ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
حِرْصُ اليهودِ على الحياةِ مهما كانتْ حقيرةً ذليلةً، ادَّعُوا أنَّهم شعبُ اللهِ المختارُ وأنَّ الجَنَّةَ خالصةٌ لهم لا يدخُلها غيرُهم فتحدَّاهم القرآنُ بتمنِّي الموتِ وبَيَّنَ عجزَهم.
عداوةُ اليهودِ للملائكةِ والرسلِ.
كفرُ اليهودِ بما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ ﷺ، ونقضُهم العهودَ، وإعراضُهم عن القرآنِ الموافقِ لِما معهم مِنَ التوراةِ.
التفسير :
أي:{ قُلْ} لهم على وجه تصحيح دعواهم:{ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} يعني الجنة{ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} كما زعمتم, أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى, وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى{ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم, إلا أحد أمرين:إما أن يؤمنوا بالله ورسوله، وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم, وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم, فامتنعوا من ذلك. فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله, مع علمهم بذلك، ولهذا قال تعالى
ثم أمر الله- تعالى- نبيه «صلّى الله عليه وسلّم» أن يرد على اليهود في دعواهم أن الجنة لن يدخلها إلا من كان على ملتهم فقال- تعالى-:
( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة . . . )
ومعنى الآيات الكريمة إجمالا:
قل- يا محمد- لأولئك اليهود الذين ادعوا أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا: إن كانت الجنة مختصة بكم، وسالمة لكم دون غيركم، وليس لأحد سواكم فيها حق. فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في دعواكم، لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وأحب الوصول إليها.
ثم أخبر الله أن هذا التمني لن يحصل منهم فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً أى الموت بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أى بسبب ما ارتكبوه من كفر ومعصية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين وضعوا الأمور في غير موضعها، فادعوا ما ليس لهم، ونفوه عمن هو لهم.
ثم أخبر القرآن بأن حرصهم على الحياة لا نظير له ولا مثيل فقال: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ متطاولة وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أى: وأحرص عليها- أيضا- من الذين أشركوا الذين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أى يتمنى الواحد من هؤلاء اليهود أن يعيش السنين الكثيرة ولو تجاوزت الحدود المعقولة لعمر الإنسان والحال أنه ما أحد منهم بمزحزحه ومنجيه تعميره من العذاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أى: لا يخفى عليه أعمالهم، فهو محاسبهم عليها، ومجازيهم بما يستحقونه من عقاب.
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ رد على زعمهم الباطل أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، والمراد بالدار الآخرة: الجنة ونعيمها، ومعنى «خالصة» سالمة لكم مختصة بكم، لا يشارككم فيها أحد من الناس.
قال الإمام ابن جرير: «يقال: خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصفا لي، ويقال منه خلص هذا الشيء، فهو يخلص خلوصا وخالصة، والخالصة مصدر مثل العافية..»
وقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ التمني هو ارتياح النفس ورغبتها القوية في الشيء. بحيث توده وتحب المصير إليه، وهو يستعمل في المعنى القائم بالقلب كما بينا، ويستعمل في اللفظ الدال على هذا المعنى، كأن يقول الإنسان بلسانه، ليتني أحصل على كذا.
والاستعمال الثاني هو المراد بقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أى اذكروا بألسنتكم لفظا يدل على أنكم تحبون الموت وترغبون فيه. وإنما قلنا إن ذلك هو المراد من الآية لأن المعنى الكائن بالقلب لا يعرفه أحد سوى الله- تعالى- والتحدي لا يقع بتحصيل المعاني القائمة بالضمائر والقلوب.
ومعنى الآية الكريمة. قل يا محمد لليهود: إن كانت الجنة خاصة بكم، ولا منازع لكم فيها ولا مزاحم كما تزعمون، فتمنوا الموت بألسنتكم لكي تظفروا بنعيمها الدائم، إن كنتم صادقين في دعواكم أنها خالصة لكم، وإلا فإنكم لا تكونون صادقين في دعواكم، إذ لا يعقل أن يرغب الإنسان عن السعادة المحضة الدائمة المضمونة له في الآخرة، إلى سعادة ممزوجة بالشقاء في الدنيا.
قال الإمام الرازي: (وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة. ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد صلّى الله عليه وسلّم ومنازعته معهم، بالجدال والقتال، ومن كان في النعم القليلة المنغصة. ثم تيقن أنه بعد الموت لا بد أن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لا بد أن يكون راغبا في الموت، لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا بالموت وحيث كان الموت يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون هذا الإنسان راضيا بالموت متمنيا له، فثبت أن الدار الآخرة لو كانت خالصة لهم، لوجب أن يتمنوا الموت. ثم إن الله- تعالى- أخبر أنهم ما تمنوا الموت، بل لن يتمنوه أبدا، وحينئذ يلزم قطعا بطلان ادعائها في قولهم: «إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس» .
وتحديهم بتمني الموت يكون بأن يقولوا بألسنتهم ليتنا نموت، أو يقولوا ما في معنى هذه الكلمة كما أشرنا إلى ذلك سابقا، وهذا رأى جمهور المفسرين.
وروى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن ذلك يكون عن طريق المباهلة، بأن يحضروا مع المؤمنين في صعيد واحد، ثم يدعو الفريقان بالموت على الكاذب منهما.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ الذي نطقت به الآية وأقرب أيضا إلى معناها. إذ ليس في الآية إشارة ما إلى طلب المباهلة، والقرآن حينما دعا إليها نصارى نجران، جاء اللفظ بها صريحا في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) أي : ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب . فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
قال أبو جعفر: وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره, وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف. كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. (1) وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت, فإن ذلك غير ضاركم، إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنـزلة &; 2-362 &; من الله. بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جنانه, إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى ، إذْ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة.
فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا ".
1566 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن عبد الكريم, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
&; 2-363 &;
1567 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي, عن الأعمش, عن ابن عباس في قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه. (3)
1568 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عبد الكريم الجزري, عن عكرمة في قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا. (4)
1569 - حدثني موسى قال، أخبرنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن ابن عباس مثله.
1570 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - قال أبو جعفر: فيما أروي: أنبأنا - عن سعيد، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: لو تمنوه يوم قال ذلك لهم, ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات. (5)
قال أبو جعفر: فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم, ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل.
&; 2-364 &;
وإنما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: (تمنوا الموت إن كنتم صادقين)، لأنهم -فيما ذكر لنا- قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18]، وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111]. فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون، فتمنوا الموت. فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك, وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت, وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه. فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.
* ذكر من قال ذلك:
1571 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. (6)
* * *
وقال آخرون بما:-
1572 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس)، وذلك أنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111]، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] فقيل لهم: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين).
1573 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن &; 2-365 &; الربيع, عن أبي العالية قال: قالت اليهود: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فقال الله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، فلم يفعلوا.
1574 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة) الآية, وذلك بأنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ . (7)
* * *
وأما تأويل قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة)، فإنه يقول: قل يا محمد: إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر " الدار "، من ذكر نعيمها، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها. وقد بينا معنى " الدار الآخرة ". فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (8)
* * *
وأما تأويل قوله: (خالصة)، فإنه يعني به: صافية. كما يقال: " خلص لي فلان " بمعنى صار لي وحدي وصفا لي. يقال منه: " خلص لي هذا الشيء فهو يخلص خلوصا وخالصة, و " الخالصة " مصدر مثل " العافية ". ويقال للرجل: " هذا خُلْصاني", يعني خالصتي من دون أصحابي.
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: (خالصة): خاصة. وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك.
1575 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك، عن ابن عباس: (قل إن كانت لكم &; 2-366 &; الدار الآخرة)، قال: " قل " يا محمد لهم - يعني اليهود -: إن كانت لكم الدار الآخرة " - يعني: الجنة (9) -(عند الله خالصة)، يقول: خاصة لكم.
* * *
وأما قوله: (من دون الناس)، فإن الذي يدل عليه ظاهر التنـزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك:
1576 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: (من دون الناس)، يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم, وزعمتم أن الحق في أيديكم, وأن الدار الآخرة لكم دونهم.
* * *
وأما قوله: (فتمنوا الموت) فإن تأويله: تشهوه وأريدوه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: فسلوا الموت. ولا يعرف " التمني" بمعنى " المسألة " في كلام العرب. ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى " الأمنية " - إذ كانت محبة النفس وشهوتها - إلى معنى الرغبة والمسألة, إذْ كانت المسألة، هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله.
1577 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس: (فتمنوا الموت)، فسلوا الموت، (إن كنتم صادقين).
-------------------
الهوامش :
(1) وذلك ما جاء في سورة آل عمران : 61 ، وانظر خبره في التفسير والسير .
(2) الحديث : 1566 - إسناده صحيح . أبو كريب : هو محمد بن العلاء . زكريا بن عدي ابن زريق التيمي الكوفي : ثقة جليل ورع قال ابن سعد : " كان رجلا صالحا صدوقا" . وهو مترجم في التهذيب ، وفي الكبير للبخاري 2 /1 / 387 - 388 ، والصغير : 232 ، وابن سعد 6 : 284 ، وابن أبي حاتم 1/2/600 ، ووقع هنا في المطبوعة"أبو زكريا" وزيادة"أبو" خطأ من ناسخ أو طابع ، عبيد الله بن عمرو : هو أبو وهب الجزري الرقي ، ثقة معروف أخرج له أصحاب الكتب الستة ، وترجمته في التهذيب ، وابن سعد 7 /2 /182 ، والصغير للبخاري : 203 ، وابن أبي حاتم 2 /2 / 328 - 329 . عبد الكريم : هو ابن مالك الجزري الحراني ، وهو ثقة ثبت صاحب سنة ، من شيوخ ابن جريج ومالك والثوري وأضرابهم . ترجمته في التهذيب ، والصغير للبخاري : 148 ، وابن أبي حاتم 3 / 1 /58 - 59 .
والحديث رواه أحمد في المسند : 2226 ، عن أحمد بن عبد الملك الحراني ، عن عبيد الله ، وهو ابن عمرو ، بهذا الإسناد ، ولكن لم يذكر لفظه ، أحاله على الرواية قبله : 2225 ، من طريق فرات بن سلمان الحضرمي ، عن عبد الكريم ، به ، بزيادة في أوله . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 228 ، عن الرواية المطولة ، وقال : "في الصحيح طرف من أوله" ، ثم قال : "رواه أحمد ، أبو يعلى ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح" . أقول : ورجال أحمد في الإسناد : 2226 - رجال الصحيح أيضًا . وذكر السيوطي 1 : 89 بعضه ، ونسبه أيضًا إلى الشيخين ، والترمذي ، والنسائي ، وابن مردويه ، وأبي نعيم .
(3) الخبر : 1567 - هو موقوف على ابن عباس ، في معنى الحديث قبله . ولكن إسناده هذا منقطع . الأعمش : لم يدرك ابن عباس .
(4) الخبر : 1568- هو بعض الحديث السابق : 1566 ، وإسناده صحيح . وظاهره هنا أنه موقوف على ابن عباس ، ولكنه مرفوع بالروايات الأخر .
(5) الأثر : 1570 - في ابن هشام 2 : 191 .
(6) الأثر : 1571 - في سيرة ابن هشام 2 : 191 ، وفيها : "أكذب عند الله" ، وانظر رقم : 1578 .
(7) الأثر : 1574 - في المطبوعة" . . حدثنا إسحاق قال حدثني أبو جعفر عن الربيع" وهذا إسناد فاسد ، وهو كثير الدوران في التفسير ، وأقرب ذلك رقم : 1563
(8) انظر ما سلف 1 : 245 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 94 | ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّـهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ |
---|
الجمعة: 6 | ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّـهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
فتمنوا الموت:
قرئ:
1- بضم الواو، وهى اللغة المشهورة، وهى قراءة الجمهور.
2- بكسرها، وهى قراءة ابن أبى إسحاق.
3- بفتحها، طلبا للتخفيف، وهى قراءة أبى عمرو.
4- باختلاس ضمة الواو، وحكيت عن أبى عمرو أيضا.
التفسير :
{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي, لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة، فالموت أكره شيء إليهم, وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب. ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا فقال:{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهذا أبلغ ما يكون من الحرص, تمنوا حالة هي من المحالات، والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور, لم يغن عنهم شيئا ولا دفع عنهم من العذاب شيئا.{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.
ثم أخبر- سبحانه- بأن هؤلاء اليهود لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ما فعلوا من شرور فقال تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
أى: لا يتمنى اليهود الموت أبدا بسبب ما قدمت أيديهم من آثام، والله- عز وجل- لا تخفى عليه خافية من سيئاتهم واعتداءاتهم بل هو سيسجلها عليهم، ويجازيهم عليها الجزاء الذي يستحقونه، والآية الكريمة خبر من الله- تعالى- عن اليهود بأنهم يكرهون الموت، ويمتنعون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمنيه، لعلمهم بأنهم إن فعلوا فالموت نازل بهم، وذلك لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا من أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب.
وقد صح من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال: «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه» .
وقال ابن جرير في تفسيره: «وبلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» قال حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا زكريا بن عدى، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
وقال الإمام ابن كثير: ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقى حدثنا فرات عن عبد الكريم به».
وقال صاحب الكشاف: قوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به، كقوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا الموت: قلت لو تمنوا لنقل ذلك عنهم كما نقلت سائر الحوادث، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل عنه ذلك».
ويكفى في تحقيق هذه المعجزة، ألا يصدر تمنى الموت عن اليهود الذين تحداهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وهم الذين كانوا يضعون العراقيل في طريق دعوته، ويصرون على جحود نبوته فلا يقدح في هذه المعجزة أن ينطق يهودي بعد العهد النبوي بتمني الموت وهو حريص على الحياة، لأن المعنيين بالتحدي هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وارد مورد التهديد والوعيد لهم وكان اليهود ظالمين بسبب ما قدمت أيديهم وبسبب كونهم قد كذبوا على الله في دعواهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان منهم.
( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ) أي : بعلمهم بما عندهم من العلم بك ، والكفر بذلك ، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : ( فتمنوا الموت ) فسلوا الموت .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) قال : قال ابن عباس : لو تمنى اليهود الموت لماتوا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا عثام ، سمعت الأعمش قال : لا أظنه إلا عن المنهال ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه .
وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس .
وقال ابن جرير في تفسيره : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا . ولرأوا مقاعدهم من النار . ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " . حدثنا بذلك أبو كريب ، حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي [ أبي يزيد ] حدثنا فرات ، عن عبد الكريم ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أحمد [ قال ] : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار ، حدثنا سرور بن المغيرة ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، قال : قول الله ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم . قلت : أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم : تمنوا ، أتراهم كانوا ميتين ؟ قال : لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت ، وما كانوا ليتمنوه ، وقد قال الله ما سمعت : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين )
وهذا غريب عن الحسن . ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين ، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ، ونقله ابن جرير عن قتادة ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، رحمهم الله .
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة : ( قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) [ الجمعة : 68 ] فهم عليهم لعائن الله لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم ، أو من المسلمين . فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون ; لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك ، فلما تأخروا علم كذبهم . وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة ، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة ، فقال تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) [ آل عمران : 61 ] فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض : والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف . فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فضربها عليهم . وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ، رضي الله عنه ، أمينا . ومثل هذا المعنى أو قريب منه قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) [ مريم : 75 ] ، أي : من كان في الضلالة منا أو منكم ، فزاده الله مما هو فيه ومد له ، واستدرجه ، كما سيأتي تقريره في موضعه ، إن شاء الله .
فأما من فسر الآية على معنى : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) أي : إن كنتم صادقين في دعواكم ، فتمنوا الآن الموت . ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول ; فإنه قال : القول في تفسير قوله تعالى : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) وهذه الآية مما احتج الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم ; وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم ، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف ، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وجادلوه فيه ، إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة . فقال لفريق [ من ] اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضار بكم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله ، بل أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم ، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها ، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون : من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا . وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا ، وانكشف أمرنا وأمركم لهم ، فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت ، فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها ، كما امتنع فريق [ من ] النصارى .
فهذا الكلام منه أوله حسن ، وأما آخره فيه نظر ; وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل ، إذ يقال : إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت ، وكم من صالح لا يتمنى الموت ، بل يود أن يعمر ليزداد خيرا وترتفع درجته في الجنة ، كما جاء في الحديث : " خيركم من طال عمره وحسن عمله " . [ وجاء في الصحيح النهي عن تمني الموت ، وفي بعض ألفاظه : " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، إما محسنا فلعله أن يزداد ، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب " ] . ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا : فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة ، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت ; فكيف تلزمونا بما لا نلزمكم ؟
وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى ، فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك ، بل قيل لهم كلام نصف : إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس ، وأنكم أبناء الله وأحباؤه ، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم [ من ] أهل النار ، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم ، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة . فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه . فعلم كل أحد باطلهم ، وخزيهم ، وضلالهم وعنادهم عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .
[ وسميت هذه المباهلة تمنيا ; لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره ، وكانت المباهلة بالموت ; لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ] .
ولهذا قال تعالى : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين)
القول في تأويل قوله تعالى وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت, لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل، والموت بهم حال؛ ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون, وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب, كالذي:-
1578 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ الآية, أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم)، أي: لعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك. (10)
1579 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولن يتمنوه أبدا)، يقول: يا محمد، ولن يتمنوه أبدا، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي, فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم.
1580 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت, ولم يكونوا ليتمنوه أبدا.
* * *
وأما قوله: (بما قدمت أيديهم)، فإنه يعني به: بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها. فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها: " نالك هذا بما جنت يداك, وبما كسبت يداك, وبما قدمت يداك "، فتضيف ذلك إلى " اليد ". ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد.
قال أبو جعفر: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى " اليد "، لأن عُظْمَ جنايات الناس بأيديهم, فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى " أيديهم "، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده.
فلذلك قاله جل ثناؤه للعرب: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم)، يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله, وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة, ويعلمون أنه نبي مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم، وأضمرته أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه وسلم, والبغي عليه, وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم, وأنه مما قدمته أيديهم, لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها. إذ كان جل ثناؤه إنما أنـزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
1581 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: (بما قدمت أيديهم)، يقول: بما أسلفت أيديهم.
1582 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: (بما قدمت أيديهم)، قال: إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه.
* * *
وأما قوله: (والله عليم بالظالمين)، فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون.
وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه, وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم.
وقد دللنا على معنى " الظلم " فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (11)
-------------------
الهوامش :
(9) في المطبوعة : "يعني الخير" ، وهو تصحيف وتحريف ، صوابه ما أثبت .
(10) الأثر : 1578 - مضى في رقم : 1571 ، وهنا تمامه . وفي سيرة ابن هشام 1 : 191"أكذب عند الله" . وفي المطبوعة : "وقالوا ذلك على رسول الله . . " وهو خطأ ، صوابه ما في سيرة ابن هشام . وفي المطبوعة : "أي لعلمهم بما عندهم . . " والذي أثبته هو نص ابن هشام .
(11) انظر ما سلف 1 : 523 - 524 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 95 | ﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ |
---|
الجمعة: 7 | ﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب. ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا فقال:{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهذا أبلغ ما يكون من الحرص, تمنوا حالة هي من المحالات، والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور, لم يغن عنهم شيئا ولا دفع عنهم من العذاب شيئا.{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بأن هؤلاء اليهود الذين يزعمون أن الجنة خالصة لهم في غاية الحرص على الحياة فقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
ومعنى الآية الكريمة: ولتجدن- يا محمد- أولئك اليهود- الذين يزعمون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس- لتجدنهم أحب الناس للحياة، وأحرصهم عليها، وأشدهم كراهية للموت «وليس ذلك عند ما يكونون متمتعين بالطمأنينة والعافية فقط بل هم كذلك حتى ولو زالت عنها كل معاني الراحة والطمأنينة، فهم أحرص عليها حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، والذين يعتبرون نعيمهم الأكبر هو ما يتمتعون به من اللذائذ في هذه الدنيا، وهم في حرصهم على الحياة يتمنون أن تطول أعمارهم دهورا طويلة، لا يصل إليها خيال أحد ممن يحرصون عليها كما قال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وبذلك تكون الآية الكريمة قد كذبتهم في دعواهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس لأن الأمر لو كان كما يزعمون لرحبوا بالانتقال إليها، ولكنهم لا يحبون الموت ولا يكاد يخطر ببالهم، ويحرصون كل الحرص على اللقاء حتى مع سوء الحالة ورذالة العيش، كما يشعر بذلك التنكير في قوله تعالى عَلى حَياةٍ.
والمراد بالناس جميعهم، وأفعل التفضيل في «أحرص» على بابه، لأن الحرص على الحياة غريزة في البشر إلا أنهم متفاوتون فيه قوة وكيفية وأسبابا، كما قال الشاعر:
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
فالناس جميعا وإن كانوا يشتركون مع اليهود في الحرص على الحياة، إلا أن اليهود يزيدون على سائر الناس أنهم أحرصهم، وأنهم من أجل حرصهم عليها يضحون بدينهم وبكرامتهم وبكل شيء.
ونكر- سبحانه- الحياة التي يحرصون عليها، زيادة في تحقيرهم، فكأنه- سبحانه- يقول: إنهم شديد والحرص على الحياة، ولو كانت حياة بؤس وشقاء، وللإشعار بأن ما يهمهم هو مطلق حياة كيفما كانت، بصرف النظر عن العزة والكرامة، فمن أمثال اليهود المشهورة «الحياة وكفى» .
ولا شك أن شدة التهالك على الحياة، تؤدى إلى الجبن، واحتمال الضيم، وتجعل الأمة التي تنتشر فيها هذه الرذيلة لا تفرق بين الحياة الكريمة والحياة الذليلة.
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عطف على الناس، لأنه لما كان قوله تعالى: أَحْرَصَ النَّاسِ في معنى: أحرص من جميع الناس صح أن يراعى المعنى، فيكون قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا معطوف عليه، فيكون المعنى: أحرص من جميع الناس، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة.
والذين أشركوا، هم الذين جعلوا لله شركاء وإنما أفردوا بالذكر مع أنهم من الناس، مبالغة في توبيخ اليهود وذمهم، لأنهم إذا زاد حرصهم على الحياة- وهم أهل كتاب- على المشركين الذين لا كتاب لهم ولا يدينون ببعث أو نشور كان ذلك دليلا على هوان نفوسهم، وابتذال كرامتهم وعدم اعتدادهم بوصايا كتبهم التي تنهاهم عن الحرص على الحياة الذليلة.
قال صاحب الكشاف: «وفيه توبيخ عظيم، لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليها في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء، كان حقيقا بأعظم التوبيخ، فإن قلت: لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك» .
ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر حرصهم على الحياة فقال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أى يتمنى الواحد منهم أن يعيش دهورا كثيرة، ليس من عادة الناس أن يحبوا بلوغها، لأنها تؤدى بهم إلى أرذل العمر، وعدم طيب العيش.
فالجملة الكريمة مستأنفة لإظهار مغالاتهم في التهالك على الدنيا ولتحقيق عموم النوعية في الحياة المنكرة، ولدفع ما يظنه بعض الناس من أن حرصهم على الحياة مهما اشتد فلن يصل بهم إلى تمنى أن يعيش الواحد منهم ألف عام، أو أكثر، فجيء بهذه الجملة الكريمة. لتحقيق أن تعلقهم بالدنيا يشمل حتى هذه السن المتطاولة، التي لا هناء فيها ولا راحة، والتي استعاذ من بلوغها المؤمنون.
ثم بين- سبحانه- أن تعميرهم الطويل لن ينجيهم من العقوبة، لأن الموت لا يتركهم مهما طال عمرهم، فقال تعالى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ أى: وما أحد منهم بمبعده تعميره عن العذاب المعد له، ولا بمنجيه منه.
والجملة الكريمة فيها بيان مصيرهم المحتوم، وقطع لحبال مطامعهم، لأن الموت سيلحقهم مهما بلغ عمرهم، وسيلقون جزاءهم على سوء صنيعهم.
وفي التعبير بِمُزَحْزِحِهِ إشارة إلى أن طول عمرهم، ليس له أى أثر في تخفيف العذاب عنهم، وقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ تهديد ووعيد لهم لأنه- سبحانه- عليم بأعمالهم، محيط بما يخفون وما يعلنون، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون.
ومن هذا العرض للآيات الكريمة نرى أنها قد ردت على اليهود في دعواهم أن الجنة خالصة لهم، ردا يبطل حجتهم، ويفضح مزاعمهم، ويكبت نفوسهم، ويخرس ألسنتهم، ويعلن أن الجنة إنما هي لمن أسلّم وجهه لله وهو محسن، وهم ليسوا من هذا النوع من الناس ولذا حرصوا على الحياة وفزعوا من الموت، لأنهم يعلمون أن من ورائهم النار وبئس القرار بسبب ما ارتكبوا من سيئات، واقترفوا من أكاذيب.
"ولتجدنهم أحرص الناس على حياة": أي : [ أحرص الخلق على حياة أي ] : على طول عمر ، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة ; لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم . وما يحذرون واقع بهم لا محالة ، حتى وهم أحرص [ الناس ] من المشركين الذين لا كتاب لهم . وهذا من باب عطف الخاص على العام .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ومن الذين أشركوا ) قال : الأعاجم .
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري ، وقال : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه . قال : وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي . وقال الحسن البصري : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) قال : المنافق أحرص الناس على حياة ، وهو أحرص على الحياة من المشرك ( يود أحدهم ) أي : أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق .
وقال أبو العالية : ( يود أحدهم ) يعني : المجوس ، وهو يرجع إلى الأول .
( لو يعمر ألف سنة ) قال الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) قال : هو كقول الفارسي : " زه هزارسال " يقول : عشرة آلاف سنة . وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضا .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت أبي يقول : حدثنا أبو حمزة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) قال : هو الأعاجم : " هزارسال نوروز مهرجان " .
وقال مجاهد : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) قال : حببت إليهم الخطيئة طول العمر .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) أي : ما هو بمنجيه من العذاب . وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع بما عنده من العلم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) قال : هم الذين عادوا جبريل .
وقال أبو العالية وابن عمر فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [ في هذه الآية ] يهود أحرص على [ هذه ] الحياة من هؤلاء ، وقد ود هؤلاء أن يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر ، كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرا .
( والله بصير بما يعملون ) أي : خبير بما يعمل عباده من خير وشر ، وسيجازي كل عامل بعمله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) - اليهود -. يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود كما:-
1583 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)، يعني اليهود.
1584 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, حدثنا الربيع، عن أبي العالية: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)، يعني اليهود. (12)
1585 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله. (13)
1586 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
* * *
وإنما كراهتهم الموت، لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن الذين أشركوا)، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة, كما يقال: " هو أشجع الناس ومن عنترة " بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة. فكذلك قوله: (ومن الذين أشركوا). لأن معنى الكلام: ولتجدن -يا محمد- اليهود من بني إسرائيل، أحرص [من] الناس على حياة ومن الذين أشركوا. (14) فلما أضيف " أحرص " إلى " الناس " وفيه تأويل " من "، أظهرت بعد حرف العطف، ردا - على التأويل الذي ذكرنا.
وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك, (15) فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، لأنهم يؤمنون بالبعث, ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب. والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب, (16) فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت.
* * *
وقيل: إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث .
* ذكر من قال هم المجوس:
1587 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، يعني المجوس.
1588 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: المجوس.
1589 - حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال قال ابن زيد: (ومن الذين أشركوا)، قال: يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة.
* * *
* ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث:
1590 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا)، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم. (17)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ
قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا (18) - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة. يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس، بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته، (19) أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة، حتى جعل بعضهم تحية بعض: " عشرة آلاف عام " حرصا منهم على الحياة، كما:-
1591 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي عليا, أخبرنا أبو حمزة, عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول الأعاجم: " سال زه نوروز مهرجان حر ". (20)
1592 - وحدثت عن نعيم النحوي, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس: " زه هزار سال ".
1593 - حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية, عن ابن أبي نجيح، عن قتادة في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: حَبَّبَتْ إليهم الخطيئةُ طولَ العمر.
1594 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثني علي بن معبد, عن ابن علية, عن ابن أبي نجيح في قوله: (يود أحدهم)، فذكر مثله.
1595 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) حتى بلغ: (لو يعمر ألف سنة)، يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة.
1596 - وحدثت عن أبي معاوية, عن الأعمش, عن سعيد, عن ابن عباس في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول أحدهم إذا عطس: " زه هزار سال ", يقول: عشرة آلاف سنة. (21)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه من عذاب الله.
* * *
وقوله: ( هو) عماد لطلب " ما " الاسم أكثر من طلبها الفعل, (22) كما قال الشاعر:
فهل هو مرفوع بما ههنا رأس * (23)
و " أن " التي في: (أن يعمر)، رفع، بـ " مزحزحه ", و " هو " الذي مع " ما " تكرير، عماد للفعل، لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة.
* * *
وقد قال بعضهم: إن " هو " الذي مع " ما " كناية ذكر العمر. كأنه قال: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة, وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب. وجعل " أن يعمر " مترجما عن " هو ", يريد ما هو بمزحزحه التعمير. (24)
* * *
وقال بعضهم: قوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، نظير قولك: ما زيد بمزحزحه أن يعمر.
* * *
قال أبو جعفر: وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا, وهو أن يكون " هو " عمادا، نظير قولك: " ما هو قائم عمرو ".
* * *
وقد قال قوم من أهل التأويل: إن " أن " التي في قوله: " أن يعمر " بمعنى: وإن عمر, وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف.
* ذكر من قال ذلك:
1597 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، يقول: وإن عمر.
1598 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
1599 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " أن يعمر "- ولو عمر.
* * *
وأما تأويل قوله: (بمزحزحه)، فإنه بمبعده ومُنَحِّيه, كما قال الحطيئة:
وقـالوا: تزحـزح ما بنا فضل حاجة
إليـك, ومـا منــا لـوَهْيِك راقــع (25)
يعني بقوله: : " تزحزح "، تباعد, يقال منه: " زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا," وهو عنك متزحزح "، أي متباعد.
* * *
فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا مُنَحِّيه منه، لأنه لا بد للعمر من الفناء، ومصيره إلى الله، كما:-
1600 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما أروي- (26) عن سعيد بن جبير, أو عن عكرمة, عن ابن عباس: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، أي: ما هو بمنحيه من العذاب.
1601 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، يقول: وإن عُمِّر, فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منحيه.
1602 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
1603 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب)، فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام.
1604 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة, وليس ذلك بمزحزحه من العذاب، لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك, إذ كان كافرا، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله بصير بما يعملون)، والله ذو إبصار بما يعملون, لا يخفي عليه شيء من أعمالهم, بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها.
* * *
وأصل " بصير "" مبصر " - من قول القائل: " أبصرت فأنا مبصر "، ولكن صرف إلى " فعيل ", كما صرف " مسمع " إلى " سميع ", و " عذاب مؤلم " إلى " أليم "," ومبدع السموات " إلى بديع, وما أشبه ذلك. (27)
------------------
الهوامش :
(12) الأثر : 1584 - في المطبوعة : "حدثنا أبو جعفر عن أبي العالية" ، سقط منه"حدثنا الربيع"؛ وهو إسناد دائر ، وأقربه في رقم : 1573 .
(13) الأثر : 1585 - في المطبوعة : "حدثني المثنى قال حدثنا ابن أبي جعفر" سقط منه"حدثنا إسحاق" ، وهو إسناد دائر ، وأقربه رقم : 1574 .
(14) الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، يدل عليها سياقه .
(15) في المطبوعة : "مما لا يقر به" ، والصواب ما أثبته .
(16) في المطبوعة : "وإن المشركين لا يصدقون . . " ، و"إن" لا مكان لها هنا .
(17) الأثر : 1590 - سيرة ابن هشام 2 : 191 .
(18) في المطبوعة : "هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا" والصواب حذف"بقوله" ، والنسخة المطبوعة ومخطوطاتها مضطربة في هذا الموضع من الكتاب اضطرابا شديدا .
(19) في المطبوعة : "يود أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا ما . . بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته" ، بياض فيها وفي الأصل . واستظهرت قراءتها كما أثبت ، فإنه هو المعنى الذي يدور عليه تفسير أبي جعفر : أن هذا المشرك قد يئس أن يكون له بعد فناء الدنيا وانقضاء الحياة نشور أو محيا أو فرح أو سرور ، فهو يود لو يعمر ألف سنة .
(20) الأثر: 1591 - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، وأبوه: ثقتان، ترجمنا لهما في شرح المسند: 7437. أبو حمزة: هو السكري، محمد بن ميمون، ثقة إمام. وهذا الإسناد صحيح متصل. وانظر الإسناد الآتي. في تفسير ابن كثير 1: 238، ونص الكلام الفارسي فيه:"هزار سال نوروز مهرجان". وقد سألت أحد أصحابنا ممن يعرف الفارسية فقال: إن هذا النص لا ينطبق على قواعد الفارسية، وأنه يظن أن صوابها:"زه در مهرجان نو وروز هزار سال" ومعنى"زه": عش، و"در" ظرف بمعنى"في"، ومهرجان هو عيد لهم. ونيروز: عيد آخر في أول السنة. و"هزار" ألف، و"سال": سنة. فكأن"حر" التي في آخر الكلام في نص الطبري هي:"در" مصحفة. وباقي النصوص الفارسية صحيح، ومعناه: عش ألف سنة.
وفي المستدرك للحاكم 2: 264"هزار سال سرور مهرجان بخور"، وقال مصححه: يعني"تمتع ألف سنة كمثل عيد مهرجان. وهو عيد لهم"، وكأن هذا هو الصواب.
(21) الخبر : 1596 - ذكره الطبري هكذا مجهول الإسناد ، بقوله : "حدثت عن أبي معاوية" ، إلخ . والعلة في ذلك - فيما أرى - أن الأعمش لم يسمعه من سعيد بن جبير ، وإن كان أدركه وروى عنه .
فقد روى الحاكم هذا الخبر ، في المستدرك 2 : 263 - 264 ، من طريق إسحاق بن إبراهيم"حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس" - بنحوه . ثم قال الحاكم : "رواه قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس" . ثم رواه بإسناده إلى محمد بن يوسف ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . . " وهذا إسناد صحيح متصل ، دل على انقطاع الإسناد : "الأعمش عن سعيد بن جبير" .
(22) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 312 في معنى"الاسم" و"الفعل" ، و"العماد" ، تعليق رقم : 2 ، وانظر معاني الفراء 1 : 50 - 52 .
(23) هذا شطر بيت مضى من أبيات ثلاثة ، في هذا الجزء 2 : 313 .
(24) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 340 معنى"الترجمة" .
(25) البيت ليس للحطيئة ، وإنما هو لقيس بن الحدادية ، من قصيدة له نفيسة طويلة رواها أبو الفرج في أغانيه 13 : 6 . يقول قبل البيت ، يذكر مجيئه إلى صاحبته أم مالك .
ومـا راعنـى إلا المنادى : ألا اظعنوا
وإلا الــرواغى غــدوة والقعـاقع
فجــئت كـأني مسـتضيف وسـائل
لأخبرهــا كـل الـذي أنـا صـانع
فقـالت : تزحـزح! ما بنا كبر حاجة
إليــك, ولا منــا لفقــرك راقـع
فمـا زلت تحـت السـتر حتى كأنني
مـن الحر ذو طمرين في البحر كارع
(26) في المطبوعة : "فيما أرى" ، خطأ ، والصواب ما أثبت . وانظر الإسناد رقم : 1590 .
(27) انظر ما سلف 1 : 283 ، وهذا الجزء 2 : 140 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 96 | ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمۡ أَحۡرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمۡ لَوۡ يُعَمَّرُ أَلۡفَ سَنَةٖ وَمَا هُوَ بِمُزَحۡزِحِهِۦ مِنَ ٱلۡعَذَابِ أَن يُعَمَّرَۗ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
آل عمران: 163 | ﴿هُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
المائدة: 71 | ﴿وَحَسِبُوٓاْ أَلَّا تَكُونَ فِتۡنَةٞ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٞ مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
الأنفال: 39 | ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
يعملون:
قرئ:
1- بالياء، على نسق ما سبق، وهى قراءة الجمهور.
2- بالتاء، على سبيل الالتفات والخروج من الغيبة إلى الخطاب، وهى قراءة الحسن، وقتادة، والأعرج، ويعقوب.
التفسير :
تفسير الآيتين 97 و98:ـ أي:قل لهؤلاء اليهود, الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك, أن وليك جبريل عليه السلام, ولو كان غيره من ملائكة الله, لآمنوا بك وصدقوا، إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت, وتكبر على الله، فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك, وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك, والله هو الذي أمره, وأرسله بذلك, فهو رسول محض. مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ولا مناقض, وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات, والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي, لمن آمن به، فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك, كفر بالله وآياته, وعداوة لله ولرسله وملائكته، فإن عداوتهم لجبريل, لا لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله. فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله, والذي أرسل به, والذي أرسل إليه, فهذا وجه ذلك.
ثم ساق القرآن بعد ذلك لوناً عجيباً من ألوان اليهود وهو مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - فقال - تعالى - :
( قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ . . . )
فهاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقا من رذائل اليهود وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله، لا يأكل مما يأكلون، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته؟
لقد سمعوا أن جبريل- عليه السلام- ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم يحسدونه على النبوة، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل- أيضا- وهذه حماقة وجهالة منهم، لأن جبريل- عليه السلام- نزل بالخير لهم في دينهم وفي دنياهم. ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلاها لا تفرق بين الخير والشر.
ومعنى الآيتين الكريمتين، قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيدا لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة، وقل لهم كذلك من كان معاديا لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله، فقد كفر وباء بغضب من الله، ومن غضب الله عليه، فجزاؤه الخزي وسوء المصير.
قال الإمام ابن جرير: (أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا، على أن هذه نزلت جوابا ليهود من بنى إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائيل ولى لهم) .
وروى البخاري في صحيحه- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في أرض يخترف- أى يجنى ثمارها- فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له:
إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرنى بهن جبريل آنفا قال: جبريل؟ قال: نعم قال ذلك عدو اليهود من الملائكة- فقرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ... الآية ثم قال: أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب! وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامى قبل أن تسألهم يبهتونى، فجاءت اليهود فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أى رجل فيكم عبد الله؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وسيدنا وابن سيدنا: قال «أرأيتم إن أسلّم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك؟ فخرج عبد الله فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله «2» .
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس: «أن اليهود بعد أن سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسئلة أجابهم عنها، قالوا صدقت فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: وليي جبريل، لم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من
الملائكة لتابعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله- تعالى- قوله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ... الآيات.
وفي حديث للإمام أحمد والترمذي والنسائي «قال اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن سألوه عن أشياء أجابهم عنها إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال جبريل- عليه السلام- قالوا: جبريل ذلك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله- تعالى-: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية.
فيؤخذ من هذه الأحاديث وما في معناها أن اليهود في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل- عليه السلام- وأن هذه المجاهرة بالعداوة، قد تكررت منهم في مواقف متعددة بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن الذي حملهم على ذلك هو حسدهم له، وغيظهم من جبريل، لأنه ينزل بالوحي عليه.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله، ومع ذلك يبغضونه، وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة، ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام».
وفي أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بلفظ (قل) كي يرد على اليهود، تثبيت له، وتطمين لنفسه وتوبيخ لهم على معاداتهم لأمين الوحى، وهو جبريل- عليه السلام-.
وقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، شرط عام قصد الإتيان به ليعلموا أن الله- تعالى- لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادى جبريل، إن وجد معاد آخر له سواهم.
وقوله تعالى: عَلى قَلْبِكَ زيادة تقرير للتنزيل، ببيان محل الوحى، وإشارة إلى أن السبب في تمكنه صلّى الله عليه وسلّم من تلاوة القرآن الكريم، وإبلاغه للناس، ثباته في قلبه.
وقوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ معناه: فلا موجب لعداوته. لأنه نزل القرآن على قلبك يا محمد بإذن الله وأمره. وإذا فعداوته عداوة لله في الحقيقة والواقع، ومن هنا يتبين أن هذه الجملة تعليل لجواب الشرط وقائمة مقامه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف استقام قوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ جزاء للشرط؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته، حيث نزل كتابا مصدقا للكتب التي بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.
والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم، وموافقا له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك يحرفونه ويجحدون موافقته له. كقولك:
«إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه» .
وقوله- تعالى-: بِإِذْنِ اللَّهِ أى بأمره، وهو توبيخ لهم على عداوتهم لجبريل، الذي أنزل بالقرآن بإذن الله، لا من تلقاء نفسه، وهذه حجة أولى عليهم.
وقوله تعالى: مُصَدِّقاً حال من الضمير العائد على القرآن الكريم، في قوله نَزَّلَهُ أى أنزله حالة كونه مؤيدا للكتب السماوية التي قبله ومن بينها التوراة، وهذه حجة ثانية عليهم.
ثم عززهما بثالثة ورابعة- فقال تعالى: وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أى هذا القرآن الذي نزل مصدقا لكتبكم، هو هاد إلى طريق الفلاح والنجاح، والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه مما هو فيه من ضلالات ولو كان الواسطة في مجيئها عدوا له، وهو- أيضا- مبشر للمؤمنين برضا الله تعالى- عنهم في الدنيا والآخرة، أما الضالون فقد أنذرهم بسوء العقبى فعليكم أن تتبعوا طريق الإيمان لتكونوا من المفلحين وبذلك يكون القرآن قد أقام حججا متعددة على حماقتهم وعنادهم وجحودهم للحق بعد ما تبين. وتكون الآية الكريمة قد مدحت القرآن بخمس صفات.
أولها: أنه منزل من عند الله وبإذنه.
وثانيها: أنه منزل على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وثالثها: أنه مصدق لما نزل قبله من الكتب السماوية.
ورابعها: أنه هاد إلى الخير أبلغ هدى وأقواه.
وخامسها: أنه بشارة سارة للمؤمنين.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا [ على ] أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وأن ميكائيل ولي لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك . فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته . ذكر من قال ذلك
حدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام " . فقالوا : ذلك لك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوني عما شئتم " . فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ووليه من الملائكة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني ؟ " فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق . فقال : " نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه ، فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها ؟ " . فقالوا : اللهم نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشهد عليهم . وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله ؟ " . قالوا : اللهم نعم . قال : " اللهم اشهد " . قال : " وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه ؟ " . قالوا : اللهم نعم . قال : " اللهم اشهد " . قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك . قال : " فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه " . قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : " فما منعكم أن تصدقوه ؟ " قالوا : إنه عدونا . فأنزل الله عز وجل : ( قل من كان عدوا لجبريل ) إلى قوله : ( لو كانوا يعلمون ) [ البقرة : 103 ] فعندها باؤوا بغضب على غضب .
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد بن حميد في تفسيره ، عن أحمد بن يونس ، كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام ، به .
ورواه الإمام أحمد أيضا عن الحسين بن محمد المروزي ، عن عبد الحميد ، بنحوه [ به ] .
وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن شهر بن حوشب ، فذكره مرسلا وزاد فيه : قالوا : فأخبرنا عن الروح قال : " أنشدكم بالله وبآياته عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ، وهو الذي يأتيني ؟ " قالوا : نعم ، ولكنه لنا عدو ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك . فأنزل الله فيهم : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله : ( كأنهم لا يعلمون ) [ البقرة : 101 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي ، عن بكير بن شهاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، إنا نسألك عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك . فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال : ( الله على ما نقول وكيل ) [ يوسف : 66 ] قال : " هاتوا " . قالوا : أخبرنا عن علامة النبي . قال : " تنام عيناه ولا ينام قلبه " . قالوا : أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف يذكر الرجل ؟ قال : " يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت " ، قالوا : أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه . قال : " كان يشتكي عرق النساء ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا " قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل " فحرم لحومها " قالوا : صدقت . قالوا : أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال " ملك من ملائكة الله ، عز وجل ، موكل بالسحاب بيديه أو في يده مخراق من نار يزجر به السحاب ، يسوقه حيث أمره الله عز وجل " . قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمعه ؟ قال : " صوته " . قالوا : صدقت . إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا ، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : " جبريل عليه السلام " ، قالوا : جبريل ، ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا ، لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان . فأنزل الله عز وجل : ( قل من كان عدوا لجبريل ) إلى آخر الآية .
ورواه الترمذي ، والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد ، به . وقال الترمذي : حسن غريب .
وقال سنيد في تفسيره ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج : أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي . قال : " جبريل " . قالوا : فإنه لنا عدو ، ولا يأتي إلا بالشدة والحرب والقتال . فنزل : ( قل من كان عدوا لجبريل ) الآية . قال ابن جريج : وقال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ، ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال ، وإنه لنا عدو . فنزل : ( قل من كان عدوا لجبريل ) الآية .
وقال البخاري : قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) قال عكرمة : جبر ، وميك ، وإسراف : عبد . وإيل : الله . حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكر حدثنا حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : " أخبرني بهن جبريل آنفا " . قال : جبريل ؟ قال : " نعم " . قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) " أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة [ ماء الرجل ] نزعت " . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني . فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ " قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا . قال : " أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام " . فقالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا . فانتقصوه .
قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
انفرد به البخاري من هذا الوجه وقد أخرجه من وجه آخر ، عن أنس بنحوه . وفي صحيح مسلم ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق كما سيأتي في موضعه .
وحكاية البخاري عن عكرمة هو المشهور أن " إيل " هو الله . وقد رواه سفيان الثوري ، عن خصيف ، عن عكرمة .
ورواه عبد بن حميد ، عن إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن عكرمة ، ورواه ابن جرير ، عن الحسين بن يزيد الطحان ، عن إسحاق بن منصور ، عن قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة ، أنه قال : إن جبريل اسمه عبد الله وميكائيل : عبيد الله . إيل : الله .
ورواه يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله سواء . وكذا قال غير واحد من السلف ، كما سيأتي قريبا .
[ وقال الإمام أحمد في أثناء حديث سمرة بن جندب : حدثنا محمد بن سلمة ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال : قال لي علي بن الحسين : اسم جبريل عبد الله ، واسم ميكائيل : عبيد الله ] .
ومن الناس من يقول : " إيل " عبارة عن عبد ، والكلمة الأخرى هي اسم الله ; لأن كلمة " إيل " لا تتغير في الجميع ، فوزانه : عبد الله ، عبد الرحمن ، عبد الملك ، عبد القدوس ، عبد السلام ، عبد الكافي ، عبد الجليل . فعبد موجودة في هذا كله ، واختلفت الأسماء المضاف إليها ، وكذلك جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ونحو ذلك ، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف ، والله أعلم .
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب وبينهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، حدثني ربعي بن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها ، فقال : ما بال هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى هاهنا . قال : فكفر ذلك . وقال : إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل ، فتركه . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق التوراة ؟ فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . فقلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان . قال : ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ، ذاك صاحبكم فالحق به ، قال : فقلت لهم عند ذلك : نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه : أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه . فقالوا : فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا بما نشدتنا به فإنا نعلم أنه رسول الله ، قال : قلت : ويحكم فأنى هلكتم ؟ ! قالوا : إنا لم نهلك [ قال ] : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله [ ثم ] ولا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة ، وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ومن سلمكم ؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ، وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا .
قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما عز وجل ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره . قال : قلت : فو [ الله ] الذي لا إله إلا هو ، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل . ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان ، فقال : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن قبل ؟ " فقرأ علي : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) حتى قرأ هذه الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجالد ، أنبأنا عامر ، قال : انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود ، فقال : أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى : هل تجدون محمدا في كتبكم ؟ قالوا : نعم . قال : فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قالوا : إن الله لم يبعث رسولا إلا جعل له من الملائكة كفلا ، وإن جبريل كفل محمدا ، وهو الذي يأتيه ، وهو عدونا من الملائكة ، وميكائيل سلمنا ; لو كان ميكائيل هو الذي يأتيه أسلمنا . قال : فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى : ما منزلتهما من رب العالمين ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله . قال عمر . وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله ، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبريل ، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل . فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب : فقام إليه عمر ، فأتاه ، وقد أنزل الله ، عز وجل ، عليه : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) .
وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ، ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر ، فإنه لم يدرك وفاته ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود . فلما أبصروه رحبوا به ، فقال لهم عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم . فسألهم وسألوه . فقالوا : من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم : جبريل . فقالوا : ذاك عدونا من أهل السماء ، يطلع محمدا على سرنا ، وإذا جاء جاء الحرب والسنة ، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء الخصب والسلم . فقال لهم عمر : هل تعرفون جبريل وتنكرون محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، ليحدثه حديثهم ، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) .
ثم قال : حدثني المثنى ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر عن قتادة ، قال : بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوما ، فذكر نحوه . وهذا أيضا منقطع ، وكذلك رواه أسباط ، عن السدي ، عن عمر مثل هذا أو نحوه ، وهو منقطع أيضا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي حدثنا أبو جعفر ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا أتى عمر بن الخطاب ، فقال : إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا . فقال عمر : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) قال : فنزلت على لسان عمر ، رضي الله عنه .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى في قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم اتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة ، فإنه لنا عدو . قال : فنزلت هذه الآية .
حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، بنحوه . وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل ) قال : قالت اليهود : إن جبريل عدونا ، لأنه ينزل بالشدة والسنة ، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدونا . فقال الله تعالى : ( من كان عدوا لجبريل ) [ الآية ] .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ
قال أبو جعفر: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نـزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل, إذ زعموا أن جبريل عدو لهم, وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته.
* ذكر من قال ذلك:
1605 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير, (28) عن عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم, ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه، لتتابعُني على الإسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني عما شئتم. فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. فقال: " نشدتكم بالذي أنـزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه, فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر: فيما أروي: (29) وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنـزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ, وأن ماء المرأة أصفر رقيق, فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله, فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قال: وأنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم! قال: اللهم اشهد! قالوا: أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة، (30) فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: فإن وليي جبريل, ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك, لو كان وليك سواه من الملائكة، تابعناك وصدقناك. قال: " فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا. فأنـزل الله عز وجل: (من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، فعندها باءوا بغضب على غضب. (31)
1606 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين -يعني المكي-, عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا: نعم. قال: فاسألوا عما بدا لكم. فقالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة, ونطفة المرأة صفراء رقيقة, فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ (32) نعم. قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ (33) قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قالوا أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة؟ قال: هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها, وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها, فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل, هل تعلمون أنه جبريل، (34) وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم, ولكنه لنا عدو, وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء, فلولا ذلك اتبعناك. فأنـزل الله فيهم: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك) إلى قوله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ . (35)
1607 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبه الذي ينـزل عليه بالوحي؟ فقال: جبريل. قالوا: فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنـزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. قال ابن جريج: وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينـزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا: إنه لنا عدو! (36) فنـزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. (37)
* * *
وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
1608 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ربعي بن علية, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, قال: نـزل عمر الروحاء, فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها, فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا. فكره ذلك وقال: أيما؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه! (38) ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه, أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه. (39) قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا به, فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم! إذا هلكتم! (40) قالوا إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذاك، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة, وإنه قرن به عدونا من الملائكة. (41) قال: قلت: ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا, وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منـزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره. قال: قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما, ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل, ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل! قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم, فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان، (42) فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نـزلن؟ فقرأ على: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، (43) والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر! (44)
1609 - حدثني يعقوب بن ابرهيم قال، حدثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبي قال، قال عمر: كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم، ثم ذكر نحو حديث ربعي. (45)
1610 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود, فلما أبصروه رحبوا به. فقال لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم, ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه, فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطلع محمدا على سرنا, وإذا جاء جاء بالحرب والسنة (46) ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل, وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم, فقال لهم عمر: أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك، وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم, فوجده قد أنـزل عليه هذه الآية: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله).
1611 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما، فذكر نحوه.
1612 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: (من كان عدوا لجبريل)، قال: قالت اليهود: إن جبريل هو عدونا، لأنه ينـزل بالشدة والحرب والسنة, وإن ميكائيل ينـزل بالرخاء والعافية والخصب, فجبريل عدونا. فقال الله جل ثناؤه: (من كان عدوا لجبريل).
1613 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه)، قال: كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة, فكان يأتيها, وكان ممره على طريق مدراس اليهود, وكان كلما دخل عليهم سمع منهم. وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا, وتمر بنا فلا تؤذينا, وإنا لنطمع فيك. فقال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم؟ فأَسْكتوا. (47) فقال: تكلموا، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني. فنظر بعضهم إلى بعض, فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل، لتخبرنه أو لأخبرنه. قالوا: نعم, إنا نجده مكتوبا عندنا، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل، وجبريل عدونا, وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف, ولو أنه كان وليه ميكائيل، إذًا لآمنا به, فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء, أين مكان جبريل من الله؟ قالوا: جبريل عن يمينه, وميكائيل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه، عدو للذي هو عن يساره؛ والذي هو عدو للذي هو عن يساره؛ عدو للذي هو عن يمينه؛ وأنه من كان عدوهما، فانه عدو لله. ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم, فوجد جبريل قد سبقه بالوحي, فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه, فقال عمر: والذي بعثك بالحق, لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك! (48)
1614 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير, عن مجالد, عن الشعبي قال: انطلق عمر إلى يهود فقال: إني أنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة, وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد, وهو عدونا من الملائكة, وميكائيل سلمنا، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه. قال: فإني أنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى, ما منـزلتهما من رب العالمين؟ قالوا: جبريل عن يمينه, وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال: إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله, (49) وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل, وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. [فبينما هو عندهم]، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم, (50) فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب. فقام إليه، فأتاه وقد أنـزل عليه: (من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ . (51)
1615 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن, عن ابن أبي ليلى في قوله: (من كان عدوا لجبريل). قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينـزل عليكم لتبعناكم, فإنه ينـزل بالرحمة والغيث, وإن جبريل ينـزل بالعذاب والنقمة، وهو لنا عدو. قال: فنـزلت هذه الآية: (من كان عدوا لجبريل).
1616 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء بنحو ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية - أعني قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله) - فهو: أن الله يقول لنبيه: قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات، لا صاحب وحي وتنـزيل ورحمة, فأبوا اتباعك، وجحدوا نبوتك, وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك, وزعموا أنه عدو لهم -: من يكن من الناس لجبريل عدوا، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه، وصاحب رحمته، فإني له ولي وخليل, ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله, وأنه هو الذي ينـزل وحي الله على قلبي من عند ربي، بإذن ربي له بذلك، يربط به على قلبي، ويشد فؤادي، كما:-
1617 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: (قل من كان عدوا لجبريل)، قال: وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة, فأخبرهم بها على ما هي عندهم -" إلا جبريل ", فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة, ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني: تنـزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سألوه عنه: أن جبريل صاحب وحي الله, وصاحب نقمته. وصاحب رحمته، فقالوا: ليس بصاحب وحي ولا رحمة، هو لنا عدو! فأنـزل الله عز وجل إكذابا لهم: (قل) يا محمد: (من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك)، يقول: فإن جبريل نـزله. يقول: نـزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك، ويربط به على قلبك ", يعني: بوحينا الذي نـزل به جبريل عليك من عند الله- وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك.
1618 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله)، يقول: أنـزل الكتاب على قلبك بإذن الله.
1619 - وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: (فإنه نـزله على قلبك)، يقول: نـزل الكتاب على قليك جبريل.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قال جل ثناؤه: (فإنه نـزله على قلبك) - وهو يعني بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم, وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل: فإنه نـزله على قلبي = ولو قيل: " على قلبي" كان صوابا من القول = لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه, إذ كان المخبر عن نفسه؛ ومرة مضافا إلى اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب. فتقول في نظير ذلك: " قل للقوم إن الخير عندي كثير " - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه، لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه-: و " قل للقوم إن الخير عندك كثير " - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له. وكذلك: " لا تقل للقوم إني قائم " و " لا تقل لهم إنك قائم ", و " الياء " من " إني" اسم المأمور بقول ذلك، على ما وصفنا. ومن ذلك قول الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ و (تغلبون) [آل عمران: 12]، بالياء والتاء. (52)
* * *
وأما " جبريل " فإن للعرب فيه لغات. فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون " جبريل، وميكال " بغير همز، بكسر الجيم والراء من " جبريل " وبالتخفيف. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل المدينة والبصرة.
أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون: " جَبرئيل وميكائيل " على مثال " جبرعيل وميكاعيل "، بفتح الجيم والراء، وبهمز، وزيادة ياء بعد الهمزة. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل الكوفة, كما قال جرير بن عطية:
عبــدوا الصليـب وكذبـوا بمحـمد
وبجَــــبرَئيل وكذبــــوا ميكــــالا (53)
وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن: " جبريل " بفتح الجيم. وترك الهمز.
قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزةٍ القراءةُ بها, لأن " فعليل " في كلام العرب غير موجود. (54) وقد اختار ذلك بعضهم, وزعم أنه اسم أعجمي، كما يقال: " سمويل ", وأنشد في ذلك: (55)
بحـيث لـو وزنـت لخـم بأجمعهـا
مـا وازنـت ريشــة مـن ريش سـمويلا (56)
وأما بنو أسد فإنها تقول " جِبرين " بالنون. وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في" جبريل "" ألفا " فتقول: جبراييل وميكاييل.
وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ: " جَبْرَئِلّ" بفتح الجيم، والهمز، وترك المد، وتشديد اللام.
فأما " جبر " و " ميك "، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى: " عبد "، والآخر بمعنى: " عبيد ".
* * *
وأما " إيل " فهو الله تعالى ذكره، كما:-
1620 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح الحماني, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: " جبريل " و " ميكائيل "، كقولك: عبد الله.
1621 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: " جبريل " عبد الله؛ و " ميكائيل "، عبيد الله. وكل اسم " إيل " فهو: الله.
1622 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إسماعيل بن رجاء, عن عمير مولى ابن عباس: أن " إسرائيل، وميكائيل وجبريل، وإسرافيل " كقولك: عبد الله.
1623 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن عبد الله بن الحارث قال: " إيل "، الله، بالعبرانية.
1624 - حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال، حدثنا إسحاق بن منصور قال، حدثنا قيس, عن عاصم, عن عكرمة، قال: " جبريل " اسمه: عبد الله؛ و " ميكائيل " اسمه: عبيد الله." إيل ": الله.
1625 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين قال: اسم " جبريل " عبد الله, واسم " ميكائيل " عبيد الله, واسم " إسرافيل ": عبد الرحمن. وكل معبد،" إيل "، فهو عبد الله. (57)
1626 - حدثنا المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان, عن محمد المدني - قال المثنى: قال قبيصة: أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين, قال: ما تعدون " جبريل " في أسمائكم؟ قال: " جبريل " عبد الله, و " ميكائيل " عبيد الله. وكل اسم فيه " إيل "، فهو مُعَبَّدٌ لله.
1627 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين قال: قال لي: هل تدري ما اسم " جبريل " من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبد الله. قال: فهل تدري ما اسم " ميكائيل " من أسمائكم؟ قلت: لا. (58) قال: عبيد الله. وقد سمى لي" إسرائيل " باسم نحو ذلك فنسيته, إلا أنه قد قال لي: أرأيت، كل اسم يرجع إلى " إيل " فهو معبد له.
1628 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن عكرمة في قوله: (جبريل) قال: " جبر " عبد," إيل " الله, و " ميكا " قال: عبد." إيل ": الله. (59)
* * *
قال أبو جعفر: فهذا تأويل من قرأ " جبرئيل " بالفتح، والهمز، والمد. وهو -إن شاء الله- معنى من قرأ بالكسر، وترك الهمز.
وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز، وترك المد، وتشديد اللام, فإنه قصد بقوله ذلك كذلك، إلى إضافة " جبر " و " ميكا " إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني. وذلك أن " الإلّ" بلسان العرب: الله، كما قال: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً [التوبة: 10]. فقال جماعة من أهل العلم: " الإل " هو الله. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول, فأخبروه - فقال لهم: ويحكم " أين ذهب بكم؟ والله, إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر. يعني" من إل ": من الله وقد:-
1629 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز في قوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً قال: قول " جبريل " و " ميكائيل " و " إسرافيل ".
كأنه يقول: حين يضيف " جبر " و " ميكا " و " إسرا " إلى " إيل " يقول: عبد الله. (60) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا ، كأنه يقول: لا يرقبون الله عز وجل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (مصدقا لما بين يديه)، القرآن. ونصب " مصدقا " على القطع من " الهاء " التي في قوله: نَـزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ . (61)
فمعنى الكلام: فإن جبريل نـزل القرآن على قلبك، يا محمد، مصدقا لما بين يدي القرآن. يعني بذلك: مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه, ونـزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وتصديقه إياها، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله, وهي تصدقه. (62) كما:-
1630 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس.(مصدقا لما بين يديه)، يقول: لما قبله من الكتب التي أنـزلها الله، والآيات، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم.
1631 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (مصدقا لما بين يديه)، من التوراة والإنجيل.
1632 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وهدى) ودليل وبرهان. وإنما سماه الله جل ثناؤه " هدى "، لاهتداء المؤمن به. و " اهتداؤه به " اتخاذه إياه هاديا يتبعه، وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. و " الهادي" من كل شيء: ما تقدم أمامه. ومن ذلك قيل لأوائل الخيل: " هواديها ", وهو ما تقدم أمامها, وكذلك قيل للعنق: " الهادي", لتقدمها أمام سائر الجسد. (63)
* * *
وأما " البشرى " فإنها البشارة. أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه، أن القرآن لهم بشرى منه، لأنه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته, وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه، وذلك هو " البشرى " التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه. لأن البشارة في كلام العرب، هي: إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخبر، قبل أن يسمعه من غيره، أو يعلمه من قبل غيره. (64)
وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه:
1633 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (هدى وبشرى للمؤمنين)، لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه، وانتفع به واطمأن إليه، وصدق بموعود الله الذي وعد فيه, وكان على يقين من ذلك.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 97 | ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّـهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ |
---|
النمل: 2 | ﴿ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ |
---|
يونس: 57 | ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ |
---|
النمل: 77 | ﴿وَإِنَّهُ لَـ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
جبريل:
قرئ:
1- جبريل، كقنديل، وهى لغة أهل الحجاز، وهى قراءة ابن عامر، وأبى عمرو، ونافع، وحفص.
2- جبريل، بفتح الجيم، وهى قراءة الحسن، وابن كثير، وابن محيصن، واستنكرها الفراء.
3- جبرئيل، كعنتريس، وهى لغة تميم وقيس وكثير من أهل نجد، وهى قراءة الأعمش، وحمزة، والكسائي، وحماد بن أبى زياد.
4- جبرئل، بغير ياء بعد الهمزة وتخفيف اللام، وتروى عن عاصم، ويحيى بن يعمر.
5- جبرئل، مثل الذي سبق مع تشديد اللام، وهى قراءة أبان عن عاصم، ويحيى بن يعمر.
6- جبرائيل، وهى قراءة ابن عباس، وعكرمة.
7- جبراييل، وهى قراءة ابن عباس، وعكرمة أيضا.
8- جبرال، وهى قراءة طلحة.
9- جبرايل، بالياء والقصر، وبها قرأ طلحة أيضا.
10- جبراييل، بألف بعد الراء بعدها ياءان أولاهما مكسورة، وهى قراءة الأعمش، وابن يعمر.
11- جبرين، بالفتح، وهى لغة أسد.
12- جبرين، بالكسر، وهى لغة أسد.
13- جبرائين.
التفسير :
تفسير الآيتين 97 و98:ـ أي:قل لهؤلاء اليهود, الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك, أن وليك جبريل عليه السلام, ولو كان غيره من ملائكة الله, لآمنوا بك وصدقوا، إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت, وتكبر على الله، فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك, وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك, والله هو الذي أمره, وأرسله بذلك, فهو رسول محض. مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ولا مناقض, وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات, والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي, لمن آمن به، فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك, كفر بالله وآياته, وعداوة لله ولرسله وملائكته، فإن عداوتهم لجبريل, لا لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله. فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله, والذي أرسل به, والذي أرسل إليه, فهذا وجه ذلك.
ثم بين- تعالى- حقيقة الأمر فيمن يعادى جبريل وأن عداوته عداوة لله- تعالى- فإنه أمين وحيه إلى رسله ليس له في ذلك شيء إلا أن يبلغ ما أمر به فقال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ.
والمعنى: أن عداوة جبريل عداوة لله، وأن عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم عداوة لله- أيضا- فالإيمان بالله وملائكته ورسله وحدة لا تتجزأ فمن كفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع.
ومعنى عداوة العبد لله: كفره به ومخالفته لأوامره ونواهيه ومعنى عداوته لملائكته: إنكار فضلهم ووصفهم بما ينافي عصمتهم ورفعة منزلتهم. ومعنى عداوته لرسله: تكذيبه لهم وتعمده إلحاق الأذى بهم ومعنى عداوة الله لعبده: غضبه سبحانه- عليه، ومجازاته له على كفره.
وصدر- سبحانه- الكلام باسمه الجليل تفخيما لشأن ملائكته ورسله وإشعارا بأن عداوتهم إنما هي عداوة له- تعالى-.
وأفرد- سبحانه- جبريل وميكال بالذكر، مع اندراجهما تحت عموم ملائكته، لتصريح اليهود بعداوة جبريل وتعظيم ميكائيل، فأفردهما بالذكر للتنبيه على أن المعاداة لأحدهما معاداة للجميع، وأن الكفر بأحدهما كفر بالآخر.
قال ابن جرير: «فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟ قيل بلى، فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت جبريل عدونا وميكائيل ولينا، وزعمت أنها كفرت بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من أجل أن جبريل صاحبه، أعلمهم الله- تعالى- أن من كان لجبريل عدوا فإن الله عدو له وأنه من الكافرين، فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله:
من كان عدوا لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته ولا لرسله أعداء، لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه، وكذلك قوله ورسله فلست يا محمد داخلا فيهم، فنص الله- تعالى- على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقلع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم على ضعاف الإيمان» .
وقال- سبحانه- في ختام الآية الكريمة فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل فإن الله عدو له أو لهم، ليدل على أن عداوة كل واحد ممن اشتملت الآية الكريمة على ذكرهم كفر وجحود، وليكون اندراجهم تحت هذا الحكم العام من باب إثبات الحكم بالدليل، وللإشعار بأن عداوة الله- تعالى- لهم سببها كفرهم فإن الله لن يعادى قوما لذواتهم ولا لأنسابهم، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو.
قال صاحب المنار: «فهذه الآية الكريمة وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها، فهم لم يدعوا عداوة هؤلاء كلهم، لكنهم كذلك في نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع، وهي أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله ويدعو إليه، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكائيل الذي يزعمون أنهم يحبونه. وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه، ومعاداة القرآن الكريم كمعاداة سائر الكتب الإلهية لأن المقصود من الجميع واحد فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر، وهذا من ضروب إيجاز القرآن الكريم التي انفرد بها» .
وبهذا تكون الآيتان الكريمتان قد دمغتا اليهود بالكفر والجهالة، لمعاداتهم لجبريل وتكذيبهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبينتا ما عليه أمرهم من خزي وهوان بسبب هذه العداوة التي لا باعث عليها إلا الحسد، وكراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
وأما تفسيرها فقوله تعالى : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) أي : من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك ، فهو رسول من رسل الله ملكي [ عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام ] ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل ، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل ، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل ، كما قال تعالى : ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) [ النساء : 150 ، 151 ] فحكم عليهم بالكفر المحقق ، إذ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله ; لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه ، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ) [ مريم : 64 ] وقال تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) [ الشعراء : 192 - 194 ] وقد روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب " . ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه ، فقال : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) أي : من الكتب المتقدمة ( وهدى وبشرى للمؤمنين ) أي : هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة ، وليس ذلك إلا للمؤمنين . كما قال تعالى : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت : 44 ] ، وقال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء : 82 ] .
ثم قال تعالى : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) يقول تعالى : من عاداني وملائكتي ورسلي ، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر ، كما قال تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) [ الحج : 75 ] .
( وجبريل وميكال ) وهذا من باب عطف الخاص على العام ، فإنهما دخلا في الملائكة ، ثم عموم الرسل ، ثم خصصا بالذكر ; لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه ، وقرن معه ميكائيل في اللفظ ; لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم ، فأعلمهم أنه من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا ; لأنه أيضا ينزل على الأنبياء بعض الأحيان ، كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر ، ولكن جبريل أكثر ، وهي وظيفته ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات ، هذاك بالهدى وهذا بالرزق ، كما أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ للبعث يوم القيامة ; ولهذا جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول " اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . وقد تقدم ما حكاه البخاري ، ورواه ابن جرير عن عكرمة أنه قال : جبر ، وميك ، وإسراف : عبيد . وإيل : الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : إنما قوله : " جبريل " كقوله : " عبد الله " و " عبد الرحمن " . وقيل جبر : عبد . وإيل : الله .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، قال : أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم ؟ قلنا : لا . قال : اسمه عبد الله ، قال : فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم ؟ قلنا : لا . قال : اسمه عبيد الله . وكل اسم مرجعه إلى " يل " فهو إلى الله .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك . ثم قال : حدثني أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثني عبد العزيز بن عمير قال : اسم جبريل في الملائكة خادم الله . قال : فحدثت به أبا سليمان الداراني ، فانتفض وقال : لهذا الحديث أحب إلي من كل شيء [ وكتبه ] في دفتر كان بين يديه .
وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات ، تذكر في كتب اللغة والقراءات ، ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه ، أو يرجع الحكم في ذلك إليه ، وبالله الثقة ، وهو المستعان .
وقوله تعالى : ( فإن الله عدو للكافرين ) فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل : فإنه عدو للكافرين . قال : ( فإن الله عدو للكافرين ) كما قال الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال آخر :
ليت الغراب غداة ينعب دائبا كان الغراب مقطع الأوداج
وإنما أظهر الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره ، وإعلامهم أن من عادى أولياء الله فقد عادى الله ، ومن عادى الله فإن الله عدو له ، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة ، كما تقدم الحديث : " من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب " . وفي الحديث الآخر : " إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " . وفي الحديث الصحيح : " ومن كنت خصمه خصمته " .
القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه من كان عدوا لله، من عاداه، وعادى جميع ملائكته ورسله؛ (65) وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل، وعادى جميع ملائكته ورسله. لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته, ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة, ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته. لأن العدو لله عدو لأوليائه, والعدو لأولياء الله عدو له. فكذلك قال لليهود - الذين قالوا: إن جبريل عدونا من الملائكة, وميكائيل ولينا منهم-: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين)، من أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله. فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوا لجبريل، فهو لكل من ذكره - من ملائكته ورسله وميكال - عدو, وكذلك عدو بعض رسل الله، عدو لله ولكل ولي. وقد:-
1634 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله - يعني العتكي -، عن رجل من قريش قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: أسالكم بكتابكم الذي تقرءون، هل تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا: اللهم وجدناك في كتابنا، ولكنا كرهناك لأنك تستحل الأموال وتهَرِيق الدماء. فأنـزل الله: (من كان عدوا لله وملائكته) الآية. (66)
1635 - حدثت عن عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن حصين بن عبد الرحمن, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إن يهوديا لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبك، هو عدو لنا. فقال له عمر: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) . قال: فنـزلت على لسان عمر.
* * *
وهذا الخبر يدل على أن الله أنـزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وإخبارا منه لهم أن من كان عدوا لمحمد فالله له عدو, وأن عدو محمد من الناس كلهم، لمن الكافرين بالله، الجاحدين آياته.
* * *
فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟
قيل: بلى.
فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما, وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟
قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما، أن اليهود لما قالت: " جبريل عدونا، وميكائيل ولينا " - وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أن جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا, فإن الله له عدو, وأنه من الكافرين. فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه, لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله, ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء. لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه. وكذلك قوله: (ورسله)، فلست يا محمد داخلا فيهم. فنص الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم، ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم, ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين.
* * *
وأما إظهار اسم الله في قوله: (فإن الله عدو للكافرين)، وتكريره فيه - وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال: (من كان عدوا لله وملائكته) - فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية, فقيل: " فإنه عدو للكافرين "، على سامعه، من المَعْنِيّ بـ " الهاء " التي في" فإنه ": أألله، أم رسل الله جل ثناؤه, أم جبريل, أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعني بذلك، لاحتمال الكلام ما وصفت، وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر: (67)
ليـت الغـراب غـداة ينعَـب دائمـا
كــــان الغــــراب مقطـــع الأوداج (68)
وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه. والأمر في ذلك بخلاف ما قال. وذلك أن " الغراب " الثاني لو كان مكنى عنه، لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم " الغراب " الأول, إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه غير كناية اسم " الغراب " الأول - وأن قبل قوله: (فإن الله عدو للكافرين) أسماء، لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه، (69) لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم، إلا بتوقيف من حجة. فلذلك اختلف أمراهما.
--------------
الهوامش:
(28) في المطبوعة : "يونس عن بكير" ، وهو خطأ محض .
(29) في المطبوعة : "فيما أرى" - وانظر ما سلف قريبا : 376 .
(30) في تفسير ابن كثير 1 : 239"أنت الآن فحدثنا . . " ، وهي جيدة .
(31) الأثر: 1605 - إسناده صحيح. يونس بن بكير بن واصل الشيباني: ثقة، من تكلم فيه فلا حجة له، وأخرج له مسلم في صحيحه. وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 411، وابن سعد 6: 279، وابن أبي حاتم 4 /2 /236. ووقع في المطبوعة هنا"يونس عن بكير" وهو خطأ واضح. عبد الحميد بن بهرام - بفتح الباء وسكون الهاء - الفزاري: ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وتكلم فيه بعضهم من أجل روايته عن شهر بن حوشب، وهو راويته، ولكن شهر ثقة أيضًا، كما أشرنا في: 1489.
والحديث رواه أحمد في المسند، مطولا: 2514، وابن سعد في الطبقات 1/1/115 - 116، كلاهما من هاشم بن القاسم، عن عبد الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد. ثم رواه أحمد: 2515، عن محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، به ولم يذكر لفظه، إحالة على ما قبله.ورواه أحمد أيضًا: 2471، مختصرا، عن حسين، هو ابن محمد المروزي عن عبد الحميد بن بهرام.
ورواه أيضًا: 2483، من وجه آخر، أطول قليلا. وكذلك رواه أبو نعيم في الحلية 4: 304 - 305 من هذا الوجه. وذكر الهيثمي الرواية: 2483، وأشار إلى ما في الرواية: 2514 من الزيادة، في مجمع الزوائد 8: 241 - 242، وقال:"رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات".ونقل ابن كثير في التفسير 1: 238 - 239 رواية الطبري التي هنا، ثم أشار إلى رواية المسند: 2514. ثم نقل رواية المسند: 2483 فيه 1: 240، ونقل روايتي المسند أيضًا 2: 186 - 187.
(32) في المطبوعة : "فأيهما غلبت صاحبتها" ، والصواب من نص سيرة ابن هشام 2 : 191 - 192 .
(33) نص ابن إسحاق في رواية ابن هشام 2 : 192 : "هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به ، تنام عيناه وقلبه يقظان؟ فقالوا : اللهم نعم . قال : فكذلك نومي ، تنام عيني وقلبي يقظان . قالوا : فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟" وبعد ذلك اختلاف أيضًا في رواية ابن جرير عن ابن إسحاق .
(34) في سيرة ابن هشام : "هل تعلمونه" ، وهو أشبه بالصواب .
(35) الأثر: 1606 - هو حديث مرسل، مضى جزء منه، بهذا الإسناد: 1489. وأشار إليه ابن كثير 239:1 - 240، عقب حديث ابن عباس الذي قبله، وصرح أيضًا بأنه رواه محمد بن إسحاق مرسلا.وفي سيرة ابن هشام 2: 191 - 192، وفيه اختلاف في بعض اللفظ. وقد ساق ابن كثير هذين الأثرين (1605، 1606) وخرجهما، وواستوفى الكلام في هذه القصة في تفسيره 1: 238 - 245.
(36) في تفسير ابن كثير 1 : 240 : "إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو" .
(37) الأثر : 1607 - وهذا منقطع ، وقد ذكره ابن كثير 1 : 240 ، عن هذا الموضع و"القاسم بن أبي بزة" : سبق في : 631 ، وهو يروى عن التابعين .
(38) في المطبوعة : "وقال : إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة" ، وهي عبارة ركيكة . وأثبت ما جاء في تفسير ابن كثير عن الطبري 1 : 240 . وقوله"أيما" استفهام وتعجب ، وأكثر ما تكتب : "أيم" (بفتح فسكون ففتح) ، وبحذف الألف . تقول : أيم تقول؟ أي : أي شيء تقول؟ وانظر اللسان (أيم) . يتعجب عمر من فعلهم .
(39) في تفسير ابن كثير 1 : 242 : "قد غلظ عليكم" .
(40) في المطبوعة : "أي هلكتم" ، والصواب في تفسير ابن كثير .
(41) السلم : المسالم . تقول : أنا سلم لمن سالمني . رجل سلم ، وقوم سلم ، وامرأة سلم .
(42) في المطبوعة : "خرقة" ، وفي تفسير ابن كثير"خوخة" والصواب"مخرفة" كما أثبتها . والمخرفة : البستان ، أو سكة بين صفين من نخل . خرف النخل والثمر : اجتناه ، واجتناء الثمر ه"الخرفة" (بضم فسكون) .
(43) في المطبوعة : "بأبي وأمي يا رسول الله" بإسقاط"أنت" ، وأثبت ما في تفسير ابن كثير
(44) الحديث: 1608 - وهذا مرسل أيضًا. ذكره ابن كثير 1: 241 - 243، عن هذا الموضع، ثم عن تفسير ابن أبي حاتم، من رواية مجالد عن عامر - وهو الشعبي - وسيأتي نحوها أيضًا من رواية مجالد رقم: 1614. ثم قال ابن كثير:"وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر. ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر، فإنه لم يدرك زمانه". وقال السيوطي في الدر المنثور 1: 90"صحيح الإسناد ولكن الشعبي لم يدرك عمر".
رِبْعِي، بكسر الراء والعين المهملة، بينهما باء موحدة ساكنة، وآخره ياء تحتية مشددة: هو"ربعي بن إبراهيم بن مقسم الأسدي" عرف"بابن علية"، كأخيه"إسماعيل بن علية". وربعي: ثقة مأمون، من شيوخ أحمد وأبي خيثمة وغيرهما. وقال عبد الرحمن بن مهدي:"كنا نعد ربعي بن علية من بقايا شيوخنا". وفي المسند: 7444 أن أحمد بن حنبل قال:"كان يفضل على أخيه". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 /299، وابن أبي حاتم 1 /2 /509 - 510.داود بن أبي هند: ثقة، جيد الإسناد، رفع، من حفاظ البصرين. ترجمته في التهذيب، والكبير 2/1/211 -212، والصغير: 160، وابن أبي حاتم 1 /2 /411 - 412.
الشعبي: هو عامر بن شراحيل الهمداني، إمام جليل الشأن، من كبار التابعين. ولكنه لم يدرك عمر، كما قال ابن كثير. فإنه ولد سنة 19، أو سنة 20.
(45) الأثر : 1609 - في المطبوعة : "حدثني يعقوب قال حدثنا إبراهيم قال حدثنا ابن علية" والصواب ما أثبته ، يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وقد سلف مرارا بهذا الإسناد ، وروايته عن ابن علية
(46) السنة : الجدب والقحط .
(47) سكت الرجل : صمت . وأسكت الرجل (غير متعد) : انقطع كلامه فلم يتكلم ، وأطرق من فكرة انتابته وقطعته .
(48) الأثر : 1613 - في الدر المنثور 1 - 91 مع اختلاف يسير في اللفظ واختصار في روايته .
(49) في تفسير ابن كثير 1 : 243 : "ما ينزلان إلا بإذن الله" ، وكأنه هو الصواب .
(50) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، زدتها من تفسير ابن كثير 1 : 242 ، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره .
(51) الحديث: 1614 - وهذا إسناد مرسل أيضًا، ووقع فيه في المطبوعة خطأ في موضعين أثبتنا الصواب لليقين به. وكان في المطبوعة"حدثنا عبد الرحمن بن مغراء قال حدثنا زهير عن مجاهد عن الشعبي". فلا يوجد في شيوخ ابن مغراء، ولا في الرواة عن"مجاهد" أو"مجالد" من يسمى"زهيرا". و"مجاهد عن الشعبي" خطأ أيضًا، وكلاهما من كبار التابعين، من طبقة واحدة، ومجاهد أقدم قليلا. وعبد الرحمن بن مغراء لا يدرك أن يروى عن مجاهد، ولا عن الشعبي.
ومجالد: هو ابن سعيد الهمداني، وهو ثقة، ضعفه بعض الأئمة. وروى عنه من الأئمة: شعبة والسفيانان وابن المبارك، ورجحنا تصحيح حديث القدماء عنه، في شرح المسند: 3781، لأن أعدل كلمة فيه قول عبد الرحمن بن مهدي:"حديث مجالد عند الأحداث، يحيى بن سعيد وأبي أسامة، ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم وهؤلاء القدماء،". قال ابن حاتم:"يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره". وذكر ابن سعد في ترجمته 6: 243 جرح يحيى القطان إياه، ثم قال:"وقد روى عنه يحيى بن سعيد القطان مع هذا، وروى عنه سفيان الثورى، وشعبة، وغيرهم". وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري 4/ 2/9، والصغير: 168، 169، وابن أبي حاتم 4 /1/ 361 - 362.
إسحاق بن الحجاج الرازي: هو الطاحوني المقرئ، ترجمنا له فيما مضى: 230. وعبد الرحمن بن مغراء بن عياض الدوسي، أبو زهير: ثقة، تكلم بعضهم في روايته عن الأعمش، وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2 /2 /290 - 291.
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 242 - 243، من تفسير ابن أبي حاتم."حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر.." - وهو الشعبي، فذكر نحوه. ثم بين ابن كثير أنه منقطع، كما أشرنا آنفًا.
الراجح عندي أن عبد الرحمن بن مغراء ممن روى عن مجالد بعد تغيره.
(52) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 63 .
(53) ديوانه : 450 ، ونقائض جرير والأخطل : 87 ، من قصيدته الدامغة في هجاء الأخطل ، والضمير إلى تغلب ، رهط الأخطل ، وقبله :
قبــح الإلـه وجـوه تغلـب, كلمـا
شَــبَح الحجــيج وكـبروا إهـلالا
(54) في المطبوعة : "فعيل" ، هو خطأ .
(55) هو الربيع بن زياد العبسي ، أحد الكملة من بني فاطمة بنت الخرشب الأنمارية .
(56) الأغاني 14 : 92 ، 16 : 22 ، واللسان (سمل) ، من أبيات أرسلها الربيع إلى النعمان ابن المنذر في خبر طويل ، حين قال لبيد في رجزه :
مهـلا, أبيـت اللعـن, لا تـأكل معـه
وزعم أنه أبرص الخبيثة ، وذكر من فعله قبيحا كريها ، فرحل الربيع عن النعمان ، وكان له نديما ، وأرسل إليه أبياته .
لئـن رحـلت جمـالي لا إلـى سـعة
مـا مثلهـا سـعة عرضـا ولا طولا
بحـيث لـو وزنـت لخـم بأجمعهـا
لـم يعدلـوا ريشـة من ريش سمويلا
تـرعى الـروائم أحـرار البقـول بها
لا مثــل رعيكـم ملحـا وغسـويلا
فـاثبت بـأرضك بعـدي, واخل متكئا
مـع النطاسـي طـورا وابـن توفيلا
ولخم : هم رهط آل المنذر ملوك الحيرة .
(57) الخبر : 1625 - الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي : ضعيف قال أبو زرعة : "لا يصدق" . وهو مترجم في لسان الميزان ، وابن أبي حاتم 1/2/61 -62 ، والأنساب ، في الورقة : 401 . و"العنقزي" : بفتح العين المهلة والقاف بينهما نون ساكنة وبالزاي . ووقع في المطبوعة"العبقري" ، وهو تصحيف . وكذلك سيأتي في رقم : 1655 ، بالتصحيف ، وصححناه هناك .
(58) في المطبوعة : "قال : لا" ، والصواب ما أثبت .
(59) لعله"وميكا" . قال : "عبيد" بالتصغير ، كما سلف آنفًا .
(60) لعل الصواب أن يقول : "إسراف" ، مكان"إسرا" ، أو تكون الأولى"إسرائيل" مكان"إسرافيل" .
(61) القطع : الحال هنا . وانظر ما سلف 1 : 230 - 232 ، 330 ، 561 .
(62) في المطبوعة : "وهي تصديقه" والصواب ما أثبت ، يريد : وهي توافقه . كما فسر قبل .
(63) انظر ما سلف 1 : 166 - 170 ، 230 ، 249 ثم 549 - 551 .
(64) انظر ما سلف 1 : 383 .
(65) هكذا في المطبوعة : "من كان عدوا لله" ، وهو لايستقيم ، وكأن الصواب"أن من كان عدوا لله ، عاداه وعادى جميع ملائكته ورسله" بإسقاط"من" من"من عاداه" .
(66) الحديث : 1634 - عبيد الله العتكي : هو عبيد الله بن عبد الله ، أبو المنيب العتكي ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين وغيره . وذكره البخاري في كتاب الضعفاء ، ص : 22 ، وقال : "عنده مناكير" . وقال ابن أبي حاتم 2 /2 /322 في ترجمته : "سمعت أبي يقول : هو صالح الحديث . وأنكر على البخاري إدخاله في كتاب الضعفاء . وقال : "يحول" . ولكن هذا الحديث منقطع ضعيف الإسناد ، لأن أبا المنيب إنما يروى عن التابعين .
والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 265 ، من طريق إسحاق بن إبراهيم ، عن جرير ، به . وصحه الذهبي في مختصره . ونقله ابن كثير 1 : 248 - 249 ، عن الطبري ، ثم أشار إلى رواية الحاكم .
(67) هو جرير .
(68) ديوانه 89 ، وأمالي ابن الشجرى 1 : 243 ، وغيرهما . ورواية ديوانه"ينعت بالنوى" وهو الجيد ، فإن قبله :
إن الغــراب, بمـا كـرهت, لمـولع
بنــوى الأحبــة دائــم التشـحاج
والأوداج جمع ودج : وهو عرق من عروق تكتنف الحلقوم .
(69) في المطبوعة : "وإن قيل قوله فإن الله عدو للكافرين" اسما لو جاء . . " والصواب ما أثبت . وقد رجم مصححو المطبوعة رجما لا خير فيه في تصحيح كلام الطبري .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 98 | ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِين﴾ |
---|
البقرة: 285 | ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ |
---|
النساء: 136 | ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
ميكال:
قرئ:
1- ميكال، كمفعال، وهى لغة أهل الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو، وحفص.
2- ميكائل، بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع، وابن شنبوذ.
3- ميكائيل، بعد الهمزة ياء، وهى قراءة حمزة، والكسائي، وابن عامر، وأبى بكر.
4- ميكئيل، كميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن.
5- ميكئل، لا ياء بعد الهمزة، وبها قرأ ابن محيصن أيضا.
6- ميكائيل، بياءين بعد الألف أولاهما مكسورة، وبها قرأ الأعمش.
التفسير :
يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} تحصل بها الهداية لمن استهدى, وإقامة الحجة على من عاند, وهي في الوضوح والدلالة على الحق, قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة لا يمتنع من قبولها إلا من فسق عن أمر الله, وخرج عن طاعة الله, واستكبر غاية التكبر.
ثم أخذ القرآن في تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتسليته عما يفعله معه اليهود فقال تعالى:
( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ . . . )
أى: لقد أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالة على معانيها وعلى كونها من عند الله، وبينا لك فيها علوم اليهود، ومكنونات سرائرهم وأخبارهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم من كتبهم، وما بدلوه من أحكامهم قال تعالى:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
وإن هذه الآيات التي أنزلها الله إليك يا محمد، ما يكفر بها، ويجحد صدقها إلا المتمردون من الكفرة، الخارجون على حدود الله المنتهكون لحرماته.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ) أي : أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات [ دلالات ] على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ، ومكنونات سرائر أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم ، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم ، التي كانت في التوراة . فأطلع الله في كتابه الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ; فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ، ولم يدعه إلى هلاكها الحسد والبغي ، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصف ، من غير تعلم تعلمه من بشري ولا أخذ شيئا منه عن آدمي . كما قال الضحاك ، عن ابن عباس : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ) يقول : فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية ، وبين ذلك ، وأنت عندهم أمي لا تقرأ كتابا ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه . يقول الله : في ذلك لهم عبرة وبيان ، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال ابن صوريا الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك . فأنزل الله في ذلك من قوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون )
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولقد أنـزلنا إليك آيات)، أي أنـزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك: وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنـزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل, والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه، من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنـزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. (70) فكان، في ذلك من أمره، الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدمي. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
1636 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: (ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات) يقول: فأنت تتلوه عليهم، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك, وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا, وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.
1637- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة مولى ابن عباس, وعن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا الفِطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (71) يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه, وما أنـزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! (72) فأنـزل الله عز وجل: (ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)! (73)
1638 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر مثله. (74)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما يكفر بها إلا الفاسقون)، وما يجحد بها. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى " الكفر " الجحود، بما أغنى عن إعادته هنا. (75) وكذلك بينا معنى " الفسق "، وأنه الخروج عن الشيء إلى غيره. (76)
* * *
فتأويل الآية: ولقد أنـزلنا إليك، فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم - الجاحدين نبوتك، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم، ونبي مبعوث, وما يجحد تلك الآيات = الدالات على صدقك ونبوتك، التي أنـزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم = إلا الخارج منهم من دينه, التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي يدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه، والمتبع منهم حكم كتابه, فإنه بالذي أنـزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل.
-------------------
الهوامش:
(70) في المطبوعة : "فأطلع الله في كتابه . . " وهو كلام لا يستقيم ، والصواب ما أثبت . يعني فأظهر الله هذه الخفايا ، وتلك الأخبار ، وما حرفوه من الأحكام في توراتهم .
(71) في المطبوعة"القطيوني" بالقاف ، وهو خطأ ، وهو من بني ثعلبة بن الفطيون (بكسر الفاء وسكون الطاء ، وضم الياء) . قال السهيلي : "الفطيون : كلمة عبرانية تطلق على كل من ولي أمر اليهود وملكهم" . ورواية ابن جرير : "ابن صوريا" ، والذي في سيرة ابن هشام 2 : 196"ابن صلوبا الفطيوني" . وقد ذكر ابن هشام فيما روى من سيرة ابن إسحاق 1 : 160 - 161"الأعداء من يهود" ، فعد في بني ثعلبة: ابن الفطيون : "عبد الله بن صوريا الأعور ، ولم يكن في زمانه أحد أعلم بالتوارة منه ، وابن صلوبا ، ومخيريق . وكان حبرهم ، أسلم" ، ولم أستطع أن أرجح أهو : ابن صوريا ، أو - ابن صلوبا - الذي كان من أمره ما كان . ولعلهما روايتان مختلفتان عن ابن إسحاق . وانظر أيضًا الأثر : 1638 .
(72) في ابن هشام : "من آية فنتبعك لها ، فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله : "ولقد أنزلنا إليك . . "
(73) الأثران : 1637 - 1638 - في سيرة ابن هشام 2 : 196 .
(74) الأثران : 1637 - 1638 - في سيرة ابن هشام 2 : 196 .
(75) انظر ما سلف 1 : 255 ، 382 ، 552 ، وهذا الجزء 2 : 140 ، 337 .
(76) انظر ما سلف 1 : 409 - 410 ، وهذا الجزء 2 : 118 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 99 | ﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكۡفُرُ بِهَآ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾ |
---|
النور: 34 | ﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا﴾ |
---|
النور: 46 | ﴿ لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ |
---|
المجادلة: 5 | ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وهذا فيه التعجيب من كثرة معاهداتهم, وعدم صبرهم على الوفاء بها. فـ "كُلَّمَا "تفيد التكرار, فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض، ما السبب في ذلك؟ السبب أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانهم, لكانوا مثل من قال الله فيهم:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
والهمزة في قوله ( أَوَكُلَّمَا ) للإِنكار ، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام : أي أكفروا بالآيات البينات ، وكلما عاهدوا عهداً نبذه فرق منهم ، أي : طرحوه وانقضوه من النبذ وهو إلقاء الشئ وطرحه لقلة الاعتداد به ومنه سمي النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء وهو حقيقة في الأجرام وإسناده إلى العهد مجاز .
والضمير في قوله: مِنْهُمْ يعود لليهود الذين اشتهروا بنقض العهود وقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يفيد الترقي إلى الأغلظ فالأغلظ، أى أن فريقا منهم عرف بنقضه للعهد، وأكثرهم عرف بكفره وجحده للحق.
قال صاحب الكشاف، واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدوا رسول الله فلم يفوا الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ.
وقال الرازي: «والمقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التوبيخ والتبكيت. ودل بقوله: أَوَكُلَّما عاهَدُوا على عهد بعد عهد نبذوه ونقضوه، بل يدل على أن ذلك كالعادة منهم، فكأنه- تعالى- أراد تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات، بأن بين له أن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم ... »
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن نبذ اليهود لكتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام، فقال- تعالى-:
وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم : والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم ولا أخذ [ له ] علينا ميثاقا . فأنزل الله : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم )
وقال الحسن البصري في قوله : ( بل أكثرهم لا يؤمنون ) قال : نعم ، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه ، يعاهدون اليوم ، وينقضون غدا .
وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : ( نبذه فريق منهم ) أي : نقضه فريق منهم .
وقال ابن جرير : أصل النبذ : الطرح والإلقاء ، ومنه سمي اللقيط : منبوذا ، ومنه سمي النبيذ ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء . قال أبو الأسود الدؤلي :
نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
قلت : فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها . ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره ، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ومناصرته ، كما قال : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) الآية [ الأعراف : 157 ]
القول في تأويل قوله تعالى : أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
قال أبوجعفر: اختلف أهل العربية في حكم " الواو " التي في قوله: (أو كلما عاهدوا عهدا). فقال بعض نحويي البصريين: هي" واو " تجعل مع حروف الاستفهام, وهي مثل " الفاء " في قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [البقرة: 87]، قال: وهما زائدتان في هذا الوجه, وهي مثل " الفاء " التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا, (77) وكقولك للرجل: " أفلا تقوم "؟ وإن شئت جعلت " الفاء " و " الواو " هاهنا حرف عطف.
وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام.
* * *
والصواب في ذلك عندي من القولة أنها " واو " عطف، أدخلت عليها " ألف " الاستفهام, كأنه قال جل ثناؤه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ثم أدخل " ألف " الاستفهام على " وكلما " فقال : (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم)
وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له, (78) فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن " الواو " و " الفاء " من قوله: (أو كلما) و (أفكلما) زائدتان لا معنى لهما.
* * *
وأما " العهد "، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى, ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته, فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه؟ كما:-
1639 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال مالك بن الصيف - حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه-: والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنـزل الله جل ثناؤه: (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون). (79)
1640 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأما " النبذ " فإن أصله -في كلام العرب- الطرح, ولذلك قيل للملقوط: " المنبوذ "، (80) لأنه مطروح مرمي به. ومنه سمي النبيذ " نبيذا ", لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله " مفعول " صرف إلى " فعيل ", أعني أن " النبيذ " أصله " منبوذ " ثم صرف إلى " فعيل " فقيل: " نبيذ "، كما قيل: " كف خضيب، ولحية دهين " - يعني: مخضوبة ومدهونة. (81) يقال منه: " نبذته أنبذه نبذا ", كما قال أبو الأسود الدؤلي:
نظــرت إلــى عنوانــه فنبذتـه
كنبذك نعـلا أخلقت مــن نعالكــا (82)
* * *
فمعنى قوله جل ذكره: (نبذه فريق منهم)، طرحه فريق منهم، فتركه ورفضه ونقضه. كما:-
1641 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (نبذه فريق منهم) يقول: نقضه فريق منهم.
1642 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: (نبذه فريق منهم)، قال: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه, ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: (نقضه فريق منهم).
* * *
و " الهاء " التي في قوله: (نبذه)، من ذكر العهد. فمعناه أو كلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم.
* * *
و " الفريق " الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنـزلة " الجيش " و " الرهط" الذي لا واحد له من لفظه. (83)
* * *
و " الهاء والميم " اللتان في قوله: (فريق منهم)، من ذكر اليهود من بني إسرائيل.
* * *
وأما قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون) فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون.
* * *
ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله، على عدد الفريق. فيكون الكلام حينئذ معناه: أو كلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم, ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله، أكثرهم، لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: أو كلما عاهدت اليهود ربها عهدا، نبذ ذلك العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه = على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم = ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله, ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى " الإيمان "، وأنه التصديق. (84)
----------------
الهوامش:
(77) لم أعلم ماذا أراد الطبري بهذا .
(78) انظر ما سلف 1 : 439 - 441 .
(79) الأثر : 1639 - في سيرة ابن هشام 2 : 196 ، مع اختلاف يسير في اللفظ . وقد ذكر ابن هشام في 2 : 161"مالك بن الصيف" وقال : "ويقال : ابن ضيف" .
(80) في تفسير ابن كثير 1 : 247 : "وسمى اللقيط . . " واللقيط أجود من الملقوط .
(81) انظر ما سلف 1 : 112 .
(82) ديوانه : 21 (في نفائس المخطوطات : 2) ، وسيأتي في 20 : 49 - 50 (بولاق) ، ومجاز القرآن : 48 ، من أبيات كتب بها إلى صديقه الحصين بن الحر ، وهو وال على ميسان ، وكان كتب إليه في أمر يهمه ، فشغل عنه؛ وقبل البيت :
وخـبرني مـن كـنت أرسـلت أنمـا
أخــذت كتـابي معرضـا بشـمالكا
(83) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 244 ، 245 .
(84) انظر ما سلف 1 : 234 - 235 ، 271 ، 560 ، وهذا الجزء 2 : 143 ، 348 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 87 | ﴿وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ﴾ |
---|
البقرة: 100 | ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
أو كلما:
قرئ:
بسكون الواو، وهى قراءة أبى السمال العدوى، وقدر على:
(أ) أن يكون للعطف على «الفاسقين» ، وهذا قول الزمخشري.
(ب) على الخروج من كلام إلى غيره، وتكون «أو» بمنزلة «أم» المنقطعة، وهذا قول المهدوى.
عاهدوا:
قرئ:
1- عوهدوا، على البناء للمفعول، وهى قراءة الحسن، وأبى رجاء، وهذه القراءة تخالف رسم المصحف.
2- عهدوا، ويكون «عهدا» مصدرا.
التفسير :
أي:ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم، وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم, فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به،{ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ} الذي أنزل إليهم أي:طرحوه رغبة عنه{ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه، وحقيّة ما جاء به. تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول, فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون.
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن نبذ اليهود لكتاب الله ، واتباعهم للسحر والأوهام ، فقال - تعالى - :
( وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ . . . )
والمعنى: وحين جاء اليهود وأحبارهم رسول من عند الله، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، طرح فريق كبير منهم تعاليم التوراة التي تشهد بصدقه، وراء ظهورهم، حتى لكأنهم يجهلون أنها من عند الله، واتبعوا ما قصته واختلقته الشياطين من السحر والأوهام والمفتريات على عهد سليمان- عليه السلام- ومن هذه المفتريات والأكاذيب زعمهم أن سليمان- عليه السلام- كان ساحرا، وما تم له ملكه العريض، ولا ظهرت على يديه المعجزات الباهرة من تسخير الجن والريح إلا بهذا.
وقد أكذبهم الله- تعالى- في هذا الزعم بقوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أى: بتعلم السحر والعمل به، كما يزعم هؤلاء «ولكن الشياطين» هم الذين «كفروا» بتعلم السحر وتعليمه للناس، وتعليمهم- أيضا- ضربا آخر منه وهو ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ من وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به، ولقد كان الملكان لا يعلمان أحدا من الناس السحر حتى ينصحاه بقولهما: إن السحر الذي نعلمك إياه. القصد منه التمييز بين المطيع والعاصي، وبين السحر والمعجزة، فحذار أن تستعمله فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين، بخلاف الشياطين فإنهم تعلموه وعلموه لغيرهم لاستعماله في الشرور والآثام، ولإحداث التفرقة بين الزوجين، ولكن هذا السحر الذي يتعاطاه الشياطين وأتباعهم لن يضر أحدا بذاته، وإنما ضرره يتأتى إذا أراد الله تعالى- ذلك وشاءه، ولقد علم أولئك النابذون لكتاب الله المؤثرون عليه اتباع السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله، فليس له نصيب من نعيم الجنة، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ علما نافعا. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم كما أرشدتهم إليه التوراة، وَاتَّقَوْا المعاصي والآثام لأثيبوا مثوبة من عند الله هي خير لهم مما آثروه واختاروه على كتاب الله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ.. إلخ الآية.
بيان لما صدر عن اليهود من تكذيب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وطرح لتعاليم كتابهم التي أمرتهم باتباعه.
أخرج ابن جرير عن السدى قال في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. أى لما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها.
فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت، فذلك قول الله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أى كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود، فنقضوا عهد الله، لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه .
وفي وصف الرسول بأنه آت من عند الله تعظيم له، ومبالغة في انكار عدم إيمانهم به، وإغراء للناس جميعا بالدخول في دعوته، لأنه ليس رسولا من تلقاء نفسه، وإنما هو رسول من عند الله- تعالى-:
والمراد «بما معهم» التوراة. وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لها، معناه أن ما جاء به من تعاليم موافق لها في أصول الدين، وأن ما جاءت به من صفات للرسول المنتظر بعد عيسى- عليه السلام- لا تنطبق إلا عليه صلّى الله عليه وسلّم.
وعبر- سبحانه- عن تركهم العمل بالكتاب الذي نزل لهدايتهم بالنبذ، مبالغة في عدم اعتدادهم، وتناسيهم إياه، لأن أصل النبذ طرح وإلقاء ما لا يعتد به.
وفي إسناد النبذ إلى فريق من الذين أوتوا الكتاب، سخرية بهم، واستجهال لهم، لأن الذين أوتوه هم الذين نبذوه، ولو كان النابذون من المشركين لكان لهم بعض العذر لجهلهم، ولكن أن يكون التاركون للنور هم الذين أوتوه وأكرموا به، فذلك هو الضلال المبين.
والمراد من كِتابَ اللَّهِ الذي نبذوه لما جاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التوراة، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها حقا، لاتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي ذكرت صفاته فيها، والذي وجب عليهم بمقتضى كتابهم التوراة الإيمان به، فهم بجحودهم لنبوته، يكونون جاحدين لتوراتهم التي شهدت له بالصدق.
وقيل المراد بكتاب الله الذي نبذوه القرآن، لأنهم لم يؤمنوا به، بل تركوه بعد سماعه، وتناسوا ما اشتمل عليه من هداية وإرشاد، مع أنه كان من المتحتم عليهم أن يتلقوه بالقبول.
والذي نراه أن الرأى الأول أرجح، لأن النبذ يقتضى سابقة الأخذ، في الجملة. وهو متحقق بالنسبة للتوراة، بخلاف القرآن الكريم فإنهم لم يسبق لهم أن تمسكوا به، ولأن مذمتهم تكون أشد وجحودهم أكثر، إذا كان المراد بالكتاب الذي نبذوه، هو عين الكتاب الذي نزل لهدايتهم وآمنوا به وهو التوراة.
وقوله تعالى: وَراءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن إعراضهم الشديد عنه، وتوليهم عن تعاليمه.
تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره، أى تولى عنه معرضا، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إليه، ففي هذه الجملة الكريمة تصوير صادق لإعراضهم عن كتاب الله- تعالى- حيث شبه- سبحانه- تركهم لكتابه، بحالة شيء يرمى به وراء الظهر استهانة به. وفي إضافة الوراء إلى الظهر، تأكيد لنبذ ما ترك بحيث لا يؤخذ بعد ذلك.
قال الأستاذ الإمام: ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله. وإنما المراد أنهم طرحوا أجزاء منه وهو ما يبشر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويبين صفاته ويأمرهم بالإيمان به واتباعه. فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره، بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره، وترك الجزء منه كتركه كله، لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحى من النفس، ويجزئ على ترك الباقي «1» ...
وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية، أى طرحوه وراء ظهورهم مشبهين بحال من لا يعلم منه شيئا، ومن لا يعرف أنه كتاب الله.
وشبههم بمن لا يعلمون مع أنهم في الواقع يعلمون أنه من عند الله- حق العلم- لأنهم نبذوه مكابرة وعنادا، ولأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم ومن كان هذا شأنه فهو والجاهل سواء، في جحود الحق والانغماس في الآثام.
وقال- سبحانه-: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ بنفي الحال والاستقبال للإشعار بأنهم قوم لا أمل في توبتهم وإنابتهم، بل هم تمر بهم الأيام، وتتوالى عليهم العظات، ومع ذلك لا يتوبون ولا يرجعون إلى الحق، فهم مستمرون على طرح كتاب الله في كل وقت وآن، ومصممون على ذلك.
وقال هاهنا : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) أي : اطرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم ، مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم ، أي : تركوها ، كأنهم لا يعلمون ما فيها ، وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه . ولهذا أرادوا كيدا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسحروه في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ، تحت راعوثة بئر ذي أروان . وكان الذي تولى ذلك منهم رجل ، يقال له : لبيد بن الأعصم ، لعنه الله ، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ، وشفاه منه وأنقذه ، كما ثبت ذلك مبسوطا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، كما سيأتي بيانه . قال السدي : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ) قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت ، فلم يوافق القرآن ، فذلك قوله : ( كأنهم لا يعلمون )
وقال قتادة في قوله : ( كأنهم لا يعلمون ) قال : إن القوم كانوا يعلمون ، ولكنهم نبذوا علمهم ، وكتموه وجحدوا به .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولما جاءهم)، أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل -(رسول)، يعني بالرسول: محمدا صلى الله عليه وسلم. كما:-
1643 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: (ولما جاءهم رسول)، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما قوله: (مصدق لما معهم)، فإنه يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة والتوراة تصدقه، في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه.
* * *
وأما تأويل قوله: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم)، فإنه للذي هو مع اليهود, وهو التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لله,(نبذ فريق), يعني بذلك: أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: (من الذين أوتوا الكتاب). وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: (كتاب الله)، التوراة.
وقوله: (وراء ظهورهم)، (85) جعلوه وراء ظهورهم. وهذا مثل, يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال: " قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره ", يعني به: أعرض عنه وصد وانصرف، كما:-
1644 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم)، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها, فاتفقت التوراة والقرآن, فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. (86) فذلك قوله الله: (كأنهم لا يعلمون).
* * *
ومعنى قوله: (كأنهم لا يعلمون)، كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود - فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه - لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه. وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة, وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم، كما:-
1645 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب)، يقول: نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب " كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون): أي أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا.
* * *
---------------------------
الهوامش :
(85) في المطبوعة : "وقوله نبذوه وراء ظهورهم" ، فحذفت"نبذوه" ، لأن الطبري ساق الآية بتمامها ، وهذا لفظ مقحم فيها .
(86) في تفسير ابن كثير 1 : 247 زيادة ، بعد قوله : "وماروت ، فلم يوافق القرآن ، فذلك قول الله" . وآصف : كان كاتب سليمان . وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان . ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا (ابن كثير 1 : 248) .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 89 | ﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ |
---|
البقرة: 101 | ﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء