ترتيب المصحف | 4 | ترتيب النزول | 92 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 29.50 |
عدد الآيات | 176 | عدد الأجزاء | 1.50 |
عدد الأحزاب | 3.00 | عدد الأرباع | 12.00 |
ترتيب الطول | 2 | تبدأ في الجزء | 4 |
تنتهي في الجزء | 6 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
النداء: 1/10 | يا أيها النَّاس: 1/2 |
بعدَ الأمرِ بالقسطِ في اليتامى والنساءِ في آيةِ الاستفتاءِ (127) يأتي هنا الأمرُ العامُ بالقسطِ معَ كلِّ النَّاسِ، وعندَ أداءِ الشهادةِ، ثُمَّ الأمرُ بالثَّباتِ على الإيمانِ.
بعدَ أمرِ المؤمنين بالثَّباتِ على الإيمانِ والتَّمسكِ بجميعِ أركانِه، توعَّدت الآياتُ هنا المتردِّدينَ بين الإيمانِ والكفرِ، ثُمَّ تحريمُ الجلوسِ معَ من يستهزئُ بالحقِّ (إلا على سبيلِ الإنكارِ).
التفسير :
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا{ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ْ} والقوَّام صيغة مبالغة، أي:كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، فالقسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته. والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك. ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالات والقائلين، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب بل على النفس، ولهذا قال:{ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ْ} أي:فلا تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير بزعمكم رحمة له، بل اشهدوا بالحق على من كان. والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدل على دين القائم به، وورعه ومقامه في الإسلام، فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام، وأن يجعله نُصْب عينيه، ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به. وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى، ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله:{ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ْ} أي:فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا، وإما أن يعرف الحق ويتركه لأجل هواه، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم. ولما بيَّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك، وهو لي اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها، وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه، أو من بعض الوجوه، ويدخل في ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها، أو تأويل الشاهد على أمر آخر، فإن هذا من اللي لأنه الانحراف عن الحق.{ أَوْ تُعْرِضُوا ْ} أي:تتركوا القسط المنوط بكم، كترك الشاهد لشهادته، وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به.{ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ} أي:محيط بما فعلتم، يعلم أعمالكم خفيها وجليها، وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور، لأنه أعظم جرما، لأن الأولين تركا الحق، وهذا ترك الحق وقام بالباطل.
وقوله قَوَّامِينَ جمع قوام وهو صيغة مبالغة من قائم. والقوام: هو المبالغ في القيام بالشيء وفي الإتيان به على أتم وجه وأحسنه.
وقوله شُهَداءَ جمع شهيد بوزن فعيل. والأصل في هذه الصيغة أنها تدل على الصفات الراسخة في النفس ككريم وحكيم.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا. كونوا مواظبين على إقامة العدل فيما بينكم في جميع الظروف والأحوال دون أن يصرفكم عن ذلك صارف، وكونوا «شهداء لله» أى: مقيمين للشهادة بالحق ابتغاء وجه الله لا لغرض من الأغراض الدنيوية. ولا لمطمع من المطامع الشخصية، فإن الإيمان الحق يستلزم منكم أن تعدلوا في أحكامكم وأن تؤدوا الشهادة على وجهها.
وفي ندائه- سبحانه- لهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تنبيه إلى الأمر الخير الذي ناداهم من أجله ودعاهم إلى تنفيذه وهو التزام العدالة في كل أمورهم، وتحريك لعاطفة الإيمان في قلوبهم بمقتضى وصفهم- بهذه الصفة الجليلة.
وعبر- سبحانه- بقوله كُونُوا قَوَّامِينَ بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة والمداومة على الشيء، لتمكين صفة العدالة في نفوسهم، وترسيخها في قلوبهم.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: روضوا أنفسكم على التزام كلمة الحق، وعودوها على نصرة المظلوم وخذلان الظلم، وليكن ذلك خلقا من أخلاقكم. وسجية من سجاياكم، فلا يكفى أن تعدلوا في أحكامكم مرة أو مرتين، وإنما الواجب عليكم أن تداوموا على إقامة العدل في كل الأحوال، ومع كل الأشخاص.
قال صاحب المنار: وهذه العبارة- وهي قوله- تعالى- كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أبلغ ما يمكن أن يقال في تأكيد أمر العدل والعناية به فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض تقول: اعدلوا أو أقسطوا. وتقول: كونوا عادلين أو مقسطين.
وهذه العبارة أبلغ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإتيان بالقسط الذي يصدق بمرة.
وتقول: أقيموا القسط. وأبلغ منه: كونوا قائمين بالقسط. وأبلغ من هذا وذاك: كونوا قوامين بالقسط. أى: لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى تكون ملكة راسخة في نفوسكم. والقسط يكون في العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد ويكون في الحكم بين الناس.. .
وقوله شُهَداءَ خبر ثان لكونوا. وقوله لِلَّهِ متعلق بمحذوف حال من ضمير شُهَداءَ.
أى: كونوا ملازمين للعدل في كل أموركم وكونوا مقيمين للشهادة على وجهها حالة كونها لوجه الله، لا لعرض من أعراض الدنيا.
قال الفخر الرازي: وإنما قدم- سبحانه- الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه:
الأول: أن أكثر الناس من عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى إن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن. وإذا صدر عن غيرهم كان محل المنازعة. فالله- تعالى- نبه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة. وذلك أنه- سبحانه- أمرهم بالقيام بالقسط أولا، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير.
الثاني: أن القيام بالشهادة عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير، وهو الذي عليه الحق.
ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير.
الثالث: أن القيام بالقسط فعل، والشهادة قول والفعل أقوى من القول .
وقوله: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ تأكيد للأمر بالتزام الحق في الأحكام والشهادات.
أى: كونوا قوامين بالقسط، وكونوا مقيمين للشهادة بالحق خالصة لوجه الله، ولو كانت الشهادة على أنفسكم- بأن تقروا بأن الحق عليها إذا كان واقع الأمر كذلك- ولو كانت- أيضا. على والديكم وعلى أقرب الناس إليكم.
قال القرطبي: وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما. ثم ثنى بالأقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب فكان الأجنبى من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ... ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل. وكان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، لأنه لم يكن أحد يتهم في ذلك من السلف. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم. وأجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا .
ولَوْ في قوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ شرطية. والجار والمجرور خبر لكان المحذوفة مع اسمها. وجواب لو محذوف. والتقدير: ولو كانت الشهادة على أنفسكم فاشهدوا عليها بأن تقروا على أنفسكم بالحق ولا تكتموه.
وقوله- تعالى- إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما تأكيد لوجوب التزام الحق مع الغنى والفقير والصغير والكبير.
أى: إن يكن المشهود عليه غنيا يرجى في العادة ويخشى أو فقيرا يترحم عليه في الغالب ولا يخشى، فلا تمتنعوا عن الشهادة، لأن الله- تعالى- هو الأولى والأجدر بحساب كل من الغنى والفقير، وهو الأعلم بمصالح الناس، والأرحم بهم منكم. وجواب الشرط محذوف، أى: إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تتركوا الشهادة لأن الشهادة في مصلحتهما.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم ثنى الضمير في «أولى بهما» وكان حقه أن يوحد لأن قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين؟
قلت قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً لا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنى وجنس الفقير. فكأنه قيل: فالله أولى بجنسى الغنى والفقير.
أى: بالأغنياء والفقراء. وفي قراءة أبى: فالله أولى بهم وهي شاهدة على ذلك.
وقال ابن جرير: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم إذ اختصم إليه رجلان: غنى وفقير. وكان ضلعه- أى ميله- مع الفقير لأنه يرى أن الفقير لا يظلم الغنى. فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنى والفقير فقال: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما .
والذي يستفاد من هذه الرواية ومن ظاهر الآية أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا في التفاوت في الحكم. ويقاس عليهما غيرهما من أحوال الناس، لأن الله- تعالى- هو الذي نظم الكون بحكمته، وهو أعلم بمصالح الناس من أنفسهم، وجعل فيهم الغنى والفقير لأن الغنى والفقر أمران ثابتان في هذا الوجود، ولا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإنسانية، لأن ذلك تنظيم الله- تعالى، وإرادته الخالدة، وهو الذي يتفق مع الطبيعة الإنسانية، إذ العقول متفاوتة، والعزائم مختلفة، والأعمال متنوعة، ونتيجة لذلك كانت الثمار ليست متحدة.
والمراد بالهوى في قوله: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا الخضوع للشهوات والميل مع نزعات النفس الأمارة بالسوء.
وقوله أَنْ تَعْدِلُوا في موضع المفعول لأجله ويحتمل أن يكون بمعنى العدل فيكون علة للمنهى عنه، ويكون في الجملة مضاف مقدر. والمعنى: فلا تتبعوا الهوى والميل مع الشهوات كراهة أن تعدلوا بين الناس ويحتمل أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة للنهى بتقدير لا، أى: أنهاكم عن اتباع الهوى لئلا تميلوا عن الحق وتتركوا العدل.
قال ابن كثير: أى: لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم، على ترك العدل في شئونكم. بل الزموا العدل على أى حال كان. كما قال- تعالى- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى. ولأنتم أبغض الخلق إلى. وما يحملني حبى إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض .
وقوله- تعالى- وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تذييل قصد به تهديدهم ووعيدهم على ترك العدل، وعلى الامتناع عن الشهادة بالحق.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: وفي الآية قراءتان. فقد قرأ الجمهور تَلْوُوا- بواوين قبلهما لام ساكنة- بمعنى الدفع والإعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه. أو بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشيء إذا فتله.
وقرأ ابن عامر وحمزة تلوا بلام مضمومة بعدها واو ساكنة- من الولاية بمعنى مباشرة الشيء والاشتغال به .
والمعنى على قراءة الجمهور: وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهتها أو تعرضوا عنها رأسا وتتركوها يعاقبكم الله عقابا شديدا فإنه- سبحانه- عليم بدقائق الأشياء، خبير بخفايا النفوس، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه.
والمعنى على القراءة الثانية: وإن تلوا الشهادة فتباشروها على وجهها يعطكم الله أجرا حسنا، وإن تعرضوا عنها وتتركوها يعاقبكم الله عقابا أليما، فإن الله- تعالى- خبير بكل أقوالكم وأعمالكم.
وقيل: إن القراءتين بمعنى واحد لأن أصل (تلوا) - وهي قراءة حمزة وابن عامر- تلووا- وهي قراءة الجمهور- نقلت حركة الواو- في قراءة الجمهور- إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذفت إحداهما فصارت الكلمة (تلوا) .
هذا، والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تبنى المجتمع الإسلامى على أقوى القواعد، وأمتن الأسس وأشرف المبادئ. إنها تبنيه على قواعد العدل والقسط، وتأمر المؤمنين أن يلتزموا كلمة الحق مع أنفسهم ومع أقرب المقربين إليهم مهما تكلفوا في ذلك من جهاد شاق يقتضيه التزام الحق، فإن كلمة الحق كثيرا ما تجعل صاحبها عرضة للإيذاء والاعتداء والاتهام بالباطل من الأشرار والفجار. بل إن كلمة الحق قد تفضى بصاحبها إلى الموت. ولكن لا بأس، فإن الموت مع التمسك بالحق، خير من الحياة في ظلمات الباطل.
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه .
وقوله : ( شهداء لله ) كما قال ( وأقيموا الشهادة لله ) أي : ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ; ولهذا قال : ( ولو على أنفسكم ) أي : اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ، وإن كان مضرة عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه .
وقوله : ( أو الوالدين والأقربين ) أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك ، فلا تراعهم فيها ، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد ، وهو مقدم على كل أحد .
وقوله : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) أي : لا ترعاه لغناه ، ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما ، بل هو أولى بهما منك ، وأعلم بما فيه صلاحهما .
وقوله ( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) أي : فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغضة الناس إليكم ، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : 8 ]
ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة ، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم . فقالوا : " بهذا قامت السماوات والأرض " . وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة ، إن شاء الله [ تعالى ] .
وقوله : ( وإن تلووا أو تعرضوا ) قال مجاهد وغير واحد من السلف : ( تلووا ) أي : تحرفوا الشهادة وتغيروها ، " واللي " هو : التحريف وتعمد الكذب ، قال الله تعالى : ( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب [ لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ] ) [ آل عمران : 78 ] . و " الإعراض " هو : كتمان الشهادة وتركها ، قال الله تعالى : ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) [ البقرة : 283 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " . ولهذا توعدهم الله بقوله : ( فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) أي : وسيجازيكم بذلك .
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا
وهذا تقدُّم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله (1) أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرقٍ أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه، وذَبَّهم عنهم، وتحسينَهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر. يقول الله لهم: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط"، يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط (2) =يعني: بالعدل=" شهداء لله ".
* * *
= و " الشهداء " جمع " شهيد ". (3)
* * *
ونصبت " الشهداء " على القطع مما في قوله: " قوامين " من ذكر " الذين آمنوا "، (4) ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم= أو: حين شهادتكم.
=" ولو على أنفسكم "، يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والدين لكم أو أقربيكم، (5) فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحّتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغنيٍّ لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ، فتجوروا. فإن الله الذي سوَّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم، أيها الناس، من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل=" أولى بهما "، وأحق منكم، (6) لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كلّ واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما=" فلا تتبعوا الهوى أن تَعْدِلوا "، يقول: فلا تتبعوا أهواءَ أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها -لغني على فقير، أو لفقير على غني- إلا أحد الفريقين، فتقولوا غير الحق، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدُّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها، بالعدل لمن شهدتم له وعليه.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهدُ بالقسط؟ وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ (7)
قيل: نعم، وذلك أن يكون عليه حق لغيره فيقرّ له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية عندي تأديبٌ من الله جل ثناؤه عبادَه المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذَروا بني أبيرق= في سرقتهم ما سرقوا، وخيانتهم ما خانوا &; 9-303 &; ممن ذكرنا قبل (8) = عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح. فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقولوا فيها بالعدل، (9) ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، ولا يحملنكم غِنَى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورَحِمُه منكم، (10) على الشهادة له بالزور، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها.
* * *
وقد قيل إنها نـزلت تأديبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
10678- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله "، قال: نـزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم، واختصم إليه رجلان: غنيٌّ وفقير، وكان ضِلَعه مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيَّ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال: " إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "، الآية.
* * *
وقال آخرون: في ذلك نحو قولنا: إنها نـزلت في الشهادة، أمرًا من الله المؤمنين أن يسوُّوا -في قيامهم بشهاداتهم- لمن قاموا بها، (11) بين الغني والفقير.
*ذكر من قال ذلك:
10679- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين "، قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقَّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، ولا يحابوا غنيًّا لغناه، ولا يرحموا مسكينًا لمسكنته، وذلك قوله: " إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "، فتذروا الحق، فتجوروا.
10680- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة قال: كان ذلك فيما مضى من السُّنة في سلف المسلمين، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما " الآية، فلم يكن يُتَّهَمُ سلفُ المسلمين الصالحُ في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دَخِلَ الناسُ بعد ذلك، (12) فظهرت منهم أمور حملت الولاةَ على اتهامهم، فتركت شهادةُ من يتهم، إذا كانت من أقربائهم. وصار ذلك من الولد والوالد، والأخ والزوج والمرأة، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان. (13)
10681- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " إلى آخر الآية، قال: لا يحملك فقرُ هذا على أن ترحَمه فلا تقيم عليه الشهادة. قال: يقول هذا للشاهد.
10682- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " الآية، هذا في الشهادة. فأقم الشهادة، يا ابن آدم، ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو شَرَفِ قومك. (14) فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي العدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزانُ الله في الأرض، به يردُّ الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق. وبالعدل يصدِّق الصادقَ، ويكذِّب الكاذبَ، ويردُّ المعتدي ويُرَنِّخُه، (15) تعالى ربنا وتبارك. وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم=" إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما "، يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله موسى عليه السلام قال: " يا ربِّ، أي شيء وضعت في الأرض أقلّ؟"، قال: " العدلُ أقلُّ ما وضعت في الأرض ". فلا يمنعك غِنى غنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم، فإن ذلك عليك من الحق، وقال جل ثناؤه: " فالله أولى بهما ".
* * *
وقد قيل: " إن يكن غنيًّا أو فقيرًا "، الآية، أريد: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير. لأن ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال: " بهما "، ولم يقل " به ".
* * *
وقال آخرون: إنما قيل: " بهما "، لأنه قال: " إن يكن غنيًّا أو فقيرًا "، فلم يقصد فقيرًا بعينه ولا غنيًّا بعينه، وهو مجهول. وإذا كان مجهولا جاز الردُّ منه بالتوحيد والتثنية والجمع. (16)
* * *
وذكر قائلو هذا القول، أنه في قراءة أبيّ: ( فالله أولى بهم ) .
* * *
وقال آخرون: " أو " بمعنى " الواو " في هذا الموضع. (17)
* * *
وقال آخرون: جاز تثنية قوله: " بهما "، لأنهما قد ذكرا، كما قيل.
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [سورة النساء: 12].
* * *
وقيل: جاز، لأنه أضمر فيه " مَن "، كأنه قيل: إن يكن مَن خاصم غنيًّا أو فقيرًا= بمعنى: غنيين أو فقيرين=" فالله أولى بهما ".
* * *
وتأويل قوله: " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "، أي: عن الحق، فتجوزوا بترك إقامة الشهادة بالحق. ولو وُجِّه إلى أن معناه: فلا تتَّبعوا أهواء أنفسكم هربًا من أن تعدلوا عن الحق في إقامة الشهادة بالقسط، لكان وجهًا. (18)
* * *
وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا= كما يقال: " لا تتبع هواك لترضيَ ربك "، بمعنى: أنهاك عنه، كما ترضي ربّك بتركه. (19)
* * *
القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: عنى: " وإن تلووا "، أيها الحكام، في الحكم لأحد الخصمين على الآخر=" أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ".
ووجهوا معنى الآية إلى أنها نـزلت في الحكام، على نحو القول الذي ذكرنا عن السدِّي من قوله: إن الآية نـزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل. (20)
*ذكر من قال ذلك:
10683- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله: " وإن تلووا أو تعرضوا "، قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لَيُّ القاضي وإعراضُه لأحدهما على الآخر. (21)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا، أيها الشهداء، في شهاداتكم فتحرِّفوها ولا تقيموها= أو تعرضوا عنها فتتركوها.
*ذكر من قال ذلك:
10684- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " وإن تلووا أو تعرضوا "، يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة، أو تعرضوا عنها.
10685- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ إلى قوله: " وإن تلووا أو تعرضوا "، يقول: تلوي لسانك بغير الحق، وهي اللَّجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. و " الإعراض "، الترك.
10686- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " وإن تلووا "، أي تبدّلوا الشهادة=" أو تعرضوا "، قال: تكتموها.
10687- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وإن تلووا "، قال: بتبديل الشهادة، و " الإعراض " كتمانها.
10688- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وإن تلووا أو تعرضوا "، قال: إن تحرفوا أو تتركوا.
10689- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " وإن تلووا أو تعرضوا "، قال: تلجلجوا، أو تكتموا. وهذا في الشهادة.
10690- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وإن تلووا أو تعرضوا "، أما " تلووا "، فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها= وأما " تعرضوا " فتعرض عنها فتكتمها، وتقول: ليس عندي شهادة!
10691- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " وإن تلووا "، فتكتموا الشهادة، يلوى ببعض منها (22) = أو يُعرض عنها فيكتمها، فيأبى أن يَشهد عليه، يقول: أكتم عنه لأنه مسكين أرحَمُه! فيقول: لا أقيم الشهادة عليه. ويقول: هذا غنيٌّ أبقّيه وأرجو ما قِبَله، فلا أشهد عليه! فذلك قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا .
10692- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وإن تلووا "، تحرّفوا=" أو تعرضوا "، تتركوا. (23)
10693- حدثنا محمد بن عمارة قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: " وإن تلووا "، قال: إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها=" أو تعرضوا "، قال: تتركوها. (24)
10694- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: " وإن تلووا أو تعرضوا "، قال: إن تلووا في الشهادة، أن لا تقيمها على وجهها (25) =" أو تعرضوا "، قال: تكتموا الشهادة.
10695- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثنا شيبان، عن قتادة: أنه كان يقول: " وإن تلووا أو تعرضوا "، يعني: تلجلجوا=" أو تعرضوا "، قال: تدعها فلا تشهد.
10696- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " وإن تلووا أو تعرضوا "، أما " تلووا "، فهو أن يلوي الرجل لسانَه بغير الحق. يعني: في الشهادة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويلُ من تأوله، أنه لَيُّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه، وذلك تحريفه إياها بلسانه، (26) وتركه إقامتها، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له، وعمن شهد عليه. (27)
وأما إعراضه عنها، فإنه تركه أداءَها والقيام بها، فلا يشهد بها. (28)
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه قال: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء. وأظهر معاني" الشهداء "، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " وإن تلووا ".
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة: ( وَإِنْ تَلْوُوا ) بواوين، من: " لواني الرجل حقي، والقوم يلوونني دَيْني"= وذلك إذا مطلوه=" ليًّا ".
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: ( وإن تلوا ) بواو واحدة.
* * *
ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان:
أحدهما: أن يكون قارئها أراد همز " الواو " لانضمامها، ثم أسقط الهمز، فصار إعراب الهمز في اللام إذْ أسقطه، وبقيت واو واحدة. كأنه أراد: " تَلْؤُوا " ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه، كان معناه معنى من قرأ: " وإن تلووا "، بواوين، غير أنه خالف المعروف من كلام العرب. وذلك أن " الواو " الثانية من قوله: " تلووا " واو جمع، وهي علم لمعنى، فلا يصح همزها، ثم حذفها بعد همزها، فيبطل علَم المعنى الذي له أدخلت " الواو " المحذوفة. (29)
والوجه الآخر: أن يكون قارئها كذلك، أراد: أن " تلوا " من " الولاية "، فيكون معناه: وأن تلوا أمور الناس وتتركوا. وهذا معنى= إذا وجّه القارئ قراءته على ما وصفنا، إليه= خارج عن معاني أهل التأويل، وما وجّه إليه أصحاب رسول الله صلى &; 9-311 &; الله عليه وسلم والتابعون، تأويلَ الآية.
* * *
قال أبو جعفر: فإذْ كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) ، بمعنى: " اللي" الذي هو مطل.
* * *
فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيامُ له بها، فتغيروها وتبدلوا، أو تعرضوا عنها فتتركوا القيام له بها، كما يلوي الرجل دينَ الرجل فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له، (30) كما قال الأعشى:
يَلْــوِينَني دَيْنِـي النَّهـارَ, وأَقْتَضِـي
دَيْنِــي إذَا وَقَــذَ النُّعَــاسُ الرُّقَّـدَا (31)
* * *
وأما تأويل قوله: " فإن الله كان بما تعملون خبيرًا "، فإنه أراد: " فإن الله كان بما تعملون "، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها، وإعراضكم عنها &; 9-312 &; بكتمانكموها=" خبيرًا "، يعني ذا خبرة وعلم به، يحفظ ذلك منكم عليكم، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. يقول: فاتقوا ربكم في ذلك. (32)
------------------
الهوامش :
(1) يقال: "تقدم إليه في كذا" أي أمره بأمر أو نهي ، وأراد هنا معنى النهي.
(2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف 6 : 77 ، 270 / 7 : 541.
(3) انظر تفسير"شهيد" و"شهداء" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) "القطع" ، باب من الحال ، انظر ما سلف في فهارس المصطلحات.
(5) في المطبوعة: "أو على والديكم" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(6) انظر تفسير"أولى" فيما سلف 6: 497.
(7) في المطبوعة: "وهل يشهد الشاهد" ، وفي المخطوطة: "وبما يشهد".
وأرجح أن ما في المطبوعة هو الصواب ، لقوله في جوابه"نعم" ، وكدت أقرؤها: "وبم يشهد الشاهد" ، لولا أن جواب أبي جعفر دل على غير ذلك.
(8) في المطبوعة: "وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله ..." ، وهو كلام فاسد ، غير ما في المخطوطة ، وهو كما أثبت ، إلا أنه كتب"من ذكرنا قبل" ووضع فتحة على الميم من"من" ، وهو خطأ في نسخ الناسخ ونقله ، إنما هذه الفتحة ميم أخرى في"ممن" أساء قراءتها ، فأساء نقلها. وقد مضى مثل هذا في مثل هذا الحرف ، مرارًا فيما سلف ونبهت إليه.
(9) في المطبوعة: "فقوموا فيها بالعدل" ، والذي في المخطوطة صواب محض.
(10) في المطبوعة"فلا يحملنكم" ، والجيد ما أثبت من المخطوطة.
(11) في المطبوعة: "لمن قاموا له بها" زاد"له" ، وهي مفسدة للكلام ، غمض عليه السياق. وإنما سياق الكلام: أمرًا من الله المؤمنين ... لمن قاموا بها" أي: لمن قام من المؤمنين بالشهادة ، وذكرها معترضة في كلام آخر ، وهو قوله: "في قيامهم بشهاداتهم".
(12) "دخل" على وزن"فرح" ، يقالك: "دخل أمره دخلا (بفتحتين)": أي فسد ، و"الدخل" (بفتحتين): الغش والفساد. و"فلان مدخول الإسلام" ، إذا كان فيه غش وفساد ، وهو النفاق.
(13) فليت شعري ما كان يقول ابن شهاب لو أدرك زماننا الذي نحن فيه!! نسأل السلامة ، ونستهديه في القيام بما أمرنا به في كتابه.
(14) في المطبوعة: "أو أشراف قومك" ، كأنه ظن"شرفًا" خطأ ، وهو محض صواب ، يجمع"شريف" على"أشراف" و"شرفاء" و"شرف" (بفتح الشين والراء). كما قالوا: "رجل كريم" و"قوم كرم". ولو قيل: وهو وصف بالمصدر مثل"عدل" لكان صوابًا.
(15) في المطبوعة: "ويوبخه" والتوبيخ لا معنى له هنا. وفي المخطوطة غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. يقال: "رنخ الرجل": ذلَّلـه. ولو قرئت"يريخه" بالياء لكان صوابًا ، يقال: "ضربوا فلانًا حتى ريخوه" ، أي أوهنوه وأذلوه. هذا وقتادة السدوسي ، كان يكثر في كلامه غريب اللغة.
(16) في المطبوعة: "الرد عليه بالتوحيد ..." ، والذي أثبت من المخطوطة هو محض الصواب.
(17) انظر "أو" بمعنى"الواو" فيما سلف 1 : 336 ، 337 / 2 : 237.
(18) في المطبوعة: "كان وجها" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(19) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 291.
(20) هو الأثر السالف رقم: 10678.
(21) الأثر: 10683 -"قابوس بن أبي ظبيان الجنبي" ، روى عن أبيه"حصين بن جندب" وآخرين. قال ابن معين: "ثقة ، ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له ، فربما رفع المرسل ، وأسند الموقوف. وأبوه ثقة". وانظر ما سلف رقم: 9745.
وأبوه: "أبو ظبيان" ، هو: "حصين بن جندب". روى عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود. ثقة ، انظر ما سلف رقم: 9745.
(22) في المطبوعة: "تلوى تنقص منها" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب جيد. من قولهم: "لوى عنه الخبر" ، إذا طواه ، أو أخبره به على غير وجهه.
وكان سياق الكلام في المطبوعة بالتاء على معنى الخطاب ، "تلوى""تعرض" الخ ، فأثبت ما هو في المخطوطة منقوطًا كذلك.
(23) في المخطوطة: "تحرفوا أو تحرفوا" مكررة ، لا أظنه تحريفًا.
(24) في المطبوعة: "فتتركوها" ، والجيد ما في المخطوطة.
(25) في المطبوعة: "أن لا تقيموها" بالجمع ، والذي في المخطوطة حسن جيد.
(26) في المطبوعة: "لسانه" بغير باء ، والصواب من المخطوطة.
(27) انظر تفسير"اللي" فيما سلف 6 : 535-537 / 8 : 435.
(28) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف ص: 268 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.
(29) هذا موضع وهم غريب من مثل أبي جعفر ، فإن الهمز في"تلؤوا" على واو الفعل ، وهي عين الفعل"لوى" ، والحذف بعد طرح الهمزة ، واقع بواو الفعل لا بواو الجماعة ، وهي أصل ، لم تدخل لمعنى. فكيف أخطأ أبو جعفر فظنها واو الجماعة!! وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 291.
(30) انظر مراجع تفسير"اللي" فيما سلف ص: 309 ، تعليق: 5 وفي المطبوعة"على ما أوجب عليه" ، والصواب من المخطوطة.
(31) ديوانه: 151 ، واللسان (لوى) و(وقذ) ، من أبيات ، جياد أولها فيما قبله:
وَأَرَى الغَـوَانِي حِـينَ شِـبْتُ هَجَرْنَنِي
أَنْ لا أَكُــونَ لَهُــنّ مِثْـلِيَ أَمْـرَدَا
إنَّ الغَــوَانِي لا يُــوَاصِلْنَ امْـرَءًا
فَقَـدَ الشَّـبَابَ، وَقَـدْ يَصِلْـنَ الأَمْرَدَا
بَـلْ لَيْـتَ شِـعْرِي! هَلْ أَعُودَنْ نَاشِئًا
مِثْـلِي زُمَيْــنَ أَحُـلُّ بُرْقَـةَ أَنْقَـدَا
إذْ لِمَّتِــي سَــوْدَاءُ أَتْبَــعُ ظِلَّهَـا
دَدَنًــا قُعُــودَ غَوَايَـةٍ أَجْـرِي دَدَا
يَلْـــوِينَنِي دَيْنِــي ...............
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا ، ورواية الديوان: "وأجتزى ديني" ، يقال: "اجتزى دينه" أي: تقاضاه ، ومثله"تجازى دينه". و"وقذه": ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. و"وقذه النعاس" مجاز منه ، أي صاروا كأنهم سكارى قد استرخوا وهمدوا من النعاس.
(32) انظر تفسير"الخبير" فيما سلف من فهارس اللغة.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 135 | ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ﴾ |
---|
المائدة: 8 | ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ |
---|
الصف: 14 | ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّـهِ كَمَا قَالَ عِيسَى﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
وإن تلووا:
قرئ:
وإن تلوا، بضم اللام بواو واحدة، وهى قراءة جماعة فى الشاذ، وابن عامر، وحمزة.
التفسير :
اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه، وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان، كقوله تعالى:{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ ْ} الآية. وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق، وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات. ويقتضي أيضا الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من الإيمان المأمور به. وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة، كلها من الإيمان كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، وأجمع عليه سلف الأمة. ثم الاستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى:{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ْ} وأمر هنا بالإيمان به وبرسوله، وبالقرآن وبالكتب المتقدمة، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به، إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل، فمن آمن هذا الإيمان المأمور به، فقد اهتدى وأنجح.{ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ْ} وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟"واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها، لتلازمها وامتناع وجود الإيمان ببعضها دون بعض
ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين أن يثبتوا على إيمانهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أى: يا أيها المؤمنون اثبتوا على إيمانكم وداوموا على تصديقكم بوحدانية الله- تعالى- وعلى تصديقكم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي نزله الله- تعالى- عليه وهو القرآن، وبالكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على الرسل الذين أرسلهم من قبله.
والمراد بالكتاب الذي أنزله على الرسل من قبله جنس الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور.
ثم بين- سبحانه- سوء مصير من يكفر بشيء مما يجب الإيمان به فقال- تعالى-: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
أى: ومن يكفر بالله بأن يجحد وحدانيته وألوهيته، ولا يخلص له العبادة، ويكفر بملائكته بأن ينكر بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويكفر بكتبه التي أنزلها- سبحانه، على أنبيائه، وبرسله الذين أرسلهم لهداية الخلق. وباليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، من يكفر بكل ذلك فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن السبيل القويم بعدا كبيرا، لأنه بكفره بذلك يكون قد خالف الفطرة، وانحرف عما يقتضيه العقل السليم، وأوغل في الشرور والآثام إيغالا شديدا، يؤدى به إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وبعد هذه الأوامر السديدة للمؤمنين. عادت السورة الكريمة إلى تحذيرهم من أعدائهم ومن المنافقين، فكشفت لهم عن طبيعتهم، ونهتهم عن القعود معهم، وبينت لهم أنماطا من خداعهم، وألوانا من أخلاقهم الذميمة، وأخبرتهم عن سوء مصير أولئك المنافقين والمتمادين في الغي والضلال.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك بأسلوبها الحكيم فتقول:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه ، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل ، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه . كما يقول المؤمن في كل صلاة : ( اهدنا الصراط المستقيم ) [ الفاتحة : 6 ] أي : بصرنا فيه ، وزدنا هدى ، وثبتنا عليه . فأمرهم بالإيمان به وبرسوله ، كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ) [ الحديد : 28 ] .
وقوله : ( والكتاب الذي نزل على رسوله ) يعني : القرآن ( والكتاب الذي أنزل من قبل ) وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة ، وقال في القرآن : ( نزل ) ; لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع ، بحسب ما يحتاج إليه العباد إليه في معادهم ومعاشهم ، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة ; ولهذا قال : ( والكتاب الذي أنزل من قبل ) ثم قال ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) أي : فقد خرج عن طريق الهدى ، وبعد عن القصد كل البعد .
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (136)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " يا أيها الذين آمنوا "، بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدَّقوا بما جاؤوهم به من عند الله="آمِنوا بالله ورسوله "، يقول: صدّقوا بالله وبمحمد رسوله، أنه لله رسولٌ، مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم=" والكتاب الذي نـزل على رسوله "، يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نـزله الله عليه، وذلك القرآن=" والكتاب الذي أنـزل من قبل "، يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنـزل الله من قبل الكتاب الذي نـزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة والإنجيل.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه، وقد سماهم " مؤمنين "؟
قيل: إنه جل ثناؤه لم يسمِّهم " مؤمنين "، وإنما وصفهم بأنهم "آمنوا "، وذلك وصف لهم بخصوصٍ من التصديق. وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين &; 9-313 &; بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما= وصنف أهل إنجيل، وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، فقال جل ثناؤه لهم: " يا أيها الذين آمنوا "، يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل= "آمنوا بالله ورسوله " محمد صلى الله عليه وسلم= " والكتاب الذي نـزل على رسوله "، فإنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، تجدون صفته في كتبكم= وبالكتاب الذي أنـزل من قبلُ الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتّباعكم محمدًا، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: " يا أيها الذين آمنوا ". (33)
* * *
وأما قوله: " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "، فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته فقد ضلَّ ضلالا بعيدًا.
وإنما قال تعالى ذكره: " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "، ومعناه: ومن يكفر بمحمد وبما جاء به من عند الله (34) = لأن جحود شيء من ذلك بمعنى جحود جميعه، ولأنه لا يصح إيمان أحدٍ من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، (35) والكفر بشيء منه كفر بجميعه، فلذلك قال: " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "، بعقب خطابه أهل الكتاب وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، تهديدًا منه لهم، وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، سِوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان.
* * *
وأما قوله: " فقد ضل ضلالا بعيدًا "، فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل، وجار عن محجَّة الطريق، إلى المهالك= ذهابًا وجورًا بعيدًا. لأن كفر من كفر بذلك، خروجٌ منه عن دين الله الذي شرعه لعباده. والخروج عن دين الله، الهلاك الذي فيه البوار، والضلال عن الهدى هو الضلال. (36)
------------------
الهوامش :
(33) كان ينبغي أن يذكر أبو جعفر هنا ، اختلاف المختلفين في قراءة"أَنْزَلَ" و"أُنْزِلَ"= و"نَزَّلّ" و"نُزِّلَ" ، وظاهر أنه نسي أن يذكرها هنا ، فأخرها إلى موضع الآتي في ص: 323 ، تعليق: 1.
(34) كان في المطبوعة: "ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوته ، فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، لأن جحود شيء من ذلك ..." ، أسقط من نص المخطوطة ما أثبت ، لأنه قد وقع في المخطوطة خطأ اضطرب معه الكلام ، فلم يحسن الناشر تصحيحه ، فحذف حتى يصل بعض الكلام ببعض ، فأساء غاية الإساءة.
والخطأ الذي كان في المخطوطة هو أنه ساق الجملة كما كتبتها ، إلا أن كتب: "وإنما قال تعالى ذكره: ومن يكفر بالله فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله" وبين أن"فهو يكفر" سبق قلم من الناسخ ، والصواب إسقاطها فيستقيم الكلام كما أثبته.
وسياق الجملة: "وإنما قال تعالى ذكره كذا وكذا ... ومعناه ... كذا وكذا ، لأن جحود شيء من ذلك بمعنى جحود جميعه".
(35) لما أدخل الناشر الأول ذلك الحذف على الكلام ، اضطر في هذا الموضع أن يجعل العبارة: "وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق ..." فزاد"ذلك" في الكلام.
(36) انظر تفسير"الضلال البعيد" فيما سلف ص: 206 ، 207 ومعنى"الضلال" 1 : 195 / 2 : 495 ، 496 ، وغيرهما في فهارس اللغة.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 98 | ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ﴾ |
---|
البقرة: 285 | ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ |
---|
النساء: 136 | ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
أي:من تكرر منه الكفر بعد الإيمان فاهتدى ثم ضل، وأبصر ثم عمي، وآمن ثم كفر واستمر على كفره وازداد منه، فإنه بعيد من التوفيق والهداية لأقوم الطريق، وبعيد من المغفرة لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من حصولها. فإن كفره يكون عقوبة وطبعًا لا يزول كما قال تعالى:{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ْ}{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ} ودلت الآية:أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى الإيمان، وتركوا ما هم عليه من الكفران، فإن الله يغفر لهم، ولو تكررت منهم الردة. وإذا كان هذا الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب أولى أن العبد لو تكررت منه ثم عاد إلى التوبة، عاد الله له بالمغفرة.
وقوله - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } للمفسرين فى تأويل هذه الآية وجوه:
أولها: أن المراد بهم قوم تكرر منهم الارتداد، وأصروا على الكفر، وازدادوا تماديا فى البغى والضلال.
وقد صدر الفخر الرازى تفسيره لهذه الآية بهذا المعنى فقال: المراد بهم الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإِيمان مرات وكرات، فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإِيمان فى قلوبهم، إذ لو كان للإِيمان وقع فى قلوبهم لما تركوه لأدنى سبب ومن لا يكون للإِيمان وقع فى قلبه فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيمانا صحيحا معتبرا. فهذا هو المراد بقوله: { لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ }. وليس المراد أنه أتى بالإِيمان الصحيح لم يكن معتبرا، بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذى ذكرناه.
وقال الإِمام ابن كثير: يخبر - تعالى - عمن دخل فى الإِيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله، وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له " ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى، ولهذا قال: { لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }. وقد قال ابن عباس فى قوله: { ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً }: تمادوا فى كفرهم حتى ماتوا ".
وثانيها: أن المراد بهم أهل الكتاب. وقد رجح هذا الإِتجاه ابن جرير فقال: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإِنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.
وثالثها: أن المراد بهم طائفة من اليهود كانوا يظهرون الإِسلام تارة ثم يرجعون عنه إلى يهوديتهم لتشكيك المسلمين فى دينهم وذلك معنى قوله:
{ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
ورابعها: أن المراد بهم المنافقون. فالإِيمان الأول وإظهارهم الإِسلام. وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم. والإِيمان الثانى هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسملين قالوا: إنا مؤمنون. والكفر الثانى هو أنهم إذا خلوا إلى إخوانهم فى النفاق قالوا لهم إنا معكم. وازديادهم فى الكفر هو جدهم واجتهادهم فى استخراج أنواع المكر والكيد فى حق المسلمين.
والذى نراه أولى من بين هذه الأقوال القول الأول، لأن ألفاظ الآية عامة ولم تخصص قوما دون قوم، فكل من تكرر منهم الارتداد واستمرار فى ضلالهم حتى ماتوا ينطبق عليهم الوعيد الذى بينته الآية الكريمة، سواءً كان أولئك الذين حدث منهم هذا الارتداد المتكرر من المنافقين أم من غيرهم.
والمعنى: إن الذين آمنوا بدين الإِسلام ثم رجعوا عنه إلى ما كانوا عليه من ضلال، ثم آمنوا ثم كفروا مرة أخرى، ثم ازدادوا كفرا على كفرهم بأن استمروا فيه حتى ماتوا... هؤلاء الذين فعلوا ذلك لم يكن الله ليغفر لهم، لتماديهم فى الكفر وإصرارهم عليه حتى ماتوا، ولم يكن - سبحانه - ليهديهم سبيلا مستقيما، لأنهم هم الذين استحبوا العمى على الهدى، وهم الذين كانوا
{ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً }
قال الآلوسى: والقول المشهور الذى عليه الجمهور أن المراد من نفى المغفرة والهداية، نفى ما يقتضيهما وهو الإِيمان الخالص الثابت. ومعنى نفيه: استبعاد وقوعه، فإن من تكرر منهم الارتداد وازدياد الكفر والإِصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر، وصار الإِيمان عندهم أدون شئ وأهونه، فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة، لا أنهم لو أخلصوا الإِيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.
ثم قالوا: وخبر كان فى أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام أى: ما كان الله مريداً للغفران لهم. ونفى إرادة الفعل أبلغ من نفيه.
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ، ثم عاد فيه ثم رجع ، واستمر على ضلاله وازداد حتى مات ، فإنه لا توبة بعد موته ، ولا يغفر الله له ، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ، ولا طريقا إلى الهدى ; ولهذا قال : ( لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حفص بن جميع ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( ثم ازدادوا كفرا ) قال : تموا على كفرهم حتى ماتوا . وكذا قال مجاهد .
وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى ، عن عامر الشعبي ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال : يستتاب المرتد ، ثلاثا ، ثم تلا هذه الآية : ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا )
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (137)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا= يعني: النصارى= بعيسى ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد=" لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ".
*ذكر من قال ذلك:
10697- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا "، وهم اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وكفرهم به: تركهم إياه= ثم ازدادوا كفرًا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله: " لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا "، يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدًى، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
10698- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " إن الذين آمنوا ثم كفروا "، قال: هؤلاء اليهود، آمنوا بالتوراة ثم كفروا. ثم ذكر النصارى، ثم قال: " ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا "، يقول: آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك أهل النفاق، أنهم آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفرًا بموتهم على الكفر. (37)
*ذكر من قال ذلك:
10699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا "، قال: كنا نحسبهم المنافقين، ويدخل في ذلك من كان مثلهم=" ثم ازدادوا كفرًا "، قال: تَمُّوا على كفرهم حتى ماتوا. (38)
10700- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " ثم ازدادوا كفرًا "، قال: ماتوا. (39)
10701- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " ثم ازدادوا كفرًا "، قال: حتى ماتوا. (40)
10702- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " إن الذين آمنوا ثم كفروا " الآية، قال: هؤلاء المنافقون، آمنوا مرتين، وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفرًا بعد ذلك. (41)
* * *
وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين، التوراة والإنجيل، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا ، فلم تقبل منهم التوبة فيها، مع إقامتهم على كفرهم.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
10703- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية: " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا "، قال: هم اليهود والنصارى، أذنبوا في شركهم ثم تابوا، فلم تقبل توبتهم. ولو تابوا من الشرك لقُبِل منهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة, ثم كذبوا بخلافهم إياه ، ثم أقرّ من أقرَّ منهم بعيسى والإنجيل ، ثم كذب به بخلافه إياه, ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الآية، لأن الآية قبلها في قصص أهل الكتابين= أعني قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ = ولا دلالة تدلُّ على أن قوله: " إن الذين آمنوا ثم كفروا "، منقطع معناه من معنى ما قبله، فإلحاقه بما قبله أولى، حتى تأتي دلالة دالَّة على انقطاعه منه.
* * *
وأما قوله: " لم يكن الله ليغفر لهم "، فإنه يعني: لم يكن الله ليسترَ عليهم كفرهم وذنوبهم، بعفوه عن العقوبة لهم عليه، ولكنه يفضحهم على رؤوس الأشهاد=" ولا ليهديهم سبيلا " يقول: ولم يكن ليسدِّدهم لإصابة طريق الحق فيوفقهم لها، ولكنه يخذلهم عنها، عقوبة لهم على عظيم جُرمهم، وجرأتهم على ربهم.
* * *
وقد ذهب قوم إلى أن المرتد يُستتاب ثلاثًا، انتزاعًا منهم بهذه الآية، (42) وخالفهم على ذلك آخرون.
ذكر من قال: يستتاب ثلاثًا.
10704- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي عليه السلام قال: إن كنتُ لمستتيبَ المرتدّ ثلاثًا. ثم قرأ هذه الآية: " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ".
10705- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن علي رضي الله عنه: يستتاب المرتد ثلاثًا. ثم قرأ: " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا "،.
10706- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن رجل، عن ابن عمر قال: يستتاب المرتد ثلاثًا.
* * *
وقال آخرون: يستتابُ كلما ارتدّ.
*ذكر من قال ذلك:
10707- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عمن سمع إبراهيم قال: يستتاب المرتدّ كلما ارتدّ.
* * *
قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتد يستتاب المرَّة الأولى، الدليل الواضح على أن حكم كلِّ مرة ارتدّ فيها عن الإسلام حكمُ المرة الأولى، في أن توبته مقبولة، وأن إسلامه حَقَن له دمه. لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامُه، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه مَحْقُونًا في الحالة الأولى، ثم يكون دمه مباحًا مع وجودها، إلا أن يفرِّق بين حكم المرة الأولى وسائر المرات غيرها، ما يجب التسليم له من أصل محكمٍ، فيخرج من حكم القياس حينئذ.
---------------
الهوامش :
(37) في المطبوعة: "على كفرهم" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(38) في المطبوعة: "نموا على كفرهم" بالنون ، والصواب ما أثبت. و "تم على الشيء": أقام عليه ولزمه.
(39) يعني بقوله: "ماتوا" ، أي: ماتوا عليه ، وهذا من الاختصار في الحديث.
(40) في المخطوطة: "حين ماتوا" ، أي: حين ماتوا عليه ، وهي صواب أيضًا.
(41) انظر تفسير"ثم ازدادوا كفرًا" فيما سلف 6: 579-582.
(42) يقال: "انتزع معنى آية من كتاب الله" ، إذا استنبطه واستخرجه.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 90 | ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ |
---|
النساء: 137 | ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّـهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
نزل ... أنزل:
قرئ:
1- بالبناء للمفعول، وهى قراءة العربيين، وابن كثير.
2- بالبناء للفاعل، وهى قراءة الباقين.
التفسير :
تفسير الايتين 138 و139:ـ البشارة تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية. يقول تعالى:{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ْ} أي:الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟ وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون. والحال أن العزة لله جميعا، فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين؛ وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم.
ثم تبدأ السورة الكريمة حملتها على المنافقين فتقول: { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } والتعبير بقوله: بشر بدل أنذر أو أخبر للتهكم بهم، لأن البشارة لا تكون غالبا إلا فى الأخبار السارة، لأن الإخبار السار يظهر سرورا فى البشرة. فاستعملت البشارة فى مطلق الإِخبار أو فى الإِنذار على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
قال الرغب: ويقال: أبشرت الرجل وبشرته أى: أخبرته بأمر سرا بسط بشرة وجهه وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء فى الشجر.
وقوله: { ٱلْمُنَافِقِينَ } من النفاق وهو أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن.
قالوا: وسمى المنافق منافقا أخذاً من نافقاء اليربوع - وهو جحره فإنه يجعل له بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر؛ فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن. ويدخل مع الكفار بقوله: أنا كافر.
والمعنى: أنذر يا محمد أولئك المنافقين الذين أظهروا الإِسلام وأخفوا الكفر بالعذاب الأليم، وسق لهم هذا الإِنذار بلفظ التبشير على سبيل التهكم بهم، والاستهزاء بعقولهم، فى مقابل تهكمهم بالإِسلام وأهله وخداعهم للمؤمنين.
ثم قال : ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) يعني : أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم ،
القول في تأويل قوله : بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
قال أبو جعفر: يعني بقوله (43) جل ثناؤه: " بشر المنافقين "، أخبر المنافقين.
* * *
وقد بينَّا معنى " التبشير " فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (44)
* * *
=" بأن لهم عذابًا أليمًا "، يعني: بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم=" عذابًا أليمًا "، وهو المُوجع، وذلك عذاب جهنم (45)
----------
الهوامش :
(43) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك" ، والصواب ما أثبت.
(44) انظر ما سلف 1 : 383 / 2 : 393 / 3 : 221 / 6 : 287 ، 369 ، 370 ، 411.
(45) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 139 | ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا﴾ |
---|
آل عمران: 28 | ﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ﴾ |
---|
النساء: 144 | ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
تفسير الايتين 138 و139:ـ البشارة تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية. يقول تعالى:{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ْ} أي:الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟ وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون. والحال أن العزة لله جميعا، فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين؛ وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم.
ثم كشف - سبحانه - عن جانب من طبيعتهم المنكوسة فقال: { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
أى: أنذر هؤلاء المنافقين بالعذاب الأليم، الذين من صفاتهم أنهم يتخذون الكافرين أولياء ونصراء لهم تاركين ولاية المؤمنين ونصرتهم. فهم سلم على الكافرين وحرب على المؤمنين.
والمراد بالكافرين هنا: اليهود - على أرجح الأقوال - فقد حكى عن المنافقين أنهم كانوا يقولون: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لن يتم فتولوا اليهود، ولأن غالب سكان المدينة - من غير المسلمين - كان من اليهود.
وقوله { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } حال من فاعل يتخذون. أى: يتخذون الكفار أنصارا لهم حالة كونهم متجاوزين ولاية المؤمنين ونصرتهم.
والاستفهام فى قوله: { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ } للإِنكار والتعجب من شأنهم، والتهكم من سوء تصورهم.
وقوله: { فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } رد على تصوراتهم الباطلة، ومداركهم الفاسدة، وتثبيت للمؤمنين حتى يزدادوا قوة على قوتهم.
أى: أن هؤلاء المنافقين قد تركوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فما الذى دفعهم إلى هذا الانتكاس؟ أيطلبون بلهفة ورغبة العزة والمنعة من عند الكافرين؟ إذا كان هذا حالهم فقد خابوا وخسروا، فإن العزة والقوة والمنعة والنصرة له وحده. ومن اعتز بغير الله هان وذل.
قال ابن كثير: والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جانب الله - تعالى - والإِقبال على عبوديته، والانتظام فى جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذى رواه الإِمام أحمد عن أبى ريحانة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا فهو عاشرهم فى النار ".
وقال الإِمام الرازى: وأصل العزة فى اللغة الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز. ويقال: قد استعز المرض على المريض إذا اشتد ظهره به. وشاة عزوز التى يشتد حلبها ويصعب. والعزة: القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما. والعزيز القوى المنيع بخلاف الذليل.
ثم قال: إذا عرفت هذا فنقول: إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود. ثم إنه - تعالى - أبطل عليهم هذا الرأى بقوله: { فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً }.
فإن قيل: هذا كالمناقض لقوله:
{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }
قلنا القدرة الكاملة لله. وكل من سواه فباقداره صار قادرا. وبإعزازه صار عزيزا فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله - تعالى - فكأنه الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله.
قالوا: وقد دلت الآية الكريمة على وجوب موالاة المؤمنين، والنهى عن موالاة الكافرين. قال - تعالى -
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ }
ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة ، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنما نحن معكم ، إنما نحن مستهزئون . أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة . قال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين : ( أيبتغون عندهم العزة ) ؟
ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها لله وحده لا شريك له ، ولمن جعلها له . كما قال في الآية الأخرى : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ) [ فاطر : 10 ] ، وقال تعالى : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) [ المنافقون : 8 ] .
والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله ، والالتجاء إلى عبوديته ، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد .
ويناسب أن يذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الكندي ، عن عبادة بن نسي ، عن أبي ريحانة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من انتسب إلى تسعة آباء كفار ، يريد بهم عزا وفخرا ، فهو عاشرهم في النار " .
تفرد به أحمد وأبو ريحانة هذا هو أزدي ، ويقال : أنصاري . اسمه شمعون بالمعجمة ، فيما قاله البخاري ، وقال غيره : بالمهملة ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه: " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "، فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني" أولياء "= يعني: أنصارًا وأخِلاء (46) =" من دون المؤمنين "، يعني: من غير المؤمنين (47) =" أيبتغون عندهم العزة "، يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة، (48) باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي؟=" فإن العزة لله جميعًا "، يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاءَ العزة عندهم، هم الأذلاء الأقِلاء، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزَّة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يُعِزّ من يشاء ويذل من يشاء، فيعزُّهم ويمنعهم؟
* * *
وأصل " العزة "، الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة،" عَزَاز ". وقيل: " قد استُعِزَّ على المريض "، (49) إذا اشتدَّ مرضه وكاد يُشفى. ويقال: " تعزز اللحمُ"، إذا اشتد. ومنه قيل: " عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا "، بمعنى: اشتد عليَّ. (50)
-------------------
الهوامش :
(46) انظر تفسير"الولي" فيما سلف ص: 247 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.
(47) انظر تفسير"من دون" فيما سلف ص: 247 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(48) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 202 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(49) "استعز" بالبناء للمجهول ، وفي الحديث: "أنه استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه" ، أي: اشتد به المرض وغلبه وأشرف على الموت.
وقوله: "وكاد يشفى" ، أي: يشرف على الهلاك ، أشفى يشفى إشفاء.
(50) انظر تفسير"العزة" و"عزيز" فيما سلف 3 : 88 / 4 : 244 / 6 : 168 ، 271 ، 476. هذا ، ولم يفسر أبو جعفر معنى"العزة" تفسيرًا مطولا إلا في هذا الموضع ، وهذا دليل آخر على طريقته في اختصار تفسيره هذا.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 139 | ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَـ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا ﴾ |
---|
يونس: 65 | ﴿وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ |
---|
فاطر: 10 | ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
أي:وقد بيَّن الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي{ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} أي:يستهان بها. وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها، وهذا المقصود بإنزالها، وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله، فضد الإيمان الكفر بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها، ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم. وكذلك المبتدعون على اختلاف أنواعهم، فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله لأنها لا تدل إلا على حق، ولا تستلزم إلا صدقا، بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم{ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي:غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.{ إِنَّكُمْ إِذًا} أي:إن قعدتم معهم في الحال المذكورة{ مِثْلُهُمْ} لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها.{ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} كما اجتمعوا على الكفر والموالاة ولا ينفع الكافرين مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين كما قال تعالى:{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} إلى آخر الآيات.
ثم نهى - سبحانه - المسلمين عن مخالطة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها فقال: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ }.
أى: وقد نزل الله عليكم - أيها المؤمنون - فى كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الكافرون، ويستهزئ بهم المستهزئون، فعليكم فى هذه الأحوال أن تتركوا مجالسهم، وأن تعرضوا عنهم حتى يتكلموا فى حديث آخر سوى الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.
قال صاحب الكشاف: والمراد بالمنزل عليهم فى الكتاب: هو ما نزل عليهم فى مكة من قوله - تعالى -:
{ وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ }
وذلك أن المشركين كانوا يخوضون فى ذكر القرآن فى مجالسهم فيستهزئون به، فنهى - سبحانه - المسلمين عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه.
وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا - قبل ذلك - عن مجالسة المشركين بمكة.
وأن فى قوله { إِذَا سَمِعْتُمْ } تفسيرية، لأن { نَزَّلَ } تضمن معنى القول دون حروفه. وجعلها بعضهم مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أى أنه إذا سمعتم. وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أى أنكم إذا سمعتم، وخبرهما جملة الشرط والجزاء.
وقوله { يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } جملتان فى موضع الحال من الآيات.
وأضاف - سبحانه - الآيات إليه، لتهويل أمرها، والتشنيع على من كفر أو استهزأ بها.
والضمير فى قوله { مَعَهُمْ } يعود إلى الكافرين والمستهزئين المدلول عليهم بقوله: { يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ } فكأنه قيل: لا تقعدوا - أيها المؤمنون - مع الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها.
والضمير فى قوله { غَيْرِهِ } يعود إلى تحدثهم بالكفر والاستهزاء أى: حتى يخوضوا فى حديث سوى حديثهم المتعلق بالكفر بآيات الله والاستهزاء بها.
وقوله { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } تعليل للنهى عن القعود معهم.
أى: أيها المؤمنون - إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله - تعالى - والاستهزاء بها، كنتم معهم فى الاستهانة بآيات الله وشركاء لهم فى آثامهم، لأن الراضى بالكفر بآيات الله وبالاستهزاء بها. يكون بعيدا عن حقيقة الإِيمان، ومستحقا للعقوبة من الله - تعالى -.
قال صاحب الكشاف، فإن قلت: لم يكونوا مثلهم بالمجالسة إليهم فى وقت الخوض؟ قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضى بالكفر كافر فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة - حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين - منافقين؟ قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم. وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم فكان ترك الإِنكار لرضاهم.
وقال القرطبى: فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصى إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يتجنبهم فقد رضى فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله - تعالى - { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ }. فكل من جلس فى مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم فى الوزر سواء. وينبغى أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغى أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وقد روى عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم.
فحمل عليه الأدب وقرأ عليه هذه الآية { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } أى أن الرضا بالمعصية معصية. ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضى بعقوبة العاصى حتى يهكلوا جميعا. وهذه المماثلة ليست فى جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالوعيد الشديد للكافرين والمنافقين فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } لأن هذين الفريقين كما اجتمعوا فى الدنيا على الكفر بآيات الله والاستهزاء بها والتواصى بالشرور والآثام، فسيجمعهم الله جميعاً فى جهنم يوم القيامة، بسبب ما قدمت أيديهم من جرائم ومنكرات.
فأنت ترى أن الآية الكريمة تنهى المؤمنين عن مجالسة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها، لأن أول الشر سماع الشر، ولأن أول مراتب ضعف الإِيمان أن تفتر حماسة المؤمن فى الدفاع عن الحق الذى آمن به.
ومن علامات المؤمن الصادق أنه متى سمع استهزاء بتعاليم دينه فعليه إما أن ينبرى للدفاع عن هذه التعاليم بشجاعة وحماسة وقوله تدمغ الباطل وأهله وتفضح كل معتد أثيم.. وإما أن يقاطع المجالس التى لا يحترم فيها دين الله. أما السكوت عن ذلك باسم التغاضى أو التسامح أو المرونة. أو بغير ذلك من الأسماء، فهذا أو مراتب النفاق الذى يؤدى إلى خزى الدنيا وعذاب الآخرة.
وقوله [ تعالى ] ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) أي : إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها ، وأقررتموهم على ذلك ، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه . فلهذا قال تعالى : ( إنكم إذا مثلهم ) [ أي ] في المأثم ، كما جاء في الحديث : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " .
والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك ، هو قوله تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم [ حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ] ) [ الأنعام : 68 ] قال مقاتل بن حيان : نسخت هذه الآية التي في الأنعام . يعني نسخ قوله : ( إنكم إذا مثلهم ) لقوله ( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ) [ الأنعام : 69 ] .
وقوله : ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) أي : كما أشركوهم في الكفر ، كذلك شارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا ، وجمع بينهم في دار العقوبة والنكال ، والقيود والأغلال . وشراب الحميم والغسلين لا الزلال .
القول في تأويل قوله : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ = الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، =" وقد نـزل عليكم في الكتاب "، يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارًا وأولياءَ بعد ما نـزل عليهم من القرآن،" أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره "، يعني: بعد ما علموا نَهْي الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآيِ كتابه ويستهزئون بها=" حتى يخوضوا في حديث غيره "، يعني بقوله: " يخوضوا "، يتحدثوا حديثًا غيره= بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . (51)
وقوله: " إنكم إذًا مثلهم "، يعني: وقد نـزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون، فأنتم مثله= يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه.
* * *
وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم.
* * *
وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون، (52) تأوُّلا منهم هذه الآية أنه مرادٌ بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه.
*ذكر من قال ذلك:
10708- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، عن أبي وائل، قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكَذب ليُضحك بها جلساءَه، فيسخط الله عليهم. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله: " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم "؟
10709- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن العلاء بن المنهال، عن هشام بن عروة قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قومًا على شرابٍ فضربهم، وفيهم صائم، فقالوا: إنّ هذا صائم! فتلا " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلُهم ".
10710- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها "، وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، [سورة الأنعام: 153] ، وقوله: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى: 13] ، ونحو هذا من القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف &; 9-322 &; والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمِراء والخصومات في دين الله.
* * *
وقوله: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا "، يقول: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار، فموفِّق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين، وتوَازرُوا على التخذيل عن دين الله= وعن الذي ارتضاهُ وأمر به= وأهلِه. (53)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " وقد نـزل عليكم في الكتاب ".
فقرأ ذلك عامة القرأة بضم " النون " وتثقيل " الزاي" وتشديدها، على وجْه ما لم يُسَمَّ فاعله.
* * *
وقرأ بعض الكوفيين بفتح " النون " وتشديد " الزاي"، على معنى: وقد نـزل الله عليكم.
* * *
وقرأ بعض المكيين: ( وَقَدْ نـزلَ عَلَيْكُمْ ) بفتح " النون "، وتخفيف " الزاي"، بمعنى: وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.
* * *
قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام. غير أن الذي أختارُ القراءة به، قراءة من قرأ: ( وَقَدْ نُـزِّلَ ) بضم " النون " وتشديد " الزاي"، على وجه ما لم يسم فاعله. لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل، (54) على معنى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ =" وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها " إلى قوله: " حديث غيره "= أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ . فقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ، يعني التأخير، &; 9-323 &; فلذلك كان ضم " النون " من قوله: " نـزل " أصوب عندنا في هذا الموضع.
* * *
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله (55) وَالْكِتَابِ الَّذِي نَـزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنْ قَبْلُ .
فقرأه بفتح ( نـزلَ ) و ( أَنـزلَ ) أكثر القرأة، بمعنى: والكتاب الذي نـزل الله على رسوله، والكتاب الذي أنـزل من قبل.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما، (56) بمعنى ما لم يسم فاعله.
* * *
وهما متقاربتا المعنى. غير أن الفتح في ذلك أعجبُ إليَّ من الضم، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ .
* * *
----------------
الهوامش :
(51) أراد أبو جعفر بهذه الفقرة أن يبين أن قوله في الآية الأولى: "بأن لهم عذابًا أليمًا" ، مقدم ومعناه التأخير ، فلذلك قال في أول الكلام"بشر المنافقين" ثم استطرد في ذكر الآيتين بعدها ، ثم ختمها بختام الأولى.
(52) في المطبوعة: "كان جماعة من الأمة الماضية" ، والصواب من المخطوطة.
(53) قوله: "وأهله" مجرور معطوف على قوله"عن دين الله" والسياق: "عن دين الله ... وعن أهله".
(54) انظر ما سلف ص: 320 وتعليق: 1.
(55) في المطبوعة: "وكذا اختلفوا" ، وأثبت ما في المخطوطة. وذكر هذه القراءة ، كان ينبغي أن يكون في موضعه عند آخر تفسير الآية ، كما جرى عليه منهجه في كل ما سلف. وانظر ص: 313 تعليق: 1.
(56) في المطبوعة: "كلاهما" ، والصواب في المخطوطة.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 230 | ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ﴾ |
---|
الإسراء: 73 | ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيۡرَهُ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا﴾ |
---|
النساء: 140 | ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ﴾ |
---|
الأنعام: 68 | ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
نزل:
قرئ:
1- مشددا مبنيا للمفعول، وهى قراءة الجمهور.
2- مشددا مبنيا للفاعل، وهى قراء عاصم.
3- مخففا مبنيا للفاعل، وهى قراءة أبى حيوة.
4- أنزل، بالهمزة، مبنيا للمفعول، وهى قراءة النخعي.