ترتيب المصحف | 6 | ترتيب النزول | 55 |
---|---|---|---|
التصنيف | مكيّة | عدد الصفحات | 23.00 |
عدد الآيات | 165 | عدد الأجزاء | 1.17 |
عدد الأحزاب | 2.35 | عدد الأرباع | 9.40 |
ترتيب الطول | 5 | تبدأ في الجزء | 7 |
تنتهي في الجزء | 8 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
الثناء على الله: 2/14 | الحمد لله: 2/5 |
بعدَ إباحةِ الأكلِ ممَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليه من الذبائحِ بَيَّنَ اللهُ هنا أنَّه لا يوجدُ ما يمنعُ ذلك، ثُمَّ حرَّمَ المعاصيَ وما لم يُذكَرْ اسمُ اللهِ عليه من الذبائحِ.
لَمَّا ذكرَ اللهُ أنَّ المشركينَ يجادلُونَ المؤمنينَ ذكَرَ هنا مثلًا يصوِّرُ حالَ المؤمنِ المُهتدي وحالَ الكافرِ الضَّالِ، ثُمَّ بيانُ تعنُّتِ المشركينَ ومطالبتِهم بالنبوةِ.
التفسير :
تفسير الآيتين 118 و119:يأمر تعالى عباده المؤمنين، بمقتضى الإيمان، وأنهم إن كانوا مؤمنين، فليأكلوا مما ذكر اسم الله عليه من بهيمة الأنعام، وغيرها من الحيوانات المحللة، ويعتقدوا حلها، ولا يفعلوا كما يفعل أهل الجاهلية من تحريم كثير من الحلال، ابتداعا من عند أنفسهم، وإضلالا من شياطينهم، فذكر الله أن علامة المؤمن مخالفة أهل الجاهلية، في هذه العادة الذميمة، المتضمنة لتغيير شرع الله، وأنه، أي شيء يمنعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل الله لعباده ما حرم عليهم، وبينه، ووضحه؟ فلم يبق فيه إشكال ولا شبهة، توجب أن يمتنع من أكل بعض الحلال، خوفا من الوقوع في الحرام، ودلت الآية الكريمة، على أن الأصل في الأشياء والأطعمة الإباحة، وأنه إذا لم يرد الشرع بتحريم شيء منها، فإنه باق على الإباحة، فما سكت الله عنه فهو حلال، لأن الحرام قد فصله الله، فما لم يفصله الله فليس بحرام. ومع ذلك، فالحرام الذي قد فصله الله وأوضحه، قد أباحه عند الضرورة والمخمصة، كما قال تعالى:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى أن قال:{ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثم حذر عن كثير من الناس، فقال:{ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ} أي:بمجرد ما تهوى أنفسهم{ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ولا حجة. فليحذر العبد من أمثال هؤلاء، وعلامتُهم -كما وصفهم الله لعباده- أن دعوتهم غير مبنية على برهان، ولا لهم حجة شرعية، وإنما يوجد لهم شبه بحسب أهوائهم الفاسدة، وآرائهم القاصرة، فهؤلاء معتدون على شرع الله وعلى عباد الله، والله لا يحب المعتدين، بخلاف الهادين المهتدين، فإنهم يدعون إلى الحق والهدى، ويؤيدون دعوتهم بالحجج العقلية والنقلية، ولا يتبعون في دعوتهم إلا رضا ربهم والقرب منه.
ثم أنكر- سبحانه- عليهم ترددهم في أكل ما أحله الله من طعام لأنهم لم يتعودوه قبل ذلك فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
أى: أى مانع يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأى فائدة تعود عليكم من ذلك؟ فالاستفهام لإنكار أن يكون هناك شيء يدعوهم إلى اجتناب الأكل من الذبائح التي ذكر اسم الله عليها سواء أكانت تلك الذبائح من البحائر أو السوائب أو غيرها مما حرمه المشركون على أنفسهم بدون علم.
وقوله وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ جملة حالية مؤكدة للإنكار السابق أى والحال أن الله- تعالى- قد فصل لكم على لسان رسولكم صلى الله عليه وسلم ما حرمه عليكم من المطعومات، وبين لكم ذلك في كتابه كما في قوله- تعالى- قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إذا فمن الواجب عليكم أيها المسلمون أن تأكلوا وأنتم مطمئنون من جميع المطاعم التي أحلها الله لكم وذكر اسمه عليها ولو خالفتم في ذلك المشركين وأن تتجنبوا أكل ما حرمه الله عليكم ولو كان مما يستبيحه المشركون.
وقوله إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ استثناء مما حرم الله عليهم أكله.
أى: إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات بسبب شدة الجوع ففي هذه الحالة يباح لكم أن تأكلوا من هذه المحرمات ما يحفظ عليكم حياتكم. هذا هو حكم الله الذي يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فعليكم أن تتبعوه، وألا تلقوا بالا إلى أوهام المتخرصين وأصحاب الظنون الباطلة.
ثم نعى على المشركين جهالاتهم فقال وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
قرأ الجمهور «ليضلون» بضم الياء، والمعنى عليه: وإن كثيرا من الكفار ليضلون غيرهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام بسبب أهوائهم الزائفة وشهواتهم الباطلة، دون أن يكون عندهم أى علم مقتبس من وحى الله ومستنبط من عقل سليم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ليضلون» بفتح الياء، والمعنى عليه: وإن كثيرا من الكفار لينحرفون عن الحق ويقعون في الضلال بسبب اتباعهم لأهوائهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وقراءة الجمهور أبلغ في الذم لأنها تتضمن قبح فعلهم حيث ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم.
وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بمحذوف وقع حالا أى: يضلون مصاحبين للجهل.
وقوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ أى: أعلم منك يا محمد ومن كل مخلوق بالمتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل والحلال والحرام.
ففي الجملة الكريمة التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي: وقد دلت هذا الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام .
فقال : ( وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) أي : قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه .
وقرأ بعضهم : ( فصل ) بالتشديد ، وقرأ آخرون بالتخفيف ، والكل بمعنى البيان والوضوح .
( إلا ما اضطررتم إليه ) أي : إلا في حال الاضطرار ، فإنه يباح لكم ما وجدتم .
ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة ، من استحلالهم الميتات ، وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى : فقال ( وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) أي : هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم .
القول في تأويل قوله : وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ
قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله: (وما لكم أن لا تأكلوا).
فقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا. قال: وذلك نظير قوله: وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ ، [سورة البقرة: 246]. يقول: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال: ولو كانت " لا "، زائدة لا يقع الفعل. (1) ولو كانت في معنى: " وما لنا وكذا ", لكانت: وما لنا وأن لا نقاتل .
* * *
وقال غيره: إنما دخلت " لا " للمنع, لأن تأويل " ما لك ", و " ما منعك " واحد." ما منعك لا تفعل ذلك ", و " ما لك لا تفعل "، واحد. فلذلك دخلت " لا " . قال: وهذا الموضع تكون فيه " لا "، وتكون فيه " أنْ"، مثل قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [سورة النساء: 176]، و " أن لا تضلوا "، يمنعكم من الضلال بالبيان . (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: معنى قوله: (وما لكم)، في هذا الموضع: وأيُّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وذلك أنّ الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه، وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه المعروفة, وتحريم ما أهلّ به لغيره، من الحيوان= وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة والمنخنقة والمتردية, وسائر ما حرم الله من المطاعم . ثم قال: وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته, وقد فصّلت لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون, وبينته لكم بقولي: (3) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، إلى قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ، [سورة المائدة: 3]، فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله, فتتمنعوا من أكل حلاله حذرًا من مواقعة حرامه .
فإذ كان ذلك معناه، فلا وجه لقول متأوِّلي ذلك: " وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا "، لأن ذلك إنما يقال كذلك، لمن كان كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله, وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكف اتّباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه. ولا نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة كفَّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك, واعتقادًا منه أن الله حرَّمه عليه . فبيّنٌ بذلك، إذ كان الأمر كما وصفنا، أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا .
* * *
وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله: " فصَّل ", و " فَصَّلْنَا " و " فُصِّل " بيَّن, أو بُيِّن, بما يغني عن إعادته في هذا الموضع (4) كما:-
13791- حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم)، يقول: قد بين لكم ما حرم عليكم .
13792- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, مثله .
* * *
واختلفت القرأة في قول الله جل ثناؤه: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم).
فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من " فَصَّلَ" و " حَرَّم "، أي: فصّل ما حرّمه من مطاعمكم, فبيَّنه لكم .
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَقَدْ فَصَّلَ) بفتح فاء " فصل " وتشديد صاده," مَا حُرِّمَ"، بضم حائه وتشديد رائه, بمعنى: وقد فصل الله لكم المحرَّم عليكم من مطاعمكم .
* * *
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: " وَقَدْ فُصِّلَ لَكَمْ"، بضم فائه وتشديد صاده،" مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ"، بضم حائه وتشديد رائه, على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما .
* * *
وروي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك: " وَقَدْ فَصَلَ"، بتخفيف الصاد وفتح الفاء, بمعنى: وقد أتاكم حكم الله فيما حَرَّم عليكم .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن كل هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها، سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية، قراءات معروفات مستفيضةٌ القراءةُ بها في قرأة الأمصار, وهن متّفقات المعاني غير مختلفات, فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ .
* * *
وأما قوله: (إلا ما اضطررتم إليه)، فإنه يعني تعالى ذكره: أن ما أضطررنا إليه من المطاعم المحرّمة التي بيَّن تحريمها لنا في غير حال الضرورة، لنا حلال ما كنا إليه مضطرين, حتى تزول الضرورة . (5) كما:-
13793- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (إلا ما اضطررتم إليه)، من الميتة .
* * *
القول في تأويل قوله : وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن كثيرًا من الناس [الذين] (6) يجادلونكم في أكل ما حرم الله عليكم، أيها المؤمنون بالله، من الميتة، ليُضلون أتباعهم بأهوائهم من غير علم منهم بصحة ما يقولون, ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون, إلا ركوبًا منهم لأهوائهم, واتباعًا منهم لدواعي نفوسهم, اعتداءً وخلافًا لأمر الله ونهيه, وطاعة للشياطين (7) =(إن ربك هو أعلم بالمعتدين)، يقول: إن ربك، يا محمد، الذي أحلَّ لك ما أحلَّ وحرَّم عليك ما حرم, هو أعلم بمن اعتدى حدوده فتجاوزها إلى خلافها, وهو لهم بالمرصاد . (8)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (ليضلون).
فقرأته عامة أهل الكوفة: (لَيُضِلُّونَ)، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم .
* * *
وقرأ ذلك بعض البصريين والحجازيين: " لَيَضِلُّونَ"، بمعنى: أنهم هم الذين يضلون عن الحق فيجورون عنه .
* * *
قال أبو جعفر: وأَولى القراءتين بالصواب في ذلك, قراءةُ من قرأ: ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ )، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبرَ نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم، ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه, فقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم, ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه, فقال لهم: وإن كثيرًا منهم ليضلونكم بأهوائهم بغير علم= نظيرَ الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .
--------------
الهوامش :
(1) قوله : (( لا يقع الفعل )) ، أي لا يتعدى ، (( الوقوع )) ، التعدي .
(2) استوفى أبو جعفر بحث هذا فيما سلف 5 : 300 - 305 ، والفراء في معاني القرآن 1 : 163 - 166 ، ولم يشر إلى ذلك أبو جعفر كعادته فيما سلف .
(3) في المطبوعة : (( بقوله )) ، وفي المخطوطة : (( بقول )) ، وصواب قراءتها ما أثبت .
(4) انظر تفسير (( التفصيل )) فيما سلف ص : 60 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك ، وانظر فهارس اللغة ( فصل ) .
(5) انظر تفسير (( اضطر )) فيما سلف 3 : 56 ، 322 / 9 : 532 .
(6) الزيادة بين القوسين ، يقتضيها السياق .
(7) انظر تفسير (( الأهواء )) فيما سلف من فهارس اللغة ( هوى )
= = وتفسير (( الضلال )) في فهارس اللغة (ضلل ) .
(8) انظر تفسير (( الاعتداء )) فيما سلف من فهارس اللغة ( عدا ) .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
المراد بالإثم:جميع المعاصي، التي تؤثم العبد، أي:توقعه في الإثم، والحرج، من الأشياء المتعلقة بحقوق الله، وحقوق عباده. فنهى الله عباده، عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن، أي:السر والعلانية، المتعلقة بالبدن والجوارح، والمتعلقة بالقلب، ولا يتم للعبد، ترك المعاصي الظاهرة والباطنة، إلا بعد معرفتها، والبحث عنها، فيكون البحث عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن، والعلمُ بذلك واجبا متعينا على المكلف. وكثير من الناس، تخفى عليه كثير من المعاصي، خصوصا معاصي القلب، كالكبر والعجب والرياء، ونحو ذلك، حتى إنه يكون به كثير منها، وهو لا يحس به ولا يشعر، وهذا من الإعراض عن العلم، وعدم البصيرة. ثم أخبر تعالى، أن الذين يكسبون الإثم الظاهر والباطن، سيجزون على حسب كسبهم، وعلى قدر ذنوبهم، قلَّت أو كثرت، وهذا الجزاء يكون في الآخرة، وقد يكون في الدنيا، يعاقب العبد، فيخفف عنه بذلك من سيئاته.
ثم أمر الله عباده أن يتركوا ما ظهر من الآثام وما استتر فقال:
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ أى اتركوا جميع المعاصي ما كان منها سرا وما كان منها علانية، أو ما كان منها بالجوارح وما كان منها بالقلوب، لأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء.
ثم بين- سبحانه- عاقبة المرتكبين للآثام فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أى: إن الذين يعملون المعاصي ويرتكبون القبائح الظاهرة والباطنة لن ينجو من المحاسبة والمؤاخذة بل سيجزون بما يستحقونه من عقوبات بسبب اجتراحهم للسيئات.
قال مجاهد : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) معصيته في السر والعلانية - وفي رواية عنه قال هو ما ينوي مما هو عامل .
وقال : قتادة : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) أي : قليله وكثيره ، سره وعلانيته .
وقال السدي : ظاهره : الزنا مع البغايا ذوات الرايات ، وباطنه : الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان .
وقال عكرمة : ظاهره : نكاح ذوات المحارم .
والصحيح أن الآية عامة في ذلك كله ، وهي كقوله تعالى : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) الآية [ الأعراف : 33 ] ; ولهذا قال تعالى : ( إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ) أي : سواء كان ظاهرا أو خفيا ، فإن الله سيجزيهم عليه .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم فقال : " الإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع الناس عليه "
القول في تأويل قوله : وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ودعوا، أيها الناس، (9) علانية الإثم، وذلك ظاهره= وسرّه، وذلك باطنه، . كذلك:-
13794- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، أي: قليله وكثيره، وسرّه وعلانيته .
13795- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، قال: سره وعلانيته .
13796- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس في قوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، يقول: سره وعلانيته= وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، [سورة الأعراف: 33]، قال: سره وعلانيته .
13797- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، قال: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه، أن يعمل به سرًّا أو علانية, وذلك ظاهره وباطنه .
13798- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، معصية الله في السر والعلانية .
13799- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، قال: هو ما ينوي مما هو عامل .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بالظاهر من الإثم والباطن منه، في هذا الموضع.
فقال بعضهم: " الظاهر منه "، ما حرم جل ثناؤه بقوله: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ، [سورة النساء: 22 ]، وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ الآية, و " الباطن منه "، الزنى .
* ذكر من قال ذلك:
13800- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، قال: الظاهر منه: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ والأمهات والبنات والأخوات =" والباطن ". الزنى .
* * *
وقال آخرون: " الظاهر "، أولات الرايات من الزواني ، (10) والباطن: ذوات الأخدان .
* ذكر من قال ذلك:
13801- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) أما " ظاهره "، فالزواني في الحوانيت ، وأما " باطنه "، فالصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرًّا .
13802- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، [سورة الأنعام: 151]. كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا, فحرّم الله السر منه والعلانية =" ما ظهر منها "، يعني العلانية =" وما بطن "، يعني: السر .
13803- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي مكين وأبيه, عن خصيف, عن مجاهد: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قال: " ما ظهر منها "، الجمع بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده =" وما بطن "، الزنى .
* * *
وقال آخرون: " الظاهر "، التعرّي والتجرد من الثياب، وما يستر العورة في الطواف =" والباطن "، الزنى .
* ذكر من قال ذلك:
13804- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قال: ظاهره العُرْيَة التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت ، (11) وباطنه: الزنى .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره تقدم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه، وذلك سره وعلانيته. و " الإثم " كل ما عُصِي الله به من محارمه, (12) وقد يدخل في ذلك سرُّ الزنى وعلانيته, ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهن, ونكاحُ حلائل الآباء والأمهات والبنات, والطواف بالبيت عريانًا, وكل معصية لله ظهرت أو بطنت . وإذ كان ذلك كذلك, وكان جميعُ ذلك " إثمًا ", وكان الله عمّ بقوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن= لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئًا دون شيء، إلا بحجة للعذر قاطعة .
غير أنه لو جاز أن يوجَّه ذلك إلى الخصوص بغير برهان, كان توجيهه إلى أنه عنى بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع، ما حرم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم, وما بيَّن الله تحريمه في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلى آخر الآية, أولى, إذ كان ابتداء الآيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى، وهذه في سياقها. ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك, وأدخل فيها الأمر باجتناب كل ما جانسه من معاصي الله, فخرج الأمر عامًا بالنهي عن كل ما ظهر أو بطن من الإثم .
* * *
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يعملون بما نَهاهم الله عنه، ويركبون معاصيَ الله ويأتون ما حرَّم الله=(سيجزون)، يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه . (13)
---------------------
الهوامش :
(9) انظر تفسير (( ذر )) فيما سلف ص : 57 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(10) (( أولات الرايات )) ، البغايا في الجاهلية ، كن ينصبن رايات عند خيامهن أو عند بيوتهن ، يعرفن بها .
(11) (( العرية )) ( بضم العين وسكون الراء ) ، مصدر (( عرى من ثوبه يعرى عريًا وعرية )) ، يقال : (( جارية حسنة العرية ، وحسنة المعرى والمعراة )) ، أي حسنة عند تجريدها من ثيابها .
(12) انظر تفسير (( الإثم )) فيما سلف من فهارس اللغة ( أثم ) .
(13) انظر تفسير (( كسب )) فيما سلف من فهارس اللغة ( كسب )
= وتفسير (( الجزاء )) فيما سلف من فهارس اللغة ( جزا )
= وتفسير (( اقترف )) فيما سلف ص : 59 ، 60
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 120 | ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾ |
---|
الأعراف: 180 | ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ويدخل تحت هذا المنهي عنه، ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح للأصنام، وآلهتهم، فإن هذا مما أهل لغير الله به، المحرم بالنص عليه خصوصا. ويدخل في ذلك، متروك التسمية، مما ذبح لله، كالضحايا، والهدايا، أو للحم والأكل، إذا كان الذابح متعمدا ترك التسمية، عند كثير من العلماء. ويخرج من هذا العموم، الناسي بالنصوص الأخر، الدالة على رفع الحرج عنه، ويدخل في هذه الآية، ما مات بغير ذكاة من الميتات، فإنها مما لم يذكر اسم الله عليه. ونص الله عليها بخصوصها، في قوله:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ولعلها سبب نزول الآية، لقوله{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} بغير علم. فإن المشركين -حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتةَ، وتحليله للمذكاة، وكانوا يستحلون أكل الميتة- قالوا -معاندة لله ورسوله، ومجادلة بغير حجة ولا برهان- أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ يعنون بذلك:الميتة. وهذا رأي فاسد، لا يستند على حجة ولا دليل بل يستند إلى آرائهم الفاسدة التي لو كان الحق تبعا لها لفسدت السماوات والأرض، ومن فيهن. فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه، الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة. ولا يستغرب هذا منهم، فإن هذه الآراء وأشباهها، صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين، الذين يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم، ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير.{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في شركهم وتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال{ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين، فلذلك كان طريقكم، طريقهم. ودلت هذه الآية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من الإلهامات والكشوف، التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم، لا تدل –بمجردها على أنها حق، ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله. فإن شهدا لها بالقبول قبلت، وإن ناقضتهما ردت، وإن لم يعلم شيء من ذلك، توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب، لأن الوحي والإلهام، يكون الرحمن ويكون من الشيطان، فلا بد من التمييز بينهما والفرقان، وبعدم التفريق بين الأمرين، حصل من الغلط والضلال، ما لا يحصيه إلا الله.
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، نهاهم صراحة عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لشدة العناية بهذا الأمر فقال- تعالى-:
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أى: لا تأكلوا أيها المسلمون من أى حيوان لم يذكر عليه اسم الله عند ذبحه، بأن ذكر عليه اسم غيره، أو ذكر اسم مع اسمه- تعالى-، أو غير ذلك مما سبق بيانه من المحرمات.
وقوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ جملة حالية والضمير يعود على الأكل من الذي لم يذكر اسم الله عليه، أى: وإن الأكل من ذلك الحيوان المذبوح الذي لم يذكر اسم الله عليه لخروج عن طاعة الله- تعالى- وابتعاد عن الفعل الحسن إلى الفعل القبيح، وفي ذلك ما فيه من تنفيرهم من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
ثم كشف للمسلمين عن المصدر الذي يمد المشركين بمادة الجدل حول هذه المسألة فقال:
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ.
أى: وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين ليجادلوكم في تحليل الميتة وفي غير ذلك من الشبهات الباطلة وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال ما حرمه الله عليكم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
قال ابن كثير: أى: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك، كقوله- تعالى- اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدى بن حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم فقال: «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» .
هذا، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال.
فمنهم من قال لا تحل الذبيحة التي يترك ذكر اسم الله عليها سواء كان الترك عمدا أو سهوا، وإلى هذا الرأى ذهب ابن عمر ونافع وعامر والشعبي ومحمد بن سيرين، وداود الظاهري وفي رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.
واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية التي وصفت ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه بأنه فسق، كما احتجوا بقوله- تعالى- فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وبالأحاديث التي وردت في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديث عدى بن حاتم وفيه «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» .
وحديث رافع بن خديج وفيه «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» أما القول الثاني فيرى أصحابه أن التسمية ليست شرطا بل هي مستحبة، وتركها عن عمد أو نسيان لا يضر، وقد حكى هذا المذهب عن ابن عباس وأبى هريرة وعطاء وهو مذهب الشافعى وأصحابه وفي رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.
وحجتهم أن هذه الآية وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... واردة فيما ذبح لغير الله بأن يذكر على الذبيحة اسم الصنم كما كان يفعل المشركون عند ذبائحهم.
واحتجوا أيضا بما رواه الدّارقطنيّ عن ابن عباس أنه قال: «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله» .
أما القول الثالث فيرى أصحابه أن ترك التسمية نسيانا لا يضر، أما عمدا فلا تحل الذبيحة، وإلى هذا المذهب ذهب على وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل وعليه أبو حنيفة وأصحابه.
واحتجوا لمذهبهم بأحاديث منها ما رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
ولعل هذا المذهب أقرب المذاهب إلى الصواب، لأن المتعمد هو الذي يؤاخذ على عمله أما الناسي فليس مؤاخذا.
وقد تولت بعض كتب التفسير بسط الأقوال في هذه المسألة فليرجع إليها من شاء .
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أنه لا تحل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها ، ولو كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
فمنهم من قال : لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة ، وسواء متروك التسمية عمدا أو سهوا . وهو مروي عن ابن عمر ، ونافع مولاه ، وعامر الشعبي ، ومحمد بن سيرين . وهو رواية عن الإمام مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين ، وهو اختيار أبي ثور ، وداود الظاهري ، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه " الأربعين " ، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية ، وبقوله في آية الصيد : ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) [ المائدة : 4 ] . ثم قد أكد في هذه الآية بقوله : ( وإنه لفسق ) والضمير قيل : عائد على الأكل ، وقيل : عائد على الذبح لغير الله - وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك " وهما في الصحيحين - وحديث رافع بن خديج . " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " وهو في الصحيحين أيضا ، وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن : " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه " رواه مسلم . وحديث جندب بن سفيان البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله " أخرجاه وعن عائشة ، رضي الله عنها ، أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري : أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال : " سموا عليه أنتم وكلوا " قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر . رواه البخاري . ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها ، وأنهم خشوا ألا تكون وجدت من أولئك ، لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل ، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت ، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد ، والله تعالى أعلم .
والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركت عمدا أو نسيانا لم تضر وهذا مذهب الإمام الشافعي ، رحمه الله ، وجميع أصحابه ، ورواية عن الإمام أحمد . نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك ، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه ، وحكي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء بن أبي رباح ، والله أعلم .
وحمل الشافعي الآية الكريمة : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) على ما ذبح لغير الله ، كقوله تعالى ( أو فسقا أهل لغير الله به ) [ الأنعام : 145 ] .
وقال ابن جريج ، عن عطاء : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش عن الأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس ، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي رحمه الله قوي ، وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل " الواو " في قوله : ( وإنه لفسق ) حالية ، أي : لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقا ، ولا يكون فسقا حتى يكون قد أهل به لغير الله . ثم ادعى أن هذا متعين ، ولا يجوز أن تكون " الواو " عاطفة . لأنه يلزم منه عطف جملة إسمية خبرية على جملة فعلية طلبية . وهذا ينتقض عليه بقوله : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) فإنها عاطفة لا محالة ، فإن كانت " الواو " التي ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال; امتنع عطف هذه عليها ، فإن عطفت على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره ، وإن لم تكن " الواو " حالية ، بطل ما قال من أصله ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) قال : هي الميتة .
ثم رواه ، عن أبي زرعة ، عن يحيى بن أبي كثير عن ابن لهيعة ، عن عطاء - وهو ابن السائب - به .
وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل ، من حديث ثور بن يزيد ، عن الصلت السدوسي - مولى سويد بن منجوف أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله "
وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : إذا ذبح المسلم - ولم يذكر اسم الله فليأكل ، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله "
واحتج البيهقي أيضا بحديث عائشة ، رضي الله عنها ، المتقدم أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال : " سموا أنتم وكلوا " قال : فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها ، والله أعلم .
المذهب الثالث في المسألة : أنه إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر وإن تركها عمدا لم تحل .
هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك ، وأحمد بن حنبل ، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه : وهو محكي عن علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن البصري ، وأبي مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن .
ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني في كتابه " الهداية " الإجماع - قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدا ، فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ : لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفة الإجماع .
وهذا الذي قاله غريب جدا ، وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي ، والله أعلم .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : من حرم ذبيحة الناسي ، فقد خرج من قول جميع الحجة ، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .
يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو أمية الطرسوسي ، حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم يكفيه اسمه ، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله "
وهذا الحديث رفعه خطأ ، أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري فإنه وإن كان من رجال مسلم إلا أن سعيد بن منصور ، وعبد الله بن الزبير الحميدي روياه عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي الشعثاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، من قوله . فزادا في إسناده " أبا الشعثاء " ، ووقفا والله تعالى أعلم . وهذا أصح ، نص عليه البيهقي وغيره من الحفاظ .
وقد نقل ابن جرير وغيره . عن الشعبي ، ومحمد بن سيرين ، أنهما كرها متروك التسمية نسيانا ، والسلف يطلقون الكراهية على التحريم كثيرا ، والله أعلم . إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور ، فيعده إجماعا ، فليعلم هذا ، والله الموفق .
قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن جهير بن يزيد قال : سئل الحسن ، سأله رجل : أتيت بطير كرى فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه ، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه ، واختلط الطير ، فقال الحسن : كله ، كله . قال : وسألت محمد بن سيرين فقال : قال الله تعالى ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .
واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي ذر وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " وفيه نظر ، والله أعلم .
وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي ، من حديث مروان بن سالم القرقساني ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اسم الله على كل مسلم "
ولكن هذا إسناده ضعيف ، فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي ، ضعيف ، تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، والله أعلم .
وقد أفردت هذه المسألة على حدة ، وذكرت مذاهب الأئمة ومآخذهم وأدلتهم ، ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات ، والله أعلم .
قال ابن جرير : وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عنيت به . وعلى هذا قول عامة أهل العلم .
وروي عن الحسن البصري وعكرمة . ما حدثنا به ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال الله : ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ) وقال ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) فنسخ واستثنى من ذلك فقال : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) [ المائدة : 5 ] .
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على العباس بن الوليد بن مزيد ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال : أنزل الله في القرآن : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال : ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب .
ثم قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب ، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه .
وهذا الذي قاله صحيح ، ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقوله تعالى : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : قال رجل لابن عمر : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه؟ قال : صدق ، وتلا هذه الآية : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل قال : كنت قاعدا عند ابن عباس ، وحج المختار بن أبي عبيد ، فجاءه رجل فقال : يا ابن عباس ، وزعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة؟ فقال ابن عباس : صدق ، فنفرت وقلت : يقول ابن عباس صدق . فقال ابن عباس : هما وحيان ، وحي الله ، ووحي الشيطان ، فوحي الله عز وجل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ووحي الشيطان إلى أوليائه ، ثم قرأ : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .
وقد تقدم عن عكرمة في قوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) نحو هذا .
وقوله تعالى : ( ليجادلوكم ) قال ابن أبي حاتم : : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : نأكل مما قتلنا ، ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) .
هكذا رواه مرسلا ورواه أبو داود متصلا فقال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) .
وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الأعلى - وسفيان بن وكيع ، كلاهما عن عمران بن عيينة ، به .
ورواه البزار ، عن محمد بن موسى الحرشي ، عن عمران بن عيينة ، به . وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة : أحدها :
أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا .
الثاني : أن الآية من الأنعام ، وهي مكية .
الثالث : أن هذا الحديث رواه الترمذي ، عن محمد بن موسى الحرشي ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . ورواه الترمذي بلفظ : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال : حسن غريب ، روي عن سعيد بن جبير مرسلا .
وقال الطبراني : حدثنا علي بن المبارك ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا موسى بن عبد العزيز ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) أرسلت فارس إلى قريش : أن خاصموا محمدا وقولوا له : كما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال ، وما ذبح الله ، عز وجل ، بشمشير من ذهب - يعني الميتة - فهو حرام . فنزلت هذه الآية : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) قال : " الشياطين " من فارس ، و " أوليائهم " من قريش .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا إسرائيل ، حدثنا سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه . وما ذبحتم أنتم فكلوه ، فأنزل الله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .
ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم ، عن عمرو بن عبد الله عن وكيع ، عن إسرائيل ، به . وهذا إسناد صحيح .
ورواه ابن جرير من طرق متعددة ، عن ابن عباس ، وليس فيه ذكر اليهود ، فهذا هو المحفوظ ، والله أعلم .
وقال ابن جريج : قال عمرو بن دينار ، عن عكرمة : إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم ، وكاتبتهم فارس ، وكتبت فارس إلى مشركي قريش : أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه - للميتة - وما ذبحوه هم يأكلون . فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فأنزل الله : ( وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ونزلت : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) .
وقال السدي في تفسير هذه الآية : إن المشركين قالوا للمؤمنين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله ، وما ذبح الله فلا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ فقال الله : ( وإن أطعتموهم ) فأكلتم الميتة ( إنكم لمشركون ) .
وهكذا قاله مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من علماء السلف ، رحمهم الله .
وقوله تعالى : ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) أي : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك ، كما قال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ التوبة : 31 ] . وقد روى الترمذي في تفسيرها ، عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم ، فقال : " بل إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم "
القول في تأويل قوله : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون، مما مات فلم تذبحوه أنتم، أو يذبحه موحِّدٌ يدين لله بشرائع شَرَعها له في كتاب منـزل، فإنه حرام عليكم= ولا ما أهلَّ به لغير الله مما ذبَحه المشركون لأوثانهم, فإن أكل ذلك " فسق ", يعني: معصية كفر . (14)
* * *
فكنى بقوله: " وإنه "، عن " الأكل ", وإنما ذكر الفعل, (15) كما قال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ، [سورة آل عمران: 173] يراد به، فزاد قولُهم ذلك إيمانًا, فكنى عن " القول ", وإنما جرى ذكره بفعلٍ . (16)
* * *
=(وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم). (17)
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، فقال بعضهم: عنى بذلك شياطين فارسَ ومن على دينهم من المجوس =(إلى أوليائهم)، من مردة مشركي قريش, يوحون إليهم زخرف القول، بجدالِ نبي الله وأصحابه في أكل الميتة . (18)
* ذكر من قال ذلك:
13805- حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري قال، حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباريّ قال، حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة: لما نـزلت هذه الآية، بتحريم الميتة، قال: أوحت فارس إلى أوليائها من قريشٍ أنْ خاصموا محمدًا = وكانت أولياءهم في الجاهلية (19) = وقولوا له: أوَ ما ذبحتَ فهو حلال, وما ذَبح الله (20) = قال ابن عباس: بِشمْشَارٍ من ذهب (21) = فهو حرام ! ! فأنـزل الله هذه الآية: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، قال: الشياطين: فارس, وأولياؤهم قريش . (22)
13806- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار, عن عكرمة: " إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم وكاتبتهم فارس, وكتبت فارسُ إلى مشركي قريش إن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله, فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه = للميتة = وأمّا ما ذبحوا هم يأكلون "! وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه السلام, فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء, فنـزلت: (وإنه لفسقٌ وإن الشياطين ليوحون) الآية, ونـزلت: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا .[سورة الأنعام: 112]
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بالشياطين الذين يغرُون بني آدم: أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش .
* ذكر من قال ذلك:
13807- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سماك, عن عكرمة قال: كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قَتَل, وتأكلون أنتم ما قتلتم؟ فرُوِي الحديث حتى بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم, فنـزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13808- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، قال: إبليسُ الذي يوحي إلى مشركي قريش = قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس: " يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم "= قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثير قال: سمعت أنَّ الشياطين يوحون إلى أهل الشرك، يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموتُ، وما الذي تذبحون إلا سواء ! يأمرونهم أن يخاصِمُوا بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم=(وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون)، قال: قولُ المشركين أمّا ما ذبح الله، للميتة، فلا تأكلون, وأمّا ما ذبحتم بأيديكم فحلال !
13809- حدثنا محمد بن عمار الرازي قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا شريك, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين: ما قتل ربّكم فلا تأكلون, وما قتلتم أنتم تأكلونه ! فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . (23)
13810- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما حرم الله الميتة، أمر الشيطان أولياءَه فقال لهم: ما قتل الله لكم، خيرٌ مما تذبحون أنتم بسكاكينكم! فقال الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13811- حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس قال: جادل المشركون المسلمين فقالوا: ما بال ما قتلَ الله لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم أكلتموه! وأنتم تتبعون أمر الله ! فأنـزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)، إلى آخر الآية .
13812- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه, وما ذبحتم أنتم فكلوه ! فأنـزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13813- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة: أن ناسًا من المشركين دخلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت، من قَتَلها؟ فقال: اللهُ قتلها . قالوا: فتزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابُك حلالٌ, وما قتله الله حرام! فأنـزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13814- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحضرمي: أن ناسًا من المشركين قالوا: أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه !
13815- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ، قال: قالوا: يا محمد, أمّا ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه, وأمّا ما قتل ربُّكم فتحرِّمونه ! فأنـزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه, إنكم إذًا لمشركون .
13816- حدثنا المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك قال: قال المشركون: ما قتلتم فتأكلونه, وما قتل ربكم لا تأكلونه ! فنـزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
13817- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قول المشركين: أما ما ذبح الله = للميتة = فلا تأكلون منه, وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال !
13818- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .
13819- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)، قال: جادلهم المشركون في الذبيحة فقالوا: أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه ! يعنون " الميتة "، فكانت هذه مجادلتهم إياهم .
13820- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) الآية, يعني عدوّ الله إبليس, أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة فقولوا: " أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون, وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمرَ الله "! فأنـزل الله على نبيه: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعو مع الله إلهًا آخر, أو يسجد لغير الله, أو يسمي الذبائح لغير الله .
13821- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله, وما ذبح الله فلا تأكلونه, وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ فقال الله: لئن أطعتموهم فأكلتم الميتة، إنكم لمشركون .
13822- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)، قال: كانوا يقولون: ما ذكر الله عليه وما ذبحتم فكلوا ! فنـزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) .
13823- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) إلى قوله: (ليجادلوكم)، قال يقول: يوحي الشياطين إلى أوليائهم: تأكلون ما قتلتم, ولا تأكلون مما قتل الله! فقال: إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه, وإن الذي مات لم يذكر اسم الله عليه .
13824- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)، هذا في شأن الذبيحة. قال: قال المشركون للمسلمين: تزعمون أن الله حرم عليكم الميتة, وأحل لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم, وحرم عليكم ما ذبح هو لكم ؟ وكيف هذا وأنتم تعبدونه! فأنـزل الله هذه الآية: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، إلى قوله: (لمشركون) .
* * *
وقال آخرون: كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قومًا من اليهود .
* ذكر من قال ذلك:
13825- حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع قالا حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس = قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهودُ النبي صلى الله عليه وسلم = وقال ابن وكيع: جاءت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم = فقالوا: نأكل ما قتلنا, ولا نأكل ما قتل الله ! فأنـزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم = وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم= وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس= وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك, كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ، [سورة الأنعام: 112]. بل ذلك الأغلب من تأويله عندي, لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس, كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيَّنَ من الأقوال الباطلة, ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرمَ الله من الميتة عليهم .
* * *
واختلف أهل التأويل في الذي عنى الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه.
فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لآلهتها .
* ذكر من قال ذلك:
13826- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح . قلت لعطاء: فما قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان، كانت تذبحها العرب وقريش .
* * *
وقال آخرون: هي الميتة . (24)
* ذكر من قال ذلك:
13827- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، قال: الميتة .
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ذبيحة لم يذكر اسمُ الله عليها .
* ذكر من قال ذلك:
13828- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جَهِير بن يزيد قال: سُئِل الحسن, سأله رجل قال له: أُتِيتُ بطيرِ كَرًى, (25) فمنه ما ذبح فذكر اسم الله عليه, ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فقال الحسن: كُلْه، كله ! قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . (26)
13829- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن أيوب وهشام, عن محمد بن سيرين, عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين, ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .
13830- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبد الله بن يزيد قال: كنت أجلس إليه في حلقة, فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم, فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون . قال: فجاءه رجل فسأله, فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمِّي؟ فتلا هذه الآية: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، حتى فرغ منها .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عنى بذلك ما ذُبح للأصنام والآلهة, وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته .
وأما من قال: " عنى بذلك: ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله ", فقول بعيد من الصواب، لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله, وكفى بذلك شاهدًا على فساده . وقد بينا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى: " لطيف القول في أحكام شرائع الدين "، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
* * *
وأما قوله "(وإنه لفسق)، فإنه يعني: وإنّ أكْل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة، وما أهل به لغير الله، لفسق " .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى: " الفسق "، في هذا الموضع. (27)
فقال بعضهم: معناه: المعصية .
فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكلَ ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم .
* ذكر من قال ذلك:
13831- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (وإنه لفسق)، قال: " الفسق "، المعصية .
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر .
* * *
وأما قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم)، فقد ذكرنا اختلاف المختلفين في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون) ، والصوابَ من القول فيه = وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم, فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه: إما بقول, وإما برسالة, وإما بكتاب .
* * *
وقد بينا معنى: " الوحي" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (28)
وقد:-
13832- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة, عن أبي زُمَيل قال: كنت قاعدًا عند ابن عباس, فجاءه رجل من أصحابه, فقال: يا ابن عباس, زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة! = يعني المختار بن أبي عبيد = فقال ابن عباس: صدق ! فنفرت فقلت: يقول ابن عباس " صدق "! فقال ابن عباس: هما وحيان، وحي الله, ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد, ووحي الشياطين إلى أوليائهم . ثم قرأ: (وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) . (29)
* * *
وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء، في هذا الموضع . (30)
* * *
ويعني بقوله: (ليجادلوكم)، ليخاصموكم, بالمعنى الذي قد ذكرت قبل . (31)
* * *
وأما قوله: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، فإنه يعني: وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم; كما:-
13833- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (وإن أطعتموهم)، يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه .
13834- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وإن أطعتموهم)، فأكلتم الميتة .
* * *
وأما قوله: (إنكم لمشركون)، يعني: إنكم إذًا مثلهم, إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا. فإذا أنتم أكلتموها كذلك، فقد صرتم مثلهم مشركين .
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم . (32)
* * *
وروي عن الحسن البصري وعكرمة, ما:-
13835- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)، فنسخ واستثنى من ذلك فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [سورة المائدة: 5] .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أن هذه الآية محكمة فيما أنـزلت، لم ينسخ منها شيء, وأن طعام أهل الكتاب حلال، وذبائحهم ذكيّة . وذلك مما حرم الله على المؤمنين أكله بقوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، بمعزل. لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميْتة، وما أهلّ به للطواغيت, وذبائحُ أهل الكتاب ذكية سمُّوا عليها أو لم يسمُّوا، لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله، يدينون بأحكامها, يذبحون الذبائح بأديانهم، كما يذبح المسلم بدينه, سمى الله على ذبيحته أو لم يسمِّه, إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل, أو بعبادة شيء سوى الله, فيحرم حينئذ أكل ذبيحته، سمى الله عليها أو لم يسم .
---------------------
الهوامش :
(14) انظر تفسير (( الفسق )) فيما سلف 11 : 370 ؛ تعليق : 2 والمراجع هناك
(15) (( الفعل )) ، هو المصدر .
(16) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 352
(17) انظر تفسير (( الوحي )) فيما سلف من فهارس اللغة ( وحي ) .
(18) في المطبوعة : (( يوحون إليهم زخرف القول ليصل إلى نبي الله وأصحابه في أكل الميتة )) لم يحسن قراءة المخطوطة ، فاجتهد اجتهادًا ضرب على الجملة فسادًا لا تعرف له غاية . وكان في المخطوطة : (( ... زخرف القول يحد إلى نبي الله )) ، غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها .
(19) يعني : وكانت قريش أولياء فارس وأنصارهم في الجاهلية ، وهي جملة معترضة وضعتها بين خطين .
(20) في المطبوعة والمخطوطة : (( إن ما ذبحت )) ، كأنه خبر ، وهو استفهام واستنكار أن تكون ذبيحة الخلق حلالا ، وذبيحة الله - فيما يزعمون ، وهي الميتة - حرامًا .
(21) (( شمشار )) ، وفي تفسير ابن كثير 3 : 389 : (( بشمشير )) ، وتفسيره في خبر آخر يدل على أن (( الشمشار )) أو (( الشمشير )) ، هو السكين أو النصل ، انظر رقم : 13806 ، وكأن هذا كان من عقائد المجوس ، أن الميتة ذبيحة الله ، ذبحها بشمشار من ذهب !! .
(22) الأثر : 13805 - (( عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي النيسابوري )) ثقة ، صدوق من شيوخ البخاري وأبي حاتم . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 215 .
و (( موسى بن عبد العزيز اليماني العدني القنباري )) ، لا بأس به ، متكلم فيه . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 1 / 292 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 151 .
و (( القنباري )) نسبة إلى (( القنبار )) وهي حبال تفتل من ليف شجر النارجيل ، الذي يقال له : الجوز الهندي ، وتجر بحبال القنبار السفن لقوته .
(23) الأثر : 13809 - (( محمد بن عمار بن الحارث الرازي )) ، أبو جعفر ، روى عن إسحاق بن سليمان والسندي بن عبدويه ، ومؤمل بن إسماعيل ، وكتب عنه ابن أبي حاتم ، وقال : (( وهو صدوق ثقة )) . مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 1 / 43 .
(( سعيد بن سليمان )) ، لم أعرف من يكون فيمن يسمى بذلك ، وأخشى أن يكون صوابه : (( إسحاق بن سليمان الرازي )) ، الذي ذكر ابن حبان أن (( محمد بن عمار يروي عنه )) .
(24) هذه الترجمة : (( وقال آخرون : هي الميتة )) ، ليست في المخطوطة ، ولكن إثباتها كما في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله .
(25) في المطبوعة : (( بطير كذا )) وهو خطأ لا شك فيه . وفي المخطوطة : (( بطير كدى )) برسم الدال ، وهو خطأ لا معنى له . والصواب ما أثبت (( كرى )) ( بفتحتين ) جمع (( الكروان )) وهو طائر بين الدجاجة والحمامة ، حسن الصوت ، يؤكل لحمه ، ذكر صاحب لسان العرب أنه يدعى الحجل والقبيح ، والصحيح أنه ضرب من الطير شبيه به . ويقال له عند صيده (( أطرق كرى ، أطرق كرى ، إن النعام في القرى )) ، فيجبن ويلتصق بالأرض ، فيلقي عليه ثوب فيصاد .
(26) الأثر : 13828 - (( جهير بن يزيد العبدي )) ، حدث عن معاوية بن قرة ، وابن سيرين - روى عنه أبو أسامة ، وموسى بن إسماعيل ، والقعنبي . وثقه يحيى بن معين وابن حبان ، وغيرهما . ولم يذكر فيه البخاري جرحًا . مترجم في تعجيل المنفعة : 74 ، والكبير 1 / 2 / 253 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 547 قال ابن حجر : (( جهير ، بصيغة التصغير ، وقيل : بوزن عظيم )) .
(27) انظر تفسير (( الفسق )) فيما سلف من فهارس اللغة ( فسق ) .
(28) انظر تفسير (( الوحي )) فيما سلف 9 : 399 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(29) الأثر : 13832 - (( أبو زميل )) هو : (( سماك بن الوليد الحنفي )) ، روى عن ابن عباس ، وابن عمر ، ومالك بن مرثد ، وعروة بن الزبير . روى عنه شعبة ، ومسعر ، وعكرمة بن عمار . وهو ثقة مترجم التهذيب ، والكبير 2 / 2 /174 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 280 .
و (( المختر بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي )) ، كذاب متنبئ خبيث ، فقتله الله بيد مصعب بن الزبير وأصحابه سنة 67 من الهجرة ، وله خبر طويل فيه كذبه وما فعل ، وما فعل الناس به .
(30) انظر تفسير (( الولي )) فيما سلف 10 : 497 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(31) انظر تفسير (( الجدال )) فيما سلف من فهارس اللغة ( جدل ) .
(32) انظر (( الناسخ والمنسوخ )) ، لأبي جعفر النحاس صلى الله عليه وسلم : 144 ، قال : (( وفي هذه السورة = يعني سورة الأنعام = شيء قد ذكره قوم هو عن الناسخ والمنسوخ بمعزل ، ولكنا نذكره ليكون الكتاب عام الفائدة ... )) ثم ذكر الآية ، وما قيل في ذلك ، إلى صلى الله عليه وسلم : 146 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يقول تعالى:{ أَوَمَنْ كَانَ} من قبل هداية الله له{ مَيْتًا} في ظلمات الكفر، والجهل، والمعاصي،{ فَأَحْيَيْنَاهُ} بنور العلم والإيمان والطاعة، فصار يمشي بين الناس في النور، متبصرا في أموره، مهتديا لسبيله، عارفا للخير مؤثرا له، مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره، عارفا بالشر مبغضا له، مجتهدا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره. أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات، ظلمات الجهل والغي، والكفر والمعاصي.{ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} قد التبست عليه الطرق، وأظلمت عليه المسالك، فحضره الهم والغم والحزن والشقاء. فنبه تعالى العقول بما تدركه وتعرفه، أنه لا يستوي هذا ولا هذا كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والأحياء والأموات. فكأنه قيل:فكيف يؤثر من له أدنى مسكة من عقل، أن يكون بهذه الحالة، وأن يبقى في الظلمات متحيرا:فأجاب بأنه{ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم، ويزينها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقا. وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفة راسخة ملازمة لهم، فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح. وهؤلاء الذين في الظلمات يعمهون، وفي باطلهم يترددون، غير متساوين. فمنهم:القادة، والرؤساء، والمتبوعون، ومنهم:التابعون المرءوسون، والأولون، منهم الذين فازوا بأشقى الأحوال
ثم ضرب الله مثلا لحال المؤمن والكافر فقال:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.
الهمزة للاستفهام الإنكارى، وهي داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من الكلام السابق.
والتقدير: أأنتم أيها المؤمنون مثل أولئك المشركين الذين يجادلونكم بغير علم وهل يعقل أن من كان ميتا فأعطيناه الحياة وجعلنا له نورا عظيما يمشى به فيما بين الناس آمنا كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
فالآية الكريمة تمثيل بليغ للمؤمن والكافر لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين بعد أن نهاهم صراحة عن طاعتهم قبل ذلك في قوله وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
فمثل المؤمن المهتدى إلى الحق كمن كان ميتا هالكا فأحياه الله وأعطاه نورا يستضيء به في مصالحه، ويهتدى به إلى طرقه. ومثل الكافر الضال كمن هو منغمس في الظلمات لا خلاص له منها فهو على الدوام متحير لا يهتدى فكيف يستويان؟.
والمراد بالنور: القرآن أو الإسلام، والمراد بالظلمات: الكفر والجهالة وعمى البصيرة. فهو كقوله- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.
وقوله: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى: مثل ذلك التزيين الذي تضمنته الآية- وهو تزيين نور الهدى للمؤمنين وظلمات الشرك للضالين قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله- تعالى- وتحليل الحرام، وتحريم الحلال وغير ذلك من المنكرات.
وجمهور المفسرين يرون أن المثل في الآية عام لكل مؤمن وكل كافر وقيل إن المراد بمن أحياه الله وهداه عمر بن الخطاب، والمراد بمن بقي في الظلمات ليس بخارج منها عمرو بن هشام،فقد أخرج ابن أبى الشيخ أن الآية نزلت فيهما، وقيل نزلت في عمار بن ياسر وأبى جهل، وقيل في حمزة وأبى جهل.
والذي نراه أن الآية عامة في كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافرا، وفي كل من بقي على ضلاله مؤثرا الكفر على الإيمان ويدخل في ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا.
ثم سلى الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أن المترفين في كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح، وأن ما لقيه صلى الله عليه وسلم من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شيء رآه الأنبياء قبله على أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال- تعالى-:
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا ، أي : في الضلالة ، هالكا حائرا ، فأحياه الله ، أي : أحيا قلبه بالإيمان ، وهداه له ووفقه لاتباع رسله . ( وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) أي : يهتدي به كيف يسلك ، وكيف يتصرف به . والنور هو : القرآن ، كما رواه العوفي وابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وقال السدي : الإسلام . والكل صحيح .
( كمن مثله في الظلمات ) أي : الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة ، ( ليس بخارج منها ) أي : لا يهتدي إلى منفذ ، ولا مخلص مما هو فيه ، وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " كما قال تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ البقرة : 257 ] . وكما قال تعالى : ( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ) [ الملك : 22 ] ، وقال تعالى : ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ) [ هود : 24 ] ، وقال تعالى : ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير ) [ فاطر : 19 - 23 ] . والآيات في هذا كثيرة ، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات - ما تقدم في أول السورة : ( وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] .
وزعم بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان ، فقيل : عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتا فأحياه الله ، وجعل له نورا يمشي به في الناس . وقيل : عمار بن ياسر . وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها : أبو جهل عمرو بن هشام ، لعنه الله . والصحيح أن الآية عامة ، يدخل فيها كل مؤمن وكافر .
وقوله تعالى : ( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ) أي : حسنا لهم ما هم فيه من الجهالة والضلالة ، قدرا من الله وحكمة بالغة ، لا إله إلا هو ولا رب سواه .
وقوله تعالى "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون" أي حسنا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة قدرا من الله وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
القول في تأويل قوله : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا
قال أبو جعفر: وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدل على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة، بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به, وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرًا, فهداه جلّ ثناؤه لرشده، ووفقه للإيمان. فقال لهم: أطاعة من كان ميتًا, يقول: من كان كافرًا ؟ فجعله جل ثناؤه لانصرافه عن طاعته، وجهله بتوحيده وشرائع دينه، وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته, بمنـزلة " الميت " الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه نازلة=(فأحييناه)، يقول: فهديناه للإسلام, فأنعشناه, فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها, ويعمل في خلاصها من سَخَط الله وعقابه في معاده. فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عَمَاه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس (33) =(كمن مثله في الظلمات)، لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ، لشدة ظلمة الليل وإضلاله الطريق. فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشدًا ولا يعرف حقًّا, = يعني في ظلمات الكفر . يقول: أفَطَاعة هذا الذي هديناه للحق وبصَّرناه الرشاد، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد، لا يعرف المخرج منها، في دعاء هذا إلى تحريم ما حرم الله، وتحليل ما أحل، وتحليل هذا ما حرم الله، وتحريمه ما أحلّ؟
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في رجلين بأعيانهما معروفين: أحدهما مؤمن, والآخر كافر .
ثم اختلف أهل التأويل فيهما.
فقال بعضهم: أما الذي كان مَيْتًا فأحياه الله، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام .
* ذكر من قال ذلك:
13836- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا سليمان بن أبي هوذة, عن شعيب السراج, عن أبي سنان عن الضحاك في قوله: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس)، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه =(كمن مثله في الظلمات)، قال: أبو جهل بن هشام . (34)
* * *
وقال آخرون: بل الميت الذي أحياه الله، عمار بن ياسر رحمة الله عليه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام .
* ذكر من قال ذلك:
13837- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن بشر بن تيم, عن رجل, عن عكرمة: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس)، قال: نـزلت في عمار بن ياسر . (35)
13838- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن بشر, عن تيم, عن عكرمة: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس)، عمار بن ياسر =(كمن مثلة في الظلمات)، أبو جهل بن هشام . (36)
* * *
وبنحو الذي قلنا في الآية قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13839- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (أو من كان ميتًا فأحييناه) قال: ضالا فهديناه=(وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) قال: هدى=(كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)، قال: في الضلالة أبدًا .
13840- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (أو من كان ميتًا فأحييناه)، هديناه=(وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات) في الضلالة أبدًا .
13841- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: (أو من كان ميتًا فأحييناه)، قال: ضالا فهديناه .
13842- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (أو من كان ميتًا فأحييناه)، يعني: من كان كافرًا فهديناه=(وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس)، يعني بالنور، القرآنَ، من صدَّق به وعمل به=(كمن مثله في الظلمات)، يعني: بالظلمات، الكفرَ والضلالة .
13843- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس )، يقول: الهدى=" يمشي به في الناس ", يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام. يقول: كان مشركًا فهديناه=(كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) .
13844- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (أو من كان ميتًا فأحييناه)، هذا المؤمن معه من الله نور وبيِّنة يعمل بها ويأخذ، وإليها ينتهي, كتابَ الله =(كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)، وهذا مثل الكافر في الضلالة، متحير فيها متسكع, لا يجد مخرجًا ولا منفذًا .
13845- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس)، يقول: من كان كافرًا فجعلناه مسلمًا، وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس، وهو الإسلام, يقول: هذا كمن هو في الظلمات, يعني: الشرك .
13846- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس)، قال: الإسلام الذي هداه الله إليه =(كمن مثله في الظلمات)، ليس من أهل الإسلام . وقرأ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، [سورة البقرة: 257]. قال: والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره, وكذلك الذي آتاه الله هذا النور، يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره، (37) كما يستضيء صاحب هذا السراج . قال: (كمن مثله في الظلمات)، لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه .
* * *
القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم = أيها المؤمنون بالله ورسوله، في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم = عن الحق, فزينت له سوءَ عمله فرآه حسنًا، ليستحق به ما أعددت له من أليم العقاب, كذلك زيَّنت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته، ما كانوا يعملون من معاصي الله, ليستوجبوا بذلك من فعلهم، ما لهم عند ربهم من النَّكال . (38)
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوَّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم، فلا صنع له في أفعالهم, (39) وأنه قد سوَّى بين جميعهم في الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية. لأن ذلك لو كان كما قالوا, لكان قد زَيَّن لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر، نظيرَ ما زيَّن من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به ، وزيّن لأهل الكفر به من الإيمان به، نظيرَ الذي زيّن منه لأنبيائه وأوليائه . وفي إخباره جل ثناؤه أنه زين لكل عامل منهم عمله، ما ينبئ عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان, وخصّ أعداءه وأهل الكفر، بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان, وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة .
------------------
الهوامش :
(33) انظر تفسير (( الموت )) ، و (( الإحياء )) فيما سلف من فهارس اللغة ( موت ) و ( حيي ) .
(34) الأثر : 13836 - (( سليمان بن أبي هوذة )) ، روى عن حماد بن سلمة ، [وأبي هلال الراسبي ، وعمرو بن أبي قيس . لم يذكر فيه البخاري جرحًا . وقال أبو زرعة : (( صدوق لا بأس به )) . مترجم في الكبير 2 / 2 / 42 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 148 .
وأما (( شعيب السراج )) ، فلم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب
(35) الأثران : 13837 ، 13838 - (( بشر بن تيم بن مرة )) ، ويقال : (( بشير بن تيم بن مرة )) . وهو في الإسناد الأول ، بينه وبين عكرمة (( عن رجل )) . وقد قال البخاري في الكبير 1 / 2 /96 : (( بشير بن تيم بن مرة )) عن عكرمة ، قاله لنا الحميدي ، عن ابن عيينه . مرسل ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وجعله (( بشيرًا )) وأما ابن أبي حاتم 1 / 1 / 372 فقد ترجمه في (( بشير )) ، كمثل ما قال البخاري ، ولم يذكر (( بشرا )) ، ولكنه ترجمه قبل 1 / 1 / 352 في (( بشر بن تيم )) وقال : (( مكي )) ، روى عنه ابن جريج ، وابن عيينة . سمعت أبي يقول ذلك . وابن عيينة يقول : (( بشير )) . ولكنه هنا في المخطوطة في الموضعين (( بشر بن تيم )) ، في رواية ابن عيينة يقول ، فتركت ما كان في المخطوطة على حاله ، لئلا يكون اختلافًا على ابن عيينة .
(36) الأثران : 13837 ، 13838 - (( بشر بن تيم بن مرة )) ، ويقال : (( بشير ابن تيم بن مرة )) . وهو في الإسناد الأول ، بينه وبين عكرمة (( عن رجل )) . وقد قال البخاري في الكبير 1 / 2 /96 : (( بشير بن تيم بن مرة )) عن عكرمة ، قاله لنا الحميدي ، عن ابن عيينه . مرسل ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وجعله (( بشيرًا )) وأما ابن أبي حاتم 1 / 1 / 372 فقد ترجمه في (( بشير )) ، كمثل ما قال البخاري ، ولم يذكر (( بشرا )) ، ولكنه ترجمة قبل 1 / 1 / 352 في (( بشر بن تيم )) وقال : (( مكي )) ، روى عنه ابن جريج ، وابن عيينة . سمعت أبي يقول ذلك . وابن عيينة يقول : (( بشير )) . ولكنه هنا في المخطوطة في الموضعين (( بشر بن تيم )) ، في رواية ابن عيينة يقول ، فتركت ما كان في المخطوطة على حاله ، لئلا يكون اختلافًا على ابن عيينة .
(37) في المطبوعة : (( في فوره )) بالفاء ، والصواب ما في المخطوطة .
(38) انظر تفسير (( التزيين )) فيما سلف : ص : 37 ، تعليق : ص : 1 ، والمراجع هناك .
(39) (( التفويض ) ، هو زعم القدرية والمعتزلة والإمامية من أهل الفرق ، أن الأمر قد فوض إلى العبد ، فإرادته كافية في إيجاد فعله ، طاعة كان أو معصية ، وهو خالق أفعاله ، والاختيار ، ينفون أن تكون أفعال العباد من خلق الله . وانظر ما سلف 1 : 162 تعليق : 3 / 11 : 340 ، تعليق : 2 ، وانظر ما سيأتي ص : 108 ، تعليق : 1 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 122 | ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
يونس: 12 | ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} أي:الرؤساء الذين قد كبر جرمهم، واشتد طغيانهم{ لِيَمْكُرُوا فِيهَا} بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان، ومحاربة الرسل وأتباعهم، بالقول والفعل، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم، لأنهم يمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين.
أكابر: جمع أكبر، وهم الرؤساء والعظماء في الأمم. والمجرمون: جمع مجرم، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم.
والمعنى: وكما جعلنا في قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا في كل قرية من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها، ويتجبروا على الناس، ثم كانت العاقبة للرسل، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة في كل عصر، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين.
قال الجمل: وقوله: أَكابِرَ مفعول أول لجعل، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه، وفِي كُلِّ قَرْيَةٍ المفعول الثاني لجعل، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه، فهو على حد قوله:
كذا إذا عاد عليه مضمر ... مما به عنه مبينا يخبر
هذا أحسن الأعاريب وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال.
وخص الأكابر بالمكر، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في كفرهم وفجورهم.
قال ابن كثير: والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله- تعالى- إخبارا عن قوم نوح وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وكقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ... الآية . وقوله- سبحانه- وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ.
أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين في كل وقت إلا بأنفسهم، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم في الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين.
فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله في خلقه، وهي أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يصيبه منهم، وبشارة له، ولأصحابه بالنصر عليهم، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير.
وجملة وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يمكرون، وهي تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل.
يقول تعالى : وكما جعلنا في قريتك - يا محمد - أكابر من المجرمين ، ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله ، وإلى مخالفتك وعداوتك ، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ، ثم تكون لهم العاقبة ، كما قال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) [ الفرقان : 31 ] ، وقال تعالى : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) [ الإسراء : 16 ] ، قيل : معناه : أمرناهم بالطاعات ، فخالفوا ، فدمرناهم . وقيل : أمرناهم أمرا قدريا ، كما قال هاهنا : ( ليمكروا فيها ) .
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : ( أكابر مجرميها ) قال : سلطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب .
وقال مجاهد وقتادة : ( أكابر مجرميها ) قال عظماؤها .
قلت : وهذا كقوله تعالى : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) [ سبأ : 34 ، 35 ] ، وقال تعالى : ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) [ الزخرف : 23 ] .
والمراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال ، كما قال تعالى إخبارا عن قوم نوح : ( ومكروا مكرا كبارا ) [ نوح : 22 ] ، وقال تعالى : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) [ سبأ : 31 - 33 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان قال : كل مكر في القرآن فهو عمل .
وقوله : ( وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ) أي : وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم ، كم قال تعالى : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) [ العنكبوت : 13 ] ، وقال ( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) [ النحل : 25 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون, كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها= يعني أهل الشرك بالله والمعصية له=(ليمكروا فيها)، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه =(وما يمكرون) : أي ما يحيق مكرهم ذلك, إلا بأنفسهم , لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله =" وهم لا يشعرون ", يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه, (40) فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13847- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (أكابر مجرميها)، قال: عظماءها .
13848- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .
13849- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (أكابر مجرميها)، قال: عظماءها .
13850- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: نـزلت في المستهزئين = قال ابن جريج، عن عمرو, عن عطاء, عن عكرمة: (أكابر مجرميها)، إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ، بدين الله، وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين .
* * *
والأكابر: جمع " أكبر ", كما " الأفاضل " جمع " أفضل " . ولو قيل: هو جمع " كبير ", فجمع " أكابر ", لأنه قد يقال: " أكبر ", كما قيل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ، [سورة الكهف: 103]، واحدهم " الخاسر "، لكان صوابًا . وحكي عن العرب سماعًا " الأكابرة " و " الأصاغرة ", و " الأكابر "، و " الأصاغر "، بغير الهاء، على نية النعت, كما يقال: " هو أفضل منك " . وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على " أفعل "، إذا أخرجوها إلى الأسماء, مثل جمعهم " الأحمر " و " الأسود "،" الأحامر " و " الأحامرة ", و " الأساود " و " الأساودة "، ومنه قول الشاعر: (41)
إنَّ الأحَـــامِرَة الثَّلاثَــةَ أَهْلَكَــتْ
مَــالِي, وكُـنْتُ بِهِـنّ قِدْمًـا مُولَعًـا
الخَــمْرُ واللَّحْــمُ السِّــمِينُ إدَامُـهُ
والزَّعْفَــرَانُ, فَلَــنْ أرُوحَ مُبَقَّعَــا (42)
* * *
وأما " المكر "، فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر، ليورِّطه الماكر به مكروهًا من الأمر .
----------------------
الهوامش :
(40) انظر تفسير (( شعر )) فيما سلف : ص : 38 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(41) هو الأعشى .
(42) ديوانه 247 ، 248 ، وهي في نسختي المصورة من ديوان الأعشى رقم : 29 ، واللسان (حمر ) وهو أول الشعر . وكان في المطبوعة هنا : (( السمين أديمه )) ، و (( فلن أزال مبقعا )) ، وأثبت ما في المخطوطة وفي مخطوطة الأعشى : (( السمين ، وأطلى بالزعفران وقد أروح مبقعًا )) .
وهكذا جاء في المخطوطة : (( السمين إدامه )) ، والإدام ما يؤتدم به مع الخبز ، أي شيء كان .
وعجيب إضافة الإدام إلى اللحم . ويروى : (( أديمه )) ، ضبطه في اللسان بفتح الألف ، وهو غير مرتضى ، بل الصواب إن شاء الله (( أديمه )) من (( أدام الشيء )) ، إذا أطال زمانه واستمر به .
ورواية أبي جعفر هنا (( فلن أروح مبقعًا )) ، ورواية مخطوطة ديوانه : (( وقد أروح مبقعًا )) ، وهي أجودهما . و (( المبقع )) الذي فيه لون يخالف لونه ، أو لون ما أصابه الماء أو الزعفران أو ما شابههما . يعني أنه يكثر من الزعفران حتى يترك في بشرته لمعا . وأكثر ما كانوا يستعملون الزعفران في أعراسهم ، إذا أعرس الرجل تزعفر . فكني بذلك عن كثرة زواجه .
وفي البيت روايات أخرى ، راجعها في حواشي ديوانه ، في ذيل الديوان .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 112 | ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ﴾ |
---|
الأنعام: 123 | ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾ |
---|
الفرقان: 31 | ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
أكابر:
وقرئ:
أكبر، وهى قراءة ابن مسلم.
التفسير :
وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم، يناضلون هؤلاء المجرمين، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله، ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك، ويعينهم الله ويسدد رأيهم، ويثبت أقدامهم، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم، حتى يدول الأمر في عاقبته بنصرهم وظهورهم، والعاقبة للمتقين. وإنما ثبت أكابر المجرمين على باطلهم، وقاموا برد الحق الذي جاءت به الرسل، حسدا منهم وبغيا، فقالوا:{ لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} من النبوة والرسالة. وفي هذا اعتراض منهم على الله، وعجب بأنفسهم، وتكبر على الحق الذي أنزله على أيدي رسله، وتحجر على فضل الله وإحسانه. فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير، ولا فيهم ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين، فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين، فقال:{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فيمن علمه يصلح لها، ويقوم بأعبائها، وهو متصف بكل خلق جميل، ومتبرئ من كل خلق دنيء، أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصلا وتبعا، ومن لم يكن كذلك، لم يضع أفضل مواهبه، عند من لا يستأهله، ولا يزكو عنده. وفي هذه الآية، دليل على كمال حكمة الله تعالى، لأنه، وإن كان تعالى رحيما واسع الجود، كثير الإحسان، فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله، ثم توعد المجرمين فقال:{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} أي:إهانة وذل، كما تكبروا على الحق، أذلهم الله.{ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} أي:بسبب مكرهم، لا ظلما منه تعالى.
ثم حكى القرآن لونا من ألوان مكرهم فقال: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.
أى: وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم «لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها» حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك، قالوا حسدا لك، لن نؤمن لك يا محمد حتى نعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلى الله عليه وسلم من الوحى والرسالة.
روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سنا وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية» .
وقال مقاتل: نزلت في أبى جهل وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد المطلب في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فأنزل الله هذه الآية» .
وقد رد الله- تعالى- على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أى: الله- سبحانه- أعلم منهم ومن كل أحد بالموضع الصالح للرسالة فيضعها فيه فهو- سبحانه- يختار لها بحكمته وعلمه من يستحقها وينهض بها. ويهب نفسه لها، وينسى في سبيلها ذاته.
قال الإمام الرازي: وقوله- تعالى- اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أى: أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله- تعالى- ثم قال: وفي هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد، وقوله لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عين المكر والغدر والغل والحسد، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات» » .
وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه.
ولذا قال الإمام الآلوسى: وجملة اللَّهُ أَعْلَمُ ... إلخ. استئناف بيانى، والمعنى: أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد، وتعاضد الأسباب والعدد، وإنما ينال بفضائل نفسانية، ونفس قدسية أفاضها الله- تعالى- بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده» .
هذا. وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله- عز وجل- اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى الله عليه وسلم» .
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» .
ثم بين- سبحانه- عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ.
قال القرطبي ما ملخصه: الصغار: الضيم والذل والهوان. والمصدر الصغر بالتحريك- وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل: أصله من الصغر وهو الرضا بالذل. والصاغر: الراضي بالذل. وأرض مصغرة: نبتها صغير لم يطل. ويقال: صغر- بالكسر- يصغر صغرا وصغارا فهو صاغر إذا ذل وهان» .
والمعنى: سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله في الدنيا والآخرة، وبسبب مكرهم المستمر، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه.
والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله، والسين للتأكيد.
والعندية في قوله «عند الله» مجاز عن حشرهم يوم القيامة، أو عن حكمه سبحانه- وقضائه فيهم بذلك، كقولهم: ثبت عند فلان القاضي كذا أى: في حكمه، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا.
قال ابن كثير: ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال:
هذه غدرة فلان بن فلان» والحكمة في ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل» .
وقوله : ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي : إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة ، قالوا : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي : حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة ، كما تأتي إلى الرسل ، كقوله ، جل وعلا ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ) [ الفرقان : 21 ] .
وقوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) أي : هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه ، كما قال تعالى : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك ) الآية [ الزخرف : 31 ، 32 ] يعنون : لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجل في أعينهم ( من القريتين ) أي : مكة والطائف . وذلك لأنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بغيا وحسدا ، وعنادا واستكبارا ، كما قال تعالى مخبرا عنهم : ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ) [ الأنبياء : 36 ] ، وقال تعالى : ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ) [ الفرقان : 41 ] ، وقال تعالى : ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) [ الأنعام : 10 ] . هذا وهم يعترفون بفضله وشرفه ونسبه . وطهارة بيته ومرباه ومنشئه ، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه : " الأمين " ، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار " أبو سفيان " حين سأله " هرقل " ملك الروم : كيف نسبه فيكم؟ قال : هو فينا ذو نسب . قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا . الحديث بطوله الذي استدل به ملك الروم بطهارة صفاته ، عليه السلام ، على صدقه ونبوته وصحة ما جاء به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن شداد أبي عمار ، عن واثلة بن الأسقع ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم "
انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي - وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام - به نحوه .
وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا ، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه "
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن المطلب بن أبي وداعة قال : قال العباس : بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس ، فصعد المنبر فقال : " من أنا؟ " قالوا : أنت رسول الله . قال : " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة . وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " صدق صلوات الله وسلامه عليه .
وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال لي جبريل : قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم " رواه الحاكم والبيهقي . وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر ، حدثنا عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته . ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ .
وقال أحمد : حدثنا شجاع بن الوليد قال : ذكر قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا سلمان ، لا تبغضني فتفارق دينك " قلت : يا رسول الله ، كيف أبغضك وبك هدانا الله؟ قال : " تبغض العرب فتبغضني "
وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية : ذكر عن محمد بن منصور الجواز ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي حسين قال : أبصر رجل ابن عباس وهو يدخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه ، فقال : من هذا؟ قالوا : ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .
وقوله تعالى : ( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد ، لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاءوا به ، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله ) صغار ) وهو الذلة الدائمة ، لما أنهم استكبروا أعقبهم ذلك ذلا كما قال تعالى : ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [ غافر : 60 ] أي : صاغرين ذليلين حقيرين .
وقوله : ( وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد جزاء وفاقا ، ( ولا يظلم ربك أحدا ) [ الكهف : 49 ] ، كما قال تعالى : ( يوم تبلى السرائر ) [ الطارق : 9 ] أي : تظهر المستترات والمكنونات والضمائر . وجاء في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ، فيقال : هذه غدرة فلان ابن فلان "
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل .
القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم، ليصدّوا عن سبيل الله =(آية)، يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد من عند الله وحقيقته (43) = قالوا لنبي الله وأصحابه: =(لن نؤمن)، يقول: يقولون: لن نصدق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به, وبما جاء به من تحريم ما ذكر أنّ الله حرّمه علينا=(حتى نؤتى)، يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر, وعيسى من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص . (44) يقول تعالى ذكره: (الله أعلم حيث يجعل رسالته)، يعني بذلك جل ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لن يُعطاها من البشر إلا رسول مرسل, (45) وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها . يقول جل ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي، ومن هو لها أهل, فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم, لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه, والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته .
* * *
القول في تأويل قوله : سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, معلِّمَه ما هو صانع بهؤلاء المتمردين عليه: " سيصيب "، يا محمد، (46) الذين اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره =(صغار)، يعني: ذلة وهوان ، كما:-
13851- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله)، قال: " الصغار "، الذلة .
* * *
وهو مصدر من قول القائل: " صَغِرَ يصغَرُ صَغارًا وصَغَرًا ", وهو أشدّ الذلّ .
* * *
وأما قوله: (صغار عند الله)، فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله, كقول القائل: " سيأتيني رزقي عند الله ", بمعنى: من عند الله, يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله . وغير جائز لمن قال: " سيصيبهم صغار عند الله "، أن يقول: " جئت عند عبد الله "، بمعنى: جئت من عند عبد الله, لأن معنى " سيصيبهم صغارٌ عند الله "، سيصيبهم الذي عند الله من الذل، بتكذيبهم رسوله. فليس ذلك بنظير: " جئت من عند عبد الله " . (47) .
* * *
وقوله: (وعذاب شديد بما كانوا يمكرون)، يقول: يصيب هؤلاء المكذبين بالله ورسوله، المستحلين ما حرَّم الله عليهم من الميتة، مع الصغار عذابٌ شديد، بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل، والزخرف من القول، غرورًا لأهل دين الله وطاعته . (48)
----------------------
الهوامش :
(43) انظر تفسير (( آية )) فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .
(44) انظر تفسير (( الإيتاء )) فيما سلف من فهارس اللغة ( أتى ) .
(45) في المطبوعة : (( لم يعطها )) ، وفي المخطوطة : ما أثبت ، وهو صواب محض .
(46) انظر تفسير (( الإصابة )) فيما سلف : 11 : 170 ، تعليق 2 ، والمراجع هناك .
(47) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 253 = تفسير (( عند )) فيما سلف 2 : 501/7 : 490/8 : 555 .
(48) انظر تفسير (( المكر )) فيما سلف قريبًا ص : 95
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 124 | ﴿وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّـهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ |
---|
التوبة: 90 | ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء