ترتيب المصحف | 3 | ترتيب النزول | 89 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 27.00 |
عدد الآيات | 200 | عدد الأجزاء | 1.30 |
عدد الأحزاب | 2.60 | عدد الأرباع | 10.60 |
ترتيب الطول | 3 | تبدأ في الجزء | 3 |
تنتهي في الجزء | 4 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 2/29 | آلم: 2/6 |
بعدَ ذمِّ البخلِ تأتي مقالةُ اليهودِ عن الصَّدقةِ وسوءُ أدبِهم معَ اللهِ لمَّا قالُوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، وقتلُهم الأنبياءِ، وكَذِبُهم على اللهِ، وتكذيبُهم النَّبي ﷺ كما كَذَّبُوا مَن قبلَهُ.
بعدَ تسليةِ النَّبي ﷺ عمَّا يلاقي بذكرِ ما لقيَ إخوانُه من الرُّسلِ أعادَ التسليةَ هنا بأن الكلَّ سيموتُ وسيلاقي حسابَه، وأن الدُّنيا دارُ ابتلاءٍ، ثُمَّ دعا المؤمنينَ إلى الصبرِ على الأذى الذي سيلاقونه.
التفسير :
يخبر تعالى، عن قول هؤلاء المتمردين، الذين قالوا أقبح المقالة وأشنعها، وأسمجها، فأخبر أنه قد سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه، مع أفعالهم الشنيعة، وهو:قتلهم الأنبياء الناصحين، وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة، وأنه يقال لهم -بدل قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء-{ ذوقوا عذاب الحريق} المحرق النافذ من البدن إلى الأفئدة، وأن عذابهم ليس ظلما من الله لهم، فإنه{ ليس بظلام للعبيد} فإنه منزه عن ذلك، وإنما ذلك بما قدمت أيديهم من المخازي والقبائح، التي أوجبت استحقاقهم العذاب، وحرمانهم الثواب. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود، تكلموا بذلك، وذكروا منهم "فنحاص بن عازوراء"من رؤساء علماء اليهود في المدينة، وأنه لما سمع قول الله تعالى:{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}{ وأقرضوا الله قرضا حسنا} قال:-على وجه التكبر والتجرهم- هذه المقالة قبحه الله، فذكرها الله عنهم، وأخبر أنه ليس ببدع من شنائعهم، بل قد سبق لهم من الشنائع ما هو نظير ذلك، وهو:{ قتلهم الأنبياء بغير حق} هذا القيد يراد به، أنهم تجرأوا على قتلهم مع علمهم بشناعته، لا جهلا وضلالا، بل تمردا وعنادا.
قال ابن كثير: عن ابن عباس قال: لما نزل قوله- تعالى- مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قالت اليهود: يا محمد!! افتقر ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله هذه الآية.
وروى محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق بيت المدارس . فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له «فنحاص» وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له «أشيع» . فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم. ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا.
فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ...
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا محمد: أبصر ما صنع بي صاحبك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله. إن عدو الله قال قولا عظيما. يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء. فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه.
فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله فيما قال فنحاص: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا ... .
والمعنى: لقد سمع الله- تعالى- قول أولئك اليهود الذين نطقوا بالزور والفحش فزعموا أن الله- تعالى- فقير وهم أغنياء.
والمقصود من هذا السمع لازمه وهو العلم والإحاطة بما يقولون من قبائح، ثم محاسنهم على ما تفوهوا به من أقوال، وما ارتكبوه من أعمال، ومعاقبتهم على جرائمهم بالعقاب المهين الذين يستحقونه.
وقوله سَنَكْتُبُ ما قالُوا، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أى سنسجل عليهم في صحائف أعمالهم قولهم هذا، كما سنسجل عليهم قتلهم أنبياء الله بغير حق، فالإسناد مجازى والكتابة حقيقية.
أو المعنى: سنحفظه في علمنا ولا نهمله، وسنعاقبهم بما يستحقون من عقوبات، فيكون الإسناد حقيقة والكتابة مجاز.
والسين للتأكيد، أى لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته، بل سنسجله عليهم ونعاقبهم عليه عقابا أليما بسبب أقوالهم القبيحة، وأعمالهم المنكرة.
وقد قرن- سبحانه- قولهم المنكر هذا، يفعل شنيع من أفعال أسلافهم، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وذلك لإثبات أصالتهم في الشر، واستهانتهم بالحقوق الدينية، وللتنبيه على أن قولهم هذا ليس أول جريمة ارتكبوها، ومعصية استباحوها، فقد سبق لأسلافهم أن قتلوا الأنبياء بغير حق، وللإشعار بأن هاتين الجريمتين من نوع واحد، وهو التجرؤ على الله- تعالى-، فقتل الأنبياء هو تعد على أمناء الله في الأرض الذين اختارهم لتبليغ رسالاته، وقولهم إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وهو تطاول على ذات الله، وكذب عليه، ووصف له بما لا يليق به- سبحانه- وبهذا كله يكونون قد عتوا عتوا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا.
وأضاف- سبحانه- القتل إلى المعاصرين للعهد النبوي من اليهود، مع أنه حدث من أسلافهم لأن هؤلاء المعاصرين كانوا راضين بفعل أسلافهم ولم ينكروه وإن لم يكونوا قد باشروه، ومن رضى بجريمة قد فعلها غيره فكأنما قد فعلها هو.
وفي الحديث الشريف: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها.
ووصف- سبحانه- قتلهم للأنبياء بأنه بِغَيْرِ حَقٍّ مع أن هذا الإجرام لا يكون بحق أبدا، للإشارة إلى شناعة أفعالهم، وضخامة شرورهم، وأنهم لخبث نفوسهم، وقسوة قلوبهم لا يبالون أكان فعلهم في موضعهم أم في غير موضعه.
ثم صرح- سبحانه بالعقوبة بعد أن كنى عنها فقال: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أى:
سنجازيهم بما فعلوا، ونلقى بهم في جهنم، مخاطبين إياهم بقولنا: ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة التي كنتم بها تكذبون.
ففي الآية الكريمة إيجاز بالحذف دل عليه سياق الكلام.
والذوق حقيقته إدراك المطعومات، والأصل فيه أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه، والتعبير به هنا عن ذوق العذاب هو لون من التهكم عليهم، والاستهزاء بهم كما في قوله- تعالى- فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) [ البقرة : 245 ] قالت اليهود : يا محمد ، افتقر ربك . يسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) الآية . رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : دخل أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، بيت المدراس ، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له : أشيع . فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل ، فقال فنحاص : والله - يا أبا بكر - ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير . ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطناه ولو كان غنيا ما أعطانا الربا ، فغضب أبو بكر ، رضي الله عنه ، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ، فاكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبصر ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " ما حملك على ما صنعت ؟ " فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قد قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص وقال : ما قلت ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) الآية . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( سنكتب ما قالوا ) تهديد ووعيد ، ولهذا قرنه بقوله : ( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) أي : هذا قولهم في الله ، وهذه معاملتهم لرسل الله ، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء
القول في تأويل قوله : لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نـزلت في بعض اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الآثار بذلك:
8300 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المِدْراس، فوجد من يهودَ ناسًا كثيرًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فِنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له أشيْع. فقال أبو بكر رضي الله عنه &; 7-442 &; لفنحاص: ويحك يا فِنحاص، اتق الله وأسلِم، فوالله إنك لتعلم أنّ محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحقّ من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل! قال فنحاص: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيُّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم! ينهاكم عن الربا ويعطيناه! ولو كان عنا غنيًّا ما أعطانا الربا! (1) فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عُنقك يا عدو الله! فأكذِبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيمًا، زعم أنّ الله فقير وأنهم عنه أغنياء! فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربتُ وجهه. فجحد ذلك فنحاص وقال: ما قلت ذلك! فأنـزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص، ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر: " لقد سَمِع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتبُ ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق " = وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [سورة آل عمران: 186]. (2)
8301 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: دخل أبو بكر = فذكر نحوه، غير أنه قال: " وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغنيٍّ، ولو كان غنيًّا "، ثم ذكر سائر الحديث نحوه. (3)
8302 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء "، قالها فنحاص اليهوديّ من بني مَرثد، لقيه أبو بكر فكلمه فقال له: يا فنحاص، اتق الله وآمن وصدِّق، وأقرض الله قرضًا حسنًا! فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أن ربنا فقير يستقرِضنا أموالنا! وما يستقرض إلا الفقير من الغني! إن كان ما تقول حقًّا، فإن الله إذًا لفقير! فأنـزل الله عز وجل هذا، فقال أبو بكر: فلولا هُدنة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني مَرثد لقتلته.
8303 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: صك أبو بكر رجلا منهم = الذين قالوا: " إنّ الله فقير ونحن أغنياء "، لم يستقرضنا وهو غني؟! وهم يهود.
8304 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: " الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء "، لم يستقرضنا وهو غني؟= قال شبل: بلغني أنه فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: " إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ" و " يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ".
8305 - حدثنا ابن حميد قال، حدثني يحيى بن واضح قال، حدثت عن عطاء، عن الحسن قال، لما نـزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة البقرة: 245 سورة الحديد: 11] قالت اليهود: إنّ ربكم يستقرض منكم! فأنـزل الله: " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء ".
8306 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن الحسن البصري قال: لما نـزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا قال: عجبت اليهود فقالت: إن الله فقير يستقرض! فنـزلت: " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء ".
8307 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء "، ذكر لنا أنها نـزلت في حُيَيّ بن أخطب، لما أنـزل الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً قال: يستقرضنا ربنا، إنما يستقرض الفقير الغنيَّ!
8308 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نـزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ، قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني!! قال: فأنـزل الله: " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء ".
8309 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله: " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء "، قال: هؤلاء يهود. (4)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود: " إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه "، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم، وقتلهم أنبياءهم بغير حق.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " سنكتب ما قالوا وقتلهم ".
فقرأ ذلك قرأة الحجاز وعامة قرأة العراق: ( سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ) بالنون، " وقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بغير حقٍّ" بنصب " القتل ".
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: ( " سَيُكْتَبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ " ) بالياء من " سيكتب " وبضمها، ورفع " القتل "، على مذهب ما لم يسمّ فاعله، اعتبارًا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله: " ونقول ذوقوا "، يذكر أنها في قراءة عبد الله: " ويُقَالُ". (5)
فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تُنسب إلى عبد الله، وخالف الحجة من قرأة الإسلام. وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ: " سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء " على وجه ما لم يسم فاعله، أن يقرأ: " ويقال "، لأن قوله: " ونقول " عطف على قوله: " سنكتب ". فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعًا على مذهب ما لم يسم فاعله، أو على مذهب ما يسمى فاعله. فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله، والآخر على وجه ما قد سُمِّي فاعله، من غير معنى ألجأه على ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب. (6)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: " سَنَكْتُب " بالنون " وقَتْلَهُمْ" بالنصب، لقوله: " وَنَقُول "، ولو كانت القراءة في" سيكتب " بالياء وضمها، لقيل: " ويقال "، على ما قد بيّنا.
* * *
فإن قال قائل: كيف قيل: " وقتلهم الأنبياء بغير حق "، وقد ذكرت في الآثار التي رويتَ، أن الذين عنوا بقوله: (7) " لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ" بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من أولئك أحدٌ قتل نبيًا من الأنبياء، لأنهم لم يدركوا نبيًا من أنبياء الله فيقتلوه؟
قيل: إنّ معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه. وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية، كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء، وكانوا منهم وعلى منهاجهم، من استحلال ذلك واستجازته. فأضاف جلّ ثناؤه فعلَ ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته، إلى جميعهم، إذ كانوا أهل ملة واحدة ونحْلة واحدة، وبالرِّضى من جميعهم فَعل ما فعل فاعلُ ذلك منهم، على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل. (8)
* * *
القول في تأويل قوله : وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " ونقول " للقائلين بأن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، القاتلين أنبياء الله بغير حقّ يوم القيامة=" ذوقوا عذاب الحريق "، يعني بذلك: عذاب نار محرقة ملتهبة. (9)
* * *
و " النار " اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة، وإنما " الحريق " صفة لها يراد أنها محرقة، كما قيل: " عذابٌ أليم " يعني: مؤلم، و " وجيع " يعني: موجع.
----------------------------
الهوامش :
(1) كان في المخطوطة سقط بين ، فيها: "وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيًا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر" ، واستدركت المطبوعة هذا السقط من الدر المنثور فيما أرجح (2: 105) ، فتركته كما هو ، لموافقته لما جاء في تفسير ابن كثير 2: 308 ، وإن خالف رواية ابن هشام في سيرته ، في بعض ألفاظ.
(2) الأثران: 8300 ، 8301 - سيرة ابن هشام 2: 207 ، 208 ، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7695 ، مما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق.
(3) انظر خبر فنحاص أيضًا في الأثر الآتي رقم: 8316.
(4) في المطبوعة: "هؤلاء اليهود" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) هذا كلام الفراء بلا شك ، في معاني القرآن 1: 249 ، ولكن وقع في نسخ الفراء خرم لم يتنبه إليه مصححو المطبوعة ، تمامه مما ذكره الطبري ورواه عنه كعادته. والنص الذي في المطبوعة من معاني القرآن: "وقرئ: سيكتب ما قالوا ، قرأها حمزة اعتبارًا ، لأنها في مصحف عبد الله" ، وانقطع الكلام ، فظاهر أن فيه سقطًا ، وظاهر أن تمامه ما رواه الطبري من قراءة عبد الله التي اعتبر بها حمزة في قراءة"سيكتب".
(6) المعروف في كلامهم"ألجأه إلى كذا" ، واستعمل الطبري"ألجأه عليه" بمعنى حمله عليه ، على إرادة التضمين ، وهو كلام فصيح لا يعاب ، وهو من النوادر التي لم أجدها في كتاب ، وإن كنت أذكر أني قرأتها في بعض كتب الشافعي رحمه الله ، وغاب اليوم عني مكانها.
(7) في المطبوعة: "وقد ذكرت الآثار التي رويت" ، أسقطت"في" ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(8) انظر ما سلف 2: 23 ، 24 ، 38 ، 39 ، 164 ، 165 وفهارس المباحث في الجزء الثاني ص 611 ، "إضافة أفعال الأسلاف إلى الأبناء. . .".
(9) تفسير"الحريق" كما فسره أبو جعفر ، مما لا تكاد تظفر به في كتب اللغة ، بل قالوا: الحريق: اضطرام النار وتلهبها. والحريق أيضًا اللهب". وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 110 ، ونصه: "النار اسم جامع ، تكون نارًا وهي حريق وغير حريق ، فإذا التهبت ، فهي حريق".
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 112 | ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ |
---|
آل عمران: 181 | ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ |
---|
النساء: 155 | ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّـهِ وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
سنكتب ما قالوا وقتلهم:
قرئ:
1- سنكتب، بالنون، و «قتلهم» بالنصب، وهى قراءة الجمهور.
2- سيكتب، بالياء، على الغيبة، مبنيا للفاعل، وهى قراءة الحسن، والأعرج.
3- سيكتب، بالياء، مبنيا للمفعول، و «قتلهم» بالرفع، عطفا على «ما» ، إذ هى مرفوعة ب «سيكتب» .
4- سنكتب ما يقولون، وهى قراءة طلحة بن مصرف.
5- ستكتب ما قالوا، بتاء مضمومة، على معنى «مقالتهم» ، حكاها الداني عن طلحة بن مصرف.
ونقول:
قرئ:
1- بالنون، وهى قراءة الجمهور، والضمير لله سبحانه وتعالى، أو للملائكة.
2- ويقال، وهى قراءة ابن مسعود.
3- ونقول لهم، ورويت عن أبى معاذ النحوي، فى حرف ابن مسعود.
التفسير :
يخبر تعالى، عن قول هؤلاء المتمردين، الذين قالوا أقبح المقالة وأشنعها، وأسمجها، فأخبر أنه قد سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه، مع أفعالهم الشنيعة، وهو:قتلهم الأنبياء الناصحين، وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة، وأنه يقال لهم -بدل قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء-{ ذوقوا عذاب الحريق} المحرق النافذ من البدن إلى الأفئدة، وأن عذابهم ليس ظلما من الله لهم، فإنه{ ليس بظلام للعبيد} فإنه منزه عن ذلك، وإنما ذلك بما قدمت أيديهم من المخازي والقبائح، التي أوجبت استحقاقهم العذاب، وحرمانهم الثواب. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود، تكلموا بذلك، وذكروا منهم "فنحاص بن عازوراء"من رؤساء علماء اليهود في المدينة، وأنه لما سمع قول الله تعالى:{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}{ وأقرضوا الله قرضا حسنا} قال:-على وجه التكبر والتجرهم- هذه المقالة قبحه الله، فذكرها الله عنهم، وأخبر أنه ليس ببدع من شنائعهم، بل قد سبق لهم من الشنائع ما هو نظير ذلك، وهو:{ قتلهم الأنبياء بغير حق} هذا القيد يراد به، أنهم تجرأوا على قتلهم مع علمهم بشناعته، لا جهلا وضلالا، بل تمردا وعنادا.
ثم صرح- سبحانه- بأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم بوقوعهم في العذاب المحرق فقال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
أى: ذلك العذاب الشديد الذي حاق بكم- أيها اليهود- بسبب ما قدمته أيديكم من عمل سىء، وما نطقت به أفواهكم من قول منكر، فقد اقتضت حكمته وعدالته ألا يعذب إلا من يستحق العذاب، وأنه- سبحانه- لا يظلم عباده مثقال ذرة. واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد. والمراد بالأيدى الأنفس، والتعبير بالأيدى عن الأنفس من قبيل التعبير بالجزء عن الكل.
وخصت الأيدى بالذكر، للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته، ولأن أكثر الأفعال يكون عن طريق البطش بالأيدى، ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به والاتصال بذاته.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف على قوله بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ فهو داخل تحت حكم باء السببية، وسببيته للعذاب من حيث إن نفى الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسيء ...
وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم ... وقيل إن صيغة «ظلام» للنسب كعطار أى: لا ينسب إليه الظلم أصلا» .
ولهذا قال : ( ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتحقيرا وتصغيرا .
وأما قوله: " ذلك بما قدمت أيديكم "، أي: قولنا لهم يوم القيامة،" ذوقوا عذاب الحريق "، بما أسلفت أيديكم واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا، (10) وبأن الله عَدْل لا يجورُ فيعاقب عبدًا له بغير استحقاق منه العقوبةَ، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت، ويوفّي كل عامل جزاء ما عمل، فجازى الذين قال لهم [ذلك] يوم القيامة (11) = من اليهود الذين وصف صفتهم، فأخبر عنهم أنهم قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ، وقتلوا الأنبياء بغير حق = بما جازاهم به من عذاب الحريق، بما اكتسبوا من الآثام، واجترحوا من السيئات، وكذبوا على الله بعد الإعذار إليهم بالإنذار. فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالمًا، ولا واضعًا عقوبته في غير أهلها. وكذلك هو جل ثناؤه، غيرُ ظلام أحدًا من خلقه، ولكنه العادل بينهم، والمتفضل على جميعهم بما أحبّ من فَوَاضله ونِعمه.
----------------------
الهوامش:
(10) انظر تفسير"بما قدمت أيديهم" فيما سلف 2: 367 ، 368.
(11) الزيادة بين القوسين لا بد منها لاستقامة الكلام ، ويعني بقوله: "الذي قال لهم ذلك" ، أي قال لهم: "ذوقوا عذاب الحريق". وسياق العبارة: "فجازى الذين قال لهم ذلك يوم القيامة. . . بما جازاهم به من عذاب الحريق".
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 182 | ﴿ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّـهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ |
---|
الأنفال: 51 | ﴿ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّـهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ |
---|
الحج: 10 | ﴿ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّـهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يخبر تعالى عن حال هؤلاء المفترين القائلين:{ إن الله عهد إلينا} أي:تقدم إلينا وأوصى،{ ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} فجمعوا بين الكذب على الله، وحصر آية الرسل بما قالوه، من هذا الإفك المبين، وأنهم إن لم يؤمنوا برسول لم يأتهم بقربان تأكله النار، فهم -في ذلك- مطيعون لربهم، ملتزمون عهده، وقد علم أن كل رسول يرسله الله، يؤيده من الآيات والبراهين، ما على مثله آمن البشر، ولم يقصرها على ما قالوه، ومع هذا فقد قالوا إفكا لم يلتزموه، وباطلا لم يعملوا به، ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لهم:{ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات} الدالات على صدقهم{ وبالذي قلتم} بأن أتاكم بقربان تأكله النار{ فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} أي:في دعواهم الإيمان برسول يأتي بقربان تأكله النار، فقد تبين بهذا كذبهم، وعنادهم وتناقضهم.
ثم ذكر- سبحانه- رذيلة أخرى من رذائل اليهود فقال: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ.
وقوله الَّذِينَ قالُوا إِنَّ.. إلخ. في محل نصب بتقدير: أعنى. أو في محل رفع بتقدير: هم الذين قالوا. ويجوز أن يكون في محل جر على البدلية من قوله الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ.
والمراد بالموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف، وفنحاص بن عازوراء، وحي بن أخطب ... وغيرهم، فقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا له هذا القول وهو: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا ... إلخ.
والقربان هو ما يتقرب به إلى الله من نعم أو غير ذلك من القربات.
والمعنى: أن عذابنا الأليم سيصيب أولئك اليهود الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قالوا إن الله أمرنا في التوراة وأوصانا بأن لا نصدق ونعترف لرسول يدعى الرسالة إلينا من قبل الله- تعالى- حتى يأتينا بقربان يتقرب به إلى الله، فتنزل نار من السماء فتأكل هذا القربان، فإذا فعل ذلك كان صادقا في رسالته.
ومقصدهم من وراء هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم، أن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظين على عهود الله. وأنهم ما تركوا الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم حسدا له، وإنما تركوا الإيمان به، لأنه لم يأت بالمعجزات التي أتى بها الأنبياء السابقون، فهم معذورون إذا لم يؤمنوا به لأنه ليس نبيا صادقا- في زعمهم-.
ولا شك أن قولهم هذا ظاهر البطلان، لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول، إذ أن آيات الله في إثبات رسالات رسله متعددة النواحي، مختلفة المناهج، وكون هذا الإتيان بالقربان الذي تأكله النار معجزة لبعض الرسل لا يستدعى أن يكون معجزة لجميعهم ولذا فقد أمر الله- تعالى- رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بما يبطل قولهم فقال: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
أى: قل لهم يا محمد قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي كثير عددهم «بالبينات» أى بالحجج الواضحة، وبالمعجزات الساطعة الدالة على صدقهم وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أى وجاءكم هؤلاء الرسل بالقربان الذي تأكله النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ بعد أن جاءوكم بتلك المعجزات الباهرة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أنكم تتبعون الحق، وتطيعون الرسل متى أتوكم بما يشهد بصدقهم؟.
فالجملة الكريمة ترد على هؤلاء اليهود بأبلغ الوجوه التي تثبت كذبهم فيما يدعون، لأن قتلهم للأنبياء بعد أن جاءوهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صدقهم، دليل على أن هؤلاء اليهود قد بلغوا منتهى الجحود والظلم والعدوان، وأن دعواهم أن إيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم متوقف على مجيئه بالقربان الذي تأكله النار دعوى كاذبة، لأن من جاءهم بالقربان كان جزاؤه القتل منهم ...
قال الفخر الرازي: وقد بين الله بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد وإنما على سبيل التعنت. وذلك لأن أسلافهم طلبوا هذه المعجزة من الأنبياء المتقدمين مثل: زكريا ويحيى وعيسى، فلما أظهروا لهم هذا المعجزة سعوا في قتلهم بعد أن قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة. وذلك يدل على أن مطالبهم كانت على سبيل التعنت إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما سعوا في قتلهم، ومتأخرو اليهود راضون بفعل متقدميهم. وهذا يقتضى كونهم متعنتين- أيضا- في مطالبهم. ولهذا لم يجبهم الله فيها» .
وقوله : ( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ) يقول تعالى تكذيبا أيضا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها . قاله ابن عباس والحسن وغيرهما . قال الله تعالى : ( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات ) أي : بالحجج والبراهين ( وبالذي قلتم ) أي : وبنار تأكل القرابين المتقبلة ( فلم قتلتموهم ) أي : فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم ( إن كنتم صادقين ) أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل .
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لقد سمع الله قول الذين قالوا: " إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول ".
* * *
وقوله: " الذين قالوا إن الله "، في موضع خفض ردًّا على قوله: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ .
* * *
ويعني بقوله: " قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول "، أوصانا، وتقدم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه (12) =" أن لا نؤمن لرسول "، يقول: أن لا نصدِّق رسولا فيما يقول إنه جاء به من عند الله من أمر ونهي وغير ذلك=" حتى يأتينا بقربان تأكله النار "، يقول: حتى يجيئنا بقربان، وهو ما تقرَّب به العبد إلى ربه من صدقة.
* * *
وهو مصدر مثل " العدوان " و " الخسران " من قولك: " قرَّبتُ قربانًا ".
وإنما قال: " تأكله النار "، لأن أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان، كان دليلا على قبول الله منه ما قرِّب له، ودلالة على صدق المقرِّب فيما ادعى أنه محق فيما نازع أو قال، كما:-
8310 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " حتى يأتينا بقربان تأكله النار "، &; 7-449 &; كان الرجل يتصدق، فإذا تُقُبِّل منه، أنـزلت عليه نارٌ من السماء فأكلته.
8311 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " بقربان تأكله النار "، كان الرجل إذا تصدق بصدقة فتُقُبِّلت منه، بعث الله نارًا من السماء فنـزلت على القربان فأكلته.
* * *
= فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: [قل، يا محمد، للقائلين: إنّ الله عهد إلينا] أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار: " [قد جاءكم] رسل من قبلي بالبينات "، (13) يعني: بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم=" وبالذي قلتم "، يعني: وبالذي ادَّعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه والإقرار بنبوته، من أكل النار قُربانه إذا قرَّب لله دلالة على صدقه، (14) =" فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين "، يقول له: قل لهم: قد جاءتكم الرسل الذين كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم، فقتلتموهم، فلم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم=" إن كنتم صادقين " في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقُربان تأكله النار حجة له على نبوته؟
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أعلم الله عباده بهذه الآية: أنّ الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لن يَعْدوا أن يكونوا &; 7-450 &; في كذبهم على الله وافترائهم على ربهم وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمونه صادقًا محقًّا، وجحودهم نبوَّته وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه، مفروضة طاعته (15) إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيدهم الله بها، والأدلة التي أبان صدقهم بها، افتراء على الله، واستخفافًا بحقوقه.
----------------------
الهوامش:
(12) انظر تفسير"عهد إليه" فيما سلف 3: 38 ، وتفسير"العهد" في فهارس اللغة.
(13) في المخطوطة: "فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار رسل من قبلي بالبينات. . ." ، وقد وضع ناسخ المخطوطة أمام السطرين في الهامش (ط ط كذا) ، يعني أنه خطأ كان في النسخة التي نقل عنها ، فنقله هكذا كما وجده ، فجاء ناشر المطبوعة -أو ناسخ قبله- فأراد أن يصححها ، فزاد صدر الآية: "قل قد جاءكم" بعد قوله: "بقربان تأكله النار" ، ولكن يبقى السياق غير حسن ، فزدت ما بين القوسين ، استظهارًا من نهج أبي جعفر في بيانه عن معاني آي كتاب الله ، والله الموفق للصواب.
(14) في المطبوعة والمخطوطة: "إذ قرب لله" ، والسياق يقتضي"إذا".
(15) في المطبوعة: "لن يفروا أن يكونوا في كذبهم على الله" ، وفي المخطوطة: "لن يقروا" ولا معنى لهما ، وصوابهما ما أثبت. وسياق العبارة: "لن يعدوا أن يكونوا في كذبهم. . . إلا كمن مضى من أسلافهم".
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 181 | ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ |
---|
آل عمران: 183 | ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ |
---|
المائدة: 17 | ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ |
---|
المائدة: 72 | ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ |
---|
المائدة: 73 | ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
بقربان:
وقرئ:
بضم الراء، وهى قراءة عيسى بن عمير.
التفسير :
ثم سلَّى رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:{ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك} أي:هذه عادة الظالمين، ودأبهم الكفر بالله، وتكذيب رسل الله وليس تكذيبهم لرسل الله، عن قصور ما أتوا به، أو عدم تبين حجة، بل قد{ جاءوا بالبينات} أي:الحجج العقلية، والبراهين النقلية،{ والزبر} أي:الكتب المزبورة المنزلة من السماء، التي لا يمكن أن يأتي بها غير الرسل.{ والكتاب المنير} للأحكام الشرعية، وبيان ما اشتملت عليه من المحاسن العقلية، ومنير أيضا للأخبار الصادقة، فإذا كان هذا عادتهم في عدم الإيمان بالرسل، الذين هذا وصفهم، فلا يحزنك أمرهم، ولا يهمنك شأنهم.
{ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } .
والبينات : جمع بينه وهى الآيات المبينة للحق ، والأدلة التى يستشهد بها الرسول على أنه صادق فيما يبلغه عن ربه .
والزبر جمع زبور - كالرسول والرسل - وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته بمعنى حسنته .
وخص الزبور بالكتاب الذى أنزله الله على داود - عليه السلام - : قال - تعالى - { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } وقيل : الزبر اسم للمواعظ و الزواجر من زبرته إذا زجرته .
والمعنى فإن كذبوك هؤلاء اليهود يا محمد بعد أن قام الدليل على صدقك وعلى كذبهم وتعنتهم وجحودهم ، فلا تبتئس ولا تحزن ، فإن الأنبياء من قبلك قد قوبلوا بالتكذيب من أقوامهم بعد أن جاءوهم بالدلائل الواضحة الدالة على صدقهم وبعد أن جاءوهم ( بالزبر ) أى بالكتب الموحى بها من الله - تعالى - لوعظ الناس وزجرهم ، وبعد أن جاءوهم بالكتاب المنير أى بالكتاب الواضح المستنير المشتمل على سعادة الناس فى دنياهم وآخرتهم .
فالآية الكريمة مسوقة على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه مما يلقاه من الجاحدين والمكذبين .
ثم قال تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ) أي : لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك ، فلك أسوة من قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة ( والزبر ) وهي الكتب المتلقاة من السماء ، كالصحف المنزلة على المرسلين ( والكتاب المنير ) أي : البين الواضح الجلي .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قال أبو جعفر: وهذا تعزية من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على الأذى الذي كان يناله من اليهود وأهل الشرك بالله من سائر أهل الملل. يقول الله تعالى له: لا يحزنك، يا محمد، كذب هؤلاء الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ، وقالوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ، وافتراؤهم على ربهم اغترارًا بإمهال الله إياهم، ولا يَعظمن عليك تكذيبهم إياك، وادعاؤهم الأباطيل من عهود الله إليهم، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذبوك وكذبوا على الله، فقد كذَّبت أسلافهم من رسل الله قبلك من جاءهم بالحجج القاطعة العذرَ، والأدلة الباهرة العقلَ، والآيات المعجزة الخلقَ، وذلك هو البينات. (16)
* * *
وأما " الزبر " فإنه جمع " زبور "، وهو الكتاب، وكل كتاب فهو: " زبور "، ومنه قول امرئ القيس:
لِمــنْ طَلــلٌ أَبْصَرْتُـهُ فَشَـجَانِي?
كخَـطِّ زَبُـورٍ فـي عَسِـيبٍ يَمَـانِي (17)
* * *
ويعني: بـ" الكتاب "، التوراة والإنجيل. وذلك أن اليهود كذَّبت عيسى وما جاء به، وحرَّفت ما جاء به موسى عليه السلام من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وبدلت عهده إليهم فيه، وأن النصارى جحدت ما في الإنجيل من نعته، وغيرت ما أمرهم به في أمره.
* * *
وأما قوله: " المنير "، فإنه يعني: الذي يُنير فيبين الحق لمن التبس عليه ويوضحه.
* * *
وإنما هو من " النور " والإضاءة، يقال: " قد أنار لك هذا الأمر "، بمعنى: أضاء لك وتبين،" فهو ينير إنارة، والشيء منيرٌ"، (18) وقد:-
8312 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: " فإن كذبوك فقد كُذِّب رسل من قبلك "، قال: يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
8313 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك "، قال: يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
وهذا الحرف في مصاحف أهل الحجاز والعراق: " وَالزُّبُرِ" بغير " باء "، وهو في مصاحف أهل الشام: " وبالزُّبُرِ" بالباء، مثل الذي في" سورة فاطر ". [25].
----------------------
الهوامش:
(16) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 2: 318 ، 355 / 3: 249 / 4: 259 / 5: 379 ، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
(17) ديوانه: 186 ، وهو مطلع قصيدته. قال الشنتمرى في شرح البيت: "يقول: نظرت إلى هذا الطلل فشجاني ، أي: أحزنني. وقوله: "كخط زبور" ، أي قد درس وخفيت آثاره ، فلا يرى منه إلا مثل الكتاب في الخفاء والدقة. والزبور: الكتاب. وقوله: "في عسيب يمان" ، كان أهل اليمن يكتبون في عسيب النخلة عهودهم وصكاكهم. ويروى: "عسيب يماني" ، على الإضافة ، أراد: في عسيب رجل يمان.
(18) في المخطوطة والمطبوعة: "والشيء المنير" ، وعبارة بيان اللغة تقتضي ما أثبت.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
فاطر: 25 | ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ |
---|
آل عمران: 184 | ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ |
---|
النحل: 44 | ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
والزبر:
1- هذه قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- وبالزبر، وهى قراءة ابن عامر، وكذا هى فى مصاحف أهل الشام.
والكتاب:
1- هذه قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- وبالكتاب، وهى قراءة هشام، بخلاف عنه.
التفسير :
هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير وشر.{ فمن زحزح} أي:أخرج،{ عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} أي:حصل له الفوز العظيم من العذاب الأليم، والوصول إلى جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ومفهوم الآية، أن من لم يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فإنه لم يفز، بل قد شقي الشقاء الأبدي، وابتلي بالعذاب السرمدي. وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه، يفهم هذا من قوله:{ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} أي:توفية الأعمال التامة، إنما يكون يوم القيامة، وأما ما دون ذلك فيكون في البرزخ، بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله تعالى:{ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر}
ثم بين - سبحانه - أن مرد الخلق جميعا إلى الله ، وأن كل نفس مهما طال عمرها لا بد أن يصيبها الموت ، وأن الدار الباقية إنما هى الدار الآخرة التى سيحاسب الناس فيها على أعمالهم فقال - تعالى - : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } .
قال ابن كثير : " يخبر - تعالى - إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله - تعالى - :
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } فهو - تعالى - وحده الحى الذى لا يموت والجن والإنس يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخرا كما كان أولا ، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت . . " .
وقوله { ذَآئِقَةُ الموت } من الذوق وحقيقته إدراك الطعوم ، والمراد به هنا حدوث الموت لكل نفس .
وعبر عن حدوث الموت لكل نفس بذوقه ، للإشارة إلى أنه عند ذوق المذاق إما مرا لما يستتبعه من عذاب ، وإما حلوا هنيئا بسبب ما يكون بعده من أجر وثواب .
وأسند ذوق الموت إلى النفس ولم يسنده إلى الشخص : لأن النفس روح ، والشخص جزءان : جسم ونفس ، والنفس هى التى تبقى بعد مفارقتها للجسد ، فهى التى تذوق الموت كما ذاقت الحياة الدنيا .
وقوله { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } أى : وإنما تعطون جزاء أعمالكم وافيا تاما يوم القيامة . يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحاسبهم على أعمالهم ، فيجازى الذين أساءوا بما عملوا . ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف اتصل قوله - تعالى - : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } بما قبله؟ قلتك اتصاله به على معنى أن كلكم تموتون ، ولا بد لكم من الموت ولا توفون أجوركم على طاعتكم ومعصيتكم عقيب موتكم ، وإنما توفونها يوم قيامكم من القبور .
فإن قلت : فهذا يوهم نفى ما يروى من أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة نم حفر النار؟ قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون فى ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور " .
وقال الفخر الرازى : " بين - سبحانه - أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف فى الدنيا فهى مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ، لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم ، والسعادة بلا خوف الانقطاع .
وكذا القول فى العقاب ، فإنه لا يحصل فى الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقى هو الذى يكون يوم القيامة " .
ثم قال - تعالى - { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } .
الزحزحة عن النار : هى التنحية عنها ، وعدم الاقتراب منها والفعل زحزح مضاعف الفعل زحه عن المكان إذا جذبه وأبعده عنه بعجلة وسرعة .
والمعنى أن كل نفس سيدركها الموت لا محالة . وأن الناس سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة ، فمن كانت نتيجة حسابه الإبعاد عن النار ، والنجاةن من سعيرها ، فقد فاز فوزاً عظيما ، وأدرك البغية التى ليس بعدها بغية .
والفاء فو قوله { فَمَن زُحْزِحَ } للتفريع على قوله { تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } .
وجمع - سبحانه - بين { زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة } مع أن فى الثانى غنية عن الأول ، للإشعار بأن دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين وهما : النجاة من النار ، والتلذذ بنعيم الجنة .
وفى الحديث الشريف عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } " .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .
ثم ختم - الآية بقوله : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } .
والمتاع : هو ما يتمتع به الإنسان وينتفع به مما يباع ويشترى .
والغرور - بضم الغين - مصدر غره أى خدعه وأطعمه بالباطل .
أى : ليست هذه الحياة الدنيا التى نعيش فيها . ونستمتع بلذاتها ومنافعها ، إلا متاعا يستمتع به المغتر بها ، الذى لا يفكر فى أى شىء سواها ، ثم يحاسب على ذلك حسابا عسيراً يوم القيامة ، أما الذى يأخذ من متاعها بالطريقة التى أمر الله - تعالى - بها ، فإنه يكون من السعداء فى دنياهم وآخرتهم .
قال صاحب الكشاف : شبه - سبحانه - الدنيا بالمتاع الذى يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور . وعن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فاما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ " .
فالآية الكريمة ترغيب للمؤمنين فى الطاعة ، وتحذير للعصاة من المعصية ، وتذكير للجميع بأن مرجعهم إلى الله إن عاجلا أو آجلا ، وسيلقى كل إنسان جزاءه على عمله ، وأن السعادة الحقة لمن نال رضا الله يوم يلقاه .
يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله : ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء ، فيكون آخرا كما كان أولا .
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت ، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية - أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها ، كثيرها وقليلها ، كبيرها وصغيرها ، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ، ولهذا قال : ( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز الأويسي ، حدثنا علي بن أبي علي اللهبي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية ، جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ) كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال : أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر ، عليه السلام .
وقوله : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) أي : من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة ، فقد فاز كل الفوز .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) .
هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة ، وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث محمد بن عمرو هذا . ورواه ابن مردويه [ أيضا ] من وجه آخر فقال :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، أنبأنا حميد بن مسعدة ، أنبأنا عمرو بن علي ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " . قال : ثم تلا هذه الآية : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز )
وتقدم عند قوله تعالى : ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ما رواه الإمام أحمد ، عن وكيع عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .
وقوله : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) تصغيرا لشأن الدنيا ، وتحقيرا لأمرها ، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة ، كما قال تعالى : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) [ الأعلى : 16 ، 17 ] [ وقال تعالى : ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) [ الرعد : 26 ] وقال تعالى : ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ] ) [ النحل : 96 ] . وقال تعالى : ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى ) [ القصص : 60 ] وفي الحديث : " والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بم ترجع إليه ؟ " .
وقال قتادة في قوله : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) هي متاع ، هي متاع ، متروكة ، أوشكت - والله الذي لا إله إلا هو - أن تضمحل عن أهلها ، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ، ولا قوة إلا بالله .
القول في تأويل قوله : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود، المكذبين برسوله، الذين وصف صفتهم، وأخبر عن جراءتهم على ربهم= ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره، ومرجع جميعهم، إليه. لأنه قد حَتم الموت على جميعهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا يحزنك تكذيبُ من كذبك، يا محمد، من هؤلاء اليهود وغيرهم، وافتراء من افترى عليَّ، فقد كُذِّب قبلك رسلٌ جاءوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه، بمثل الذي جئتَ من أرسلت إليه، فلك فيهم أسوة تتعزى بهم، ومصيرُ من كذَّبك وافترى عليّ وغيرهم ومرجعهم إليّ، فأوفّي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة، كما قال جل ثناؤه: " وإنما توفَّون أجوركم يوم القيامة "، يعني: أجور أعمالكم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر=" فمن زحزح عن النار "، يقول: فمن نُحِّي عن النار وأبعد منها (19) =" فقد فاز "، يقول: فقد نجا وظفر بحاجته.
* * *
يقال منه: " فاز فلان بطلبته، يفوز فوزًا ومفازًا ومفازة "، إذا ظفر بها.
* * *
وإنما معنى ذلك: فمن نُحِّي عن النار فأبعد منها وأدخل الجنة، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة=" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور "، يقول: وما لذّات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها=" إلا متاع الغرور "، يقول: إلا متعة يمتعكموها الغرور والخداع المضمحلّ الذي لا حقيقة له عند الامتحان، ولا صحة له عند الاختبار. فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره. يقول تعالى ذكره: ولا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها، فإنما أنتم منها في غرور تمتَّعون، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون. (20)
* * *
وقد روي في تأويل ذلك ما:-
8314 - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله: " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور "، قال: كزاد الراعي، تزوِّده الكفّ من التمر، أو الشيء من الدقيق، أو الشيء يشرب عليه اللبن.
* * *
فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا، إلى أن معنى الآية: وما الحياة الدنيا إلا متاعٌ قليلٌ، لا يُبلِّغ مَنْ تمتعه ولا يكفيه لسفره. وهذا التأويل، وإن كان وجهًا من وجوه التأويل، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا. لأن " الغرور " إنما هو الخداع في كلام العرب. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة، لأن الشيء قد يكون قليلا وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور. وأما الذي هو في غرور، فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور.
* * *
و " الغرور " مصدر من قول القائل: " غرني فلان فهو يغرُّني غرورًا " بضم " الغين ". وأما إذا فتحت " الغين " من " الغرور "، فهو صفة للشيطان الغَرور، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته.
* * *
وقد:
8315 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة وعبد الرحيم قالا حدثنا &; 7-454 &; محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، واقرءوا إن شئتم " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ". (21)
-----------------------
الهوامش :
(19) انظر تفسير"زحزح" فيما سلف 2: 375.
(20) انظر تفسير: "المتاع" فيما سلف 1: 539 ، 540 / 3: 55.
(21) الحديث: 8315 - عبدة: هو ابن سليمان الكلابي الكوفي. وعبد الرحيم: هو ابن سليمان المروزي الأشل.
والحديث رواه أحمد في المسند: 9649 (ج2 ص438 حلبي) ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد ابن عمرو - بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الترمذي 4: 85 ، عن عبد بن حميد وغيره ، عن محمد بن عمرو. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2: 299 ، من طريق شجاع بن الوليد ، عن محمد بن عمرو. وقال: "هذا حديث على شرط مسلم ، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير 2: 311 ، من رواية ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن محمد بن عمرو.
ثم قال ابن كثير: "هذا حديث ثابت في الصحيحين ، من غير هذا الوجه ، بدون هذه الزيادة [يعني ذكر الآية في الحديث]. وقد رواه بهذه الزيادة أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث محمد بن عمرو".
وذكره السيوطي 2: 107 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 4: 277 ، من رواية الترمذي - ضمن ألفاظ للحديث بمعناه ، عند أحمد ، والبخاري ، والطبراني في الأوسط"بأسناد رواته رواة الصحيح" ، وابن حبان في صحيحه.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 185 | ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ |
---|
الأنبياء: 35 | ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ |
---|
العنكبوت: 57 | ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
ذائقة الموت:
وقرئ:
1- بالتنوين ونصب «الموت» ، وهى قراءة اليزيدي.
2- بغير تنوين ونصب «الموت» ، وهى قراءة الأعمش، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين.
التفسير :
يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم من النفقات الواجبة والمستحبة، ومن التعريض لإتلافها في سبيل الله، وفي أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من الناس، كالجهاد في سبيل الله، والتعرض فيه للتعب والقتل والأسر والجراح، وكالأمراض التي تصيبه في نفسه، أو فيمن يحب.{ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} من الطعن فيكم، وفي دينكم وكتابكم ورسولكم. وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك، عدة فوائد:منها:أن حكمته تعالى تقتضي ذلك، ليتميز المؤمن الصادق من غيره. ومنها:أنه تعالى يقدر عليهم هذه الأمور، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم، ويكفر من سيئاتهم، وليزداد بذلك إيمانهم، ويتم به إيقانهم، فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر{ قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} ومنها:أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك، والصبر عليه إذا وقع؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه، فيهون عليهم حمله، وتخف عليهم مؤنته، ويلجأون إلى الصبر والتقوى، ولهذا قال:{ وإن تصبروا وتتقوا} أي:إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم، من الابتلاء والامتحان وعلى أذية الظالمين، وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه الله والتقرب إليه، ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء الله.{ فإن ذلك من عزم الأمور} أي:من الأمور التي يعزم عليها، وينافس فيها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى:{ وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}
ثم بين - سبحانه - للمؤمنين أنهم سيتعرضون فى المستقبل للمحن والآلام كما تعرضوا لذلك فى أيامهم الماضية ، وأن من الواجب عليهم أن يتقبلوا ذلك بعزيمة صادقة ، وصبر جميل فقال - تعالى - : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .
وقوله { لَتُبْلَوُنَّ } جواب قسم محذوف أى : والله لتبلون أى لتختبرن . والمراد لتعاملن معاملة المختبر والممتحن ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق ، ومن التمسك بمكارم الأخلاق ، فإن المصائب محك الرجال .
وإنما أخبرهم - سبحانه - بما سيقع لهم من بلاء ، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، وليستعدوا لتلقيه من غير فزع أو جزع ، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها ، أما الشدة التى تقع من غير توقع فإنها يصعب احتمالها .
والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن { في أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضاً فى { أَنْفُسِكُمْ } بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وهم اليهود والنصارى { وَمِنَ الذين أشركوا } وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعا { أَذًى كَثِيراً } كالطعن فى دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التى أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .
وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبا تدريجيا ، فابتدأ بأدتى ألوان البلاء وهو الإصابة فى المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة فى النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهى التى تختص بالإصابة فى الدين ، وقد عبر عنها بقوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .
وإنما كانت الإصابة فى الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى فى ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى فى دينه . . .
ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورا بلينه ورفقه . ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من " فنحاص " اليهودى أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل .
وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلا وحمقا ، وزاد العالمين حقداً وحسداً .
ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذى يعين على التغلب على هذا البلاء فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .
أى : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها يضبط النفس ، وقوة الاحتمال . { وَتَتَّقُواْ } الله فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .
والإشارة فى قوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } تعود إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، أى فإن صبركم وتقواكم من الأمور التى يجب أن يسير عليها كل عاقل . لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر .
وقوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } دليل على جواب الشرط .
والتقدير : وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أ÷ل العزم فإن ذلك من عزم الأمور .
فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهى أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر .
ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان ، فقد روى الترمذى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أى الناس أشد بلاء؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . فيبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة " .
وقوله : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) كقوله ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) [ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ] ) [ البقرة : 155 ، 156 ] أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن على قدر دينه ، إن كان في دينه صلابة زيد في البلاء ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال : ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم .
هكذا رواه مختصرا ، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير ، أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار ، عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، قبل وقعة بدر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي - ابن سلول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين ، عبدة الأوثان واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : " لا تغبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف ، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء ، إنه لا أحسن مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه . فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله ، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك . فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا " . فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فعل به ما رأيت ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا [ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ] ) وقال تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) الآية [ البقرة : 109 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم ، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبي - ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه ، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأسلموا .
فكان من قام بحق ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، فلا بد أن يؤذى ، فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله ، عز وجل .
القول في تأويل قوله : لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
قال أبو جعفر: يعني بقوله: تعالى ذكره: (22) " لتبلون في أموالكم "، لتختبرن بالمصائب في أموالكم (23) =" وأنفسكم "، يعني: وبهلاك الأقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم (24) =" ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "، يعني: من اليهود وقولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ، وقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله=" ومن الذين أشركوا "، يعني النصارى=" أذى كثيرًا "، (25) والأذى من اليهود ما ذكرنا، ومن النصارى قولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله=" وإن تصبروا وتتقوا "، يقول: وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته=" وتتقوا "، يقول: وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم، فتعملوا في ذلك بطاعته=" فإن ذلك من عزم الأمور "، يقول: فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به.
* * *
وقيل: إن ذلك كله نـزل في فنخاص اليهودي، سيد بني قَيْنُقَاع، كالذي:-
8316 - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال عكرمة في قوله: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا "، قال: نـزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أبي بكر رضوان الله عليه، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينُقاع قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدُّه، وكتب إليه بكتاب، وقال لأبي بكر: " لا تَفتاتنَّ عليّ بشيء حتى ترجع ". (26) فجاء أبو بكر وهو متوشِّح بالسيف، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه قال: " قد احتاج ربكم أن نمده "! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع "، &; 7-456 &; فكف، ونـزلت: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ . (27) وما بين الآيتين إلى قوله: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم "، نـزلت هذه الآيات في بني قينقاع إلى قوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ = قال ابن جريج: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم قال: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم "، قال: أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم، فينظر كيف صبرهم على دينهم. ثم قال: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "، يعني: اليهود والنصارى=" ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا " فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، ومن النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب إذ يسمعون إشراكهم، (28) فقال الله: " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور "، يقول: من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به.
* * *
وقال آخرون: بل نـزلت في كعب بن الأشرف، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشبّب بنساء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
8317 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا "، قال: هو كعب بن الأشرف، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار، فيهم محمد بن مسلمة، ورجل &; 7-457 &; يقال له أبو عبس. فأتوه وهو في مجلس قومه بالعَوَالي، (29) فلما رآهم ذعر منهم، فأنكر شأنهم، وقالوا: جئناك لحاجة! قال: فليدن إليّ بعضكم فليحدثني بحاجته. فجاءه رجل منهم فقال: جئناك لنبيعك أدراعًا عندنا لنستنفق بها. (30) فقال: والله لئن فعلتم لقد جُهدتم منذ نـزل بكم هذا الرجل! فواعدوه أن يأتوه عشاءً حين هدأ عنهم الناس، (31) فأتوه فنادوه، فقالت امرأته: ما طَرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب! قال: إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم.
(32) قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة: أنه أشرف عليهم فكلمهم، فقال: أترهَنُوني أبناءكم؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرًا. قال، فقالوا: إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال: " هذا رهينة وَسْق، وهذا رهينة وسقين "! (33) فقال: أترهنوني نسائكم؟ قالوا: أنت أجملُ الناس، ولا نأمنك! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! ولكنا نرهنك سلاحنا، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم. فقال: ائتوني بسلاحكم، واحتملوا ما شئتم. قالوا: فأنـزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا. فذهب ينـزل، (34) فتعلقت به امرأته وقالت: أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك. قال: لو وجدني هؤلاء نائمًا ما أيقظوني! قالت: فكلِّمهم من فوق البيت، فأبى عليها، فنـزل إليهم يفوحُ ريحه. قالوا: ما هذه الريح يا فلان؟ قال: هذا عطرُ أم فلان! امرأته. فدنا إليه بعضهم يشم رائحته، ثم اعتنقه، ثم قال: اقتلوا عدو الله! فطعنه أبو عَبس في خاصرته، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف، فقتلوه ثم رجعوا. فأصبحت اليهود مذعورين، فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: قتل سيدنا غيلة! فذكّرهم النبي صلى الله عليه وسلم صَنيعه، وما كان يحضّ عليهم، ويحرض في قتالهم ويؤذيهم، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحًا، قال: فكان ذلك الكتابُ مع عليّ رضوان الله عليه.
* * *
----------------
الهوامش :
(22) في المطبوعة والمخطوطة"يعني بذلك تعالى ذكره" ، وسياق التفسير هنا يقتضي ما أثبت.
(23) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 2: 49 / 3: 7 ، 220 / 5: 339 / 7: 297 ، 235.
(24) انظر تفسير"أنفسهم" فيما سلف 6: 501.
(25) انظر تفسير"الأذى" فيما سلف 4: 374.
(26) كل من أحدث دونك شيئا ، ومضى عليه ولم يستشرك ، واستبد به دونك ، فقد فاتك بالشيء وافتات عليك به أوفيه. هو"افتعال" من"الفوت" ، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار أو مشورة.
(27) انظر أخبار فنخاص اليهودي في الآثار السالفة: 8300 - 8302.
(28) في المطبوعة: "ويسمعون إشراكهم" بالواو ، وفي المخطوطة ، هذه الواو كأنها (د) ، فآثرت أن أجعلها"إذ" ، لأنها حق المعنى.
(29) "العوالي" ، جمع عالية. و"العالية": اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة ، من قراها وعمائرها إلى تهامة ، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهو"السافلة". وعوالي المدينة ، بينها وبين المدينة أربعة أميال ، وقيل ثلاثة ، وذلك أدناها ، وأبعدها ثمانية.
(30) استنفق بالمال: جعله نفقة يقضى بها حاجته وحاجة عياله.
(31) هدأ عنهم الناس: سكن عنهم الناس وقلت حركتهم وناموا. وفي المخطوطة: "حين هدى عنهم الناس" بطرح الهمزة ، وهو صواب جيد ، جاء في شعر ابن هرمة ، من أبياته الأليمة الموجعة:
لَيْـتَ السَّـبَاعَ لَنَـا كَـانَتْ مُجَــاوِرَةً
وَأَنَّنَــا لا نَـرَى مِمَّـنْ نَـرَى أَحَـدَا
إِنَّ السِّــبَاعَ لَتَهْــدَا عَـنْ فَرائِسِـهَا
وَالنَّــاسُ لَيْسَ بِهَــادٍ شَـرُّهُمْ أَبَـدَا
يريد: "لتهدأ" و"بهادئ شرهم".
(32) هذا بدأ سياق آخر للخبر ، منقطع عما قبله من خبر الزهري ، ولم يتم خبر الزهري ، بل أتم خبر عكرمة الذي أدخله على سياقه.
(33) "الوسق" كيل معلوم ، قيل: هو حمل بعير ، وقيل: ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.
(34) قوله: "ذهب ينـزل" ، أي تحرك لينـزل ، و"ذهب" من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام لتصوير حركة ، أو بيان فعل مثل قولهم: "قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه" ، أو "قعد لا يسأله سائل إلا حرمه" ، لا يراد به حقيقة القعود ، بل استمرار ذلك منه واتصاله ، وحاله عند رؤية الناس ، أو طروق السائل. واستعمال"ذهب" بهذا المعنى كثير الورود في كلامهم ، وإن لم تذكره كتب اللغة.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 186 | ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَـ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ |
---|
لقمان: 17 | ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ |
---|
الشورى: 43 | ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء