555567891011

الإحصائيات

سورة المنافقون
ترتيب المصحف63ترتيب النزول104
التصنيفمدنيّةعدد الصفحات1.50
عدد الآيات11عدد الأجزاء0.00
عدد الأحزاب0.00عدد الأرباع0.60
ترتيب الطول74تبدأ في الجزء28
تنتهي في الجزء28عدد السجدات0
فاتحتهافاتحتها
الشرط: 2/7_

الروابط الموضوعية

المقطع الأول

من الآية رقم (5) الى الآية رقم (8) عدد الآيات (4)

ومن صفاتِ المنافقينَ أيضًا: إعراضُهم عن الاعتذارِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ ما قالَه رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ في غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى ...﴾، وقوله: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا ...﴾.

فيديو المقطع

قريبًا إن شاء الله


المقطع الثاني

من الآية رقم (9) الى الآية رقم (11) عدد الآيات (3)

بعدَ ذكرِ صفاتِ المنافقين وذمِّهم؛ حذَّرَ اللهُ المؤمنين هنا من صِفاتِ المنافقين، ثُمَّ أمَرَهم بالإنفاقِ، وألَّا يؤخِّرُوا ذلكَ حتَّى يأتيَ الموتُ فيندمُوا ويطلبُوا إطالةَ العُمْرِ.

فيديو المقطع

قريبًا إن شاء الله


مدارسة السورة

سورة المنافقون

فضح المنافقين وبيان أخلاقهم وأقوالهم للتحذير منها

أولاً : التمهيد للسورة :
  • • تبدأ السورة بحملة عنيفة على المنافقين تكشف وتفضح أخلاقهم:: السورة من اسمها تبين خطر المنافقين، وصفاتهم، فجاء في السورة 15 صفة للمنافقين.
  • • وهم يتمتعون من الخارج بمظاهر براقة وملامح خادعة:: فأول آية تصف كذبهم وخداعهم: ﴿إِذَا جَاءكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱلله وَٱلله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱلله يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ﴾ (1).
  • • ثم نرى مدى تكبّرهم على الإسلام وعلى رسول الله:: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ...﴾ (4).
  • • يسعون إلى تجفيف منابع الدعوة لاجتثاثها:: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱلله لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ (5).
  • • حتى وصل الحال بزعيمهم -عَبدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ- إلى النيل من رسول الله ﷺ:: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾
ثانيا : أسماء السورة :
  • • الاسم التوقيفي :: «المنافقون».
  • • معنى الاسم :: المُنَافِقُ :مَن يُخْفي الكُفْرَ ويُظهر الإيمان.
  • • سبب التسمية :: ولورود الاسم في أولها؛ و‏لأن ‏المحور ‏الذي ‏تدور ‏عليه ‏السورة ‏هو ‏أخلاق ‏المنافقين ‏ومواقفهم مع رسول الله ﷺ.
  • • أسماء أخرى اجتهادية :: «سورة إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ».
ثالثا : علمتني السورة :
  • • علمتني السورة :: صفات المنافقين وأخلاقهم حتى ابتعد عنها.
  • • علمتني السورة :: عجبًا لمن يصدق منافقًا أو ينخدع بدعواه وقد شهد الله بكذبهم: ﴿وَاللَّـهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (1)، فهل بعد شهادة الله شهادة؟!
  • • علمتني السورة :: أن العبرة بصلاح الباطن لا بجمال الظاهر ولا حسن المنطق: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾
  • • علمتني السورة :: أن العزة لا تكون إلا بالله، فمن أرادها فليطلبها من مالكها: ﴿وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾

مدارسة الآية : [5] :المنافقون     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ ..

التفسير :

[5] وإذا قيل لهؤلاء المنافقين:أقبلوا تائبين معتذرين عمَّا بدر منكم من سيِّئ القول وسَفَه الحديث، يستغفر لكم رسول الله ويسأل الله لكم المغفرة والعفو عن ذنوبكم، أمالوا رؤوسهم وحركوها استهزاءً واستكباراً، وأبصرتهم -أيها الرسول- يعرضون عنك، وهم مستكبرون عن ا

{ وَإِذَا قِيلَ} لهؤلاء المنافقين{ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} عما صدر منكم، لتحسن أحوالكم، وتقبل أعمالكم، امتنعوا من ذلك أشد الامتناع، و{ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} امتناعًا من طلب الدعاء من الرسول،{ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} عن الحق بغضًا له{ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عن اتباعه بغيًا وعنادًا، فهذه حالهم عندما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول، وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله، حيث لم يأتوا إليه، فيستغفر لهم،

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة، فصلها الإمام ابن كثير- رحمه الله- فقال ما ملخصه:

وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبى بن سلول وأتباعه، فقد ذكر محمد بن إسحاق، أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بعد غزوة أحد، قام عبد الله بن أبى، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب للجمعة، فقال: أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمكم الله به.. فأخذ بعض المسلمين بثيابه من نواحيه وقالوا له: اجلس يا عدو الله، لست لهذا المقام بأهل، وقد صنعت ما صنعت- يعنون مرجعه بثلث الناس دون أن يشتركوا في غزوة أحد-.

فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا- أى: أمرا منكرا- أن قمت أشدد أمره.

فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد، فقالوا له: ويلك، مالك؟ .. ارجع للنبي يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أبتغى أن يستغفر لي.

وفي رواية أنه قيل له: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته أن يستغفر لك، فجعل يلوى رأسه ويحركه استهزاء ...

ثم قال الإمام ابن كثير- رحمه الله- ما ملخصه: وذكر ابن إسحاق في حديثه عن غزوة بنى المصطلق- وكانت في شعبان من السنة الخامسة من الهجرة- أن غلاما لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- اسمه الجهجاه بن سعيد الغفاري تزاحم على ماء مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وبر..

فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبى- وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم- وقال: أو قد فعلوها؟!! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما مثلنا وجلابيب قريش- يعنى المهاجرين- إلا كما قال القائل: «سمن كلبك يأكلك» والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل.

فذهب زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ...

فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله، مر عباد بن بشر فليضرب عنق عبد الله بن أبى بن سلول.

فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف إذا الناس تحدث يا عمر، أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، ولكن ناد يا عمر في الناس بالرحيل.

فلما بلغ عبد الله بن أبى أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال الذي قاله عنه زيد بن أرقم..

وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير، فقال له: يا رسول الله، لقد رحت في ساعة ما كنت تروح فيها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبى؟ زعم أنه إذا قدم المدينة أنه سيخرج الأعزّ منها الأذلّ.

فقال أسيد: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل..

وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت الذي لم يتعود السفر فيه، ليشغل الناس عن الحديث، الذي كان من عبد الله بن أبى.

قال ابن إسحاق: ونزلت سورة المنافقين في ابن أبىّ وأتباعه، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال: هذا الذي أوفى الله بأذنه.

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى زيد فقرأها عليه ثم قال: «إن الله قد صدقك» ثم قال ابن إسحاق: وبلغني أن عبد الله بن عبد الله بن أبى بلغه ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبى.. فإن كنت فاعلا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى، وإنى أخشى أن تأمر غيرى بقتله، فلا تدعني نفسي أن أرى قاتل أبى يمشى على الأرض فأقتله، فأكون قد قتلت مؤمنا بكافر، فأدخل النار.

فقال صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به ونحسن صحبته، ما بقي معنا» .

وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما: أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبد الله بن عبد الله بن أبى على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه قال له: وراءك فقال له أبوه: ويلك مالك؟ فقال: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل.

فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسير في مؤخرة الجيش شكا إليه عبد الله بن أبى ما فعله ابنه عبد الله معه.

فقال ابنه: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عبد الله لأبيه: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن .

والآن وبعد ذكر جانب من هذه الآثار التي وردت في سبب نزول هذه الآيات، نعود إلى تفسيرها فنقول وبالله التوفيق.

قوله- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ.. بيان لصفة أخرى من صفات المنافقين، تدل على عنادهم وإصرارهم على كفرهم ونفاقهم.

والقائل لهم: تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ جماعة من المؤمنين، على سبيل النصح لهؤلاء المنافقين لعلهم يقلعون عن كفرهم وفجورهم.

والمراد باستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: توبتهم من ذنوبهم، وتركهم لنفاقهم، وإعلان ذلك أمامه صلى الله عليه وسلم لكي يدعو الله- تعالى- لهم بقبول توبتهم.

وقوله: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ من اللى بمعنى الإمالة من جانب إلى آخر، يقال: لوى فلان رأسه، إذا أمالها وحركها، وهو كناية عن التكبر والإعراض عن النصيحة.

أى: وإذ قال قائل لهؤلاء المنافقين: لقد نزل في شأنكم ما نزل من الآيات القرآنية التي تفضحكم.. فتوبوا إلى الله توبة نصوحا، وأقلعوا عن نفاقكم، وأقبلوا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلب سليم، لكي يستغفر الله- تعالى- لكم، بأن يلتمس منه قبول توبتكم..

ما كان من هؤلاء المنافقين، إلا أن تكبروا ولجوا في طغيانهم، وأمالوا رءوسهم استهزاء وسخرية ممن نصحهم.

وَرَأَيْتَهُمْ أيها المخاطب يَصُدُّونَ أى: يعرضون عن النصيحة وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن قبولها، لانطماس بصائرهم، وإصرارهم على ما هم فيه من باطل وجحود للحق.

قال الآلوسى ما ملخصه: روى أنه لما صدق الله- تعالى- زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبى، مقت الناس ابن أبى، وقال له بعضهم: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك، يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأى، وقال لهم: لقد أشرتم على بالإيمان فآمنت، وأشرتم على بأن أعطى زكاة مالي فأعطيت.. ولم يبق لكم إلا أن تأمرونى بالسجود لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث أخرجه أحمد والشيخان.. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم ليستغفر لهم، فلووا رءوسهم.. .

وقوله: يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ... مجزوم في جواب الأمر، وهو قوله: تَعالَوْا وقوله:

لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ جواب إِذا.

والتعبير بقوله: تَعالَوْا تتضمن إرادة تخليص هؤلاء المنافقين مما هم فيه من ضلال، وإرادة ارتفاعهم من انحطاط هم فيه إلى علو يدعون إليه، لأن الأصل في كله «تعال» أن يقولها من كان في مكان عال، لمن هو أسفل منه.

والتعبير بقوله- تعالى-، وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يرسم صورة بغيضة لهم وهم يتركون دعوة الناصح لهم، بعناد وتكبر وغرور، وبراهم الرائي بعينه وهم على تلك الصورة المنكرة، التي تدل على جهالاتهم وإعراضهم عن كل خير.

يقول تعالى مخبرا عن المنافقين - عليهم لعائن الله - أنهم ( وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ) أي : صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكبارا عن ذلك ، واحتقارا لما قيل لهم ولهذا قال : ( ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون )

يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم لووا رءوسهم، يقول حرّكوها وهزّوها استهزاء برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وباستغفاره وبتشديد الواو من ( لَوَّوْاْ ) قرأت القرّاء على وجه الخبر عنهم أنهم كرّروا هز رءوسهم وتحريكها، وأكثروا، إلا نافعًا فإنه قرأ ذلك بتخفيف الواو ( لَوَوْا ) على وجه أنهم فعلوا ذلك مرّة واحدة.

والصواب من القول في ذلك قراءة من شدّد الواو لإجماع الحجة من القرّاء عليه.

وقوله: ( وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) يقول تعالى ذكره: ورأيتهم يُعْرضون عما دُعوا إليه بوجوههم ( وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) يقول وهم مستكبرون عن المصير إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليستغفر لهم، وإنما عُنِي بهذه الآيات كلها فيما ذُكر، عبدُ الله بن أُبيّ ابن سَلُول، وذلك أنه قال لأصحابه: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فسمع بذلك زيد بن أرقم، فأخبر به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فدعاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فسأله عما أخبر به عنه، فحلف أنه ما قاله، وقيل له: لو أتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فسألته أن يستغفر لك، فجعل يلوي رأسه ويحرّكه استهزاء، ويعني ذلك أنه غير فاعل ما أشاروا به عليه، فأنـزل الله عزّ وجلّ فيه هذه السورة من أوّلها إلى آخرها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وجاءت الأخبار.

* ذكر الرواية التي جاءت بذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا إسرائيل، عن أَبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: " خرجت مع عمي في غزاة، فسمعت عبد الله بن أُبيّ ابن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ؛ قال: فذكرت ذلك لعمي، فذكره عمي لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأرسل إليّ، فحدثته، فأرسل إلى عبد الله عليًّا رضي الله عنه وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، قال: فكذّبني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وصدّقه، فأصابني همّ لم يصبني مثله قطّ؛ فدخلت البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذّبك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومقتك، قال: حتى أنـزل الله عزّ وجلّ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قال: فبعث إليّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقرأها، ثم قال: " إن الله عزَّ وَجَلَّ قَدْ صَدَّقَكَ يا زيد ".

حدثنا أبو كُرَيْب والقاسم بن بشر بن معروف، قال: ثنا يحيى بن بكير ، قال: ثنا شعبة، قال الحكم: أخبرني، قال: سمعت محمد بن كعب القرظيّ قال: سمعت زيد بن أرقم قال: لما قال عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ما قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ قال: سمعته فأتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكرت ذلك، فلاقى ناس من الأنصار، قال: وجاء هو فحلف ما قال ذلك، فرجعت إلى المنـزل فنمت قال: فأتاني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أو بلغني ، فأتيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: " إنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ صَدَّقَكَ وَعَذَرَكَ" قال: فنـزلت الآية هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ... الآية.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا هاشم أبو النضر، عن شعبة، عن الحكم، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي، قال : سمعت زيد بن أرقم يحدّث بهذا الحديث.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن محمد بن كعب القرظي، عن زيد بن أرقم، قال: " كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في غزوة، فقال عبد الله بن أُبيّ ابن سلول لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ قال: فأتيت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخبرته، فحلف عبد الله بن أُبيّ إنه لم يكن شيء من ذلك، قال: فلامني قومي وقالوا : ما أردتّ إلى هذا، قال: فانطلقت فنمت كئيبًا أو حزينًا، قال: فأرسل إليّ نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو أتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: " إنَّ الله قَدْ أنـزلَ عُذْرَكَ وَصَدَّقَكَ"، قال: ونـزلت هذه الآية: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ... حتى بلغ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ .

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أَبي عديّ، قال: أخبرني ابن عون، عن محمد، قال: " سمعها زيد بن أرقم فرفعها إلى وليه، قال: فرفعها وَليه إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: فقيل لزيد: وَفَتْ أذنك ".

حدثنا أحمد بن منصور الرّمَادي، قال: ثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، قال: ثني أبي، قال: ثني بشير بن مسلم " أنه قيل لعبد الله بن أُبيّ ابن سلول: يا أبا حباب إنه قد أنـزل فيك آي شداد، فأذهب إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يستغفر لك، فلوى رأسه وقال: أمرتموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد ".

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة "( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا ) ... الآية كلها قرأها إلى الْفَاسِقِينَ أنـزلت في عبد الله بن أُبيّ، وذلك أن غلامًا من قرابته انطلق إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فحدّثه بحديث عنه وأمر شديد، فدعاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فإذا هو يحلف ويتبرأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام، فلاموه وعَذَلوه وقيل لعبد الله: لو أتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجعل يلوي رأسه: أي لستُ فاعلا وكذب عليّ، فأنـزل الله ما تسمعون ".

حدثني محمد بن عمرو ، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ) قال: عبد الله بن أُبَيّ، قيل له: تعالَ ليستغفر لك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فلوى رأسه وقال: ماذا قلت؟.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال له قومه: لو أتيت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنـزلت فيه ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ) .

المعاني :

لوّوْا رؤوسهم :       عَطفوها إعرَاضا و استهزاءً معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[5] الإعراض عن النصح والتكبر من صفات المنافقين.
وقفة
[5] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّـهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ ومن لا يفرح باستغفار الحبيب له إلا المنافقون؟!
وقفة
[5] لما صدَّق الله زيد بن أرقم في ما أخبر به عن عبد الله بن أُبي، مقت الناس ابن أُبي، وقال له بعضهم: «امض إلى رسول الله يستغفر لك»، فلوى رأسه وقال: «لقد أشرتم عليَّ بالإيمان فآمنت، وأشرتم عليَّ بأن أعطي زكاة مالي فأعطيت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد».
عمل
[5] احضر درسًا أو محاضرة شرعية.
وقفة
[5] ﴿ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون﴾ النفاق شجرة تنبت من طينة الكبر.

الإعراب :

  • ﴿ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ:
  • الواو عاطفة. اذا: أعربت في الآية الأولى. قيل: فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح. اللام حرف جر و «هم» ضمير الغائبين في محل جر باللام والجار والمجرور متعلق بقيل.
  • ﴿ تَعالَوْا:
  • الجملة الفعلية: في محل رفع نائب فاعل وهي فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة ولاتصاله بواو الجماعة. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة وعده جماعة من النحويين في أسماء الأفعال والصواب أنه فعل أمر بدليل أنه دال على الطلب وتلحقه ياء المخاطبة وان آخره مفتوح في جميع أحواله وقد شرحت في الآية الكريمة الحادية والخمسين بعد المائة من سورة «الأنعام».
  • ﴿ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ:
  • فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب- الأمر- وعلامة جزمه السكون. لكم: جار ومجرور متعلق بيستغفر والميم علامة جمع الذكور.
  • ﴿ رَسُولُ اللَّهِ:
  • فاعل مرفوع بالضمة. الله لفظ الجلالة: مضاف اليه مجرور للتعظيم بالاضافة وعلامة الجر الكسرة.
  • ﴿ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ:
  • فعل ماض مبني على الضم أو الفتح المقدر للتعذر على الألف المحذوفة لاتصاله بواو الجماعة جواب شرط غير جازم لا محل لها من الاعراب. والفتحة تدل على الألف المحذوفة الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة. رءوس: مفعول به منصوب بالفتحة و «هم» ضمير الغائبين في محل جر بالاضافة أي عطفوها وأمالوها. والتشديد للمبالغة.
  • ﴿ وَرَأَيْتَهُمْ:
  • الواو عاطفة. رأيت: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك. التاء ضمير متصل- ضمير المخاطب- مبني على الفتح في محل رفع فاعل و «هم» ضمير الغائبين في محل نصب مفعول به.
  • ﴿ يَصُدُّونَ:
  • لجملة الفعلية: في محل نصب حال لأن الفعل «رأى» بمعنى أبصر. وهي فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. أي يعرضون.
  • ﴿ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ:
  • الواو حالية. والجملة بعدها: في محل نصب حال.هم: ضمير رفع منفصل في محل رفع مبتدأ. مستكبرون: خبر «هم» مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من تنوين المفرد'

المتشابهات :

النحل: 22﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
المنافقون: 5﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّـهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [5] لما قبلها :     وبعد ذكرِ بعض صفاتِ المنافقينَ؛ بَيَّنَ اللهُ هنا أنهم إذا طُلِبَ منهم أن يتقدموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم على ما فرط منهم من الذنوب، أعرضوا استكبارًا وأنفة أن يفعلوا ذلك، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ

القراءات :

جاري إعداد الملف الصوتي

لووا:
وقرئ:
1- بفتح الواو، وهى قراءة مجاهد، ونافع، وأهل المدينة، وأبى حيوة، وابن أبى عبلة، والمفضل، وأبان، عن عاصم، والحسن، ويعقوب، بخلاف عنهما.
2- بشدها، للتكثير، وهى قراءة أبى جعفر، والأعمش، وطلحة، وعيسى، وأبى رجاء، والأعرج، وباقى السبعة.

مدارسة الآية : [6] :المنافقون     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ ..

التفسير :

[6] سواء على هؤلاء المنافقين أطلبت لهم المغفرة من الله -أيها الرسول- أم لم تطلب لهم، إن الله لن يصفح عن ذنوبهم أبداً؛ لإصرارهم على الفسق ورسوخهم في الكفر. إن الله لا يوفِّق للإيمان القوم الكافرين به، الخارجين عن طاعته.

فإنه سواء استغفر لهم أم لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، وذلك لأنهم قوم فاسقون، خارجون عن طاعة الله، مؤثرون للكفر على الإيمان، فلذلك لا ينفع فيهم استغفار الرسول، لو استغفر لهم كما قال تعالى:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .

وقوله- سبحانه-: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ..

تيئيس له صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، ومن قبولهم للحق.

ولفظ «سواء» اسم مصدر بمعنى الاستواء، والمراد به الفاعل. أى: مستو، ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر، كما في قوله- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... أى: مستوية.

أى: إن هؤلاء الراسخين في الكفر والنفاق، قد استوى عندهم استغفارك لهم وعدم استغفارك، فهم لتأصل الجحود فيهم صاروا لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا يؤمنون بثواب أو عقاب ... ولذلك فلن يغفر الله- تعالى- لهم مهما حرصت على هدايتهم وصلاحهم.

وقوله- سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تعليل لانتفاء المغفرة من الله- تعالى- لهم.

أى: لن يغفر الله- تعالى- لهم، لأن سنته- سبحانه- قد اقتضت أن لا يهدى إلى طاعته، وأن لا يشمل بمغفرته، من فسق عن أمره، وآثر الباطل على الحق، والكفر على الإيمان، لسوء استعداده، واتباعه لخطوات الشيطان.

ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" كما قال في سورة براءة وقد تقدم الكلام على ذلك وإيراد الأحاديث المروية هناك وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان "لووا رءوسهم" قال ابن أبي عمر حول سفيان وجهه على يمينه ونظر بعينه شذرا ثم قال هو هذا.

وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبدالله بن أبي بن سلول كما سنورده قريبا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد قال محمد بن إسحق في السيرة ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يعني مرجعه من أحد وكان عبدالله بن أبي بن سلول كما حدثني ابن شهاب الزهري له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر شرفا له من نفسه ومن قومه وكان فيهم شريفا إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع يعني مرجعه بثلث الجيش ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا اجلس أي عدو الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا أأن قمت أشدد أمره فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا ويلك مالك؟ قال قمت أشدد أمره فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني لكأنما قلت بجرا أأن قمت أشدد أمره قالوا ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله ما أبتغي أن يستغفر لي.

وقال قتادة والسدي أنزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي وذلك أن غلاما من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بحديث عنه وأمر شديد فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه وأنزل الله فيه ما تسمعون وقيل لعدو الله لو أتيت رسول الله فجعل يلوي رأسه أي لست فاعلا.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه فلما كانت غزوة تبوك بلغه أن عبدالله ابن أبي بن سلول قال ليخرجن الأعز منها الأذل فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار وقيل لعبدالله بن أبي ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك فأنزل الله تعالى "إذا جاءك المنافقون - إلى قوله - وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم" وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير وقوله إن ذلك كان فى غزوة تبوك فيه نظر بل ليس بجيد فإن عبدالله بن أبي بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك بل رجع بطائفة من الجيش وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك كان في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني محمد بن يحي بن حبان وعبدالله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري وكان أجيرا لعمر بن الخطاب وسنان بن يزيد قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال ازدحما على الماء فاقتتلا فقال سنان يا معشر الأنصار وقال الجهجاه يا معشر المهاجرين وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبدالله بن أبي فلما سمعها قال قد ثاورونا في بلادنا والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من عنده من قومه وقال هذا ما صنعتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم في بلادكم إلى غيرها فسمعها زيد ابن أرقم رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غليم عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره الخبر فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر الرحيل" فلما بلغ عبدالله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فاعتذر إليه وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم وكان عند قومه بمكان فقالوا يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل" قال فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل ثم قال ارفق به يا رسول الله فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا وصدر يومه حتى اشتد الضحى ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقين.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقى أخبرنا أبو عبدالله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمر بن دينار سمعت جابر بن عبدالله يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة" وقال عبدالله بن أبي بن سلول وقد فعلوها: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال جابر وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك فقال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" ورواه الإمام أحمد عن حسن بن محمد المروزي عن سفيان بن عيينة ورواه البخاري عن الحميدي ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان به نحوه وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن محمد بن كعب القرظى عن زيد بن أرقم قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال عبدالله بن أبي لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال فحلف عبدالله بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك قال فلامني قومي وقالوا ما أردت إلى هذا؟ قال فانطلقت فنمت كئيبا حزينا قال فأرسل إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن الله قد أنزل عذرك وصدقك".

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: سواء يا محمد على هؤلاء المنافقين الذين قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله ( أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ) ذنوبهم ( أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) يقول: لن يصفح الله لهم عن ذنوبهم، بل يعاقبهم عليها( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) يقول: إن الله لا يوفِّق للإيمان القوم الكاذبين عليه، الكافرين به، الخارجين عن طاعته.

وقد حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال : ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) قال: نـزلت هذه الآية بعد الآية التي في سورة التوبة إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80 ] فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " زيادة على سبعين مرّة، فأنـزل الله ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) .

المعاني :

لم يذكر المصنف هنا شيء

التدبر :

وقفة
[6] ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ﴾ كلُّ معصية يرتكبها العبدُ وكلُّ ذنب يذنبه؛ يفقد معه قدرًا من الهداية، يستدركه بالتوبة والاستغفار.
وقفة
[6] ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ﴾ الاغترارُ بالنفس والاستكبار على الخلق داء عَياء، يفتُك بصاحبه ويُودي به في مفازات الهلاك.
وقفة
[6] ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ﴾ ما كان الله ليغفر للمنافقين المتشبِّثين بالكفر، والمصرِّين على محاربة الله وشرعه، والمناصرين سرًّا لأعدائه، فإيَّاكم وإيَّاكم، ولا تظنُّوا بهم إلا شرًّا.
تفاعل
[6] استغفر لنفسك وللمؤمنين والمؤمنات ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ﴾.
وقفة
[6] قال قتادة: «لما نزلت: ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ﴾ [التوبة: ۸۰] فقال النبي ﷺ: لأزيدن على سبعين، فقال الله ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ﴾».
وقفة
[6] ماداموا على نفاقهم ﴿لَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم﴾
تفاعل
[6] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ادعُ الله الآن أن يهديك إلى الصراط المستقيم.

الإعراب :

  • ﴿ سَواءٌ عَلَيْهِمْ:
  • خبر مقدم مرفوع بالضمة. على: حرف جر و «هم» ضمير الغائبين في محل جر بعلى. والجار والمجرور متعلق بسواء.
  • ﴿ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ:
  • فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك. والتاء ضمير متصل- ضميرالمخاطب- مبني على الفتح في محل رفع فاعل. اللام حرف جر. و «هم» ضمير الغائبين في محل جر باللام والجار والمجرر متعلق باستغفرت وحذف حرف الاستفهام- همزة التسوية- لأن «أم» المعدلة تدل عليه. والجملة: بتأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر.
  • ﴿ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ:
  • حرف عطف. وهي «أم» المتصلة. لم: حرف نفي وجزم وقلب. تستغفر: فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه سكون آخره والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت و «لهم» أعربت والجملة بتأويل مصدر في محل رفع معطوف على المصدر المؤول من الجملة الأولى التقدير:استغفارك وعدمه سواء عليهم لأنهم كفرة.
  • ﴿ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ:
  • حرف نفي ونصب واستقبال. يغفر: فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه الفتحة والله لفظ الجلالة: فاعل مرفوع للتعظيم بالضمة. لهم: أعربت. وما بعدها: أعرب في الآية الكريمة الخامسة من سورة «الجمعة» ولفظ الجلالة اسم «ان» والجملة الفعلية: في محل رفع خبرها.'

المتشابهات :

المائدة: 108﴿ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِٱلشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَآ أَوۡ يَخَافُوٓاْ أَن تُرَدَّ أَيۡمَٰنُۢ بَعۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُواْۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
التوبة: 24﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
التوبة: 80﴿ٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
الصف: 5﴿فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
المنافقون: 6﴿سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ أَسۡتَغۡفَرۡتَ لَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ لَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [6] لما قبلها :     وبعد بيان رفضهم الإتيان ليستغفر لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم؛ أشارَ اللهُ هنا إلى عدم فائدة الاستغفار لهم، قال تعالى:
﴿ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

القراءات :

جاري إعداد الملف الصوتي

أستغفرت:
1- بهمزة النسوية، التي أصلها همزة الاستفهام، وطرح ألف الوصل، وهى قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- بمدة على الهمزة، وهى قراءة أبى جعفر.
3- بوصل الألف، دون همزة، على الخبر.

مدارسة الآية : [7] :المنافقون     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا ..

التفسير :

[7] هؤلاء المنافقون هم الذين يقولون لأهل «المدينة»:لا تنفقوا على أصحاب رسول الله من المهاجرين حتى يتفرقوا عنه. ولله وحده خزائن السموات والأرض وما فيهما من أرزاق، يعطيها من يشاء ويمنعها عمَّن يشاء، ولكن المنافقين لا يفهمون أن الرزق من عند الله؛ لجهلهم به

وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، لما رأوا اجتماع أصحابه وائتلافهم، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا بزعمهم الفاسد:

{ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} فإنهم - بزعمهم - لولا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم، لما اجتمعوا في نصرة دين الله، وهذا من أعجب العجب، أن يدعى هؤلاء المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلان الدين، وأذية المسلمين، مثل هذه الدعوى، التي لا تروج إلا على من لا علم له بحقائق الأمورولهذا قال الله ردًا لقولهم:{ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيؤتي الرزق من يشاء، ويمنعه من يشاء، وييسر الأسباب لمن يشاء، ويعسرها على من يشاء،{ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} فلذلك قالوا تلك المقالة، التي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم، وتحت مشيئتهم.

وقوله- سبحانه-: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ...

كلام مستأنف جار مجرى التعليل لفسقهم، وحكاية لجانب من أقوالهم الفاسدة ...

والقائل هو عبد الله بن أبى، كما جاء في روايات أسباب النزول لهذه الآيات، والتي سبق أن ذكرنا بعضها.

ونسب- سبحانه- القول إليهم جميعا، لأنهم رضوا به، وقبلوه منه.

ومرادهم بمن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهاجرون الذين تركوا ديارهم في مكة، واستقروا بالمدينة.

أى: إن هؤلاء المنافقين لن يغفر الله- تعالى- لهم، لأنهم فسقوا عن أمره، ومن مظاهر فسوقهم وفجورهم، أنهم أيدوا زعيمهم في النفاق، عند ما قال لهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله من فقراء المهاجرين، ولا تقدموا لأحد منهم عونا أو مساعدة، حتى ينفضوا من حوله. أى: حتى يتفرقوا من حوله. يقال: انفض القوم: إذا فنيت أزوادهم يقال: نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض، إذ انتهى زاده. وليس مرادهم حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه، فإذا فعلوا ذلك فأنفقوا عليهم. وإنما مرادهم، استمروا على عدم مساعدتكم لهم، حتى يتركوا المدينة، وتكون مسكنا لكم وحدكم.

وقوله- سبحانه-: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ.

والخزائن: جمع خزينة، وهي ما يخزن فيها المال والطعام وما يشبههما، والمراد بها أرزاق العباد التي يمنحها الله- تعالى- لعباده.

أى: ولله- تعالى- وحده لا لأحد غيره، ملك أرزاق العباد جميعا: فيعطى من يشاء، ويمنع من يشاء، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك ولا يدركونه، لجهلهم بقدرة الله- تعالى-، ولاستيلاء الجحود والضلال على نفوسهم.

قال فنزلت هذه الآية "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا - حتى بلغ - لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" ورواه البخاري عند هذه الآية عن آدم بن أبي إياس عن شعبة ثم قال وقال ابن أبي زائدة عن الأعمش عن عمرو عن ابن أبي ليلى عن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضا من حديث شعبة به.

"طريق أخرى عن زيد" قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال سمعت زيد بن أرقم وقال أبو بكر عن زيد بن أرقم قال خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبدالله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره عمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته فأرسل إلى عبدالله بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط وجلست في البيت فقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك؟ قال حتى أنزل الله "إذا جاءك المنافقون" قال فبعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثم قال "إن الله قد صدقك" ثم قال أحمد أيضا حدثنا حسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم يقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة وقال عبدالله بن أبي لاصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبدالله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد يا رسول الله فوقع في نفسي مما قالوا فأنزل الله تصديقي "إذا جاءك المنافقون" قال ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث زهير ورواه البخاري أيضا والترمذي من حديث إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبدالله السبيعي الهمدانى الكوفي عن زيد به "طريق أخرى عن زيد" قال أبو عيسى الترمذي حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدى عن أبي سعيد الأزدي قال حدثنا زيد بن أرقم قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقوننا إليه فسبق أعرابي أصحابه ليملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه قال فأتى رجل من الأنصار الأعرابي فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجرا فغاض الماء فرفع الاعرابي خشبته فضرب بها رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب عبدالله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله يعني الأعراب وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام فقال عبدالله لأصحابه إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمدا بالطعام فليأكل هو ومن معه ثم قال لأصحابه لئن رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل قال زيد وأنا ردف عمي قال فسمعت عبدالله بن أبي يقول ما قال فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد قال فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني قال فجاء إلي عمي فقال ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المسلمون؟ قال فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط قال فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا ثم إن أبا بكر لحقني وقال ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين.

انفرد بإخراجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.

وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن عبيدالله بن موسى به وزاد بعد قوله سورة المنافقين "إذا جاءك المنافقون قالوا فشهد إنك لرسول الله - حتى بلغ- هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا - حتى بلغ - ليخرجن الأعز منها الأذل".

وقد ورى عبدالله بن لهيعة عن أبي الأسود عروة بن الزبير في المغازي وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضا هذه القصة بهذا السياق ولكن جعلا الذي بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عبدالله بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أقرم من بني الحارث بن الخزرج فلعله مبلغ آخر أو تصحيف من جهة السمع والله أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا محمد عزيز الأيلي حدثنا سلام حدثني عقيل أخبرت محمد بن مسلم أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك أحدهما من المهاجرين والآخر من بهز وهم حلفاء الأنصار فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي فقال البهزي يا معشر الأنصار فنصره رجال من الأنصار وقال المهاجري يا معشر المهاجرين فنصره رجال من المهاجرين حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شىء من القتال ثم حجز بينهم فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبدالله بن أبي بن سلول فقال قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع قد تناصرت علينا الجلابيب وكانوا يدعون كل حديث الهجرة الجلابيب.

يقول تعالى ذكره (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ ) يعني المنافقين الذين يقولون لأصحابهم (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ) من أصحابه المهاجرين (حَتَّى يَنْفَضُّوا ) يقول: حتى يتفرّقوا عنه.

وقوله: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول : ولله جميع ما في السماوات والأرض من شيء وبيده مفاتيح خزائن ذلك، لا يقدر أحد أن يعطي أحدًا شيئًا إلا بمشيئته (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ) أن ذلك كذلك، فلذلك يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى ينفضوا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) قال: لا تطعموا محمدًا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة، فيتركوا نبيهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) قرأها إلى آخر الآية، وهذا قول عبد الله بن أُبي لأصحابه المنافقين لا تنفقوا على محمد وأصحابه حتى يدعوه، فإنكم لولا أنكم تنفقون عليهم لتركوه وَأجَلوا عنه.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) إن عبد الله بن أُبيّ ابن سلول قال لأصحابه، لا تنفقوا على من عند رسول الله، فأنكم لو لم تنفقوا عليهم قد انفضوا.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) يعني الرَّفد والمعونة، وليس يعني الزكاة المفروضة؛ والذين قالوا هذا هم المنافقون.

حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا الأعمش عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى، عن زيد بن أرقم، قال: " لما قال ابن أُبيّ ما قال، أخبرت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجاء فحلف، فجعل الناس يقولون لي: تأتي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالكذب؟ حتى جلستُ في البيت مخافة إذا رأوني قالوا: هذا الذي يكذب، حتى أُنـزل (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ ) .

المعاني :

حتى ينفضّوا :       كيْ يَـتفـرقوا عنه معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[7] ﴿هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا﴾ الصغار يظنون المال سيغيّر مبادئ الكبار.
وقفة
[7] لا تطيب نفس المنافق بالعَداء لدين الله وأهل الحقِّ بنفسه؛ حتى يستعديَ عليهم غيرَه ويحثَّهم على إيذائهم.
وقفة
[7] لا تبالِ أيها المؤمنُ بإرجاف المنافقين؛ فإن لله خزائنَ السماوات والأرض يؤتي الرزق من يشاء ويمنعه من يشاء.
وقفة
[7] دَيدنُ المنافقين الحضُّ على منع الإنفاق في وجوه الخير والبر، لما يعلمون من أهمية المال وأثره في انتشار الدعوة التي تبغضها قلوبُهم، وتشمئزُّ منها نفوسُهم.
وقفة
[7] تضاءلت فُهوم المنافقين فانحصرت في الحياة الدنيا، ظانِّين لقمة العيش هي كل شيء، فتواصوا بينهم بتجويع المؤمنين الصالحين، على اختلاف الزمان والمكان.
عمل
[7] تبرع في إحدى الجهات الخيرية لكفالة داعية أو طالب علم لتبتعد عن صفات المنافقين.
وقفة
[7] يسعى المنافقون دومًا لتجفيف منابع الدعم التي تدعو للخير وتنشره.
وقفة
[7] يظن المنافق أن تعلق المؤمن بالدنيا كتعلقه، خاب وخسر لا يستويان.
وقفة
[7] من وسائل أعداء الدين: الحصار الاقتصادي للمسلمين.
وقفة
[7] التضييق على المؤمنين في أرزاقهم من أساليب المنافقين في كل العصور، ودليل على قلة الفقه وغياب اليقين.
وقفة
[7] ﴿لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّـهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا﴾ ظنوا أنهم لولا أموالهم لما اجتمع المسلمون لنصر دين الله، فمن أعجب العجب أن يدَّعي أحرص الناس على خذلان الدين مثل هذه الدعوى، ولا يروج هذا إلا على من لا علم له بحقائق الأمور: ﴿وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾.
وقفة
[7] ﴿حتى ينفضوا﴾ يظن المنافقون لسوء طويتهم أن المؤمنين ما آمنوا إلا لأجل دنياهم.
وقفة
[7] ﴿وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ كيف ترجُوا مِن الخلقِ شيئًا بعد هذه الآيةِ؟! فكلُّ أحلامِك وآمالِك وما تتطلعُ إليِه وتريدُه بيدِ ربِّك وحدَه، وبهذا اليقينِ يَبدأُ الطَّريقُ إليها.
وقفة
[7] ﴿وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ كل أحلامك وآمالك ما تتطلع إليه وتريده بيد ربك وحده، بهذا اليقين يبدأ الطريق إليها.
عمل
[7] ﴿وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ اسأله الآن بلا طلبات، ولا مسوغات للصرف، ولا أوراق، ولا شفاعة، لا تنتظر ميزانية، ولا بندًا، ولا نفقات، قل فقط: يا رب.
عمل
[7] ﴿ولله خزائن السموات والأرض﴾ خزائن العلم والهداية والتوفيق والرزق والعافية والسعادة كلها لربك؛ فلا تسأل أحدا غيره.
وقفة
[7] ﴿وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ من علامات مرض القلب وضعف العقل: تعلقه بالمخلوقين وشعوره أن بأيديهم شيئًا من الخزائن.
وقفة
[7] الخوف المبالغ فيه على الرِّزق من الصفات اللازمة لأهل النفاق.
وقفة
[7] ما لا يفقهه المنافق أن الخزائن التي يطمح لها هي لله وبيده، وهذا هو يقين المؤمن، لذا السعي إليها مختلف فيما بينهما.

الإعراب :

  • ﴿ هُمُ الَّذِينَ:
  • ضمير رفع منفصل في محل رفع مبتدأ. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر «هم». وحركت ميم هم بالضم للاشباع ولالتقاء الساكنين.
  • ﴿ يَقُولُونَ:
  • الجملة الفعلية:صلة الموصول لا محل لها من الاعراب وهي فعل مضارع مرفوع بثبوت النون. والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. أي يقولون للأنصار. والجملة بعدها: في محل نصب مفعول به- مقول القول-.
  • ﴿ لا تُنْفِقُوا:
  • ناهية جازمة. تنفقوا: فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة.
  • ﴿ عَلى مَنْ:
  • حرف جر. من: اسم موصول مبني على السكون في محل جر بعلى. والجار والمجرور متعلق بلا تنفقوا
  • ﴿ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ:
  • ظرف مكان منصوب على الظرفية متعلق بجملة الصلة المحذوفة وهو مضاف. رسول: مضاف اليه مجرور بالاضافة وعلامة جره الكسرة وهو مضاف. الله: مضاف اليه مجرور للتعظيم بالكسرة.
  • ﴿ حَتَّى يَنْفَضُّوا:
  • حرف غاية وجر أو للتعليل بمعنى «كي» ينفضوا: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد «حتى» وعلامة نصبه حذف النون الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة. وجملة «ينفضوا» صلة «أن» المضمرة لا محل لها من الاعراب و «ان» المضمرة وما بعدها بتأويل مصدر في محل جر بحتى والجار والمجرور متعلق بلا تنفقوا: بمعنى يتفرقوا. وحذف مفعول «تنفقوا» اختصارا لأنه معلوم.
  • ﴿ وَلِلَّهِ خَزائِنُ:
  • الواو: استئنافية. لله: جار ومجرور للتعظيم متعلق بخبر مقدم. خزائن: مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة. أي ولله مفاتيح خزائن بمعنى: بيده سبحانه مفاتيح خزائن.
  • ﴿ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:
  • مضاف اليه مجرور بالاضافة وعلامة جره الكسرة.والأرض: معطوفة بالواو على «السموات» مجرورة مثلها بالاضافة وعلامة جرها الكسرة.
  • ﴿ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ:
  • الواو: استدراكية. لكن: حرف مشبه بالفعل من أخوات «ان» المنافقين: اسم «لكن» منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من التنوين والحركة في المفرد.
  • ﴿ لا يَفْقَهُونَ:
  • الجملة الفعلية في محل رفع خبر «لكن» لا: نافية لا عمل لها.يفقهون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل وحذف مفعولها اختصارا. أي لا يفهمون ذلك لجهلهم.'

المتشابهات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

أسباب النزول :

  • أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدانَ، قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الحافِظُ، قالَ: حَدَّثَنا أبُو العَبّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ المَحْبُوبِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قالَ: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسى، حَدَّثَنا إسْرائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الأزْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ قالَ: غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وكانَ مَعَنا ناسٌ مِنَ الأعْرابِ، فَكُنّا نَبْتَدِرُ الماءَ، وكانَ الأعْرابُ يَسْبِقُونا، فَيَسْبِقُ الأعْرابِيُّ أصْحابَهُ فَيَمْلَأُ الحَوْضَ، ويَجْعَلُ حَوْلَهُ حِجارَةً، ويَجْعَلُ النِّطَعَ عَلَيْهِ حَتّى يَجِيءَ أصْحابُهُ، فَأتى رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ فَأرْخى زِمامَ ناقَتِهِ لِتَشْرَبَ، فَأبى أنْ يَدَعَهُ الأعْرابِيُّ، فانْتَزَعَ حَجَرًا فَفاضَ الماءُ، فَرَفَعَ الأعْرابِيُّ خَشَبَةً فَضَرَبَ بِها رَأْسَ الأنْصارِيِّ فَشَجَّهُ، فَأتى الأنْصارِيُّ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ المُنافِقِ رَأْسِ المُنافِقِينَ فَأخْبَرَهُ - وكانَ مِن أصْحابِهِ - فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، ثُمَّ قالَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا مِن حَوْلِهِ. يَعْنِي الأعْرابَ. ثُمَّ قالَ لِأصْحابِهِ: إذا رَجَعْتُمْ إلى المَدِينَةِ فَلْيُخْرِجِ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ. قالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ: وأنا رِدْفُ عَمِّي، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، فَأخْبَرْتُ عَمِّي، فانْطَلَقَ فَأخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَحَلَفَ وجَحَدَ واعْتَذَرَ، فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وكَذَّبَنِي، فَجاءَ إلَيَّ عَمِّي فَقالَ: ما أرَدْتَ إلّا أنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وكَذَّبَكَ المُسْلِمُونَ. فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الغَمِّ ما لَمْ يَقَعْ عَلى أحَدٍ قَطُّ، فَبَيْنا أنا أسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ أتانِي فَعَرَكَ أُذُنِي وضَحِكَ في وجْهِي، فَما كانَ يَسُرُّنِي أنَّ لِي بِها الدُّنْيا، فَلَمّا أصْبَحْنا قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُورَةَ المُنافِقِينَ: ﴿إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون: ١] . حَتّى بَلَغَ: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلى مَن عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتّى يَنفَضُّوا﴾ . حَتّى بَلَغَ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ .قالَ أهْلُ التَّفْسِيرِ وأصْحابُ السِّيَرِ: غَزا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي المُصْطَلِقِ، فَنَزَلَ عَلى ماءٍ مِن مِياهِهِمْ يُقالُ لَهُ: المُرَيْسِيعُ، فَوَرَدَتْ وارِدَةُ النّاسِ ومَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أجِيرٌ لَهُ مِن بَنِي غِفارٍ يُقالُ لَهُ: جَهْجاهُ بْنُ سَعِيدٍ، يَقُودُ فَرَسَهُ، فازْدَحَمَ جَهْجاهٌ وسِنانٌ الجُهَنِيُّ حَلِيفُ بَنِي العَوْفِ مِنَ الخَزْرَجِ عَلى الماءِ فاقْتَتَلا، فَصَرَخَ الجُهَنِيُّ: يا مَعْشَرَ الأنْصارِ. وصَرَخَ الغِفارِيُّ وقالَ: يا مَعْشَرَ المُهاجِرِينَ. فَأعانَ جَهْجاهًا الغِفارِيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ يُقالُ لَهُ: جِعالٌ - وكانَ فَقِيرًا - فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: وإنَّكَ لَهُناكَ ؟ فَقالَ: وما يَمْنَعُنِي أنْ أفْعَلَ ذَلِكَ ؟ واشْتَدَّ لِسانُ جِعالٍ عَلى عَبْدِ اللَّهِ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: والَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأذَرَنَّكَ، ويهمك عَنْ هَذا شَيْءٌ. وغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ فَقالَ: واللَّهِ ما مَثَلُنا ومَثَلُهم إلّا كَما قالَ القائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، إنّا واللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ. يَعْنِي بِالأعَزِّ نَفْسَهُ، وبِالأذَلِّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ . ثُمَّ أقْبَلَ عَلى مَن حَضَرَهُ مِن قَوْمِهِ فَقالَ: هَذا ما فَعَلْتُمْ بِأنْفُسِكم، أحْلَلْتُمُوهم بِلادَكم، وقاسَمْتُمُوهم أمْوالَكم، أما واللَّهِ لَوْ أمْسَكْتُمْ عَنْ جِعالٍ وذَوِيهِ فَضْلَ الطَّعامِ لَمْ يَرْكَبُوا رِقابَكم، ولَأوْشَكُوا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِن بِلادِكم، فَلا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتّى يَنْفَضُّوا مِن حَوْلِ مُحَمَّدٍ. فَقالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ وكانَ حاضِرًا ويَسْمَعُ ذَلِكَ، فَقالَ: أنْتَ واللَّهِ الذَّلِيلُ القَلِيلُ المُبَغَّضُ في قَوْمِكَ، ومُحَمَّدٌ في عِزٍّ مِنَ الرَّحْمَنِ ومَوَدَّةٍ مِنَ النّاسِ، واللَّهِ لا أُحِبُّكَ بَعْدَ كَلامِكَ هَذا. فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: اسْكُتْ، فَإنَّما كُنْتُ ألْعَبُ. فَمَشى زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأخْبَرَهُ الخَبَرَ، وعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، فَقالَ: دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ يا رَسُولَ اللَّهِ. فَقالَ: ”إذَنْ تَرْعُدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ“ . فَقالَ عُمَرُ: فَإنْ كَرِهْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ أنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ فَمُرْ سَعْدَ بْنَ مُعاذٍ أوْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أوْ عُبادَةَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلُوهُ. فَقالَ: ”إذَنْ يَتَحَدَّثُ النّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ“ . وأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأتاهُ، فَقالَ لَهُ: ”أنْتَ صاحِبُ هَذا الكَلامِ الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ ؟“ . فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: والَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ ما قُلْتُ شَيْئًا مِن هَذا قَطُّ، وإنَّ زَيْدًا لَكاذِبٌ. وكانَ عَبْدُ اللَّهِ في قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا، فَقالَ مَن حَضَرَ مِنَ الأنْصارِ: يا رَسُولَ اللَّهِ، شَيْخُنا وكَبِيرُنا، لا تُصَدِّقْ عَلَيْهِ كَلامَ غُلامٍ مِن غِلْمانِ الأنْصارِ عَسى أنْ يَكُونَ وهِمَ في حَدِيثِهِ فَلَمْ يَحْفَظْ. فَعَذَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وفَشَتِ المَلامَةُ في الأنْصارِ لِزَيْدٍ وكَذَّبُوهُ، وقالَ لَهُ عَمُّهُ: ما أرَدْتَ إلّا أنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُسْلِمُونَ ومَقَتُوكَ. فاسْتَحْيا زَيْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَدْنُوَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمّا ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقالَ لَهُ: ”أوَما بَلَغَكَ ما قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ صاحِبُكم ؟“ . قالَ: وما قالَ ؟ قالَ: ”زَعَمَ أنَّهُ إنْ رَجَعَ إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ“ . فَقالَ أُسَيْدٌ: فَأنْتَ واللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ تُخْرِجَنَّهُ إنْ شِئْتَ، وهو واللَّهِ الذَّلِيلُ وأنْتَ العَزِيزُ. ثُمَّ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ارْفُقْ بِهِ، فَواللَّهِ لَقَدْ جاءَ اللَّهُ بِكَ وإنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ، وإنَّهُ لَيَرى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكًا. وبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ما كانَ مِن أمْرِ أبِيهِ، فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنَّهُ بَلَغَنِي أنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لِما بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإنْ كُنْتَ فاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأنا أحْمِلُ إلَيْكَ رَأْسَهُ، فَواللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الخَزْرَجُ ما بِها رَجُلٌ أبَرُّ بِوالِدَيْهِ مِنِّي، وأنا أخْشى أنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلا تَدَعُنِي نَفْسِي أنْ أنْظُرَ إلى قاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي في النّاسِ فَأقْتُلَهُ، فَأقْتُلَ مُؤْمِنًا بِكافِرٍ فَأدْخُلَ النّارَ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”بَلْ نُحْسِنُ صُحْبَتَهُ ما بَقِيَ مَعَنا“ . ولَمّا وافى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ قالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ: جَلَسْتُ في البَيْتِ لِما بِي مِنَ الهَمِّ والحَياءِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى سُورَةَ المُنافِقِينَ في تَصْدِيقِي وتَكْذِيبِ عَبْدِ اللَّهِ. فَلَمّا نَزَلَتْ أخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأُذُنِ زَيْدٍ فَقالَ: ”يا زَيْدُ، إنَّ اللَّهَ صَدَّقَكَ وأوْفى بِأُذُنِكَ“ . وكانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِقُرْبِ المَدِينَةِ، فَلَمّا أرادَ أنْ يَدْخُلَها جاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَتّى أناخَ عَلى مَجامِعِ طُرُقِ المَدِينَةِ، فَلَمّا أنْ جاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قالَ ابْنُهُ: وراءَكَ. فَقالَ: ما لَكَ ؟ ويْلَكَ. قالَ: لا واللَّهِ لا تَدْخُلُها أبَدًا إلّا بِإذْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولِتَعْلَمَ اليَوْمَ مَنِ الأعَزُّ مِنَ الأذَلِّ. فَشَكا عَبْدُ اللَّهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما صَنَعَ ابْنُهُ، فَأرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ خَلِّ عَنْهُ حَتّى يَدْخُلَ. فَقالَ: أما إذْ جاءَ أمْرُ النَّبِيِّ ﷺ فَنَعَمْ. فَدَخَلَ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وبانَ كَذِبُهُ قِيلَ لَهُ: يا أبا حُبابٍ، إنَّهُ قَدْ نَزَلَتْ فِيكَ آيٌ شِدادٌ، فاذْهَبْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَسْتَغْفِرَ لَكَ. فَلَوى رَأْسَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكم رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾ [المنافقون: ٥] . الآيَةَ. '
  • المصدر

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [7] لما قبلها :     وبعد ذكرِ صفات وأخلاق المنافقين الفاسدة؛ ننتقل إلى ذكرِ مقولاتهم الشنيعة في حقِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فبَيَّنَ اللهُ هنا ما قالَه رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ في غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ -ونُسِبَ القول لهم جميعًا؛ لأنهم رضوا به-، قالوا: ١- لا تنفقوا على من عند رسول الله من فقراء المهاجرين، حتى يتفرقوا من حوله، قال تعالى:
﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ

القراءات :

جاري إعداد الملف الصوتي

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [8] :المنافقون     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ..

التفسير :

[8] يقول هؤلاء المنافقون:لئن عُدْنا إلى «المدينة» ليخرجنَّ فريقنا الأعزُّ منها فريق المؤمنين الأذل، ولله تعالى العزة ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وللمؤمنين بالله ورسوله لا لغيرهم، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك؛ لكثرةِ جهلهم.

{ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} وذلك في غزوة المريسيع، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار، بعض كلام كدر الخواطر، ظهر حينئذ نفاق المنافقين، وأظهروا ما في نفوسهم.

وقال كبيرهم، عبد الله بن أبي بن سلول:ما مثلنا ومثل هؤلاء -يعني المهاجرين- إلا كما قال القائل:"غذ كلبك يأكلك "

وقال:لئن رجعنا إلى المدينة{ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون، وأن رسول الله ومن معههم الأذلون، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق، فلهذا قال [تعالى:]{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فهم الأعزاء، والمنافقون وإخوانهم من الكفار [هم] الأذلاء.{ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك زعموا أنهم الأعزاء، اغترارًا بما هم عليه من الباطل، ثم قال تعالى:

ثم حكى- سبحانه- قولا آخر من أقوالهم القبيحة فقال: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ....

والقائل هو عبد الله بن سلول، ولكن القرآن نسب القول إليهم جميعا لأنهم رضوا بقوله، ووافقوه عليه.

وجاء الأسلوب بصيغة المضارع، لاستحضار هذه المقالة السيئة، وتلك الصورة البغيضة لهؤلاء القوم.

والأعز: هو القوى لعزته، بمعنى أنه يغلب غيره، والأذل هو الذي يغلبه غيره لذلته وضعفه.

وأراد عبد الله بن أبى بالأعز، نفسه، وشيعته من المنافقين، وأراد بالأذل، الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين وغيرهم من المؤمنين الصادقين.

والمراد بالرجوع في قوله لَئِنْ رَجَعْنا الرجوع إلى المدينة بعد انتهاء غزوة بنى المصطلق.

أى: يقول هؤلاء المنافقون- على سبيل التبجح وسوء الأدب- لئن رجعنا إلى المدينة بعد انتهاء هذه الغزوة، ليخرجن الفريق الأعز منا الفريق الأذل من المدينة، حتى لا يبقى فيها أحد من هذا الفريق الأذل، بل تصبح خالية الوجه لنا. وقد رد الله- تعالى- على مقالتهم الباطلة هذه بما يخرس ألسنتهم فقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.

أى: لقد كذب المنافقون فيما قالوه، فإن لله- تعالى- وحده العزة المطلقة والقوة التي لا تقهر، وهي- أيضا- لمن أفاضها عليه من رسله ومن المؤمنين الصادقين، وهي بعيدة كل البعد عن أولئك المنافقين.

وقال- سبحانه-: وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بإعادة حرف الجر، لتأكيد أمر هذه العزة، وأنها متمكنة منهم لأنها مستمدة من إيمانهم بالله- تعالى- وحده.

وقوله- تعالى-: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ استدراك قصد به تجهيل هؤلاء المنافقين، أى: ليست العزة إلا لله- تعالى- ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك، ولا يعرفونه لاستيلاء الجهل والغباء عليهم، لأنهم لو كانت لهم عقول تعقل، لعلموا أن العزة لدعوة الحق، بدليل انتشارها في الآفاق يوما بعد يوم، وانتصار أصحابها على أعدائهم حينا بعد حين، وازدياد سلطانهم وقتا بعد وقت.

قال صاحب الكشاف قوله- تعالى-: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ ... أى: الغلبة والقوة لله- تعالى-، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله، ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أن المذلة والهوان، للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.

وعن الحسن بن على- رضى الله عنهما- أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها، قال: ليس بتيه، ولكنه عزة، وتلا هذه الآية .

وقال الإمام الرازي: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه- لغير الله- فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه، وإكرامها عن أن يضعها في غير موضعها اللائق بها، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلتها. فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، فالتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم والعزة محمودة.. .

هذا، وإن المتدبر لهذه الآيات الكريمة وفي أسباب نزولها، ليرى فيها ألوانا من العظات والعبر.

يرى فيها التصرف الحكيم من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أنه صلى الله عليه وسلم بمجرد أن بلغته تلك الأقوال التي قالها عبد الله بن أبى، لكي يثير الفتنة بين المسلمين، ما كان منه إلا أن أمر عمر ابن الخطاب، بأن ينادى في الناس بالرحيل.. لكي يشغل الناس عما تفوه به ابن أبى، حتى لا يقع بينهم ما لا تحمد عقباه.

كما يرى كيف أنه صلى الله عليه وسلم عالج تلك الأحداث بحكمة حكيمة فعند ما أشار عليه عمر- رضى الله عنه- بقتل ابن أبى.. ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له: يا عمر، كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟! وأبى صلى الله عليه وسلم أن يأمر بقتله بل ترك لعشيرته من الأنصار تأديبه وتوبيخه.

ولقد بلغ الحال بابنه عبد الله- رضى الله عنه- وهو أقرب الناس إليه، أن يمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخولها.

كما يرى المتدبر لهذه الآيات، والأحداث التي نزلت فيها، أن النفوس إذا جحدت الحق، واستولت عليها الأحقاد، واستحوذ عليها الشيطان.. أبت أن تسلك الطريق المستقيم، مهما كانت معالمه واضحة أمامها..

فعبد الله بن أبى وجماعته، وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحارب لها ولأتباعها، وسلكوا في إذاعة السوء حول الرسول صلى الله عليه وسلم وحول أصحابه كل مسلك.. مع أن آيات القرآن الكريم، كانت تتلى على مسامعهم صباح مساء، ومع أن إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تصل إليهم يوما بعد يوم، ومع أن المؤمنين الصادقين كانوا لا يكفون عن نصحهم ووعظهم..

كما نرى أن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب، ضحى الإنسان من أجله بكل شيء..

فعبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبى، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه..

ثم يقف على باب المدينة شاهرا سيفه، ثم يمنع أباه من دخولها حتى يأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بدخولها، وحتى يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو العزيز، وأنه هو- أى عبد الله ابن أبى- هو الذليل.

وهكذا تعطينا هذه الآيات وأحداثها ما تعطينا من عبر وعظات..

ثم تختتم السورة الكريمة بنداء توجهه إلى المؤمنين، تأمرهم فيه بالمواظبة على طاعة الله- تعالى- وتنهاهم عن أن يشغلهم عن ذلك شاغل، وتحضهم على الإنفاق في سبيل إعلاء كلمته- سبحانه-، وعلى تقديم العمل الصالح الذي ينفعهم قبل فوات الأوان، قال- تعالى-:

فقال عبدالله بن أبي عدو الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال مالك بن الدخشن وكان من المنافقين ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا؟ فسمع بذلك عمر بن الخطاب فأقبل يمشي حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه يريد عمر عبدالله بن أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟" فقال عمر نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اجلس" فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الأنصار ثم أحد بني عبد الأشهل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أو قاتله أنت إن امرتك بقتله؟" قال نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قرط أذنيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اجلس" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آذنوا بالرحيل" فهجر بالناس فسار يومه وليلته والغد حتى متع النهار ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المشلل فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟" فقال عمر نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله لقتلوه فيتحدث الناس أني قد وقعت علي أصحابي فأقتلهم صبرا" وأنزل الله عز وجل "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله ختى ينفضوا - إلى قوله تعالى - يقولون لئن رجعنا إلى المدينة" الآية وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه وقال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبدالله بن عبدالله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمسي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا" وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبدالله بن عبدالله هذا على باب المدينة واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه فلما جاء أبوه عبدالله بن أبي قال له ابنه وراءك فقال مالك ويلك؟ فقال والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبدالله بن أبي ابنه فقال ابنه عبدالله والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن وقال أبو بكر عبدالله بن الزبير الحميدي في مسنده حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا أبو هارون المدني قال: قال عبدالله بن عبدالله ابن أبي بن سلول لأبيه والله لا تدخل المدينة أبدا حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له لئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي.

يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المنافقون الذين وَصف صفتهم قبل ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) فيها، ويعني بالأعزّ: الأشدّ والأقوى، قال الله جلّ ثناؤه: ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ ) يعني : الشدة والقوة ( وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) بالله ( وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ذلك.

وذُكر أن سبب قيل ذلك عبدُ الله بن أُبي كان من أجل أن رجلا من المهاجرين كَسَعَ رجلا من الأنصار.

* ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا أَبو عامر، قال: ثنا زَمْعة ، عن عمرو، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: إن الأنصار كانوا أكثر من المهاجرين، ثم إن المهاجرين كثروا فخرجوا في غزوة لهم، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، قال: فكان بينهما قتال إلى أن صرخ: يا معشر الأنصار، وصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين؛ قال: فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: " مَا لَكُمْ وَلِدعْوةِ الجَاهِلِيَّةِ؟" فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " دَعُوهَا فِإنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، قال: فقال عبد الله بن أُبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ، فقال عمر: يا رسول الله دعني فأقتله، قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ".

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ) ... إلى ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ ) قال: قال ذلك عبد الله بن أُبيّ ابن سلول الأنصاري رأس المنافقين، وناس معه من المنافقين.

حدثني أحمد بن منصور الرمادي قال: ثنا إبراهيم بن الحكم قال: ثني أَبي عن عكرمة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ ابن سلول كان يقال له حباب، فسماه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عبد الله، فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله ، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لا تَقْتُلْ أبَاكَ عَبْدَ اللهِ"، ثم جاء أيضًا فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله ، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لا تَقْتُلْ أباك "، فقال: يا رسول الله فتوضأ حتى أسقيه من وضوئك لعلّ قلبه أن يلين، فتوضأ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأعطاه، فذهب به إلى أبيه فسقاه، ثم قال له: هل تدري ما سقيتك؟ فقال له والده نعم، سقيتني بول أمك، فقال له ابنه: لا والله، ولكن سقيتك وضوء رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ قال عكرمة: وكان عبد الله بن أُبيّ عظيم الشأن فيهم. وفيهم أنـزلت هذه الآية في المنافقين: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وهو الذي قال: ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) قال : فلما بلغوا المدينة، مدينة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومن معه، أخذ ابنه السيف ، ثم قال لوالده: أنت تزعم " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ"، فوالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار برجله وذلك في أهل اليمن شديد فنادى المهاجرين يا للمهاجرين، ونادى الأنصار يا للأنصار؛ قال: والمهاجرون يومئذ أكثر من الأنصار، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " دعوهَا فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، فقال عبد الله بن أُبيّ ابن سلول " لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ".

حدثني عمران بن بكار الكلاعيّ، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عليّ بن سليمان، قال : ثنا أبو إسحاق، أن زيد بن أرقم، أخبره أن عبد الله بن أُبيّ ابن سلول قال لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وقال: ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) قال: فحدثني زيد أنه أخبر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقول عبد الله بن أُبيّ، قال: فجاء فحلف عبد الله بن أُبي لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما قال ذلك؛ قال أبو إسحاق: فقال لي زيد، فجلست في بيتي، حتى أنـزل الله تصديق زيد، وتكذيب عبد الله في إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) قرأ الآية كلها إلى ( لا يَعْلَمُونَ ) قال: قد قالها منافق عظيم النفاق في رجلين اقتتلا أحدهما غفاريّ، والآخر جُهَنِيّ، فظهر الغفاريّ على الجُهنيّ، وكان بين جُهينة والأنصار حلف، فقال رجل من المنافقين وهو ابن أُبيَ: يا بني الأوس، يا بني الخزرج، عليكم صاحبكم وحليفكم، ثم قال: والله ما مثلنا ومَثَلَ محمد إلا كما قال القائل: " سمِّن كلبك يأكْلك "، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فسعى بها بعضهم إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال عمر: يا نبيّ الله مُر معاذ بن جبل أن يضرب عنق هذا المنافق، فقال: " لا يتحدّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَدًا يَقْتُلُ أصحَابَهُ".

ذُكر لنا أنه كان أُكثِر على رجل من المنافقين عنده، فقال: هل يصلي؟ فقال: نعم ولا خير في صلاته، فقال: نُهيت عن المصلين، نُهيت عن المصلين.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: اقتتل رجلان، أحدهما من جُهينة، والآخر من غفار، وكانت جهينة حليف الأنصار، فظهر عليه الغفاريّ، فقال رجل منهم عظيم النفاق: عليكم صاحبكم، عليكم صاحبكم، فوالله ما مَثلنا ومَثَل محمد إلا كما قال القائل: " سمّن كلبك يأكلك "، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وهم في سفر، فجاء رجل ممن سمعه إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأخبره ذلك، فقال عمر: مُر معاذا يضرب عنقه، فقال: " وَالله لا يتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"، فنـزلت فيهم: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ

وقوله: ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ). حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن " أن غلامًا جاء إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: يا رسول الله إني سمعت عبد الله بن أُبيّ يقول كذا وكذا؛ قال: " فَلَعَلَّكَ غَضِبْتَ عَلَيْهِ؟" قال: لا والله لقد سمعته يقوله؛ قال: " فَلَعَلَّكَ أَخْطَأَ سَمعكَ؟" قال: لا والله يا نبيّ الله لقد سمعته يقوله قال: فَلَعَلَّهُ شُبِّهَ عَلَيْكَ"، قال: لا والله، قال: فأنـزل الله تصديقًا للغلام ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) فأخذ النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأذن الغلام، فقال: " وَفَتْ أُذُنُكَ، وَفَتْ أُذُنُكَ يَا غُلامُ".

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله ( لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) قال: كان المنافقون يسمون المهاجرين: الجلابيب؛ وقال: قال ابن أُبي: قد أمرتكم في هؤلاء الجلابيب أمري، قال: هذا بين أمَجٍ وعسفان على الكديد تنازعوا على الماء، وكان المهاجرون قد غلبوا على الماء؛ قال: وقال ابن أُبيّ أيضًا: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلَّ لقد قلت لكم: لا تنفقوا عليهم، لو تركتموهم ما وجدوا ما يأكلون، ويخرجوا ويهربوا؛ فأتى عمر بن الخطاب إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أُبيّ؟ قال: وما ذاك؟ فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، قال: " إذًا تَرْعَدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ" قال عمر: فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين، فمرّ به سعد بن معاذ، ومحمد بن مسلمة فيقتلانه فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إِني أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، ادْعُوا لِي عَبْدَ اللهِ بنَ عَبدِ اللهِ بن أُبَيّ"، فدعاه، فقال: " ألا تَرَى ما يَقُولُ أَبُوكَ؟" قال: وما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: " يَقُولُ لَئِن رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ"؛ فقال: فقد صدق والله يا رسول الله، أنت والله الأعزُّ وهو الأذلُّ، أما والله لقد قَدِمت المدينة يا رسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبرّ مني، ولئن كان يرضى الله ورسوله أن آتيهما برأسه لآتِيَنَّهما به ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لا؛ فلما قدموا المدينة، قام عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ على بابها بالسيف لأبيه؛ ثم قال: أنت القائل : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ، أما والله لتعرفنّ العزة لك أو لرسول الله، والله لا يأويك ظله، ولا تأويه أبدًا إلا بإذن من الله ورسوله؛ فقال: يا للخزرج ابني يمنعني بيتي، يا للخزرج ابني يمنعني بيتي، فقال: والله لا تأويه أبدًا إلا بإذن منه؛ فاجتمع إليه رجال فكلموه، فقال: والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله، فأتوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخبروه، فقال: " اذْهَبُوا إلَيْهِ، فَقُولُوا لَهُ خَلِّهِ وَمَسْكَنَهُ"؛ فأتوه، فقال: أما إذا جاء أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فنعم ".

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سَلَمَة وعليّ بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر، وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: كلّ قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا: " بلغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أَبو جويرية بنت الحارث زوج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فلما سمع بهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس فاقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقُتِل من قُتل منهم، ونفل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم الله عليه، وقد أصيب رجل من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدوّ، فقتله خطأ، فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جَهْجَاه بن سعيد (1) يقود له فرسه، فازدحم جَهْجاه وسنان الجُهْنِيُّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السنّ، فقال: قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعُدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: " سمّن كلبك يأكلك "، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ؛ ثم أقبل على من حضر من قومه، فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم؛ فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وذلك عند فراغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من غزوه، فأخبر الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله مُر به عباد بن بشر بن وقش فليقتله، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " فَكَيْفَ يَا عُمَرْ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لا وَلَكِنْ أَذَّنْ بالرَّحِيلِ"، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يرتحل فيها، فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أُبيّ إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به؛ وكان عبد الله بن أُبيّ في قومه شريفًا عظيمًا، فقال من حضر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أصحابه من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدبًا على عبد الله بن أُبيّ، ودفعًا عنه؛ فلما استقلّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله لقد رُحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " أَوَمَا بَلَغَكَ مَا قَال صَاحِبُكُمْ؟" قال: فأيّ صاحب يا رسول الله؟ قالَ: " عَبْدُ اللهِ بِنُ أُبَيّ"، قال: وما قال؟ قال: " زَعَمَ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَل "؛ قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز؛ ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته مُلكًا، ثم مشى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نـزل بالناس، فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أُبيّ. ثم راح بالناس وسلك الحجاز حتى نـزل على ماء بالحجاز فُويق النقيع، يقال له نقعاء؛ فلما راح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هَبَّت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوّفوها، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لا تَخَافُوا فإنَّمَا هَبَّتْ لِمَوْتَ عَظِيمٍ مَنْ عُظَمَاءِ الْكُفَارِ"؛ فلما قَدِموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء يهود، وكهفًا للمنافقين قد مات ذلك اليوم، فنـزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ومن كان معه على مثل أمره ، فقال: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ فلما نـزلت هذه السورة أخذ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأذن زيد فقال: " هَذَا الَّذِي أَوْفى الله بأذنه "، وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ الذي كان من أبيه.

حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة " أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيره فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبيّ يمشي في الناس فأقتلَه، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخلَ النارَ؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " بَلْ نَرْفُقْ بِهِ وَنُحِسنْ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا "، وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم: " كَيْفَ تَرَى يا عُمَرُ، أما واللهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لأرْعَدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ أَمَرْتَهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتَهُ"؛ قال: فقال عمر: قد والله علمت لأمرُ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أعظم بركة من أمري.

------------------------

الهوامش:

(1) الذي في سيرة ابن هشام ابن مسعود

المعاني :

رَجَعْنـَـا :       من غزوة بني المصطلق معاني القرآن
ليُـخْرجَنّ الأعزّ :       الأشد و الأقوى يَعنون أنفسهم معاني القرآن
الأذلّ :       الأضعف و الأهون . يعنون الرسول و المؤمنين معاني القرآن
و لله العزّة :       الغَـلبة و القهْر معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[8] عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ، قَالُوا: كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوا شِدَّةٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقِي فِي: ﴿إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ﴾ فَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ [البخاري 4903].
وقفة
[8] ﴿يَقُولُونَ﴾ قالها رجلٌ واحدٌ هو ابْنُ سَلُولَ، لكنِ اللهَ نسبَ القولَ لهم جميعًا لأنَّهم رَضُوا قَولَه.
وقفة
[8] ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ شاب صغير صدقه الله من السماء، قل الحقيقة مهما كنت ضعيفًا؛ رب الكون والحقيقة معك.
وقفة
[8] ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ ما أكثر ما يخطئ المنافقون في تقدير حجمهم وقوَّتهم في مجتمعات المسلمين، ثم إذا جدَّ الجدُّ أخزاهم الله، وأظهر ضآلة حجمهم، وضعفَ شوكتهم!
وقفة
[8] ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ كبالونة الهواء هم المنافقون؛ يعتقدون لأنفسهم حجمًا أكبر من شأنهم في المجتمعات.
وقفة
[8] من أدوات المنافقين تضليل الناس بزعم أنهم الأغلبية المؤثرة، مع كونهم أقلية حقيرة تافهة.
وقفة
[8] المنافقون يخطئون كثيرًا في تقدير حجمهم في مجتمعات الإسلام.
وقفة
[8] عزة المؤمن مهما خبت نارها؛ فإن جذوتها باقية، إذا هبت عليها ربح الإيمان توقدت، وعلا لهيبها ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
وقفة
[8] ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الشعور بالعزة مرتبط بالإيمان، حين يتقوض الإيمان في القلب؛ تذوي الكرامة ويتضخم الآخرون.
وقفة
[8] ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ لتَهنِكُم العزَّةُ أيها المؤمنون، فهل من شرف ومجد أعظمُ من أن يضمَّكم الله إليه وإلى رسوله؟ إنه تكريمُ الكريم، وعطاءُ الربِّ الكريم.
وقفة
[8] ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ حين تشعر بالهوان أو أن هناك من يستخف بك؛ فاستنشق رائحة العز من إيمانك.
وقفة
[8] ﴿وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ نعم والله لا يعلمون، بل لعلهم ظنوا أن لهم العزة، ولكن الله يملي لهم إن كيده متين.
وقفة
[8] من قوي عظمه بلبن الذل عسر عليه الفطام، العزة لا تصلح لمثل هؤلاء، حتى ولو انتفض احتاج لدهور حتى يقف على أرض الأحرار.
وقفة
[8] العزة لله ولمن والاه حقيقة ناصعة لا يراها المنافق الذي طمس الله على قلبه.
وقفة
[8] قيل: «من أراد عزًّا بلا سلطان، وكثرة بلا عشيرة، وغنى بلا مال؛ فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة».
وقفة
[8] الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله، كان الحسن البصري يقول: وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وقفة
[8] ضريبة الذل والهوان أضعاف أضعاف ضريبة العزة والكرامة.
وقفة
[8] إيمانك الصحيح هو الذي تستلهم به عزتك وإباءك عن كل ما يُذلك، فإياك وإرجاف المنافقين لك.
وقفة
[8] مهما فعل أهل التغريب والنفاق فالعزة للدين وأهله.
عمل
[8] العزة لا تكون إلا بالله، فمن أرادها فليطلبها من مالكها.
وقفة
[8] النصر لأولياء الله، ولكن المنافقين يغترون بالبدايات فيخطئون في تقدير النهايات.
وقفة
[8] ﴿ولكن المنافقين لا يعلمون﴾ وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون عزة الدين ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟!

الإعراب :

  • ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ:
  • فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. اللام موطئة للقسم- اللام المؤذنة- إن: حرف شرط جازم.والجملة الشرطية في محل نصب مفعول به- مقول القول-.
  • ﴿ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ:
  • فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنا فعل الشرط في محل جزم بإن. و «نا» ضمير متصل- ضمير المتكلمين- مبني على السكون في محل رفع فاعل. إِلَى الْمَدِينَةِ: جار ومجرور متعلق برجعنا. وجملة «إن رجعنا الى المدينة» اعتراضية بين القسم المحذوف وجوابه لا محل لها من الاعراب.
  • ﴿ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ:
  • الجملة: جواب القسم المقدر لا محل لها من الاعراب.وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. أو جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين. اللام: واقعة في جواب القسم المقدر. يخرجن: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والنون لا محل لها من الاعراب.الأعز: فاعل مرفوع بالضمة.
  • ﴿ مِنْهَا الْأَذَلَّ:
  • جار ومجرور متعلق بيخرجن. الأذل: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة. ويجوز أن يكون «الأذل» حالا بتأويل النكرة.والوجه الأول أعرب وأصوب. لأن الفعل رباعي متعد الى مفعول.
  • ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ:
  • الواو استئنافية. لله: جار ومجرور للتعظيم متعلق بخبر مقدم.العزة: مبتدأ مؤخر مرفع بالضمة.
  • ﴿ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ:
  • واو عاطفة. لرسوله: معطوف بالواو على لفظ الجلالة مجرور بالكسرة والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة. أو يكون الجار والمجرور متعلقا بخبر مقدم وحذف المبتدأ لأن ما قبله يدل عليه. وللمؤمنين: معطوف بالواو على «رسوله» ويعرب اعرابه وعلامة جر الاسم الياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من التنوين والحركة في المفرد.التقدير: ولرسوله العزة وللمؤمنين كذلك.
  • ﴿ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ:
  • اعربت في الآية الكريمة السابقة.'

المتشابهات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

أسباب النزول :

  • أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدانَ، قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الحافِظُ، قالَ: حَدَّثَنا أبُو العَبّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ المَحْبُوبِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قالَ: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسى، حَدَّثَنا إسْرائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الأزْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ قالَ: غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وكانَ مَعَنا ناسٌ مِنَ الأعْرابِ، فَكُنّا نَبْتَدِرُ الماءَ، وكانَ الأعْرابُ يَسْبِقُونا، فَيَسْبِقُ الأعْرابِيُّ أصْحابَهُ فَيَمْلَأُ الحَوْضَ، ويَجْعَلُ حَوْلَهُ حِجارَةً، ويَجْعَلُ النِّطَعَ عَلَيْهِ حَتّى يَجِيءَ أصْحابُهُ، فَأتى رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ فَأرْخى زِمامَ ناقَتِهِ لِتَشْرَبَ، فَأبى أنْ يَدَعَهُ الأعْرابِيُّ، فانْتَزَعَ حَجَرًا فَفاضَ الماءُ، فَرَفَعَ الأعْرابِيُّ خَشَبَةً فَضَرَبَ بِها رَأْسَ الأنْصارِيِّ فَشَجَّهُ، فَأتى الأنْصارِيُّ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ المُنافِقِ رَأْسِ المُنافِقِينَ فَأخْبَرَهُ - وكانَ مِن أصْحابِهِ - فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، ثُمَّ قالَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا مِن حَوْلِهِ. يَعْنِي الأعْرابَ. ثُمَّ قالَ لِأصْحابِهِ: إذا رَجَعْتُمْ إلى المَدِينَةِ فَلْيُخْرِجِ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ. قالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ: وأنا رِدْفُ عَمِّي، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، فَأخْبَرْتُ عَمِّي، فانْطَلَقَ فَأخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَحَلَفَ وجَحَدَ واعْتَذَرَ، فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وكَذَّبَنِي، فَجاءَ إلَيَّ عَمِّي فَقالَ: ما أرَدْتَ إلّا أنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وكَذَّبَكَ المُسْلِمُونَ. فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الغَمِّ ما لَمْ يَقَعْ عَلى أحَدٍ قَطُّ، فَبَيْنا أنا أسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ أتانِي فَعَرَكَ أُذُنِي وضَحِكَ في وجْهِي، فَما كانَ يَسُرُّنِي أنَّ لِي بِها الدُّنْيا، فَلَمّا أصْبَحْنا قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُورَةَ المُنافِقِينَ: ﴿إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون: ١] . حَتّى بَلَغَ: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلى مَن عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتّى يَنفَضُّوا﴾ . حَتّى بَلَغَ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ .قالَ أهْلُ التَّفْسِيرِ وأصْحابُ السِّيَرِ: غَزا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي المُصْطَلِقِ، فَنَزَلَ عَلى ماءٍ مِن مِياهِهِمْ يُقالُ لَهُ: المُرَيْسِيعُ، فَوَرَدَتْ وارِدَةُ النّاسِ ومَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أجِيرٌ لَهُ مِن بَنِي غِفارٍ يُقالُ لَهُ: جَهْجاهُ بْنُ سَعِيدٍ، يَقُودُ فَرَسَهُ، فازْدَحَمَ جَهْجاهٌ وسِنانٌ الجُهَنِيُّ حَلِيفُ بَنِي العَوْفِ مِنَ الخَزْرَجِ عَلى الماءِ فاقْتَتَلا، فَصَرَخَ الجُهَنِيُّ: يا مَعْشَرَ الأنْصارِ. وصَرَخَ الغِفارِيُّ وقالَ: يا مَعْشَرَ المُهاجِرِينَ. فَأعانَ جَهْجاهًا الغِفارِيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ يُقالُ لَهُ: جِعالٌ - وكانَ فَقِيرًا - فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: وإنَّكَ لَهُناكَ ؟ فَقالَ: وما يَمْنَعُنِي أنْ أفْعَلَ ذَلِكَ ؟ واشْتَدَّ لِسانُ جِعالٍ عَلى عَبْدِ اللَّهِ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: والَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأذَرَنَّكَ، ويهمك عَنْ هَذا شَيْءٌ. وغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ فَقالَ: واللَّهِ ما مَثَلُنا ومَثَلُهم إلّا كَما قالَ القائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، إنّا واللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ. يَعْنِي بِالأعَزِّ نَفْسَهُ، وبِالأذَلِّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ . ثُمَّ أقْبَلَ عَلى مَن حَضَرَهُ مِن قَوْمِهِ فَقالَ: هَذا ما فَعَلْتُمْ بِأنْفُسِكم، أحْلَلْتُمُوهم بِلادَكم، وقاسَمْتُمُوهم أمْوالَكم، أما واللَّهِ لَوْ أمْسَكْتُمْ عَنْ جِعالٍ وذَوِيهِ فَضْلَ الطَّعامِ لَمْ يَرْكَبُوا رِقابَكم، ولَأوْشَكُوا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِن بِلادِكم، فَلا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتّى يَنْفَضُّوا مِن حَوْلِ مُحَمَّدٍ. فَقالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ وكانَ حاضِرًا ويَسْمَعُ ذَلِكَ، فَقالَ: أنْتَ واللَّهِ الذَّلِيلُ القَلِيلُ المُبَغَّضُ في قَوْمِكَ، ومُحَمَّدٌ في عِزٍّ مِنَ الرَّحْمَنِ ومَوَدَّةٍ مِنَ النّاسِ، واللَّهِ لا أُحِبُّكَ بَعْدَ كَلامِكَ هَذا. فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: اسْكُتْ، فَإنَّما كُنْتُ ألْعَبُ. فَمَشى زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأخْبَرَهُ الخَبَرَ، وعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، فَقالَ: دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ يا رَسُولَ اللَّهِ. فَقالَ: ”إذَنْ تَرْعُدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ“ . فَقالَ عُمَرُ: فَإنْ كَرِهْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ أنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ فَمُرْ سَعْدَ بْنَ مُعاذٍ أوْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أوْ عُبادَةَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلُوهُ. فَقالَ: ”إذَنْ يَتَحَدَّثُ النّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ“ . وأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأتاهُ، فَقالَ لَهُ: ”أنْتَ صاحِبُ هَذا الكَلامِ الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ ؟“ . فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: والَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ ما قُلْتُ شَيْئًا مِن هَذا قَطُّ، وإنَّ زَيْدًا لَكاذِبٌ. وكانَ عَبْدُ اللَّهِ في قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا، فَقالَ مَن حَضَرَ مِنَ الأنْصارِ: يا رَسُولَ اللَّهِ، شَيْخُنا وكَبِيرُنا، لا تُصَدِّقْ عَلَيْهِ كَلامَ غُلامٍ مِن غِلْمانِ الأنْصارِ عَسى أنْ يَكُونَ وهِمَ في حَدِيثِهِ فَلَمْ يَحْفَظْ. فَعَذَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وفَشَتِ المَلامَةُ في الأنْصارِ لِزَيْدٍ وكَذَّبُوهُ، وقالَ لَهُ عَمُّهُ: ما أرَدْتَ إلّا أنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُسْلِمُونَ ومَقَتُوكَ. فاسْتَحْيا زَيْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَدْنُوَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمّا ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقالَ لَهُ: ”أوَما بَلَغَكَ ما قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ صاحِبُكم ؟“ . قالَ: وما قالَ ؟ قالَ: ”زَعَمَ أنَّهُ إنْ رَجَعَ إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ“ . فَقالَ أُسَيْدٌ: فَأنْتَ واللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ تُخْرِجَنَّهُ إنْ شِئْتَ، وهو واللَّهِ الذَّلِيلُ وأنْتَ العَزِيزُ. ثُمَّ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ارْفُقْ بِهِ، فَواللَّهِ لَقَدْ جاءَ اللَّهُ بِكَ وإنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ، وإنَّهُ لَيَرى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكًا. وبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ما كانَ مِن أمْرِ أبِيهِ، فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنَّهُ بَلَغَنِي أنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لِما بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإنْ كُنْتَ فاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأنا أحْمِلُ إلَيْكَ رَأْسَهُ، فَواللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الخَزْرَجُ ما بِها رَجُلٌ أبَرُّ بِوالِدَيْهِ مِنِّي، وأنا أخْشى أنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلا تَدَعُنِي نَفْسِي أنْ أنْظُرَ إلى قاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي في النّاسِ فَأقْتُلَهُ، فَأقْتُلَ مُؤْمِنًا بِكافِرٍ فَأدْخُلَ النّارَ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”بَلْ نُحْسِنُ صُحْبَتَهُ ما بَقِيَ مَعَنا“ . ولَمّا وافى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ قالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ: جَلَسْتُ في البَيْتِ لِما بِي مِنَ الهَمِّ والحَياءِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى سُورَةَ المُنافِقِينَ في تَصْدِيقِي وتَكْذِيبِ عَبْدِ اللَّهِ. فَلَمّا نَزَلَتْ أخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأُذُنِ زَيْدٍ فَقالَ: ”يا زَيْدُ، إنَّ اللَّهَ صَدَّقَكَ وأوْفى بِأُذُنِكَ“ . وكانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِقُرْبِ المَدِينَةِ، فَلَمّا أرادَ أنْ يَدْخُلَها جاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَتّى أناخَ عَلى مَجامِعِ طُرُقِ المَدِينَةِ، فَلَمّا أنْ جاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قالَ ابْنُهُ: وراءَكَ. فَقالَ: ما لَكَ ؟ ويْلَكَ. قالَ: لا واللَّهِ لا تَدْخُلُها أبَدًا إلّا بِإذْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولِتَعْلَمَ اليَوْمَ مَنِ الأعَزُّ مِنَ الأذَلِّ. فَشَكا عَبْدُ اللَّهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما صَنَعَ ابْنُهُ، فَأرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ خَلِّ عَنْهُ حَتّى يَدْخُلَ. فَقالَ: أما إذْ جاءَ أمْرُ النَّبِيِّ ﷺ فَنَعَمْ. فَدَخَلَ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وبانَ كَذِبُهُ قِيلَ لَهُ: يا أبا حُبابٍ، إنَّهُ قَدْ نَزَلَتْ فِيكَ آيٌ شِدادٌ، فاذْهَبْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَسْتَغْفِرَ لَكَ. فَلَوى رَأْسَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكم رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾ [المنافقون: ٥] . الآيَةَ. '
  • المصدر

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [8] لما قبلها :     ٢- لَئِن رَجَعنا إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ، قال تعالى:
﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ

القراءات :

جاري إعداد الملف الصوتي

ليخرجن:
وقرئ:
1- لنخرجن، بنون الجماعة مفتوحة، وضم الراء، ونصب «الأعز» على الاختصاص، وهى قراءة الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني.
2- ليخرجن، بالياء مبنيا للمفعول و «الأعز» مرفوع به، «الأذل» نصبا على الحال، ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين.

مدارسة الآية : [9] :المنافقون     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا ..

التفسير :

[9] يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تَشْغَلْكم أموالكم ولا أولادكم عن عبادة الله وطاعته، ومن تشغَله أمواله وأولاده عن ذلك، فأولئك هم الذين تُغْبَنُ حظوظهم من كرامة الله ورحمته.

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره، فإن في ذلك الربح والفلاح، والخيرات الكثيرة، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس، فتقدمها على محبة الله، وفي ذلك الخسارة العظيمة، ولهذا قال تعالى:{ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي:يلهه ماله وولده، عن ذكر الله{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} للسعادة الأبدية، والنعيم المقيم، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى، قال تعالى:{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .

والمقصود من هذه الآيات الكريمة نهى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين الذين سبق الحديث عنهم بصورة مفصلة، وحضهم على الاستجابة لما كلفهم الله- تعالى- به. أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- إيمانا حقا، لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... أى:

لا تشغلكم أموالكم التي تهتمون بجمعها وتحصيلها.. ولا أولادكم الذين هم أشهى ثمرات حياتكم.. لا يشغلكم ذلك عن أداء ما كلفكم- سبحانه- بأدائه من طاعات، فالمراد بذكر الله، ما يشمل جميع التكاليف من صلاة وزكاة وصيام وحج، وغير ذلك من الطاعات التي أمر الله- تعالى- بها.

وخص الأموال والأولاد بتوجه النهى عن الاشتغال بهما اشتغالا يلهى عن ذكر الله، لأنهما أكثر الأشياء التي تلهى عن طاعة الله- تعالى-..

فمن أجل الاشتغال بجمع المال، يقضى الإنسان معظم حياته، وكثير من الناس من أجل جمع المال، يضحون بما يفرضه عليهم دينهم من واجبات، ومن أخلاق، ومن سلوك وآداب..

ومن أجل راحة الأولاد قد يضحى الآباء براحتهم، وبما تقضى به المروءة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «الولد مجبنة مبخلة» .

والتعبير بقوله- تعالى-: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يشعر بأن المسلم إذا اشتغل بجمع المال. وبرعاية الأولاد، دون أن يصرفه ذلك عن طاعة الله، أو عن أداء حق من حقوقه- تعالى-، فإن هذا الاشتغال لا يكون مذموما، بل يكون مرضيا عنه من الله- تعالى-.

واسم الإشارة في قوله- سبحانه-: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعود إلى ما سبق ذكره من اللهو عن ذكر الله، بسبب الأموال والأولاد.

أى: ومن يشغله حبه لماله وأولاده عن ذكر الله، وعن أداء ما كلفه- سبحانه- به، فأولئك هم البالغون أقصى درجات الخسران والغفلة. لأنهم خالفوا ما أمرهم به ربهم، وآثروا ما ينفعهم في عاجلتهم الفانية، على ما ينفعهم في آجلتهم الباقية،

يقول تعالى آمرا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال ، والأولاد عن ذلك ، ومخبرا لهم بأنه من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره ، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم ، وأهليهم يوم القيامة

يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ) يقول: لا توجب لكم أموالكم (وَلا أَوْلادُكُمْ ) اللهو (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) وهو من ألهيته عن كذا وكذا، فلها هو يلهو لهوًا؛ ومنه قول امرئ القيس:

وَمِثْلـكِ حُـبْلَى قـد طَـرَقَتُ وَمُرْضِعٍ

فألْهَيْتُهَــا عَــنْ ذِي تَمَـائمَ مُحْـوِلِ (2)

وقيل: عُنِي بذكر الله جلّ ثناؤه في هذا الموضع: الصلوات الخمس.

* ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أَبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) قال: الصلوات الخمس.

وقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) يقول: ومن يلهه ماله وأولاده عن ذكر الله (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) يقول: هم المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته تبارك وتعالى.

------------------------

الهوامش:

(2) البيت لامرئ القيس. وقد سبق استشهاد المؤلف به في الجزء (17 : 114) وشرحنا هناك شرحا مفصلا، فراجعه. وموضع الشاهد فيه هنا قوله "فألهيتها" وأصله من اللهو، وهو ما لهوت به ولعبت به وشغلك. من هوى وطرب ونحوهما، يقال: لهوت بالشيء ألهو به لهوا، وتلهيت به إذا لعبت وتشاغلت، وغفلت به عن غيره. وتقول: ألهاني فلان عن كذا: أي شغلني وأنساني، وكأن الهمزة فيه للسلب.

المعاني :

لا تـلهكم :       لا تشغَـلْـكم و تصْرفكمْ معاني القرآن
ذِكر الله :       عِبادَته و طاعته و مراقبته معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[9] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره، فإن في ذلك الربح والفلاح، والخيرات الكثيرة.
وقفة
[9] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ﴾ التهى بالمال عن ذكر الله طلبًا للربح، فحكم عليه بأنه خاسر لا رابح.
وقفة
[9] قال أبو حازم: «كل ما شَغَلك عن الله من مال أو ولد، فهو عليك شؤم».
وقفة
[9] دوام الذكر سبب لدوام المحبة؛ فالذكر للقلب كالماء للزرع لا حياة له إلا به، وهو أنواع: ذكره بأسمائه وصفاته، والثناء عليه بها، الثاني: تسبيحه وتحميده، وتكبيره وتهليله، وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ الذكر عند المتأخرين، الثالث: ذكره بأحكامه وأوامره ونواهيه؛ وهو ذكر أهل العلم، ومن أفضل ذكره: ذكره بكلامه ومن ذكره سبحانه: دعاؤه واستغفاره والتضرع إليه. فهذه خمسة أنواع من الذكر.
وقفة
[9] الأموال والأولاد قد تسبب البعد عن الله تعالى.
عمل
[9] مهما كانت أشغالك؛ لا يفارق لسانك ذكر الله، وإن رُمت بركتها؛ فزاحمها بالقرآن.
وقفة
[9] لما ذكر سبحانه قبائح المنافقين رجع إلى خطاب المؤمنين مرغبًا لهم في ذكره فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ﴾، فحذرهم عن أخلاق المنافقين الذين ألهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله.
وقفة
[9] ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تُلهِكُم أَموالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَمَن يَفعَل ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الخاسِرونَ﴾ في الآية تحذير من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر ربهم، إذ هذه علامتهم، ولذا فإن كثرة ذكر الله أمان من النفاق، والله تعالى أكرم من أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله عز وجل.
وقفة
[9] الرابح من خاف الله في أولاده، ولم يَخَفهم في الله، وأرضى الله بسخَطهم ولم يُرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله، وآثر الله عليهم ولم يُؤثرهم على الله.
عمل
[9] على قدر لهوك وقلة ذكرك الله ينقص أجرك؛ فاملأ وقت فراغك وشغلك بعبادة الله وذكره.
وقفة
[9] الخاسر الحقيقي من اشتغل عن ذكر ربه.
وقفة
[9] المال نعمة لك وفوز بتوفر ثلاث: 1- كونه حلالًا: ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ [النساء: 29]. 2- أن لا يلهيك: ﴿لا تلهكم أموالكم﴾. 3- أن تنفق منه: ﴿أنفقوا مما رزقناكم﴾ [البقرة: 254].
وقفة
[9] ﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ﴾ اعلم أنه ليس من عدوٍّ لك أعدى ممَّن يصرفُك عن عبودية الله وذكره؛ إذ دوام ذكره سببٌ في دوام محبته ورضاه عنك.
عمل
[9] ﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ﴾ كل ما شغلك عن الله وعبادته وذكره من مال أو ولد فهو عليك شؤمٌ وخسارٌ في العاجل والآجل؛ فاحذر أن يُلهيك حتى يسلم لك قلبُك.
وقفة
[9] اختار لفظ ﴿تُلْهِكُمْ﴾ ولم يقل (تشغلكم)، والحكمة في ذلك أن من الشغل ما هو محمود؛ فقد يكون شغلًا في حق، كما جاء في الحديث: «إِنَّ فِي الصَّلاَةِ لَشُغْلًا» [البخاري 1216]، وكما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ [يس: 55]، أما الإلهاء فمما لا خير فيه؛ وهو مذموم على وجه العموم، فاختار ما هو أحق بالنهي.
وقفة
[9] خطر الأموال والأولاد إذا شغلت عن ذكر الله.
تفاعل
[9] ﴿فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ استعذ بالله الآن أن تكون من الخاسرين.

الإعراب :

  • ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:
  • أداة نداء. أي: منادى مفرد مبني على الضم في محل نصب و «ها» زائدة للتنبيه. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب بدل من «أي» على الموضع لا على اللفظ. آمنوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة. والجملة: صلة الموصول لا محل لها من الاعراب.
  • ﴿ لا تُلْهِكُمْ:
  • ناهية جازمة. تلهكم: فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف آخره- حرف العلة- الكاف ضمير متصل- ضمير المخاطبين- مبني على الضم في محل نصب مفعول به مقدم والميم علامة جمع الذكور.
  • ﴿ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ:
  • فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة. الكاف ضمير متصل- ضمير المخاطبين- مبني على الضم في محل جر بالاضافة والميم علامة جمع الذكور والواو عاطفة. وَلا أَوْلادُكُمْ: معطوفة بالواو على «لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ» وتعرب اعرابها أي ولا تلهكم أولادكم فحذف الفعل لأن ما قبله يدل عليه. ويجوز أن تكون «لا» الثانية زائدة للتاكيد.
  • ﴿ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ:
  • جار ومجرور متعلق بلا تلهكم. الله: مضاف اليه مجرور للتعظيم بالكسرة.
  • ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ:
  • الواو: استئنافية. من: اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. والجملة من فعل الشرط وجوابه: في محل رفع خبره. يفعل: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بمن وعلامة جزمه: سكون آخره والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. ذا: اسم اشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به اللام للبعد والكاف حرف خطاب. أي الشغل بالدنيا عن الدين.
  • ﴿ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ:
  • الجملة الاسمية: جواب شرط جازم. مقترن بالفاء في محل جزم بمن. الفاء واقعة في جواب الشرط. أولاء: اسم اشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ والكاف حرف خطاب. هم:ضمير رفع منفصل في محل رفع مبتدأ ثان. الخاسرون: خبر «هم» مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من التنوين والحركة في المفرد وجملة «هُمُ الْخاسِرُونَ» في محل رفع خبر المبتدأ الأول «أولئك» ويجوز أن يكون «هم» ضمير فصل- عماد- لا محل له من الاعراب. و «الخاسرون» خبر «أولئك» ولكن الوجه الأول أعرب واصح.'

المتشابهات :

المائدة: 91﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ
النور: 37﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
المنافقون: 9﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [9] لما قبلها :     وبعدَ ذكرِ صفاتِ المنافقين وذمِّهم؛ حذَّرَ اللهُ المؤمنين هنا من صِفاتِ المنافقين، قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ولَمَّا كان الَّذي يَتلَهَّى بذلك عن ذِكرِ اللهِ يَظُنُّ أنَّه يَربَحُ؛ قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

القراءات :

جاري إعداد الملف الصوتي

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [10] :المنافقون     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن ..

التفسير :

[10] وأنفقوا -أيها المؤمنون- بالله ورسوله بعض ما أعطيناكم في طرق الخير، مبادرين بذلك من قبل أن يجيء أحدَكم الموتُ، ويرى دلائله وعلاماته، فيقول نادماً:ربِّ هلَّا أمهلتني، وأجَّلت موتي إلى وقت قصير، فأتصدق من مالي، وأكن من الصالحين الأتقياء.

{ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} يدخل في هذا، النفقات الواجبة، من الزكاة والكفاراتونفقة الزوجات، والمماليك، ونحو ذلك، والنفقات المستحبة، كبذل المال في جميع المصالح، وقال:{ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} ليدل ذلك على أنه تعالى، لم يكلف العباد من النفقة، ما يعنتهم ويشق عليهم، بل أمرهم بإخراج جزءمما رزقهم الله الذي يسره لهمويسر لهم أسبابه.

فليشكروا الذي أعطاهم، بمواساة إخوانهم المحتاجين، وليبادروا بذلك، الموت الذي إذا جاء، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير، ولهذا قال:{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ} متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان، سائلاً الرجعة التي هي محال:{ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي:لأتدارك ما فرطت فيه،{ فَأَصَّدَّقَ} من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب،{ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} بأداء المأمورات كلها، واجتناب المنهيات، ويدخل في هذا، الحج وغيره، وهذا السؤال والتمني، قد فات وقته، ولا يمكن تداركه.

ثم حضهم- سبحانه- على الإنفاق في سبيله فقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ.

والمراد بالإنفاق: إنفاق المال في وجوه الخير والطاعات، فيشمل الزكاة المفروضة، والصدقات المستحبة، وغير ذلك من وجوه البر والخير.

و «من» في قوله- تعالى- مِمَّا رَزَقْناكُمْ للتبعيض إذ المطلوب إنفاقه بعض المال الذي يملكه الإنسان، وليس كله، وهذا من باب التوسعة منه- تعالى- على عباده، ومن مظاهر سماحة شريعته- عز وجل-.

والمراد بالموت: علاماته وأماراته الدالة على قرب وقوعه.

وقوله فَيَقُولَ معطوف على قوله أَنْ يَأْتِيَ ومسبب عنه.

ولَوْلا بمعنى هلا فهي حرف تحضيض.

وقوله: فَأَصَّدَّقَ منصوب على أنه في جواب التمني، وقوله: وَأَكُنْ بالجزم، لأنه معطوف على محل فَأَصَّدَّقَ كأنه قيل: إن أخرتنى إلى أجل قريب أتصدق وأكن من الصالحين.

والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن طاعة الله - تعالى- بل داوموا عليها كل المداومة، وأنفقوا بسخاء وسماحة نفس مما أعطيناكم من أرزاق كثيرة، ومن نعم لا تحصى، وليكن إنفاقكم من قبل أن تنزل بأحدكم أمارات الموت وعلاماته ...

وحينئذ يقول أحدكم يا رب، هلا أخرت وفاتي إلى وقت قريب من الزمان لكي أتدارك ما فاتنى من تقصير، ولكي أتصدق بالكثير من مالي، وأكون من عبادك الصالحين.

وقال- سبحانه- مِمَّا رَزَقْناكُمْ فأسند الرزق إليه، لكي يكون أدعى إلى الامتثال والاستجابة، لأنه- سبحانه- مع أن الأرزاق جميعها منه، إلا أنه- فضلا منه وكرما- اكتفى منهم بإنفاق جزء من تلك الأرزاق.

وقدم- سبحانه- المفعول وهو «أحدكم» على الفاعل وهو «الموت» ، للاهتمام بالمفعول، وللإشعار بأن الموت نازل بكل إنسان لا محالة.

والتعبير بقوله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ... يشعر بأن القائل قد قال ذلك زيادة في تأميل الاستجابة، فكأنه يقول: يا رب ألتمس منك أن تؤخر أجلى إلى وقت قريب لا إلى وقت بعيد لكي أتدارك ما فاتنى في هذا الوقت القريب الذي هو منتهى سؤالى، وغاية أملى..

ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال : ( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) فكل مفرط يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا ، يستعتب ويستدرك ما فاته ، وهيهات ! كان ما كان ، وأتى ما هو آت ، وكل بحسب تفريطه ، أما الكفار فكما قال الله تعالى : ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) [ إبراهيم : 44 ] وقال تعالى : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) [ المؤمنون : 99 ، 100 ]

يقول تعالى ذكره: وأنفقوا أيها المؤمنون بالله ورسوله من الأموال التي رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول إذا نـزل به الموت: يا ربّ هلا أخرتني فتُمْهَلَ لي في الأجل إلى أجل قريب. فأصدّق يقول: فأزكي مالي ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول: وأعمل بطاعتك، وأؤدّي فرائضك.

وقيل: عنى بقوله: ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) وأحجّ بيتك الحرام.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس وسعيد بن الربيع، قال سعيد، ثنا سفيان، وقال يونس: أخبرنا سفيان، عن أَبي جناب عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس، قال: ما من أحد يموت ولم يؤدّ زكاة ماله ولم يحجّ إلا سأل الكرّة، فقالوا: يا أبا عباس لا تزال تأتينا بالشيء لا نعرفه؛ قال: فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله: ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) قال: أؤدي زكاة مالي ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: أحجّ.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أَبي سنان، عن رجل، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال يجب عليه فيه الزكاة أن يزكي، وإذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرّة فلا يُعطاها، فقال رجل: أما تتقي الله، يسأل المؤمن الكرّة قال: نعم، أقرأ عليكم قرآنًا، فقرأ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فقال الرجل: فما الذي يوجب عليّ الحجّ، قال: راحلة تحمله، ونفقة تبلغه.

حدثنا عباد بن يعقوب الأسديّ وفضالة بن الفضل، قال عباد: أخبرنا يزيد أَبو حازم مولى الضحاك.

وقال فضالة: ثنا بزيع عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ( لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) قال: فأتصدّق بزكاة مالي ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: الحجّ.

المعاني :

لوْلا أخّرتني :       هلاّ أمهلتني و أخّرت أجَلي معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[10] لما بَيَّنَ الله حرص المنافقين على البخل وعدم النفقة: ﴿لا تنفقوا﴾ [7]؛ حذر المؤمنين بعدها وأمرهم بالإنفاق: ﴿وأنفقوا﴾.
وقفة
[10] ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم﴾ يدل ذلك على أنه تعالى لم يكلف العباد من النفقة ما يعنتهم ويشق عليهم، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم الله الذي يسره لهم ويسر لهم أسبابه.
وقفة
[10] ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم﴾ حديث نبوي يشرح آية قرآنية! عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» [البخاري 1419].
عمل
[10] احرص على الخاتمة الحسنة ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾.
وقفة
[10] الآية فيها دليل على أن المرء ممنوع من ماله عند حضور أجله، وغير مسلَّط على إنفاذ إرادته فيه، كهيئة ما كان في صحته، وأن لا سبيل له على أكثر من ثلثه الذي أباح الله له على لسان رسوله.
وقفة
[10] قال ابن عباس: «هذه الآية أشد على أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة».
وقفة
[10] قال ابن عباس: «من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاة، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت»، فقيل له: «إنما يسأل الرجعة الكفار»، فقال: «سأتلو عليكم بذلك قرآنًا»، ثم قرأ هذه الآية: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾.
وقفة
[10] كل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة -ولو شيئًا يسيرًا- ليستعتب ويستدرك ما فاته.
وقفة
[10] يا مؤمن: أنت مطالب بالإنفاق حتى يأتيك اليقين.
وقفة
[10] الإنفاق والتصدق ليسوا مالًا فقط، فالكلمة الطيبة صدقة.
عمل
[10] ﴿ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدق﴾ لولا أنهم عرفوا فضل الصدقة لما طلبوا الإمهال لبذلها؛ فبادر قبل أن تغادر.
وقفة
[10] ﴿ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدق﴾ قال ابن عباس: «تصدَّقوا قبل أن ينزلَ عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبةٌ ولا ينفع عمل».
عمل
[10] ﴿ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدق﴾ أدِم ذِكرَ هاذم اللذات، فإنه أحرى أن يشجعك على الإنفاق في سبيل الله تعالى؛ إذ ليس للإنسان إلا ما ترك من الصالحات.
وقفة
[10] لولا عِظمُ الصدقة ومكانتُها عند الله لما كان أولُ ما يرجو العبدُ لو أُتيح له الرجعةُ إلى الدنيا أن يتصدَّق.
وقفة
[10] من ذا الذي يعلم يقينًا ماذا بقي له من عمر أو عمل؟ فلا تقعد مهما تقدَّمَت بك السنُّ أو غلبك الضعفُ والمرض عن عملٍ صالح تلاقي به مولاك.
عمل
[10] ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ أمنيات أهل القبور لا زالت بين يديك؛ فتداركها قبل أن تغادر الروح الجسد.
عمل
[10] الأموات ذكروا الصدقة في ظلمة القبور؛ لأنهم علموا أنها سبب في ذلك النور، فبادر وتصدق قبل العبور.
وقفة
[10] الصدقة من أفضل الأعمال وأزكاها، ويتمنى المؤمن الميّت أن لو عاد إلى دنياه ليتصدق.
وقفة
[10] ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ لم يطلبوا عمرًا طويلًا، لقد أدركوا أن زمنًا يسيرًا صالحًا كاف لإدراك رحمة الله.
وقفة
[10] ﴿لَولَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ربَّما تكُون أمنية شخص عزيز على قلبكَ فِي قبره أنْ يتصدَّق وهو عاجز، حققْ أمنيتَهُ وتصدق عنْه.
وقفة
[10] ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ صدقة = صلاح، من دخل باب الصدقة فقد سكن بيت الصلاح.
وقفة
[10] ﴿فأصَّدَّق وأكن من الصالحين﴾ الصلاح عَمَلٌ وليس مظهرًا.

الإعراب :

  • ﴿ وَأَنْفِقُوا:
  • الواو استئنافية. أنفقوا: فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة.
  • ﴿ مِنْ ما رَزَقْناكُمْ:
  • أصلها: من: حرف جر للتبعيض و «ما» اسم موصول مبني على السكون في محل جر بمن والجار والمجرور متعلق بأنفقوا. وجملة «رزقناكم» صلة الموصول لا محل لها من الاعراب. أي بعض الذي رزقناكم من النعم وحذف مفعول «أنفقوا» لأن «من» التبعيضية تدل عليه. رزق:فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنا. و «نا» ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. الكاف ضمير متصل- ضمير المخاطبين- مبني على الضم في محل نصب مفعول به والميم علامة جمع الذكور.
  • ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ:
  • جار ومجرور متعلق بأنفقوا. أن: حرف مصدري ناصب. يأتي: فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه الفتحة. وجملة «يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» صلة «ان» المصدرية لا محل لها من الاعراب. و «أن» لمصدرية وما بعدها: بتأويل مصدر في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ:
  • مفعول به مقدم منصوب وعلامة نصبه الفتحة. الكاف ضمير متصل- ضمير المخاطبين- مبني على الضم في محل جر بالاضافة والميم علامة جمع الذكور. الموت: فاعل مرفوع بالضمة.
  • ﴿ فَيَقُولَ:
  • الفاء عاطفة. يقول: فعل مضارع معطوف على «يأتي» منصوب مثله وعلامة نصبه الفتحة والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو.والجملة بعده: في محل نصب مفعول به- مقول القول-.
  • ﴿ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي:
  • منادى بحرف نداء محذوف اكتفاء بالمنادى والأصل:يا رب. وهو منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اكتفاء بكسر ما قبلها منع من ظهور هذه الفتحة حركة المناسبة. لولا: حرف تحضيض- عرض- وهي للاستفهام. و «لولا» بمعنى «هلا» لا عمل له. أخرت: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك. التاء ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل والنون نون الوقاية والياء ضمير متصل- ضمير المتكلم- مبني على السكون في محل نصب مفعول به.
  • ﴿ إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ:
  • جار ومجرور متعلق بأخرت. قريب: صفة- نعت- لأجل مجرور مثلها بالكسرة.
  • ﴿ فَأَصَّدَّقَ:
  • الفاء سببية لأنها مسبوقة بلو لا أي جاءت جوابا لها. أصدق:فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء وعند الكوفيين منصوب بالفاء لأنها خرجت عن باب العطف والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا.وجملة «أصدق» صلة «أن» المضمرة لا محل لها من الاعراب وأصلها أتصدق أدغمت التاء في الصاد فشدد الصاد. وفي «لولا» معنى التمني. و «أن» المصدرية المضمرة وما بعدها بتأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر منتزع من الكلام السابق.
  • ﴿ وَأَكُنْ:
  • الواو عاطفة. أكن: فعل مضارع ناقص مجزوم لأنه معطوف على محل «فاصدق» على تقدير: ان اخرتني أصدق وأكن. والأصل: لولا أخرتني أتصدق واكن. وعلامة جزم الفعل سكون آخره وحذفت الواو لالتقاء الساكنين واسمها ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا.
  • ﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ:
  • جار ومجرور متعلق بخبر «اكن» أي صالحا من الصالحين أو عبدا من عبادك الصالحين. وعلامة جر الاسم الياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من التنوين والحركة في المفرد.'

المتشابهات :

النساء: 77﴿وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ
ابراهيم: 44﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ
المنافقون: 10﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [10] لما قبلها :     ولَمَّا حَذَّرَ مِنَ الإقبالِ على الدُّنيا؛ رغَّبَ هنا في بَذْلِها؛ مُخالَفةً للمُنافِقينَ، قال تعالى:
﴿ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ

القراءات :

جاري إعداد الملف الصوتي

فأصدق:
1- وهى قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- فأتصدق، على الأصل، وهى قراءة أبى، وعبد الله، وابن جبير.
وأكن:
1- بالجزم، وهى قراءة جمهور السبعة.
وقرئ:
2- وأكون، بالنصب، عطفا على «فأصدق» ، وهى قراءة الحسن، وابن جبير، وأبى رجاء، وابن أبى إسحاق ومالك بن دينار، والأعمش، وابن محيصن، وعبد الله بن الحسن العنبري، وأبى عمرو، وكذا هى فى مصحف عبد الله، وأبى.
3- وأكون، بالرفع، على الاستئناف، وهى قراءة عبيد بن عمير.

مدارسة الآية : [11] :المنافقون     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا ..

التفسير :

[11] ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء وقت موتها، وانقضى عمرها، والله سبحانه خبير بالذي تعملونه من خير وشر، وسيجازيكم على ذلك.

{ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} المحتوم لها{ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير وشر، فيجازيكم على ما علمه منكم، من النيات والأعمال.

تم تفسير سورة المنافقين،

ولله الحمد

وقد بين- سبحانه- بعد ذلك أنه لا تأخير في الأجل متى انتهى لا من قريب ولا من بعيد.. فقال: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها ...

أى: ولن يؤخر الله- تعالى- نفسا من النفوس، متى انتهى أجلها في هذه الحياة، وانقضى عمرها من هذه الدنيا، كما قال- سبحانه-: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ.

وقوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أى: والله- تعالى- مطلع اطلاعا تاما على أعمالكم الظاهرة والباطنة، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.

وبعد فهذا تفسير لسورة «المنافقون» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..

ثم قال تعالى : ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ) أي : لا ينظر أحدا بعد حلول أجله ، وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقا في قوله وسؤاله ممن لو رد لعاد إلى شر مما كان عليه ; ولهذا قال : ( والله خبير بما تعملون ) وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو جناب الكلبي ، عن الضحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه ، أو تجب عليه فيه زكاة ، فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت . فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله ، فإنما يسأل الرجعة الكفار . فقال سأتلو عليك بذلك قرآنا : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ) قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا . قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والبعير .

ثم قال : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن يحيى بن أبي حية - وهو أبو جناب الكلبي - عن الضحاك ، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه

ثم قال : وقد رواه سفيان بن عيينة ، وغيره ، عن أبي جناب ، عن ابن الضحاك ، عن ابن عباس من قوله . وهو أصح ، وضعف أبا جناب الكلبي .

قلت : رواية الضحاك ، عن ابن عباس فيها انقطاع ، والله أعلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا سليمان بن عطاء ، عن مسلمة الجهني ، عن عمه - يعني أبا مشجعة بن ربعي - عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : ذكرنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزيادة في العمر فقال : " إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له ، فيلحقه دعاؤهم في قبره "

آخر تفسير سورة " المنافقون " ولله الحمد والمنة .

حُدثت عن الحسين ، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إلى آخر السورة: هو الرجل المؤمن نـزل به الموت وله مال كثير لم يزكه، ولم يحجّ منه، ولم يعط منه حق الله يسأل الرجعة عند الموت فيزكي ماله، قال الله: ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ) .

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... إلى قوله: ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) قال: هو الرجل المؤمن إذا نـزل به الموت وله مال لم يزكه ولم يحجّ منه، ولم يعط حقّ الله فيه، فيسأل الرجعة عند الموت ليتصدّق من ماله ويزكي، قال الله ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان ( فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: الزكاة والحج.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الأمصار غير ابن محيصن وأبي عمرو: وأكن، جزمًا عطفًا بها على تأويل قوله: ( فَأَصَّدَّقَ ) لو لم تكن فيه الفاء، وذلك أن قوله: ( فَأَصَّدَّقَ ) لو لم تكن فيه الفاء كان جزمًا وقرأ ذلك ابن محيصن وأبو عمرو ( وَأَكُون ) بإثبات الواو ونصب ( وَأَكُون ) عطفًا به على قوله: ( فَأَصَّدَّقَ ) فنصب قوله: ( وَأَكُون ) إذ كان قوله: ( فَأَصَّدَّقَ ) نصبًا.

والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وقوله: ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ) يقول: لن يؤخر الله في أجل أحد فيمد له فيه إذا حضر أجله، ولكنه يخترمه ( وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) يقول: والله ذو خبرة وعلم بأعمال عبيده هو بجميعها محيط، لا يخفى عليه شيء، وهو مجازيهم بها، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

المعاني :

لم يذكر المصنف هنا شيء

التدبر :

وقفة
[11] ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾ ولا ثانية واحدة!
وقفة
[11] إذا خشيت الفقر فتأمل: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ [هود: 6]، وإذا خشيت الموت فتأمل: ﴿ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها﴾، فرزقك وأجلك مكتوب.
عمل
[11] إن الشخص الذي مات قبل لحظة، قد ظن مثل ظنك، وقال لنفسه: عندي وقت ﴿ولن يؤخر الله نفسا اذا جاء أجلها﴾، فلا تأخر توبتك.
وقفة
[11] ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ الله تعالى خبير بما يعمل العباد من خير وشر، لا تخفى عليه خافية، ويجازي كل امرئ بما عمل خيرًا أو شرًا.

الإعراب :

  • ﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ:
  • الواو: استئنافية. لن: حرف نفي ونصب واستقبال.يؤخر: فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه الفتحة.
  • ﴿ اللَّهُ نَفْساً:
  • فاعل مرفوع للتعظيم وعلامة الرفع الضمة. نفسا: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة.
  • ﴿ إِذا جاءَ أَجَلُها:
  • ظرف لما يستقبل من الزمن مبني على السكون خافض لشرطه متعلق بجوابه متضمن معنى الشرط. جاء: فعل ماض مبني على الفتح. أجل: فاعل مرفوع بالضمة و «ها» ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة. وجملة «جاءَ أَجَلُها» في محل جر بالاضافة. وحذف جواب الشرط لتقدم معناه. التقدير والمعنى: اذا جاء أجل النفس أي ساعة موتها المقدرة لها فلا سبيل الى تأخير الموت عن وقته.
  • ﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ:
  • الواو: استئنافية. الله لفظ الجلالة: مبتدأ مرفوع للتعظيم بالضمة. خبير: خبر المبتدأ مرفوع بالضمة.
  • ﴿ بِما تَعْمَلُونَ:
  • الباء: حرف جر. ما: مصدرية. تعملون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. وجملة «تعملون» صلة «ما» المصدرية لا محل لها من الاعراب و «ما» المصدرية وما بعدها بتأويل مصدر في محل جر بالباء التقدير: بأعمالكم. والجار والمجرور متعلق بخبير. بمعنى: عليم بأعمالكم. ويجوز أن تكون «ما» اسما موصولا مبنيا على السكون في محل جر بالباء وجملة «تعملون» صلته لا محل لها من الاعراب والعائد- الراجع- الى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لانه مفعول به. التقدير: بما تعملونه.'

المتشابهات :

النمل: 88﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
آل عمران: 153﴿فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
المائدة: 8﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
التوبة: 16﴿وَلَمۡ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَلِيجَةٗۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
النور: 53﴿قُل لَّا تُقۡسِمُواْۖ طَاعَةٞ مَّعۡرُوفَةٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
المجادلة: 13﴿فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
الحشر: 18﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
المنافقون: 11﴿وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [11] لما قبلها :     وبعد الحَضِّ على الإنفاقِ في سبيل الله؛ زادَ اللهُ هنا في الحَثِّ على المُبادَرةِ بالطَّاعاتِ قبْلَ الفَواتِ؛ لأنه تعالى لا يُؤخِّر من انقضت مدته، وحضر أجله، قال تعالى:
﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

القراءات :

جاري إعداد الملف الصوتي

تعملون:
1- بتاء الخطاب، وهى قراءة الجمهور.
قرئ:
1- بالياء، وهى قراءة أبى بكر.

البحث بالسورة

البحث في المصحف