(8) انظر تفسير"الرب" فيما سلف 1: 142 ، ثم فهارس اللغة فيما سلف.

(9) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 9: 225 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.

(10) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة.

(11) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف 9: 339 ، تعليق 3 ، والمراجع هناك.

المعاني :

لم يذكر المصنف هنا شيء

التدبر :

وقفة
[72] بيان كفر النصارى في زعمهم ألوهية المسيح عليه السلام، وبيان بطلانها، والدعوةُ للتوبة منها ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾.
وقفة
[72] ذكرت صيدلية نصرانية أن سبب إسلامها هو سماعها لقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾، وتقول: «لا أستطيع وصف شعوري حينها، فكل حياتي الماضية هدمت أمامي؛ لأنها حياة كفر، هنا أعلنت إسلامي».
وقفة
[72] يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم: ﴿إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية، والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى، وقال لهم: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق.
وقفة
[72] كانت أول كلمة نطق بها المسيح في المهد: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم: 30]، ثم أمر قومه هنا: ﴿اعْبُدُوا اللَّـهَ﴾، وإذا كان المسيح يقول: يا رب، فكيف يدعون الألوهية لمن اعترف على نفسه لربه بالعبوديته؟!
عمل
[72] احذر الشرك؛ فإنه لا تنفع معه طاعة ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾.
عمل
[72] أرسل رسالة تبين فيها أن الله سبحانه قد يغفر كل ذنب إلا الشرك ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾.
تفاعل
[72] ﴿حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ استعذ بالله أن تكون من هؤلاء.
وقفة
[72] قوله تعالى: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ﴾ المرادُ بالظَّالمين هنا المشركون، بقرينةِ ما قبله، إِذِ الظَّالمون من المسلمين لهم ناصرٌ، وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم لشفاعته لهم يوم القيامة.

الإعراب :

  • ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا:
  • اللام: للابتداء والتوكيد. قد: حرف تحقيق كفر: فعل ماض مبني على الفتح. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. قالوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. وجملة «قالُوا» صلة الموصول لا محل لها.
  • ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ:
  • إنّ: حرف مشبه بالفعل. الله لفظ الجلالة: اسم «إِنَّ» منصوب للتعظيم بالفتحة. هو: ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. المسيح: خبر «هُوَ» مرفوع بالضمة. والجملة الاسمية «هُوَ الْمَسِيحُ» في محل رفع خبر «إِنَّ» ويجوز اعراب «هُوَ» ضمير فصل لا محل له و «الْمَسِيحُ» خبر «إِنَّ» والجملة: في محل نصب مفعول به «مقول القول» بمعنى «زعموا».
  • ﴿ ابْنُ مَرْيَمَ:
  • ابن: صفة- نعت- للمسيح مرفوع مثله بالضمة. ويجوز أن تكون بدلا من. مريم: مضاف اليه مجرور بالفتحة بدلا من الكسرة لانه اسم ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف.
  • ﴿ وَقالَ الْمَسِيحُ:
  • الواو: استئنافية. قال: فعل ماض مبني على الفتح. المسيح: فاعل مرفوع بالضمة.
  • ﴿ يا بَنِي إِسْرائِيلَ:
  • يا: أداة نداء. بني: منادى مضاف منصوب بالياء لانه ملحق بجمع المذكر السالم وحذفت النون للاضافة. اسرائيل: تعرب اعراب «مَرْيَمَ».
  • ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ:
  • الجملة: في محل نصب مفعول به «مقول القول». اعبدوا: فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الافعال الخمسة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. الله: مفعول به منصوب بالفتحة.
  • ﴿ رَبِّي وَرَبَّكُمْ:
  • ربّ: بدل من لفظ الجلالة منصوب للتعظيم بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم. والياء ضمير متصل في محل جر بالاضافة. وربكم: معطوفة بالواو على «رَبِّي» وتعرب اعرابها وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة والميم علامة للجمع.
  • ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ:
  • إنّ: حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل والهاء ضمير الشأن مبني على الضم في محل نصب اسمها. من: اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. يشرك: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بمن وعلامة جزمه سكون آخره. والفاعل: ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. بالله: جار ومجرور للتعظيم متعلق بيشرك.
  • ﴿ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ:
  • الفاء: واقعة في جواب الشرط. قد: حرف تحقيق. حرّم: فعل ماض مبني على الفتح. الله: فاعل مرفوع للتعظيم بالضمة. والجملة: جواب شرط جازم مسبوق بقد مقترنة بالفاء في محل جزم وجملتا فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ «من» وجملة «من مع خبرها» في محل رفع خبر «إن».
  • ﴿ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ:
  • جار ومجرور متعلق بحرّم. الجنة: مفعول به منصوب بالفتحة. ومأواه: الواو: حالية. مأوى: مبتدأ مرفوع بالضمة المقدرة على الالف للتعذر. والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ النَّارُ:
  • خبر المبتدأ مرفوع بالضمة وجملة «وَمَأْواهُ النَّارُ» في محل نصب حال أي ومأواه في الآخرة النار.
  • ﴿ وَما لِلظَّالِمِينَ:
  • الواو: استئنافية. ما: نافية مهملة. للظالمين: جار ومجرور متعلق بخبر مقدم محذوف وعلامة جر الاسم الياء لانه جمع مذكر سالم. والنون عوض عن التنوين والحركة في الاسم المفرد.
  • ﴿ مِنْ أَنْصارٍ:
  • من: حرف جر زائد. أنصار: اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على انه مبتدأ مؤخر. '

المتشابهات :

البقرة: 270﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
آل عمران: 192﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
المائدة: 72﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [72] لما قبلها :     وبعد أن ذكرَ اللهُ عز وجل بعضَ قبائح وجرائمِ اليهود؛ ذكرَ هنا بعضَ قبائح النصارى وجرائمِهم، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [73] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ..

التفسير :

[73] لقد كفر من النصارى من قال:إنَّ الله مجموع ثلاثة أشياء:هي الأب، والابن، وروح القدس. أما عَلِمَ هؤلاء النصارى أنه ليس للناس سوى معبود واحد، لم يلد ولم يولد، وإن لم ينته أصحاب هذه المقالة عن افترائهم وكذبهم ليُصِيبَنَّهم عذاب مؤلم موجع بسبب كفرهم بالل

{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ْ} وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم، زعموا أن الله ثالث ثلاثة:الله، وعيسى، ومريم، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى، كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟! كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين ؟! كيف خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى -رادا عليهم وعلى أشباههم -:{ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ْ} متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من نعمة إلا منه. فكيف يجعل معه إله غيره؟"تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ثم توعدهم بقوله:{ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ْ}

وقوله- تعالى- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ بيان لما قالته طائفة أخرى من طوائف النصارى الذين يتفرقون في العقائد والنحل، ويتجمعون على الكفر والضلال، فهم شيع شتى، وفرق متنابذة، كل شيعة منهم تكفر الأخرى وتعارضها في معتقداتها.

قال الفخر الرازي ما ملخصه: في تفسير قول النصارى إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ طريقان:

الأول: أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. والذي يؤكد ذلك قوله- تعالى- للمسيح أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقوله: ثالِثُ ثَلاثَةٍ أى: أحد ثلاثة آلهة. أو واحد من ثلاثة آلهة.

والطريق الثاني: أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أب، وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب الذات. وبالابن الكلمة.

وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر أو اللبن فزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد.

ثم قال الإمام الرازي: واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل. فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى» :

وقد ذكر بعض المفسرين أن الذين قالوا من النصارى إن الله ثالث ثلاثة هم النسطورية والمرقوسية .

ومعنى ثالث ثلاثة: واحد من ثلاثة. أى: أحد هذه الأعداد مطلقا وليس الوصف بالثالث فقد ذكر النحاة أن اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما لك أن تستعمله على وجوه منها: أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير. فتقول: رابع أربعة أى: واحد من أربعة وليس زائدا عليها، ويجب حينئذ إضافته إلى أصله.

وقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ بيان للاعتقاد الحق بعد ذكر الاعتقاد الباطل.

وقد جاءت هذه الجملة بأقوى أساليب القصر وهو اشتمالها على «ما» و «إلا» . مع تأكيد النفي بمن المفيدة لاستغراق النفي.

والمعنى: لقد كفر الذين قالوا كذبا وزورا إن الله واحد من آلهة ثلاثة، والحق أنه ليس في هذا الوجود إله مستحق للعبادة والخضوع سوى إله واحد وهو الله رب العالمين، الذي خلق الخلق بقدرته، ورباهم بنعمته. وإليه وحده مرجعهم وإيابهم.

ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة هؤلاء الضالين الذين قالوا ما قالوا من ضلال وكذب فقال- تعالى-: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

وهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله: لَقَدْ كَفَرَ والمراد بانتهائهم: رجوعهم عما هم عليه من ضلال وكفر.

والمراد بقوله: - عَمَّا يَقُولُونَ: أى عما يعتقدون وينطقون به من زور وبهتان.

أى: لقد كفر أولئك الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة كفرا شديدا بينا والحق أنه ليس في الوجود سوى إله واحد مستحق للعبادة، وإن لم يرجع هؤلاء الذين قالوا بالتثليث عن عقائدهم الزائفة وأقوالهم الفاسدة ويعتصموا بعروة التوحيد لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أى: ليصيبن الذين استمروا على الكفر منهم عذاب أليم.

فالجملة الكريمة تحذير من الله- تعالى- لهم عن الاستمرار في هذا القول الكاذب.

والاعتقاد الفاسد الذي يتنافى مع العقول السليمة، والأفكار القويمة.

وقوله: لَيَمَسَّنَّ جواب لقسم محذوف، وهو ساد مسد جواب الشرط المحذوف في قوله وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا والتقدير: والله إن لم ينتهوا ليمسن.

وأكد- سبحانه- وعيدهم بلام القسم في قوله لَيَمَسَّنَّ ردا على اعتقادهم أنهم لا تمسهم النار، لأن صلب عيسى- في زعمهم- كان كفارة عن خطايا البشر.

وعبر بالمس للإشارة إلى شدة ما يصيبهم من آلام: لأن المراد أن هذا العذاب الأليم يصيب جلدهم وهو موضع الإحساس فيهم إصابة مستمرة، كما قال- تعالى- في آية أخرى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ .

وقال- سبحانه- لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالتعبير بالظاهر دون الضمير للإشارة إلى سبب العذاب وهو كفرهم لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن الصلة هي سبب الحكم.

ومن في قوله مِنْهُمْ يصح أن تكون تبعيضية أى: ليمسن الذين استمروا على الكفر من هؤلاء النصارى عذاب أليم، لأن كثيرا منهم لم يستمروا على الكفر بل رجعوا عنه ودخلوا في دين الإسلام.

ويصح أن تكون بيانية، وقد وضح ذلك صاحب الكشاف بقوله: ومن في قوله: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ للبيان كالتي في قوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ.

والمعنى: ليمسن الذين كفروا من النصارى خاصة عَذابٌ أَلِيمٌ أى نوع شديد الألم من العذاب.. كما تقول: أعطنى عشرين من الثياب. تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون» .

وقوله ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهستجاني ، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم ، حدثنا الفضل حدثني أبو صخر في قول الله : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) قال : هو قول اليهود : ( عزير ابن الله ) وقول النصارى : ( المسيح ابن الله ) [ التوبة : 30 ] فجعلوا الله ثالث ثلاثة .

وهذا قول غريب في تفسير الآية : أن المراد بذلك طائفتا اليهود والنصارى ، والصحيح : أنها أنزلت في النصارى خاصة ، قاله مجاهد وغير واحد .

ثم اختلفوا في ذلك فقيل : المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة وهو أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، قال ابن جرير وغيره : والطوائف الثلاث من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم . وهم مختلفون فيها اختلافا متباينا ليس هذا موضع بسطه ، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى ، والحق أن الثلاث كافرة .

وقال السدي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله ، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار ، قال السدي : وهي كقوله تعالى في آخر السورة : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ) الآية [ المائدة : 116 ] .

وهذا القول هو الأظهر ، والله أعلم . قال الله تعالى : ( وما من إله إلا إله واحد ) أي : ليس متعددا ، بل هو وحده لا شريك له ، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات .

ثم قال تعالى متوعدا لهم ومتهددا : ( وإن لم ينتهوا عما يقولون ) أي : من هذا الافتراء والكذب ( ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ) أي : في الآخرة من الأغلال والنكال .

القول في تأويل قوله : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)

قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الإسرائيليين الذين وصف صفتهم في الآيات قبل: أنه لما ابتلاهم بعد حِسْبَانهم أنهم لا يُبتلون ولا يفتنون، قالوا كفرًا بربهم وشركًا: " الله ثالث ثلاثة ".

* * *

وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية. (12) كانوا فيما بلغنا يقولون: " الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعة بينهما ".

* * *

يقول الله تعالى ذكره، مكذّبًا لهم فيما قالوا من ذلك: " وما من إله إلا إله واحد "، يقول: ما لكم معبود، أيها الناس، إلا معبود واحد، وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود، بل هو خالق كل والد ومولود=" وإن لم ينتهوا عما يقولون "، يقول: إن لم ينتهوا قائلو هذه المقالة عما يقولون من قولهم: " الله ثالث ثلاثة " (13) =" ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم "، يقول: ليمسن الذين يقولون هذه المقالة، والذين يقولون المقالة الأخرى: هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، لأن الفريقين كلاهما كفرة مشركون، فلذلك رجع في الوعيد بالعذاب إلى العموم، (14) ولم يقل: " ليمسنَّهم عذابٌ أليم "، لأن ذلك لو قيل كذلك، صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصًّا لقائل القول الثاني، وهم القائلون: " الله ثالث ثلاثة "، ولم يدخل فيهم القائلون: " المسيح هو الله ". فعمّ بالوعيد تعالى ذكره كلَّ كافر، ليعلم المخاطبون بهذه الآيات أنّ وعيد الله قد شمل كلا الفريقين من بني إسرائيل، ومن كان من الكفار على مثل الذي هم عليه.

* * *

فإن قال قائل: وإن كان الأمر على ما وصفت، فعلى مَنْ عادت " الهاء والميم " اللتان في قوله: " منهم "؟

قيل: على بني إسرائيل.

* * *

فتأويل الكلام، إذْ كان الأمر على ما وصفنا: وإن لم ينته هؤلاء الإسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول، ليمسنَّ الذين يقولون منهم: " إن المسيح هو الله "، والذين يقولون: " إن الله ثالث ثلاثة "، وكل كافر سلك سبيلهم= عذابٌ أليم، بكفرهم بالله. (15)

* * *

وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا، في أنه عنى بهذه الآيات النصارى.

ذكر من قال ذلك:

12294 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " لقد كفر الذين قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة "، قال: قالت النصارى: " هو والمسيح وأمه "، فذلك قول الله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة المائدة: 116].

12295 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة "، نحوه.

--------------

الهوامش :

(12) في المطبوعة: "والملكانية" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(13) انظر تفسير"انتهى" فيما سلف 3 : 569/ 6 : 14.

(14) انظر تفسير"مس" فيما سلف 7: 414 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.

(15) انظر تفسير"عذاب أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).

التدبر :

وقفة
[73] ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ كيف يكون ضروريًّا في حياتهم وهو مجرد واحد من ثلاثة؟!
وقفة
[73] ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ كلامهم سبب عذابهم، وهذا تهديد بأن كلمة واحدة من العبد قد تورده المهالك.
لمسة
[73] ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ جاء الفعل (يَقُولُونَ) بصيغة المضارع، ولم يقل: (عما قالوا)؛ لأنه مناسب لمعنى الفعل (يَنتَهُواْ)، فالإنسان ينتهي من شيء مستمر، وفي الآية يأمرهم الله بالكف والانتهاء عن قول مستمر لا عن قول مضى، فلو مضى لما أمر بالانتهاء، بل كان أمرهم بالتوبة.
تفاعل
[73] ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ استعذ بالله من عذابه الآن.
وقفة
[73، 74] قال أحدهم: «من أعظم الأشياء التي كانت تصدني عن التوبة: تلبيس الشيطان علي في القنوط من رحمة الله، وأني صاحب ذنب لا يغتفر؛ حتي قرأت: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ إلي: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فإذا كان الله فتح باب التوبة لمن نسب له الصاحبة والولد فكيف بمن دونه؟!».

الإعراب :

  • ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ:
  • الجملة: مكررة سبق اعرابها في الآية الكريمة السابقة.
  • ﴿ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ: ثالث:
  • خبر «إِنَّ» مرفوع بالضمة. ثلاثة: مضاف إليه مجرور بالكسرة. وما: الواو: استئنافية. ما: نافية مهملة. من: حرف جر للاستغراق زائدة وهي المقدرة مع لا النافية للجنس ومعناه: وما إله وزيدت «ما» لتاكيد المعنى وتقويته.
  • ﴿ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ:
  • إله: اسم مجرور للتعظيم بمن لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ. إلّا: أداة حصر لا عمل لها. إله: خبر المبتدأ مرفوع بالضمة. واحد: نعت أو توكيد لإله مرفوع مثله بالضمة.
  • ﴿ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا:
  • الواو: استئنافية. إن: حرف شرط جازم. لم: حرف نفي وجزم وقلب. ينتهوا: فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه: حذف النون. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. وجملة «لَمْ يَنْتَهُوا» في محل جزم فعل الشرط.
  • ﴿ عَمَّا يَقُولُونَ:
  • جار ومجرور متعلق بينتهوا. وأصلها: عن: حرف جر و «ما» اسم موصول مبني على السكون في محل جر بعن. يقولون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. وجملة «يَقُولُونَ» صلة الموصول لا محل لها والعائد الى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لانه مفعول به. التقدير: يقولونه.
  • ﴿ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا:
  • اللام: لام التأكيد. يمسن: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدم. كفروا: تعرب اعراب «قالُوا». وجملة «ليمسنّ وما بعدها» جواب شرط جازم غير مقترن بالفاء لا محل لها.
  • ﴿ مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:
  • جار ومجرور متعلق بحال محذوفة من «الَّذِينَ» و «هم» ضمير متصل في محل جر بمن. عذاب: فاعل «يمسنّ» مرفوع بالضمة. أليم: صفة لعذاب مرفوعة بالضمة. '

المتشابهات :

المائدة: 17﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
المائدة: 72﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
المائدة: 73﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [73] لما قبلها :     وبعد أن بَيَّنَ الله عز وجل كفر من قال: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ»؛ بَيَّنَ هنا كفر طائفة أخرى من النصارى قالوا: «إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ» أي: إنَّ الله مجموع ثلاثة أشياء: الأب، والابن، وروح القدس، قال تعالى:
﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [74] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ..

التفسير :

[74] أفلا يرجع هؤلاء النصارى إلى الله تعالى، ويتوبون عمَّا قالوا، ويسألون الله تعالى المغفرة؟ والله تعالى متجاوز عن ذنوب التائبين، رحيمٌ بهم.

ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال:{ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ْ} أي:يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، عما كانوا يقولونه{ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ْ} عن ما صدر منهم{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ} أي:يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء، ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات. وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله:{ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ْ}

وبعد هذا الترهيب الشديد للكافرين من العذاب الأليم، فتح لهم- سبحانه- باب رحمته، حيث رغبهم في الإيمان، وأنكر عليهم تقاعسهم عنه بعد أن ثبت بطلان ما هم عليه من عقائد فقال- تعالى-: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

والاستفهام هنا يتضمن حضهم على التوبة والرجوع إلى الحق وتوبيخهم على ما كان منهم من ضلال والتعجيب من استمرارهم على كفرهم وعقائدهم الفاسدة التي لا يقبلها عقل سليم، ولا تصور قويم.

والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام. أى: أيسمعون ما يسمعون من الحق الذي يزهق باطلهم ومن النذر التي ترقق القلوب فلا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى الله وطلب مغفرته، والحال أنه- سبحانه- عظيم المغفرة واسع الرحمة لمن آمن وعمل صالحا.

إن إصرارهم على كفرهم بعد تفنيده وإبطاله، وبعد تحذيرهم من سوء عاقبة الكافرين ليدل على أنهم قوم ضالون خاسرون يستحقون أن يكونوا محل عجب الناس وإهمالهم.

قال أبو السعود: وقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ جملة حالية من فاعل يَسْتَغْفِرُونَهُ مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار.

أى: والحال أن الله: - تعالى- مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله» .

وقال ابن كثير: هذا من كرمه- تعالى- وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم .

ثم قال : ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه ، مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، فكل من تاب إليه تاب عليه

القول في تأويل قوله : أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران (16) = القائل أحدهما: " إن الله هو المسيح ابن مريم "، والآخر القائل: " إن الله ثالث ثلاثة " = عما قالا من ذلك، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما، (17) ويسألان ربهما المغفرة مما قالا =" والله غفور "، لذنوب التائبين من خلقه، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم=" رحيم " بهم، في قبوله توبتَهم ومراجعتهم إلى ما يحبّ مما يكره، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلَف من أجرامهم قبل ذلك. (18)

---------------

الهوامش :

(16) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة (توب).

(17) في المطبوعة: "وقطعا به من كفرهما" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.

(18) انظر تفسير"استغفر" و"غفور" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) = وتفسير"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم).

المعاني :

لم يذكر المصنف هنا شيء

التدبر :

وقفة
[74] يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء، ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات، وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ﴾.
وقفة
[74] صدَّر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ﴾.
تفاعل
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ﴾ ادعُ الله الآن أن يتوب عليك.
وقفة
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ التوبة هي الإقلاع عما هو عليه في المستقبل، والرجوع إلى الاعتقاد الحق، والاستغفار: طلب مغفرة ما سلف منهم في الماضي، والندم عما فرط منهم من سوء الاعتقاد.
وقفة
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ دعا الله إلى التوبة من قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [17]، ومن قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [73]، ومن قال: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [64].
وقفة
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ إذا كانت هذه رحمته بمن قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [17]، ومن قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [73]، ومن قال: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [64]، فكيف هي رحمته بمن قال: إن الله ربي؟ !
وقفة
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ إذا كان هذا لطفه وجوده ورحمته بمن قال أن لله ولدًا؛ فكيف بمن كان له عبدًا؟!
وقفة
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بهذا اللطف وهذه الرحمة يدعو من سبه وزعم أن لهُ ولدًا إلى التوبة والاستغفار! (سبحانك ما أرحمك يا رحيمُ!).
وقفة
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ما أرحمك يا رب؛ تدعو عباد الصليب الذين سبوك وقالوا فيك ما قالوا إلى التوبة وتعدهم بالمغفرة إذا تابوا إليك !
وقفة
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يدعو الله عباده إلى التوبة ويعدهم بالمغفرة، ويرشدهم للدعاء ويعدهم بالاستجابة، ويهديهم السبيل ويعدهم بالجنة، فما أرحمه!
وقفة
[74] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ كم من أبواب الرجاء تُفتح لك حين تقرأ هذه الآية! فلا تملك نفسك متى تدبرتها إلا أن تقف على عظيم مغفرته وسعة رحمته.
وقفة
[74] ما أعظمها من دعوة كريمة! ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وقفة
[74] إن تعاظمك ذنبك فاعلم أن النصارى قالوا في المتفرد بالكمال سبحانه: ثالث ثلاثة! فقال لهم: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وقفة
[74] قال للمشركين: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وقال للعصاة: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ﴾ [الزمر: 53]، إنه: الرحمن الرحيم.
عمل
[74] جدد توبتك لله تعالى، وليكن يومك هذا بداية ترك لمعصية كنت مترددًا في تركها ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
عمل
[74] استغفر الله تعالى هذا اليوم سبعين مرة ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
تفاعل
[74] ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ استغفر الآن.

الإعراب :

  • ﴿ أَفَلا يَتُوبُونَ:
  • الألف: ألف تعجيب في لفظ استفهام. الفاء: زائدة «تزيينية» لا: نافية لا عمل لها. يتوبون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل.
  • ﴿ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ:
  • جار ومجرور للتعظيم متعلق بيتوبون. ويستغفرونه: معطوفة بالواو على «يَتُوبُونَ» وتعرب مثلها والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به.
  • ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ:
  • الواو: استئنافية. الله: مبتدأ مرفوع للتعظيم بالضمة غفور: خبر المبتدأ مرفوع بالضمة. رحيم: صفة- نعت- لغفور مرفوع مثله بالضمة. ويجوز أن يعرب خبرا ثانيا للمبتدأ. '

المتشابهات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [74] لما قبلها :     وبعد أن تَوعَّدَ اللهُ عز وجل النصارى؛ دعاهم هنا إلى التوبة والإيمان، قال تعالى:
﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [75] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ ..

التفسير :

[75] ما المسيح بن مريم - عليه السلام - إلا رسولٌ كمن تقدَّمه من الرسل، وأُمُّه قد صَدَّقت تصديقاً جازماً علماً وعملاً، وهما كغيرهما من البشر يحتاجان إلى الطعام، ولا يكون إلهاً مَن يحتاج إلى الطعام ليعيش. فتأمَّل -أيها الرسول- حال هؤلاء الكفار. لقد وضحنا ا

ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه، الذي هو الحق، فقال:{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ْ} أي:هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية.{ وَأُمَّهُ ْ} مريم{ صِدِّيقَةٌ ْ} أي:هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء. والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح. وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلا وشرفا. وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ْ} فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟ وقوله:{ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ْ} دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد. ولما بين تعالى البرهان قال:{ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ْ} الموضحة للحق، الكاشفة لليقين، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم، وذلك ظلم وعناد منهم.

ثم بين- سبحانه- حقيقة عيسى عليه السلام- وحقيقة أمه مريم حتى يزيل عن ساحتهما ما افتراه عليهما المفترون فقال- تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ.

وقوله صِدِّيقَةٌ صيغة مبالغة في التمسك بفضيلة الصدق مثل شريب ومسيك مبالغة في الشرب والمسك.

قال الراغب: والصديق من كثر منه الصدق، وقيل: بل يقال لمن لم يكذب قط: وقيل:

بل لمن لا يأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل، لمن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله.. قال تعالى- فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ فالصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة .

والمعنى: إن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. قد قالوا منكرا وزورا، إذ ليس الألوهية إلا لله وحده وليس المسيح عيسى ابن مريم سوى بشر من البشر ورسول مثل الرسل الذين سبقوه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الرسل الذين مضوا دون أن يدعى واحد منهم الألوهية.

وأما أم عيسى مريم فما هي إلا أمة من إماء الله كسائر النساء ديدنها الصدق مع خالقها- عز وجل- أو التصديق له في سائر أمورها. وهما- أى عيسى وأمه مريم- عبدان من عباد الله كانا يأكلان الطعام، ويشربان الشراب ويتصرفان كما يتصرف سائر البشر فكيف ساغ لكم- يا معشر النصارى- أن تصفوهما بأنهما إلهين مع أن طبيعتهما الظاهرة أمامكم تتنافى تنافيا تاما مع صفات الألوهية: إن وصفكم لهما بالألوهية لدليل واضح على فساد عقولكم وضلال تفكيركم، وعظيم جهلكم.

وقوله مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ جملة مشتملة على قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافى، أى أن المسيح مقصور على صفة الرسالة لا يتجاوزها إلى غيرها وهي الألوهية فالقصر قصر قلب لرد اعتقاد النصارى في عيسى أنه الله، أو أنه جزء من الله أو أنه أحد آلهة ثلاثة.

وقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صفة للرسول وهو عيسى أريد بها بيان أنه مساو للرسل الكرام الذين سبقوه في تبليغ رسالة الله إلى الناس وأنه ليس بدعا في هذا الوصف وإذا فلا شبهة للذين زعموا انه إله لأنه لم يجيء بشيء زائد على ما جاء به الرسل.

وقوله. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ معطوف على قوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ والقصد من وصف مريم بذلك مدحها والثناء عليها، ونفى أن يكون لها وصف أعلى من ذلك، فهي ليست إلها. كما أنها ليست رسولا.

ولذا قال ابن كثير: دلت الآية على أن مريم ليست بنبية- كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم عيسى ونبوة أم موسى- استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال- قال تعالى- وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى

وقوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ جملة مستأنفة لبيان خواصهما الآدمية بعد بيان منزلتهما السامية عند الله- تعالى- وقد اختيرت هذه الصفة لهما من بين صفات كثيرة كالمشرب والملبس. لأنها صفة واضحة

ظاهرة للناس، ودالة على احتياجهما لغيرهما في مطلب حياتهما، ومن يحتاج إلى غيره لا يكون إلها.

وقال صاحب الكشاف: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة.. وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام وحاشا للإله أن يكون كذلك .

ففي هذه الجمل الكريمة رد على ما زعمه النصارى في شأن عيسى وأمه بأبلغ وجه وأحكمه، ولذا عجب الله- تعالى- رسوله وكل من يصلح للخطاب من جهلهم وبعدهم عن الحق مع وضوحه وظهوره فقال: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أى: يصرفون يقال أفكه يأفكه إذا صرفه عن الشيء.

أى: انظر- يا محمد- كيف تبين لهم الأدلة المنوعة على حقيقة عيسى وأمه بيانا واضحا ظاهرا. ثم انظر بعد ذلك كيف ينصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء تفكيرهم، واستيلاء الجهل والوهم والعناد على عقولهم.

فالجملتان الكريمتان تعجيب لكل عاقل من أحوال النصارى الذين زعموا أن الله هو المسيح ابن مريم، أو أن الله ثالث ثلاثة. مع أنه- سبحانه- أقام لهم الأدلة المتعددة على بطلان ذلك.

وكرر الله- سبحانه- الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب من أحوالهم الغريبة وجيء بثم المفيدة للتراخي في قوله ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ لإظهار ما بين وضوح الآيات وانصرافهم عنها من تفاوت شديد أى: أن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بحيث يجعل كل عاقل يستجيب لها، ويخضع لما تدعو إليه من هدايات وخيرات. وانصراف هؤلاء الضالين عنها- مع وضوحها وتعاضد ما يوجب قبولها- أمر يدعو إلى العجب الشديد من جهلهم وضلالهم وسوء تفكيرهم.

ثم تابع- سبحانه- حديثه عن ضلال أهل الكتاب وجهالتهم فأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم على عنادهم وغفلتهم وأن يواصل دعوتهم إلى الدين الحق فقال- تعالى:

ثم قال : ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) أي : له سوية أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه ، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام ، كما قال : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ) [ الزخرف : 59 ] .

وقوله : ( وأمه صديقة ) أي : مؤمنة به مصدقة له . وهذا أعلى مقاماتها فدل على أنها ليست بنبية ، كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) [ القصص : 7 ] [ قالوا ] وهذا معنى النبوة ، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال ، قال الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) [ يوسف : 109 ] ، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك .

وقوله : ( كانا يأكلان الطعام ) أي : يحتاجان إلى التغذية به ، وإلى خروجه منهما ، فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .

ثم قال تعالى : ( انظر كيف نبين لهم الآيات ) أي : نوضحها ونظهرها ( ثم انظر أنى يؤفكون ) أي : ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون؟ وبأي قول يتمسكون؟ وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون؟ ؟

القول في تأويل قوله : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ

قال أبو جعفر: وهذا [خَبَرٌ] من الله تعالى ذكره، (19) احتجاجًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم على فِرَق النصارى في قولهم في المسيح.

يقول= مكذِّبًا لليعقوبية في قِيلهم: " هو الله " والآخرين في قيلهم: " هو ابن الله " =: ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادةَ الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسولٌ كسائر رسله الذين كانوا قبلَه فمضوا وخَلَوْا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعِبر، حجةً له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعِبر، حجةً لهم على حقيقةِ صدقهم في أنهم لله رسلٌ (20) =" وأمه صِدّيقة "، يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صِدِّيقةٌ.

* * *

و " الصِدِّيقة "" الفِعِّيلة "، من " الصدق "، وكذلك قولهم: " فلان صِدِّيق "،" فِعِّيل " من " الصدق "، ومنه قوله تعالى ذكره: وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ . [سورة النساء: 69]. (21)

وقد قيل إن " أبا بكر الصدّيق " رضي الله عنه إنما قيل له: " الصّدّيق " لصدقه.

وقد قيل: إنما سمي" صديقًا "، لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدةٍ إلى بيت المقدس من مكة، وعودِه إليها.

* * *

وقوله: " كانا يأكلان الطعام "، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمّه: أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا.

* * *

القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى=" الآيات "، وهي الأدلَّةُ، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله، (22) وفي فريتهم على الله، وادِّعائهم له ولدًا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم، ولا ينـزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه &; 10-486 &; وسلم: " ثم انظر "، يا محمد=" أنَّى يؤفكون "، يقول: ثم انظر، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول قولهم، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم؟ (23) وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلُّون؟

* * *

والعرب تقول لكل مصروف عن شيء: " هو مأفوك عنه ". يقال: " قد أفَكت فلانًا عن كذا "، أي: صرفته عنه،" فأنا آفِكه أفْكًا، وهو مأفوك ". و " قد أُفِكت الأرض "، إذا صرف عنها المطر. (24)

-------------

الهوامش :

(19) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.

(20) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف ص: 480 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(21) انظر تفسير"الصديق" فيما سلف 8: 530- 532.

(22) انظر تفسير"الآيات" فيما سلف (أيي).

(23) المطبوعة: "بينته لهم" ، والصواب من المخطوطة ، وهي غير منقوطة.

(24) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 174 ، 175.

التدبر :

وقفة
[75] ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ أي: كثيرة الصدق، وقيل: سميت صديقة لأنها صدقت بآيات الله؛ كما قال عز وجل في وصفها: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾ [التحريم: 12].
وقفة
[75] ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ من اشتملت عليه الأرحام، وتناوبت عليه الأسقام، كيف يليق أن يوصف بالألوهية؟!
وقفة
[75] ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ من مسته الحاجة حتى احتاج للطعام، وأصابته الضرورة ليتخلص من آثار هذا الطعام، كيف يتوجه الناس إليه بالعبادة؟!
وقفة
[75] ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ أدب القرآن! قال ابن قتيبة: «هذا ألطف ما يكون من الكناية، لأنه عبر عن الحدث بالطعام، وذلك أن من أكل الطعام فلا بد له من أن يحدث، فلما ذكر أكل الطعام صار كأنه أخبر عن عاقبته، والطعام والحدث ليسا من أوصاف الآلهة».
وقفة
[75] ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان -كما يحتاج بنو آدم- إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم يحتاجا إلى شيء؛ فإن الإله هو الغني الحميد.
وقفة
[75] ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ من أدلة بشرية المسيح وأمه: أكلهما للطعام، وفعل ما يترتب عليه
وقفة
[75] لا بأس عند مجادلة غير المسلمين من استعمال الأدلة العقلية التي تدل على بطلان ما يفعلونه ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾.

الإعراب :

  • ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ:
  • ما: نافية مهملة. المسيح: مبتدأ مرفوع بالضمة. ابن: صفة للمسيح مرفوعة بالضمة. مريم: مضاف اليه مجرور بالفتحة بدلا من الكسرة لأنه اسم ممنوع من الصرف. ويجوز اعراب «ابْنُ» بدلا من المسيح «بدل كل من كل».
  • ﴿ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ:
  • إلّا: أداة حصر لا عمل لها. رسول: خبر المبتدأ مرفوع بالضمة. قد: حرف تحقيق. خلت: فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الالف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء تاء التأنيث الساكنة لا محل لها.
  • ﴿ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ:
  • جار ومجرور متعلق بخلت. والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة. الرسل: فاعل «خَلَتْ» مرفوع بالضمة. وجملة «قَدْ خَلَتْ» وما بعدها في محل رفع صفة لرسول.
  • ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ:
  • معطوفة بالواو على «المسيح رسول» وتعرب اعرابها. والهاء في «أُمُّهُ» ضمير متصل في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ:
  • كان: فعل ماض ناقص مبني على الفتح وألف الاثنين ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع اسم «كان». يأكلان: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة وألف الاثنين ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. الطعام: مفعول به منصوب بالفتحة. والجملة: في محل نصب خبر «كان» وجملة «كانا» يأكلان الطعام في محل نصب حال من المسيح وأمه صديقة.
  • ﴿ انْظُرْ:
  • فعل أمر مبني على السكون. والفاعل: ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت.
  • ﴿ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ:
  • كيف: اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال. نبيّن: فعل مضارع مرفوع بالضمة وفاعله ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن. لهم: جار ومجرور متعلق بنبين. و «هم» ضمير الغائبين مبني على السكون الذي حرك بالضم لاشباع الميم. الآيات: مفعول به منصوب بالكسرة بدلا من الفتحة لانه ملحق بجمع المؤنث السالم. وجملة «كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ» في محل نصب مفعول به للفعل «انْظُرْ».
  • ﴿ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ:
  • ثم: حرف عطف. انظر: معطوفة على «انْظُرْ» وتعرب مثلها. أنّى: اسم استفهام بمعنى «كَيْفَ» مبني على السكون في محل نصب حال. يؤفكون: فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون. والواو ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل. وجملة «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» في محل نصب مفعول به للفعل «انْظُرْ». '

المتشابهات :

آل عمران: 144﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ
المائدة: 75﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [75] لما قبلها :     ولَمَّا تَوعَّدَ اللهُ عز وجل النصارى، ثُمَّ دعاهُم إلى التوبةِ والإيمان؛ بَيَّنَ لهم هنا حقيقة عيسى عليه السلام ، فهو رسول من البشر، يأكلُ الطعامَ ليعيشَ، فإن نفدَ الطَّعامُ ماتَ، فهل هذه صفةُ الإلهِ؟! قال تعالى:
﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

القراءات :

الرسل:
وقرئ:
رسل، بالتنكير، وهى قراءة حطان.

مدارسة الآية : [76] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ..

التفسير :

[76] قل -أيها الرسول- لهؤلاء الكفرة:كيف تشركون مع الله مَن لا يَقدِرُ على ضرِّكم، ولا على جَلْبِ نفع لكم؟ والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بأحوالهم.

أي:{ قُلْ ْ} لهم أيها الرسول:{ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ْ} من المخلوقين الفقراء المحتاجين،{ ما لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ْ} وتدعون من انفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع،{ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ْ} لجميع الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات.{ الْعَلِيمُ ْ} بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، والأمور الماضية والمستقبلة، فالكامل تعالى الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة، ويخلص له الدين.

والاستفهام في قوله أَتَعْبُدُونَ لإنكار واقعهم والتعجيب مما وقع منهم، وتوبيخهم على جهلهم وغفلتهم.

وما في قوله ما لا يَمْلِكُ يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي وأن تكون نكرة موصوفة.

والجملة بعدها صلة فلا محل لها أو صفة فمحلها النصب.

وقوله يَمْلِكُ من الملك بمعنى حيازة الشيء والتمكن من التصرف فيه بدون عجز.

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الضالين من النصارى وأشباههم في الكفر والشرك قل لهم:

أتعبدون معبودات غير الله- تعالى- هذه المعبودات وأشباههم في الكفر والشرك قل لهم:

كالمرض والفقر، ولا تملك أيضا أن تنفعكم بشيء من النفع كبسط الرزق ودفع الضر وغير ذلك مما أنتم في حاجة إليه.

فالمراد بما لا يملك: كل ما عبد من دون الله من حجر أو وثن أو غيرهما فتكون «ما» للعموم وليست كناية عن عيسى وأمه فحسب.

وقد سار على هذا المعنى ابن كثير فقال: يقول- تعالى- منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأوثان والأنداد، ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الألوهية فقال- تعالى- قُلْ أى: يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بنى آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْع.

ويرى كثير من المفسرين أن المراد بقوله: ما لا يَمْلِكُ عيسى- عليه السلام- أو هو وأمه لأن الكلام مع النصارى الذين قال بعضهم: إن الله المسيح ابن مريم. وقال آخرون منهم: إن الله ثالث ثلاثة، فتكون الآية دليلا آخر- بعد الأدلة السابقة- على فساد أقوال النصارى في عيسى وأمه مريم.

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء النصارى أتعبدون- من دون الله- عيسى وأمه وهما لا يستطيعان أن يضراكم بشيء من الضرر في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعاكم بشيء من النفع كإيجاد الصحة والخصب والسعة، لأن الضر والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البشر من المضار أو المنافع هو بتمكين الله لهم وليس بقدرتهم الذاتية.

وأوثرت «ما» على «من» لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الألوهية رأسا، ببيان انتظامهما في مسلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا ولا شك أن من صفات الرب أن يكون قادرا على كل شيء، فقول النصارى بأن الله هو المسيح ابن مريم أو هو ثالث ثلاثة، قول ظاهر البطلان واضح الفساد.

وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تنفى أن يكون هناك إله سوى الله- تعالى- يستحق العبادة والخضوع، لأنه- سبحانه- هو المالك لكل شيء، والخالق لكل شيء أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.

وقدم- سبحانه- الضر على النفع فقال: ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً لأن النفوس أشد تطلعا إلى دفعه من تطلعها إلى جلب الخير، ولأنهم كانوا يعبدون غير الله- تعالى- وهمهم الأكبر أن هذا المعبود يستطيع أن يقربهم إلى الله زلفى، وأن يمنع عنهم المصائب والاضرار.

وقوله: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في محل نصب على الحال. من فاعل أَتَعْبُدُونَ أى أتعبدون آلهة سوى الله لا تملك ضرركم أو نفعكم وتتركون عبادة الله والحال أن الله وحده هو السميع لكل ما تنطقون به، العليم بجميع أحوالكم وأعمالكم، وسيحاسبكم على ذلك وسيجازيكم على أقوالكم الباطلة وعقائدكم الزائفة، بما تستحقون من عذاب أليم.

يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ، ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الإلهية : ( قل ) أي : يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم : ( أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ) أي : لا يقدر على إيصال ضرر إليكم ، ولا إيجاد نفع ( والله هو السميع العليم ) أي : فلم عدلتم عن إفراد السميع لأقوال عباده ، العليم بكل شيء إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا ، ولا يملك ضرا ولا نفعا لغيره ولا لنفسه .

القول في تأويل قوله : قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)

قال أبو جعفر: وهذا أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قِيلهم فيه قبلُ.

يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم: " قل "، يا محمد، لهؤلاء الكفرة من النصارى، الزاعمين أن المسيح ربهم، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة= أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، وهو الذي خلقكم ورزقكم، وهو يحييكم ويميتكم= شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ، لا يملك لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته؟ بل الربُّ المعبودُ: الذي بيده كل شيء، والقادر على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون.

* * *

وأما قوله: " والله هو السميع العليم " فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: " والله هو السميع "، لاستغفارهم لو استغفروه من قِيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه=" العليم "، بتوبتهم لو تابوا منه، وبغير ذلك من أمورهم. (25)

* * *

---------------

الهوامش:

(25) انظر تفسير"سميع" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.

المعاني :

لم يذكر المصنف هنا شيء

التدبر :

وقفة
[76] دلت الآية على جواز الجدال في الدين بقصد الإرشاد إلى الحق، وحكي عن الشافعي أنه كان إذا جادل أحدًا قال: اللهم ألق الحق على لسانه.
وقفة
[76] ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ ما أحلم الله على هؤلاء! يجادلهم لإقناعهم، ويتلطف بهم لإيمانهم وهو غني عنهم.
وقفة
[76]﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا﴾ إن (ما) الموصولة تستعمل لغير العاقل، ويقابلها للعاقل (من)، فلِمَ قال تعالى: ﴿مَا لاَ يَمْلِكُ﴾ باستعمال (ما) غير العاقلة، ولم يقل (من لا يملك) باستعمال (من) العاقلة؟ استعمل ربنا (ما) الموصولة لغير الهاقل؛ لأن معظم ما عُبِد من دون الله أشياء لا تعقل.
وقفة
[76] عدم القدرة على كف الضر وإيصال النفع من الأدلة الظاهرة على عدم استحقاق بعض المعبودين للألوهية؛ لكونهم عاجزين ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾.
لمسة
[76] ﴿مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ قدم الضر على النفع؛ لأن النفوس أشد تطلعًا إلى دفعه من تطلعها لجلب النفع، فكان أكثر ما يدفع المشركين إلى عبادة الأصنام أن يردوا بها الأضرار عن أنفسهم.
وقفة
[76] ﴿وَاللَّـهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وهو تعالى يسمع قولك وقول أعدائك فيك، ويعلم ذلك تفصيلًا، فاكتف بعلم الله وكفايته، فمن يتق الله فهو حسبه.

الإعراب :

  • ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ:
  • قل: فعل أمر مبني على السكون والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنت. أتعبدون: الألف ألف تعجب في لفظ استفهام. تعبدون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. من دون: جار ومجرور متعلق بحال لانه صفة مقدمة للموصوف «ما». الله: مضاف اليه مجرور للتعظيم بالكسرة. وجملة «أَتَعْبُدُونَ» وما بعدها: في محل نصب مفعول به «مقول القول» وحذفت واو «قُلْ» لالتقاء الساكنين.
  • ﴿ ما لا يَمْلِكُ:
  • ما: اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به للفعل «تعبد». لا: نافية لا عمل لها. يملك: فعل مضارع مرفوع بالضمة والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. وجملة «لا يَمْلِكُ» صلة الموصول لا محل لها.
  • ﴿ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً:
  • جار ومجرور متعلق بيملك والميم علامة جمع الذكور ضرّا: مفعول به منصوب بالفتحة. ولا: الواو عاطفة. لا: زائدة لتأكيد النفي. نفعا: معطوفة على «ضَرًّا» منصوبه مثلها بالفتحة.
  • ﴿ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ:
  • الواو: استئنافية. الله: مبتدأ مرفوع للتعظيم بالضمة. هو: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ ثان. السميع: خبر «هُوَ» مرفوع بالضمة. العليم: صفة- نعت- للسميع مرفوع مثله بالضمة. ويجوز أن يعرب خبرا ثانيا. والجملة الاسمية «هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» في محل رفع خبر المبتدأ الأول. ويجوز أن يكون «هُوَ» ضمير الفصل لا محل له و «السَّمِيعُ» خبر لفظ الجلالة. '

المتشابهات :

المائدة: 76﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
الأنبياء: 66﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [76] لما قبلها :     لَمَّا بَيَّنَ اللهُ عز وجل حقيقة عيسى عليه السلام ، وأنه ليس إلهًا؛ بَيَّنَ هنا عجز عيسى عليه السلام ، وعدم اقتدارِه على دفْعِ أيِّ ضررٍ، وجَلْبِ أيِّ نفْعٍ، وأنَّ مَن كانَ لا يَدفَعُ عن نفْسِه حريٌّ ألَّا يَدفعَ عنكُم، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [77] :المائدة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ ..

التفسير :

[77] قل -أيها الرسول- للنصارى:لا تتجاوزوا الحقَّ فيما تعتقدونه مِن أمر المسيح، ولا تتبعوا أهواءكم، كما اتَّبع اليهود أهواءهم في أمر الدين، فوقعوا في الضلال، وحملوا كثيراً من الناس على الكفر بالله، وخرجوا عن طريق الاستقامة إلى طريق الغَواية والضلال.

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي:لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل، وذلك كقولهم في المسيح، ما تقدم حكايته عنهم. وكغلوهم في بعض المشايخ، اتباعا لـ{ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} أي:تقدم ضلالهم.{ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين، الذي هم عليه.{ وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي:قصد الطريق، فجمعوا بين الضلال والإضلال، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية، وآرائهم المضلة.

ثم أرشدهم- سبحانه- إلى طريق الحق، ونهاهم عن الغلو الباطل فقال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ والغلو مصدر غلا في الأمر: إذا تجاوز الحد. وهو نقيض التقصير.

وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم عن الغلو حتى في الدين، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قلبكم بالغلو في الدين»

.

وروى البخاري عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله».

وروى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون. قالها ثلاثة»

والمتنطعون هم المتشددون المتجاوزون للحدود التي جاءت بها تعاليم الإسلام.

وقد غالى أهل الكتاب في شأن عيسى- عليه السلام- أما اليهود فقد كفروا به ونسبوه إلى الزنا وافتروا عليه وعلى أمه افتراء شديدا وأما النصارى فقد وصفوه بالألوهية فوضعوه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه وهو منصب الرسالة. وكما غالوا في شأن عيسى عليه السلام- فقد غالوا أيضا في تمسكهم بعقائدهم الزائفة، مع أن الدلائل الواضحة قد دلت على بطلانها وفسادها.

وقوله غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. أى: لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق: أى: غلوا باطلا.

وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ معطوف على قوله: لا تَغْلُوا قال الفخر الرازي: الأهواء- هاهنا- المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة.

قال الشعبي: ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وقال: وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى وقال: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وقال: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ.

وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في الشر لا يقال: فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه.

وقيل: سمى الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار. وأنشد في ذم الهوى:

إن الهوى الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا

وقال رجل لابن عباس: الحمد الله الذي جعل هو اى على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة»

.

والمعنى: قل يا محمد لأهل الكتاب الذين تجاوزوا الحدود التي تقرها الشرائع والعقول السليمة، قل لهم يا أهل الكتاب: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أى: لا تتجاوزوا حدود الله تجاوزا باطلا، كأن تعبدوا سواه مع أنه هو الذي خلقكم ورزقكم، وكأن تصفوا عيسى بأوصاف هو برىء منها.

وقل لهم أيضا: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ أى: ولا تتبعوا شهوات وأقوال قوم من أسلافكم وعلمائكم ورؤسائكم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أى: قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بتحريفهم للكتب السماوية وتركهم لتعاليمها جريا وراء شهواتهم وأهوائهم وَأَضَلُّوا كَثِيراً أى أنهم لم يكتفوا بضلال أنفسهم بل أضلوا أناسا كثيرين سواهم ممن قلدهم ووافقهم على أكاذيبهم وقوله: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ معطوف على قوله قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ.

وقد غالى أهل الكتاب في شأن عيسى- عليه السلام- أما اليهود فقد كفروا به ونسبوه إلى الزنا وافتروا عليه وعلى أمه افتراء شديدا وأما النصارى فقد وصفوه بالألوهية فوضعوه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه وهو منصب الرسالة. وكما غالوا في شأن عيسى عليه السلام- فقد غالوا أيضا في تمسكهم بعقائدهم الزائفة، مع أن الدلائل الواضحة قد دلت على بطلانها وفسادها.

وقوله غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. أى: لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق: أى: غلوا باطلا.

وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ معطوف على قوله: لا تَغْلُوا قال الفخر الرازي: الأهواء- هاهنا- المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة.

قال الشعبي: ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وقال: وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى وقال: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وقال: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ.

وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في الشر لا يقال: فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه.

وقيل: سمى الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار. وأنشد في ذم الهوى:

إن الهوى الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا

وقال رجل لابن عباس: الحمد الله الذي جعل هو اى على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة»

.

والمعنى: قل يا محمد لأهل الكتاب الذين تجاوزوا الحدود التي تقرها الشرائع والعقول السليمة، قل لهم يا أهل الكتاب: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أى: لا تتجاوزوا حدود الله تجاوزا باطلا، كأن تعبدوا سواه مع أنه هو الذي خلقكم ورزقكم، وكأن تصفوا عيسى بأوصاف هو برىء منها.

وقل لهم أيضا: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ أى: ولا تتبعوا شهوات وأقوال قوم من أسلافكم وعلمائكم ورؤسائكم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أى: قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بتحريفهم للكتب السماوية وتركهم لتعاليمها جريا وراء شهواتهم وأهوائهم وَأَضَلُّوا كَثِيراً أى أنهم لم يكتفوا بضلال أنفسهم بل أضلوا أناسا كثيرين سواهم ممن قلدهم ووافقهم على أكاذيبهم وقوله: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ معطوف على قوله قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ.

أى أنهم قد ضلوا من قبل البعثة النبوية الشريفة، وضلوا من بعدها عن سَواءِ السَّبِيلِ أى: عن الطريق الواضح الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو طريق الإسلام وذلك لأنهم لم يتبعوه صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم بصدقة بل كفروا به حسدا له على ما آتاه الله من فضله.

فأنت ترى أنه- تعالى- قد وصفهم- كما يقول الإمام الرازي- بثلاث درجات في الضلال: فبين أنهم كانوا ضالين من قبل، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقابه من هذه الحالة ويحتمل أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق

.

هذا، ومما أخذه العلماء من هذه الآية الكريمة أن الغلو في الدين لا يجوز وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وقد سقنا من الآثار ما يشهد بذلك عند تفسيرنا لصدر الآية الكريمة.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان «غلو حق» وهو أن يفحص عن حقائقه، ويفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون. وغلو باطل، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه. كما يفعل أهل الأهواء والبدع والضلال

.

ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض الرذائل التي شاعت في بنى إسرائيل، والتي بسببها استحقوا اللعن والطرد من رحمة الله فقال- تعالى-:

ثم قال : ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) أي : لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه ، حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية ، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء ، فجعلتموه إلها من دون الله ، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال ، الذين هم سلفكم ممن ضل قديما ( وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) أي : وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال ، إلى طريق الغواية والضلال .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : وقد كان قائم قام عليهم ، فأخذ بالكتاب والسنة زمانا ، فأتاه الشيطان فقال : إنما تركب أثرا أو أمرا قد عمل قبلك ، فلا تجمد عليه ، ولكن ابتدع أمرا من قبل نفسك وادع إليه وأجبر الناس عليه ، ففعل ، ثم ادكر بعد فعله زمانا فأراد أن يتوب فخلع ملكه وسلطانه وأراد أن يتعبد فلبث في عبادته أياما ، فأتي فقيل له : لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك ، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سببك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة ، فكيف لك بهداهم ، فلا توبة لك أبدا . ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية : ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) .

القول في تأويل قوله : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)

قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره: " قل "، يا محمد، لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح=" يا أهل الكتاب "، يعني بـ" الكتاب "، الإنجيل=" لا تغلوا في دينكم "، يقول: لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل، (1) فتقولوا فيه: " هو الله "، أو: " هو ابنه "، ولكن قولوا: " هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه "=" ولا تتبعوا أهواءَ قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا "، يقول: ولا تتبعوا أيضًا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا: " هو لغير رَشْدة "، وتبهتوا أمَّه كما بَهَتُوها بالفرية وهي صدِّيقة = (2) " وأضلوا كثيرًا "، يقول تعالى ذكره: وأضل هؤلاء اليهود كثيرًا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحق، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح=

" وضلوا عن سواء السبيل "، يقول: وضلَّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجَّة الحق. (3)

وإنما يعني تعالى ذكره بذلك، كفرَهم بالله، وتكذيبَهم رسله: عيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وذهابَهم عن الإيمان وبعدَهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

12296 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " وضلوا عن سواء السبيل "، قال: يهود.

12297 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا "، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم=" وضلوا عن سواء السبيل "، عن عَدْل السبيل.

---------------

الهوامش :

(1) انظر تفسير"غلا" فيما سلف 9: 415- 417.

(2) المطبوعة: "كما يبهتونها" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(3) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.

= وتفسير"سواء السبيل" فيما سلف ص: 443 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.

التدبر :

وقفة
[77] النهي عن الغلو وتجاوز الحد في معاملة الصالحين من خلق الله تعالى.
وقفة
[77] ﴿لا تغلوا في دينكم﴾ في نفوسنا نزعة كامنة نحو المبالغة في الأفكار والغلو في الشخصيات، وإذا لم نجد شخصًا عظيما يروينا صنعناه.
وقفة
[77] قال تعالى: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾، ولم يقل: (لا تغلوا في دينكم باطلًا) لما في وصف ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ من تشنيع الموصوف، إذ المعنى أنه مخالف للحق المعروف، ومن ثم فهو مذموم؛ لأن الحق محمود فغيره مذموم.
وقفة
[77] الغلو ينشأ بسبب الكذب على الله، والتبعية العمياء لأهل الأهواء ﴿لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا﴾.
وقفة
[77] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ﴾ سمي الهوى هوی؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشدوا في ذم الهوى: نون الهوان من الهوى مسروقة، فإذا هويت فقد لقيت هوانًا.
وقفة
[77] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ﴾ قال رجل لابن عباس: «الحمد الله الذي جعل هواي على هواك»، فقال ابن عباس: «كل هوى ضلالة».
وقفة
[77] صاحبُ الهوى يأمره هواه ويدعوه فيتبعه، كما تتبعُ حركاتُ الجوارحِ إرادةَ القلب، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ﴾.
وقفة
[77] أصحاب البدع والمحدثات حقيقة ابتداعهم تؤول لنسبة التقصير إلى رسول الله ﷺ وحاشاه، فشرعوا ما لم يأذن به الله ﴿وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾.
وقفة
[77] ﴿وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ من لم يتيقن صحة الطريق، فتراه مرة ذات اليمين، ومرة ذات الشمال، فكيف يهدي غيره إلى سواء السبيل؟
وقفة
[77] قوله تعالى: ﴿وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ فائدةُ ذكره بعد قوله: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ﴾؛ أن المراد بالضَّلال الأول ضلالُهم عن الِإنجيل، وبالثاني ضلالهم عن القرآن.
تفاعل
[77] ﴿وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ ادعُ الله الآن أن يهديك إلى الصراط المستقيم.

الإعراب :

  • ﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ:
  • قل: فعل أمر مبني على السكون وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت. يا: أداة نداء. أهل: منادى مضاف منصوب بالفتحة. الكتاب: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
  • ﴿ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ:
  • الجملة: في محل نصب مفعول به «مقول القول». لا: ناهية جازمة. تغلوا: فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. والالف فارقة. في دينكم: جار ومجرور متعلق بلا تغلوا. الكاف ضمير متصل مبني على الضم في محل جر بالاضافة. والميم علامة جمع الذكور.
  • ﴿ غَيْرَ الْحَقِّ:
  • غير: صفة للمصدر نائبة عن المفعول المطلق منصوبة بالفتحة. الحق: مضاف إليه مجرور بالكسرة. أي لا تغلوا غلوا غير الحق.
  • ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ:
  • معطوفة بالواو على «لا تَغْلُوا» وتعرب اعرابها. أهواء: مفعول به منصوب بالفتحة. قوم: مضاف إليه مجرور بالكسرة.
  • ﴿ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ:
  • الجملة: في محل جر صفة لقوم. قد: حرف تحقيق ضلوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل والالف فارقة. من: حرف جر. قبل: اسم مبني على الضم لانقطاعه عن الاضافة في محل جر بمن والجار والمجرور متعلق بضلوا.
  • ﴿ وَأَضَلُّوا كَثِيراً:
  • معطوفة بالواو على «ضلوا» وتعرب اعرابها. كثيرا: صفة للمصدر نابت عن المفعول المطلق منصوبة بالفتحة.
  • ﴿ وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ:
  • تعرب اعراب «أَضَلُّوا» عن سواء: جار ومجرور متعلق بضلوا. السبيل: مضاف اليه مجرور بالكسرة. '

المتشابهات :

النساء: 171﴿ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لَا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ
المائدة: 77﴿ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لَا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٖ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [77] لما قبلها :     وبعد أن بَيَّنَ اللهُ عز وجل حقيقة عيسى عليه السلام ، وعجزه؛ نهى النَّصَارى هنا عن الغُلوِّ في عيسى عليه السلام ، ورفعِه عن رتبة الرسالة، قال تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

فهرس المصحف

البحث بالسورة

البحث بالصفحة

البحث في المصحف