ترتيب المصحف | 4 | ترتيب النزول | 92 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 29.50 |
عدد الآيات | 176 | عدد الأجزاء | 1.50 |
عدد الأحزاب | 3.00 | عدد الأرباع | 12.00 |
ترتيب الطول | 2 | تبدأ في الجزء | 4 |
تنتهي في الجزء | 6 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
النداء: 1/10 | يا أيها النَّاس: 1/2 |
بعدَ أن بَيَّنَ ثوابَ الجهادِ حرَّضَ هنا المؤمنينَ على الجهادِ في سبيلِه لاستنقاذِ المستضعفينَ بمكةَ من الرجالِ والنساءِ والأطفالِ، وبَيَّنَ الفرقَ بين قتالِ المؤمنينَ وقتالِ الكافرينَ.
بعدَ أن حرَّضَ على الجهادِ وبَّخ اللهُ هنا جماعةً كانُوا يريدونَ قتالَ المشركينَ في مكةَ فلما فرضَ عليهم القتالَ شَقَّ ذلك عليهم، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ الموتَ لا ينجو منه أحدٌ ولو كانَ في قصرٍ محصنٍ.
التفسير :
هذا حث من الله لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله، وأن ذلك قد تعين عليهم، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه، فقال:{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والحال أن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ومع هذا فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم، فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم بالكفر والشرك، وللمؤمنين بالأذى والصد عن سبيل الله، ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة. ويدعون الله أن يجعل لهم وليًّا ونصيرًا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها، فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم، لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة، بحيث يكون من باب دفع الأعداء.
ثم حرض- سبحانه- المؤمنين على القتال بأبلغ أسلوب فقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ.
فالخطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريقة الالتفات، مبالغة في التحريض عليه، وتأكيدا لوجوبه، وما اسم استفهام مبتدأ، والجار والمجرور وهو لَكُمْ خبره.
وجملة لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال الاستقرار المقدر أو الظرف لتضمنه معنى الفعل.
والمراد بالاستفهام تحريضهم على الجهاد، والإنكار عليهم في تركه مع توفر دواعيه، والمعنى:
أى شيء جعلكم غير مقاتلين؟ إن عدم قتالكم لأعدائكم يتنافى مع إيمانكم، أما الذي يتناسب مع إيمانكم وطاعتكم لله فهو أن تقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.
فالآية الكريمة تحريض على الجهاد بأبلغ وجه، ونفى للاعتذار عنه.
والمراد بالمستضعفين: الضعفاء من الناس وهم المسلمون الذين بقوا في مكة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لعدم قدرتهم على الهجرة أو لمنع المشركين إياهم من الخروج.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين من المؤمنين.
وقوله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ معطوف على قوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى: قاتلوا في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من ظلم المشركين لهم.
وخصهم بالذكر مع أن القتال في سبيل الله يشملهم، لمزيد العناية بشأنهم، وللتحريض على القتال بحكم الشرف والمروءة بعد التحريض عليه بحكم الدين والتقرب إلى الله- تعالى-، لأن مروءة الإنسان الكريم تحمله على نصرة الضعيف، ومنع الاعتداء عليه.
وقوله مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، بيان لهؤلاء المستضعفين.
أى: قاتلوا- أيها المؤمنون- من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه، ومن أجل نصرة المستضعفين من الرجال الذين صدهم المشركون عن الهجرة، ومن النساء اللائي لا يملكن حولا ولا قوة. ومن الولدان الصغار الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
وفي النص على هؤلاء المستضعفين وخصوصا النساء والولدان، أقوى تحريض على الجهاد، وأعظم وسيلة لإثارة الحماس والنخوة من أجل القتال، لأنهم إذا تركوا هؤلاء المستضعفين أذلاء في أيدى المشركين، فإنهم سيعيرون بهم، وهذا ما يأباه كل شريف كريم.
ثم حكى- سبحانه- ما كان يقوله المستضعفون فقال: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً.
أى: قاتلوا- أيها المؤمنون- في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يضرعون إلى الله قائلين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية التي ظلمنا أهلها بسبب شركهم وكفرهم وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا.
أى وسخر لنا من عندك حافظا يحفظ علينا ديننا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً. أى:
وسخر لنا من عندك كذلك ناصرا يدفع عنا أذى أعدائنا، فأنت الذي لا يذل من استجار به، ولا يضعف من كنت نصيره ووليه.
والمراد بالقرية الظالم أهلها: مكة. وقد وصف أهلها بأنهم ظالمون، ولم توصف هي بأنها ظالمة كما وصف غيرها من القرى كما في قوله- تعالى- وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها وذلك من باب التكريم لمكة، إذ هي حرم الله الآمن ولا يوصف حرم الله الآمن بالظلم ولو على سبيل المجاز.
وقوله الظَّالِمِ أَهْلُها صفة للقرية، وأهلها مرفوع به على الفاعلية، وأل في الظالم موصولة بمعنى التي أى التي ظلم أهلها. فقوله الظَّالِمِ جار على القرية لفظا، وهو لما بعدها معنى نحو: مررت برجل حسن غلامه.
وفي هذا النداء الذي تضرع به أولئك المستضعفون إلى خالقهم أسمى ألوان الأدب والإخلاص فهم يلتمسون منه- سبحانه- أن يخرجهم من بطش الظالمين وحكمهم، وأن يجعلهم تابعين للقوم الذين يحبهم ويحبونه، وهم المؤمنون، وأن يهيئ لهم النصر على أعدائهم وأعدائه.
ولقد استجاب الله- تعالى- لهم دعاءهم، حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة، ورزق المؤمنين فتحا قريبا، وإلى ذلك أشار صاحب الكشاف بقوله: «والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين ... وكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه، فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولى وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي، ونصرهم أقوى النصر.
فإن قلت: لم يذكر الولدان: قلت: تسجيلا بإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم، ومبغضة لهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء .
يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين بالمقام بها ; ولهذا قال تعالى : ( الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية ) يعني : مكة ، كقوله تعالى : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ) [ محمد : 13 ] .
ثم وصفها بقوله : ( الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) أي : سخر لنا من عندك وليا وناصرا .
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن عبيد الله قال : سمعت ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين .
حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن [ أبي ] مليكة أن ابن عباس تلا ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ) قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل .
القول في تأويل قوله : وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " وما لكم " أيها المؤمنون =" لا تقاتلون في سبيل الله "، وفي" المستضعفين "، يقول: عن المستضعفين منكم =" من الرجال والنساء والولدان "، فأما من " الرجال "، فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم، وآذوهم، ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم، فحضَّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار، فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله، وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدِّهم عن دينهم؟" من الرجال والنساء والولدان " = جمع " ولد ": وهم الصبيان =" الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها "، يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يقولون في دعائهم ربَّهم بأن ينجييهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: " يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ".
* * *
والعرب تسمي كل مدينة " قرية " = يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسَها أهلُها = وهي في هذا الموضع، فيما فسر أهل التأويل،" مكة ".
* * *
وخفض " الظالم " لأنه من صفة " الأهل "، وقد عادت " الهاء والألف " اللتان فيه على " القرية "، وكذلك تفعل العرب إذا تقدمت صفة الاسم الذي معه عائد لاسم قبلها، (1) أتبعت إعرابها إعرابَ الاسم الذي قبلها، كأنها صفة له، فتقول: " مررت بالرجلِ الكريمِ أبوه ".
* * *
=" واجعل لنا من لدنك وليًّا "، يعني: أنهم يقولون أيضًا في دعائهم: يا ربنا، واجعل لنا من عندك وليًّا، يلي أمرنا بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل الكفر بك = &; 8-544 &; " واجعل لنا من لدنك نصيرًا "، يقولون: (2) واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه القرية الظالم أهلها، (3) بصدِّهم إيانا عن سبيلك، حتى تظفرنا بهم، وتعلي دينك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9944 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها "، قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين، كانوا بمكة.
9945 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان " = الصبيان =" الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها "، مكة = أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة.
9946 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها "، يقول: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين = وأما " القرية "، فمكة.
9947 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين "، قال: وفي المستضعفين.
9948 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب يقول،" وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان "، قال: في سبيل الله وسبيل المستضعفين.
9949 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: " أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها "، قالا خرج رجل من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فنأى بصدره إلى القرية الصالحة، (4) فما تلافاه إلا ذلك (5) = فاحتجَّت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، (6) فأمروا أن يقدُروا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبْرٍ = وقال بعضهم: قرّب الله إليه القرية الصالحة، فتوفَّته ملائكة الرحمة.
9950 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان "، هم أناس مسلمون كانوا بمكة، لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا، فعذرهم الله، فهم أولئك (7) = وقوله: " ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها "، فهي مكة.
9950م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: &; 8-546 &; " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها "، قال: وما لكم لا تفعلون؟ تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، فهم ليس لهم قوة، فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم الله هؤلاء ودينهم؟ (8) قال: و " القرية الظالم أهلها "، مكة.
-------------------
الهوامش :
(1) في المخطوطة: "الذي معه عادر لاسم قبلها" ، وهو سهو من الناسخ ، صوابه ما في المطبوعة.
(2) انظر تفسير"الولي" ، و"النصير" ، فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة"من ظلمنا من أهل القرية" ، والصواب من المخطوطة.
(4) قوله: "نأى بصدره" أي تباعد به. يعني: تحامل وهو هالك حتى وجه صدره إلى القرية الصالحة ، ابتعادًا وإعراضًا عن القرية الظالمة. ومثله: "نأى بجانبه".
(5) قوله: "فما تلافاه إلا ذلك" ، أي: فما تداركه وأنقذه من سوء المصير ، إلا هذه الإعراضة التي أعرضها عن القرية الظالمة. وكانت هذه الجملة غير منقوطة في المخطوطة. فآثر ناشر المطبوعة حذفها ، لما لم يحسن قراءتها وفهمها.
(6) قوله: "احتجت فيه" ، أي: اختصمت فيه الملائكة ، وألقى كل خصم بحجته ، ولم يرد هذا الوزن بهذا المعنى في كتب اللغة ، وهو صحيح عريق ، وإنما قالوا: "احتج بالشيء" اتخذه حجة ، أما التخاصم والتنازع فقالوا فيه: "تحاج القوم". فهذا من الزيادات الصحيحة على قيد اللغة.
(7) في المطبوعة: "وفيهم قوله" ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب محض.
(8) في المطبوعة: "حتى يسلم لله" ، وأثبت ما في المخطوطة فهو الصواب.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 75 | ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ |
---|
النساء: 98 | ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
والمستضعفين:
وقرئ:
للمستضعفين: بغير واو عطف، إما على إضمار حرف العطف، وإما على البدل من «سبيل الله» ، أي: فى سبيل الله سبيل المستضعفين، وهى قراءة ابن شهاب.
التفسير :
هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} الذي هو الشيطان. في ضمن ذلك عدة فوائد:منها:أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله، وإخلاصه ومتابعته. فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته ولوازمه، كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته. ومنها:أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا يقوم به غيره، فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل، فأهل الحق أولى بذلك، كما قال تعالى في هذا المعنى:{ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} الآية. ومنها:أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق، وهو الحق، والتوكل على الله. فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل، الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة. فلهذا قال تعالى:{ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} والكيد:سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.
ثم ساق- سبحانه- لونا آخر من تحريضهم على الجهاد وهو تحديد الهدف الذي يقاتل من أجله كل فريق فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أى أنتم- أيها المؤمنون- إذا قاتلتم فإنما تقاتلون وغايتكم إعلاء كلمة الله، ونصرة الحق الذي جاء به رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم.
أما أعداؤكم الكافرون فإنهم يقاتلون من أجل طاعة الشيطان الذي يأمرهم بكل بغى وطغيان، وإذا كان هذا حالكم وحالهم فعليكم- أيها المؤمنون- أن تقاتلوا أولياء الشيطان بكل قوة وصدق عزيمة إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أى. إن كيد الشيطان وتدبيره كان ضعيفا، لأن الشيطان ينصر أولياءه، والله- تعالى- ينصر أولياءه، ولا شك أن نصرة الله- تعالى- لأوليائه أقوى وأشد من نصرة الشيطان لأوليائه.
فقوله- تعالى- الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد ببيان الغاية والهدف الذي يعمل من أجله كل فريق، وببيان أن المؤمنين ستكون عاقبتهم النصر والظفر لأن الله وليهم وناصرهم.
والفاء في قوله فَقاتِلُوا للتفريع، أى إذا كانت تلك غايتكم أيها المؤمنون وتلك هي غاية أعدائكم فقاتلوهم بدون خوف أو وجل منهم لأن الله معكم بنصره وتأييده أما هم فالشيطان معهم بضعفه وفجوره.
والمراد بكيد الشيطان تدبيره ووسوسته لأتباعه بالاعتداء على المؤمنين وتأليب الناس عليهم.
قال الفخر الرازي: الكيد: السعى في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه، يقال: كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه. وفائدة إدخال كانَ في قوله كانَ ضَعِيفاً للتأكيد لضعف كيده، يعنى أنه منذ كان، كان موصوفا بالضعف والذلة .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الثلاث قد شجعت المؤمنين على القتال بأبلغ أسلوب، وأشرف دافع، وأنبل غاية، فقد أمرتهم بالقتال إذا كانوا حقا من المؤمنين، الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وبشرتهم برضا الله وحسن ثوابه سواء أقتلوا أم غلبوا واستنكرت عليهم أن يتثاقلوا عن القتال مع أن كل دواعي الدين والشرف والمروءة تدعوهم إليه، وبينت لهم أنه إذا كان الكافرون الذين الغاية من قتالهم نصرة الشيطان يقدمون على القتال، فأولى بالمؤمنين الذين الغاية من قتالهم نصرة الحق أن ينفروا خفافا وثقالا للجهاد في سبيل الله، ثم بشرتهم في النهاية بأن العاقبة لهم، لأن الكافرين يستندون إلى كيد الشيطان الضعيف الباطل، أما المؤمنون فيأوون إلى جناب الله الذي لا يخذل من اعتصم به، ولا يخيب من التجأ إليه.
وبعد هذا التحريض الشديد من الله- تعالى- للمؤمنين على القتال في سبيله، حكى- سبحانه- على سبيل التعجيب حال طائفة من ضعاف الإيمان، كانوا قبل أن يفرض القتال عليهم يظهرون التشوق إليه. وبعد أن فرض عليهم جبنوا عنه، وقد وبخهم الله- تعالى- على هذا المسلك الذميم، فقال- سبحانه-:
ثم قال تعالى : ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ) أي : المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه ، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان .
ثم هيج تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله : ( فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا )
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: الذين صدقوا الله ورسوله، وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به =" يقاتلون في سبيل الله "، يقول: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده (9) =" والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت "، يقول: والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم =" يقاتلون في سبيل الطاغوت "، (10) يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله، مقوِّيًا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحرِّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به: " فقاتلوا " أيها المؤمنون، =" أولياء الشيطان "، يعني بذلك: الذين يتولَّونه ويطيعون أمره، في خلاف طاعة الله، والتكذيب به، وينصرونه (11) =" إن كيد الشيطان كان ضعيفًا "، يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين، (12) من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به. يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وَهَن وضعف.
* * *
وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حميّة أو حسدًا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله. والمؤمنون يقاتل مَن قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل، وبما لَه من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف.
---------------------
الهوامش :
(9) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (سبل).
(10) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 3: 416- 420 / 8: 461- 465 ، 507- 513.
(11) انظر تفسير"ولي" فيما سلف من فهارس اللغة.
(12) انظر تفسير"الكيد" فيما سلف 7: 156.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 76 | ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ﴾ |
---|
التوبة: 111 | ﴿إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ﴾ |
---|
المزمل: 20 | ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي:مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد:منها:أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل. ومنها:أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم. وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال، غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا:{ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا:{ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي:هلَّا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر. ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال:{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} أي:التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير منها، في ذاتها، ولذاتها وزمانها، فذاتها -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه- "أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها". ولذاتها صافية عن المكدرات، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى:{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقال الله على لسان نبيه:"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه. وأما زمانها، فإن الدنيا منقضية، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور، عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه، ولهذا قال:{ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} أي:اتقى الشرك، وسائر المحرمات.{ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي:فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملاً موفرًا غير منقوص منه شيئًا.
والاستفهام في قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ للتعجيب من حال أولئك الذين كانوا يظهرون التشوق إلى القتال فلما فرض عليهم جبنوا عنه.
وقوله كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ من الكف بمعنى الامتناع أى: امتنعوا عن مباشرة القتال إلى أن تؤمروا به.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد أو ألم تنظر بعين الدهشة والغرابة إلى حال أولئك الذين كانوا يظهرون شدة الحماسة للقتال، فقيل لهم كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أى: عن القتال لأنكم لم تؤمروا به بعد وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فإن الصلاة تخلص النفس من أدران المآثم، وتجعلها تتجه إلى الله وحده وَآتُوا الزَّكاةَ فإن الزكاة تطهر النفوس من الشح والبخل، وتربط بين الناس برباط المحبة والتعاون.
ثم بين- سبحانه- حالهم بعد أن فرض عليهم القتال فقال: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً.
أى: فحين فرض عليهم القتال وأمروا بمباشرته بعد أن صارت للمسلمين دولة بالمدينة، حين حدث ذلك، إذا فريق منهم- وهم الذين قل إيمانهم، وضعف يقينهم، وارتابت قلوبهم- يَخْشَوْنَ النَّاسَ أى يخافونهم خوفا شديدا كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أى: يخافون من الكفار أن يقتلوهم كما يخافون من الله أن ينزل بهم بأسه، أو أشد من ذلك.
فالمراد بالناس في قوله يَخْشَوْنَ النَّاسَ أولئك الأعداء الذين كتب الله على المؤمنين قتالهم.
وعبر عن هؤلاء الأعداء بقوله النَّاسَ زيادة في توبيخ أولئك الذين خافوا منهم هذا الخوف الشديد، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا، لاستقبلوا ما فرضه الله عليهم بالسمع والطاعة، ولما خافوا هذا الخوف الشديد من أناس مثلهم.
وقوله كَخَشْيَةِ اللَّهِ مفعول مطلق، أى يخشونهم خشية كخشية الله.
وهو بيان لشدة خورهم وهلعهم، ولفساد تفكيرهم، حيث جعلوا خشيتهم للناس في مقابل خشيتهم لله، الذي يجب أن تكون خشيته- سبحانه- فوق كل خشية.
وقوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً معطوف على ما قبله. وأشد حال من خشية لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا.
وفي هذه الجملة الكريمة زيادة في توبيخهم وذمهم وترق في توضيح حالتهم القبيحة، لأنه إذا كان من المقرر أنه لا يجوز للعاقل أن يجعل خشيته للناس كخشيته لله، فمن باب أولى لا يجوز له أن يجعل خشيته للناس أشد من خشيته لله- تعالى-.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: فإن قيل: ظاهر أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يوهم الشك. وذلك على علام الغيوب محال. أجيب بأن أَوْ بمعنى بل. أو هي للتنويع. على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها أو هي للإبهام على السامع. على معنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة. وهو قريب مما في قوله- تعالى-: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ يعنى أن من يبصرهم يقول: أنهم مائة ألف أو يزيدون
ثم حكى- سبحانه- ما قاله أولئك الضعفاء عند ما فرض عليهم القتال فقال: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
أى: أن هؤلاء الضعفاء لم يكتفوا بما اعتراهم من فزع وجزع عند ما كتب عليهم القتال وإنما أضافوا إلى ذلك أنهم قالوا على سبيل الضجر والألم: يا ربنا لم كتبت علينا القتال في هذا الوقت لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أى: هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت موتة لا قتال معها عند حضور آجالنا، دون أن نتعرض لهذا التكليف الثقيل المخيف.
وهكذا يصور القرآن تخبط هؤلاء الضعفاء أكمل تصوير. إنهم قبل أن يفرض القتال يظهرون التحمس له، والتشوق لخوض معا معه، فإذا ما فرض عليهم القتال فزعوا وارتعدوا وقالوا ما قالوا من ضلال بضيق وهلع.
ويبدو أن هذه طبيعة أكثر المتهورين في كل وقت، إنهم قبل أن يجد الجد أشد الناس حماسة للقاء الأعداء، فإذا ماجد الجد ووقعت الواقعة كانوا أول الفارين، وأول الناكصين على أعقابهم.
وذلك لأن الشجعان العقلاء لا يتمنون لقاء الأعداء، ولا ينشئون القتال إنشاء، وإنما يقدرون الأمور حق قدرها، ويضعون الأشياء في مواضعها، فإذا ما اقتضت الضرورة خوض معركة من المعارك ثبتوا ثبات الأبطال.
أما المندفعون بدون إيمان يدفعهم، أو عقل يرشدهم، فإنهم لعدم تقديرهم للأمور يكونون في ساعة الشدة أول الناس جزعا ونكولا وانهيارا.
ولكن من هؤلاء الذين تحدثت عنهم الآية الكريمة ووصفتهم بأنهم حين كتب عليهم القتال «إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب..» ؟!!
إن الذي يراجع أقوال المفسرين يرى أن بعضهم يميل إلى أن الآية الكريمة في شأن المؤمنين، ويرى أن بعضهم يرجح أنها في شأن المنافقين، وقد لخص الإمام الرازي هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال:
«هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين؟ فيه قولان:
الأول: أن الآية نزلت في المؤمنين. قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف، والمقداد، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبى وقاص. كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ويلقون من المشركين أذى شديدا، فيشكون ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كفوا أيديكم فإنى لم أومر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية.
ثم قال: واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم: كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال والراغبون في القتال هم المؤمنون، فدل هذا على أن الآية في حق المؤمنين.. وأن كراهتهم للقتال إنما هي بمقتضى الجبلة البشرية ... وقولهم لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ محمول على التمني في التخفيف للتكليف لا على وجه الإنكار لإيجاب الله تعالى.
ثم قال: والقول الثاني: أن الآية نازلة في حق المنافقين. واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين، لأن الله وصفهم بأنهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق، لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله- تعالى- ولأنه- سبحانه- حكى عنهم أنهم قالوا: ربنا لما كتبت علينا القتال، والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار أو المنافقين، ولأن الله قال للرسول: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، وذلك من صفات المنافقين.
ثم قال. والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه- سبحانه- ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ولا شك أن هذا من كلام المنافقين، فإذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التي نحن في تفسيرها ثم المعطوف في المنافقين، وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا .
ونحن نوافق الإمام الرازي فيما ذهب إليه من أن حمل الآية الكريمة على أنها في المنافقين هو الأولى للأسباب التي ذكرها.
ونضيف إلى ما ذكره الإمام الرازي أن المتأمل في سياق الآيات السابقة واللاحقة يراها واضحة في شأن المنافقين، ومن هم على شاكلتهم من ضعاف الايمان، الذين أدى بهم ضعف نفوسهم، وحبهم للدنيا إلى كراهة القتال، والخوف من تكاليفه ...
فأنت إذا قرأت الآيات التي قبيل هذه الآية تراها تتحدث عن إرادة تحاكمهم إلى الطاغوت مع زعمهم الإيمان بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل على الرسل من قبله. وتراها تتحدث عن تباطئهم عن القتال وفرحهم لنجاتهم من مخاطرة.
ثم إذا قرأت الآيات التي تأتى بعد هذه الآية تراها تتحدث عن نسبتهم الحسنة إلى الله، ونسبتهم السيئة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعن إذاعتهم لأسرار المؤمنين ... ألخ، فثبت أن الآية الكريمة تتحدث عن صفات المنافقين، وعمن هم قريبو الشبه بهم من ضعاف الإيمان الذين أخلدوا إلى الراحة. وآثروا القعود في بيوتهم على القتال من أجل إعلاء كلمة الله، ودفع الظلم عن المظلومين.
ونضيف أيضا أن القول الأول- الذي ذكره الإمام الرازي وهو أن الآية نزلت في المؤمنين- غير صحيح لأسباب من أهمها:
1- أن الرواية التي ذكرها الإمام الرازي نقلا عن الكلبي وهي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون ... إلخ هذه الرواية يبدو عليها الضعف، لأنها لم ترد في كتب الحديث الموثوق بها، ولأن الكلبي نفسه قد عرف عنه عدم التثبت في النقل.
ولقد علق الإمام الشيخ محمد عبده على هذه الرواية بقوله: «إننى أجزم ببطلان هذه الرواية مهما كان سندها، لأننى أبرئ السابقين الأولين كسعد وعبد الرحمن مما رموا به. وهذه الآية متصلة بما قبلها، فإن الله- تعالى- أمر بأخذ الحذر والاستعداد للقتال، والنفر له، وذكر حال المبطئين لضعف قلوبهم. وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمر الإسلام أتباعه بالسلم وتهذيب النفوس بالعبادة والكف عن الاعتداء والقتال.. إلى أن اشتدت الحاجة إليه ففرضه الله عليهم فكرهه الضعفاء منهم» .
2- أن المؤمنين لم يعهد عنهم ما ذكرت الآية من خوف من القتال، ومن تمن لعدم حضوره، وإنما المعهود عنهم أنهم كانوا يبادرون إليه كلما اقتضت الضرورة ذلك ويتسابقون لخوض ساحته دفاعا عن دينهم، وانتصارا ممن بغى عليهم.
ولقد قال المقداد بن عمرو للرسول صلى الله عليه وسلم. في غزوة بدر يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ...
إلى غير ذلك من الأقوال والمواقف التي تدل على شجاعتهم وقوة إيمانهم.
ولقد رجح الإمام القرطبي عند تفسيره للآية الكريمة أنها في المنافقين فقال: قال مجاهد:
هي في اليهود. وقال الحسن: هي في المؤمنين لقوله «يخشون الناس» أى مشركي مكة «كخشية الله» فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. وقال السدى: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين. والمعنى: يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله «أو أشد خشبة» أى عندهم وفي اعتقادهم.
ثم قال: قلت وهذا أشبه بسياق الآية لقوله ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابى كريم، يعلم أن الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو المعروف من سيرتهم- رضى الله عنهم- اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما تؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة» .
والخلاصة: أن الذي تطمئن إليه نفوسنا أن الآية الكريمة تحكى ما كان عليه المنافقون وضعاف الإيمان، من بعد عن طاعة الله، ومن جبن في النفوس ومن حب للحياة الدنيا وزينتها.
وأن المؤمنين بعيدون كل البعد عما اشتملت عليه الآية الكريمة من صفات وأحوال لأن ما عرف عنهم من إيمان وإقدام ينأى بهم عن أن يكونوا ممن قال الله فيهم فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وعن أن يقولوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
هذا، وقوله- تعالى- قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا رد على التصرفات الذميمة، والأقوال الفاسدة التي صدرت عن المنافقين وضعاف الإيمان! وإرشاد من الله- تعالى- لعباده إلى أن متاع الحياة الدنيا قليل بالنسبة لما اشتملت عليه الآخرة من نعيم للمؤمنين الصادقين.
والمتاع: اسم لما يتمتع به الإنسان في هذه الحياة من مال وغيره.
والفتيل: هو الخيط الدقيق الذي يكون في شق نواة التمرة. ويضرب به المثل في القلة والتفاهة.
والمعنى: قل- يا محمد- لهؤلاء الذين يخشون لقاء الأعداء، ويفزعون من القتال طمعا في التمتع بزينة الحياة الدنيا، قل لهم: إن منافع الدنيا ولذاتها قليلة مهما كبرت في أعينكم لأنها زائلة فانية، أما الآخرة بما فيها من نعيم دائم فهي خير ثوابا، وأعظم أجرا لمن اتقى الله، وجاهد في سبيله. وإذا كان الأمر كذلك فاجعلوا خشيتكم من الله وحده، وبادروا إلى الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، لكي تنالوا الثواب الجزيل من الله دون أن يذهب من ثوابكم شيئا مهما كان هذا الشيء ضئيلا أو قليلا، ودون أن ينقص من أعماركم شيئا لأن الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإقدام لا ينقص شيئا منها.
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام - وهم بمكة - مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النصب ، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم ، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة ، منها : قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض ، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقا . فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة ، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) أي : لو ما أخرت فرضه إلى مدة أخرى ، فإن فيه سفك الدماء ، ويتم الأبناء ، وتأيم النساء ، وهذه الآية في معنى قوله تعالى ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال [ رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ] ) [ محمد : 20 ، 21 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وعلي بن زنجة قالا حدثنا علي بن الحسن ، عن الحسين بن واقد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة : قال : " إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " . فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال ، فكفوا . فأنزل الله : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم [ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ] ) الآية .
ورواه النسائي ، والحاكم ، وابن مردويه ، من حديث علي بن الحسن بن شقيق ، به .
وقال أسباط ، عن السدي : لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال ، فلما كتب عليهم القتال : ( إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) وهو الموت ، قال الله تعالى : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى )
وعن مجاهد : إن هذه الآيات نزلت في اليهود . رواه ابن جرير .
وقوله : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) أي : آخرة المتقي خير من دنياه .
( ولا تظلمون فتيلا ) أي : من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء . وهذه تسلية لهم عن الدنيا . وترغيب لهم في الآخرة ، وتحريض لهم على الجهاد .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن قال : قرأ الحسن : ( قل متاع الدنيا قليل ) قال : رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك ، ما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة ، فرأى في منامه بعض ما يحب ، ثم انتبه .
وقال ابن معين : كان أبو مسهر ينشد :
ولا خير في لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها
متاع قليل والزوال قريب
القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يُفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.
* * *
فتأويل قوله: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم "، ألم تر بقلبك، يا محمد، فتعلم (13) =" إلى الذين قيل لهم "، من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال =" كفوا أيديكم "، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم =" وأقيموا الصلاة "، يقول: وأدُّوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها (14) =" وآتوا الزكاة "، يقول: وأعطوا الزكاة أهلها الذين جعلها الله لهم من أموالكم، تطهيرًا لأبدانكم وأموالكم (15) = كرهوا ما أمروا به من كف الأيدي عن قتال المشركين وشق ذلك عليهم =" فلما كتب عليهم القتال "، يقول: فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم (16) =" إذا فريق منهم "، يعني: جماعة منهم (17) =" يخشون الناس "، يقول: يخافون الناس أن يقاتلوهم =" كخشية الله أو أشد خشية "، أو أشد خوفًا (18) = وقالوا جزعًا من القنال الذي فرض الله عليهم: " لم كتبت علينا القتال "، لم فرضت علينا القتال؟ ركونًا منهم إلى الدنيا، وإيثارًا للدعة فيها والخفض، (19) على مكروه لقاء العدوّ ومشقة حربهم وقتالهم =" لولا أخرتنا "، يخبر عنهم، قالوا: هلا أخرتنا =" إلى أجل قريب "، يعني: إلى أن يموتوا على فُرُشهم وفي منازلهم. (20) .
* * *
وبنحو الذي قلنا إنّ هذه الآية نـزلت فيه، قال أهل التأويل.
ذكر الآثار بذلك، والرواية عمن قاله.
9951 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، كنا في عِزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذِلة! فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا. فلما حوَّله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا، فأنـزل الله تبارك وتعالى: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم "، الآية (21) .
9952 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم "، عن الناس =" فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم "، نـزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم = قال: ابن جريج وقوله: " وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب "، قال: إلى أن نموت موتًا، هو " الأجل القريب ".
9953 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة "، فقرأ حتى بلغ: " إلى أجل قريب "، قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرَّعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله صلى &; 8-550 &; الله عليه وسلم: ذَرْنا نتَّخذ مَعَاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: لم أؤمر بذلك. فلما كانت الهجرة، وأُمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا .
9954 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "، قال: هم قوم أسلموا قبل أن يُفرض عليهم القتال، ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال =" فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية " الآية، إلى " إلى أجل قريبٍ" (22) وهو الموت، قال الله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى .
* * *
وقال آخرون: نـزلت هذه وآيات بعدها، في اليهود.
*ذكر من قال ذلك:
9955 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة " إلى قوله: لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ، ما بين ذلك في اليهود.
9956 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم " إلى قوله: " لم كتبت علينا القتال "، نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.
* * *
القول في تأويل قوله : قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " قل متاع الدنيا قليل "، قل، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ = : عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل، لأنها فانية وما فيها فانٍ (23) =" والآخرة خير "، يعني: ونعيم الآخرة خير، لأنها باقية ونعيمها باق دائم. وإنما قيل: " والآخرة خير "، ومعنى الكلام ما وصفت، من أنه معنيٌّ به نعيمها - لدلالة ذكر " الآخرة " بالذي ذكرت به، على المعنى المراد منه =" لمن اتقى "، يعني: لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فأطاعه في كل ذلك =" ولا تظلمون فتيلا "، يعني: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلا.
* * *
وقد بينا معنى: " الفتيل "، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته ههنا. (24)
-------------------
الهوامش :
(13) انظر تفسير: "ألم تر" فيما سلف: 426 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.
(14) انظر تفسير: "إقامة الصلاة" فيما سلف من فهارس اللغة (قوم).
(15) انظر تفسير"إيتاء الزكاة" فيما سلف من فهارس اللغة"أتى""زكا".
(16) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 525 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(17) انظر تفسير"فريق" سلف 2: 244 ، 245 ، 402 / 3: 549 / 6: 535.
(18) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 1: 599 ، 560 / 2: 239 ، 243.
(19) في المطبوعة: "وإيثارًا للدعة فيها والحفظ عن مكروه" ، وفي المخطوطة: "والحفظ على مكروه" ، وكلاهما خطأ فاسد ، والصواب: "والخفض" وهو لين العيش ، وأما قوله: "على مكروه لقاء العدو" فهو متعلق بقوله: "وإيثار للدعة ... على مكروه ...".
(20) انظر تفسير"الأجل" فيما سلف 5: 7 / 6: 43 ، 76.
(21) الأثر: 9951 -"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق" مضى برقم: 1591 ، 2575 ، 2594.
وأبوه: "علي بن الحسن بن شقيق بن دينار" مضى برقم: 1909.
وكان في المطبوعة: "... بن الحسين بن شقيق" ، وهو خطأ.
وهذا الخبر ، رواه الحاكم في المستدرك 2: 307 مع اختلاف في لفظه ، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن 9: 11 ، ورواه ابن كثير في تفسيره 2: 514 ، من طريق ابن أبي حاتم ، وخرجه في الدر المنثور 2: 184 ، ونسبه إلى هؤلاء وزاد نسبته إلى النسائي.
(22) في المطبوعة والمخطوطة: "الآية إلى أجل قريب" ، والسياق يقتضي"إلى" الثانية.
(23) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539 ، 540 / 3: 55 / 5: 262 / 6: 258.
(24) انظر ما سلف: 456 - 460.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 110 | ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّـهِ﴾ |
---|
البقرة: 43 | ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ |
---|
النور: 56 | ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ |
---|
البقرة: 83 | ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ﴾ |
---|
النساء: 77 | ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ﴾ |
---|
المزمل: 20 | ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
ولا تظلمون:
قرئ:
1- بالياء، وهى قراءة حمزة، والكسائي، وابن كثير.
2- بالتاء، على الخطاب، وهى قراءة باقى السبعة.
التفسير :
ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا، فقال:{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} أي:في أي زمان وأي مكان.{ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} أي:قصور منيعة ومنازل رفيعة، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها.يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي:خصب وكثرة أموال، وتوفر أولاد وصحة، قالوا:{ هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وأنهم إن أصابتهم سيئة أي:جدب وفقر، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا:{ هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} أي:بسبب ما جئتنا به يا محمد، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى{ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وقال قوم صالح:{ قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} وقال قوم ياسين لرسلهم:{ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الآية. فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم. وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم. قال الله في جوابهم:{ قُلْ كُلٌّ} أي:من الحسنة والسيئة والخير والشر.{ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي:بقضائه وقدره وخلقه.{ فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم} أي:الصادر منهم تلك المقالة الباطلة.{ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي:لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم. وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه. فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء عن ذلك. وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث، هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين.
ثم بين- سبحانه- أنه لا مفر لهم من الموت، وأنهم مهما فروا منه فإنه سيلقاهم آجلا أو عاجلا فقال- تعالى-: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
والبروج: جمع برج وهو الحصن المنيع الذي هو نهاية ما يصل إليه البشر في التحصن والمنعة. وأصل البروج من التبرج بمعنى الظهور. يقال: تبرجت المرأة، إذا أظهرت محاسنها.
والمراد بها الحصون والقلاع الشاهقة المنيعة.
والمشيدة: أى المحكمة البناء، والعظيمة الارتفاع من شاد القصر إذا رفعه، والمعنى: إنكم أيها الخائفون من القتال إن ظننتم أن هذا الخوف منه أو القعود عنه سينجيكم من الموت، فأنتم بهذا الظن مخطئون، لأن الموت حيثما كنتم سيدرككم، ولو كنتم في أقوى الحصون، وأمنعها وأحكمها بناء، وما دام الأمر كذلك فليكن موتكم وأنتم مقبلون بدل أن تموتوا وأنتم مدبرون.
والجملة الكريمة لا محل لها من الإعراب، لأنها مسوقة على سبيل الاستئناف لتبكيت هؤلاء الكارهين للقتال، وتحريض غيرهم من المؤمنين على الإقدام عليه من أجل نصرة الحق.
ويحتمل أنها في محل نصب، فتكون داخلة في حيز القول المأمور به الرسول صلى الله عليه وسلم أى: قل لهم يا محمد متاع الدنيا قليل. وقل لهم أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ.
وأين: اسم شرط جازم ظرف مكان يجزم فعلين، و «ما» زائدة للتأكيد، وتكونوا فعل الشرط ويدرككم جوابه.
والتعبير بقوله يُدْرِكْكُمُ للإشعار بأن الموت كأنه كائن حي يطلب الإنسان ويتبعه حيثما كان، وفي أى وقت كان، فهو طالب لا بد أن يدرك ما يطلبه ولا بد أن يصل إليه مهما تحصن منه، أو هرب من لقائه.
وجواب (لو) محذوف اعتمادا على دلالة ما قبله عليه أى: ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت.
وقريب في المعنى من هذه الآية قوله- تعالى- قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وقوله- تعالى-: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ.
فالجملة الكريمة صريحه في بيان أن الموت أمر لا مفر منه، ولا مهرب عنه سواء أقاتل الإنسان أم لم يقاتل. وما أحسن قول زهير بن أبى سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم حكى- سبحانه- ما كان يتفوه به المنافقون وإخوانهم في الكفر من باطل وزور فقال- تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
أى: إن هؤلاء المنافقين وأشباههم، من ضعاف الإيمان وإخوانهم في الكفر بلغ بهم الفجور أنهم إذا أصابتهم حال حسنة من نعمة أو رخاء أو خصب أو غنيمة أو ظفر قالوا هذه الحال من عند الله، وإذا أصابتهم حال سيئة من جدب أو مصيبة أو هزيمة قالوا هذه الحال من عندك يا محمد بسبب شؤمك وسوء قيادتك- وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم-.
وهذا القول منهم قريب من قول قوم فرعون لموسى- عليه السلام- كما حكاه القرآن عنهم في قوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ.
قال القرطبي: نزلت هذه الآية في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى مِنْ عِنْدِكَ أى: بسوء تدبيرك. وقيل مِنْ عِنْدِكَ أى بشؤمك الذي لحقنا، قالوه على جهة التطير» .
وقوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد على مزاعمهم الباطلة. أى قل لهم يا محمد كل واحدة من النعمة والمصيبة هي من جهة الله- تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون:
وقوله فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً جملة معترضة مسوقة لتعييرهم بالجهل والغباوة، والفاء في قوله فمال لترتيب ما بعدها على ما قبلها والمعنى. وإذا كان الأمر كذلك وهو أن كل شيء من عند الله، فمال هؤلاء القوم من المنافقين وإخوانهم في الكفر وضعف الإيمان لا يكادون- لانطماس بصيرتهم- يفقهون ما يلقى عليهم من مواعظ، ولا يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون، إذ لو فقهوا شيئا مما يوعظون به لعلموا أن الله هو القابض الباسط، وأنه المعطى المانع.
قال- تعالى- ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقوله : ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) أي : أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ، ولا ينجو منه أحد منكم ، كما قال تعالى : ( كل من عليها فان [ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ] ) [ الرحمن : 26 ، 27 ] وقال تعالى ( كل نفس ذائقة الموت ) [ آل عمران : 185 ] وقال تعالى : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) [ الأنبياء : 34 ] والمقصود : أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء ، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ، وأمدا مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاءه الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء .
وقوله : ( ولو كنتم في بروج مشيدة ) أي : حصينة منيعة عالية رفيعة . وقيل : هي بروج في السماء . قاله السدي ، وهو ضعيف . والصحيح : أنها المنيعة . أي : لا يغني حذر وتحصن من الموت ، كما قال زهير بن أبي سلمى :
ومن خاف أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم قيل : " المشيدة " هي المشيدة كما قال : ( وقصر مشيد ) [ الحج : 45 ] وقيل : بل بينهما فرق ، وهو أن المشيدة بالتشديد ، هي : المطولة ، وبالتخفيف هي : المزينة بالشيد وهو الجص .
وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد : أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطلق ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار ، فخرج ، فإذا هو برجل واقف على الباب ، فقال : ما ولدت المرأة ؟ فقال : جارية ، فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ، ثم يتزوجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فكر راجعا ، فبعج الجارية بسكين في بطنها ، فشقه ، ثم ذهب هاربا ، وظن أنها قد ماتت ، فخاطت أمها بطنها ، فبرئت وشبت وترعرعت ، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها فذهب ذاك [ الأجير ] ما ذهب ، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج ، فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة . فقالت له : ليس هنا أحسن من فلانة . فقال : اخطبيها علي . فذهبت إليها فأجابت ، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدا ، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه ؟ فأخبرها خبره ، وما كان من أمره في هربه . فقالت : أنا هي . وأرته مكان السكين ، فتحقق ذلك فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما ، إحداهما : أنك قد زنيت بمائة رجل . فقالت : لقد كان شيء من ذلك ، ولكن لا أدري ما عددهم ؟ فقال : هم مائة . والثانية : أنك تموتين بالعنكبوت . فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ، ليحرزها من ذلك ، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف ، فأراها إياها ، فقالت : أهذه التي تحذرها علي ، والله لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها ، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها .
ونذكر هاهنا قصة صاحب الحضر ، وهو " الساطرون " لما احتال عليه " سابور " حتى حصره فيه ، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين ، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها :
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كل سا فللطير في ذراه وكور
لم تهبه أيدي المنون فباد ال ملك عنه فبابه مهجور
ولما دخل على عثمان يقول : اللهم اجمع أمة محمد ، ثم تمثل بقول الشاعر :
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع لعاد ملاذا في البلاد ومربعا
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ويأتي الجبال في شماريخها معا
وقوله : ( وإن تصبهم حسنة ) أي : خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي ( يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة ) أي : قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك . كما يقوله أبو العالية والسدي . ( يقولوا هذه من عندك ) أي : من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك . كما قال تعالى عن قوم فرعون : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف [ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ] ) الآية [ الحج : 11 ] . وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ; ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال السدي : ( وإن تصبهم حسنة ) قال : والحسنة الخصب ، تنتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ، ويحسن وتلد نساؤهم الغلمان قالوا : ( هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة ) والسيئة : الجدب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : ( هذه من عندك ) يقولون : بتركنا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عز وجل : ( قل كل من عند الله ) فقوله ( قل كل من عند الله ) أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البر والفاجر ، والمؤمن والكافر .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( قل كل من عند الله ) أي : الحسنة والسيئة . وكذا قال الحسن البصري .
ثم قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب . وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا )
ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : ( قل كل من عند الله )
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السكن بن سعيد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن حماد ، عن مقاتل بن حيان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; وجلس عمر قريبا من أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم ارتفعت أصواتكما ؟ " فقال رجل : يا رسول الله ، قال أبو بكر : الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما قلت يا عمر ؟ " قال : قلت : الحسنات والسيئات من الله تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل ، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال : نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض . فتحاكما إلى إسرافيل ، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله " . ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال " احفظا قضائي بينكما ، لو أراد الله ألا يعصى لم يخلق إبليس " .
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة .
القول في تأويل قوله : أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: = حيثما تكونوا يَنَلكم الموت فتموتوا =" ولو كنتم في بروج مشيَّدة "، يقول: لا تجزعوا من الموت، ولا تهربوا من القتال، وتضعفوا عن لقاء عدوكم، حذرًا على أنفسكم من القتل والموت، فإن الموت &; 8-552 &; بإزائكم أين كنتم، وواصلٌ إلى أنفسكم حيث كنتم، ولو تحصَّنتم منه بالحصون المنيعة.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: " ولو كنتم في بروج مشيدة ".
فقال بعضهم: يعنى به: قصور مُحصنة.
*ذكر من قال ذلك:
9957 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ولو كنتم في بروج مشيدة "، يقول: في قصور محصنة.
9958 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا أبو همام قال، حدثنا كثير أبو الفضل، عن مجاهد قال: كان فيمن كان قبلكم امرأة، وكان لها أجيرٌ، فولدت جارية. فقالت لأجيرها: اقتبس لنا نارًا، فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ قال: جارية. قال: أما إنّ هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمئة، ويتزوجها أجيرها، (25) ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فقال الأجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمئة!! فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية. وعولجت فبرِئت، فشبَّت، وكانت تبغي، فأتت ساحلا من سواحل البحر، فأقامت عليه تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل: ابغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس، ولكنها تبغي. قال: ائتيني بها. فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير، وقد قال لي: كذا. فقلت له: كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوَّجته! قال: فتزوجها، فوقعت منه موقعًا. فبينا هو يومًا عندها إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية! = وأرته الشق في بطنها = وقد كنت &; 8-553 &; أبغي، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر! قال: فإنّه قال لي: يكون موتها بعنكبوت. (26) قال: فبنى لها برجًا بالصحراء وشيده. فبينما هما يومًا في ذلك البرج، إذا عنكبوت في السقف، فقالت: هذا يقتلني؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدَخَتْه، وساحَ سمه بين ظفرها واللحم، فاسودت رجلها فماتت. فنـزلت هذه الآية: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ". (27)
9959 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: " ولو كنتم في بروج مشيدة "، قال: قصور مشيدة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: قصورٌ بأعيانها في السماء.
*ذكر من قال ذلك:
9960 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة "، وهي قصور بيض في سماء الدنيا، مبنية.
9961 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة "، يقول: ولو كنتم في قصور في السماء. (28)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى " المشيدة ".
فقال بعض أهل البصرة منهم: " المشيدة "، الطويلة. قال: وأما " المشِيدُ"، بالتخفيف، فإنه المزيَّن. (29)
* * *
وقال آخر منهم نحو ذلك القول، (30) غير أنه قال: " المَشِيد " بالتخفيف المعمول بالشِّيد، و " الشيد " الجِصُّ.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة: " المَشيد " و " المُشَيَّد "، أصلهما واحد، غير أن ما شدِّد منه، فإنما يشدد لنفسه، والفعل فيه في جمع، (31) مثل قولهم: " هذه ثياب مصبَّغة "، و " غنم مذبَّحة "، فشدد؛ لأنها جمع يفرَّق فيها الفعل. وكذلك مثله،" قصور مشيدة "، لأن القصور كثيرة تردد فيها التشييد، ولذلك قيل: " بروج مشيدة "، ومنه قوله: وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ، وكما يقال: " كسَّرت العودَ"، إذا جعلته قطعًا، أي: قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف، فإذا أفرد من ذلك الواحد، فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في جمع منه، جاز التشديد عندهم والتخفيف، فيقال منه: " هذا ثوب مخرَّق " و " جلد مقطع "، لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق. وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد، ولم يجيزوه إلا بالتخفيف، وذلك نحو قولهم: " رأيت كبشًا مذبوحًا " ولا يجيزون فيه: " مذَّبحًا "، لأن الذبح لا يتردد فيه تردد التخرُّق في الثوب.
* * *
وقالوا: فلهذا قيل: " قصر مَشِيد "، لأنه واحد، فجعل بمنـزلة قولهم: &; 8-555 &; " كبش مذبوح ". وقالوا: جائز في القصر أن يقال: " قصر مشيَّد " بالتشديد، لتردد البناء فيه والتشييد، ولا يجوز ذلك في" كبش مذبوح "، لما ذكرنا. (32)
* * *
القول في تأويل قوله : وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ
قل أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله "، وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة (33) =" يقولوا هذه من عند الله "، يعني: من قبل الله ومن تقديره (34) =" وإن تصبهم سيئة "، يقول: وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو وجراح وألم، (35) = يقولوا لك يا محمد: =" هذه من عندك "، بخطئك التدبير.
وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9962 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: &; 8-556 &; " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك "، قال: هذه في السراء والضراء. (36)
9963 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
9964 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك " فقرأ حتى بلغ: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا ، قال: إن هذه الآيات نـزلت في شأن الحرب. فقرأ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا فقرأ حتى بلغ: " وإن تصبهم سيئة "، يقولوا: " هذه من عند محمد عليه السلام، أساء التدبير وأساء النظر! ما أحسن التدبير ولا النظر ".
* * *
القول في تأويل قوله : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " قل كل من عند الله "، قل، يا محمد، لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة: " هذه من عند الله "، وإذا أصابتهم سيئة: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ : = كل ذلك من عند الله، دوني ودون غيري، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده الفَلُّ والهزيمة، (37) كما:-
9965 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: " قل كل من عند الله "، النعم والمصائب.
9966 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " كل من عند الله "، النصر والهزيمة.
9967 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا "، يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها.
* * *
القول في تأويل قوله : فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " فمال هؤلاء القوم "، (38) فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وإن تصبهم سيئة يقولوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ =" لا يكادون يفقهون حديثًا "، يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به، من أن كل ما أصابهم من خير أو شر، أو ضرّ وشدة ورخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاءً ونعمة إلا بمشيئته.
وهذا إعلام من الله عبادَه أن مفاتح الأشياء كلها بيده، لا يملك شيئًا منها أحد غيره.
-------------------------
الهوامش :
(25) "تبغي" من"البغاء" ، "بغت المرأة": فجرت وزنت.
(26) في المطبوعة: "بالعنكبوت" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(27) الأثر: 9958 -"كثير أبو الفضل" ، هو: كثير بن يسار الطفاوي ، أبو الفضل البصري. روى عن الحسن البصري ، وثابت البناني وغيرهما. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 515 ، من تفسير ابن أبي حاتم ، وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 184 ، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم ، وأبي نعيم في الحلية.
(28) الأثر: 9961 -"عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ" ، مضى برقم: 2929 ، وهذا الإسناد نفسه مضى أيضًا قبله برقم 2919 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا"عبد الرحمن بن سعيد" ، كما كان في رقم: 2929 ، ولكنه سيأتي على الصواب في المخطوطة والمطبوعة بعد قليل رقم: 9962 ، 9972.
(29) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 132.
(30) في المطبوعة والمخطوطة: "وقال آخرون منهم" ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(31) في المطبوعة: "فإنما يشدد لتردد الفعل فيه ..." غير ما في المخطوطة ، وهو ما أثبته وهو صواب المعنى المطابق للسياق.
(32) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 277.
(33) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف: 514 ، 538
وانظر تفسير"الحسنة" فيما سلف 4: 203-206.
(34) انظر تفسير"عند" فيما سلف: 2: 500 / 7: 490 ، 495.
(35) انظر تفسير"سيئة" فيما سلف: 2: 281 ، 282 ، / 7: 482 ، 490 / 8: 254.
(36) الأثر: 9962 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 9961.
(37) في المطبوعة: "القتل والهزيمة" ، وفي المخطوطة: "العال والهزيمة" غير منقوطة ، ورجحت أن صوابها"الفل" ، من قولهم: "فل القوم يفلهم فلا.": هزمهم وكسرهم.
(38) قال الفراء في معاني القرآن 1: 278: "(فمال) ، كثرت في الكلام حتى توهموا أن اللام متصلة ب"ما" ، وأنها حرف في بعضه".
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 78 | ﴿فَمَالِ هَـٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ |
---|
الكهف: 93 | ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أي:في الدين والدنيا{ فَمِنَ اللَّهِ} هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها.{ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} في الدين والدنيا{ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي:بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر. فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره. ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال:{ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة، فهي أكبر شهادة على الإطلاق، كما قال تعالى:{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم، تام القدرة عظيم الحكمة، وقد أيد الله رسوله بما أيده، ونصره نصرا عظيما، تيقن بذلك أنه رسول الله، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين، ثم لقطع منه الوتين.
وقوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد كل مكلف من أمته.
والمراد بالحسنة ما يسر له الإنسان ويفرح به، والمراد بالسيئة ما يسوءه ويحزنه.
والمعنى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أى من نعمة وأمور حسنة تفرح بها فَمِنَ اللَّهِ أى فبتوفيقه لك وتفضله عليك، وإرشادك إلى الوسائل التي أوصلتك إلى ما يسرك. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أى من مصيبة أو غيرها مما يحزن فَمِنْ نَفْسِكَ أى: فمن نفسك بسبب وقوعها فيما نهى الله عنه، وتركها للأسباب الموصلة إلى النجاح، كما قال- تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وروى الترمذي عن أبى موسى الأشعرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب عبدا نكتة فما فوقها أو دونها إلا بذنب. وما يعفو الله عنه أكثر» . قال وقرأ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وروى ابن عساكر عن البراء- رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم. وما يعفو الله أكثر» .
وعلى هذا يكون قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ.. إلخ من كلام الله- تعالى- والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل مكلف- كما سبق أن أشرنا- وقد ساقه- سبحانه- على سبيل الاستئناف ردا على مزاعم المنافقين ومن هم على شاكلتهم في الكفر وضعف الإيمان.
وقيل إن هذه الآية حكاية من الله- تعالى- لأقوال المنافقين السابقة، فكأنهم لم يكتفوا بأن ينسبوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه السبب فيما أصابهم من جدب وهزيمة. بل أضافوا إلى ذلك قولهم له:
إن ما أصابك من حسنة فمن الله ولا فضل لك فيما نلت من نصر أو غنيمة، وما أصابك من سيئة أى هزيمة أو مصيبة فمن سوء صنعك وتصرفك.
ومقصدهم من ذلك- قبحهم الله- تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من كل فضل، وإلقاء اللوم عليه في كل ما يصيبهم من مصائب.
وقد أشار القرطبي إلى هذين القولين بقوله: قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أى ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم أى من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم.
وقيل: في الكلام حذف تقديره: يقولون. وعليه يكون الكلام متصلا، والمعنى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً حتى يقولوا ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ .
وقال الجمل: فإن قلت: كيف وجه الجمع بين قوله- تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وبين قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فأضاف السيئة إلى فعل العبد في هذه الآية- بينما أضاف الكل إلى الله في الآية السابقة-؟
قلت: أما إضافة الأشياء كلها إلى الله في الآية السابقة في قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فعلى الحقيقة، لأن الله هو خالقها وموجدها. وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد في قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فعلى سبيل المجاز. والتقدير: وما أصابك من سيئة فمن أجلها وبسبب
اقترافها الذنوب. وهذا لا ينافي أن خلقها من الله- كما سبق) .
وقال بعض العلماء: والتوفيق بين قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ وبين قوله قبل ذلك: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو أن قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كان موضوعه الكلام في تقدير الله. فهم إن انتصر المؤمنون لا ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم أى فضل، بل يجردونه من الفضل ويقولون هو من عند الله. وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة. فإن كان هناك خير نسبوه إلى الله وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء وتمردا.
فالله تعالى- قال لهم: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أى كل ذلك بتقدير الله وإرادته.
أما قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فموضوعه اتخاذ الأسباب. ومعناه: أن من أخذ بالأسباب وتوكل على الله فالله- تعالى- يعطيه النتائج ومن لا يتخذ الأسباب، أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسبب منه.
فالأول: لبيان القدر.
والثاني: لبيان العمل .
هذا، وقوله- تعالى- وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بيان لجلال منصبه وعلو مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه- عز وجل- بعد بيان بطلان زعمهم الباطل في حقه عليه الصلاة والسلام.
أى: وأرسلناك- يا محمد- بأمرنا وبشريعتنا لتبلغ الناس ما أمرناك بتبليغه، ولتخرجهم من ظلمات الجهالة والكفر إلى نور التوحيد والإيمان وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على صحة رسالتك، وعلى صدقك فيما تبلغه عنه، وإذا ثبت ذلك فالخير في طاعتك والشر والشؤم في مخالفتك.
والمراد بالناس جميعهم. أى: وأرسلناك لجميع الناس كما قال- تعالى- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.
وقوله رَسُولًا حال مؤكدة لعاملها وهو أرسلناك.
وقوله وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تثبيت وتقوية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم أى: امض في طريقك ولا تلتفت إلى أقوالهم، وكفى بالله عليك وعليهم شهيدا، فإنه- سبحانه- لا يخفى عليه أمرك وأمرهم.
ثم قال تعالى - مخاطبا - للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : ( ما أصابك من حسنة فمن الله ) أي : من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته ( وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) أي : فمن قبلك ، ومن عملك أنت كما قال تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) [ الشورى : 30 ] .
قال السدي ، والحسن البصري ، وابن جريج ، وابن زيد : ( فمن نفسك ) أي : بذنبك .
وقال قتادة : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا يصيب رجلا خدش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق ، إلا بذنب ، وما يعفو الله أكثر " .
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح : " والذي نفسي بيده ، لا يصيب المؤمن هم ولا حزن ، ولا نصب ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه " .
وقال أبو صالح : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) أي : بذنبك ، وأنا الذي قدرتها عليك . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سهل - يعني ابن بكار - حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مطرف ، عن مطرف بن عبد الله قال : ما تريدون من القدر ، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء : ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ) أي : من نفسك ، والله ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون .
وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا ، ولبسطه موضع آخر .
وقوله تعالى : ( وأرسلناك للناس رسولا ) أي : تبلغهم شرائع الله ، وما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه .
( وكفى بالله شهيدا ) أي : على أنه أرسلك ، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه ، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا .
القول في تأويل قوله : مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، ما يصيبك، يا محمد، من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك، يتفضل به عليك إحسانًا منه إليك = وأما قوله: " وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، يعني: وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه =" فمن نفسك "، يعني: بذنب استوجبتها به، اكتسبته نفسك، (39) كما:-
9968 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، أما " من نفسك "، فيقول: من ذنبك.
9969 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، عقوبة، يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عَثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
9970 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، يقول: " الحسنة "، ما فتح الله عليه يوم بدر، وما أصابه من الغنيمة والفتح = و " السيئة "، ما أصابه يوم أُحُد، أنْ شُجَّ في وجهه وكسرت رَبَاعيته.
9971 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، يقول: بذنبك = ثم قال: كل من عند الله، النعم والمصيبات.
9972 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، قال: هذه في الحسنات والسيئات. (40)
9973 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
9974 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: " وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، قال: عقوبةً بذنبك.
9975 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، بذنبك، كما قال لأهل أُحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران: 165]، بذنوبكم.
9976 - حدثني يونس قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: " وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، قال: بذنبك، وأنا قدّرتها عليك.
9977 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، وأنا الذي قدّرتها عليك.
9978 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه دخول " مِن " في قوله: " ما أصابك من حسنة " و " من سيئة "؟
* * *
قيل: اختلف في ذلك أهل العربية.
فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت " من " لأن " من " تحسن مع النفي، مثل: " ما جاءني من أحد ". (41) قال: ودخول الخبر بالفاء، لأن " ما " بمنـزلة " مَن ". (42)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: أدخلت " مِن " مع " ما "، كما تدخل على " إن " في الجزاء، لأنهما حرفا جزاء. وكذلك، تدخل مع " مَن "، إذا كانت جزاء، فتقول العرب: " مَن يزرك مِن أحد فتكرمه "، كما تقول: " إن يَزُرك من أحد فتكرمه ". قال: وأدخلوها مع " ما " و " مَنْ"، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء. قالوا: وإذا دخلت معهما لم تحذف، لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعًا شيئين، وذلك أن " ما " في قوله: " ما أصابك من سيئة " رفع بقوله: " أصابك "، (43) فلو حذفت " مِن "، رفع قوله: " أصابك "" السيئةَ"، لأن معناه: إن تصبك سيئة = فلم يجز حذف " مِن " لذلك، لأن الفعل الذي هو على " فعل " أو " يفعل "، لا يرفع شيئين. (44) وجاز ذلك مع " مَن "، لأنها تشتبه بالصفات، (45) وهي في موضع اسم. فأما " إن " فإن " مِن " تدخل معها وتخرج، ولا تخرج مع " أيٍّ"، لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب، ودخلت مع " ما "، لأن الإعراب لا يظهر فيها.
* * *
القول في تأويل قوله : وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " وأرسلناك للناس رسولا "، إنما جعلناك، يا محمد، رسولا بيننا وبين الخلق، تبلّغهم ما أرسلناك به من رسالة، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم، وإن ردُّوا فعليها =" وكفى بالله " عليك وعليهم =" شهيدًا "، يقول: حسبك الله تعالى ذكره، شاهدًا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه، (46) وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدَك، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر، جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
* * *
---------------
الهوامش :
(39) انظر تفسير"الحسنة" فيما سلف: 555 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
وانظر تفسير"السيئة" فيما سلف: 555 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.
(40) انظر التعليق على الأثرين السالفين: 9961 ، 9962.
(41) انظر ما سلف 2: 126 ، 127 ، 442 ، 470 / 5: 586 / 6: 551.
(42) في المطبوعة والمخطوطة: "ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة من" ، وهو كلام لا معنى له البتة ، صواب قراءته ما أثبت ، ويعني بدخول الفاء في الخبر قوله: "فمن الله" و"فمن نفسك".
(43) في المطبوعة والمخطوطة: "ما أصابك من حسنة" ، والسياق يقتضي ذكر الأخرى كما أثبتها.
(44) "فعل" أو "يفعل" ، يعني الماضي والمضارع.
(45) "الصفات" ، حروف الجر ، كما سلف مرارًا ، فراجعه في فهارس المصطلحات.
(46) انظر تفسير"الشهيد" فيما سلف من فهارس اللغة.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 79 | ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَ كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا ﴾ |
---|
النساء: 166 | ﴿لَّٰكِنِ ٱللَّهُ يَشۡهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيۡكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلۡمِهِۦۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَشۡهَدُونَۚ وَ كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا ﴾ |
---|
يونس: 29 | ﴿فَـ كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِين﴾ |
---|
الرعد: 43 | ﴿وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلٗاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ |
---|
الإسراء: 96 | ﴿قُلۡ كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا﴾ |
---|
الفتح: 28 | ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَ كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
فمن نفسك:
وقرئ:
بفتح الميم ورفع السين، على أن «من» استفهام، معناه: الإنكار أي: فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل، وهى قراءة عائشة.