ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
ثُمَّ اتُّهِمَ آخرونَ بقتلِه، فذهبَ النَّاسُ إلى موسى عليه السلام للفصلِ في المسألةِ، فأوحى اللهُ إليه أن يذبحوا بقرةً، فاستغربُوا ذلك وتشدَّدُوا في السؤالِ عن أوصافِ البقرةِ، فلمَّا ذبحُوها وضربُوا الميتَ بشيءٍ من أعضائِها قامَ القتيلُ وأخبرَ بقاتلِه ثُم
بعدَ ذكرِ قبائحِ أسلافِهم في الماضي تذكرُ الآياتُ مواقفَ اليهودِ المعاصرينَ للنبي ﷺ، وتحريفَهم لكلامِ اللهِ، ونفاقَهم.
التفسير :
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} فلم نهتد إلى ما تريد{ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}
وإلى هنا يكونون قد عرفوا وصف البقرة من حيث سنها ووصفها من حيث لونها ، فهل أغنتهم هذه الأوصاف؟ كلا! ما أغنتهم . فقد أخذوا يسألون للمرة الثالثة عما هم في غنى عنه فقالوا كما حكى القرآن عنهم : ( قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ) .
ومعنى الآيتين الكريمتين : قال بنو إسرائيل لموسى بعد أن عرفوا سن البقرة ولونها : سل من أجلنا ربك أن يزيدنا إيضاحاً لحال البقرة التي أمرنا بذبحها . حيث إن البقر الموصوف بالوصفين السابقين كثير ، فاشتبه علينا أيها نذبح ، وإنا إن شاء الله بعد هذا البيان منك لمهتدون إليها ، ومنفذون لما تكلفنا به ، فأجابهم موسى بقوله : ( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ) أي قال إنه- سبحانه - يقول : أنها بقرة سائمة ليست مذللة بالعمل في الحراثة ولا في السقي ، وهي بعد ذلك سليمة من كل عيب ، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو الصفرة الفاقعة ، فلما وجدوا أن جميع مشخصاتها ومميزاتها قد اكتملت ( الآن جِئْتَ بالحق فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ) لكثرة أسئلتهم وترددهم .
فقوله - تعالى - : ( قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) حكاية لسؤالهم الثالث الذي وجهوه إلى نبيهم - عليه السلام - ليزدادوا معرفة بحال البقرة وصفتها من حيث نفاستها ، بعد أن عرفوا سنها ولونها .
فكأنهم يقولون له : إن في أجوبتك السابقة عنها تقصيراً يشق معه تمييزها ، فسل من أجلنا ربك ليزيدنا بياناً لحالها ، وكأنما أحسوا بأنهم قد أثقلوا عليه وتجاوزوا الحدود المعقولة في الطلب ، فعللوا ذلك بقولهم .
( إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) أي : لا تتضايق من كثرة أسئلتنا ، فإن لنا عذرنا في هذا التكرار .
لأن البقر الموصوف بالعوان وبالصفرة الفاقعة كثير ، فاشتبه علينا أمر تلك البقرة التي تريدنا أن نذبحها .
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا في الثالثة ، لأن للثلاثة في التكرير وقعاً من النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ، ولذا كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة " .
وقولهم : ( إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ ) حض لنبيهم موسى - عليه السلام - على الدعاء ، ووعد له بالطاعة والامتثال ، ودفع للسآمة عن نفسه من كثرة أسئلتهم ، وتبرير لمسلكهم في كثرة المراجعة حتى بتفادوا غضبه ، فكأنهم يقولون له :
اجتهد في الدعاء من أجل أن يزيدنا ربك إيضاحاً ، وكشفاً لحال تلك البقرة التي تريد منا أن نذبحها ، وإنا - إن شاء الله - بسبب هذا الإِيضاح سنهتدي إليها ، ثم إلى القاتل الحقيقي ، وبذلك ندرك الحكمة ، التي من أجلها أمرتنا بذبحها .
قال ابن جرير : وأما قوله تعالى : ( إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ ) فإنهم عنوا وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها . ومعنى اهتدائهم في هذا الموضع تبينهم ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر " .
قوله : ( إن البقر تشابه علينا ) أي : لكثرتها ، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا ( وإنا إن شاء الله ) إذا بينتها لنا ) لمهتدون ) إليها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي ، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد ، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي ، ابن أخي منصور بن زاذان ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أن بني إسرائيل قالوا : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) لما أعطوا ، ولكن استثنوا .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر ، عن سرور بن المغيرة ، عن زاذان ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، عن حديث أبي رافع ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أن بني إسرائيل قالوا : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ما أعطوا أبدا ، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم ، ولكنهم شددوا ، فشدد الله عليهم .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة ، كما تقدم مثله عن السدي ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (قالوا) قال قوم موسى - الذين أمروا بذبح البقرة - لموسى. فترك ذكر موسى، وذكر عائد ذكره، اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام. وذلك أن معنى الكلام: قالوا له: " ادع ربك ". فلم يذكر " له " لما وصفنا.
وقوله: (يبين لنا ما هي)، خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة. وذلك أنهم لو كانوا، إذ أمروا بذبح البقرة، ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة، كانت عنهم مجزئة, ولم يكن عليهم غيرها, لأنهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة. فلما سألوا بيانها بأي صفة هي, بين لهم أنها بسن من الأسنان دون سن سائر الأسنان, (1) فقيل لهم: هي عوان بين الفارض والبكر والضرع. (2) فكانوا - إذْ بينت لهم سنها- لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم، كانت عنهم مجزئة, لأنهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حدت لهم, ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون. فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها، مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الأرض، فشددوا على أنفسهم - شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه. ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته:-
1234 -" ذروني ما تركتكم، فإنما أُهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوه, وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم ". (3)
قال أبو جعفر: ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا, زادهم الله عقوبة وتشديدا, كما:-
1235 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
1236 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عَبيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. (4)
1237 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب-
1238 - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان جميعا, عن ابن سيرين, عن عبيدة السلماني قال: سألوا وشددوا فشدد الله عليهم.
1239 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال, أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: لو أخذ بنو إسرائيل بقرة &; 2-205 &; لأجزأت عنهم. ولولا قولهم: (وإنا إن شاء الله لمهتدون)، لما وجدوها.
1240 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، لو أخذوا بقرة ما كانت، لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ ، قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم.(قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) , قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ الآية.
1241 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه, وزاد فيه: ولكنهم شددوا فشدد عليهم.
1242 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: " لو أخذوا بقرة مَّا كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج، قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شُدد الله عليهم؛ وَايْمُ الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ". (5)
1243 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا &; 2-206 &; بقرة فذبحوها لكانت إياها, ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم, ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: (وإنا إن شاء الله لمهتدون)، لما هدوا إليها أبدا.
1244 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم. والذي نفس محمد بيده، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ".
1245 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم.
1246 - حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش، قال ابن عباس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة -يعني بني إسرائيل- لأجزأت عنهم, ولكن شددوا فشدد عليهم, فاشتروها بملء جلدها دنانير. (6)
1247 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك, ولكن البلاء في هذه المسائل, فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ، فشدد عليهم, فقال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ , فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قال: وشدد عليهم أشد من الأول، فقرأ حتى بلغ: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا فأبوا أيضا فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون) فشدد عليهم، فقال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا ، &; 2-207 &; قال: فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها, وهي صفراء, ليس فيها سواد ولا بياض. (7)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه - من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم، من قولهم إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم - من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله، فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، على العموم الظاهر، دون الخصوص الباطن, (8) إلا أن يخص, بعض ما عمه ظاهر التنـزيل، كتاب من الله أو رسولُ الله, وأن التنـزيل أو الرسول، إن خص بعض ما عمه ظاهر التنـزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر, فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة, وسائر حكم الآية على العموم؛ على نحو ما قد بيناه في كتابنا(كتاب الرسالة) من (لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام) - في قولنا في العموم والخصوص, وموافقة قولهم في ذلك قولنا, ومذهبهم مذهبنا, وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام, وشهادتهم على فساد قول من قال: حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم، ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية. فإن خص منها بعض, فحكم الآية حينئذ على الخصوص .
وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا - ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها - رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين, وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر - إذ أمروا بذبحها بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، فذبحوها - كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك &; 2-208 &; مؤدين، وللحق مطيعين, إذْ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع, وسن دون سن.
ورأوا مع ذلك أنهم - إذْ سألوا موسى عن سنها فأخبرهم عنها، وحصرهم منها على سن دون سن, ونوع دون نوع, وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها - كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية، بعد الذي خص لهم من أنوع البقر، من الخطأ على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسألتهم إياه المسألة الأولى.
وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الأولى والثانية, وأن اللازم كان لهم في الحالة الأولى، استعمال ظاهر الأمر، وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة.
وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية، استعمال ظاهر الأمر وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر، ولم يروا أن حكمهم - إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية - انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الأولى، من استعمال ظاهر الأمر إلى الخصوص. ففي إجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك - مع الرواية التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافقة لقولهم - دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص, وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه - فيما أمر ونهى - على العموم، ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له. وأنه إذا خص منه شيء، فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر, وسائر حكم الآية على ظاهرها العام - ومؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك, (9) وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه.
وقد زعم بعض من عظمت جهالته، واشتدت حيرته, أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر، لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك, كما خصت عصا موسى في معناها, فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها.
ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا, لسهل عليه ما استصعب من القول. وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم, ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم. فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا، ويتعبدهم بعبادة, ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به، حتى يسألوا بيان ذلك لهم! فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه, ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه, فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض، فنعوذ بالله من الحيرة, ونسأله التوفيق والهداية.
* * *
وأما قوله: (إن البقر تشابه علينا)، فإن " البقر " جماع بقرة.
وقد قرأ بعضهم: (إن الباقر)، وذلك - وإن كان في الكلام جائزا، لمجيئه في كلام العرب وأشعارها, كما قال ميمون بن قيس: (10)
ومـا ذنبـه أن عـافت المـاء بـاقر
ومـا إن تعـاف المـاء إلا ليضربـا (11)
وكما قال أمية: (12)
ويســوقون بــاقر الســهل للـط
ود مهــازيل خشــية أن تبــورا (13)
- فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجيء الحجة، بنقل من لا يجوز - عليه فيما نقلوه مجمعين عليه - الخطأ والسهو والكذب .
* * *
وأما تأويل: (تشابه علينا)، فإنه يعني به، التبس علينا. والقَرَأَة مختلفة في تلاوته. (14) فبعضهم كانوا يتلونه: " تشابه علينا ", بتخفيف الشين ونصب الهاء على مثال " تفاعل ", ويُذَكِّر الفعل، وإن كان " البقر " جماعا. لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء، وجمعه بطرح الهاء - وتأنيثه، (15) كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [ القمر: 20]، فذكر " المنقعر " وهو من صفة النخل، لتذكير لفظ " النخل " - وقال في موضع آخر: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [ الحاقة: 7]، فأنث " الخاوية " وهي من صفة " النخل " - بمعنى النخل. (16) لأنها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر -على ما وصفنا قبل- فهي جماع " نخلة ".
* * *
وكان بعضهم يتلوه: (إن البقر تشَّابهُ علينا)، بتشديد الشين وضم الهاء, فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث " البقر ", كما قال: أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ، ويدخل في أول " تشابه " تاء تدل على تأنيثها, ثم تدغم التاء الثانية في" شين "" تشابه " لتقارب مخرجها ومخرج " الشين " فتصير " شينا " مشددة، وترفع " الهاء " بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب.
* * *
وكان بعضهم يتلوه: (إن البقر يشَّابهُ علينا)، فيخرج " يشابه " مخرج الخبر عن الذكر، لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك: (تشابه) بالتخفيف ونصب " الهاء ", غير أنه كان يرفعه ب " الياء " التي يحدثها في أول " تشابه " التي تأتي بمعنى الاستقبال, وتدغم " التاء " في" الشين " كما فعله القارئ في" تشابه " ب " التاء " والتشديد.
* * *
قال ابو جعفر: والصواب في ذلك من القراءة عندنا: (إن البقر تَشَابَهَ علينا)، بتخفيف " شين "" تشابه " ونصب " هائه ", بمعنى " تفاعل "، لإجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك، ودفعهم ما سواه من القراءات. (17) ولا يعترض على الحجة بقول من يَجُوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ.
* * *
وأما قوله: (وإنا إن شاء الله لمهتدون)، فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى " اهتدائهم " في هذا الموضع معنى: " تبينهم " أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر. (18)
-----------------
الهوامش :
(1) في المطبوعة : "فبين لهم أنها بسن . . " ، والفاء لا مكان لها هنا .
(2) الضرع : الضعيف الضاوي الجسم .
(3) الحديث : 1234 - رواه هنا دون إسناد . وهو من حديث أبي هريرة . ووقع في آخره خطأ ، قلب معناه . واللفظ الصحيح ، بالمعنى الصحيح؛"فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" . هذا لفظ البخاري . وقد أفاض الحافظ في شرحه ، في الفتح 13 : 219 - 226 . ورواه أيضًا أحمد : 7361 ، بنحو معناه . وأشرنا هناك إلى كثير من طرقه في المسند وغيره وكذلك رواه مسلم 2 : 221 ، بنحوه ، من طرق . وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه ، من طرق : 17 ، 18 ، 19 ، 20 (بتحقيقنا) وفي رواية ابن حبان : 17 ، "قال ابن عجلان : فحدثت به أبان بن صالح ، فقال لي : ما أجود هذه الكلمة ، قوله : فأتوا منه ما استطعتم" . وهو الحديث التاسع من الأربعين النووية ، وقد شرحه ابن رجب ، في جامع العلوم والحكم ، شرحا مسهبا . ولعل الخطأ الذي وقع هنا خطأ من الناسخين . فما أظن الطبري يخفي عليه ما في هذا اللفظ من تهافت .
(4) الخبر : 1236 - جاء شيخ الطبري هنا باسم"عمرو بن عبد الأعلى"! وما وجدت راويا يسمى بهذا . وإنما هو"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني" ، من شيوخ مسلم وأبي داود وغيرهما ، كما مضى مثل هذا الإسناد على الصواب : 1172 . ومحمد بن عبد الأعلى : بصري ثقة ، مات سنة 245 ، مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1 / 1 / 174 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 /16 .
(5) الخبر : 1242 - جاء في آخره حديث مرفوع ، ذكره ابن جريج . وهو مرسل لا تقوم به حجة . وسيأتي أيضًا : 1244 ، عن قتادة مرسلا . وذكر معناه ابن كثير 1 : 203 ، من تفسيرى ابن أبي حاتم وابن مردويه ، بإسناديهما ، من رواية الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، مرفوعا ، بنحوه . قال ابن كثير : "وهذا حديث غريب من هذا الوجه . وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي ".
(6) الخبر : 1246 - هذا الإسناد منقطع بين أبي بكر بن عياش وابن عباس ، كما هو ظاهر لأن ابا بكر يروى عن التابعين ، ومولده بعد موت ابن عباس بدهر . وهذا الخبر ذكره السيوطي 1 : 77 ، ونسبه لابن جرير ، وابن أبي حاتم"من طرق" .
(7) الأثر : 1247 - سيأتي تمامه في رقم : 1273 .
(8) انظر ما مضى في تفسير" الظاهر ، والباطن" : 2 : 15 والمراجع .
(9) في المطبوعة : " ويؤيد حقيقة ما قلنا . . . " ، وهو خطأ ، وقوله"مؤيد حقيقة ما قلنا" معطوف على قوله آنفًا : " ففي إجماع جميعهم . . دليل واضح . . ومؤيد حقيقة ما قلنا . . وشاهد عدل . . " .
(10) يعني الأعشى الكبير .
(11) ديوانه : 90 ، والحيوان 1 : 19 (وانظر أيضًا 1 : 301 ، 6 : 174) ، واللسان (ثور) وغيرها . من قصيدة يقولها لبني قيس بن سعد ، وما كان بينه وبينهم من قطيعة بعد مواصلة ومودة ، وقبل البيت :
وإنــي ومـا كلفتمـوني - وربكـم
ليعلــم مـن أمسـى أعـق وأحربـا
لكـالثور, والجِـنِّيّ يضـرب ظهـره
ومـا ذنبـه إن عـافت المـاء مشربا
قال الجاحظ : "كانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب ، إما لكدر الماء أو لقلة العطش ، ضربوا الثور ليقتحم ، لأن البقر تتبعه كما تتبع الشول الفحل ، وكما تتبع أتن الوحش الحمار . . وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء ، حتى تمسك البقر عن الشرب ، حتى تهلك . . كأنه قال : إذا كان يضرب أبدا لأنها عافت الماء ، فكأنها إنما عافت الماء ليضرب" .
(12) يعني : أمية بن أبي الصلت .
(13) ديوانه : 35 ، والحيوان 4 : 467 ، والأزمنة والأمكنة 2 : 124 ، وغيرها . وفي الأصل المطبوع : "باقر الطود للسهل" ، وفي الديوان والحيوان"باقرا يطرد السهل" ، وصواب الرواية ما أثبته من الأزمنة . قال الجاحظ في ذكر نيران العرب : ""ونار أخرى : وهي النار التي كانوا يستمطرون بها في الجاهلية الأولى . فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات ، وركد عليهم البلاء ، واشتد الجدب ، واحتاجوا إلى الاستمطار ، اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر ، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر ، ثم صعدوا بها في جبل وعر ، وأشعلوا فيها النيران ، وضجوا بالدعاء والتضرع ، فكانوا يرون أن ذلك من أسباب السقيا" ، وقال ابن الكلبي : " كانوا يضرمون تفاؤلا للبرق" والمهازيل جمع مهزول ، مثل هزيل وجمعه هزلي : وهي التي ضعفت ضعفا شديدا وذهب سمنها . وتبور : تهلك .
(14) في المطبوعة : "والقراء" ، ورددتها إلى ما جرى عليه لفظ الطبري ، كما سلف مرارا .
(15) وحدان جمع واحد : ويعني أفراده . وقوله"وتأنيثه" معطوف على قوله"تذكير كل فعل" .
(16) السياق : "فأنث (الخاوية) . . بمعنى النخل" ، يعني أنثها من أجل معناه وهو جمع مؤنث ، ولم يذكره من أجل لفظه، وهو مذكر .
(17) في المطبوعة : "ورفعهم" ، والصواب ما أثبته .
(18) يعني أن ذلك من قولهم : هداه ، أي بين له ، ومنه قوله تعالى : "وأما ثمود فهد يناهم" ، أي بينا لهم طريق الهدى .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
تشابه:
قرئ:
1- تشابه، فعلا ماضيا، مسند الضمير «البقر» ، على أن «البقر» مذكر، وهى قراءة الجمهور.
2- تشابه، بضم الهاء، على أنه فعل مضارع محذوف التاء، وفيه ضمير يعود على «البقر» ، على أن «البقر» مؤنث، وهى قراءة الحسن.
3- تشابه، بضم الهاء وتشديد الشين، على أنه مضارع، وفيه ضمير يعود على «البقر» ، وهى قراءة الحسن أيضا.
4- تشبه، وهى قراءة محمد المعيطى ذى الشامة.
5- تشبه، فعلا ماضيا على «تفعل» ، وهى قراءة مجاهد.
6- يشابه، بالياء وتشديد الشين، على أنه مضارع من «لفاعل» . ثم أدغمت الياء فى الشين، وهى قراءة ابن مسعود.
7- متشبه، اسم فاعل من تشبه.
8- يتشابه، على أنه مضارع تشابه، وفيه ضمير يعود على «البقر» .
9- تشابهت، وهى قراءة أبى.
10- متشابه، وهى قراءة الأعمش.
11- متشابهة، وهى قراءة الأعمش أيضا.
12- تشابهت، بتشديد الشين، على أنه فعل ماض، وبتاء التأنيث فى آخره.
التفسير :
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} أي:مذللة بالعمل،{ تُثِيرُ الْأَرْضَ} بالحراثة{ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي:ليست بساقية،{ مُسَلَّمَةٌ} من العيوب أو من العمل{ لَا شِيَةَ فِيهَا} أي:لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم.{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي:بالبيان الواضح، وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة، فلو أنهم اعترضوا أي:بقرة لحصل المقصود, ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم, ولو لم يقولوا "إن شاء الله "لم يهتدوا أيضا إليها،{ فَذَبَحُوهَا} أي:البقرة التي وصفت بتلك الصفات،{ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} بسبب التعنت الذي جرى منهم.
وفي قوله تعالى : ( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ) إضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة ، كانوا في غنى عنها لو أطاعوا نبيهم من أول الأمر ، ولكنهم للجاجتهم ، وسوء اختيارهم ، وبعد أفهامهم عن مقاصد الشريعة ، ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار ، فأصبحوا مكلفين بالبحث عن بقرة موصوفة بأنها متوسطة السن ، لونها أصفر فاقع ، تبهج الناظرين إليها ، وهي ، بعد ذلك ، سائمة نفيسة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقيى الزرع ، سليمة من العيوب ، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو في الصفرة الفاقعة .
وقوله تعالى : ( لاَّ ذَلُولٌ ) صفة لبقرة ، يقال : بقرة ذلول ، أي : ريضة زالت صعوبتها ، وإثارة الأرض : تحريكها وقلبها بالحرث والزراعة والحرث : شقها لإِلقاء البذور فيها .
والمراد : نفي التذليل ونفي إثارة الأرض وسقي الزرع عن البقرة المطلوبة .
أي : هي بقرة صعبة لم يذللها العمل في حراثة الأرض ، ولا في سقي الزرع ، فهي معفاة من العمل في هذه الأشياء .
( لاَّ ) في قوله تعالى : ( لاَّ ذَلُولٌ ) للنفي ، وفي قوله تعالى : ( وَلاَ تَسْقِي الحرث ) مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي ، وأعيد في قوله تعالى ( وَلاَ تَسْقِي الحرث ) مراعاة للاستعمال الفصيح .
وقوله - تعالى - : ( مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ) صفتان للبقرة ، ومسلمة مفعلة من السلامة .
والشية : اللون المخالف لبقية لون الشيء ، وأصله من وشى الشيء ، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته .
والمعنى : إن هذه البقرة سليمة من العيوب المختلفة ، وليس فيها لون يخالف لون جلدها من بياض أو سواد أو غيرهما ، بل هي صفراء كلها .
وأرادوا بالحق في قوله تعالى : ( قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق ) الوصف الواضح الذي لا اشتباه فيه ولا احتمال ، فكأنهم يقولون له : الآن - فقط - جئتنا بحقيقة وصف البقرة ، فقد ميزتها عن جميع ما عداها ، من جهة اللون وكونها من السوائم لا العوامل ، وبذلك لم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا .
والفاء في قوله تعالى : ( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ) قد عطفت ما بعدها على محذوف يدل عليه المقام ، والتقدير فظفروا بها فذبحوها ، أي : فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله - تعالى - لهم ، بعد ما قاربوا أن يتركوا ذبحها ، ويدعوا ما أمروا به ، لتشككهم في صحة ما يوجه إليهم من إرشادات ولكثرة مماطلتهم .
قال صاحب الكشاف : وقوله تعالى : ( وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ) استثقال لاستقصائهم ، وأنهم لتطويلهم المفرط . وثكرة استكشافهم ، ما كادوا يذبحونهها وما كادت تنتهي سؤالاتهم ، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم ، وقيل : ما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها ، وقيل لخوف الفضيحة في ظهور القاتل " .
قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) أي : إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية ، بل هي مكرمة حسنة صبيحة ( مسلمة ) صحيحة لا عيب فيها ( لا شية فيها ) أي : ليس فيها لون غير لونها .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ( مسلمة ) يقول : لا عيب فيها ، وكذا قال أبو العالية والربيع ، وقال مجاهد ( مسلمة ) من الشية .
وقال عطاء الخراساني : ( مسلمة ) القوائم والخلق ( لا شية فيها ) قال مجاهد : لا بياض ولا سواد . وقال أبو العالية والربيع ، والحسن وقتادة : ليس فيها بياض . وقال عطاء الخراساني : ( لا شية فيها ) قال : لونها واحد بهيم . وروي عن عطية العوفي ، ووهب بن منبه ، وإسماعيل بن أبي خالد ، نحو ذلك . وقال السدي : ( لا شية فيها ) من بياض ولا سواد ولا حمرة ، وكل هذه الأقوال متقاربة [ في المعنى ، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى : ( إنها بقرة لا ذلول ) ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال : ( تثير الأرض ) أي : يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث ، وهذا ضعيف ؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره ]
( قالوا الآن جئت بالحق ) قال قتادة : الآن بينت لنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وقبل ذلك والله قد جاءهم الحق .
( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) قال الضحاك ، عن ابن عباس : كادوا ألا يفعلوا ، ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها .
يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة ، والأجوبة ، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد ، وفي هذا ذم لهم ، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت ، فلهذا ما كادوا يذبحونها .
وقال محمد بن كعب ، ومحمد بن قيس : ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) لكثرة ثمنها .
وفي هذا نظر ; لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل ، كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي ، ورواه العوفي عن ابن عباس . وقال عبيدة ، ومجاهد ، ووهب بن منبه ، وأبو العالية ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنهم اشتروها بمال كثير وفيه اختلاف ، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك . وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة ، أخبرني محمد بن سوقة ، عن عكرمة ، قال : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير وهذا إسناد جيد عن عكرمة ، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضا .
وقال ابن جرير : وقال آخرون : لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة ، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه .
ولم يسنده عن أحد ، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها ، وللفضيحة . وفي هذا نظر ، بل الصواب والله أعلم ما تقدم من رواية الضحاك ، عن ابن عباس ، على ما وجهناه . وبالله التوفيق .
مسألة : استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفا وخلفا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها " . وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث ، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون : لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله ، وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: قال موسى: إن الله يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول.
ويعني بقوله: (لا ذلول)، أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها, ولا سُنِيَ عليها الماء فيُسقى عليها الزرع. (19) كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل: " دابة ذلول بينة الذِّل " بكسر الذال. (20) ويقال في مثله من بني آدم: " رجل ذليل بين الذِّل والذلة ".
1248 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (إنها بقرة لا ذلول)، يقول: صعبة لم يذلها عمل,(تثير الأرض ولا تسقي الحرث).
1249 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض)، يقول: بقرة ليست بذلول يزرع عليها, وليست تسقي الحرث.
1250 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: (إنها بقرة لا ذلول)، أي لم يذللها العمل.(تثير الأرض) يعني: ليست بذلول فتثير الأرض.(ولا تسقي الحرث) يقول: ولا تعمل في الحرث.
1251 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن &; 2-213 &; الربيع: (إنها بقرة لا ذلول) يقول: لم يذلها العمل,(تثير الأرض) يقول: تثير الأرض بأظلافها, (21) (ولا تسقي الحرث)، يقول: لا تعمل في الحرث.
1252 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال الأعرج، قال مجاهد، قوله: (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث)، يقول: ليست بذلول فتفعل ذلك.
1253 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر, عن قتادة: ليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث.
* * *
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (تثير الأرض)، تقلب الأرض للحرث. يقال منه: " أثرت الأرض أثيرها إثارة "، إذا قلبتها للزرع. وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة، لأنها كانت -فيما قيل- وَحشِيّة.
1254 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن قال: كانت وحشية. (22)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : مُسَلَّمَةٌ
قال أبو جعفر: ومعنى " مسلمة " " مفعلة " من " السلامة ". يقال منه: " سُلِّمت تسلم فهي مسلمة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه, فوصفها الله بالسلامة منه. فقال مجاهد بما:-
1255 - حدثنا به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " مسلمة "، يقول: مسلمة من الشية, و لا شِيَةَ فِيهَا ، &; 2-214 &; لا بياض فيها ولا سواد.
1256 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
1257 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال, قال مجاهد: (مسلمة)، قال: مسلمة من الشية، لا شِيَةَ فِيهَا لا بياض فيها ولا سواد.
* * *
وقال آخرون: مسلمة من العيوب.
* ذكر من قال ذلك:
1258 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (مسلمة لا شية فيها)، أي مسلمة من العيوب.
1259 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: (مسلمة)، يقول: لا عيب فيها.
1260 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: (مسلمة)، يعني مسلمة من العيوب.
1261 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله.
1262 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: (مسلمة)، لا عَوَارَ فيها. (23)
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك، أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد. لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها, لكان في قوله: (مسلمة) مُكْتَفًى عن قوله: لا شِيَةَ فِيهَا . وفي قوله: لا شِيَةَ فِيهَا ، ما يوضح عن أن معنى قوله: (مُسَلَّمة)، غير معنى قوله: لا شِيَةَ فِيهَا ، وإذ كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام: إنه &; 2-215 &; يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة، ولا السنو عليها للمزارع, (24) وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : لا شِيَةَ فِيهَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (لا شية فيها)، لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من " وشي الثوب ", وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه، بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته, (25) يقال منه: " وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا "، ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره: " واش ", لكذبه عليه عنده، وتحسينه كذبه بالأباطيل. يقال منه: " وشيت به إلى السلطان وشاية ". ومنه قول كعب بن زهير:
تســعى الوشــاة جَنَابَيْهـا وقـولهُمُ
إنـك يـا ابـن أبـي سُـلمى لمقتول (26)
و " الوشاة جمع واش "، يعني أنهم يتقولون بالأباطيل، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم قتله.
وقد زعم بعض أهل العربية أن " الوشي"، العلامة. وذلك لا معنى له، إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالأعلام. لأنه معلوم أن القائل: " وشيت بفلان إلى فلان " غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد: جعلت له عنده علامة. &; 2-216 &; وإنما قيل: (لا شية فيها) وهي من " وشيت "، لأن " الواو " لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها " الهاء " في آخرها. كما قيل: " وزنته زنة " و " وسن سِنة " (27) و " وعدته عِدة " و " وديته دِية " .
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: (لا شية فيها)، قال أهل التأويل:
1263 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (لا شية فيها)، أي لا بياض فيها.
1264 - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
1265 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: (لا شية فيها)، يقول: لا بياض فيها.
1266 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (لا شية فيها) أي لا بياض فيها ولا سواد.
1267 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
1268 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: (لا شية فيها)، قال: لونها واحد، ليس فيها سوى لونها.
1269 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (لا شية فيها)، من بياض ولا سواد ولا حمرة.
1270 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (لا شية فيها)، هي صفراء، ليس فيها بياض ولا سواد.
1271 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: (لا شية فيها)، يقول: لا بياض فيها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (قالوا الآن جئت بالحق). فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحق فتبيناه, وعرفنا أية بقرة عنيت. (28) وممن قال ذلك قتادة :
1272 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (قالوا الآن جئت بالحق)، أي الآن بينت لنا.
* * *
وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبي الله موسى صلوات الله عليه، إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك. وممن روي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد :
1273 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها, وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض, فقالوا: هذه بقرة فلان: (الآن جئت بالحق)، وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق. (29)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندنا بقوله: (قالوا الآن جئت بالحق)، قول قتادة. وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقر, فعرفنا أيها الواجب علينا ذبحها منها. (30) لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها، بعد &; 2-218 &; قيلهم هذا. مع غلظ مؤونة ذبحها عليهم، وثقل أمرها, فقال: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ، وإن كانوا قد قالوا - بقولهم: الآن بينت لنا الحق - هراء من القول, وأتوا خطأ وجهلا من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبينا لهم - في كل مسألة سألوها إياه, ورد رادوه في أمر البقر - (31) الحق. وإنما يقال: " الآن بينت لنا الحق " لمن لم يكن مبينا قبل ذلك, فأما من كان كل قيله -فيما أبان عن الله تعالى ذكره- حقا وبيانا, فغير جائز أن يقال له = في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه، وأدى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: (الآن جئت بالحق)، كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك!
* * *
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: (الآن جئت بالحق)، ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك, وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر.
وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال، لأنهم أذعنوا بالطاعة بذبحها, وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فذبحوها)، فذبح قوم موسى البقرة، التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها.
ويعني بقوله: (وما كادوا يفعلون)، أي: قاربوا أن يَدَعوا ذبحها, ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم، في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان &; 2-219 &; غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها، وبينت لهم صفتها.
* ذكر من قال ذلك:
1274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي في قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) قال: لغلاء ثمنها.
1275 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي قال، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)، قال: من كثرة قيمتها. (32)
1276 - حدثنا القاسم قال، أخبرنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - في حديث فيه طول, ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض - قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)، لكثرة الثمن, أخذوها بملء مسكها ذهبا من مال المقتول, (33) فكان سواء لم يكن فيه فضل فذبحوها.
1277 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)، يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها: وكل شيء في القرآن " كاد " أو " كادوا " أو " لو "، فإنه لا يكون. وهو مثل قوله: أَكَادُ أُخْفِيهَا [ طه: 15 ]
* * *
وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن أطلع الله على &; 2-220 &; قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل عندنا, أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة، للخلتين كلتيهما: إحداهما غلاء ثمنها، مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها؛ والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم، بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه - على قاتله.
* * *
فأما غلاء ثمنها، فإنه قد روي لنا فيه ضروب من الروايات.
1278 - فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا, فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها.
1279 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: اشتروها بملء جلدها دنانير.
1280 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له, فباعها بملء جلدها ذهبا.
1281 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد, عن مجاهد قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبا فباعها منهم.
1282 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: اشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير, ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملئوه دنانير, ثم دفعوها إليه.
1283 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي (34) &; 2-221 &; قال حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدا, فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملئوه له دنانير, فرضي به فأعطاهم إياها.
1284 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: لم يجدوها إلا عند عجوز, وإنها سألتهم أضعاف ثمنها, فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا, واشتروها فذبحوها.
1285 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب, عن ابن سيرين, عن عَبيدة قال: لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد, فباعها بوزنها ذهبا, أو ملء مسكها ذهبا - فذبحوها.
1286 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة السلماني قال: وجدوا البقرة عند رجل, فقال: إني لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا, فاشتروها بملء جلدها ذهبا.
1287 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملئوا له مسكها - وهو جلدها - ذهبا.
* * *
وأما صغر خطرها وقلة قيمتها, فإن الحسن بن يحيى:-
1288 - حدثنا قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، حدثني محمد بن سوقة, عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.
وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم, فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ، لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها.
1289 - حدثت بذلك عن إسماعيل بن عبد الكريم, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه.
وكان ابن عباس يقول: إن القوم، بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله, &; 2-222 &; أنكرت قتلته قتله, فقالوا: والله ما قتلناه؛ بعد أن رأوا الآية والحق.
1290 - حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثتي أبي عن أبيه, عن ابن عباس.
----------------
الهوامش :
(19) سنت الناقة تسنو ، وسنا الرجل يسنو سنوا وسناية : إذا سقى الأرض . والسانية : هي الناضحة ، وهي الناقة أو غيرها مما يسقى عليها الزرع ، والجمع : السواني .
(20) الذل : اللين ، ضد الصعوبة .
(21) في المطبوعة : "تبين الأرض" ، وهو تصحيف .
(22) الأثر : 1254 - سلف قريبا برقم : 1221 .
(23) العوار (بفتح العين ، وتضم) : العيب .
(24) انظر ما سلف في هذا الجزء : 211 تعليق : 1 .
(25) السدَى : الأسفل من الثوب ، واللُّحمة : الأعلى منه يداخل السدَى .
(26) ديوانه : 19 ، وسيرة ابن هشام 4 : 153 ، والروض الأنف 2 : 314 ، والفائق (قحل) ورواية الديوان "بجنبيها" ورواية ابن هشام : "تسعى الغواة" . وقوله : "جنابيها" . والجناب : الناحية ، ويريد ناحية الجنب . يقال : "جنبيه ، وجانبيه ، وجنابيه ، . والضمير في قوله : "جنابيها" لناقته التي ذكرها قبل . وقوله : "وقولهم : إنك . . " ، حال ، أي : وهم يقولون ، والمعنى يكثرون القول عليه : إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول ، كأنهم لا يقولون غير ذلك ، ترهيبا له وتخويفا .
(27) في المطبوعة : " ووسيته سية" ، وهو كلام لا أصل له ، وكأنه مصحف ما أثبت .
(28) في المطبوعة : "فتبيناه وعرفناه أنه بقرة عينت" ، تصحيف وتحريف ، وهو فاسد جدا . مضى في ص" 209 نقض الطبري لقول من زعم أنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها . فسألوه أن يصفها لهم ليعرفوها ، وسمى قائل ذلك : جاهلا ، وشفى في بيان جهله ، فلو كان الله تعالى"عينها" لهم ، لبين لهم ما عين ، إذا أمر بذبحها .
(29) الأثر : 1273 - بعض الأثر : 1247 ، وهنا زيادة عليه من تمامه .
(30) في المطبوعة : "الآن بينت لنا الحق في أمر البقرة ، فعرفنا أنها الواجب علينا ذبحها منها" ، و"البقرة"و"أنها" تصحيف وتحريف ، يفسد معنى ما قال الطبري ىنفا ص : 209 ، وما سيأتي بعد هذه الجملة . وانظر التعليق السالف رقم : 1 .
(31) السياق : "كان مبينا لهم . . الحق" ، ما بينهما فصل ، كعادته في الفصل .
(32) الخبر : 1275 - محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي ، شيخ الطبري : ثقة ، روى عنه أيضًا أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم . مترجم في التهذيب ، ولم أجد له ترجمة في غيره . عبد العزيز ابن الخطاب الكوفي أبو الحسن : ثقة ، روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وغيرهما ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 /381 . أبو معشر : هو نجيح - بفتح النون - بن عبد الرحمن السندي - بكسر السين - المدني ، وهو ضعيف . البخاري في الكبير 4 / 2 /114 ، وقال : "منكر الحديث" وابن أبي حاتم 4 /1 / 495 . محمد بن كعب القرظي : تابعي ثقة معروف .
(33) المسك (بفتح فسكون) : جلد البقرة وغيرها من الحيوان .
(34) في المطبوعة : محمد بن سعيد قال حدثني أبي قال حدثني يحيى" ، وهذا خطأ ، والصواب ما أثبته . وقد مضى الكلام على هذا الإسناد في 1 : 263 - 264 ، وهو كثير الدوران في تفسير الطبري" ، وسيأتي بعد في رقم : 1290على الصواب .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لا ذلول:
قرئ:
1- لا ذلول، بالرفع، وهى قراءة الجمهور.
2- لا ذلولا، بالفتح، وهى قراءة أبى عبد الرحمن السلمى.
تسقى:
قرئ:
1- تسقى، بفتح التاء، وهى قراءة الجمهور.
2- تسقى، بضم التاء، من أسقى، وهما بمعنى واحد.
الآن:
قرئ:
1- الآن، بإسكان اللام والهمزة، وهى قراءة الجمهور.
2- الآن، يحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وهى قراءة نافع.
التفسير :
أي:واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلا, وادارأتم فيه, أي:تدافعتم واختلفتم في قاتله, حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل:اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره, وعدم الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض, فقالوا:{ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} فقال نبي الله:{ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه, وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل, استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه, فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه, والرحمة لعباده. فلما قال لهم موسى ذلك, علموا أن ذلك صدق فقالوا:{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي:ما سنها؟{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ} أي:كبيرة{ وَلَا بِكْرٌ} أي:صغيرة{ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} واتركوا التشديد والتعنت.{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي:شديد{ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} من حسنها.{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} فلم نهتد إلى ما تريد{ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} أي:مذللة بالعمل،{ تُثِيرُ الْأَرْضَ} بالحراثة{ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي:ليست بساقية،{ مُسَلَّمَةٌ} من العيوب أو من العمل{ لَا شِيَةَ فِيهَا} أي:لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم.{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي:بالبيان الواضح، وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة، فلو أنهم اعترضوا أي:بقرة لحصل المقصود, ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم, ولو لم يقولوا "إن شاء الله "لم يهتدوا أيضا إليها،{ فَذَبَحُوهَا} أي:البقرة التي وصفت بتلك الصفات،{ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} بسبب التعنت الذي جرى منهم.
ثم كشف الله - تعالى - بعد ذلك عن الغاية التي من أجلها أمروا بذبح البقرة فقال تعالى : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
المعنى : واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفساً ، فاختلفتم وتنازعتم في قاتلها ، ودفع كل واحد منكم التهمة عن نفسه ، والله - عز وجل - مخرج لا محالة ما كتمتم من أمر القاتل ، فقد بين - سبحانه - الحق في ذلك فقال على لسان رسوله موسى - عليه السلام - اضربوا القتيل بأي جزء من أجزاء البقرة ، فضربتموه ببعضها فعادت إليه الحياة - بإذن الله - وأخبر عن قاتله ، وبمثل هذا الإِحياء لذلك القتيل بعد موته ، يحيي الله الموتى للحساب والجزاء يوم القيامة ، ويبين لكم الدلائل الدالة على أنه قدير على كل شيء رجاء أن تعقلوا الأمور على وجهها السليم .
وجمهور المفسرين على أن واقعة قتل النفس وتنازعهم فيها ، حصلت قبل الأمر بذبح البقرة ، إلا أن القرآن الكريم أخرها في الذكر ليعدد على بني إسرائيل جناياتهم وليشوق النفوس إلى معرفة الحكمة من وراء الأمر بذبحها ، فتتقبلها بشغف واهتمام .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت فما للقصة لم تفصل على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ، وأن يقال : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت : كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديداً لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعاً لهم عليها ، ولما حدد فيهم من الآيات العظام ، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين .
فالأولى : لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة وإلى الامتثال وما يتبع ذلك .
والثانية : للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة ، وإنما قدم قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ، لأنه لو عمل على عكسه لكانت القصة واحدة ، ولذهب الغرض من تثنية التقريع ، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها ، أن وصلت بالأولى ، دلالة على اتحادهما ، بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : ( اضربوه بِبَعْضِهَا ) حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ونيته ، بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها ، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة " .
وقد أسند القرآن الكريم القتل إلى جمعهم في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ ) مع أن القاتل بعضهم ، للإِشعار بأن الأمة في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد .
وأسند القتل - أيضاً - إلى اليهود المعاصرين للعهد النبوي ، لأنهم من سلالات أولئك الذين حدث فيهم القتل ، وكثيراً ما يستعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب للتنبيه على أن الخلف قد سار على طريقة السلف في الانحراف والضلال .
وقوله تعالى : ( فادارأتم فِيهَا ) بيان لما حصل منهم بعد قتل النفس التي ذكرنا قصتها ومعنى ادارأتم فيها : اختلفتم وتخاصمتم في شأنها لأن المنخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفعه ويزحمه ، أي تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فدفع المطروح عليه الطارح ، ليدفع الجناية عن نفسه ويتهم غيره .
وقوله تعالى : ( والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) معناه : والله - تعالى - مظهر ومعلن ما كنتم تسترونه من أمر القتيل الذي قتلتموه ، ثم تنازعتم في شأن قاتله ، وذلك ليتبين القاتل الحقيقي بدون أن يظلم غيره .
وهذه الجملة الكريمة ( والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) معترضة بين قوله تعالى ( فادارأتم ) وبين قوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا ) . وفائدته إشعار المخاطبين قبل أن يسمعوا ما أمروا بفعله ، بأن القاتل الحقيقي سنكشف أمره لا محالة .
قال صاحب تفسير التحرير والتنوير : " وإنما تعلقت إرادة الله بكشف حال من قتل هذا القتيل - مع أنه ، ليس أول قتيل طل دمه في الأمم - إكراماً لموسى - عليه السلام - أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم ، وبمرأى ومسمع منه ، لا سيما وقد قصد القاتلون استغفاله ودبروا المكيدة في إظهار المطالبة بدمه ، فلو لم يظهر الله - تعالى - هذا الدم ويبين سافكه - لضعف يقين القوم برسولهم موسى - عليه السلام - ولكان ذلك مما يزيد شكهم في صدقه فينقلبوا كافرين ، فكان إظهار القاتل الحقيقي إكراماً من الله تعالى - لموسى ، ورحمة بالقوم لئلا يضلوا " .
قال البخاري : ( فادارأتم ) اختلفتم . وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي حذيفة ، عن شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، أنه قال في قوله تعالى : ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ) اختلفتم .
وقال عطاء الخراساني ، والضحاك : اختصمتم فيها . وقال ابن جريج ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ) قال : قال بعضهم أنتم قتلتموه .
وقال آخرون : بل أنتم قتلتموه . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) قال مجاهد : ما تغيبون . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن مسلم البصري ، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي ، حدثنا صدقة بن رستم ، سمعت المسيب بن رافع يقول : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وتصديق ذلك في كلام الله : ( والله مخرج ما كنتم تكتمون)
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذ قتلتم نفسا)، واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا. و " النفس " التي قتلوها، هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
* * *
وقوله: (فادارأتم فيها)، يعني فاختلفتم وتنازعتم. وإنما هو " فتدارأتم فيها " على مثال " تفاعلتم "، من الدرء. و " الدرء ": العوج, ومنه قول أبي النجم العجلي:
خشــية ضَغّــام إذا هــم جَسَـر
يـأكل ذا الـدرء ويقصـي مـن حقر (35)
يعني: ذا العوج والعسر. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
أدركتهـــا قــدام كــل مِــدْرَهِ
بــالدفع عنــي درء كــل عُنْجُـهِ (36) &; 2-223 &;
ومنه الخبر الذي:-
1291 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام, عن إسرائيل, عن إبراهيم بن المهاجر, عن مجاهد, عن السائب قال: جاءني عثمان وزهير ابنا أمية, فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أعلم به منكما, ألم تكن شريكي في الجاهلية؟ قلت: نعم، بأبي أنت وأمي, فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري" . (37)
&; 2-224 &;
يعني بقوله:لا تداري، لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارُّه.
* * *
وإنما أصل (فادارأتم)، فتدارأتم, ولكن التاء قريبة من مخرج الدال - وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين, ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين - فأدغمت التاء في الدال، فجعلت دالا مشددة كما قال الشاعر:
تـولي الضجـيع إذا ما استافها خَصِرا
عـذب المـذاق إذا مـا اتّـابعَ القُبَـل (38)
يريد إذا ما تتابع القبل, فأدغم إحدى التاءين في الأخرى. فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت, فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها, وذلك إذا كان قبله شيء، لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء, ومنه قول الله جل ثناؤه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا [ الأعراف: 38]، إنما هو " تداركوا ", ولكن التاء منها أدغمت في الدال، فصارت دالا مشددة, وجعلت فيها ألف -إذ وصلت بكلام قبلها ليسلم الإدغام. وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله, وابتدئ به, قيل: تداركوا وتثاقلوا, فأظهروا الإدغام. وقد قيل يقال: " اداركوا، وادارءوا ".
وقد قيل إن معنى قوله: (فادارأتم فيها)، فتدافعتم فيها. من قول القائل: " درأت هذا الأمر عني", ومن قول الله: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [ النور: 8]، بمعنى &; 2-225 &; يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب المعنى من القول الأول. لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل, فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله, كما قد بينا قبل قيما مضى من كتابنا هذا. (39) وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (فادارأتم فيها) قال أهل التأويل.
1292 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (فادارأتم فيها)، قال: اختلفتم فيها.
1293 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
1294 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال الآخرون: أنتم قتلتموه.
1295 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فادارأتم فيها)، قال: اختلفتم, وهو التنازع، تنازعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه. وقال هؤلاء: لا.
* * *
وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها كما:-
1296 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل، قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين, فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم، فانتفوا -أو انتفلوا- منه. شك أبو عاصم. (40)
1297 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن &; 2-226 &; ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله سواء - إلا أنه قال: فادعوا دمه عندهم فانتفوا -ولم يشك- منه. (41)
1298 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: قتيل كان في بني إسرائيل. فقذف كل سبط منهم [سبطا به]، (42) حتى تفاقم بينهم الشر، حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأوحى الله إلى موسى: أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها. فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله، من أجل ميراث كان بينهم.
1299- حدثني ابن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في شأن البقرة. وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم, وكان الشيخ لا ولد له, وكان بنو أخيه ورثته. فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله! وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم، أتاهم الشيطان, فقال: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله, وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ - وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما, فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين, قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين, فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية - وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم, عمدوا إليه فقتلوه, ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة، جاء بنو أخي الشيخ, فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم, فوالله لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وأنهم عمدوا إلى موسى, فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وأن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى, &; 2-227 &; فقال: قل لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها.
1300 - حدثنا القاسم قال، حدثنا حسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد - وحجاج عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض, قالوا: إن سبطا من بني إسرائيل، لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس, فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه, وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف، (43) فإذا لم ير شيئا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير, ولم يكن له وارث غير ابن أخيه, فطال عليه حياته, فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة، فنظر فلم ير شيئا. ففتح الباب, فلما رأى القتيل رد الباب: فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل، (44) كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم. أخذهم. فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح, ثم كف بعضهم عن بعض. فأتوا موسى فذكروا له شأنهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب. وقال أهل المدينة: يا رسول الله، قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة -كما رأيت- نعتزل شرور الناس، ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى ذكره إليه: أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
1301 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير, فقتله ابن أخ له، فجره فألقاه على باب ناس آخرين. &; 2-228 &; ثم أصبحوا، فادعاه عليهم، حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء, فأرادوا أن يقتتلوا, فقال، ذوو النهى منهم: أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فأمسكوا حتى أتوا موسى, فقصوا عليه القصة, فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها, فقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
1302 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتيل من بني إسرائيل، طرح في سبط من الأسباط, فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. فقالوا: لا والله. فأتوا إلى موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم, وهم والله قتلوه. فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
* * *
قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم - في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره، على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل - هو " الدرء " الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم: (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (والله مخرج ما كنتم تكتمون)، والله معلن ما كنتم تسرونه من قتل القتيل الذي قتلتم، ثم ادارأتم فيه.
* * *
ومعنى " الإخراج " -في هذا الموضع- الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه، وإطلاعهم عليه, كما قال الله تعالى ذكره: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ النمل: 25] يعني بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه.
* * *
والذي كانوا يكتمونه فأخرجه، هو قتل القاتل القتيل. لما كتم ذلك &; 2-229 &; القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك، (45) حتى أظهره الله وأخرجه, فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره.
* * *
وعَنَى جل ذكره بقوله: (تكتمون)، تسرون وتغيبون، كما:
1303 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (والله مخرج ما كنتم تكتمون)، قال: تغيبون.
1304 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (ما كنتم تكتمون)، ما كنتم تغيبون.
--------------
الهوامش :
(35) لم أجد البيت في مكان ، وكان في المطبوعة .
خشــية طغــام إذا هــم حســر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهو كلام مختل . والضغام من الضغم : وهو أن يملأ فمه مما أهوى إليه . وجسر جسورا وجسارة مضى ونفذ من شدة إقدامه .
(36) ديوانه : 166 من قصيدة يصف بها نفسه . والضمير في قوله : "أدركتها" إلى ما سبق في رجزه .
وَحقّــةٍ ليســت بقــول الــتره
وقوله : "حقة" ، يعني خصومة أو منافرة أو مفاخرة ، أو ما أشبه ذلك . والمدره : هو المدافع الذي يقدم عند الخصومة ، بلسان أو يد . والعنجه والعنجهي : ذو الكبر والعظمة حتى كاد يبلغ الجهل والحمق ومنه العنجهية .
(37) الحديث : 1291 - في هذا الإسناد ضعف ، وفي الحديث نفسه اضطراب ، كما سيأتي : أبو كريب : هو محمد بن العلاء بن كريب الحافظ ، ثقة كبير ، من شيوخ أصحاب الكتب الستة ، روى عنه الطبري كثيرا . مات سنة 248 . مصعب بن المقدام الخثعمي : ثقة ، وضعفه بعضهم ، وأخرج له مسلم في صحيحه ، مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 1 / 354 ، وابن أبي حاتم 4 /1 / 308. إسرائيل : هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، وهو ثقة حافظ معروف . إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي : ثقة ، تكلم فيه بغير حجة ، وأخرج له مسلم . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1 / 1 / 328 ، وصرح بأنه سمع مجاهدا ، وابن أبي حاتم 1 /1 / 132 - 133 . السائب : صحابي - كما هو ظاهر من هذا الحديث وغيره ، واختلف فيه كثيرا ، فقيل : "السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ . . " ، وقيل : "السائب بن عبد الله المخزومي" ، بل قيل أيضًا : "قيس بن السائب"! والذي جزم به البخاري في الكبير 2 / 2 / 152 واقتصر عليه : "السائب بن أبي السائب القرشي المكي ، له صحبة" . وكذلك صنع ابن أبي حاتم 2 /1 / 242 ، وقال : "منهم من يقول : له صحبة ، ومنهم من يقول : لأبيه صحبة . روى عنه مجاهد . يقال : "إنه مولى مجاهد من فوق" . وفي الإصابة 3 : 60 نقلا عن ابن أبي شيبة ، أنه روى من طريق يونس بن خباب عن مجاهد : "كنت أقود السائب ، فيقول لي : يا مجاهد . . " . ولو صح هذا لثبت اتصال الإسناد ، لكن يونس بن خباب ضعيف .
والحديث روى أحمد في المسند : 15566 (3 : 425 حلبي) نحو معناه ، بزيادة ونقص ، عن أسود بن عامر ، عن إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، "عن السائب بن عبد الله" ، ثم روى بعده مثله ، بمعناه ، مطولا ومختصرا ، من طرق ، وفي بعضها" عن مجاهد ، عن قائد السائب ، عن السائب" .
وروى أبو داود : 4836 ، نحوه ، من طريق الثوري ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن مجاهد ، عن قائد السائب ، عن السائب وقال المنذري في تهذيب السنن : 4669"وأخرجه النسائي وابن ماجه . . وهذا الحديث قد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا . وذكر ابو عمر يوسف بن عبد البر النمري : أن هذا الحديث مضطرب جدا . . وهذا الاضطراب لا تقوم به حجة" .
وقد وقع في متن الحديث هنا خطأ ، لا ندري : أهو من الرواية ، أم من الناسخين . وذلك قوله"جاءني عثمان وزهير ابنا أمية" . فلا يوجد في الصحابة من يسمي بهذا ولا بذاك . والصواب ما في رواية المسند : 15566"جاء بي عثمان بن عفان ، وزهير" . وزهير : هو ابن أبي أمية ، أخو أم سلمة ، أم المؤمنين ، وهي بنت أبي أمية . كما بين ذلك في الإصابة 3 : 13 - 14 ، إذ قال : "وروى ابن منده من طريق مجاهد ، عن السائب شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ذهب بي عثمان ، وزهير بن أبي أمية . . "
وانظر نسب قريش للمصعب ، ص : 333 . حيث جزم بأن"السائب بن أبي السائب صيفي" قتل يوم بدر كافرا؛ وانظر أيضًا الإشارة إلى أصل القصة في الإصابة 3 : 13 - 14 ، 60 ، و 4 : 74 ، و5 : 253 - 254 . والموضوع لا يزال محتاجا إلى تحقيق وبحث .
(38) لم أعرف قائله ، وسيأتي في 10 : 94 (بولاق) ، وفي المطبوعة هنا"اشتاقها" وهو خطأ والصحيح ما أثبته من هناك . وساف الشيء يسوفه سوفا واستافه : دنا منه وشمه . واستعاره للقبلة ، كما استعاروا الشم للقبلة ، لأن دنو الأنف يسبق ما أراد المريد . قال الراعي يصف ما يصف من القبلة
يثنــي مُسـاوفها غضـروف أرنبـة
شـماء, مـن رخصـة في جيدها غيد
قال الزمخشري : "ساوفتها" ضاجعتها ، ولكنه في البيت : الذي يُقبِّل .
(39) انظر ما سلف رقم : 1172 ، 1180 .
(40) انتفل من الشيء : انتفى منه وتبرأ ، وأنكر أن يكون فعله أو عرفه وفي حديث ابن عمر : "إن فلانا انتفل من ولده" أي تبرأ منه .
(41) في المطبوعة : "ولم يشك فيه" ، وهو خطأ وتصحيف . "لم يشك" فاصلة بين الفعل وحرفه .
(42) الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ليستقيم معناه ، وأخشى أن يكون في الأصول تحريف لم أعثر على صوابه .
(43) تشرف الشيء واسشرفه : وضع يده على حاجبه كالذي يستظل من الشمس ، حتى يبصره ويستبينه .
(44) لعل الصواب : "كثر في أصحابه" .
(45) "ذلك" في قوله : "لما كتم ذلك" مفعول ، هو كناية عن قوله : "هو قتل القاتل القتيل" .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 72 | ﴿وَاللَّـهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 33 | ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
فادارأتم:
قرئ:
1- بالإدغام، وهى قراءة الجمهور.
2- فتدارأتم، على وزن تفاعلتم، وهى قراءة أبى حيوة، وأبى السوار الغنوي.
3- فادارأتم، بغير ألف قبل الراء، وهى قراءة أبى السوار أيضا.
التفسير :
فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, أي:بعضو منها, إما معين, أو أي عضو منها, فليس في تعيينه فائدة, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء الله الموتى،{ لعلكم تعقلون} فتنزجرون عن ما يضركم.
وقوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا ) إرشاد لهم إلى الوسيلة التي عن طريقها سيهتدون إلى القاتل الحقيقي ، والضمير في قوله ( اضربوه ) يعود على النفس ، وتذكيره مراعى فيه معناها هو الشخص أو القتيل .
وضرب القتيل ببعضها - أيا كان ذلك البعض - دليل على كمال قدرة الله تعالى . وفيه تيسير عليهم . واسم الإِشارة في قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) مشار به إلى محذوف دل عليه سياق الكلام .
والتقدير : فقلنا لقوم موسى الذين تنازعوا في شأن القتيل اضربوه ببعض البقرة ليحيا ، فضربوه فأحياه الله ، وأخبر القتيل عن قاتله ، وكمثل إحيائه يحيي الله الموتى في الآخرة للثواب والعقاب .
وبذلك تكون الآية ظاهرة في أن الذي ضرب ببعض البقرة قد صار حياً بعد موته .
قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - : فإن قيل : وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل : ليحيا فينبئ نبي الله والذين ادارءوا فيه عن قاتله .
فإن قال : وأين الخبر عن أن الله - تعالى - أمرهم بذلك؟ قيل : ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه ، والمعنى : فقلنا اضربوه ببعضها ليحيا فضربوه فحيى ، يدل على ذلك قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
والمقصود بالآيات في قوله تعالى : ( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الدلائل الدالة على أن الله على كل شيء قدير والتي منها ما شاهدوه بأعينهم من ترتب الحياة على ضرب القتيل بعضو ميت ، وأخباره عن قاتله ، واهتدائهم بسبب ذلك إلى القاتل الحقيقي . وذلك لكي تستعملوا عقولكم في الخير . وتوقنوا بأن من قدر على إحياء نفس ، واحدة فهو قادر على إحياء الأنفس جميعاً لأنه - سبحانه - لا يصعب عليه شيء .
هذا ولصاحب النار - رحمه الله - رأى في تفسير الآية الكريمة ، فهو يرى أن المراد بالإِحياء في قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) حفظ الدماء وأستبقاؤها وليس المراد به عنده الإِحياء الحقيقي بعد الموت .
فقد قال في تفسيره : وأما قوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) فهو بيان لإخراج ما يكتمون ، ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة . قيل : إن المراد اضربوا المقتول بلسانها وقيل بفخذها وقيل بذنبها ، وقالوا : أنهم ضربوه فعادت إليه الحياة ، وقال قتلني أخي أو ابن فلان ، إلخ ما قالوه ، والآية ليست أيضاً نصاً في مجملة فكيف بتفصيله؟ والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة بريء من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية .
ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس ، أي يحييها بمثل هذه الأحكام ، وهذا الإِحياء على حد قوله تعالى ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) وقوله تعالى ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ) فالإِحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين . . .
والذي نراه أن المراد بالإِحياء في قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) الإِحياء الحقيقي للميت بعد موته ، وأن تفسيره بحفظ الدماء واستبقائها ضعيف لما يأتي :
أولا : مخالفته لما ورد عن السلف في تفسير الآية الكريمة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حياً ، فقيل له من قتلك؟ قال : بنو أخي قتلوني ثم قبض .
ثانياً : ما ذهب إليه صاحب المنار لا يدل عليه القرآن الكريم لا إجمالاً ولا تفصيلا ، ولا تصريحاً ولا تلميحاً ، لأن قوله تعالى ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) ظاهر كل الظهور ، في أن المراد بالأحياء رد الحياة إليهم بعد ذهابها عنهم ، إذ الموتى هم الذين ماتوا بالفعل ، وإحياؤهم رد أرواحهم بعد موتهم وليس هناك نص صحيح يعتمد عليه في مخالفة هذا الظاهر ، ولا توجد أيضاً قرينة مانعة من إرادة هذا المعنى المتبادر من الآية بأدنى تأمل وما دام الأمر كذلك فلا يجوز تأويله بما يخالف ما يدل عليه اللفظ دلالة واضحة ، ومن التعسف الظاهر أن يراد من الموتى الأحياء من الناس ، وبإحياء الموتى تشريع العقوبات صوناً لدماء الأحياء منهم والله تعالى حينما أراد أن يدل على هذا المعنى قال ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ يا أولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فهذه الآية الكريمة تدل على أن القصاص من الجنة يحفظ على الناس حياتهم بدون التواء أو تعمية .
ثالثاً : تفسير الإِحياء برد الحياة إلى الموتى ، كما قال المفسرون ، يودي إلى غرس الإِيمان بصحة البعث في القلوب ، لأن المعنى عليه ، كهذا الإِحياء العجيب - وهو إحياء القتيل بضربة ببعض البقرة ليخبر عن قاتله - يحيي الله الموتى بأن يبعثهم من قبورهم يوم القيامة ، ليحاسبهم على أعمالهم ، فيكون إثباتاً للبعث عن طريق المشاهدة حتى لا ينكره منكر .
رابعاً : قوله تعالى بعد ذلك : ( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) قرينة قوية على أن المراد بالإِحياء ، رد الحياة إلى الموتى بعد موتهم لأن المراد ب ( آيَاتِهِ ) في هذا الموضع ، - كما قال المفسرون - الدلائل الدالة على عظم قدرته - تعالى - وذلك إنما يكون في خلق الأمور العجيبة الخارقة للعادة والتي ليست في طاقة البشر ، كإحياء الموتى وبعثهم من قبورهم للحساب والجزاء .
( فقلنا اضربوه ببعضها ) هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به .
وخرق العادة به كائن ، وقد كان معينا في نفس الأمر ، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا ، ولكن أبهمه ، ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه الله .
ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له ، وكانت بقرة تعجبه ، قال : فجعلوا يعطونه بها فيأبى ، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير ، فذبحوها ، فضربوه يعني القتيل بعضو منها ، فقام تشخب أوداجه دما [ فسألوه ] فقالوا له : من قتلك ؟ قال : قتلني فلان .
وكذا قال الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنه ضرب ببعضها .
وفي رواية عن ابن عباس : إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، قال : قال أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : ضربوا القتيل ببعض لحمها . وقال معمر : قال قتادة : فضربوه بلحم فخذها فعاش ، فقال : قتلني فلان .
وقال أبو أسامة ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة : ( فقلنا اضربوه ببعضها ) [ قال ] فضرب
بفخذها فقام ، فقال : قتلني فلان .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وقتادة ، نحو ذلك .
وقال السدي : فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش ، فسألوه ، فقال : قتلني ابن أخي .
وقال أبو العالية : أمرهم موسى ، عليه السلام ، أن يأخذوا عظما من عظامها ، فيضربوا به القتيل ، ففعلوا ، فرجع إليه روحه ، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فضربوه ببعض آرابها [ وقيل : بلسانها ، وقيل : بعجب ذنبها ] .
وقوله : ( كذلك يحيي الله الموتى ) أي : فضربوه فحيي . ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل : جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد ، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والفساد ، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في إحياء الموتى ، في خمسة مواضع : ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) [ البقرة : 56 ] . وهذه القصة ، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة .
ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما ، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرني يعلى بن عطاء ، قال : سمعت وكيع بن عدس ، يحدث عن أبي رزين العقيلي ، قال : قلت : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ؟ قال : " أما مررت بواد ممحل ، ثم مررت به خضرا ؟ " قال : بلى . قال : " كذلك النشور " . أو قال : " كذلك يحيي الله الموتى " . وشاهد هذا قوله تعالى : ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ) [ يس : 35 ] .
مسألة : استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح : فلان قتلني لوثا بهذه القصة ; لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال : قتلني فلان ، فكان ذلك مقبولا منه ; لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق ، ولا يتهم والحالة هذه ، ورجحوا ذلك بحديث أنس : أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها ، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل : من فعل بك هذا ؟ أفلان ؟ أفلان ؟ حتى ذكر اليهودي ، فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي ، فلم يزل به حتى اعترف ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد رأسه بين حجرين وعند مالك : إذا كان لوثا حلف أولياء القتيل قسامة ، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في
ذلك لوثا .
القول في تأويل قوله تعالى : فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: فقلنا لقوم موسى الذين ادارءوا في القتيل (46) - الذي قد تقدم وصفنا أمره - : اضربوا القتيل. و " الهاء " التي في قوله: (اضربوه) من ذكر القتيل؛(ببعضها) أي: ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
* * *
ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وأي عضو كان ذلك منها. فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل.
* ذكر من قال ذلك:
1305 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا, فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
&; 2-230 &;
1306 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة, ثم ذكر مثله.
1307 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن النضر بن عربي, عن عكرمة: (فقلنا اضربوه ببعضها)، قال: بفخذها، فلما ضرب بها عاش، وقال: قتلني فلان. ثم عاد إلى حاله. (47)
1308 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن خالد بن يزيد, عن مجاهد قال: ضرب بفخذها الرجل، فقام حيا فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
1309 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب ، عن ابن سيرين, عن عبيدة: ضربوا المقتول ببعض لحمها -وقال معمر، عن قتادة - : ضربوه بلحم الفخذ فعاش, فقال: قتلني فلان.
1310 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله فأنبأ بقاتله الذي قتله، وتكلم ثم مات.
* * *
وقال آخرون: الذي ضرب به منها، هو البضعة التي بين الكتفين. (48)
* ذكر من قال ذلك:
1311 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (فقلنا اضربوه ببعضها)، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي.
&; 2-231 &;
وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها، عظم من عظامها.
* ذكر من قال ذلك:
1312 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا, فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله، وهو الذي أتى موسى فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله.
* * *
وقال آخرون بما:-
1313 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ضربوا الميت ببعض آرابها فإذا هو قاعد - (49) قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السبط, أراد أن يأخذ ديته.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله عندنا: (فقلنا اضربوه ببعضها)، أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية، ولا [في] خبر تقوم به حجة، (50) على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ, وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف، وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل, ولا ينفع العلم به، مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فأحياه الله.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادارءوا فيه - من قاتله.
&; 2-232 &;
فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه - نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا, فضربوه فحيي - كما قال جل ثناؤه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [ الشعراء: 63]، والمعنى: فضرب فانفلق - دل على ذلك قوله: (51) كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى
قال أبو جعفر: وقوله: (كذلك يحيي الله الموتى)، مخاطبة من الله عباده المؤمنين, واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث, وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا. فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات, اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته, فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم, فأبعثهم يوم البعث.
وإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، (52) وهم قوم أميون لا كتاب لهم, لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم نـزلت هذه الآيات, فأخبرهم جل ذكره بذلك، ليتعرفوا علم من قِبَلَهم.
* * *
&; 2-233 &;
القول في تأويل قوله تعالى : وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - من آياته = وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوته = (53) لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق، فتؤمنوا به وتتبعوه.
-----------------
الهوامش :
(46) في المطبوعة : " . . بقوله فقلنا لقوم موسى" ، والصواب زيادة لفظ الآية ، كما فعلت .
(47) الخبر : 1307 - النضر بن عربي الباهلي : ثقة من أتباع التابعين ، وثقه ابن معين وغيره ، مات سنة 168 ، مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 2 /89 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 475 .
(48) البضعة : القطعة من اللحم ، قولهم : بضع اللحم : قطعه .
(49) آراب جمع إرب (بكسر فسكون) : وهو العضو ، يقال : قطعه إربا إربا ، أي عضوا عضوا .
(50) الزيادة بين القوسين ، أولى من حذفها .
(51) في المطبوعة : "يدل على ذلك قوله . . " ، وليست بشيء .
(52) في المطبوعة : "فإنما احتج . . " ، والفاء ليست بشيء هنا .
(53) انظر ما سلف 1 : 552 ، وهذا الجزء 2 : 139 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 73 | ﴿كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ |
---|
غافر: 81 | ﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّـهِ تُنكِرُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي:اشتدت وغلظت, فلم تؤثر فيها الموعظة،{ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي:من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها{ كَالْحِجَارَةِ} التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار, ذاب بخلاف الأحجار. وقوله:{ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي:إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار، وليست "أو "بمعنى "بل "ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم، فقال:{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} فبهذه الأمور فضلت قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال:{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها, وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه. واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله, قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل, ونزلوا عليها الآيات القرآنية, وجعلوها تفسيرا لكتاب الله, محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم:"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة, ولا منزلة على كتاب الله, فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم "فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها, وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة, التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها, معاني لكتاب الله, مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل، والله الموفق.
ثم بين القرآن الكريم ، بعد ذلك أن هذه المعجزات الباهرة التي تزلزل المشاعر ، وتهز القلوب ، وتبعث في النفوس الإِيمان ، لم تؤثر في قلوب بني إسرائيل الصلدة لأنه قد طرأ عليهم بعد رؤيتها ما أزال آثارها من قلوبهم ، ومحا الاعتبار بها من عقولهم ، فقال تعالى : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .
والمعنى : ثم صلبت قلوبكم - يا بني إسرائيل - وغلظت من بعد أن رأيت ما رأيتم من معجزات منها إحياء القتيل أمام عينكم ، فهي كالحجارة في صلابتها ويبوستها ، بل هي أشد صلابة منها ، لأن من الحجرة ما فيه ثقوب متعددة ، وخروق متسعة ، فتتدفق منه مياه الأنهار التي تعود بالمنافع على المخلوقات ، ولأن من بينها ما يتصدق تصدعاً قليلاً فيخرج منه ماء اليعون والآبار ولأن منها ما يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته ، أما أنتم - يا بني إسرائيل - فإن قلوبكم لا تتأثر بالمواعظ ولا تنقاد للخير ، ولا تفعل ما تؤمر به مهما تعاقبت عليكم النعم والنقم والآيات ، وما الله بغافل عما تعملون .
وقوله تعالى : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) بيان لما طرأ على قلوب بني إسرائيل من بعد عن الاعتبار ، وعدم تأثر بالعظات وإعراض عن الإِنابة والإِذعان لآيات الله وتحلل من المواثيق التي أقروا بها على أنفسهم وجيء ( بثم ) التي هي للترتيب والتراخي . لاستبعاد استيلاء الغلظة والقسوة على قلوبهم بعد أن رأوا الكثير من المعجزات ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم - بعد أن ساق لهم قصة البقرة وما ترتب عليها من منافع وعبر : ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم - يا بني إسرائيل - ولم تفدكم المعجزات : فقست قلوبكم وكان من المستبعد أن تقسوا .
وقوله تعالى : ( بَعْدِ ذلك ) فيه زيادة تعجيب من إحاطة القساوة بقلوبهم ، بعد توالي النعم ، وتكاثر المعجزات التي أشار القرآن الكريم إلى بعضها في الآيات السابقة .
واسم الإِشارة ( ذلك ) مشار به إلى إحياء القتيل بعد ضربه بجزء من البقرة أو إلى جميع النعم والمعجزات الواردة في الآيات السابقة .
و ( أو ) في قوله تعالى : ( فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) قيل : للتنويع ، فإن قلوبهم متفاوتة في القسوة ، فمنها ما هو قاس كالحجارة ، ومنها ما هو أشد منها قسوة ، أي : فبعض قلوبكم كالحجارة في صلابتها وبعضها أشد من الحجارة في صلابتها .
وقيل : للتشكيك بالنسبة للمخاطبين ، لا إلى المتكلم ، كأن يقول أحد الناس لآخر ، إن هذه القلوب قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها .
والأظهر أن تكون للإِضراب على طريقة المبالغة والمعنى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة بل هي أشد منها قسوة ، إذ لا شعور فيها يأتي بخير ، والحجارة ليست كذلك .
وشبه - سبحانه - قلوبهم بالحجارة في القسوة ، لأن صلابة الحجرة أعرف للناس وأشهر ، حيث إنها محسوسة لديهم ومتعارفة بينهم ولذا جاء التشبيه بها .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت لم قيل أشد قسوة ، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟ قلت : لكونه أبين وأدل على فرط القسوة ، ووجه آخر ، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة . كأنه قيل اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة " .
وقوله تعالى : ( وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ) بيان لفضل الحجارة على قلوبهم القاسية ، قصد به إظهار زيادة قسوة قلوبهم عن الحجارة ، لأن هذا الأمر لغرابته يحتاج إلى بيان سببه .
فكأنه - سبحانه - يقول لهم . إن هذه الحجارة على صلابتها ويبوستها منها ما تحدث فيه المياه خروقاً واسعة تتدفق منها الأنهار الجارية النافعة ، ومنها ما تحدث فيه المياه شقوقاً مختلفة تنجم عنها العيون النابعة ، والآبار الجوفية المفيدة . ومنها ما ينقاد لأوامر الله عن طواعية وامتثال . أما قلوبكم أنتم فلا يصدر عنها نفع ، ولا تتأثر بالعظات والعبر ، ولا تنقاد للحكم التي من شأنها هداية النفوس .
وقوله تعالى : ( وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) تهديد وتخويف ، حيث إنه - سبحانه - سيحاسبهم على أعمالهم ، وسيذيقهم ما يستحقونه من عقاب جزاء جحودهم لنعمه ، وعصيانهم لأمره .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد وصفت بني إسرائيل بما هم أهله . من قساوة القلب وانطماس البصيرة ، وعدم التأثر بالعظات مهما كثرت . وبالآيات مهما توالت .
ما يؤخذ من هذه القصة من العظات والعبر :
اشتملت هذه القصة على كثير من العظات والتوجيهات الإِلهية من ذلك .
1 - دلالتها على ما جبل عليه بنو إسرائيل من فظاظة وغلظة ، وسوء أدب مع مرشيدهم ، وإحفاء في الأسئلة بلا موجب ، وعدم استعداد للتسليم بما يأتيهم به الرسل ، ومما طلة في الانصياع للتكاليف ، وانحراف عن الطريق المستقيم .
2 - دلالتها على أن التنطع في الدين ، والإِلحاف في المسألة يؤديان إلى التشديد في الأحكام ، لأن بني إسرائيل لو أنهم أول الأمر عمدوا إلى ذبح أي بقرة لأجزأتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم .
أخرد ابن جرير - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " لو أن القوم أخذوا أدنى بقرة لأجزائهم .
لكنهم شددوا فشد الله عليهم " .
وقد أدى بهم هذا التنطع والتشديد إلى تضييق دائرة اختيارهم ، وتكثير للشروط التي يجب توافرها في البقرة المطلوبة ، وذلك لتأديبهم على مما طلتهم وبلادة عقولهم ، وسوء تلقيهم للشريعة بأنواع من التقصير عملا وشكرا وفهما ، وبذلك يعلم أن ما كلفهم الله به أولا هو ذبح بقرة ما ، وأن ما أمروا به بعد ذلك من كونها صفراء سالمة من آثار الخدمة ليس من باب تأخير البيان عن وقت الخطاب ، وإنما هو تشريع طارئ قصد منه تأديبهم على تعنتهم ولجاجهم وكثرة أسئلتهم .
وقد جاءت تعاليم الإِسلام بالنهي عن كثرة السؤال قال تعالى :
( ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ) وفي الحديث الشريف : " ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوه ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم " .
قال صاحب المنار : " وقد امتثل سلفنا لأمر الله فلم يشددوا على أنفسهم ، فكان الدين عندهم فطرياً وحنيفياً سمحاً ، ولكن من خلفهم عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاماً استنبطها باجتهاده ، حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت وألقته وتخلت " .
4 - قال الإِمام ابن القيم - رحمه الله - : وفي هذه القصة أنواع من العبر منها .
أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإِنكار ، فإن القوم لما قال لهم نبيهم ( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ) قابلوا هذا الأمر بقولهم : ( أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ) فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألو عنه قالوا ( أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ) . وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله ، فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك ، فلما قال لهم : ( أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين ) وتيقنوا أن الله - تعالى - أمره بذلك ، أخذوا في التعنت بسؤالهم عن عينها ولنها ، فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة ، فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال توقفوا في الامتثال ، ولم يكادوا يفعلون .
ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم : ( الآن جِئْتَ بالحق ) فإن أردوا بذلك : أنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة ، فتلك ردة وكفر ظاهر ، وإن أرادوا : أنك الآن بينت لنا البيان التام في تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر ، فإن البيان قد حصل بقوله : ( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ) فإنه لا إجمال في الأمر ولا في الفعل ولا في المذبوح فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة .
قال الإِمام بن جرير : " وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى ( الآن جِئْتَ بالحق ) وزعم أن ذلك نفي منهم أن يكون موسى - عليه السلام - أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك ، وأن ذلك كفر منهم ، وليس الأمر كما قال عندنا ، لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها ، وإن كان قولهم الذي قالوه لموسى يعد من جهالاتهم وهفوة من هفواتهم " .
( ب ) ومنها : الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم من معاد الأبدان ، وقيام الموتى من قبورهم .
( ج ) ومنها : إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتوعات ، زيادة في هداية المهتدى ، وإعذارا وإنذارا للضال :
( د ) - ومنها : الإِخبار عن قساوة هذه الأمة وغلظها ، وعدم تمكن الإِيمان فيها .
قال عبد الصمد بن معقل عن وهب : كان ابن عباس يقول " إن القوم بعد أن أحيا الله - تعالى - الميت فأخبرهم يقاتله ، أنكروا قتله ، وقالوا : والله ما قتلناه بعد أن رأوا الآيات الحق " .
( ه ) ومنها : مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعاً وقدراً ، فإن القاتل قصد ميراث المقتول ، ودافع القاتل عن نفسه ، ففضحة الله - تعالى - وهتكه ، وحرمه ميراث المقتول .
( و ) ومنها : أن بني إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من سائر الدواب ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة ، والبقرة من أبلد الحيوان حتى ليضرب به المثل في البلادة .
ثم قال الإِمام ابن القيم في ختام حديثه عن هذه القصة : والظاهر أن هذه كانت بعد قصة العجل؛ ففي الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي ، لا يصلح أن يكون إلهاً معبوداً من دون الله ، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقي والعمل " .
5 - دلالتها على قدرة الله - تعالى - فإن إحياء الميت عن طريق الضرب بقطعة من جسم بقرة مذبوحة - دليل على قدرة الله - تعالى - على الإِحياء والإِماتة وما هذا الضرب إلا وسيلة كشفت للناس عن طريق المشاهدة عن آثار قدرته - تعالى - التي لا يدرون كيف تعمل ، فهم يرون آثارها الخارقة ولكنهم لا يعرفون كنهها ، وصدق الله حيث يقول : ( فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
وإلى هنا تكون هذه القصة قد دمغت بني إسرائيل برذيلة التنطع في الدين ، والتعنت في الأسئلة ، والإِساءة إلى نبيهم - عليه السلام - وعدم اعتبارهم بالعظات والمثلات . لقساوة قلوبهم ، وسوء طباعهم ، وانطماس بصيرتهم ( يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )
يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل ، وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى ، وإحيائه الموتى : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) كله ( فهي كالحجارة ) التي لا تلين أبدا . ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) [ الحديد : 16 ] .
وقال العوفي ، في تفسيره ، عن ابن عباس : لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط ، فقيل له : من قتلك ؟ فقال : بنو أخي قتلوني . ثم قبض . فقال بنو أخيه حين قبض : والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا . فقال الله : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) يعني : بني أخي الشيخ ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، وإن لم يكن جاريا ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله ، وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) [ الإسراء : 44 ] .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : كل حجر يتفجر منه الماء ، أو يتشقق عن ماء ، أو يتردى من رأس جبل ، لمن خشية الله ، نزل بذلك القرآن .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق ( وما الله بغافل عما تعملون )
[ وقال أبو علي الجبائي في تفسيره : ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) هو سقوط البرد من
السحاب . قال القاضي الباقلاني : وهذا تأويل بعيد ، وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا ; فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل ، والله أعلم ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي ، حدثني يحيى بن أبي طالب يعني يحيى بن يعقوب في قوله تعالى : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) قال : هو كثرة البكاء ( وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ) قال : قليل البكاء ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) قال : بكاء القلب ، من غير دموع العين .
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ; وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله : ( يريد أن ينقض ) قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة : ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) الآية ، وقال : ( والنجم والشجر يسجدان ) و ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) الآية ، ( قالتا أتينا طائعين ) ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ) الآية ، ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله ) الآية ، وفي الصحيح : " هذا جبل يحبنا ونحبه " ، وكحنين الجذع المتواتر خبره ، وفي صحيح مسلم : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة ، وغير ذلك مما في معناه . وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير ; أي مثلا لهذا وهذا ، وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين . . وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر : إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزا أو تمرا ، وهو يعلم أيهما أكل ، وقال آخر : إنها بمعنى قول القائل : كل حلوا أو حامضا ; أي لا يخرج عن واحد منهما ; أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين . والله أعلم .
تنبيه :
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) بعد الإجماع على استحالة كونها للشك ، فقال بعضهم : " أو " هاهنا بمعنى الواو ، تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) [ الإنسان : 24 ] ، وكما قال النابغة الذبياني :
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد
تريد : ونصفه ، قاله ابن جرير . وقال جرير بن عطية :
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
قال ابن جرير : يعني نال الخلافة ، وكانت له قدرا .
وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو : أنها للإبهام وبالنسبة إلى المخاطب ، كقول القائل : أكلت خبزا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل ، وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل : أكلي حلو أو حامض ، أي : لا يخرج عن واحد منهما ، أي : وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم .
وقال آخرون : " أو " هاهنا بمعنى بل ، تقديره فهي كالحجارة بل أشد قسوة ، وكقوله : ( إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) [ النساء : 77 ] ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات : 147 ] ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) [ النجم : 9 ] وقال آخرون : معنى ذلك ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) عندكم . حكاه ابن جرير .
وقال آخرون : المراد بذلك الإبهام على المخاطب ، كما قال أبو الأسود :
أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا
قال ابن جرير : قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد ، ولكنه أبهم على من خاطبه ، قال : وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له : شككت ؟ فقال : كلا والله . ثم انتزع بقول الله تعالى : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) فقال : أوكان شاكا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال ؟
وقال بعضهم : معنى ذلك : فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين ، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة .
قال ابن جرير : ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد قسوة من الحجارة . وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره .
قلت : وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) [ البقرة : 17 ] مع قوله : ( أو كصيب من السماء ) [ البقرة : 19 ] وكقوله : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) [ النور : 39 ] مع قوله : ( أو كظلمات في بحر لجي ) [ النور : 40 ] ، الآية أي : إن منهم من هو هكذا ، ومنهم من هو هكذا ، والله أعلم .
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " .
رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه ، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، صاحب الإمام أحمد ، به . ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب ، به ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم .
[ وروى البزار عن أنس مرفوعا : " أربع من الشقاء : جمود العين ، وقسي القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا " ] . .
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
قال أبو جعفر: يعني بذلك كفار بني إسرائيل, وهم -فيما ذكر- بنو أخي المقتول, فقال لهم: " ثم قست قلوبكم ": أي جفت وغلظت وعست, كما قال الراجز:
وقد قسوت وقسا لداتي (54)
يقال: " قسا " و " عسا " و " عتا " بمعنى واحد, وذلك إذا جفا وغلظ وصلب. يقال: منه: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة وقَساء. (55)
* * *
ويعني بقوله: (من بعد ذلك)، من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي - ادارءوا &; 2-234 &; في قتله، فأخبرهم بقاتله، وبالسبب الذي من أجله قتله، (56) كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار - وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل (57) . وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها، أنهم -فيما بلغنا- أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله, فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته، بعد إخباره إياهم بذلك, وبعد ميتته الثانية، كما:-
1314 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حيا, فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه! فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه, فقال الله: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) -يعني بني أخي الشيخ- فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .
1315 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك)، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى, وبعد ما أراهم من أمر القتيل - ما أراهم, فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فهي): " قلوبكم ". يقول: ثم صلبت قلوبكم -بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه- عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم, فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة, أو " أشد قسوة "، &; 2-235 &; يعني: قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم, والإقرار له باللازم من حقوقه لهم- أشد صلابة من الحجارة. (58)
* * *
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، و " أو " عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك, والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه, ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم.
* * *
وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب " أو ", كقوله: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147]، وكقول الله جل ذكره: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ سبأ: 24] [الإبهام على من خاطبه] (59) فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة, (60) وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب, كما قال أبو الأسود الدؤلي:
أحـــب محــمدا حبــا شــديدا
وعباســـا وحـــمزة والوصيــا (61)
&; 2-236 &; فــإن يــك حـبهم رشـدا أصبـه
ولســـت بمخــطئ إن كـان غيـا
قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى - رَشَد, ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت! فقال: كلا والله! ثم انتزع بقول الله عز وجل: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فقال: أَوَ كان شاكا -من أخبر بهذا- في الهادي من الضلال. (62)
* * *
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: " ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا ", وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما, ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة, وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة, وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
وقال بعضهم: " أو " في قوله: (أو أشد قسوة)، بمعنى، وأشد قسوة, كما قال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [ الإنسان: 24] بمعنى: وكفورا، وكما قال جرير بن عطية:
نـال الخلافـة أو كـانت لـه قـدرا
كمـا أتـى ربـه موسـى عـلى قدر (63)
يعني: نال الخلافة، وكانت له قدرا، وكما قال النابغة:
قـالت: ألا ليتمـا هـذا الحمـام لنـا
إلــى حمامتنــا أو نصفــه فقـد (64) &; 2-237 &;
يريد. ونصفه
* * *
وقال آخرون: " أو " في هذا الموضع بمعنى " بل ", فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة, كما قال جل ثناؤه: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147]، بمعنى: بل يزيدون.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
* * *
قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد, (65) على تأويل أن منها كالحجارة, ومنها أشد قسوة. لأن " أو "، وإن استعملت في أماكن من أماكن " الواو " حتى يلتبس معناها ومعنى " الواو "، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - (66) فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا (67) أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها.
* * *
قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: (أو أشد قسوة) فمن وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على معنى " الكاف " في قوله: (كالحجارة)، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى " مثل "، [فيكون تأويله] (68) فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.
&; 2-238 &;
والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا، على معنى تكرير " هي" عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار): وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار, فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. (69) وإنما ذكر فقال " منه "، للفظ " ما ". (70)
* * *
و " التفجر ": " التفعل " من " تفجر الماء ", (71) وذلك إذا تنـزل خارجا من منبعه. وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد " انفجر "، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك, ومنه قوله عمر بن لجأ:
ولمــا أن قــرنت إلــى جـرير
أبـــى ذو بطنـــه إلا انفجــارا (72)
يعني: إلا خروجا وسيلانا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " وإن منها لما يشقق "، &; 2-239 &; وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. (73) وإنما هي: لما يتشقق, ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة.
وقوله: (فيخرج منه الماء) فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط - أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح - (74) من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى " الهبوط" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (75)
* * *
قال أبو جعفر: وأدخلت هذه " اللامات " اللواتي في" ما "، توكيدا للخبر.
وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به - من أن منها المتفجر منه الأنهار, وأن منها المتشقق بالماء, وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، (76) مثلا - معذرة منه جل ثناؤه لها، (77) دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم &; 2-240 &; يعطها الحجر والمدر, ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله, فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:-
1316 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1317 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله)، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء, أو يتردى من رأس جبل, فهو من خشية الله عز وجل, نـزل بذلك القرآن.
1318 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
1319 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله).
1320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أحبرنا معمر, عن قتادة مثله.
1321 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ .
1322 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن &; 2-241 &; جريج أنه قال فيها: كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل, فمن خشية الله. نـزل به القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله.
فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله. (78)
وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه. (79)
وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم, فعقل طاعة الله فأطاعه.
1324 - كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن. (80)
1325 - وكالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن ". (81)
&; 2-242 &;
وقال آخرون: بل قوله: ( يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) كقوله: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ولا إرادة له. قالوا وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله, كما قال زيد الخيل:
بجـمع تضـل البلـق فـي حَجَراتـه
تـرى الأكْـمَ منـه سـجدا للحـوافر (82)
وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له:
ســـاجد المنخـــر لا يرفعـــه
خاشــع الطــرف أصـم المسـتمع (83)
يريد أنه ذليل. (84)
وكما قال جرير بن عطية:
لمـا أتـى خـبر الرسول تضعضعت
ســور المدينــة والجبـال الخشـع (85)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (يهبط من خشية الله)، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل: " ناقة تاجرة "، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها, كما قال جرير بن عطية:
&; 2-243 &; وأعــور مـن نبهـان, أمـا نهـاره
فــأعمى, وأمــا ليلــه فبصــير (86)
فجعل الصفة لليل والنهار, وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه, من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به.
* * *
وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل, فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها. (87)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى " الخشية ", وأنها الرهبة والمخافة, فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. (88)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وما الله بغافل عما تعملون)، وما الله بغافل -يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم, فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا. (89)
&; 2-244 &;
وأصل " الغفلة " عن الشيء، تركه على وجه السهو عنه، والنسيان له.
* * *
فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها, بل هو لها محص, ولها حافظ.
-----------------
الهوامش :
(54) لم أعرف قائله ، وسيأتي في 6 : 99 (بولاق) ، وكان في الأصل هنا"وقسا لدنى" ، وهو خطأ . ولداتى جمع لدة ، ولدة الرجل : تربه ، ولد معه . وقسا هنا بمعنى : أسن وكبر وولي شبابه ، وجف عوده . ولم ترد بذلك المعنى في المعاجم .
(55) أنا في شك في ضبطه المصدر الأول من هذه المصادر الأربعة وهو"قسوا" ، وتبعت في ضبطه القاموس المحيط ، وإن ، كان قد ضبط بالقلم ، وأخشى أن يكون مصدرا على"فعول" مثل دنا يدنوا دنوا ، وسما يسمو سموا .
(56) في المطبوعة : "وما السبب" وليست بشيء .
(57) سياق العبارة بلا فصل"من بعد أن أحيى المقتول لهم . . وفصل بخبره بين المحق منهم والمبطل" .
(58) كانت هذه الجملة في المطبوعة هكذا : "كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة ، أو أشد صلابة ، يعني قلوبكم عن الإذعان لواجب حق الله عليهم ، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة" . وكأنها سهو من الناسخ ، فرددته إلى أصله بحمد الله .
(59) اللسان (سكن) . غاله الشيء يغوله : ذهب به فلم تدر أين هو وأجن: ستر وأخفى .
(60) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام ، استظهرته من قوله بعد : "ولكنه أبهم على المخاطب" ، ومن تفسير ابن كثير 1 : 209 ، 210 .
(61) ديوانه : 32 (من نفائس المخطوطات) ، والأغاني 11 : 113 ، وإنباه الرواة 1 : 17 ، وسيأتي البيت الثاني وحده في 22 : 65 (بولاق) ورواية الديوان : "وفيهم أسوة إن كان غيا" .
(62) قوله"في الهادي من الضلال" يعني نبيه صلى الله عليه وسلم . وعبارة الأغاني : أفترى الله عز وجل شك في نبيه" .
(63) سلف هذا البيت وتخريجه في 1 : 337 .
(64) ديوانه : 32 ، وروايته هناك"ونصفه" . وهو من قصيدته المشهورة التي يعتذر فيها إلى النعمان . والضمير في قوله : "قالت" إلى"فتاة الحي ، المذكورة في شعر قبله ، وهي زرقاء اليمامة . وهو خبر مشهور ، لا نطيل بذكره .
(65) في المطبوعة : "فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشد" ، واستظهرت تصويبه مما مضى آنفًا ، ومن تأويله بعد ، فوضعت"إما" مكان"من" .
(66) انظر ما سلف في 1 : 327 - 328 .
(67) في المطبوعة : "من وجد إلى ذلك سبيلا" . وهو خطأ .
(68) زدت ما بين القوسين ، ليستقيم الكلام .
(69) في المطبوعة : "بذكر الماء عن ذكر الأنهار" ، وهو خطأ بين .
(70) في المطبوعة : "وإنما ذكر فقيل . . " ، وهو لا شيء .
(71) في المطبوعة : "من : فجر الماء" ، وهو خطأ يدل السياق على خلافه ، وهو ما أثبت .
(72) طبقات فحول الشعراء : 369 ، والأغاني 8 : 72 ، وروايتهما"إلا انحدارا" ، وراوية الطبري أعرق في الشعر . وفي المطبوعة"قربت" ، وهو خطأ محض . قاله عمر بن لجأا حين أخذهما أبو بكر ابن حزم - بأمر الوليد بن عبد الملك - فقرنهما ، وأقامهما على البلس يشهر بهما ، فكان التميمي ينشد هذا البيت في هجاء جرير . وقوله : "ذو بطنه" ، كناية جيدة عما يشمأز من ذكره .
(73) أسقط ذكر الآية في المطبوعة ، كأنه استطال التكرار؛ وأقمنا الكلام على نهج أبي جعفر وفي المطبوعة : "لحجارة تشقق" ، ورددتها إلى الصواب أيضًا .
(74) تردى من الجبل ترديا : طاح وسقط .
(75) انظر ما سلف 1 : 534 ، وهذا الجزء 2 : 132 .
(76) سياق هذه العبارة : جعل منها مثلا لقلوب الذين .
(77) وسياق هذه الجملة : وإنما وصف الله بما وصفها به . . معذرة منه لها" أي للحجارة ، وما بين ذلك فصل كدأب جعفر رحمه الله .
(78) يريد قوله تعالى في سورة النحل : 48 ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) . وانظر تفسير الآية من تفسير الطبري 14 : 78 ، 79 (بولاق) .
(79) يريد قوله تعالى في سورة الأعراف : 143 : ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) .
(80) الحديث : 1324 - قصة حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، متواترة صحيحة ، لا يشك في صحتها إلا من لا يريد أن يؤمن . وقد عقد الحافظ ابن كثير في التاريخ بابا لذلك 6 : 125 - 132 قال في أوله : "باب حنين الجذع شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشفقا من فراقه . وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة ، بطرق متعددة ، تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن ، وفرسان هذا الميدان، ثم ساق من الأحاديث الصحاح من دواوين السنة . وانظر منها في المسند: 2236 ، 3430 من حديث ابن عباس . و2237 ، 3431 ، من حديث أنس . و3432 من حديث ابن عباس وأنس . وصحيح البخاري 6 : 443 (من الفتح) .
(81) الحديث : 1325 - روى مسلم في صحيحه 2 : 203 - 204 ، عن جابر بن سمرة قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة ، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن" . وذكره ابن كثير في التاريخ 6 : 134 ، من مسند أحمد ، ثم نسبه لصحيح مسلم ، ومسند الطيالسي .
(82) مضى هذا البيت في هذا الجزء : 2 : 104 وورد هنا"ترى الأكم فيها" والصواب ما أثبته ، كما مضى آنفًا ، وفي الأضداد لابن الأنباري"منها" مكان"فيها" .
(83) المفضليات : 407 ، والأضداد لابن الأنباري : 257 . من قصيدته المحكمة . و"ساجد" منصوب إذ قبله ، في ذكر عدوه هذا :
ثــم ولـى وهـو لا يحـمى اسـته
طــائر الإتــراف عنـه قـد وقـع
وفي الأصل المطبوع : "إذ يرفعه" ، وهو خلل في الكلام . وأثبت ما في المفضليات ، ورواية ابن الأنباري : "ما يرفعه" . . يقول أذله فطأطأ رأسه خزيا ، وألزم الأرض بصره ، وصار كأنه أصم لا يسمع ما يقال له ، فهو لا حراك به ، مات وهو حي قائم ، لا يحير جوابا . ولذلك قال بعده :
فـــر منــي هاربــا شــيطانه
حــيث لا يعطـى, ولا شـيئا منـع
(84) هذه الجملة كانت قبل البيت ، فرددتها إلى حيث ينبغي أن ترد .
(85) سلف هذا البيت وتخرجه في هذا الجزء 2 : 17 ، وروايته هناك "خبر الزبير" ، وهي أصح وأجود .
(86) سلف هذا البيت وتخريجه في 1 : 317 من طبعتنا هذه ، وأغفلت هناك أن أرده إلى هذا الموضع من التفسير ، فقيده .
(87) ليت من تهور من أهل زماننا ، فاجترأ على جعل كتاب ربه منبعا يستقى منه ما يشاء لأهوائه وأهواء أصحاب السلطان - سمع ما يقول أبو جعفر ، فيما تجيزه لغة العرب ، فكيف بما هو تهجم على كلام ربه بغير علم ولا هدى ولا حجة؟ اللهم إنا نبرأ إليك منهم ، ونستعيذ بك أن نضل على آثارهم .
(88) انظر ما سلف 1 : 559 - 560 ، وهو من تفسير" فارهبون" ، ولم ترد مادة (خشي) في القرآن قبل هذا الموضع ، فلذلك قطعت بأنه أحال على هذه الآية .
(89) كانت في المطبوعة"يحصيها ، . . فيجازيكم . . أو يعاقبكم" بالياء في أولها جميعا ، واستجزت أن أردها إلى الاسمية ، لأن الطبري هكذا يقول ، وقد سلف مثل ذلك مرارا ، ورأيت النساخ تصرفوا فيه كما بيناه في موضعه . فاستأنست بنهجه في بيانه ، وهو أبلغ وأقوم .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 74 | ﴿وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 85 | ﴿وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 140 | ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 149 | ﴿وَإِنَّهُۥ لَلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
آل عمران: 99 | ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 144 | ﴿لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
وإن:
قرئ:
1- وإن مشددة، وهى قراءة الجمهور.
2- وإن، مخففة، وهى قراءة قتادة.
لما:
قرئ:
1- لما، بميم مخففة، وهى قراءة الجمهور.
2- لما، بالتشديد، وهى قراءة طلحة بن مصرف، وهى لا تتجه إلا إن تكون «إن» نافية.
يشقق:
قرئ:
1- يشقق، بتشديد الشين، وأصله «يتشقق» ، فأدغم التاء فى الشين، وهى قراءة الجمهور.
2- تشقق، بالتاء والشين المخففة، وهى قراءة ابن مصرف.
تعملون:
قرئ:
1- تعملون، بالتاء، وهى قراءة الجمهور.
2- يعملون، بالياء، وهى قراءة ابن كثير.
التفسير :
هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب, أي:فلا تطمعوا في إيمانهم وحالتهم لا تقتضي الطمع فيهم, فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه, فيضعون له معاني ما أرادها الله, ليوهموا الناس أنها من عند الله, وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله, فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟! فهذا من أبعد الأشياء.
ثم ساق القرآن بعد ذلك لونا آخر من ألوان رذائلهم. ويتمثل هذا اللون في تحريفهم للكلم عن مواضعه، واشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا، وذلك لقسوة قلوبهم، وانطماس بصيرتهم، وبيعهم الدين بالقليل من حطام الدنيا، قال- تعالى-.
( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ . . . )
والآيات الكريمة التي معنا قد افتتحت بتيئيس المؤمنين من دخول اليهود في الإسلام ولكن هذا التيئيس قد سبق بما يدعمه ويؤيده، فقد بينت الآيات السابقة عليها «موقف اليهود الجحودى من نعم الله- عز وجل- كما بينت تنطعهم في الدين، وسوء إدراكهم لمقاصد الشريعة، وقساوة قلوبهم من بعد أن رأوا من الآيات البينات ما رأوا، وبعد هذا البيان الموحى بالقنوط من استجابتهم للحق، خاطب الله المؤمنين بقوله:
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
ومعنى الآية الكريمة: أفتطمعون- أيها المؤمنون- بعد أن وصفت لكم من حال اليهود ما وصفت من جحود ونكران، أن يدخلوا في الإسلام. والحال أنه كان فريق من علمائهم وأحبارهم يسمعون كلام الله ثم يميلونه عن وجهه الصحيح من بعد ما فهموه، وهم يعلمون أنهم كاذبون بهذا التحريف على الله تعالى، أو يعلمون ما يستحقه محرفه من الخزي والعذاب الأليم.
فالخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين، والاستفهام يقصد به الإنكار عليهم، إذ طمعوا في استجابة اليهود لدعوة الحق، بعد أن علموا سوء أحوالهم، وفساد نفوسهم. والنهى عن الطمع في إيمانهم لا يقتضى عدم دعوتهم إلى الإيمان، فالمؤمنون مأمورون بدعوتهم إليه، لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم، ولقطع عذرهم في الآخرة وقد تصادف الدعوة إلى الإسلام نفوسا منصفة تستجيب لدعوة الحق، وتهتدى إلى الطريق المستقيم، وهذا ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم هو وأصحابه من بعده. ولكن اليهود صموا آذانهم عن الحق بعد ما عرفوه فأصبحت دعوتهم إلى الإسلام غير مجدية، وهنا يأتى النهى عن الطمع في إيمانهم بهذه الآية وأمثالها.
وجملة وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ حالية، مشتملة على بيان أحد الأسباب الداعية إلى القنوط من إيمانهم، وبذلك يكون التقنيط من إيمانهم قد علل بعلتين:
إحداهما: ما سبق هذه الآية من تصوير لأحوالهم السيئة.
والثانية: ما تضمنته هذه الجملة الكريمة من تحريفهم لكلام الله عن علم وتعمد.
والمراد بالفريق في قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أحبارهم وعلماؤهم الذين عاصروا الرسل الكرام، فسمعوا منهم، أو الذين أتوا بعدهم فنقلوا عنهم.
والتحريف أصله انحراف الشيء عن جهته وميله عنها إلى غيرها. والمراد به هنا: إخراج الوحى والشريعة عما جاءت به، بالتغيير والتبديل في الألفاظ، أو بالكتمان والتأويل الفاسد، والتفسير الباطل.
وقوله تعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ زيادة تشنيع عليهم، حيث إنهم حرفوا كلام الله بعد فهمهم له عن تعمد وسوء نية، وارتكبوا هذا الفعل الشنيع، رغم علمهم بما يستحقه مرتكبه من عقوبة دنيوية وأخروية.
ففي هذين القيدين من النعي عليهم ما لا مزيد عليه، حيث أبطل بهما عذر الجهل والنسيان، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان.
وإنما كان قيام الفريق من أحبار اليهود بتحريف الكتاب سببا في اليأس من إيمان عامتهم، لأن هؤلاء العامة المقلدون، قد تلقوا دينهم عن قوم فاسقين، دون أن يلتفتوا إلى الحق، أو يتجهوا إلى النظر في الأدلة الموصلة إليه، وأمثال هؤلاء الذين شبوا على عماية التقليد، وغواية الشيطان، لا يرجى منهم الوصول إلى نور الحق، وجلال الصدق، ولأن أمة بلغ الحال بعلمائها- وهم مظهر محامدهم- أن يجرؤوا على كلام الله فيحرفوه لا تنتظر من دهمائها أن يكونوا خيرا منهم حالا أو أسعد مآلا.
يقول تعالى : ( أفتطمعون ) أيها المؤمنون ( أن يؤمنوا لكم ) أي : ينقاد لكم بالطاعة ، هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود ، الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) أي : يتأولونه على غير تأويله ( من بعد ما عقلوه ) أي : فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة ( وهم يعلمون ) أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله ؟ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ) [ المائدة : 13 ] .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم : ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ) وليس قوله : ( يسمعون كلام الله ) يسمعون التوراة . كلهم قد سمعها . ولكن الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها .
قال محمد بن إسحاق : فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى : يا موسى ، قد حيل بيننا وبين رؤية الله تعالى ، فأسمعنا كلامه حين يكلمك . فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال : نعم ، مرهم فليتطهروا ، وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور ، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا ، فوقعوا سجودا ، وكلمه ربه تعالى ، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم ، حتى عقلوا عنه ما سمعوا . ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل ، فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به ، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل : إن الله قد أمركم بكذا وكذا . قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله : إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله عز وجل لهم ، فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .
وقال السدي : ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) قال : هي التوراة ، حرفوها .
وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق ، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق . فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران ، عليه الصلاة والسلام ، وقد قال الله تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) [ التوبة : 6 ] ، أي : مبلغا إليه ; ولهذا قال قتادة في قوله : ( ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) قال : هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه .
وقال مجاهد : الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم .
وقال أبو العالية : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم ، من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، فحرفوه عن مواضعه .
وقال السدي : ( وهم يعلمون ) أي أنهم أذنبوا . وقال ابن وهب : قال ابن زيد في قوله : ( يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) قال : التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراما ، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا ; إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله ، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب ، فهو فيه محق ، وإن جاءهم أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ، ولا رشوة ، ولا شيء ، أمروه بالحق ، فقال الله لهم : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) [ البقرة : 44 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (أفتطمعون) يا أصحاب محمد, أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقين ما جاءكم به من عند الله، أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل؟
* * *
ويعني بقوله: (أن يؤمنوا لكم)، أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم، كما:-
1326 - حُدثت عن عمار بن الحسن, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،" أن يؤمنوا لكم " يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود؟.
1327 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) الآية, قال: هم اليهود.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
قال أبو جعفر: أما " الفريق " فجمع، كالطائفة، لا واحد له من لفظه. وهو " فعيل " من " التفرق " سمي به الجماع، كما سميت الجماعة ب " الحزب "، من " التحزب "، وما أشبه ذلك. ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
&; 2-245 &; أجَــدّوا فلمــا خـفت أن يتفرقـوا
فـريقين, منهـم مُصعِـد ومُصـوِّب (90)
يعني بقوله: (منهم)، من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل، من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ - لأنهم كانوا آباءَهم وأسلافهم, فجعلهم منهم، إذ كانوا عشائرهم وفَرَطهم وأسلافهم, كما يذكر الرجل اليوم الرجل، وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته. وكان من قومه وعشيرته, فيقول: " كان منا فلان "، (91) يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه، أو من قومه وعشيرته. فكذلك قوله: (وقد كان فريق منهم).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون). فقال بعضهم بما:-
1328 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبى نجيح, عن مجاهد في قول الله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)، &; 2-246 &; فالذين يحرفونه والذين يكتمونه، هم العلماء منهم.
1329 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.
1330 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه)، قال: هي التوراة، حرفوها.
1331 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه)، قال: التوراة التي أنـزلها عليهم، يحرفونها, يجعلون الحلال فيها حراما، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا, إذا جاءهم المحق برِشوة أخرجوا له كتاب الله, وإذا جاءهم المبطل برِشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، (92) فهو فيه محق. وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ البقرة: 44].
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
1332 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، أخبرنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة, ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
1333 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق في قوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) الآية, قال: ليس قوله: (يسمعون كلام الله)، يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
1334 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل, فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه فقال: نعم, فمرهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور, فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام[أن يسجدوا] فوقعوا سجودا, (93) وكلمه ربه فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم, حتى عقلوا ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به, وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا, قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا - خلافا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة, ما قاله الربيع بن أنس، والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف ذلك وبدل، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل، استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان, وإيذانا منه تعالى ذكره عبادَه المؤمنين، قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى, (94) فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم - بالذي تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل - عن غيب لم يشاهدوه ولم ييعاينوه وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه, ثم يبدله ويحرفه ويجحده, فهؤلاء الذين بين &; 2-248 &; أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق، وهم لا يسمعونه من الله, وإنما يسمعونه منكم - (95) وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدلوه، وهم به عالمون، فيجحدوه ويكذبوا - (96) من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف.
ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عني بقوله: (يسمعون كلام الله)، يسمعون التوراة, لم يكن لذكر قوله: (يسمعون كلام الله) معنى مفهوم. لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله - إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم - دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له. (97)
فإن ظن ظان [أنه] إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: (يحرفونه)، فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. (98) وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماعَ كلام الله - ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل, ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك. فلذلك وصفهم بما وصفهم به، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره.
* * *
ويعني بقوله: (ثم يحرفونه)، ثم يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه. وأصله من " انحراف الشيء عن جهته ", وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: (يحرفونه) &; 2-249 &; أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا, وأنه بخلاف ما حرفوه إليه. فقال: (يحرفونه من بعد ما عقلوه)، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله، (وهم يعلمون)، أي: يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت, ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم, وأن بقاياهم - من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا - على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام.
---------------
الهوامش :
(90) ديوانه : 137 ، وفي المطبوعة : "أخذوا" خطأ . أجد السير : انكمش فيه وأسرع مصعد : مبتدئ في صعوده إلى نجد والحجاز . ومُصَوِّب منحدر في رجوعه إلى العراق والشام وأشباه ذلك وبعد البيت من تمامه .
طلبتهـمُ, تَطـوى بـي البيـد جَسْـرَة
شُــوَيْقَئةُ النــابين وجَنـاء ذِعْلـب
(91) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 38 ، 39 .
(92) يعني : "ذلك الكتاب" المحرف ، لا"كتاب الله" الصادق .
(93) ما بين القوسين زيادة من ابن كثير 1 : 212 .
(94) في المطبوعة"وإيذانا منه . . وقطع أطماعهم" بالعطف بالواو ، وليس يستقيم . وآذنه الأمر وآذنه به يذانا : أعلمه . فقوله : "قطع" منصوب مفعول ثان للمصدر"إيذانا" .
(95) قوله : "وأقرب" ، معطوف على قوله : "أحرى . . " .
(96) قوله : "من أوائلهم . . " متعلق بقوله آنفًا : "أحرى أن يجحدوا . . وأقرب إلى أن يحرفوا . . " .
(97) سياق العبارة : فخصوص المحرف بأنه . . لا معنى له" .
(98) الزيادة بين القوسين لا بد منها .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال:{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم, ما ليس في قلوبهم،{ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم، قال بعضهم لبعض:{ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي:أتظهرون لهم الإيمان وتخبروهم أنكم مثلهم, فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟ يقولون:إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق, وما هم عليه باطل, فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي:أفلا يكون لكم عقل, فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض.
ثم أخبر القرآن الكريم عن بعضهم، بأنهم قد ضموا إلى رذيلة التحريف رذيلة النفاق والتدليس فقال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
والمعنى: وإذا ما تلاقى المنافقون من اليهود مع المؤمنين، قالوا لهم نفاقا وخداعا. صدقنا أن ما أنتم عليه هو الحق. وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله، وإذا ما انفرد بعض اليهود ببعض قال الذين لم ينافقوا لإخوانهم الذين نافقوا معاتبين: أتخبرون المؤمنين بما بينه الله لكم في كتابكم مما يشهد بحقية ما هم عليه، لتكون لهم الحجة عليكم يوم القيامة، أفلا تعقلون أن هذا التحديث يقيم الحجة لهم عليكم؟
فالآية الكريمة فيها بيان لنوع آخر من مساوئ اليهود ومخازيهم التي تدعو إلى اليأس من إيمانهم وتكشف النقاب عما كانوا يضمرونه من تدليس .
قال الإمام الرازي: «وإنما عذلوهم على ذلك لأن اليهودي إذا اعترف بصحة التوراة، واعترف بشهادتها على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت الحجة قوية عليه، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضا من الاعتراف بذلك أمام المؤمنين» .
والاستفهام في قوله تعالى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ للإنكار والتوبيخ والفتح يطلق على القضاء ومنه قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أى: اقض بيننا وبين قومنا بالحق.
قال ابن جرير: «أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم والمعنى أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم؟ ومن حكمه- تعالى- وقضائه فيهم أخذه ميثاقهم بأن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقد بشرت به التوراة» .
وقوله تعالى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ متعلق بالتحديث ومرادهم تأكيد النكير على إخوانهم الذين أظهروا إيمانهم نفاقا، فكأنهم يقولون لهم: أتحدثون المؤمنين بما يفضحكم يوم القيامة أمام الخالق- عز وجل- وفي حكمه وقضائه، لأنهم سيقولون لكم. ألم تحدثونا في الدنيا بما في كتابكم من حقيقة ديننا وصدق نبينا؟ فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رءوس الخلائق يوم الموقف العظيم، لأنه ليس من اعترف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإنكار.
وجملة أَفَلا تَعْقِلُونَ من بقية مقولهم لمن نافق منهم. وقد أتوا بها لزيادة توبيخهم لهم حتى لا يعودوا إلى التحدث مع المؤمنين.
والمعنى: أليست لكم عقول تحجزكم عن أن تحدثوا المؤمنين بما يقيم لهم الحجة عليكم يوم القيامة؟
وقوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) الآية .
قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) أي بصاحبكم رسول الله ، ولكنه إليكم خاصة . ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا ) لا تحدثوا العرب بهذا ، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم ، فكان منهم . فأنزل الله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) أي : تقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ، ونجد في كتابنا . اجحدوه ولا تقروا به . يقول الله تعالى : ( أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : آمنا .
وقال السدي : هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا . وكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة وغير واحد من السلف والخلف ، حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فيما رواه ابن وهب عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : " لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن " . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق : اذهبوا فقولوا : آمنا ، واكفروا إذا رجعتم إلينا ، فكانوا يأتون المدينة بالبكر ، ويرجعون إليهم بعد العصر . وقرأ قول الله تعالى : ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) [ آل عمران : 72 ]
وكانوا يقولون ، إذا دخلوا المدينة : نحن مسلمون . ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره . فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر . فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون . وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون : أليس قد قال الله لكم كذا وكذا ؟ فيقولون : بلى . فإذا رجعوا إلى قومهم [ يعني الرؤساء ] قالوا : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) الآية .
وقال أبو العالية : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) يعني : بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) قال : كانوا يقولون : سيكون نبي . فخلا بعضهم ببعض فقالوا : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) .
قول آخر في المراد بالفتح : قال ابن جريج : حدثني القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم ، فقال : " يا إخوان القردة والخنازير ، ويا عبدة الطاغوت " ، فقالوا : من أخبر بهذا الأمر محمدا ؟ ما خرج هذا القول إلا منكم ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) بما حكم الله ، للفتح ، ليكون لهم حجة عليكم . قال ابن جريج ، عن مجاهد : هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم .
وقال السدي : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) من العذاب ( ليحاجوكم به عند ربكم ) هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به . فقال بعضهم لبعض : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) من العذاب ، ليقولوا : نحن أحب إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم .
وقال عطاء الخراساني : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) يعني : بما قضى [ الله ] لكم وعليكم .
وقال الحسن البصري : هؤلاء اليهود ، كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض ، قال بعضهم : لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ، فيحاجوكم به عند ربكم ، فيخصموكم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
قال أبو جعفر: أما قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إيمانهم - من يهود بني إسرائيل، الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا. يعني بذلك: أنهم إذا لقوا الذين صدقوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، قالوا: آمنا - أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا منهاجهم، كما:-
1335 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا صلى الله عليه وسلم قالوا: &; 2-250 &; آمنا, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم.
1336 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.
* * *
وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر وهو ما:-
1337 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، أي: بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه إليكم خاصة.
1338 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) الآية, قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم -" قالوا " يعني: قال بعضهم لبعض -: " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ".
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (بما فتح الله عليكم). فقال بعضهم بما:-
1339 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن &; 2-251 &; عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك.
* * *
وقال آخرون بما:-
1340 - حدثنا ابن حميد قال, حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ، أي: بصاحبكم رسول الله, ولكنه إليكم خاصة, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم, فكان منهم. (99) فأنـزل الله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم)، أي: تقرون بأنه نبي, وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه, وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .
1341 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، أي بما أنـزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
1342 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، أي: بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم, فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم، (أفلا تعقلون).
&; 2-252 &;
1343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، ليحتجوا به عليكم.
1344 - حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، قال قتادة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، يعني: بما أنـزل الله عليكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
1345 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) قال: قول يهود بني قريظة، (100) حين سبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير, قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا, فقال: يا إخوة القردة والخنازير. (101)
1346 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: هذا، حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير " .
1347 - حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: (أتحدثونهم بما فتح &; 2-253 &; الله عليكم)، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال: " يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت ". فقالوا: من أخبر هذا محمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم!(أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)! بما حكم الله، للفتح ، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج, عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم. (102)
* * *
وقال آخرون بما:-
1348 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) - من العذاب -" ليحاجوكم به عند ربكم " هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا, فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به, فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم, وأكرم على الله منكم؟
* * *
وقال آخرون بما:-
1349 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم): قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلى! - قال: وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم تخبرونهم بالذي أنـزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن (103) . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا, واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر ويرجعون إليهم بعد العصر (104) وقرأ قول الله: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ آل عمران: 72]. وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله &; 2-254 &; عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهم, قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون, فيقولون لهم: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى! فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني الرؤساء] - قالوا: " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم "، الآية. (105)
* * *
وأصل " الفتح " في كلام العرب: النصر والقضاء، والحكم. يقال منه: " اللهم افتح بيني وبين فلان "، أي احكم بيني وبينه, ومنه قول الشاعر:
ألا أبلــغ بنــي عُصْــمٍ رسـولا
بـــأني عــن فُتــاحَتكم غنــي (106)
قال أبو جعفر: قال: ويقال للقاضي: " الفتاح " (107) ومنه قول الله عز وجل: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ الأعراف: 89] أي احكم بيننا وبينهم.
* * *
فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا, تبين أن معنى قوله: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير, وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم. وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به، حجةً على المكذبين من اليهود &; 2-255 &; المقرين بحكم التوراة، وغير ذلك [من أحكامه وقضائه]. (108)
فإذ كان كذلك. (109) فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم; فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها.
وإذا كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون تلاومهم، كان فيما بينهم، فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وكان قيلهم ذلك، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فكان تلاومهم -فيما بينهم إذا خلوا- على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويكفرون به, وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود، وحكمه عليهم لهم في كتابهم، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث. فلما بعث كفروا به، مع علمهم بنبوته.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله: (أفلا تعقلون)، خبر من الله تعالى ذكره - عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك, ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم, ولا تخبروهم &; 2-256 &; بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .
* * *
---------------------------
الهوامش :
(99) قوله : "فكان منهم" ، أي كان منهم النبي الذي كانوا يستفتحون به على مشركي العرب ويستنصرون ، ويرجون أن يكون منهم ، فكان من العرب . وسيأتي خبر استفتاحهم بعد في تفسير الآية : 89 من سورة البقرة في هذا الجزء .
(100) في المطبوعة : "يهود من قريظة" ، ليست بشيء .
(101) من أول قوله : "قالوا من حدثك؟ . . " إلى آخر العبارة ، تفسير للقصة قبله . وقوله"فقال : يا إخوة القردة والخنازير" من كلام رسول الله صلى الله عليهم وسلم ، لا كلام علي رضي الله عنه . وسيظهر ذلك في الخبرين بعده .
(102) الأثر : 1347 - في ابن كثير 1 : 214 وفيه : "من أخبر بهذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم" .
(103) قصبة القرية : وسطها وجوفها . وقصبة البلاد : مدينتها ، لأنها تكون في أوسطها .
(104) البكر جمع بكرة (بضم فسكون) : وهي الغدوة ، أول النهار .
(105) الأثر : 1349 في ابن كثير 1 : 213 - 214 ، والزيادة بين القوسين منه .
(106) ينسب للأسعر الجعفي ، ومحمد بن حمران بن أبي حمران . انظر تعليق الراجكوتي في سمط اللآلئ : 927 .
(107) أمالي القالي 2 : 281 واللسان (فتح) (رسل) ، وغيرهما ، وبنو عصم ، هم رهط عمرو ابن معد يكرب الزبيدي . وقد اختلفت روايات البيت اختلافا شديدا ، وليس هذا مكان تحقيقها ، لطولها .
(108) ما بين القوسين ، زيادة استظهرتها من سابق بيانه ، ليستقيم الكلام .
(109) في المطبوعة : "فإن كان كذلك" ، والزيادة ماضية على نهج أبي جعفر .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 14 | ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ |
---|
البقرة: 76 | ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء