ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
نقضُ بني إسرائيلَ للميثاقِ، وكانَ سفكُ الدماءِ وطردُ بعضِهم بعضًا من ديارِهم ظاهرةً شائعةً فيهم، وإذا أُسِرَ بعضُهم فَدَوْهم بالمالِ، وكانوا إذا سُئِلُوا: لِمَ تقاتلونهم وتفدونهم؟! قالوا: أُمِرنا- أي في التوراةِ- بالفداءِ، =
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ هنا كثرةَ أنبياءِ بني إسرائيلَ، ولكنَّهم استَكبَرُوا على أنبيائِهم، ففرِيقًا كَذَّبُوا وفريقًا قتلُوا (كما حدثَ مع يحيى عليه السلام)، =
التفسير :
تفسير الأيات من 84:86 وهذا الفعل المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة. فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا. والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين, فأنكر الله عليهم ذلك فقال:{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} وهو فداء الأسير{ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو القتل والإخراج. وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان، قال تعالى:{ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقد وقع ذلك فأخزاهم الله, وسلط رسوله عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى منهم, وأجلى من أجلى.{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} أي:أعظمه{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب, والإيمان ببعضه فقال:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار, فاختاروا النار على العار، فلهذا قال:{ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} بل هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات،{ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي:يدفع عنهم مكروه.
بعد أن بين- سبحانه- في الآية السابقة أن الله- تعالى- قد أخذ على بنى إسرائيل عهدا بأن يعبدوه ويؤدوا فرائض الله، إلا أنهم نقضوا هذا العهد وتولوا عنه سوى قليل منهم بعد ذلك بين في هذه الآيات الكريمة أنه- سبحانه- أخذ عليهم عهدا آخر ولكنهم نقضوه كما هو دأبهم.
وملخص هذا العهد الذي ذكرته الآيات الكريمة، أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق ألا يقتل بعضهم بعضا، وألا يخرج بعضهم بعضا من داره، وأنهم إذا وجدوا أسيرا منهم في يد غيرهم فإن عليهم أن يبذلوا أموالهم لفدائه من الأسر، وتخليصه من أيدى أعدائهم، ثم لما نشبت الحرب بين قبيلتي الأوس والخزرج، انضمت قبيلة بنى قريظة إلى الأوس، وانضمت قبيلة بنى قينقاع وبنى النضير إلى الخزرج، وصارت كل طائفة من طوائف اليهود تقاتل بجانب أبناء ملتهم المنضمين إلى حلفائهم الآخرين فإذا وضعت الحرب أوزارها، بذل جميع اليهود أموالهم لتخليص الأسرى من أعدائهم كما أمرهم- تعالى- وبهذا يكونون قد آمنوا ببعض الكتاب وهو بذل الفداء لتخليص الأسرى، وكفروا ببعضه وهو تحريم سفك دماء إخوانهم وإخراجهم من ديارهم، ويحكى التاريخ أن العرب كانوا يعيرونهم فيقولون لهم: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم؟ فكان اليهود يقولون: قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفتدى أسرانا.
وقد توعدهم- سبحانه- بالخزي في الدنيا والآخرة، جزاء نقضهم لعهوده، وتفريقهم بين أحكامه.
والمعنى الإجمالى للآيات الكريمة: واذكروا- أيضا- يا بنى إسرائيل وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأوصيناكم فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل، وبألا يخرج بعضكم بعضا من مساكنهم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد، والالتزام بما جاء فيه، ثم أنتم هؤلاء- يا معشر اليهود- بعد إقراركم بالميثاق، وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه، خرجتم على تعاليم التوراة، فنقضتم عهودكم، وأراق بعضكم دماء بعض، وأخرجتم إخوانكم في الملة والدم من ديارهم ظلما وعدوانا، وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم في الأسر فاديتموهم، فلم لم تتبعوا حكم التوراة في النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم؟ وكيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدى عدوهم؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله جزاء فاعله الهوان في الدنيا.
والعذاب الدائم في الأخرى، وما الله بغافل عما تعملون. ولا شك أن أولئك اليهود الذين نقضوا عهودهم، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، قد باعوا دينهم بدنياهم، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ معناه: اذكروا حين أخذنا العهد عليكم يا بنى إسرائيل ألا يسفك أحد منكم دم غيره، وألا يخرجه من دياره. على حد قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أى فليسلّم بعضكم على بعض.
وفائدة هذا التعبير، التنبيه إلى أن الأمة المتواصلة بالدين، يجب أن يكون شعورها بالوحدة قويا وعميقا، بحيث يكون قتل الرجل لغيره قتلا لنفسه، وإخراجه له من داره إخراجا لها.
قال صاحب المنار: (وقد أورد- سبحانه- النهى عن سفك بعضهم دم بعض، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم، بعبارة تؤكد وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا، يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثر فقال تعالى:
لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده، وقال تعالى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على هذا النسق، وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن الكريم».
وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ تسجيل عليهم بأنهم قد قبلوا العمل بالميثاق والتزموا به، إذ المعنى: ثم اعترفتم بهذا الميثاق- أيها اليهود- ولم تنكروه، فكان من الواجب عليكم أن تفوا به، فماذا كان موقفهم بعد هذا الإقرار والإشهاد؟.
يقول ، تبارك وتعالى ، منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانوا في الجاهلية عباد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع . وبنو النضير حلفاء الخزرج . وبنو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ، فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر ، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه ، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب ، عملا بحكم التوراة ; ولهذا قال تعالى : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ولهذا قال تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، ولا يخرجه من منزله ، ولا يظاهر عليه ، كما قال تعالى : ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ) [ البقرة : 54 ]
وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .
[ وقوله ] ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) أي : ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
قال أبو جعفر: قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) في المعنى والإعراب نظير قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ .
* * *
&; 2-300 &;
وأما " سفك الدم ", فإنه صبه وإراقته.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها, فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت, ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا. فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه, إذ كانت ملتهما[واحدة، فهما] بمنـزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام: (1)
1463 -" إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنـزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ". (2)
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم)، أي: لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم, فيقاد به قصاصا, فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه. كما يقال للرجل يركب فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة: " أنت جنيت هذا على نفسك ".
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1464 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)، أي: لا يقتل بعضكم بعضا,(ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)، ونفسُك يا ابن آدم أهل ملتك.
&; 2-301 &;
1465 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)، يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار.
1466 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة في قوله: (لا تسفكون دماءكم)، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ثم أقررتم)، بالميثاق الذي أخذنا عليكم: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، كما:-
1467 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: (ثم أقررتم)، يقول: أقررتم بهذا الميثاق.
1468 - وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله: (وأنتم تشهدون). فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها, فقال الله تعالى لهم: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ، &; 2-302 &; يعني بذلك، إقرار أوائلكم وسلفكم، (وأنتم تشهدون) على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم, بأن لا يسفكوا دماءهم, ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم, وتصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم. وممن حُكي معنى هذا القول عنه، ابنُ عباس.
1469 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أن هذا حق من ميثاقي عليكم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم, ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مُخرج المخاطبة، على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها، التي قد بينا تأويلها فيما مضى. (3)
* * *
وتأولوا قوله: (وأنتم تشهدون)، على معنى: وأنتم شهود.
* ذكر من قال ذلك:
1470 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قوله: (وأنتم تشهدون)، يقول: وأنتم شهود.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي: أن يكون قوله: (وأنتم تشهدون) خبرا عن أسلافهم, وداخلا فيه المخاطبون منهم، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما كان قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ خبرا عن أسلافهم، وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4) لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل - على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه - فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة، مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم &; 2-303 &; ذلك الميثاق, وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود، (5) بقوله: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون). فإذْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم, (6) فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده, وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة. لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) - وما أشبه ذلك من الآي - بعضهم دون بعض. والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذْ كان ذلك كذلك، (7) فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التي بعدها, أعني قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ الآية. لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
----------
الهوامش :
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وإلا فسد الكلام .
(2) الحديث : 1463 - هكذا رواه الطبري معلقا . والظاهر أنه رواه بالمعنى أيضًا . ولفظه في صحيح مسلم 2 : 284 ، من حديث النعمان بن بشير : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" . وكذلك رواه أحمد في المسند (4 : 270 حلبي) . ورواه البخاري بنحو معناه 10 : 367 (من الفتح) .
(3) انظر ما سلف : 2 : 298 ، تعليق : 2 ، والمراجع .
(4) في المطبوعة : "بأن كان خطابا . . " ، وهو لا يستقيم .
(5) سياق العبارة : "وتكذيبهم ما وكدوا من العهود على أنفسهم بالوفاء له . . " ، فقدم وأخر .
(6) في المطبوعة : "فإن كان خارجا . . " وهو تصحيف لا يستقيم .
(7) في المطبوعة : "فإن كان ذلك كذلك" ، وهو تصحيف لا يستقيم أيضًا .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 63 | ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ |
---|
البقرة: 84 | ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ |
---|
البقرة: 93 | ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لا تسفكون:
قرئ:
1- بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء، وهى قراءة الجمهور.
2- بفتح التاء وسكون السين وضم الفاء، وهى قراءة طلحة بن مصرف، وشبيب بن حمزة.
3- بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة، وهى قراءة أبى نهيك، وأبى مجاز.
4- بضم التاء وإسكان السين وكسر الفاء المخففة، وهى قراءة ابن أبى إسحاق.
التفسير :
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة. فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا. والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين, فأنكر الله عليهم ذلك فقال:{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} وهو فداء الأسير{ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو القتل والإخراج. وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان، قال تعالى:{ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقد وقع ذلك فأخزاهم الله, وسلط رسوله عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى منهم, وأجلى من أجلى.{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} أي:أعظمه{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب, والإيمان ببعضه فقال:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار, فاختاروا النار على العار، فلهذا قال:{ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} بل هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات،{ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي:يدفع عنهم مكروه
لقد بين القرآن الكريم بعد ذلك أنهم نقضوا عهودهم، وارتكبوا ما نهوا عن ارتكابه، فقال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ.. أى: ثم أنتم- يا معشر اليهود- بعد اعترافكم بالميثاق، والتزامكم به، نقضتم عهودكم، وارتكبتم في حق إخوانكم ما نهيتم عنه، من القتل والإخراج، وفعلتم ما لا يليق بالعقلاء، ومن يحترم المواثيق.
ولما كان قتل بعضهم لبعض، وإخراجهم من أماكنهم يحتاج إلى قوة وغلبة، بين- سبحانه- أنهم يرتكبون ذلك وهم متعاونون عليه بالشرور ومجاوزة الحدود، فقال تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ تظاهرون: من التظاهر وهو التعاون، وأصله من الظهر، كأن المتعاونين يسند كل واحد منهم ظهره إلى الآخر. والمعنى: تتعاونون على قتل إخوانكم وإخراجهم من ديارهم مع من ليسوا من أقاربكم وليسوا من دينكم، وأنتم مرتكبون ذلك الإثم والعدوان.
وقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ بيان لتناقضهم وتفريقهم لأحكام الله تعالى.
وأسارى: جمع أسير بمعنى مأسور، وهو من يؤخذ على سبيل القهر فيشد بالإسار وهو القد- بكسر القاف-، والقد: سير يقد من جلد غير مدبوغ. وتفادوهم: تنقذوهم من الأسر بالفداء، يقال: فاداه وفداه: أعطى فداءه فأنقذه.
أى: أنتم- يا معشر اليهود- إن وجدتم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم أسرى تسعون في فكاكهم، وتبذلون عرضا لإطلاقهم، والشأن أن قتلهم وإخراجهم محرم عليكم كتركهم أسرى في أيدى أعدائكم، فلماذا لم تتبعوا حكم التوراة في النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم؟
وصدرت الجملة الكريمة «وهو محرم عليكم إخراجهم» بضمير الشأن للاهتمام بها. والعناية بشأنها، وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم، وليس خافيا عليهم.
وقوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ توبيخ وتقريع لهم على تفريقهم بين أحكام الله.
والمعنى: أفتتبعون أحكام كتابكم في فداء الأسرى، ولا تتبعونها في نهيكم عن قتال إخوانكم وإخراجهم من ديارهم؟ فالاستفهام للإنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكامه- تعالى- بالإيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر.
وبعض الكتاب الذي آمنوا به هو ما حرم عليهم من ترك الأسرى في أيدى عدوهم، وبعضه الذي كفروا به ما حرم عليهم من القتل والإخراج من الديار، فالإنكار منصب على جمعهم بين الكفر والإيمان.
قال فضيلة المرحوم للشيخ محمد الخضر حسين: «وإنما سمى- سبحانه- عصيانهم بالقتل والإخراج من الديار كفرا لأن من عصى أمر الله- تعالى- بحكم عملي معتقدا أن الحكمة والصلاح فيما فعله، بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب. فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين، وفي الآية الكريمة دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه، يدخل في زمرة الكافرين لأن الإيمان كل لا يتجزأ» .
ثم بين- سبحانه- العقاب الدنيوي والأخروى الذي استحقه أولئك المفرقون لأحكامه فقال تعالى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ اسم الإشارة (ذلك) مشار به إلى القتل والإخراج من الديار، اللذين نقضوا بهما عهد الله بغيا وكفرا والخزي في الدنيا هو الهوان والمقت والعقوبة ومن مظاهره: ما لحق اليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء بنى قينقاع والنضير عن ديارهم، وقتل بنى قريظة وفتح خيبر، وما لحقهم بعد ذلك من هوان وصغار، وتلك سنة الله في كل أمة لا تتمسك بدينها ولا تربط شئونها بأحكام شريعتها وآدابها.
ولما كان البعض قد يتوهم أن خزيهم في الدنيا قد يكون سببا في تخفيف العذاب عنهم في الأخرى، نفى- سبحانه- هذا التوهم، وبين أنهم يوم القيامة سيصيرون إلى ما هو أشد منه.
لأن الله- تعالى- ليس ساهيا عن أعمالهم حتى يترك مجازاتهم عليها.
فالمراد من نفى الغفلة نفى ما يتسبب عنها من ترك المجازاة لهم على شرورهم.
وفي ذلك دليل على أن الله- تعالى- يعاقب الحائدين عن طريقه المستقيم، بعقوبات في الدنيا، وفي الآخرة، جزاء طغيانهم، وإصرارهم على السيئات.
( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ) قال محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) الآية ، قال : أنبهم الله من فعلهم ، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع وإنهم حلفاء الخزرج ، والنضير ، وقريظة وإنهم حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم . والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا نارا ، ولا بعثا ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حلالا ولا حراما ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم ، تصديقا لما في التوراة ، وأخذا به ; بعضهم من بعض ، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لأهل الشرك عليهم . يقول الله تعالى ذكره حيث أنبهم بذلك : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) أي : يفاديه بحكم التوراة ويقتله ، وفي حكم التوراة ألا يفعل ، ولا يخرج من داره ، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ، ابتغاء عرض الدنيا . ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة .
وقال أسباط عن السدي : كانت قريظة حلفاء الأوس ، وكانت النضير حلفاء الخزرج ، فكانوا يقتتلون في حرب سمير ، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءهم ، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ، ويغلبونهم ، فيخربون ديارهم ، ويخرجونهم منها ، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما ، جمعوا له حتى يفدوه . فتعيرهم العرب بذلك ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم ، قالوا : فلم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا . فذلك حين عيرهم الله ، فقال : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم )
وقال شعبة ، عن السدي : نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان )
وقال أسباط ، عن السدي ، عن عبد خير ، قال : غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة ، فلما مر برأس الجالوت نزل به ، فقال له عبد الله : يا رأس الجالوت ، هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك ، تشتريها مني ؟ قال : نعم . قال : أخذتها بسبعمائة درهم . قال : فإني أربحك سبعمائة أخرى . قال : فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف . قال : لا حاجة لي فيها ، قال : والله لتشترينها مني ، أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه . قال : ادن مني ، فدنا منه ، فقرأ في أذنه التي في التوراة : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ) قال : أنت عبد الله بن سلام ؟ قال : نعم . قال : فجاء بأربعة آلاف ، فأخذ عبد الله ألفين ، ورد عليه ألفين .
وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره : حدثنا أبو جعفر يعني الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس ، أخبرنا أبو العالية : أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليها العرب ، ولا يفادي من وقع عليها العرب ، فقال عبد الله بن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن .
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة ، وهذا السياق ، ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ، ومخالفة شرعها ، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة ، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ، ومبعثه ومخرجه ، ومهاجره ، وغير ذلك من شئونه ، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله . واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم ، ولهذا قال تعالى ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) أي : بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره ( ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) جزاء على ما كتموه من كتاب الله الذي بأيديهم ( وما الله بغافل عما تعملون)
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
قال أبو جعفر: ويتجه في قوله: (ثم أنتم هؤلاء) وجهان. أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء, فترك " يا " استغناء بدلالة الكلام عليه, كما قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [ يوسف: 29]، وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم &; 2-304 &; من دياركم, ثم أقررتم = بعد شهادتكم على أنفسكم = (8) بأن ذلك حق لي عليكم، لازم لكم الوفاء لي به - تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، متعاونين عليهم، في إخراجكم إياهم، بالإثم والعدوان. (9)
* * *
والتعاون هو " التظاهر ". وإنما قيل للتعاون " التظاهر ", (10) لتقوية بعضهم ظهر بعض. فهو " تفاعل " من " الظهر ", وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض.
* * *
والوجه الآخر: أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم. فيرجع إلى الخبر عن " أنتم ". وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم " بهؤلاء ", كما تقول العرب: " أنا ذا أقوم, وأنا هذا أجلس ", (11) وإذْ قيل: " أنا هذا أجلس " كان صحيحا جائزا كذلك: أنت ذاك تقوم ".
وقد زعم بعض البصريين أن قوله " هؤلاء " في قوله: (ثم أنتم هؤلاء)، تنبيه وتوكيد لـ " أنتم ". وزعم أن " أنتم " وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين, فإنما جاز أن يؤكدوا بـ " هؤلاء " و " أولاء ", (12) لأنها كناية عن المخاطبين, كما قال خفاف بن ندبة:
أقـول لـه والـرمح يَـأطر متنـه :
تبيــن خُفافــا إننــي أنـا ذلكـا (13)
يريد: أنا هذا، وكما قال جل ثناؤه: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ &; 2-305 &; بِهِمْ [ يونس: 22]
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية، نحو اختلافهم فيمن عَني بقوله: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ .
* ذكر اختلاف المختلفين في ذلك:
1471 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) إلى أهل الشرك، (14) حتى تسفكوا دماءهم معهم, وتخرجوهم من ديارهم معهم. (15) قال: أنبهم الله [على ذلك] من فعلهم, (16) وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم, وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج, وخرجت النضير وقريظة مع الأوس, يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، (17) لا يعرفون جنة ولا نارا, ولا بعثا ولا قيامة, ولا كتابا, ولا حراما ولا حلالا فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم, تصديقا لما في التوراة، وأخذا به، بعضهم من بعض. يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس, &; 2-306 &; وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم, ويطلون ما أصابوا من الدماء، (18) وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، (19) مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره، حين أنبهم بذلك: (20) أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه - وفي حكم التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره، (21) ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه - ابتغاء عرض من عرض الدنيا.
ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نـزلت هذه القصة. (22)
1472 - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قال: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة: أن لا يقتل بعضهم بعضا, وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه، فأعتقوه. (23) فكانت قريظة حلفاء الأوس, والنضير حلفاء الخزرج, فكانوا يقتتلون في حرب سُمير. (24) فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها، النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم, فيخربون بيوتهم، ويخرجونهم منها. فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى &; 2-307 &; يفدوه, فتعيرهم العرب بذلك, ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا. فذلك حين عيرهم جل وعز فقال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان).
1473 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين, وكانوا بهذه المثابة, (25) وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا, وافترقت قريظة والنضير, فكانت النضير مع الخزرج, وكانت قريظة مع الأوس، فاقتتلوا. وكان بعضهم يقتل بعضا, فقال الله جل ثناؤه: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) الآية.
* * *
وقال آخرون بما:-
1474 - حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما " العدوان " فهو " الفعلان " من " التعدي", يقال منه: " عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا, واعتدى يعتدي اعتداء ", وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا.
* * *
وقد اختلف الْقَرَأَة في قراءة: (تظاهرون) . (26) فقرأها بعضهم: " تظاهرون " على مثال " تفاعلون " فحذف التاء الزائدة وهي التاء الآخرة. وقرأها آخرون: &; 2-308 &; (تظَّاهرون), فشدد، بتأويل: (تتظاهرون), غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء، لتقارب مخرجيهما، فصيروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان، وإن اختلفت ألفاظهما، فإنهما متفقتا المعنى. فسواء بأي ذلك قرأ القارئ، لأنهما جميعا لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى، إلا أن يختار مختار " تظاهرون " المشددة طلبا منه تتمة الكلمة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم) اليهود. يوبخهم بذلك, ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها، فقال لهم: ثم أنتم - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: أن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم - تقتلون أنفسكم = يعني به: يقتل بعضكم بعضا = وأنتم، مع قتلكم من تقتلون منكم، إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم، تفدونه، (27) ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم، حرام عليكم، وتركهم أسرى في أيدي عدوكم [حرام عليكم], (28) فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم، وتستجيزون قتلهم؟ وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم - سواء. (29) لأن الذي حرمت عليكم &; 2-309 &; من قتلهم وإخراجهم من دورهم، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب - الذي فرضت عليكم فيه فرائضي، وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي - فتصدقون به, فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم; وتكفرون ببعضه، فتجحدونه، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم, وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما:-
1475 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تَفْدُوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، [أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين، وتكفرون ببعض قاتلين ومخرجين]؟ (30) والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم لكفر. فكانوا يخرجونهم من ديارهم, وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم أفتكوهم.
1476 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة, عن ابن عباس: (وإن يأتوكم أسارى تَفْدوهم)، قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم,(وهو محرم عليكم) في كتابكم (إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، أتفادونهم مؤمنين بذلك, وتخرجونهم كفرا بذلك.
1477 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك؟
&; 2-310 &;
1478 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر قال، قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، فكان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا.
1479 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ الآية, قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم, وقد أخذ عليهم الميثاق: أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم, وأخذ عليهم الميثاق: إن أسر بعضهم أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. آمنوا بالفداء ففدوا, وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا.
1480 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، حدثنا الربيع بن أنس قال، أخبرني أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب, فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك: أن فادوهن كلهن.
1481 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، قال: كفرهم القتل والإخراج, وإيمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم، وأما إذا أسروا تفدونهم؟ (31) وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل: إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف الْقَرَأَة (32) في قراءة قوله: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم). &; 2-311 &; فقرأه بعضهم: (أسرى تَفْدوهم), وبعضهم: (أُسارى تُفادوهم), وبعضهم (أُسارى تَفدوهم), وبعضهم: (أسرى تفادوهم).
* * *
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: (وإن يأتوكم أسرى), فإنه أراد جمع " الأسير ", إذ كان على " فعيل "، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير " فعيل ", إذ كان " الأسر " شبيه المعنى - في الأذى والمكروه الداخل على الأسير - ببعض معاني العاهات، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا, فقيل: أسير وأسرى ", كما قيل: " مريض ومرضى، وكسير وكَسرى, وجريح وجرحى ".
* * *
وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: (أُسارى)، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع " فَعلان "، إذ كان جمع " فَعلان " الذي له " فَعلى " قد يشارك جمع " فعيل " كما قالوا: " سَكارى وسَكرى، وكَسالى وكَسلى "، فشبهوا " أسيرا " - وجمعوه مرة " أسارى "، وأخرى " أسرى " - بذلك .
* * *
وكان بعضهم يزعم أن معنى " الأسرى " مخالف معنى " الأسارى ", ويزعم أن معنى " الأسرى " استئسار القوم بغير أسر من المستأسِر لهم, وأن معنى " الأسارى " معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة.
قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب. ولكن ذلك على ما وصفت من جمع " الأسير " مرة على " فَعلى " لما بينت من العلة, ومرة على " فُعالى "، لما ذكرت: من تشبيههم جمعه بجمع " سكران وكسلان " وما أشبه ذلك.
* * *
وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ (وإن يأتوكم أسرى)، لأن " فعالى " في جمع " فعيل " غير مستفيض في كلام العرب، فإذ كان ذلك غير مستفيض في كلامهم, وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات - التي بمعنى &; 2-312 &; الآلام والزمانة - وواحده على تقدير " فعيل "، على " فعلى "، كالذي وصفنا قبل, وكان أحد ذلك " الأسير "، كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها.
* * *
وأما من قرأ: (تفادوهم)، فإنه أراد: أنكم تفدونهم من أسرهم, ويفدي منكم - الذين أسروهم ففادوكم بهم - أسراكم منهم.
* * *
وأما من قرأ ذلك (تفدوهم)، فإنه أراد: إنكم يا معشر اليهود، إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم.
وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى - أعني: (أسرى تفادوهم) - (33) لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال، فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم.
* * *
وأما قوله: (وهو محرم عليكم إخراجهم)، فإن في قوله: (وهو) وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره. كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم, وإخراجهم محرم عليكم. ثم كرر " الإخراج " الذي بعد " وهو محرم عليكم " تكريرا على " هو ", لما حال بين " الإخراج " و " هو " كلام.
والتأويل الثاني: أن يكون عمادا، لمّا كانت " الواو " التي مع " هو " تقتضي اسما يليها دون الفعل. (34) فلما قدم الفعل قبل الاسم - الذي تقتضيه " الواو " أن يليها - أُولِيَتْ " هو "، لأنه اسم, كما تقول: " أتيتك وهو قائم أبوك ", بمعنى: " وأبوك قائم ", إذ كانت " الواو " تقتضي اسما، فعمدت بـ " هو ", إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام. (35) كما قال الشاعر:
&; 2-313 &; فــأبلغ أبــا يحـيى إذا مـا لقيتـه
عـلى العيس فـي آباطهـا عَرَق يَبْسُ (36)
بـــأن السُّلامِيَّ الــذي بِضَــرِيَّة
أمـيرَ الحـمى, قد باع حَقِّي بني عبسِ (37)
بثــوب ودينــار وشــاة ودرهـم
فهـل هـو مرفـوع بمـا ههنـا رَأْسُ (38)
فأوليت " هل "" هو " لطلبها الاسم العماد. (39)
* * *
&; 2-314 &;
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم): فليس لمن قتل منكم قتيلا = فكفر بقتله إياه، بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة - وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنـزله إلى موسى = جزاء - يعني" بالجزاء ": الثواب، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه - (40) إلا خزي في الحياة الدنيا. و " الخزي": الذل والصغار, يقال منه: " خزي الرجل يخزى خزيا "، (في الحياة الدنيا)، يعني: في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
* * *
ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنـزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من أخذ القاتل بمن قتل، والقود به قصاصا, والانتقام للمظلوم من الظالم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك، هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم، ذلة لهم وصغارا.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا: إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير من ديارهم لأول الحشر, وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم، فكان ذلك خزيا في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
&; 2-315 &;
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب): ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم - بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله - إلى أشد العذاب الذي أعد الله لأعدائه.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: ويوم القيامة يردون إلى أشد من عذاب الدنيا. (41)
ولا معنى لقول قائل ذلك. (42) ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب، ولذلك أدخل فيه " الألف واللام ", لأنه عنى به جنس العذاب كله، دون نوع منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
قال أبو جعفر: اختلف الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وما الله بغافل عما يعملون) بـ " الياء "، على وجه الإخبار عنهم, فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون)، يعني: عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا, ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب.
* * *
وقرأه آخرون: (وما الله بغافل عما تعملون) بـ " التاء " على وجه المخاطبة. &; 2-316 &; قال: فكأنهم نحوا بقراءتهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ . وما الله بغافل، يا معشر اليهود، عما تعملون أنتم.
* * *
وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأ بـ " الياء "، اتباعا لقوله: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ ، ولقوله: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ . لأن قوله: (وما الله بغافل عما يعملون) إلى ذلك، أقرب منه إلى قوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، فاتباعه الأقرب إليه، أولى من إلحاقه بالأبعد منه. والوجه الآخر غير بعيد من الصواب.
* * *
وتأويل قوله: " وما الله بغافل عما يعملون " ، (43) وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة, بل هو محص لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الآخرة، ويخزيهم في الدنيا، فيذلهم ويفضحهم. (44)
-----------------
الهوامش :
(8) في المطبوعة : "ثم أقررتم وبعد شهادتكم . . " والواو لا مكان لها هنا .
(9) في المطبوعة"متعاونين عليه في إخراجكم . . " ، وهذا سهو .
(10) في المطبوعة : " وإنما قيل التعاون التظاهر . . " وهذا لا شيء .
(11) في المطبوعة : "ولوقيل . أنا هذا أجلس" . والصواب ما أثبت .
(12) في المطبوعة : "وأولى" ، وهو خطأ . ويعني قوله تعالى في سورة آل عمران : 119 : "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم" ، وقوله تعالى في سورة طه : 84 : " قال هم أولاء على أثرى" .
(13) مضى تخريجه فيما سلف 1 : 227 .
(14) في تفسير ابن كثير 1 : 223 ، والدر المنثور 1 : 86 : "أي أهل الشرك" ، والصواب ما في الطبري ، وقوله : "إلى أهل الشرك" ، أي تخرجون فريقا منكم - إلى أهل الشرك .
(15) في المطبوعة : "فقال أنبهم" ، والأجود حذفها .
(16) ما بين القوسين زيادة لا بد منها . وأما ابن كثير في تفسيره 1 : 223 فكتب : "أنبأهم الله بذلك من فعلهم" ، وهو تحريف .
(17) في المطبوعة : "أهل الشرك" ، والصواب في سيرة ابن هشام 2 : 188 ، وابن كثير 1 : 224 .
(18) طل دمه وأطله : أهدره وأبطله .
(19) في المطبوعة : "وقتلوا من قتلوا . . " ، والصواب من ابن هشام 2 : 189 .
(20) في المطبوعة : "أنباهم بذلك" ، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام 2 : 189 ، وسترى ذلك في تفسير الآية نفسها بعد .
(21) في المطبوعة : "من ذلك" ، وهو محض خطأ .
(22) هذه الجملة الأخيرة من كلام ابن إسحاق ، لا من كلام ابن عباس .
(23) في المطبوعة : "بما قدم يمينه فأعتقوه" . وهو كلام من السقم بمكان . يقال : قامت الأمة مئة دينار ، أي بلغت قيمتها مئة دينار . ويقال : كم قامت أمتك؟ أي كم بلغت؟ ووجدتها في تفسير البغوي على الصواب : "بما قام من ثمنه" 1 : 224 (بهامش تفسير ابن كثير) .
(24) حرب سُمير . كانت في الجاهلية بين الأوس والخزرج . وسُمير رجل من بني عمرو بن عوف . وانظر خبر هذه الحرب في الأغاني 3 : 18 : 26 .
(25) المثابة : يعني المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمثابة المنزل ، لأن أهله يتصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه ، يرجعون إليه . وقال الله تعالى : "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا"
(26) في المطبوعة : "وقد اختلف القراء" ، ورددتها إلى منهج الطبري .
(27) في المطبوعة : "تفدوهم" ، خطأ .
(28) الزيادة بين القوسين لا معدى عنها لاستقامة الكلام .
(29) في المطبوعة : "وهم جميعا" ، والصواب ما أثبت .
(30) كان في المطبوعة : " . . وتكفرون ببعض فادين والله إن فداء لإيمان" ، وهو كلام مضطرب فزدت ما بين القوسين استظهارا ، حتى يستقيم الكلام .
(31) في المطبوعة : "تفدوهم" ، خطأ .
(32) في المطبوعة : "واختلف القراء" ، ورددته إلى نهج أبي جعفر .
(33) في المطبوعة : "أسرى تفدوهم" ، وهو غير الصواب ، فيما اختاره أبو جعفر من القراءة .
(34) العماد ، هو ما اصطلح عليه البصريون بقولهم : "ضمير الفصل" ، ويسمى أيضًا : "دعامة" ، "صفة" . وأراد بقوله : "الفعل" هنا : المشتق الذي يعمل فيما بعده عمل الفعل . وسيتبين مراده في العبارات الآتية .
(35) قد استوفى هذا كله الفراء في معاني القرآن 1 : 50 - 52 .
(36) سيأتي الشطر الثاني من البيت الأخير في 11: 34، 17: 73 ولم أجد الشعر في غير معاني القرآن للفراء 1: 52، ولم أعرف قائله. والعيس: إبل بيض يخالطها شقرة يسيرة، وهي من كرائم الإبل. ويبس يابس. قد يبس العرق في آباطها من طول الرحلة.
(37) السلامي : يعني رجلا كان - فيما أرجح - مصدقا وعاملا على الزكاة ، وأميرا على حمى ضرية ، ولست أعرف نسبته ، أهي قبيلة أم إلى بلد . وحمى ضرية : في نجد ، على طريق البصرة إلى مكة ، وهي إلى مكة أقرب ، وهي أرض طيبة مذكورة في شعرهم . وفي البيت إقواء .
(38) سيأتي الشطر الثاني بعد قليل : 374 قوله : "بثوب" ، متعلق بقوله آنفًا "باع" . يقول : أخذ هذه الرشى التي عددها من بني عبس ، فأسلم إليهم حقي . وقوله : "فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس" يقوله لأبي يحيى الذي ذكره ، ويقول : فهل نجد ناصرا ينصرنا وياخذ لناحقنا ، فنرفع رؤوسنا بعد ما نزل بنا من الضيم . وهذه كلمة يقولونها في مثل ذلك . قال الراعي (طبقات فحول الشعراء : 442) :
فــإن رفعـت بهـم رأسـا نَعَشْـتُهم
وإن لَقُـوا مثلهـا فـي قـابل فسـدوا
وقال أعرابي :
فتـى مثـل ضوء الشمس, ليس بباخل
بخــير, ولا مهــد ملامـا لبـاخل
ولا نــاطق عـوراء تـؤذى جليسـه
ولا رافــع رأســا بعـوراء قـائل
وجاءت هذه الكلمة في (باب فضل من علم وعلم) من حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (البخاري 1 : 23) : "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" .
(39) في المطبوعة : "فأوليت هل لطلبها" ، وزيادة"هو" لا بد منها .
(40) انظر ما سلف 2 : 27 - 28 من هذا الجزء .
(41) في المطبوعة : "إلى أشد العذاب من عذاب الدنيا" ، والصواب حذف"العذاب" .
(42) في المطبوعة : "ولا معنىلقول ذلك بأن . . " والصواب زيادة"ذلك" .
(43) في المطبوعة : "وتأويل قوله : وما الله بساه" ، لم يذكر الآية ، والصواب إثباتها .
(44) مضى تفسير معنى"الغفلة" فيما سلف من هذا الجزء 2 : 244
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 74 | ﴿وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 85 | ﴿وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 140 | ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 149 | ﴿وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ وَإِنَّهُۥ لَلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
آل عمران: 99 | ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 144 | ﴿وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
تظاهرون:
قرئ:
1- بتخفيف الطاء، وهى قراءة عاصم، وحمزة، والكسائي، وأصله: تتظاهرون.
2- بتشديد الظاء، أي بإدغام الظاء فى التاء، وهى قراءة باقى السبعة.
3- تظاهرون، بضم التاء وكسر الهاء، وهى قراءة أبى حيوة.
4- تظهرون، بفتح التاء، والظاء والهاء مشدّدين، دون ألف، وهى قراءة مجاهد، وقتادة.
5- تتظاهرون، على الأصل.
يردون:
قرئ:
1- يردون، بالياء، وهى قراءة الجمهور.
2- تردون، بالتاء، وهو مناسب لقوله «أفتؤمنون» .
تعملون:
قرئ:
1- يعملون، بالياء، وهى قراءة نافع، وابن كثير، وأبى بكر.
2- تعملون، بالتاء، وهى قراءة الباقين.
التفسير :
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة. فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا. والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين, فأنكر الله عليهم ذلك فقال:{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} وهو فداء الأسير{ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو القتل والإخراج. وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان، قال تعالى:{ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقد وقع ذلك فأخزاهم الله, وسلط رسوله عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى منهم, وأجلى من أجلى.{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} أي:أعظمه{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب, والإيمان ببعضه فقال:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار, فاختاروا النار على العار، فلهذا قال:{ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} بل هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات،{ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي:يدفع عنهم مكروه
ثم أكد- سبحانه- هذا الوعيد الشديد وبين علته فقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
والمعنى: أولئك اليهود الذين فرقوا أحكام الله، وباعوا دينهم بدنياهم، وآثروا متاع الدنيا على نعيم الآخرة قد استحقوا غضب الله فلا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، ولا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود بنقضهم للعهد، وإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين.
ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم، فقال تعالى:
"أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة" أي : استحبوها على الآخرة واختاروها ( فلا يخفف عنهم العذاب ) أي : لا يفتر عنهم ساعة واحدة ( ولا هم ينصرون )
أي : وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ، ولا يجيرهم منه .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أسراهم من اليهود, ويكفرون ببعض, فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم, ويخرجون من داره من حرم الله عليهم إخراجه من داره, نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء [هم] الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم, (45) وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها بالإيمان، الذي كان يكون لهم به في الآخرة - لو كانوا أتوا به مكان الكفر - الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه &; 2-317 &; بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها، عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين. فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله، ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا، (46) كما:-
1482 - حدثنا بشر، حدثنا يزيد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة)، استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة. (47)
* * *
قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذْ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة - بتركهم طاعته, وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه - لا حظ لهم في نعيم الآخرة, وأن الذي لهم في الآخرة العذاب، غير مخفف عنهم فيها العذاب. لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب، هو الذي له حظ في نعيمها, ولا حظ لهؤلاء، لاشترائهم - بالذي كان في الدنيا - دنياهم بآخرتهم. (48)
* * *
وأما قوله: (ولا هم ينصرون) فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد، فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله - لا بقوته ولا بشفاعته ولا غيرهما.
--------------
الهوامش:
(45) ما بين القوسين زيادة ، لا يستقيم الكلام بطرحها .
(46) انظر ما مضى 1 : 312 : - 315 في معنى"الاشتراء" .
(47) الأثر : 1482 - كان في المطبوعة : "حدثنا يزيد . . " بإسقاط : "حدثنا بشر قال" ، وهذا إسناده إلى قتادة ، كثير الدوران ، وأقربه فيما مضى رقم : 1475 .
(48) في المطبوعة : "لاشترائهم الذي كان في الدنيا ودنياهم بآخرتهم" ، وهو كلام سقيم ، ولعل الصواب ما أثبت .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 16 | ﴿ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ |
---|
البقرة: 175 | ﴿ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ |
---|
البقرة: 86 | ﴿ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى, وآتاه التوراة, ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة, إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليه السلام، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر،{ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي:قواه الله بروح القدس. قال أكثر المفسرين:إنه جبريل عليه السلام, وقيل:إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده. ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها, لما أتوكم{ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان بهم،{ فَفَرِيقًا} منهم{ كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} فقدمتم الهوى على الهدى, وآثرتم الدنيا على الآخرة، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى.
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم ، فقال تعالى :
( وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب وَقَفَّيْنَا . . . )
ففي هاتين الآيتين تذكير لبنى إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإجرام.
والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى التوراة، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوامره وأولوها تأويلا سقيما.
ومعنى وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أردفنا وأرسلنا من بعد موسى رسلا كثيرين متتابعين، لإرشاد بنى إسرائيل، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
يقال: قفا أثره يقفوه قفوا وقفوا، إذا تبعه. وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه. وقفيته زيدا وبه: أتبعته إياه. واشتقاقه من: قفوته إذا أتبعت قفاه، والقفا مؤخر العنق، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه.
والرسل: جمع رسول بمعنى مرسل، وقد أرسل الله- تعالى- رسلا بعد موسى- عليه السلام-: منهم: داود، وسليمان، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى- عليهم الصلاة والسلام-.
فمن مظاهر نعم الله على بنى إسرائيل، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين، لكي يبشروهم وينذروهم، ولكن بنى إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران، فقد حرفوا كتب الله، وقتلوا بعض أنبيائه.
والمراد بالبينات في قوله: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار ببعض المغيبات، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها عيسى- عليه السلام-.
وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإنجيل، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى- عليه السلام-.
وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أبا من البشر.
وقوله: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أى: قويناه مأخوذ من الأيد وهو القوة.
وروح القدس هو جبريل- عليه السلام-، قال- تعالى-:
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أى: الروح المقدس. ووصف بالقدس لطهارته وبركته. وسمى روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب. والروح تحيا به الأجسام.
أى: أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه في نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذي أوحيناه إليه عن طريق جبريل- عليه- السلام-.
ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ.
أى: أفكلما جاءكم يا بنى إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقا منهم كذبتم، وفريقا آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب:
وتهوى: من هوى إذا أحب «والهوى يكون في الحق ويكون في الباطل كما في هذه الآية.
واستكبرتم: تكبرتم، والتكبر ينشأ عن الاعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها. وهو من الصفات التي متى تمكنت في النفس أوردتها المهالك، وساقتها إلى سوء المصير.
وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر.
وعبر في جانب القتل بالفعل المضارع فقال: تَقْتُلُونَ ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة. يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغا عظيما. ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضعه على الفعل الواقع في الحال. فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع، وجعله ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم.
ينعت ، تبارك وتعالى ، بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة ، والاستكبار على الأنبياء ، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة فحرفوها وبدلوها ، وخالفوا أوامرها وأولوها . وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته ، كما قال تعالى : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) الآية [ المائدة : 44 ] ، ولهذا قال : ( وقفينا من بعده بالرسل ) قال السدي ، عن أبي مالك : أتبعنا . وقال غيره : أردفنا . والكل قريب ، كما قال تعالى : ( ثم أرسلنا رسلنا تترا ) [ المؤمنون : 44 ] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم ، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، ولهذا أعطاه الله من البينات ، وهي : المعجزات . قال ابن عباس : من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله ، وإبرائه الأسقام ، وإخباره بالغيوب ، وتأييده بروح القدس ، وهو جبريل عليه السلام ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به . فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض ، كما قال تعالى إخبارا عن عيسى : ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم ) الآية [ آل عمران : 50 ] . فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السلام أسوأ المعاملة ، ففريقا يكذبونه . وفريقا يقتلونه ، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ، فلهذا كان يشق ذلك عليهم ، فيكذبونهم ، وربما قتلوا بعضهم ; ولهذا قال تعالى : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون )
والدليل على أن روح القدس هو جبريل ، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ، وتابعه على ذلك [ ابن عباس و ] محمد بن كعب القرظي ، وإسماعيل بن أبي خالد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وعطية العوفي ، وقتادة مع قوله تعالى : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين [ بلسان عربي مبين ] ) [ الشعراء : 193 - 195 ] ما قال البخاري : وقال ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك " . وهذا من البخاري تعليق .
وقد رواه أبو داود في سننه ، عن لوين ، والترمذي ، عن علي بن حجر ، وإسماعيل بن موسى الفزاري ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه وهشام بن عروة ، كلاهما عن عروة ، عن عائشة به . وقال الترمذي : حسن صحيح ، وهو حديث أبي الزناد .
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن عمر مر بحسان ، وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه ، فقال : قد كنت أنشد فيه ، وفيه من هو خير منك . ثم التفت إلى أبي هريرة ، فقال : أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس " ؟ . فقال : اللهم نعم .
وفي بعض الروايات : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " اهجهم أو : هاجهم وجبريل معك " .
[ وفي شعر حسان قوله :
وجبريل رسول الله ينادي وروح القدس ليس به خفاء ]
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أخبرنا عن الروح . فقال : " أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ؟ وهو الذي يأتيني ؟ " قالوا : نعم .
[ وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن روح القدس نفخ في روعي : إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " ] .
أقوال أخر :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( بروح القدس ) قال : هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى . وقال ابن جرير : حدثت عن المنجاب . فذكره . قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك . [ ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضا قال : وهو الاسم الأعظم ] .
وقال ابن أبي نجيح : الروح هو حفظة على الملائكة .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : القدس هو الرب تبارك وتعالى . وهو قول كعب . وقال السدي : القدس : البركة . وقال العوفي ، عن ابن عباس : القدس : الطهر .
[ وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا : القدس : هو الله تعالى ، وروحه : جبريل ، فعلى هذا يكون القول الأول ] .
وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : ( وأيدناه بروح القدس ) قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا ، كلاهما روح من الله ، كما قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] .
ثم قال ابن جرير : وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال : الروح في هذا الموضع جبريل ، لأن الله ، عز وجل ، أخبر أنه أيد عيسى به ، كما أخبر في قوله : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) الآية [ المائدة : 110 ] . فذكر أنه أيده به ، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل ، لكان قوله : ( إذ أيدتك بروح القدس ) ( وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) تكرير قول لا معنى له ، والله أعز أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به .
قلت : ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق ; ولله الحمد .
وقال الزمخشري ( بروح القدس ) بالروح المقدسة ، كما يقول : حاتم الجود ورجل صدق ، ووصفها بالقدس كما قال : ( وروح منه ) فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة ، وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، وقيل : بجبريل ، وقيل : بالإنجيل ، كما قال في القرآن : ( روحا من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، وتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة .
وقال الزمخشري في قوله : ( ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) إنما لم يقل : وفريقا قتلتم ; لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضا لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر ، وقد قال ، عليه السلام ، في مرض موته : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " ، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (آتينا موسى الكتاب): أنـزلناه إليه. وقد بينا أن معنى " الإيتاء " الإعطاء، فيما مضى قبل. (49)
* * *
و " الكتاب " الذي آتاه الله موسى عليه السلام، هو التوراة.
وأما قوله: (وقفينا)، فإنه يعني: وأردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض, كما يقفو الرجل الرجل: إذا سار في أثره من ورائه. وأصله من " القفا ", يقال منه: " قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه, كما يقال: " دبرته ": إذا صرت في دبره.
* * *
ويعني بقوله: (من بعده)، من بعد موسى.
* * *
ويعني بـ(الرسل): الأنبياء, وهم جمع " رسول ". يقال: " هو رسول وهم رسل ", كما يقال: " هو صبور وهم قوم صبر, وهو رجل شكور وهم قوم شكر.
* * *
وإنما يعني جل ثناؤه بقوله: (وقفينا من بعده بالرسل)، أي أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة. لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم, فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة، والعمل بما فيها، والدعاء إلى ما فيها. فلذلك قيل: (وقفينا من بعده بالرسل)، يعني على منهاجه وشريعته, والعمل بما كان يعمل به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات)، أعطينا عيسى ابن مريم.
* * *
ويعني بـ " البينات " التي آتاه الله إياها: ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوته: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، ونحو ذلك من الآيات، التي أبانت منـزلته من الله, ودلت على صدقه وصحة نبوته، كما:-
1483 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن &; 2-319 &; عباس: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات): أي الآيات التي وضع على يديه: من إحياء الموتى, وخلقه من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله, وإبراء الأسقام, والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم, وما رد عليهم من التوراة، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
قال أبو جعفر: أما معنى قوله: (وأيدناه)، فإنه قويناه فأعناه, كما:-
1484 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر, عن الضحاك: (وأيدناه)، يقول: نصرناه. يقال منه: " أيدك الله "، أي قواك," وهو رجل ذو أَيْد، وذو آد ", يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج:
من أن تبدلت بآدي آدا (50) *
يعني: بشبابي قوة المشيب، ومنه قول الآخر: (51)
إن القــداح إذا اجــتمعن فرامهــا
بالكســـر ذو جَــلَد وبطش أيِّــد &; 2-320 &; (52)
يعني بالأيد: القوي.
* * *
ثم اختلف في تأويل قوله: (بروح القدس). فقال بعضهم: " روح القدس " الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به، هو جبريل عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
1485 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: (وأيدناه بروح القدس) قال: هو جبريل.
1486 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: (وأيدناه بروح القدس)، قال: هو جبريل عليه السلام.
1487 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: (وأيدناه بروح القدس)، قال: روح القدس، جبريل.
1488 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: (وأيدناه بروح القدس)، قال: أيد عيسى بجبريل، وهو روح القدس.
1489 - وقال ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي, عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو [الذي] &; 2-321 &; يأتيني؟ قالوا: نعم. (53)
وقال آخرون: الروح الذي أيد الله به عيسى، هو الإنجيل.
* ذكر من قال ذلك:
1490 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأيدناه بروح القدس)، قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحا، كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله, كما قال الله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [ الشورى: 52].
* * *
وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى.
* ذكر من قال ذلك:
1491 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: (وأيدناه بروح القدس)، قال: هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: " الروح " في هذا الموضع جبريل. لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به, كما أخبر في قوله: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا &; 2-322 &; وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [المائدة: 110]، فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل، لكان قوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، و " إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل "، تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه على تأويل قول من قال: معنى إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، إنما هو: إذ أيدتك بالإنجيل - وإذ علمتك الإنجيل. وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو مُعَلَّمُه، فذلك تكرير كلام واحد، من غير زيادة معنى في أحدهما على الآخر. وذلك خلف من الكلام, (54) والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وإذْ كان ذلك كذلك، فَبَيِّنٌ فساد قول من زعم أن " الروح " في هذا الموضع، الإنجيل, وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لأنها تحيا بها القلوب الميتة, وتنتعش بها النفوس المولية, وتهتدي بها الأحلام الضالة.
* * *
وإنما سمى الله تعالى جبريل " روحا " وأضافه إلى " القدس "، لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده، من غير ولادة والد ولده, فسماه بذلك " روحا "، وأضافه إلى " القدس " - و " القدس "، هو الطهر - كما سمي عيسى ابن مريم " روحا " لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده.
* * *
وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أن معنى " التقديس ": التطهير, و " القدس "- الطهر، من ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه. (55)
1492 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: القدس، البركة.
1493 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال: القدس، وهو الرب تعالى ذكره.
&; 2-323 &;
1494 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وأيدناه بروح القدس)، قال: الله، القدس, وأيد عيسى بروحه، قال: نعت الله، القدس. وقرأ قول الله جل ثناؤه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر: 23]، قال: القدس والقدوس، واحد.
1495 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال، [عن هلال] بن أسامة, عن عطاء بن يسار قال، قال كعب: الله، القدس. (56)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم)، اليهود من بني إسرائيل.
1496 - حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد.
* * *
قال أبو جعفر: يقول الله جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بني إسرائيل, لقد آتينا موسى التوراة, وتابعنا من بعده بالرسل إليكم, وآتينا عيسى ابن مريم &; 2-324 &; البينات والحجج، إذ بعثناه إليكم, وقويناه بروح القدس، وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم - تجبرا وبغيا - استكبار إمامكم إبليس، فكذبتم بعضا منهم. وقتلتم بعضا. فهذا فعلكم أبدا برسلي.
* * *
وقوله: (أفكلما)، وإن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب، فهو بمعنى الخبر.
--------------
الهوامش:
(49) انظر ما سلف 1 : 574 .
(50) زيادة ديوانه : 76 ، واللسان (آود) (أيد) ومجاز القرآن : 46 ، وأمالي الزجاجي : 39 في خبر ، ورواه :
فــــإن تبـــدلت بـــآدي آدا
لــم يــك ينــآد فأمســى انـآدا
فقـــد أرانــي أصــل القعــادا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والقعاد: القواعد من النساء، جمع على جمع المذكر، كما قال القطامي:
أبصــارهن إلــى الشـبان مائلـة
وقــد أراهـن عنـي غـير صـداد
يعني : غير صواد .
(51) ينسب البيت - من أبيات - لعبد الملك بن مروان ، والصواب أنه لعبد الله بن عبد الأعلى ابن أبي عمرة الشيباني . مولى بني شيبان (تاريخ الطبري 4 : 22 / وسمط اللآلئ : 963 ترجمته) .
(52) البيت من أبيات جياد رواها أبو العباس المبرد في التعازي والمراثي ورقة : 105 ، 106 ، والمسعودى في مروج الذهب 3 : 104 ، ولباب الآداب : 31 ، وجاء بيت الشاهد في تاريخ الإسلام للذهبي 3 : 280 ، وتاريخ ابن كثير 9 : 67 ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي : 147 ، واختلفت رواية البيت الشاهد . وقد أوصى عبد الملك بن مروان بنيه وصية جليلة ، ثم قال لهم احفظوا عني هذه الأبيات - يعني شعر عبد الله بن عبد الأعلى - أمرهم أن يجتمعوا ولا يتفرقوا فتذهب ريحهم . وبعد البيت :
عـزت ولـم تكسـر, وإن هـي بددت
فـــالوهن والتكســـير للمتبــدد
(53) الحديث : 1489 - وقع في المطبوعة "حدثنا سلمة، عن إسحاق" . وهو خطأ ، صوابه"عن ابن إسحاق" . عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي : ثقة فقيه ، من شيوخ الليث ومالك . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 /97 . شهر بن حوشب الأشعري : تابعي ثقة ، ومن تكلم فيه فلا حجة له . وقد فصلنا القول في توثيقه ، في شرح المسند : 5007 . وهو مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري . 2 /2 / 659 - 260 ، وابن سعد 7 /2 /158 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 382 - 383 . ولكن هذا الحديث مرسل ، فإن شهرا تابعي كما قلنا . ومعناه - في تفسير"الروح" بأنه جبريل - ثابت في أحاديث صحاح متكاثرة . ذكر منها ابن كثير 1 : 227 حديث ابن مسعود ، في صحيح ابن حبان ، مرفوعا : "إن روح القدس نقث في روعي : أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" . وقد ذكرنا في شرحنا رسالة الشافعي . رقم : 306 كثيرا من هذا المعنى . وهذا الحديث جزء من حديث مطول ، سيأتي بهذا الإسناد رقم : 1606 .
(54) الخلف : الرديء الفاسد من القول . يقال في المثل : "سكت ألفا ونطق خلفا" ، للرجل يطيل الصمت ، فإذا تكلم تكلم بالخطأ والخطل .
(55) انظر ما سلف 1 : 475 - 476 .
(56) الخبر: 1495 - هو كلمة من كلام كعب الأحبار. أما الإسناد إليه ففيه إشكال. ولعله خطأ من الناسخين. فليس في الرواة - فيما علمنا - من يسمى"سعيد بن أبي هلال بن أسامة" كما كان في المطبوعة. وإنما صوابه ما رجحنا إثباته، بزيادة [عن هلال].
فسعيد بن أبي هلال الليثي المدني المصري: ثقة من أتباع التابعين، يروي عنه عمرو بن الحارث (الذي سبقت ترجمته في 1387). وسعيد مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري 2 / 1 /475، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 71 . وهلال بن أسامة: هو: "هلال بن علي بن أسامة المدني " ، وبعضهم نسبه إلى جده ، فقال: ابن أسامة"، كما في التهذيب، وهو ثقة. مترجم أيضًا في الكبير للبخاري 4 / 2 /204 - 205، وابن أبي حاتم 4 /2 /76. وقد فصلنا القول في ترجمته، في شرح المسند: 7346.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 87 | ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ |
---|
البقرة: 253 | ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّـهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
بالرسل:
قرئ:
1- بضم السين، وهى قراءة الجمهور.
2- بتسكينها، وهى قراءة الحسن، ويحيى بن يعمر.
وأيدناه:
قرئ:
1- وأيدناه، على وزن «فعلناه» ، وهى قراءة الجمهور.
2- آيدناه، على وزن «أفعلناه» ، وهى قراءة مجاهد، والأعرج، وحميد، وابن محيصن.
القدس:
قرئ:
1- بضم القاف والدال، وهى قراءة الجمهور.
2- بسكون الدال، وهى قراءة مجاهد، وابن كثير.
3- القدوس، بواو، وهى قراءة أبى حيوة.
التفسير :
أي:اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه, يا أيها الرسول, بأن قلوبهم غلف, أي:عليها غلاف وأغطية, فلا تفقه ما تقول، يعني فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم, وهذا كذب منهم، فلهذا قال تعالى:{ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي:أنهم مطرودون ملعونون, بسبب كفرهم، فقليلا المؤمن منهم, أو قليلا إيمانهم، وكفرهم هو الكثير.
ثم حكى القرآن بعض الدعاوى الباطلة التي كان يدعيها اليهود في العصر النبوي ورد عليها بما يدحضها فقال:
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أى: قال اليهود الذين كانوا في العهد النبوي: قلوبنا يا محمد مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها. ومقصدهم من ذلك، إقناطه صلّى الله عليه وسلّم من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد.
والغلف: جمع أغلف، وهو الذي جعل له غلاف، ومنه قيل للقلب الذي لا يعي ولا يفهم، قلب أغلف، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف.
قال ابن كثير: وقرأ ابن عباس- بضم اللام- وهو جمع غلاف. أى: قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك.
وقد رد الله- تعالى- على كذبهم هذا بما يدحضه ويفضحه فقال:
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أى: أن قلوبهم ليست غلفا بحيث لا تصل إليها دعوة الحق بل هي متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق، ولكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء واستحبابهم العمى على الهدى.
والفاء في قوله: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها وما في قوله فَقَلِيلًا ما لتأكيد معنى القلة.
والمعنى أن الله لعنهم وكان هذا اللعن سببا لقلة إيمانهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، وقلة الإيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإيمان به. وقد وصفهم الله- تعالى- فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى نوع آخر من رذائل اليهود، ويتجلى هذا النوع في جحودهم الحق عن معرفة وعناد، وكراهتهم الخير لغيرهم يدافع الأنانية والحسد، وتحولهم إلى أناس يتميزون من الغيظ إذا ما رأوا نعمة تساق لغير أبناء ملتهم.
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وقالوا قلوبنا غلف ) أي : في أكنة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وقالوا قلوبنا غلف ) أي : لا تفقه .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( وقالوا قلوبنا غلف ) [ قال ] هي القلوب المطبوع عليها .
وقال مجاهد : ( وقالوا قلوبنا غلف ) عليها غشاوة .
وقال عكرمة : عليها طابع . وقال أبو العالية : أي لا تفقه . وقال السدي : يقولون : عليها غلاف ، وهو الغطاء .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( وقالوا قلوبنا غلف ) هو كقوله : ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) [ فصلت : 5 ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله : ( غلف ) قال : يقول : قلبي في غلاف فلا يخلص إليه ما تقول ، قرأ ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه )
وهذا هو الذي رجحه ابن جرير ، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي ، عن أبي البختري ، عن حذيفة ، قال : القلوب أربعة . فذكر منها : وقلب أغلف مغضوب عليه ، وذاك قلب الكافر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن العرزمي ، أنبأنا أبي ، عن جدي ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : ( قلوبنا غلف ) قال : لم تختن .
هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم ، وأنها بعيدة من الخير .
قول آخر :
قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وقالوا قلوبنا غلف ) قال قالوا : قلوبنا مملوءة علما لا تحتاج إلى علم محمد ، ولا غيره .
وقال عطية العوفي : ( وقالوا قلوبنا غلف ) أي : أوعية للعلم .
وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيما حكاه ابن جرير : " وقالوا قلوبنا غلف " بضم اللام ، أي : جمع غلاف ، أي : أوعية ، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر . كما كانوا يمنون بعلم التوراة . ولهذا قال تعالى : ( بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ) ، أي : ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها ، كما قال في سورة النساء : ( وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) [ النساء : 155 ] . وقد اختلفوا في معنى قوله : ( فقليلا ما يؤمنون ) وقوله : ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) ، فقال بعضهم : فقليل من يؤمن منهم [ واختاره فخر الدين الرازي وحكاه عن قتادة والأصم وأبي مسلم الأصبهاني ] وقيل : فقليل إيمانهم . بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ، ولكنه إيمان لا ينفعهم ، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ، وإنما قال : ( فقليلا ما يؤمنون ) وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : قلما رأيت مثل هذا قط . تريد : ما رأيت مثل هذا قط . [ وقال الكسائي : تقول العرب : من زنى بأرض قلما تنبت ، أي : لا تنبت شيئا ] . .
حكاه ابن جرير ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ
قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وقالوا قلوبنا غُلْف) مخففة اللام ساكنة. وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار. وقرأه بعضهم: " وقالوا قلوبنا غُلُف " مثقلة اللام مضمومة.
* * *
فأما الذين قرأوها بسكون اللام وتخفيفها, فإنهم تأولوها، أنهم قالوا: قلوبنا في أكنة وأغطية وغلْف. و " الغلْف " -على قراءة هؤلاء- جمع " أغلف ", وهو الذي في غلاف وغطاء، كما يقال للرجل الذي لم يختتن " أغلف ", والمرأة " غلفاء ". وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه: " سيف أغلف ", وقوس غلفاء " وجمعها " غُلْف ", وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على " أفعل " وأنثاه على " فعلاء ", يجمع على " فُعْل " مضمومة الأول ساكنة الثاني, مثل: " أحمر وحمر, وأصفر وصفر ", فيكون ذلك جماعا للتأنيث والتذكير. ولا يجوز تثقيل عين " فعل " منه، إلا في ضرورة شعر, كما قال طرفة بن العبد: (57)
أيهـــا الفتيــان فــي مجلســنا
جـــردوا منهـــا وِرادا وشُــقُر &; 2-325 &; (58)
يريد: شُقْرًا, إلا أن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه. ومنه الخبر الذي:-
1497 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي, عن عمرو بن مرة الجملي, عن أبي البختري, عن حذيفة قال: القلوب أربعة - ثم ذكرها - فقال فيما ذكر: وقلب أغلف معصوب عليه, فذلك قلب الكافر. (59)
* * *
* ذكر من قال ذلك, يعني أنها في أغطية.
1498 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق &; 2-326 &; قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: (وقالوا قلوبنا غلف)، أي في أكنة.
1499 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: (قلوبنا غلف)، أي في غطاء.
1500 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,: (وقالوا قلوبنا غلف)، فهي القلوب المطبوع عليها.
1501 - حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج, أخبرني عبد الله بن كثير, عن مجاهد قوله: (وقالوا قلوبنا غلف)، عليها غشاوة.
1502 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، أخبرني عبد الله بن كثير, عن مجاهد: (وقالوا قلوبنا غلف)، عليها غشاوة.
1503 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك عن الأعمش قوله: (قلوبنا غلف)، قال: هي في غُلُف.
1504 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (وقالوا قلوبنا غلف)، أي لا تفقه.
1505 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: (وقالوا قلوبنا غلف)، قال: هو كقوله: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت : 5].
1506 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة في قوله: (قلوبنا غلف) قال: عليها طابَع, قال: هو كقوله: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ .
1507 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: (قلوبنا غلف)، أي لا تفقه.
&; 2-327 &;
1508 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وقالوا قلوبنا غلف)، قال: يقولون: عليها غلاف، وهو الغطاء.
1509 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قلوبنا غلف)، قال يقول: قلبي في غلاف, فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت: 5]. (60)
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوها " غلف " بتحريك اللام وضمها, فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم, بمعنى أنها أوعية.
قال: و " الغلف " على تأويل هؤلاء جمع " غلاف ". كما يجمع " الكتاب كتب, والحجاب حجب, والشهاب شهب. فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ " غلف " بتحريك اللام وضمها، وقالت اليهود: قلوبنا غلف للعلم, وأوعية له ولغيره.
* ذكر من قال ذلك:
1510 - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال، حدثنا أبي, عن فضيل بن مرزوق, عن عطية: (وقالوا قلوبنا غلف)، قال: أوعية للذكر.
1511 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل, عن عطية في قوله: (قلوبنا غلف) قال: أوعية للعلم. (61)
1512 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل, عن عطية مثله.
1513 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: (وقالوا قلوبنا غلف)، قال: مملوءة علما، لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
* * *
والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله: (قلوبنا غلف)، هي قراءة من قرأ (غلف) &; 2-328 &; بتسكين اللام - بمعنى أنها في أغشية وأغطية، لاجتماع الحجة من الْقَرَأَة وأهل التأويل على صحتها, وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه، من قراءة ذلك بضم " اللام ".
وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه، حجة على من بلغه. وما جاء به المنفرد، فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا وقولا وعملا في غير هذا الموضع, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان. (62) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (بل لعنهم الله)، بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم، وجحودهم آيات الله وبيناته, وما ابتعث به رسله, وتكذيبهم أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك.
* * *
وأصل " اللعن " الطرد والإبعاد والإقصاء يقال: " لعن الله فلانا يلعنه لعنا، وهو ملعون ". ثم يصرف " مفعول ": فيقال: هو " لعين ". ومنه قول الشماخ بن ضرار:
ذعــرت بـه القطـا ونفيـت عنـه
مكــان الــذئب كـالرجل اللعيـن (63)
* * *
قال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره: (بل لعنهم الله بكفرهم) تكذيب منه للقائلين من اليهود: (قلوبنا غلف). لأن قوله: (بل) دلالة على جحده جل &; 2-329 &; ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك، إذ كانت " بل " لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود. فإذ كان ذلك كذلك, فبَيِّنٌ أن معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا, ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته، وطردهم عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله، فقليلا ما يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فقليلا ما يؤمنون). فقال بعضهم، معناه فقليل منهم من يؤمن, أي لا يؤمن منهم إلا قليل.
* ذكر من قال ذلك:
1514 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون)، فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب, إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير.
1515 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: (فقليلا ما يؤمنون)، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.
* ذكر من قال ذلك:
1516 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر, عن قتادة: (فقليلا ما يؤمنون)، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في قوله: (فقليلا ما يؤمنون) بالصواب، &; 2-330 &; ما نحن متقنوه إن شاء الله. وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية, ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنـزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك نصب قوله: ( فقليلا)، لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره. ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم، فإيمانا قليلا ما يؤمنون. فقد تبين إذًا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك. لأن معنى ذلك، لو كان على ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل, أو فقليل منهم من يؤمن, لكان " القليل " مرفوعا لا منصوبا. لأنه إذا كان ذلك تأويله، كان " القليل " حينئذ مرافعا " ما ". فإذْ نصب " القليل " - و " ما " في معنى " من " أو " الذي" - [فقد] بقيت " ما " لا مرافع لها. (64) وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب.
* * *
فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى " ما " التي في قوله: (فقليلا ما يؤمنون). فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها, وإنما تأويل الكلام: فقليلا يؤمنون, كما قال جل ذكره: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] وما أشبه ذلك، فزعم أن " ما " في ذلك زائدة, وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم، وأنشد في ذلك محتجا لقوله ذلك - بيت مهلهل:
لـــو بأبــانين جــاء يخطبهــا
خــضب مـا أنـف خـاطب بـدم (65)
وزعم أنه يعني: خضب أنف خاطب بدم, وأن " ما " زائدة.
* * *
وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في" ما "، في الآية وفي البيت الذي &; 2-331 &; أنشده, وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء, إذ كانت " ما " كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره بعدها.
* * *
وهذا القول عندنا أولى بالصواب. لأن زيادة ما لا يفيد من الكلام معنى في الكلام، غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه.
* * *
ولعل قائلا أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلا ما يؤمنون - من الإيمان قليل أو كثير، فيقال فيهم: " فقليلا ما يؤمنون "؟
قيل: إن معنى " الإيمان " هو التصديق. وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله، وبالبعث والثواب والعقاب, وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته, وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به، لأنه في كتبهم, ومما جاءهم به موسى، فصدقوا ببعض - وذلك هو القليل من إيمانهم - وكذبوا ببعض، فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به.
* * *
وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء, وإنما قيل: (فقليلا ما يؤمنون)، وهم بالجميع كافرون, كما تقول العرب: " قلما رأيت مثل هذا قط". وقد روي عنها سماعا منها: مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل " يعني: ما تنبت غير الكراث والبصل, وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بـ " القلة ", والمعنى فيه نفي جميعه. (66)
* * *
---------------------------
الهوامش :
(57) ديوانه (أشعار الستة الجاهليين) : 331 ، من قصيدة نفيسة .
(58) جردوا : قدموا للغارة . وتجرد الفرس : تقدم الحلبة فخرج منها . وتجرد في الأمر : جد فيه . وراد جمع ورد (بفتح فسكون) وهو من الخيل ، بين الكميت والأشقر . والأشقر : الأحمر حمرة صافية ، يحمر منها السبيب والمعرفة والناصية . والعرب تقول : أكرم الخيل وذوات الخير منها شقرها .
(59) الخبر: 1497 - هذا موقوف على حذيفة، وإسناده جيد، إلا أنه منقطع، كما سنبين، إن شاء الله. الحكم بن بشير بن سلمان النهدي الكوفي: ثقة، مترجم في التهذيب، ووقع هناك خطأ مطبعي في اسمي أبيه وجده. وله ترجمة عند البخاري في الكبير 2/1/340، وابن أبي حاتم 1 / 2 /114. عمرو بن قيس الملائي": مضت ترجمته: 886. و"عمرو بن مرة الجملي"و"أبو البختري" واسمه"سعيد بن فيروز" مضيا في: 175.
انقطاع الإسناد، هو بين أبي البختري، المتوفي سنة 83، وبين حذيفة بن اليمان، المتوفى أوائل سنة 36 بعد مقتل عثمان بأربعين يوما. ونص في التهذيب على أن أبا البختري لم يدرك حذيفة.
هذا الخبر ذكره الطبري مختصرا - كما ترى - وجاء به السيوطي كاملا 1: 87، ونسبه لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير، فذكر نحوه، موقوفا على حذيفة.
وقد ورد معناه مرفوعا: فروى أحمد في المسند: 11146 (ج3 ص 17 حلبي)، عن أبي النضر، عن أبي معاوية، وهو شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن ليث، وهو ابن أبي سليم، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري. وهذا إسناد صحيح. ويظهر منه أن أبا البختري كان عنده هذا الحديث، عن أبي سعيد مرفوعا متصلا، وعن حذيفة بن اليمان موقوفا منقطعا. ومثل هذا كثير، ولا نجعل إحدى الروايتين علة للأخرى.
وحديث أبي سعيد هذا: ذكره السيوطي 1: 87، ونسبه لأحمد"بسند جيد". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 63، وقال:"رواه أحمد، والطبراني في الصغير، وفي إسناده ليث بن أبي سليم". كأنه يريد إعلاله بضعف ليث. وليث بن أبي سليم: ليس بضعيف بمرة، ولكن في حفظه شيء وحديثه عندنا صحيح، إلا ما ظهر خطؤه فيه، كما بينا في شرح المسند: 1199، وقد ترجمة البخاري في الكبير 4 / 1 /246، فلم يذكر فيه جرحا.
(60) في المطبوعة:"شيء" ساقطة، واستدركتها من ابن كثير 1: 229.
(61) الخبر : 1511 - محمد بن عمارة الأسدى ، شيخ الطبري : لم أجد له ترجمة ولا ذكرا ، إلا في رواية الطبري عنه في التاريخ أيضًا مرارا .
(62) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 210 ، 211 ، 265 ، 295
(63) ديوانه: 92، ومجاز القرآن 461، وسيأتي في 2: 33 (بولاق)، وروايته هناك وفي ديوانه،"مقام الذئب" والضمير في"به" إلى"ماء" في قوله قبله:
ومــاء قــد وردت لـوصل أروى
عليــه الطــير كــالورق اللجـين
وأراد في البيت: مقام الذئب الطريد اللعين كالرجل. والرجل اللعين المطرود لا يزال منتبذا عن الناس، شبه الذئب به، يعني في ذله وشدة مخافته وذعره.
(64) في المطبوعة : "وإن نصب القليل" ، وكأن الأجود ما أثبته . والزيادة بين القوسين واجبة .
(65) الكامل 2 : 68 ، ومعجم ما استعجم : 96 ، وشرح شواهد المغني : 247 وغيرها قال أبو العباس : "أبان جبل : وهما أبانان : أبان الأسود ، وأبان الأبيض قال مهلهل ، وكان نزل في آخر حربهم - حرب البسوس - في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك ، وهو مذحج ، وجنب حي من أحيائهم وضيع ، وخطبت ابنته ومهرت أدما فزوجها وقال قبله :
أنكحهــا فقدهــا الأراقــم فــي
جــنب وكــان الحبــاء مـن أدم
(66) انظر ما سلف 1 : 554 ، تعليق : 1 ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 59 - 60 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 88 | ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّـهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ |
---|
النساء: 155 | ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
غلف:
قرئ:
1- غلف، بإسكان اللام، وتكون جمع «أغلف» ، وهى قراءة الجمهور.
2- غلف، بضم اللام، وتكون جمع «غلاف» ، وهى قراءة ابن عباس، والأعرج، وابن هرمز، وابن محيصن.