ترتيب المصحف | 6 | ترتيب النزول | 55 |
---|---|---|---|
التصنيف | مكيّة | عدد الصفحات | 23.00 |
عدد الآيات | 165 | عدد الأجزاء | 1.17 |
عدد الأحزاب | 2.35 | عدد الأرباع | 9.40 |
ترتيب الطول | 5 | تبدأ في الجزء | 7 |
تنتهي في الجزء | 8 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
الثناء على الله: 2/14 | الحمد لله: 2/5 |
بعدَ ذكرِ تعنُّتِ المشركينَ ومطالبتِهم بالنُّبوةِ، توضِّحُ هذهِ الآياتُ أنَّهم ليسُوا أهلًا للإيمانِ، وغيرَ مستعدّينَ لقبولِه.
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ حالَ مَن يَتَمَسَّكُ بالصِّراطِ المسْتَقيمِ بَيَّنَ بَعْدَه حالَ من يكُونُ بالضِّدِّ من ذلك، وهم الشياطينُ وأولياؤُهم من الإنسِ يومَ القيامةِ، ثُمَّ توبيخُهم وندمُهم حيثُ لا ينفَعُ النَّدَمُ (عادة القرآن تعقيبُ الوعدِ بالوعيدِ، والعكس
التفسير :
يقول تعالى -مبينا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته، وعلامة شقاوته وضلاله-:إن من انشرح صدره للإسلام، أي:اتسع وانفسح، فاستنار بنور الإيمان، وحيي بضوء اليقين، فاطمأنت بذلك نفسه، وأحب الخير، وطوعت له نفسه فعله، متلذذا به غير مستثقل، فإن هذا علامة على أن الله قد هداه، ومَنَّ عليه بالتوفيق، وسلوك أقوم الطريق. وأن علامة من يرد الله أن يضله، أن يجعل صدره ضيقا حرجا. أي:في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين، قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات، فلا يصل إليه خير، لا ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء، أي:كأنه يكلف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه. وهذا سببه، عدم إيمانهم، هو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان، وهذا ميزان لا يعول، وطريق لا يتغير، فإن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى، فسييسره للعسرى.
ثم بين- سبحانه- حال المستعد لهداية الإسلام، وحال المستعد للضلال فقال:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.
أى: فمن يرد الله أن يهديه للإسلام، ويوفقه له، يوسع صدره لقبوله، ويسهله له بفضله وإحسانه.
وشرح الصدر: توسعته، يقال: شرح الله صدره فانشرح، أى: وسعه فاتسع، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها. مصفاة عما يمنعه وينافيه.
روى عبد الرازق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ فقال: «نور يقذف فينشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» «2» .
وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام.
والحرج: مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج، أى: ضاق ضيقا شديدا. وصف به الضيق للمبالغة، كأنه نفس الضيق، وأصل الحرج مجتمع الشيء ويقال: للحديقة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها حرجة.
وقرئ حرجا- بكسر الراء- صفة لقوله ضَيِّقاً.
روى أن جماعة من الصحابة قرءوا أمام عمر- رضى الله عنه- «ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا» بكسر الراء فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير»
وقوله كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ استئناف، أو حال من ضمير الوصف، أو وصف آخر لقلب الضال، والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه. فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة.
أى: كأنما إذا دعى إلى الإسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال. ويصعد أى: يتصعد، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه.
وفيه إشارة إلى أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود.
وقوله: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أى: مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام، يجعل الله الرجس. أى: العذاب، أو الخذلان، أو اللعنة في الدنيا على الذين لا يؤمنون بالإسلام.
يقول تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) أي : ييسره له وينشطه ويسهله لذلك ، فهذه علامة على الخير ، كقوله تعالى : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ) [ الزمر : 22 ] ، وقال تعالى : ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ) [ الحجرات : 7 ] .
قال ابن عباس : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) يقول : يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وكذا قال أبو مالك ، وغير واحد . وهو ظاهر .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي جعفر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي المؤمنين أكيس؟ قال : " أكثرهم ذكرا للموت ، وأكثرهم لما بعده استعدادا " قال : وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) وقالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال : " نور يقذف فيه ، فينشرح له وينفسح " قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت
وقال ابن جرير : حدثنا هناد ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان - يعني الثوري - عن عمرو بن مرة ، عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) فذكر نحو ما تقدم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات القزاز ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح قالوا : يا رسول الله ، هل لذلك من أمارة؟ قال : " نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت "
وقد رواه ابن جرير عن سوار بن عبد الله العنبري ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة ، عن أبي جعفر فذكره .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن المسور قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) قالوا : يا رسول الله ، ما هذا الشرح؟ قال : " نور يقذف به في القلب " قالوا : يا رسول الله ، فهل لذلك من أمارة ؟ قال " نعم " قالوا : وما هي؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت
وقال ابن جرير أيضا : حدثني هلال بن العلاء ، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح " قالوا : فهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتنحي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقي الموت "
وقد رواه ابن جرير من وجه آخر ، عن ابن مسعود متصلا مرفوعا فقال : حدثني ابن سنان القزاز ، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي ، عن يونس ، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) قالوا : يا رسول الله ، وكيف يشرح صدره؟ قال : " يدخل الجنة فينفسح " قالوا : وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال : " التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت
فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة ، يشد بعضها بعضا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء ، والأكثرون : ( ضيقا ) بتشديد الياء وكسرها ، وهما لغتان : كهين وهين . وقرأ بعضهم : " حرجا " بفتح الحاء وكسر الراء ، قيل : بمعنى آثم . وقال السدي . وقيل : بمعنى القراءة الأخرى ) حرجا ) بفتح الحاء والراء ، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه .
وقد سأل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، رجلا من الأعراب من أهل البادية من مدلج : ما الحرجة؟ قال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ، ولا وحشية ، ولا شيء . فقال عمر ، رضي الله عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير .
وقال العوفي عن ابن عباس : يجعل الله عليه الإسلام ضيقا ، والإسلام واسع . وذلك حين يقول : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ] ، يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق .
وقال مجاهد والسدي : ( ضيقا حرجا ) شاكا . وقال عطاء الخراساني : ( ضيقا حرجا ) ليس للخير فيه منفذ . وقال ابن المبارك ، عن ابن جريج ( ضيقا حرجا ) بلا إله إلا الله ، حتى لا تستطيع أن تدخله ، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه .
وقال سعيد بن جبير : يجعل صدره ( ضيقا حرجا ) قال : لا يجد فيه مسلكا إلا صعدا .
وقال السدي : ( كأنما يصعد في السماء ) من ضيق صدره .
وقال عطاء الخراساني : ( كأنما يصعد في السماء ) يقول : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء . وقال الحكم بن أبان عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( كأنما يصعد في السماء ) يقول : فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء ، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه ، حتى يدخله الله في قلبه .
وقال الأوزاعي : ( كأنما يصعد في السماء ) كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصول الإيمان إليه . يقول : فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه ، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه; لأنه ليس في وسعه وطاقته .
وقال في قوله : ( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) يقول : كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا ، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله ، فيغويه ويصده عن سبيل الله .
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : الرجس : الشيطان . وقال مجاهد : الرجس : كل ما لا خير فيه . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرجس : العذاب .
القول في تأويل قوله : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ
قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره: فمن يرد الله أن يهديه للإيمان به وبرسوله وما جاء به من عند ربه، فيوفقه له (1) =(يشرح صدره للإسلام)، يقول: فسح صدره لذلك وهوَّنه عليه، وسهَّله له، بلطفه ومعونته, حتى يستنير الإسلام في قلبه, فيضيء له، ويتسع له صدره بالقبول ، كالذي جاء الأثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي:-
13852- حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي يحدث, عن عبد الله بن مرة, عن أبي جعفر قال: لما نـزلت هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، قالوا: كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نـزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح . قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: نعم, الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الفوت. (2)
13853- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن أبي جعفر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا, وأحسنهم لما بعده استعدادًا . قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، قالوا: كيف يشرح صدره، يا رسول الله؟ قال: نور يُقذف فيه، فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: " الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت " .
13854- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن عمرو بن مرة, عن رجل يكنى " أبا جعفر "، كان يسكن المدائن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، قال: نور يقذف في القلب فينشرح وينفسخ . قالوا: يا رسول الله, هل له من أمارة يعرف بها؟ = ثم ذكر باقي الحديث مثله . (3)
15855- حدثني هلال بن العلاء قال، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نـزلت هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قال: إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح . قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود, والتنحِّي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت. (4)
13856- حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن خالد بن أبي كريمة, عن عبد الله بن المسور قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل النور القلبَ انفسح وانشرح. قالوا: يا رسول الله, وهل لذلك من علامة تعرف؟ قال: نعم, الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل نـزول الموت. (5)
13857- حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي, عن يونس, عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة, عن عبد الله بن مسعود, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، قالوا: يا رسول الله, وكيف يُشرح صدره؟ قال: يدخل فيه النور فينفسح . قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور, والإنالة إلى دار الخلود, والاستعداد للموت قبل أن ينـزل الموت . (6)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13859- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، أما " يشرح صدره للإسلام "، فيوسع صدره للإسلام . (7)
13860- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، بـ " لا إله إلا الله " .
13861- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، بـ" لا إله إلا الله " يجعل لها في صدره متَّسعًا .
* * *
القول في تأويل قوله : وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى، يَشغله بكفره وصدِّه عن سبيله, ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه ، (8) حرجًا . (9)
* * *
و " الحرج "، أشد الضيق, وهو الذي لا ينفذه، من شدة ضيقه, (10) وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة، ولا يدخله نور الإيمان، لريْن الشرك عليه . وأصله من " الحرج ", و " الحرج " جمع " حَرَجة "، وهي الشجرة الملتف بها الأشجار, لا يدخل بينها وبينها شيء لشدة التفافها بها ، (11) كما:-
13862- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الله بن عمار = رجل من أهل اليمن= عن أبي الصلت الثقفي: أن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الآية: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ) بنصب الراء . قال: وقرأ بعض مَنْ عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ضَيِّقًا حَرِجًا " . قال صفوان: فقال عمر: ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيًا, (12) وليكن مُدْلجيًّا. (13) قال: فأتوه به. فقال له عمر: يا فتى، ما الحرجة؟ قال: " الحرجة " فينا، الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيَّة ولا شيء . قال: فقال عمر: كذلك قلبُ المنافق لا يصل إليه شيء من الخير . (14)
13863- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا)، يقول: من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، [سورة الحج:78]، يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال: بعضهم معناه: شاكًّا .
* ذكر من قال ذلك:
13864- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حميد, عن مجاهد: (ضيقًا حرجًا) قال: شاكًّا .
13865- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ضيقًا حرجًا) أما " حرجًا "، فشاكًّا .
* * *
وقال آخرون: معناه: ملتبسًا .
* ذكر من قال ذلك:
13866- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (يجعل صدره ضيقًا حرجًا)، قال: ضيقًا ملتبسًا .
13867- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن الحسن, عن قتادة أنه كان يقرأ: ( ضَيِّقًا حَرَجًا )، يقول: ملتبسًا .
* * *
وقال آخرون: معناه: أنه من شدة الضيق لا يصل إليه الإيمان .
* ذكر من قال ذلك:
13868- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن حبيب بن أبي عمرة, عن سعيد بن جبير: (يجعل صدره ضيقًا حرجًا)، قال: لا يجد مسلكًا إلا صُعُدًا .
13869- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: (ضيقًا حرجًا)، قال: ليس للخير فيه منفَذٌ .
13870- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني، مثله .
13871- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قوله: (ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقًا حرجًا)، بلا إله إلا الله، لا يجد لها في صدره مَسَاغًا .
13872- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً في قوله: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا)، بلا إله إلا الله, حتى لا تستطيع أن تدخله .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) بفتح الحاء والراء من (حرجًا) , وهي قراءة عامة المكيين والعراقيين, بمعنى جمع " حرجة "، على ما وصفت . (15)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: " ضَيِّقًا حَرِجًا "، بفتح الحاء وكسر الراء .
* * *
ثم اختلف الذين قرأوا ذلك في معناه.
فقال بعضهم: هو بمعنى: " الحَرَج ". وقالوا: " الحرَج " بفتح الحاء والراء, و " الحرِج " بفتح الحاء وكسر الراء، بمعنى واحد, وهما لغتان مشهورتان, مثل: " الدَّنَف " و " الدَّنِف ", و " الوَحَد " و " الوَحِد ", و " الفَرَد " و " الفَرِد " .
* * *
وقال آخرون منهم: بل هو بمعنى الإثم، من قولهم: " فلان آثِمٌ حَرِجٌ" ، وذكر عن العرب سماعًا منها: " حَرِجٌ عليك ظُلمي", بمعنى: ضِيقٌ وإثْم. (16)
قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد, وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ، لاتفاق معنييهما. وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في" الوحَد " و " الفَرَد " بفتح الحاء من " الوحد " والراء من " الفرد "، وكسرهما، بمعنى واحدٍ .
* * *
وأما " الضيِّق ", فإن عامة القرأة على فتح ضاده وتشديد يائه, خلا بعض المكيين فإنه قرأه: " ضَيْقًا "، بفتح الضاد وتسكين الياء، وتخفيفه .
وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان:
أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد, كما قيل: " هَيْنٌ لَيْنٌ", بمعنى: هيِّنٌ ليِّنٌ .
والآخر: أن يكون سكنه بنية المصدر، من قولهم: " ضاق هذا الأمر يضيق ضَيْقًا ", كما قال رؤبة:
قَــدْ عَلِمْنَــا عِنْــدَ كُـلِّ مَـأْزِقِ
ضَيْــقٍ بِوَجْــهِ الأمْـرِ أَوْ مُضَيِّـقِ (17)
ومنه قول الله: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ، [سورة النحل: 127] . وقال رؤبة أيضًا * وَشَفَّها اللَّوحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ * (18)
بمعنى: ضيّق . وحكي عن الكسائي أنه كان يقول: " الضيِّقُ"، بالكسر: في المعاش والموضع, وفي الأمر " الضَّيْق " .
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية أبينُ البيان لمن وُفّق لفهمهما، عن أن السبب الذي به يُوصل إلى الإيمان والطاعة، غير السبب الذي به يُوصل إلى الكفر والمعصية, وأن كلا السببين من عند الله. (19) وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدرَ من أراد هدايته للإسلام, ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيِّقًا عن الإسلام حَرَجًا كأنَّما يصعد في السماء . ومعلومٌ أن شرح الصدر للإيمان خِلافُ تضييقه له, وأنه لو كان يوصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه، لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق, ولكان من ضُيِّق صدره عن الإيمان، قد شُرِح صدره له، ومن شرح صدره له، فقد ضُيِّق عنه, إذ كان مَوْصولا بكل واحد منهما= أعني من التضييق والشرح = إلى ما يُوصَل به إلى الآخر . ولو كان ذلك كذلك, وجب أن يكون الله قد كان شرح صدرَ أبي جهل للإيمان به، وضيَّق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وهذا القول من أعظم الكفر بالله . وفي فساد ذلك أن يكون كذلك، الدليلُ الواضح على أن السَّبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله، وأطاعه المطيعون, غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون, وأن كِلا السببين من عند الله وبيده, لأنه أخبر جل ثناؤه أنه هو الذي يشرح صدرَ هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته, ويضيِّق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلالَه .
* * *
القول في تأويل قوله : كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ
قال أبو جعفر: وهذا مثل من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه, مثل امتناعه من الصُّعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وسعه .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13873- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: (كأنما يصعد في السماء)، يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء .
13874- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني, مثله .
13875- وبه قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً: " يجعل صدره ضيقًا حرجًا "، بلا إله إلا الله, حتى لا تستطيع أن تدخله," كأنما يصعد في السماء "، من شدّة ذلك عليه .
13876- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, مثله .
13877- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (كأنما يصعد في السماء)، من ضيق صدره .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ )، بمعنى: " يتصعَّد ", فأدغموا التاء في الصاد, فلذلك شدَّدوا الصاد .
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين: " يَصَّاعَدُ"، بمعنى: " يتصاعد ", فأدغم التاء في الصاد، وجعلها صادًا مشدَّدة .
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المكيين: " كَأَنَّمَا يَصْعَدُ"، من " صَعِد يصعَد " .
* * *
وكل هذه القراءات متقاربات المعانى، وبأيِّها قرأ القارئ فهو مصيب, غير أني أختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأه: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ )، بتشديد الصاد بغير ألف, بمعنى: " يتصعد ", لكثرة القرأة بها, (20) ولقيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " مَا تَصَعَّدَني شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خُطْبَةُ النّكاح " .
* * *
القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما يجعل الله صدر مَنْ أراد إضلاله ضيقًا حرجًا, كأنما يصعد في السماء من ضيقه عن الإيمان فيجزيه بذلك, كذلك يسلّط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبَى الإيمان بالله ورسوله, فيغويه ويصدّه عن سبيل الحق .
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى " الرجس ".
فقال بعضهم: هو كل ما لا خير فيه .
* ذكر من قال ذلك:
13878- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: " الرجس "، ما لا خير فيه .
13879- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: (يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)، قال: ما لا خير فيه .
* * *
وقال آخرون: " الرجس "، العذاب .
* ذكر من قال ذلك:
13880- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)، قال: الرجس عذابُ الله .
* * *
وقال آخرون: " الرجس "، الشيطان .
* ذكر من قال ذلك:
13881- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: (الرجس)، قال: الشيطان .
* * *
وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفيين يقول: " الرِّجْس "،" والنِّجْس " لغتان . ويحكى عن العرب أنها تقول: " ما كان رِجْسًا, ولقد رَجُس رَجَاسة " و " نَجُس نَجَاسة " .
وكان بعض نحويي البصريين يقول: " الرجس " و " الرِّجز "، سواء, وهما العذاب . (21)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس, ومَنْ قال إن " الرجس " و " النجس " واحد, للخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا دخل الخَلاء: " اللهُمّ إنّي أعوذ بك من الرجْس النِّجْس الخبيث المُخْبِثِ الشيطان الرَّجيم " . (22)
13882- حدثني بذلك عبد الرحمن بن البختري الطائي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن إسماعيل بن مسلم, عن الحسن وقتادة, عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم . (23)
* * *
وقد بيَّن هذا الخبر أن " الرِّجْس " هو " النِّجْس "، القذر الذي لا خير فيه, وأنه من صفة الشيطان .
-----------------
الهوامش :
(1) انظر تفسير (( الهدى )) فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) .
(2) الأثر : 13852 - (( عبد الله بن مرة )) ، هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة وتفسير ابن كثير ، وأنا أستبعد أن يكون كذلك لأسباب .
الأول - أني أستبعد أن يكون هو (( عبد الله بن مرة الخارفي )) ، الذي يروي عن ابن عمر ، ومسروق ، وأبي كثف ، والذي يروي عنه العمش ، ومنصور . وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 165 ، وهو ثقة .
الثاني - أن الخبر رواه أبو جعفر الطبري بأسانيد ، هذا ورقم : 13853 ، 13854 ، وهي تدور على (( عمرو بن مرة )) .
الثالث - أنه سيتبين بعد مَنْ (( أبو جعفر )) الذي روى هذا الخبر ، ومذكور هناك أنه روى عنه (( عمرو بن مرة )) ، ولم يذكر (( عبد الله بن مرة )) .
فمن أجل ذلك أرجح أن صوابه (( أبو عبد الله بن مرة )) ، أو (( أبو عبد الله عمرو بن مرة )) ، فسقط من النساخ .
وأما (( أبو جعفر )) الذي يدور عليه هذا الخبر ، فهو موصوف في الخبر رقم 13854 : (( رجل يكنى أبا جعفر ، كان يسكن المدائن )) ، ثم جاءت صفة أخرى في تخريج السيوطي لهذا الخبر في الدر المنثور ، قال : (( رجل من بني هاشم ، وليس هو محمد بن علي )) = يعني الباقر .
وقد وقفت أولا عند (( أبي جعفر )) هذا ، وظننت أنه مجهول ، لأني لم أجد له ذكرًا في شيء مما بين يدي من الكتب ، ولكن لما جئت إلى الخبر رقم : 13856 من رواية (( خالد بن أبي كريمة ، عن عبد الله بن المسور )) ، تبين لي على وجه القطع ، أن (( أبا جعفر )) هذا ، الذي كان يسكن المدائن ، وكان من بني هاشم ، هو نفسه (( عبد الله بن المسور )) ، الذي روى عنه رقم : 13856 .
وإذن ، فهو (( أبو جعفر )) : (( عبد الله بن المسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب )) (( أبو جعفر الهاشمي المدائني )) . روى عنه عمرو بن مرة ، وخالد بن أبي كريمة . مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 169 ، وتاريخ بغداد 10 : 17 ، وميزان الاعتدال للذهبي 2 : 78 ، ولسان الميزان 3 : 360 . قال الخطيب . (( سكن المدائن ، وحدث بها عن محمد بن الحنفية ) ، وذكر في بعض ما ساقه من أسانيد أخباره : (( عن خالد بن أبي كريمة ( وهو الآتي برقم : 13856 ) ، عن أبي جعفر وهو عبد الله بن المسور ، رجل من بني هاشم ، كان يسكن المدائن )) .
و (( أبو جعفر )) ، (( عبد الله بن المسور )) ضعيف كذاب . قال جرير بن رقبة : (( كان أبو جعفر الهاشمي المدائني ، يضع أحاديث كلام حق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختلط بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتمله الناس )) . وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل : (( قال أبي : أبو جعفر المدائني ، اسمه عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب . قال أبي : اضرب على حديثه ، كان يضع الحديث ويكذب ، وقد تركت أنا حديثه . وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدثنا عنه )) . وقال ابن أبي حاتم : (( سألت أبي عن جعفر الهاشمي فقال : الهاشميون لا يعرفونه ، وهو ضعيف الحديث ، يحدث بمراسيل لا يوجد لها أصل في أحاديث الثقات )) .
وإذن ، فالأخبار من رقم : 13852 - 13854 ، ورقم : 13856 - أخبار معلولة ضعاف واهية ، كما ترى .
وهذه الأخبار الثلاثة : 13852 - 13854 ، ذكرها ابن كثير في تفسيره 3 : 394 ، 395 ، وخرجها السيوطي في الدر المنثور 3 : 44 ، ونسب الخبر لابن المبارك في الزهد ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات .
وقال ابن كثير في تفسيره 3 : 395 ، وذكر هذه الأخبار ، وخبر مسعود الذي رواه أبو جعفر برقم : 13855 ، 13857 ، ثم قال : (( فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة ، يشد بعضها بعضًا ، والله أعلم .
وأخطأ الحافظ جدًا كما ترى ، فإن حديث أبي جعفر الهاشمي ، أحاديث كذاب وضاع لا تشد شيئًا ولا تحله !! وكتبه محمود محمد شاكر .
(3) الأثران : 13853 ، 13854 - حديثان واهيان ، كما سلف في التعليق على الخبر السالف .
و (( عمرو بن مرة المرادي )) ، ثقة مأمون . مضى مرارًا ، آخرها رقم : 12396 .
(4) الأثر : 13855 - (( هلال بن العلاء بن هلال الباهلي الرقى )) ، شيخ أبي جعفر ، مضى برقم : 4964 ، وأنه صدوق ، متكلم فيه .
وكأن في المطبوعة : (( محمد بن العلاء )) ، وهو شيء لا أصل له هنا . وفي المخطوطة : (( لعلي ابن العلا )) ، غير منقوطة ، كأنها تقرأ ( يعلي بن العلا )) ، ولم أجد في شيوخ أبي جعفر ، ولا في الرواة ، من سمى بذلك . ورأيت ابن كثير في تفسيره 3 : 395 ، نقل عن هذا الموضع من ابن جرير قال : (( حدثني هلال بن العلاء ، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد )) ، فأيد هذا أن أبا جعفر روى آنفًا عن شيخه (( هلال بن العلاء )) ، أن الذي في المخطوطة تحريف على الأرجح ، ولذلك أثبته كم هو في ابن كثير : (( هلال بن العلاء )) .
و (( سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني )) . ضعيف ، ضعفه ابن أبي حاتم ، والدارقطني ، وقال : (( لا يحتج به )) . قال أبو حاتم : (( يتكلمون فيه ، يقال إنه أخذ كتبًا لمحمد بن سلمة ، فحدث بها . ورأيت فيما حدث أكاذيب ، كذب )) . مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 1 / 45 ، ميزان الاعتدال 1 : 387 ، ولسان الميزان 3 : 37 .
و (( محمد بن سلمة الحراني )) ، ثقة ، مضى برقم : 175 .
و (( أبو عبد الرحيم )) ، هو (( خالد بن أبي يزيد الحراني )) ، روى ابن أخته (( محمد بن سلمة الحراني )) ، حسن الحديث متقن . مضى له ذكر في التعليق على الأثر رقم : 8396 .
و (( زيد بن أبي أنيسة الجزري )) ، ثقة ، مضى برقم : 4964 ، 8396 .
و (( عمرو بن مرة المرادي )) ، مضى آنفًا في رقم : 13853 ، 13854 .
و (( أبو عبيدة )) ، هو (( أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود )) ، مضى مرارًا كثيرة جدًا ، وهو لم يسمع من أبيه ، كما سلف مرارًا .
زهذا خبر ضعيف أيضًا ، لضعف أحاديث (( سعيد بن واقد الحراني ، عن (( محمد بن سلمة )) ، كما ذكر أبو حاتم .
ثم لأن أبا عبيدة ، لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود . وسيأتي خبر عبد الله بن مسعود برقم : 13857 ، من طريق أخرى . فالعجب لابن كثير . كيف تكون هذه أحاديث متصلة ، ثم كيف تشدها أخبار كذاب وضاع . وانظر ما أسلفت في التعليق على رقم : 13852 .
(5) الأثر : 13856 - (( خالد بن أبي كريمة الأصبهاني )) و (( أبو عبد الرحمن الاسكاف )) وثقه أحمد وأبو داود ، وابو حاتم وابن وابن حبان وقال (( يخطئ )) ، وضعفه ابن معين مترجم في التهذيب . والكبير 2 / 1 / 154 . وابن أبي حاتم 1 / 2 / 349 . قال البخاري (( عن معاوية ابن قرة ، وأبي جعفر عبد الله بن مسور المسوري )) ، ولم يذكر فيه جرحًا .
و (( عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي المدائني )) ، سلف برقم : 13852 ، وأنه هو (( أبو جعفر )) المدائني ، وأنه كذاب وضاع . وانظر تخريج الخبر والتعليق عليه هناك .
(6) الأثر : 13857 - (( ابن سنان القزاز )) ، شيخ الطبري ، هو : (( محمد بن سنان القزاز )) مضى برقم : 157 ، 1999 ، 2056 ، 5419 ، 6822 .
و (( محبوب بن الحسن الهاشمي البصري )) ، (( محبوب )) لقب ، وهو به أشهر ، واسمه : (( محمد بن الحسن بن هلال بن أبي زينب فيروز القرشي )) ، مولى بني هاشم . ثقة ، وضعفوه مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 67 ، في (( محمد بن الحسن البصري )) ، وابن أبي حاتم في (( محمد ابن الحسن البصري )) 3 / 2 / 228 ، ثم في (( محبوب بن الحسن بن هلال )) 4 / 1 / 388 ، ولم يشر إلى أن اسمه (( محمد بن الحسن )) .
و (( يونس )) هو : (( يونس بن عبيد بن دينار العبدي )) ، ثقة ، مضى برقم : 2616 ، 4931 ، 10574 .
و (( عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة )) ، هذا إشكال شديد ، فإن (( عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود )) ، متأخر جدًا ، روى عن أبي إسحاق السبيعي وطبقته ومات سنة 160 ، أو سنة 165 . و (( يونس بن عبيد )) ، أعلى طبقة منه ، روى عن إبراهيم التيمي ، والحسن البصري ، وابن سيرين . ومات سنة 140 ، فهو في طبقة شيوخه ، فلو كان يونس روى عنه ، لذكر مثل ذلك في ترجمة (( عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة )) .
وأنا أرجح أن صواب الإسناد : (( عن يونس ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عتبة )) .
وهو (( عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي )) ، كنيته (( أبو عبد الرحمن )) ، وهو الذي يروي عن عمه (( عبد الله بن مسعود )) ، وولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ، ومات سنة 74 . فهو الخليق أن يروي عنه (( يونس بن عبيد )) .
وهذا أيضًا خبر ضعيف ، لضعف (( محبوب بن الحسن )) ، وإذن فكل ما قاله الحافظ ابن كثير من أن هذه الأخبار جاءت بأسانيد مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا ، قول ينفيه شرح هذه الأسانيد كما رأيت ، والله الموفق للصواب ، وكتبه محمود محمد شاكر .
(7) تخطيت في الترقيم رقم : 13858 : خطأ .
(8) في المطبوعة : (( لشغله بكفره ... يجعل صدره )) ، الأخيرة بغير واو ، وفي المخطوطة كما أثبتها ، وبغير واو في (( يجعل صدره )) ، والسياق يقتضي ما أثبت .
(9) انظر تفسير (( الإضلال )) فيما سلف من فهارس اللغة ( ضلل ) .
(10) في المطبوعة : (( لا ينفذ )) ، وأثبت ما في المخطوطة . وهو الصواب .
(11) انظر تفسير (( الحرج )) فيما سلف 8 : 518 / 10 : 85 .
(12) قوله : (( واجعلوه راعيًا )) ، أي التمسوه ، وليكن راعيًا ، ليس من معنى (( الجعل )) الذي هو التصيير . وهذا استعمال عربي عريق في (( جعل )) ، ولكنهم لم يذكروه في المعاجم ، وهو دائر في كلام العرب ، وهذا من شواهده ، فليقيد في مكانه من كتب العربية .
(13) (( مدلج )) قبيلة من بني مرة بن عبد مناة بن كنانة ، وهم القافة المشهورون ، ويدل هذا الخبر على أن أرض مرعاهم كانت كثيرة الشجر .
(14) الأثر : 13862 - (( عبد الله بن عمار اليمامي )) ، قال ابن أبي حاتم : (( مجهول )) ، وذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 129 .
و (( أبو الصلت الثقفي )) ، روى عن عمر ، وروى عنه عبد الله بن عمار اليمامي ، هذا الحديث . مترجم في التهذيب ، والكني للبخاري : 44 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 394 .
وهذا خبر عزيز جدًا . في بيان رواية اللغة وشرحها ، وسؤال الأعراب والرعاة عنها .
(15) انظر ص : 103 ، 104 .
(16) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 353 ، 354 .
(17) ليسا في ديوانه ، ولم أجدهما في مكان آخر ، ومنها أبيات في الزيادات : 179 ، 180 ، ولم يذكرا معها . وكان في المطبوعة : (( وقد علمنا )) بزيادة الواو . وكان فيها : (( أي مضيق )) ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب إن شاء الله .
(18) ديوانه : 105 ، والوساطة : 14 . (( مأزول )) من (( الأزل )) ( بسكون الزاي ) ، وهو الضيق والجدب وشدة الزمان ، وفي حديث الدجال : (( أنه يحضر الناس ببيت المقدس ، فيؤزلون أزلا )) ، أي : يقحطون ويضيق عليهم . ومعنى : (( مأزول )) ، أصابه القحط ، يعني مرعى ، ومثله قول الراجز :
إنَّ لَهَــــا لَرَاعِيًـــا جَرِيَّـــا
أَبْـــلا بمَـــا يَنْفَعُهــا قَوِيَّــا
لَــمْ يَــرْعَ مَــأْزُولا وَلا مَرْعِيَّـا
حَـــتَّى عــلاَ سَــنَامُهَا عُلِيَّــا
و (( شفها )) أنحل جسمها ، وأذهب شحمها . و(( اللوح )) ( بضم اللام ) وهو أعلى اللغتين ، و (( اللوح )) ( بفتح فسكون ) : وهو العطش الذي يلوح الجسم ، أي يغيره . وقوله : (( ضيق )) حرك (( الياء )) بالفتح . وعده القاضي الجرجاني في أخطاء رؤبة .
(19) هذا رد على المعتزلة ، وانظر ما سلف ص : 92 ، تعليق : 3 ، وهو من أجود الردود على دعوى المعتزلة .
(20) انظر تفسير (( الصعود )) فيما سلف 7 : 299 - 302 .
(21) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 206 ، فهذا قوله .
(22) قال أبو عبيد: (( الخبيث )) ذو الخبث في نفسه ، و (( المخبث )) ( بكسر الباء ) : الذي أصحابه وأعوانه خبثاء = وهو مثل قولهم : (( فلان ضعيف مضعف ، وقوي مقو )) ، فالقوي في بدنه ، والمقوى الذي تكون دابته قوية = يريد هو الذي يعلمهم الخبث ويوقعهم فيه .
(23) الأثر : 13882 - (( عبد الرحمن بن البختري الطائي )) ، شيخ أبي جعفر ، لم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب ؛ وأخشى أن يكون في اسمه خطأ .
و (( عبد الرحمن بن محمد المحاربي )) ، سلف مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 10339 .
و (( إسماعيل بن مسلم المكي البصري )) ، مضى برقم : 5417 ، 8811 .
وهذا إسناد صحيح ، ولكني لم أجد هذا الخبر في حديث أنس ، في المسند أو غيره ، ووجدته بهذا اللفظ في حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف ، من طريق يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، رواه ابن ماجه في سننه ص : 109 رقم : 299 . قال ابن حبان : (( إذا اجتمع في إسناد خبر ، عبيد الله بن زحر ، وعلى بن يزيد ، عن القاسم ، فذاك مما عملته أيديهم ! ))
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 125 | ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّـهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ |
---|
يونس: 100 | ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
ضيقا:
وقرئ:
ضيقا، بالتخفيف، وهى قراءة ابن كثير.
حرجا:
قرئ:
1- بفتح الراء، وهى قراءة نافع، وأبى بكر.
2- حرجا، بكسر الراء، ورويت عن عمر.
يصعد:
قرئ:
1- يصعد، مضارع صعد، وهى قراءة ابن كثير.
2- يصاعد، أصله: يتصاعد، وهى قراءة أبى بكر.
3- يصعد، بتشديد الصاد والعين، أصله: يتصعد، وهى قراءة عبد الله، وابن مصرف، والأعمش.
التفسير :
أي:معتدلا، موصلا إلى الله، وإلى دار كرامته، قد بينت أحكامه، وفصلت شرائعه، وميز الخير من الشر. ولكن هذا التفصيل والبيان، ليس لكل أحد، إنما هو{ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فإنهم الذين علموا، فانتفعوا بعلمهم، وأعد الله لهم الجزاء الجزيل، والأجر الجميل
ثم بين- سبحانه- أن طريق الإسلام هو الطريق الحق المستقيم فقال:
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً أى: وهذا البيان الذي جاء به القرآن، أو سبيل التوحيد، وإسلام الوجه إلى الله، هو طريق ربك الواضح المستقيم الذي ارتضاه لعباده، والذي لا ميل فيه إلى إفراط أو تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال.
ومُسْتَقِيماً حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل: هذا أبوك عطوفا، وقيل حال مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو (ها) التي للتنبيه.
وقوله: فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أى: جعلناها بينة واضحة مفصلة لقوم يتذكرون ما فيها من هدايات وإرشادات فيعملون بها لينالوا السعادة في الدنيا والآخرة.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للمتذكرين فقال:
لما ذكر تعالى طريقة الضالين عن سبيله ، الصادين عنها ، نبه على أشرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق فقال : ( وهذا صراط ربك مستقيما ) منصوب على الحال ، أي : هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وهو صراط الله المستقيم ، كما تقدم في حديث الحارث ، عن علي رضي الله عنه في نعت القرآن : " هو صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم " رواه أحمد والترمذي بطوله .
( قد فصلنا الآيات ) أي : قد وضحناها وبيناها وفسرناها ، ( لقوم يذكرون ) أي : لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله .
القول في تأويل قوله : وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بيّنا لك، يا محمد، في هذه السورة وغيرها من سور القرآن= هو صراطُ ربك, يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه. (24) فاثبُتْ عليه، وحرِّم ما حرمته عليك، وأحلل ما أحللته لك, فقد بيّنا الآيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته (25) =" لقوم يذكرون ", يقول: لمن يتذكر ما احتجَّ الله به عليه من الآيات والعبر فيعتبر بها . (26) وخص بها " الذين يتذكرون ", لأنهم هم أهل التمييز والفهم، وأولو الحجى والفضل= وقيل: " يذَّكرون " ...................... (27)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13883- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (وهذا صراط ربك مستقيمًا)، يعني به الإسلام .
------------------------
الهوامش :
(24) انظر تفسير : (( الصراط المستقيم )) فيما سلف 10 : 146 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(25) انظر تفسير (( فصل )) فيما سلف ص : 69 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك . = وتفسير (( آية )) فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .
(26) انظر تفسير (( التذكر )) فيما سلف من فهارس اللغة ( ذكر .
(27) في المطبوعة (( فقيل يذكرون )) ، وفي المخطوطة : (( وقيل يذكرون )) كأنه أراد أن يكتب شيئًا ، ثم قطعه . ولعله أراد أن يبين إدغام التاء في الذال من (( يتذكرون )) ، ثم سقط منه أو من الناسخ ، فوضعت نقطًا لذلك ، وإن كان إسقاطها لا يضر شيئًا .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 97 | ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ |
---|
الأنعام: 98 | ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ |
---|
الأنعام: 126 | ﴿وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وسميت الجنة دار السلام، لسلامتها من كل عيب وآفة وكدر، وهم وغم، وغير ذلك من المنغصات، ويلزم من ذلك، أن يكون نعيمها في غاية الكمال، ونهاية التمام، بحيث لا يقدر على وصفه الواصفون، ولا يتمنى فوقه المتمنون، من نعيم الروح والقلب والبدن، ولهم فيها، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون.{ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم، ولطف بهم في جميع أمورهم، وأعانهم على طاعته، ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته، وإنما تولاهم، بسبب أعمالهم الصالحة، ومقدماتهم التي قصدوا بها رضا مولاهم، بخلاف من أعرض عن مولاه، واتبع هواه، فإنه سلط عليه الشيطان فتولاه، فأفسد عليه دينه ودنياه.
أى: أن هؤلاء المتذكرين المتقين لهم جنة عرضها السموات والأرض في جوار ربهم وكفالته، وهو- سبحانه- وَلِيُّهُمْ أى: متولى إيصال الخير إليهم، أو محبهم أو ناصرهم بسبب أعمالهم الصالحة. وسميت الجنة بدار السلام، لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة من جميع المكاره.
قال الجمل: وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ في المراد بهذه العندية وجوه:
أحدها: أنها معدة عنده كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة كقوله جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وثانيها: أن هذه العندية تشعر بأن هذا الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله بالشرف والرتبة لا بالمكان والجهة لتنزهه- تعالى- عنهما.
وثالثها: هي كقوله- تعالى- في صفة الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ.
وقوله: أنا عند المنكسر قلوبهم وأنا عند ظن عبدى بي» .
( لهم دار السلام ) وهي : الجنة ، ( عند ربهم ) أي : يوم القيامة . وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم ، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم ، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام .
( وهو وليهم ) أي : والسلام - وهو الله - وليهم ، أي : حافظهم وناصرهم ومؤيدهم ، ( بما كانوا يعملون ) أي : جزاء على أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة ، بمنه وكرمه .
القول في تأويل قوله : لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " لهم "، للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها، ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك, فيصدِّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذاك .
* * *
وأما " دار السلام ", فهي دار الله التي أعدَّها لأوليائه في الآخرة، جزاءً لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله، وهي جنته . و " السلام "، اسم من أسماء الله تعالى, (28) كما قال السدي:-
13884- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (لهم دار السلام عند ربهم)، الله هو السلام, والدار الجنة .
* * *
وأما قوله: (وهو وليُّهم)، فإنه يقول: والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله (29) =(بما كانوا يعملون)، يعني: جزاءً بما كانوا يعملون من طاعة الله, ويتبعون رضوانه .
-------------------------
الهوامش :
(28) انظر تفسير (( السلام )) فيما سلف 10 : 145 / 11 : 392 .
(29) انظر تفسير (( ولي )) فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 127 | ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ و هُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ |
---|
النحل: 63 | ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فـ هُوَ وَلِيُّهُم الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يقول تعالى{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي:جميع الثقلين، من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل غيره، فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس، وزينوا لهم الشر، وأزُّوهم إلى المعاصي:{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أي:من إضلالهم، وصدهم عن سبيل الله، فكيف أقدمتم على محارمي، وتجرأتم على معاندة رسلي؟ وقمتم محاربين لله، ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم؟ فاليوم حقت عليكم لعنتي، ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم، وإضلالكم لغيركم. وليس لكم عذر به تعتذرون، ولا ملجأ إليه تلجأون، ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع، فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال، والخزي والوبال، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا، وأما أولياؤهم من الإنس، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا:{ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي:تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه، وانتفع به. فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته، وتعظيمه، واستعاذته به. والإنسي يستمتع بنيل أغراضه، وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته، فإن الإنسي يعبد الجِنّي، فيخدمه الجِنّي، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية، أي:حصل منا من الذنوب ما حصل، ولا يمكن رد ذلك،{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} أي:وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه بالأعمال، فافعل بنا الآن ما تشاء، واحكم فينا بما تريد، فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر، والأمر أمرك، والحكم حكمك. وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق، ولكن في غير أوانه. ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل، الذي لا جور فيه، فقال:{ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه، ختم الآية بقوله:{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمّها، فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها.
ثم بين- سبحانه- جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ.
ففي هذه الآيات عرض مؤثر زاخر بالحوار والاعتراف والمناقشة والحكم تحكيه السورة الكريمة وهي تصور مشاهد المجرمين يوم القيامة.
وقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ.
المعشر: الجماعة الذين يعاشر بعضهم بعضا أو الذين يربطهم أمر مشترك بينهم والمراد بالجن شياطينهم ومردتهم.
والمعنى: واذكر يا محمد- أو أيها العاقل- يوم نحشر الضالين والمضلين جميعا من الإنس والجن، فنقول للمضلين من الجن: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أى: قد أكثرتم من إغوائكم الإنس وإضلالكم إياهم، أو قد أكثرتم منهم بأن جعلتموهم أتباعكم، وأهل طاعتكم، ووسوستكم لهم بالمعاصي حتى غررتموهم وأوردتموهم هذا المصير الأليم.
و «يوم» منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر، أى: اذكر يوم نحشرهم جميعا. والضمير المنصوب في «نحشرهم» لمن يحشر من الثقلين. وقيل للكفار الذين تتحدث عنهم هذه الآيات.
ووجه الخطاب إلى معشر الجن، لأنهم هم الأصل في إضلال أتباعهم من الإنس، وهم السبب في صدهم عن السبيل القويم.
والمقصود من هذا القول لهم توبيخهم وتقريعهم على ما كان يصدر منهم من إغواء الغافلين من الإنس.
وهنا يحكى القرآن رد الضالين من الإنس على هذا التوبيخ فيقول: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا.
أى: وقال الذين أطاعوهم وانقادوا لهم من الإنس يا ربنا، لقد استمتع بعضنا ببعض.
أى: انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس، حيث أطاعوهم واستجابوا لوسوستهم، وخالفوا أمر ربهم.
وقال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس. أى:
فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة.
وقيل: استمتاع الإنس بالجن معناه أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فنزل بأرض قفر خاف على نفسه من الجن فيقول. أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوارهم. وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أنهم قالوا. سدنا الإنس حتى عاذوا بنا، فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم.
وقيل: استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة، واستمتاع الجن بالإنس هو طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من المعاصي فصاروا كالرؤساء لهم.
والذي نراه. أن استمتاع الجن بالإنس والإنس بالجن يتناول كل ذلك، حيث انتفع كل فريق من صاحبه باللذة العاجلة التي أوردته إلى سوء المصير.
وقولهم هذا، هو تحسر منهم على حالهم، إذ قالوه اعترافا بما فعلوه من طاعة للشياطين واتباع الهوى، وتكذيب أمر البعث.
وإنما قال الأتباع من الإنس هذا القول مع أن الخطاب موجه إلى المتبوعين من شياطين الجن، للإيذان بأن شياطين الجن قد أفحموا. ولم يستطيعوا أن ينطقوا أو يجيبوا. ثم أتبعوا تحسرهم هذا بتحسر آخر وهو قولهم: «وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا» .
أى: ها نحن يا ربنا قد استمتع بعضنا ببعض في الدنيا عن طريق الشهوات المحرمة.
واللذات الفانية القبيحة، وها نحن قد وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا، وهو يوم القيامة والجزاء. ونحن في أقبح صورة وأسوأ عيش.
وهنا يأتيهم الرد الحاسم. والحكم النافذ من الله العلى الكبير. حيث يقول- سبحانه- قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.
مثواكم: الثواء مع الإقامة مع الاستقرار. يقال: ثوى يثوى ثواء أى: استقر، والثوية مأوى الغنم.
والمعنى: قال الله- تعالى- لهؤلاء الظالمين المعترفين على أنفسهم بارتكاب الموبقات: النار منزلكم ومحل إقامتكم الدائمة. فأنتم خالدون فيها في كل وقت إلا في وقت مشيئة الله بخلاف ذلك، لأن الأمور كلها متروكة إليه، وخاضعة لمشيئته.
والأرجح أن المراد بهذا الاستثناء وبنظائره في آيات أخر، المبالغة في الخلود.
أى: أنه لا ينتفى في وقت ما إلا وقت مشيئته- تعالى- وهو سبحانه لا يشاء ذلك. فقد أخبر في آيات متعددة من كتابه أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من النار أبدا.
وفي إيراد هذا المعنى بتلك الصورة، بلاغ للناس بأن مرد الأمور كلها إلى مشيئة الله، وأن خلود المشركين في نار جهنم إنما هو بمحض مشيئته، ولو شاء غير ذلك ما خلدوا، وفيه إلى جانب ذلك تنكيل آخر بهؤلاء الأشقياء لأنهم قد صاروا في حيرة دائمة من أمرهم. تجعلهم مشتتين بين الطمع في الخروج مما هم فيه، واليأس منه.
وهذا التفسير للجملة الكريمة هو الذي نختاره ونرجحه، وهناك وجوه أخرى في تفسيرها منها ما ذهب إليه الزمخشري حيث قال:
وقوله: خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أى: يخلدون في عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم، أو أن يكون من قول الموتور- أى المظلوم- الذي ظفر بواتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب أن ينفس عن خناقه. أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئت، علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنت والتشديد. فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع .
ومنها: ما نقل عن ابن عباس أنه- تعالى- استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يدخلون في الإسلام، وهو مبنى على أن الاستثناء. ليس من المحكي وأن «ما» بمعنى «من» .
ومنها: أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم. فهم فيها إلا الوقت الذي يخرجون منها متجهين إلى الجنة حيث تقفل في وجوههم ليكون ذلك أعظم في حسرتهم.
ومنها: أن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار. أى: إلا وقت مشيئة الله فناءها وزوال عذابها. وهي مسألة خلافية بين العلماء.
وهناك أقوال أخرى لا مجال لذكرها. والقول الذي نرجحه ونعتمده هو الذي سقناه أولا كما أشرنا إلى ذلك من قبل لأنه قول المحققين من العلماء ولأنه يتناسب مع ما يليق بذات الله من كمال قدرته. ونفاذ إرادته.
وجملة «إن ربك حكيم عليم» تسلية لبيان ما تقتضيه حكمته وإرادته. أى: إن ربك حكيم في التعذيب والإثابة وفي كل أفعاله. عليم بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من جزاء.
يقول تعالى : واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتذكرهم به ( ويوم يحشرهم جميعا ) يعني : الجن وأولياءهم ( من الإنس ) الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويعوذون بهم ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا . ( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) أي : ثم يقول : يا معشر الجن . وسياق الكلام يدل على المحذوف .
ومعنى قوله : ( قد استكثرتم من الإنس ) أي : من إضلالهم وإغوائهم ، كما قال تعالى ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ) [ يس : 60 - 62 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) يعني : أضللتم منهم كثيرا . وكذلك قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة .
( وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض ) يعني : أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة ، حدثنا عوف ، عن الحسن في هذه الآية قال : استكثر ربكم أهل النار يوم القيامة ، فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض . قال الحسن : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت ، وعملت الإنس .
وقال محمد بن كعب في قوله : ( ربنا استمتع بعضنا ببعض ) قال : الصحابة في الدنيا .
وقال ابن جريج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض ، فيقول : " أعوذ بكبير هذا الوادي " : فذلك استمتاعهم ، فاعتذروا يوم القيامة .
وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان - فيما ذكر - ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم ، فيقولون : قد سدنا الإنس والجن .
( وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ) قال السدي ، أي الموت .
قال : ( النار مثواكم ) أي : مأواكم ومنزلكم ، أنتم وأولياؤكم . ( خالدين فيها ) أي : ماكثين مكثا مخلدا إلا ما شاء الله .
قال بعضهم : يرجع معنى هذا الاستثناء إلى البرزخ . وقال بعضهم : هذا رد إلى مدة الدنيا . وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها إن شاء الله عند قوله تعالى في سورة هود : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) [ الآية : 107 ] .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن صالح - كاتب الليث - : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : ( النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا نارا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ويوم يحشرهم جميعًا) ، ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ وغيرَهم من المشركين، مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يُوحون إليهم زخرف القول غرورًا ليجادلوا به المؤمنين, فيجمعهم جميعًا في موقف القيامة (30) = يقول للجن: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)، وحذف " يقول للجن " من الكلام، اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه .
* * *
وعنى بقوله: (قد استكثرتم من الإنس)، استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم ، كما:-
13885- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)، يعني: أضللتم منهم كثيرًا .
13886- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)، قال: قد أضللتم كثيرًا من الإنس .
13887- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (قد استكثرتم من الإنس)، قال: كثُر من أغويتم .
13888- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .
13889- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن: (قد استكثرتم من الإنس)، يقول: أضللتم كثيرًا من الإنس .
* * *
القول في تأويل قوله : وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياءُ الجن من الإنس فيقولون: " ربنا استمتع بعضنا ببعض " في الدنيا . (31) فأما استمتاع الإنس بالجن, فكان كما:-
13890- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: (ربنا استمتع بعضنا ببعض)، قال: كان الرجل في الجاهلية ينـزل الأرض فيقول: " أعوذ بكبير هذا الوادي" ، فذلك استمتاعهم, فاعتذروا يوم القيامة .
* * *
= وأما استمتاع الجن بالإنس, فإنه كان، فيما ذكر, ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم, فيقولون: " قد سدنا الجِنّ والحِنّ" (32)
* * *
القول في تأويل قوله : وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالوا: بلغنا الوقتَ الذي وقَّتَّ لموتنا . (33) وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيّام حياتنا إلى حال موتنا . كما:-
13891- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: (وبلغنا أجلنا الذي أجَّلتَ لنا)، فالموت .
* * *
القول في تأويل قوله : قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عمّا هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان، ولقُرَنائهم من الجن, فأخرج الخبر عما هو كائنٌ، مُخْرَج الخبر عما كان، لتقدُّم الكلام قبلَه بمعناه والمراد منه, فقال: قال الله لأولياء الجن من الإنس الذين قد تقدَّم خبرُه عنهم: (النار مثواكم)، يعني نار جهنم =" مثواكم "، الذي تثوون فيه، أي تقيمون فيه .
* * *
و " المثوى " هو " المَفْعَل " من قولهم: " ثَوَى فلان بمكان كذا ", إذا أقام فيه . (34)
=(خالدين فيها)، يقول: لابثين فيها (35) =(إلا ما شاء الله)، يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مُدَّة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم, فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار =(إن ربك حكيم)، في تدبيره في خلقه, وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال، وغير ذلك من أفعاله =(عليم)، بعواقب تدبيره إياهم, (36) وما إليه صائرةُ أمرهم من خير وشر . (37)
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أنّ الله جعل أمرَ هؤلاء القوم في مبلغ عَذَابه إيّاهم إلى مشيئته .
13892- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم)، قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينـزلهم جنَّةً ولا نارًا . (38)
----------------------
الهوامش :
(30) انظر تفسير (( الحشر )) فيما سلف ص : 50 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(31) انظر تفسير (( الاستمتاع )) فيما سلف 8 : 175 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(32) في المطبوعة : (( قد سدنا الجن والإنس )) ، غير ما في المخطوطة ، لم يحسن قراءتها لأنها غير منقوطة . وأثبت ما في المخطوطة . و (( الحن )) ( بكسر الحاء ) ، حي من أحياء الجن ، وقد سلف بيان ذلك في الجزء 1 : 455 ، تعليق : 1 ، فراجعه هناك . انظر معاني القرآن للفراء 1 : 354 ، والذي هناك مطابق لما في المطبوعة .
(33) انظر تفسير (( الأجل )) فيما سلف ص : 11 : 259 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(34) انظر تفسير (( المثوى )) فيما سلف 7 : 279 .
(35) انظر تفسير (( الخلود )) فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(36) انظر تفسير (( حكيم )) و (( عليم )) فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) و ( علم ) .
(37) في المطبوعة : (( صائر )) بغير تاء في آخره ، والصواب ما في المخطوطة . (( صائرة )) مثل (( عاقبة )) لفظًا ومعنى ، ومنه قبل : (( الصائرة ، ما يصير إليه النبات من اليبس )) .
(38) في المطبوعة : (( أن لا ينزلهم )) فزاد (( أن )) ، فأفسد المعنى إفسادًا حتى ناقض بعضه بعضًا . وإنما قوله : (( لا ينزلهم جنة ولا نارًا )) ، نهى للناس أن يقول : (( فلان في الجنة )) و (( فلان في النار )) . (( ينزلهم )) مجزومة اللام بالناهية .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 22 | ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾ |
---|
يونس: 28 | ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾ |
---|
الأنعام: 128 | ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ﴾ |
---|
سبإ: 40 | ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَهَٰٓؤُلَآءِ إِيَّاكُمۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
يحشرهم:
قرئ:
1- بالياء، وهى قراءة حفص.
2- بالنون، وهى قراءة باقى السبعة.
أجلنا:
وقرئ:
آجالنا، على الجمع.
التفسير :
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي:وكما ولَّيْنَا الجن المردة وسلطناهم على إضلال أوليائهم من الإنس وعقدنا بينهم عقد الموالاة والموافقة، بسبب كسبهم وسعيهم بذلك. كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه، ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها. والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ومن ذلك، أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنْعهم الحقوق الواجبة، ولَّى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين. كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف.
ثم يعقب القرآن على هذا الاستمتاع المتبادل بين الضالين والمضلين من الجن والإنس فيقول: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
ونولي: من الولاية بمعنى القرابة، والنصرة، والمحالفة وما إلى ذلك من أنواع الاتصال.
أى: ومثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم لما بينهم من التناسب والمشاكلة، نولي بعض الظالمين من الإنس بعضا آخر منهم بأن نجعلهم يزينون لهم السيئات، ويؤثرون فيهم بالإغواء. بسبب ما كانوا مستمرين على اكتسابه من الكفر والمعاصي.
قال الإمام الرازي: «لأن الجنسية علة الضم» فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث. وكذا القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية. ثم قال: والآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله- تعالى- يسلط عليهم ظالما مثلهم. فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم» .
وقال ابن كثير: معنى الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم» .
وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم. فقف وانظر فيه متعجبا.
فالآية الكريمة تصور لنا مشهدا واقعا في حياة الأمم، وهو أن الظالمين من الناس يوالى بعضهم بعضا، ويناصر بعضهم بعضا، بسبب ما بينهم من صلات في المشارب والأهداف والطباع وأن الأمة التي لا تتمسك بمبدأ العدالة بل تسودها روح الظلم والاعتداء يكون حكامها عادة على شاكلتها لأن الحاكم الظالم لا يستطيع البقاء عادة في مجتمع أفراده تسودهم العدالة والشجاعة في الحق.
والآية في الوقت ذاته تهدد الظالمين، وتتوعدهم بسوء المصير إذا لم يقلعوا عن ظلمهم، ويثوبوا إلى رشدهم، ويقيدوا أنفسهم بمبدأ العدالة ورعاية الحق ثم بعد هذا التعقيب بتلك الآية التي بينت طبيعة الأشرار يعود القرآن إلى سؤال الإنس والجن فيقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
قال سعيد ، عن قتادة في تفسيرها : وإنما يولي الله الناس بأعمالهم ، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان ، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان ، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي . واختاره ابن جرير .
وقال معمر ، عن قتادة في تفسيرها : ( نولي بعض الظالمين بعضا ) في النار ، يتبع بعضهم بعضا .
وقال مالك بن دينار : قرأت في الزبور : إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين ، ثم أنتقم من المنافقين جميعا ، وذلك في كتاب الله قوله تعالى ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ) .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ) قال : ظالمي الجن وظالمي الإنس ، وقرأ : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ) [ الزخرف : 36 ] ، قال : ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد ، من طريق سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود مرفوعا : " من أعان ظالما سلطه الله عليه "
وهذا حديث غريب ، وقال بعض الشعراء :
وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
ومعنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين ، نسلط بعضهم على بعض ، ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم من بعضهم ببعض ، جزاء على ظلمهم وبغيهم .
القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل (نُوَلّي).
فقال بعضهم: معناه: نحمل بعضهم لبعض وليًّا، على الكفر بالله .
* ذكر من قال ذلك:
13893- حدثنا يونس قال، حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون)، وإنما يولي الله بين الناس بأعمالهم ، فالمؤمن وليُّ المؤمن أين كان وحيث كان, والكافر وليُّ الكافر أينما كان وحيثما كان . ليس الإيمان بالتَمنِّي ولا بالتحَلِّي .
* * *
وقال آخرون: معناه: نُتْبع بعضهم بعضًا في النار= من " الموالاة ", وهو المتابعة بين الشيء والشيء, من قول القائل: " واليت بين كذا وكذا "، إذا تابعت بينهما .
* ذكر من قال ذلك:
13894- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا)، في النار، يتبع بعضهم بعضًا . (39)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك، نسلط بعض الظلمة على بعض .
* ذكر من قال ذلك:
13895- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا)، قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس . وقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، [سورة الزخرف: 36]. قال: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: معناه: وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعضٍ أولياء . لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين, فقال جل ثناؤه: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ , وأخبر جل ثناؤه: أنّ بعضهم أولياء بعض, ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضًا بتوليته إياهم, فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتع بعضهم ببعض, كذلك نجعل بعضَهم أولياء بعض في كل الأمور =" بما كانوا يكسبون "، من معاصي الله ويعملونه . (40)
---------------
الهوامش :
(39) انظر تفسير (( ولي )) فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(40) انظر تفسير (( الكسب )) فيما سلف : 11 : 448 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ثم وبخ الله جميع من أعرض عن الحق ورده، من الجن والإنس، وبين خطأهم، فاعترفوا بذلك، فقال:{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} الواضحات البينات، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي، والخير والشر، والوعد والوعيد.{ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ويعلمونكم أن النجاة فيه، والفوز إنما هو بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك، فأقروا بذلك واعترفوا، فـ{ قالوا} بلى{ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بزينتها وزخرفها، ونعيمها فاطمأنوا بها ورضوا، وألهتهم عن الآخرة،{ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} فقامت عليهم حجة الله، وعلم حينئذ كل أحد، حتى هم بأنفسهم عدل الله فيهم، فقال لهم:حاكما عليهم بالعذاب الأليم:{ ادْخُلُوا فِي} جملة{ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} صنعوا كصنيعكم، واستمتعوا بخلاقهم كما استمعتم، وخاضوا بالباطل كما خضتم، إنهم كانوا خاسرين، أي:الأولون من هؤلاء والآخرون، وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم، وحرمان جوار أكرم الأكرمين؟! ولكنهم وإن اشتركوا في الخسران، فإنهم يتفاوتون في مقداره تفاوتا عظيما.
قال الإمام ابن جرير: وهذا خبر من الله- جل ثناؤه- عما هو قائل يوم القيامة، لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن، يخبر أنه- تعالى- يقول لهم: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
يقول: يخبرونكم بما أوحى إليهم من تنبيهى إياكم على مواضع حججي، وتعريفى لكم أدلتى على توحيدي وتصديقى أنبيائى والعمل بأمرى والانتهاء إلى حدودي، يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يقول: يحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياى فتنتهوا عن معاصى، وهذا من الله- تعالى- تقريع لهم وتوبيخ على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي ومعناه، قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيد الله، فلم تقبلوا ولم تتذكروا» .
وقوله سُلٌ مِنْكُمْ استدل به من قال إن الله قد أرسل رسلا من الجن إلى أبناء جنسهم إلا أن جمهور العلماء يخالفون ذلك ويرون أن الرسل جميعا من الإنس، وإنما قيل: رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله: «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وإنما يخرجان من أحدهما وهو الماء الملح دون العذب.
قال أبو السعود: والمعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم: لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا بل من الإنس خاصة، وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم، والإيذان بتقاربهما ذاتا، واتحادهما تكليفا وخطابا. كأنهما من جنس واحد، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر، وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، وقد ثبت أن الجن استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنذروا بما سمعوه. أقوامهم، إذ حكى القرآن عنهم أنهم وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وأنهم قالوا لهم: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً .
وقال صاحب المنار، وجملة القول في الخلاف أنه ليس في المسألة نص قطعى، والظواهر التي استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس، لأن الكلام معهم، وليست أقوى من ظاهر ما استدل به من قال إن الرسل من الفريقين. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه ألا ما ورد به النص. وقد دل القرآن وكذا السنة على رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله- تعالى-» .
ثم يحكى القرآن أنهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر فقال: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
أن الرسل قد بشرونا وأنذرونا، ولم يقصروا في تبليغنا وإرشادنا.
وقوله- سبحانه- غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
أى غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة، فاستحبوا العمى على الهدى، وباعوا آخرتهم بدنياهم. شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
أى: شهدوا على أنفسهم عند ما وقفوا بين يدي الله للحساب في الآخرة أنهم كانوا كافرين في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما لهم مقرين في هذه الآية- على أنفسهم بالكفر- جاحدين في قوله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ قلت. يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون واخرى يجحدون، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم، فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه. أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت: لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت:
الأولى: حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون.
والثانية: ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة وكانت عاقبة أمرهم إن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر، والاستسلام لربهم، وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم» .
هذا، وإنك لتقرأ هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات التي تصور مشهدا من مشاهد يوم القيامة فيخيل إليك أنك أمام مشهد حاضر أمام عينيك ترى فيه الظالمين وحسراتهم، والضالين والمضلين وهم يتبادلون التهم وذلك من إعجاز القرآن الكريم وأنه من عند الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ثم يحدثنا القرآن بعد ذلك عن عدالة الله في أحكامه، وعن سعة غناه ورحمته، وعن حسن عاقبة المؤمنين، وسوء مصير الكافرين فيقول:
وهذا أيضا مما يقرع الله به سبحانه وتعالى كافري الجن والإنس يوم القيامة ، حيث يسألهم - وهو أعلم - : هل بلغتهم الرسل رسالاته؟ وهذا استفهام تقرير : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) أي : من جملتكم . والرسل من الإنس فقط ، وليس من الجن رسل ، كما قد نص على ذلك مجاهد ، وابن جريج ، وغير واحد من الأئمة ، من السلف والخلف .
وقال ابن عباس : الرسل من بني آدم ، ومن الجن نذر .
وحكى ابن جرير ، عن الضحاك بن مزاحم : أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر; لأنها محتملة وليست بصريحة ، وهي - والله أعلم - كقوله تعالى ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ) إلى أن قال : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) [ الرحمن : 19 - 22 ] ، ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرج من الملح لا من الحلو . وهذا واضح ، ولله الحمد . وقد نص على هذا الجواب بعينه ابن جرير .
والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا ) إلى أن قال : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ النساء : 163 - 165 ] ، وقال تعالى عن إبراهيم : ( وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ) [ العنكبوت : 27 ] ، فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته ، ولم يقل أحد من الناس : إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل عليه السلام ثم انقطعت عنهم ببعثته . وقال تعالى : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) [ الفرقان : 20 ] ، وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) [ يوسف : 109 ] ، ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب; ولهذا قال تعالى إخبارا عنهم : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ) [ الأحقاف : 29 - 32 ] .
وقد جاء في الحديث - الذي رواه الترمذي وغيره - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) [ الآيتان : 31 ، 32 ] .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ) أي : أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك ، وأنذرونا لقاءك ، وأن هذا اليوم كائن لا محالة .
قال تعالى : ( وغرتهم الحياة الدنيا ) أي : وقد فرطوا في حياتهم الدنيا ، وهلكوا بتكذيبهم الرسل ، ومخالفتهم للمعجزات ، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها ، ( وشهدوا على أنفسهم ) أي : يوم القيامة ( أنهم كانوا كافرين ) أي : في الدنيا ، بما جاءتهم به الرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
القول في تأويل قوله : يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن, يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذ: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي)، يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي، وتعريفي لكم أدلّتي على توحيدي, وتصديق أنبيائي, والعمل بأمري، والانتهاء إلى حدودي =(وينذرونكم لقاء يومكم هذا)، يقول: يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا، وعقابي على معصيتكم إيّاي, فتنتهوا عن معاصيَّ . (41)
وهذا من الله جل ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي. ومعناه: قد أتاكم رسلٌ منكم ينبِّهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيدَ الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين, فلم تقبلوا ذلك، ولم تتذكروا ولم تعتبروا .
* * *
واختلف أهل التأويل في" الجن ", هل أرسل منهم إليهم، أم لا؟
فقال بعضهم: قد أرسل إليهم رسل، كما أرسل إلى الإنس منهم رسلٌ .
* ذكر من قال ذلك:
13896- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سئل الضحاك عن الجن، هل كان فيهم نبيّ قبل أن يُبْعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي)، يعني بذلك: رسلا من الإنس ورسلا من الجن؟ فقالوا: بلَى!
* * *
وقال آخرون: لم يرسل منهم إليهم رسولٌ, ولم يكن له من الجنّ قطٌّ رسول مرسل, وإنما الرسل من الإنس خاصَّة ، فأما من الجن فالنُّذُر . قالوا: وإنما قال الله: (ألم يأتكم رسل منكم)، والرسل من أحد الفريقين, كما قال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، [سورة الرحمن: 19]، ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ، [سورة الرحمن: 22]، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح دون العذب منهما، وإنما معنى ذلك: يخرج من بعضهما، أو من أحدهما . (42) قال: وذلك كقول القائل لجماعة أدؤُرٍ: " إن في هذه الدُّور لشرًّا ", وإن كان الشر في واحدة منهن, فيخرج الخبر عن جميعهن، والمراد به الخبر عن بعضهن, وكما يقال: " أكلت خبزًا ولبنًا "، إذا اختلطا، ولو قيل: " أكلت لبنًا ", كان الكلام خطأً, لأن اللبن يشرب ولا يؤكل .
* ذكر من قال ذلك:
13897- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم)، قال: جمعهم كما جمع قوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ، [سورة فاطر: 12]، ولا يخرج من الأنهار حلية = قال ابن جريج ، قال ابن عباس: هم الجن لقُوا قومهم, وهم رسل إلى قومهم .
* * *
فعلى قول ابن عباس هذا, أنّ من الجنّ رسلا للإنس إلى قومهم = فتأويل الآية على هذا التأويل الذي تأوَّله ابن عباس: ألم يأتكم، أيها الجن والإنس، رسل منكم، فأما رسل الإنس فرسل من الله إليهم، وأما رسل الجن فرسُل رُسُل الله من بني آدم, وهم الذين إذا سَمِعوا القرآنَ وَلّوا إلى قومهم منذرين . (43)
* * *
وأما الذين قالوا بقول الضحاك, فإنهم قالوا: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ من الجن رسلا أرسلوا إليهم, كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم . قالوا: ولو جاز أن يكون خبرُه عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس, جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رُسُل الجنّ . (44) قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدلُّ على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رُسُل الله, لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره .
* * *
القول في تأويل قوله : قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قول مشركي الجن والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ، أنهم يقولونه ................ (45) =(شهدنا على أنفسنا)، بأن رسلك قد أتتنا بآياتك, وأنذرتنا لقاء يومنا هذا, فكذبناها وجحدنا رسالتها, ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها .
قال الله خبرًا مبتدأ: وغَرَّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام، وأولياءَهم من الجن (46) =(الحياة الدنيا)، يعني: زينة الحياة الدنيا، وطلبُ الرياسة فيها والمنافسة عليها, أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله, فاستكبروا وكانوا قومًا عالين . فاكتفى بذكر " الحياة الدنيا " من ذكر المعاني التي غرَّتهم وخدَعتهم فيها, إذ كان في ذكرها مكتفًى عن ذكر غيرها، لدلالة الكلام على ما تُرك ذكره = يقول الله تعالى ذكره: (وشهدوا على أنفسهم)، يعني: هؤلاء العادلين به يوم القيامة = أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله, لتتم حجَّة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليمَ عذابه .
* * *
-------------------
الهوامش :
(41) انظر تفسير (( الإنذار )) فيما سلف من فهارس اللغة ( نذر ) .
(42) هذه مقالة الفراء ، انظر معاني القرآن 1 : 354 ، وظاهر أن الذي بعده من كلام الفراء أيضا من موضع آخر غير هذا الموضع .
(43) اقرأ آيات سورة الأحقاف : 29 - 32 .
(44) يعني بهذا أن المنذرين الذين ذهبوا إلى قومهم ، لو جاز أن يسموا (( رسلا )) أرسلهم الإنس إلى الجن ، جاز أن يسمى (( رسل الإنس )) = وهم رسل الله إلى الإنس والجن = (( رسل الجن )) ، أرسلهم الجن إلى الإنس . وهذا ظاهر البطلان .
(45) في المطبوعة : (( أنهم يقولون : شهدنا على أنفسنا )) ، وصل الكلام ، وفي المخطوطة بياض ، جعلت مكانه هذه النقط ، وأمام البياض في المخطوطة حرف ( ط ) دلالة على أنه خطأ ، وأنه كان هكذا في النسخة التي نقل عنها .
(46) انظر تفسير (( الغرور )) فيما سلف ص : 56 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 130 | ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ |
---|
الرحمن: 33 | ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
يأتكم:
وقرئ:
تأتكم، بالتاء، على تأنيث لفظ «الرسل» ، وهى قراءة الأعرج.