ترتيب المصحف | 9 | ترتيب النزول | 113 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 21.00 |
عدد الآيات | 129 | عدد الأجزاء | 1.05 |
عدد الأحزاب | 2.10 | عدد الأرباع | 8.50 |
ترتيب الطول | 7 | تبدأ في الجزء | 10 |
تنتهي في الجزء | 11 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
الجمل الخبرية: 2/21 | _ |
= ثُمَّ الدعوةُ لقتالِ الكفَّارِ (الأقربِ فالأقربِ) بشدةٍ وقوةٍ.
قريبًا إن شاء الله
آخرُ حديثٍ عن قبائحِ المنافقينَ: استهزاؤُهم بالقرآنِ، وأنَّ نزولَه يزيدُ المؤمنينَ إيمانًا ويزيدُهم مرضًا، يبتَلِيهم اللهُ بفضحِ نفاقِهم كلِّ سنةٍ مرةً أو مرتينِ فلا يعتبرُونَ.
قريبًا إن شاء الله
لمَّا أَمَرَ رسولَه ﷺ أن يبلِّغَ في هذه السورةِ تكاليفَ شاقَّةً ختمَها بما ييسرُ تحمُّلَ تلك التكاليفِ وهو حرصُه ﷺ عليهم ورحمتُه بهم.
قريبًا إن شاء الله
التفسير :
وهذا أيضًا إرشاد آخر، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدأون بالأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم، والشدة في القتال، والشجاعة والثبات.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي: وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى، فلازموا على تقوى اللّه، يعنكم وينصركم على عدوكم.
وهذا العموم في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الذين يلوننا، وأنواع المصالح كثيرة جدا.
وقوله: يَلُونَكُمْ من الولي بمعنى القرب، تقول جلست مما يلي فلان أى: يقاربه.
قال ابن كثير: أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا، الأقرب فالأقرب، إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة واليمن.. وغير ذلك من أقاليم العرب، دخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لأنهم أهل كتاب، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس، وجدب البلاد، وضيق الحال، ذلك سنة تسع من الهجرة، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية- صلوات الله وسلامه عليه- بعد حجة الوداع بأحد وثمانين يوما وسار خلفاؤه الراشدون من بعده على نهجه.
وقوله وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أى: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا بأخيه المؤمن، غليظا على عدوه الكافر. قال- تعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا الضحوك القتال» يعنى: أنه ضحوك في وجه وليه المؤمن، قتال لهامة عدوه الكافر» .
وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به حض المؤمنين على التسلح بسلاح الإيمان والتقوى حتى ينالوا نصر الله وعونه.
أى: واعلموا أن الله- تعالى- مع المتقين بنصره ومعونته، فاحرصوا على هذه الصفة ليستمر معكم نصره- سبحانه- وعونه.
وإنما أمر الله- تعالى- المؤمنين أن يبدءوا قتالهم مع الأقرب فالأقرب من ديارهم، لأن القتال شرع لتأمين الدعوة الإسلامية، وقد كانت دعوة الإسلام موجهة إلى الأقرب فالأقرب، فكان من الحكمة أن يبدءوا قتالهم مع المجاورين لهم حتى يأمنوا شرهم، ولأنه من المعلوم أنه ليس في طاقة المسلمين قتال جميع الكفار، وغزو جميع البلاد في زمان واحد، فكان من قرب أولى ممن بعد.
ثم ختمت السورة- أيضا- حديثها الطويل المتنوع عن المنافقين ببيان موقفهم من نزول الآيات القرآنية على الرسول صلى الله عليه وسلم
أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ؛ ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة ، والطائف ، واليمن واليمامة ، وهجر ، وخيبر ، وحضرموت ، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب ، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال ، وكان ذلك سنة تسع من هجرته ، عليه السلام .
ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حجة الوداع . ثم عاجلته المنية ، صلوات الله وسلامه عليه ، بعد الحجة بأحد وثمانين يوما ، فاختاره الله لما عنده .
وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر ، رضي الله عنه ، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل ، فثبته الله تعالى به فوطد القواعد ، وثبت الدعائم . ورد شارد الدين وهو راغم . ورد أهل الردة إلى الإسلام ، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام ، وبين الحق لمن جهله ، وأدى عن الرسول ما حمله . ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان وإلى الفرس عبدة النيران ، ففتح الله ببركة سفارته البلاد ، وأرغم أنفس كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد . وأنفق كنوزهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك رسول الإله .
وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده ، وولي عهده الفاروق الأواب ، شهيد المحراب ، أبي حفص عمر بن الخطاب ، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين ، وقمع الطغاة والمنافقين ، واستولى على الممالك شرقا وغربا . وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدا وقربا . ففرقها على الوجه الشرعي ، والسبيل المرضي .
ثم لما مات شهيدا وقد عاش حميدا ، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار . على خلافة أمير المؤمنين [ أبي عمرو ] عثمان بن عفان شهيد الدار . فكسا الإسلام [ بجلاله ] رياسة حلة سابغة . وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة ، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وعلت كلمة الله وظهر دينه . وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها ، فكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار ، امتثالا لقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) وقوله تعالى : ( وليجدوا فيكم غلظة ) [ أي : وليجد الكفار منكم غلظة ] عليهم في قتالكم لهم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن ، غليظا على عدوه الكافر ، كما قال تعالى : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ الفتح : 29 ] ، وقال تعالى : ( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ] ، وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا الضحوك القتال " ، يعني : أنه ضحوك في وجه وليه ، قتال لهامة عدوه .
وقوله : ( واعلموا أن الله مع المتقين ) أي : قاتلوا الكفار ، وتوكلوا على الله ، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه .
وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة ، في غاية الاستقامة ، والقيام بطاعة الله تعالى ، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم ، ولم تزل الفتوحات كثيرة ، ولم تزل الأعداء في سفال وخسار . ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك ، طمع الأعداء في أطراف البلاد ، وتقدموا إليها ، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض ، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام ، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة ، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام ، ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد . فكلما قام ملك من ملوك الإسلام ، وأطاع أوامر الله ، وتوكل على الله ، فتح الله عليه من البلاد ، واسترجع من الأعداء بحسبه ، وبقدر ما فيه من ولاية الله . والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين ، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم ، إنه جواد كريم .
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: " يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بَعُد منهم. (1) يقول لهم: ابدأوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارًا، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ، الروم, لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ, والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد, فإن الفرض على أهل كل ناحية، قتالُ من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام, فإن اضطروا إليهم، لزمهم عونهم ونصرهم, لأن المسلمين يدٌ على من سواهم.
* * *
ولصحة كون ذلك كذلك, تأوّل كلُّ من تأوّل هذه الآية، أنّ معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتالَ من وليهم من الأعداء.
* ذكر الرواية بذلك:
17481- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن شبيب بن غرقدة البارقي, عن رجل من بني تميم قال، سألت ابن عمر عن قتال الديلم قال: عليك بالروم! (2)
17482- حدثنا ابن بشار، وأحمد بن إسحاق، وسفيان بن وكيع قالوا، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن يونس، عن الحسن: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، قال: الديلم.
17483- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن الربيع, عن الحسن: أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم، تلا هذه الآية: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار).
17484- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا عمران أخي قال: سألت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فقلت: ما ترى في قتال الديلم؟ فقال: قاتلوهم ورابطوهم, فإنهم من الذين قال الله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار). (3)
17485- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن الربيع, عن الحسن: أنه سئل عن الشأم والديلم, فقال: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، الديلم.
17486- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز يقولان: يرابط كل قوم ما يليهم من مَسَالحهم وحصونهم، ويتأوَّلان قول الله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار).
17487- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، قال: كان الذين يلونهم من الكفار العربُ, فقاتلهم حتى فرغ منهم. فلما فرغ قال الله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، حتى بلغ، وَهُمْ صَاغِرُونَ ، [سورة التوبة: 29]. قال: فلما فرغ من قتال من يليه من العرب، أمره بجهاد أهل الكتاب. قال: وجهادهم أفضل الجهاد عند الله .
* * *
وأما قوله: (وليجدوا فيكم غلظة) ، فإن معناه: وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم =(فيكم) ، أي: منكم شدةً عليهم (4) =(واعلموا أن الله مع المتقين) ، يقول: وأيقنوا، عند قتالكم إياهم، أن الله معكم، وهو ناصركم عليهم, فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه.
--------------------
الهوامش :
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(2) الأثر : 17481 - " شبيب بن غرقدة البارقي " ، والمشهور " السلمي " ، مضى برقم : 3008 ، 3009 ، وهو تابعي ثقة . وهكذا جاء في المخطوطة كما أثبته ، ولكن ناشر المطبوعة كتبه هكذا " عن شبيب بن غرقدة، عن عروة البارقي ، عن رجل من بني تميم " ، وهو لا يصح أبدا ، لأن " عروة البارقي " ، هو : " عروة بن أبي الجعد البارقي " ، وهو صحابي معروف ، مضى أيضا برقم : 3008 . والذي حدث هناك أيضا أنه زاد في الإسناد " عروة " ، واستظهر أخي أنه زيادة في الإسناد ، وهو الصواب ، ويؤيده ما حدث في هذا الموضع ، من ناسخ أو ناشر . وعذره فيما أظن شهرة " شبيب بن غرقدة " أنه " السلمي " ، وأنه يروي عن " عروة البارقي " ، فلما رأى " شبيب بن غرقدة البارقي " ، ظن أنه خطأ في الإسناد فأضاف " عن عروة " بين " غرقدة " ، و " البارقي " .
(3) الأثر : 17484 - " يعقوب بن عبد الله القمي " ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 16960 .
وهو يروي عن أخويه : " عبد الرحمن ، وعمران " ، ولم أجد لأخيه " عمران " ترجمة .
(4) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 7 : 341 / 14 : 360 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 194 | ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ |
---|
التوبة: 36 | ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ |
---|
التوبة: 123 | ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
غلظة:
1- بكسر الغين، وهى لغة أسد، وبها قرأ الجمهور.
وقرئ:
2- بفتحها، وهى لغة الحجاز، وبها قرأ الأعمش، وأبان بن تغلب، والمفضل، كلاهما عن عاصم.
3- بضمها، وهى لغة تميم وبها قرأ أبو حيوة، والسلمى، وابن أبى عبلة.
التفسير :
يقول تعالى: مبينا حال المنافقين، وحال المؤمنين عند نزول القرآن، وتفاوت ما بين الفريقين، فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} فيها الأمر، والنهي، والخبر عن نفسه الكريمة، وعن الأمور الغائبة، والحث على الجهاد.
{فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} أي: حصل الاستفهام، لمن حصل له الإيمان بها من الطائفتين.
قال تعالى ـ مبينا الحال الواقعة ـ : {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} بالعلم بها، وفهمها، واعتقادها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير، والانكفاف عن فعل الشر.
{وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يبشر بعضهم بعضا بما من اللّه عليهم من آياته، والتوفيق لفهمها والعمل بها. وهذا دال على انشراح صدورهم لآيات اللّه، وطمأنينة قلوبهم، وسرعة انقيادهم لما تحثهم عليه.
والمعنى: وإذا ما أنزلت سورة من سور القرآن عليك يا محمد: تساءل المنافقون عنها في حذر وريبة «فمنهم من يقول» لأشباهه في الكفر والنفاق على سبيل الاستهزاء والتهوين من شأن القرآن الكريم «أيكم زادته هذه إيمانا» أى: أى واحد منكم زادته هذه السورة النازلة إيمانا؟
وهنا يجيء الرد الحاسم الذي يخرس ألسنتهم، من جهته- تعالى- فيقول: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
أى: فأما الذين آمنوا فزادهم نزول السورة القرآنية، إيمانا على إيمانهم، وثباتا على ثباتهم، ويقينا على يقينهم، «وهم» فوق ذلك «يستبشرون» ويفرحون بنزولها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية.
هذا شأن المؤمنين بالنسبة لنزول السورة القرآنية، وأما المنافقون، فقد صور القرآن حالهم بقوله وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ.
يقول تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة ) فمن المنافقين ( من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) ؟ أي : يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا ؟ قال الله تعالى : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) .
وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء ، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول " شرح البخاري " رحمه الله
القول في تأويل قوله : وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أنـزل الله سورة من سور القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فمن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله في هذه السورة من يقول: أيها الناس، أيكم زادته هذه السورة إيمانًا؟ يقول: تصديقًا بالله وبآياته. يقول الله: (فأما الذين آمنوا)، من الذين قيل لهم ذلك =(فزادتهم)، السورة التي أنـزلت =(إيمانا)، وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الإيمان واليقين. (5)
* * *
فإن قال قائل: أو ليس " الإيمان "، في كلام العرب، التصديق والإقرارُ؟ (6) قيل: بلى!
فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقًا وإقرارًا؟
قيل: زادتهم إيمانًا حين نـزلت, لأنهم قبل أن تنـزل السورة لم يكن لزمهم فرضُ الإقرار بها والعمل بها بعينها، إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحقٌّ. فلما أنـزل الله السورة، لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله, ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه, فكان ذلك هو الزيادة التي زادتهم نـزول السورة حين نـزلت من الإيمان والتصديق بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17488- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) ، قال: كان إذا نـزلت سورة آمنوا بها, فزادهم الله إيمانًا وتصديقًا, وكانوا يستبشرون.
17489- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: (فزادتهم إيمانًا) ، قال: خشيةً.
----------------------------
الهوامش :
(5) انظر تفسير " استبشر " فيما سلف 7 : 396 .
(6) انظر تفسير " الإيمان " فيما سلف من فهارس اللغة ( أمن ) .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
التوبة: 86 | ﴿وَ إِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّـهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ﴾ |
---|
التوبة: 124 | ﴿وَ إِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَانًا﴾ |
---|
التوبة: 127 | ﴿وَ إِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ﴾ |
---|
محمد: 20 | ﴿فَـ إِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
أيكم:
1- بالرفع، وهى قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- بالنصب، وهى قراءة زيد بن على، وعبيد بن عمير.
التفسير :
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك ونفاق {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} أي: مرضا إلى مرضهم، وشكا إلى شكهم، من حيث إنهم كفروا بها، وعاندوها وأعرضوا عنها، فازداد لذلك مرضهم، وترامى بهم إلى الهلاك {و} الطبع على قلوبهم، حتى {مَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}
وهذا عقوبة لهم، لأنهم كفروا بآيات اللّه وعصوا رسوله، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه.
أى: وأما الذين في قلوبهم شك ونفاق وارتياب، فزادهم نزول السورة كفرا على كفرهم السابق.
وسمى- سبحانه- الكفر رجسا، لأنه أقبح الأشياء وأسوؤها.
وقوله: وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم في الآخرة بعد بيان سوء أعمالهم في الدنيا.
أى: لقد قضى هؤلاء المنافقون حياتهم في الكفر والفسوق والعصيان، ثم لم يتوبوا عن ذلك ولم يرجعوا عنه، بل ماتوا على الكفر والنفاق.
( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) أي : زادتهم شكا إلى شكهم ، وريبا إلى ريبهم ، كما قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت : 44 ] ، وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم ، كما أن سيئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا .
القول في تأويل قوله : وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأما الذين في قلوبهم مرض), نفاق وشك في دين الله, (7) فإن السورة التي أنـزلت =(زادتهم رجسًا إلى رجسهم)، وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله, فلم يؤمنوا بها ولم يصدّقوا, فكان ذلك زيادة شكٍّ حادثةً في تنـزيل الله، لزمهم الإيمان به عليهم، بل ارتابوا بذلك, فكان ذلك زيادة نَتْنٍ من أفعالهم، إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق. وذلك معنى قوله: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (8) =(وماتوا) ، يعني: هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا =(وهم كافرون) ، يعني: وهم كافرون بالله وآياته.
----------------------
الهوامش :
(7) انظر تفسير " المرض " فيما سلف 1 : 278 - 281 / 10 : 404 / 14 : 12 .
(8) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف ص : 425 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 161 | ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ﴾ |
---|
آل عمران: 91 | ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ﴾ |
---|
التوبة: 84 | ﴿إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ |
---|
التوبة: 125 | ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
قال تعالى ـ موبخًا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق ـ : {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} بما يصيبهم من البلايا والأمراض، وبما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم.
{ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} عما هم عليه من الشر {وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم، فيتركونه.
فالله تعالى يبتليهم ـ كما هي سنته في سائر الأمم ـ بالسراء والضراء وبالأوامر والنواهي ليرجعوا إليه، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وفي هذه الآيات دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه ينبغي للمؤمن، أن يتفقد إيمانه ويتعاهده، فيجدده وينميه، ليكون دائما في صعود.
وقوله: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ.. توبيخ لهم على قسوة قلوبهم، وانطماس بصيرتهم، وغفلتهم عما يدعو إلى الاعتبار والاتعاظ.
أى: أبلغ الجهل والسفه وعمى البصيرة بهؤلاء، أنهم صاروا لا يعتبرون ولا يتعظون بما حاق من فتن واختبارات وابتلاءات، تنزل بهم في كل عام مرة أو مرتين؟
ومن هذه الفتن والامتحانات: كشف مكرهم عن طريق اطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يضمرونه من سوء، وما يقولونه من منكر، وما يفعلونه من أفعال خبيثة، وحلول المصائب والأمراض بهم، ومشاهدتهم لانتصار المؤمنين وخذلان الكافرين.
قال الآلوسى: والمراد من المرة والمرتين- على ما صرح به بعضهم- مجرد التكثير، لا بيان الوقوع على حسب العدد المذكور.
وقوله: ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ بيان لرسوخهم في الجهل والجحود.
أى: ثم بعد كل هذه الفتن النازلة بهم، لا يتوبون من نفاقهم «ولا هم يذكرون» ويتعظون، بل يصرون على مسالكهم الخبيثة، وأعمالهم القبيحة، مع أن من شأن الفتن والمصائب والمحن، أنها تحمل على الاعتبار والاتعاظ، والرجوع عن طريق الشر إلى طريق الخير.
يقول تعالى : أولا يرى هؤلاء المنافقون ( أنهم يفتنون ) أي : يختبرون ( في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) أي : لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم .
قال مجاهد : يختبرون بالسنة والجوع .
وقال قتادة : بالغزو في السنة مرة أو مرتين .
وقال شريك ، عن جابر - هو الجعفي - عن أبي الضحى ، عن حذيفة : ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين ، فيضل بها فئام من الناس كثير . رواه ابن جرير .
وفي الحديث عن أنس : " لا يزداد الأمر إلا شدة ، ولا يزداد الناس إلا شحا ، وما من عام إلا والذي بعده شر منه " ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءه قوله: (أولا يرون) .
فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( أو لا يرون ) ، بالياء, بمعنى: أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرضُ النفاق؟
وقرأ ذلك حمزة: (أَوَ لا تَرَوْنَ)، بالتاء, بمعنى: أو لا ترون أنتم، أيها المؤمنون، أنهم يفتنون؟
قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القراءة في ذلك، الياءُ, على وجه التوبيخ من الله لهم, لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه، وصحة معناه.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنَّ الله يختبرهم في كل عام مرة أو مرتين, بمعنى أنه يختبرهم في بعض الأعوام مرة, وفي بعضها مرتين (9) =(ثم لا يتوبون) ، يقول: ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم، لا ينيبون من نفاقهم, ولا يتوبون من كفرهم, ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته, فيتعظوا بها، ولكنهم مصرُّون على نفاقهم؟
واختلف أهل التأويل في معنى " الفتنة " التي ذكر الله في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها.
فقال بعضهم: ذلك اختبارُ الله إياهم بالقحط والشدة.
* ذكر من قال ذلك:
17490- حدثنا ابن وكيع, حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسَّنة والجوع.
17491- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: (يفتنون) ، قال: يبتلون =(في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسنة والجوع.
17492- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: يبتلون بالعذاب في كل عام مرة أو مرتين.
17493- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: (يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسنة والجوع.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بالغزو والجهاد.
* ذكر من قال ذلك:
17494- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( أوَلا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: يبتلون بالغزو في سبيل الله في كل عام مرة أو مرتين.
17495- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن, مثله.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بما يُشيع المشركون من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض.
* ذكر من قال ذلك:
17496- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن جابر, عن أبي الضحى, عن حذيفة: ( أوَلا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضل بها فئامٌ من الناس كثير.
17497- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن جابر, عن أبي الضحى, عن حذيفة, قال: كان لهم في كل عام كذبة أو كذبتان.
* * *
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله عجَّب عبادَه المؤمنين من هؤلاء المنافقين, ووبَّخ المنافقين في أنفسهم بقلّة تذكرهم، وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها. وجائزٌ أن تكون تلك المواعظُ الشدائدَ التي ينـزلها بهم من الجوع والقحط = وجائزٌ أن تكون ما يريهم من نُصرة رسوله على أهل الكفر به، ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم = وجائزٌ أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم، بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه = ولا خبر يوجب صحةَ بعض ذلك دون بعض، من الوجه الذي يجب التسليم له. ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله وهو: أو لا يرون أنهم يختبرون في كل عام مرة أو مرتين، بما يكون زاجرًا لهم، ثم لا ينـزجرون ولا يتعظون؟
----------------------
الهوامش :
(9) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : 286 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
التوبة: 126 | ﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ |
---|
طه: 89 | ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ |
---|
الأنبياء: 44 | ﴿حَتَّىٰ طَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۗ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
يرون:
1- بالياء، وهى قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- بالتاء، على الخطاب، وهى قراءة حمزة.
3- أو لا ترى أي: أنت يا محمد، وهى قراءة أبى، وابن مسعود، والأعمش.
4- أو لم تروا، وقد رويت عن الأعمش أيضا.
التفسير :
يعني: أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، إذا نزلت سورة ليؤمنوا بها، ويعملوا بمضمونها {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} جازمين على ترك العمل بها، ينتظرون الفرصة في الاختفاء عن أعين المؤمنين، ويقولون: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا} متسللين، وانقلبوا معرضين، فجازاهم اللّه بعقوبة من جنس عملهم، فكما انصرفوا عن العمل {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي: صدها عن الحق وخذلها.
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} فقها ينفعهم، فإنهم لو فقهوا، لكانوا إذا نزلت سورة آمنوا بها، وانقادوا لأمرها.
والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره، من شرائع الإيمان، كما قال تعالى عنهم: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}
ثم تصور السورة الكريمة تصويرا معجزا، مشهدهم عند ما تنزل السورة القرآنية على الرسول صلى الله عليه وسلم وهم حاضرون في مجلسه فتقول: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أو آيات منها، على الرسول صلى الله عليه وسلم وهم موجودون في مجلسه نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ في ريبة ومكر، وتغامزوا بعيونهم وجوارحهم في لؤم وخسة ثم تساءلوا: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أى:
هل يراكم من أحد من المسلمين إذا ما قمتم من هذا المجلس، قبل أن يتلو الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السورة أو الآيات التي قد تفضحكم وتكشف عما أسررتموه فيما بينكم.
ثُمَّ انْصَرَفُوا من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم متسللين في حذر حتى لا يراهم أحد من المسلمين.
وقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ذم لهم لإيثارهم الغي على الرشد، والضلالة على الهداية.
أى: صرف الله قلوبهم عن الهداية والرشاد، بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما فيه خيرهم ونفعهم. وإنما يفقهون ما فيه شقاؤهم وتعاستهم.
هذا، وإن الناظر في هذه الآيات الكريمة بتدبر وإمعان، ليراها قد صورت أحوال المنافقين وأخلاقهم وحركاتهم تصويرا دقيقا معجزا، حتى إنه ليخيل إلى القارئ لهذه الآيات الكريمة أو السامع لها، أنه يشاهد المنافقين مشاهدة حسية وهم على تلك الحالة من التحرك المريب والنظرات الخبيثة، والخروج من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في حذر وريبة..
وهذا كله مما يشهد بأن هذا القرآن إنما هو من عند الله العليم بخفايا الصدور، وبطوايا النفوس.
ثم ختم- سبحانه سورة التوبة، بآيتين كريمتين، اشتملتا على أسمى النعوت، وأكرم الصفات للرسول صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى-:
وقوله : ( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( نظر بعضهم إلى بعض ) أي : تلفتوا ، ( هل يراكم من أحد ثم انصرفوا ) أي : تولوا عن الحق وانصرفوا عنه ، وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يقيمونه كما قال تعالى : ( فما لهم عن التذكرة معرضين . كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة ) [ المدثر : 49 - 51 ] ، وقال تعالى : ( فمال الذين كفروا قبلك مهطعين . عن اليمين وعن الشمال عزين ) [ المعارج : 36 ، 37 ] ، أي : ما لهؤلاء القوم يتقللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق ، وذهابا إلى الباطل .
وقوله : ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) كقوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [ الصف : 5 ] ، ( بأنهم قوم لا يفقهون ) أي : لا يفهمون عن الله خطابه ، ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه ، بل هم في شده عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه .
القول في تأويل قوله : وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإذا ما أنـزلت سورة)، من القرآن، فيها عيبُ هؤلاء المنافقين الذين وصفَ جل ثناؤه صفتهم في هذه السورة, وهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم =(نظر بعضهم إلى بعض), فتناظروا =(هل يراكم من أحد)، إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به, ثم قاموا فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم. ثم ابتدأ جل ثناؤه قوله: (صرف الله قلوبهم) ، فقال: صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوبَ هؤلاء المنافقين (10) = ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ، يقول: فعل الله بهم هذا الخذلان, وصرف قلوبهم عن الخيرات، من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن الله مواعظه, استكبارًا، ونفاقا. (11)
* * *
واختلف أهل العربية في الجالب حرفَ الاستفهام.
فقال بعض نحويي البصرة, قال: (نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد)، كأنه قال: " قال بعضهم لبعض "، لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماءً وشبيهًا به, (12) والله أعلم.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هو: وإذا ما أنـزلت سورة قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟
وقال آخر منهم: هذا " النظر " ليس معناه " القول ", ولكنه النظر الذي يجلب الاستفهام، كقول العرب: " تناظروا أيهم أعلم ", و " اجتمعوا أيهم أفقه "، أي: اجتمعوا لينظروا = فهذا الذي يجلب الاستفهام.
* * *
17498- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شعبة, عن أبي حمزة, عن ابن عباس قال: لا تقولوا: " انصرفنا من الصلاة ", فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم, ولكن قولوا: " قد قضينا الصلاة ".
17499-...... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمير بن تميم الثعلبي, عن ابن عباس قال: لا تقولوا: " انصرفنا من الصلاة ", فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم. (13)
17500-...... قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن ابن عباس قال: لا تقولوا: " انصرفنا من الصلاة ", فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم, ولكن قولوا: " قد قضينا الصلاة ".
17501-...... حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (وإذا ما أنـزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) ، الآية, قال: هم المنافقون.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:-
17502- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإذا ما أنـزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) ، ممن سمع خبرَكم، رآكم أحدٌ أخبره؟ (14) إذا نـزل شيء يخبر عن كلامهم. قال: وهم المنافقون. قال: وقرأ: وَإِذَا مَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ، حتى بلغ: ( نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) أخبره بهذا؟ أكان معكم أحد؟ سمع كلامكم أحد يخبره بهذا؟
17503- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني, عمن حدثه, عن ابن عباس قال: لا تقل: " انصرفنا من الصلاة ", فإن الله عيَّر قومًا فقال: (انصرفوا صرف الله قلوبهم) ، ولكن قل: " قد صلَّينا ".
------------------------
الهوامش :
(10) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 3 : 194 / 11 : 286 / 13 : 112 .
(11) انظر تفسير " الفقه " فيما سلف ص : 573 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(12) في المطبوعة " وتنبيها به " ، وصواب قراءته ما أثبت .
(13) الأثر : 17499 - " عمير بن تميم الثعلبي " ، هكذا في المخطوطة أيضا ، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل 3 / 1 / 378 في " عمير بن قميم الثعلبي " بالقاف . وقال المعلق إنه في إحدى النسخ " عمير بن قثم التغلبي " . وفي الثقات والكنى للدولابي " بن تميم " . وقال ابن أبي حاتم : ( قال يحيى بن سعيد ، وأبو نعيم ، هو " أبو هلال الطائي " ، وقال وكيع : هو " أبو تهلل " . روى عن ابن عباس ، روى عنه أبو إسحاق الهمداني ، ويونس بن أبي إسحاق ، سمعت أبي يقول ذلك ) .
(14) في المخطوطة : " من يسمع خبركم ولكم أحد أخبره " ، وما في المطبوعة مطابق لما في الدر المنثور 3 : 293 ، وهو شبيه بالصواب إن شاء الله .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
التوبة: 86 | ﴿وَ إِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّـهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ﴾ |
---|
التوبة: 124 | ﴿وَ إِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَانًا﴾ |
---|
التوبة: 127 | ﴿وَ إِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ﴾ |
---|
محمد: 20 | ﴿فَـ إِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يمتن [تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم.
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم.
{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.
ولهذا كان حقه مقدمًا على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره
وجمهور المفسرين على أن الخطاب في قوله- سبحانه-: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ للعرب: فهو كقوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ.
أى: لقد جاءكم- يا معشر العرب- رسول كريم «من أنفسكم» أى: جنسكم، ومن نسبكم، فهو عربي مثلكم، فمن الواجب عليكم أن تؤمنوا به وتطيعوه.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ترغيب العرب في الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي طاعته وتأييده، فإن شرفهم قد تم بشرفه، وعزهم بعزه، وفخرهم بفخره، وهم في الوقت نفسه قد شهدوا له في صباه بالصدق والأمانة والعفاف وطهارة النسب، والأخلاق الحميدة.
قال القرطبي: قوله «من أنفسكم» يقتضى مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها، وفي صحيح مسلم عن وائلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قرش بنى هاشم، واصطفاني من بنى هاشم» وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنى من نكاح ولست من سفاح» .
وقال الزجاج إن الخطاب في الآية الكريمة لجميع البشر، لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم، ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم «من أنفسكم» أنه من جنس البشر.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح لأن الآية الكريمة ليست مسوقة لإثبات رسالته صلى الله عليه وسلم وعمومها، وإنما هي مسوقة لبيان منته وفضله- سبحانه- على العرب، حيث أرسل خاتم أنبيائه منهم، فمن الواجب عليهم أن يؤمنوا به، لأنه ليس غريبا عنهم، وإذا لم يؤمنوا به تكون الحجة عليهم ألزم، والعقوبة لهم أعظم.
وقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أى: شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم، لكونه بعضا منكم فهو يخاف عليكم سوء العاقبة، والوقوع في العذاب.
يقال: عزّ عليه الأمر أى صعب وشق عليه، والعنت المشقة والتعب ومنه قولهم: أكمة عنوت، إذا كانت شاقة مهلكة، والفعل عنت بوزن فرح.
وقوله: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أى: حريص على إيمانكم وهدايتكم وعزتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة.
والحرص على الشيء معناه: شدة الرغبة في الحصول عليه وحفظه.
وقوله: «بالمؤمنين رءوف رحيم» أى: شديد الرأفة والرحمة بكم- أيها المؤمنون- والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع، فهو صلى الله عليه وسلم يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين، وفي إزالة كل مكروه عنهم.
قال بعضهم: لم يجمع الله- تعالى- لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» وقال عن ذاته- سبحانه- إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
.
يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم ، أي : من جنسهم وعلى لغتهم ، كما قال إبراهيم ، عليه السلام : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) [ البقرة : 129 ] ، وقال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أي : منكم وبلغتكم ، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصفته ، ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته ، وذكر الحديث .
وقال سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه في قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح " .
وقد وصل هذا من وجه آخر ، كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه " الفاصل بين الراوي والواعي " : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي لحدثني ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء " .
وقوله : ( عزيز عليه ما عنتم ) أي : يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " وفي الصحيح : " إن هذا الدين يسر " وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة ، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه .
( حريص عليكم ) أي : على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم .
قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن فطر ، عن أبي الطفيل ، عن أبي ذر قال . تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما - قال : وقال صلى الله عليه وسلم : " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا [ أبو ] قطن ، حدثنا المسعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن عبدة النهدي ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار ، كتهافت الفراش ، أو الذباب " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان ، فيما يرى النائم ، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه . فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته . فقال : إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة ، وحياضا رواء أتتبعوني ؟ فقالوا : نعم . قال : فانطلق بهم ، فأوردهم رياضا معشبة ، وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ، فقال لهم : ألم ألقكم على تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ فقالوا : بلى . قال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه ، وحياضا هي أروى من هذه ، فاتبعوني . فقالت طائفة : صدق ، والله لنتبعنه وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه .
وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي ، عن عكرمة عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينه في شيء - قال عكرمة : أراه قال : " في دم " - فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال : " أحسنت إليك ؟ " قال الأعرابي : لا ولا أجملت . فغضب بعض المسلمين ، وهموا أن يقوموا إليه ، فأشار رسول الله إليهم : أن كفوا . فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله ، دعا الأعرابي إلى البيت ، فقال له : " إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت " فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، وقال : " أحسنت إليك ؟ " فقال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك جئتنا تسألنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت ، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء ، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب عن صدورهم " . قال : نعم . فلما جاء الأعرابي . قال إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه ، فقال ما قال ، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، [ كذلك يا أعرابي ؟ ] قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة ، فشردت عليه ، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا . فقال لهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها ، وأعلم بها . فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض ، ودعاها حتى جاءت واستجابت ، وشد عليها رحلها وإنه لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار " . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه .
قلت : وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، والله أعلم .
وقوله : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) كما قال تعالى : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون . وتوكل على العزيز الرحيم ) [ الشعراء : 215 - 217 ] .
وهكذا أمره تعالى .
القول في تأويل قوله : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للعرب: (لقد جاءكم) ، أيها القوم، رسول الله إليكم =(من أنفسكم) ، تعرفونه، لا من غيركم, فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم (15) =(عزيز عليه ما عنتم) ، أي: عزيز عليه عنتكم, وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى (16) =(حريص عليكم) ، يقول: حريص على هُدَى ضُلالكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحق (17) =(بالمؤمنين رءوف) ، : أي رفيق =(رحيم) . (18)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17504- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن جعفر بن محمد, عن أبيه في قوله: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال: لم يصبه شيء من شركٍ في ولادته.
17505- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن جعفر بن محمد في قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني خرجت من نكاحٍ، ولم أخرج من سفاح.
17506- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن ابن عيينة, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, بنحوه.
17507- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال: جعله الله من أنفسهم, فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. (19)
* * *
وأما قوله: (عزيز عليه ما عنتم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: ما ضللتم.
* ذكر من قال ذلك:
17508- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي, عن ابن عباس في قوله: (عزيز عليه ما عنتم) ، قال: ما ضللتم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: عزيز عليه عَنت مؤمنكم.
* ذكر من قال ذلك:
17509- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (عزيز عليه ما عنتم) ، عزيزٌ عليه عَنَت مؤمنهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس. وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنتَ قومَه, ولم يخصص أهل الإيمان به. فكان صلى الله عليه وسلم [كما جاء الخبرُ من] الله به، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم. (20)
* * *
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم، وهو يقتل كفارَهم، ويسبي ذراريَّهم، ويسلبهم أموالهم؟
قيل: إن إسلامهم، لو كانوا أسلموا، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه، حتى يستحقوا ذلك من الله. وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم, لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي.
* * *
وأما " ما " التي في قوله: (ما عنتم) ، فإنه رفع بقوله: (عزيز عليه) ، لأن معنى الكلام ما ذكرت: عزيز عليه عنتكم.
* * *
وأما قوله: (حريص عليكم) ، فإن معناه: ما قد بيَّنت, وهو قول أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17510- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (حريص عليكم) ، حريص على ضالهم أن يهديه الله.
17510م- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة في قوله: (حريص عليكم) ، قال: حريص على من لم يسلم أن يسلم.
------------------------
الهوامش :
(15) انظر تفسير " من أنفسهم " فيما سلف 7 : 369 .
(16) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز)
= وتفسير " العنت " فيما سلف 4 : 360 / 7 : 140 - 144 / 8 : 206 .
(17) انظر تفسير " الحرص " فيما سلف 9 : 284 .
(18) انظر تفسير " رؤوف " فيما سلف 3 : 171 : 251 / 14 : 539 .
= وتفسير " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( رحم ) .
(19) في المطبوعة والمخطوطة " ولا يحسدونه " بالواو ، والسياق يقتضي ما أثبت .
(20) في المخطوطة ، بياض بين " كما " ، و " الله به " بقدر كلمتين ، وفي المطبوعة أتم الكلام هكذا : " كما وصفه الله به ، عزيزا عليه " ، والزيادة بين القوسين استظهار مني ، وسائره كنص المخطوطة .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنفال: 65 | ﴿وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ﴾ |
---|
التوبة: 127 | ﴿ثُمَّ انصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّـهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ﴾ |
---|
الحشر: 13 | ﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
أنفسكم:
وقرئ:
بفتح الفاء، أي: من أشرفكم وأعزكم، وهى قراءة أبى العالية، والضحاك، وابن محيصن.
التفسير :
{فَإِنْ} آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم، وإن {تَوَلَّوا} عن الإيمان والعمل، فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك، وقل {حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: الله كافيَّ في جميع ما أهمني، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: لا معبود بحق سواه.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت ووثقت به، في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي هو أعظم المخلوقات. وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.
تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
ثم انتقل- سبحانه- من خطاب المؤمنين إلى خطابه صلى الله عليه وسلم فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...
أى: فإن أعرضوا عن الإيمان بك، وتركوا طاعتك، فلا تبتئس ولا تيأس، بل قل «حسبي الله» أى: هو كافينى ونصيرى «لا إله إلا هو» - سبحانه- «رب العرش العظيم» الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا الله- عز وجل-.
ففي هاتين الآيتين الكريمتين بيان للصفات التي منحها- سبحانه- لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوة له صلى الله عليه وسلم إلى أن يفوض أمره إلى خالقه فهو- سبحانه- كافيه وناصره.
وبعد فهذه سورة التوبة.
السورة التي احتوت على بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع الإسلامى، والمجتمعات الأخرى.
السورة التي حرضت المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وساقت لهم من وسائل الترغيب في ذلك، ما يجعلهم يقدمون على قتال أعدائهم بصبر وثبات واستبشار.
السورة التي أوجبت على المؤمنين أن تكون محبتهم لله ولرسوله، ولإعلاء كلمة الحق، فوق محبة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال.
السورة التي ذكرت المؤمنين بنصر الله لهم في مواطن كثيرة، وحذرتهم من الغرور بأنفسهم.
والعجب بقوتهم، وأمرتهم بنصرة رسوله في السراء والضراء والعسر واليسر، والمنشط والمكره.
السورة التي أمرت المؤمنين بأن يخلصوا في دفاعهم عن دين الله وعن حرماته وعن مقدساته. وبشرتهم بأنهم إذا فعلوا ذلك، فسوف يغنيهم الله من فضله.
السورة التي فضحت المنافقين، وكشفت عن أساليبهم الخبيثة، ومسالكهم القبيحة، وأقوالهم المنكرة، وأفعالهم الأثيمة، وسجلت عليهم الخزي والعار وحذرت المؤمنين من شرورهم ...
السورة التي رسمت أسس التكافل الاجتماعى بين أفراد الأمة الإسلامية، عن طريق مشروعية الزكاة، ووجوب أدائها لمستحقيها.
السورة التي ساقت ألوانا من فضل الله على عباده المؤمنين، حيث تقبل سبحانه توبتهم، وغسل حوبتهم، وتجاوز عن خطئهم.
السورة التي صنفت المجتمع الإسلامى في أواخر العهد النبوي تصنيفا دقيقا.
فهناك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهناك الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
وهناك المرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم.
وهناك الأعراب المنافقون، وهناك الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة.
وقد بينت السورة الكريمة ما يستحقه كل قسم من الأقسام من ثواب أو عقاب.
السورة التي أوجبت على المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على أساس العقيدة الدينية لا على أساس القرابة الجسدية، فنهتهم أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.
هذا جانب من المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة ونسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا وأن يرزقنا الإخلاص والتوفيق في القول والعمل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : ( فإن تولوا ) أي : تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة ، ( فقل حسبي الله ) أي : الله كافي ، لا إله إلا هو عليه توكلت ، كما قال تعالى : ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) [ المزمل : 9 ] .
( وهو رب العرش العظيم ) أي : هو مالك كل شيء وخالقه ، لأنه رب العرش العظيم ، الذي هو ، سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى ، وعلمه محيط بكل شيء ، وقدره نافذ في كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل .
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني محمد بن أبي بكر ، حدثنا بشر بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر السورة .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا روح بن عبد المؤمن ، حدثنا عمر بن شقيق ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، رضي الله عنه ؛ أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر ، رضي الله عنه ، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب ، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة ( براءة ) : ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) [ التوبة : 127 ] ، فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن . فقال لهم أبي بن كعب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) إلى : ( وهو رب العرش العظيم ) قال : " هذا آخر ما أنزل من القرآن " قال : فختم بما فتح به ، بالله الذي لا إله إلا هو ، وهو قول الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] غريب أيضا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن بحر ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد ، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه ، قال : أتى الحارث بن خزمة بهاتين الآيتين من آخر ( براءة ) : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى عمر بن الخطاب ، فقال : من معك على هذا ؟ قال : لا أدري ، والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتها وحفظتها . فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة ، فانظروا سورة من القرآن ، فضعوها فيها . فوضعوها في آخر ( براءة ) .
وقد تقدم أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما ، بجمع القرآن ، فأمر زيد بن ثابت فجمعه . وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك . وفي الصحيح أن زيدا قال : فوجدت آخر سورة " براءة " مع خزيمة بن ثابت - أو : أبي خزيمة وقدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها ، والله أعلم .
وقد روى أبو داود ، عن يزيد بن محمد ، عن عبد الرزاق بن عمر - وقال : كان من ثقات المسلمين من المتعبدين ، عن مدرك بن سعد - قال يزيد : شيخ ثقة - عن يونس بن ميسرة ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات ، إلا كفاه الله ما أهمه .
وقد رواه ابن عساكر في ترجمة " عبد الرزاق بن عمر " هذا ، من رواية أبى زرعة الدمشقي ، عنه ، عن أبي سعد مدرك بن أبي سعد الفزاري ، عن يونس بن ميسرة بن حليس ، عن أم الدرداء ، سمعت أبا الدرداء يقول : ما من عبد يقول : حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات ، صادقا كان بها أو كاذبا ، إلا كفاه الله ما همه .
وهذه زيادة غريبة . ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد ، عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق ، عن جده عبد الرزاق بن عمر ، بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة . وهذا منكر ، والله أعلم .
آخر سورة ( براءة ) ، والحمد لله وحده .
القول في تأويل قوله : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك من قومك, فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى (21) =(فقل حسبي الله), يكفيني ربي (22) =(لا إله إلا هو) ، لا معبود سواه =(عليه توكلت) ، وبه وثقت, وعلى عونه اتكلت, وإليه وإلى نصره استندت, فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس (23) =(وهو رب العرش العظيم) ، الذي يملك كلَّ ما دونه, والملوك كلهم مماليكه وعبيده. (24)
وإنما عنى بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه رب العرش العظيم, الخبرَ عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه، لأن " العرش العظيم "، إنما يكون للملوك, فوصف نفسه بأنه " ذو العرش " دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم دون غيره، وأن من دونه في سلطانه وملكه، جارٍ عليه حكمه وقضاؤه.
17511- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله) ، يعني الكفار، تولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه في المؤمنين.
17512- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عبيد بن عمير قال: كان عمر رحمة الله عليه لا يُثْبت آيةً في المصحف حتى يَشْهَدَ رجلان, فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ، فقال عمر: لا أسألك عليهما بيّنةً أبدًا, كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم!
17513- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس, عن زهير, عن الأعمش, عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رحيم يحبّ كل رحيم, يضع رحمته على كل رحيم. قالوا: يا رسول الله، إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا = قال: وأراه قال: وأزواجنا =؟ قال: ليس كذلك, ولكن كونوا كما قال الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . أراهُ قرأ هذه الآية كلها. (25)
17514- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة, عن علي بن زيد, عن يوسف, عن ابن عباس, عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نـزلت من القرآن: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، إلى آخر الآية.
17515- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس, عن أبيّ قال: آخر آية نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، الآية. (26)
17516- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران, عن أبيّ قال: أحدثُ القرآن عهدًا بالله هاتان الآيتان: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، إلى آخر الآيتين. (27)
17517- حدثني أبو كريب قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا أبان بن يزيد العطار, عن قتادة, عن أبي بن كعب قال: أحدث القرآن عهدًا بالله، الآيتان: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، إلى آخر السورة. (28)
--------------------------
الهوامش :
(21) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(22) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص : 340 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(23) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص : 291 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(24) انظر تفسير " العرش " فيما سلف 12 : 482 .
(25) الأثر : 17513 - " أحمد بن عبد الله بن يونس التيمي " ، ثقة ، مضى مرارا آخرها رقم : 16095 .
و " زهير " ، هو " زهير بن معاوية بن حديج الجعفي " ، ثقة ، مضى مرارا ، آخرها رقم : 12794 .
و " أبو صالح الحنفي " تابعي ثقة ، مضى برقم : 3226 ، 13291 - 13293 وهذا خبر مرسل .
(26) الأثران : 17514 ، 17515 - " علي بن زيد بن جدعان " ، سيئ الحفظ ، مضى مرارا آخرها رقم : 13493 ، 16736 .
و " يوسف بن مهران البصري " ، ثقة ، مضى مرارا ، آخرها : 13495 . وهذا الخبر رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه 5 : 117 ، من طريق محمد بن أبي بكر ، عن بشر بن عمر ، عن شعبة ، بمثله .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 36 ، وقال : " رواه عبد الله بن أحمد ، والطبراني ، وفيه علي بن زيد بن جدعان ، وهو ثقة سيء الحفظ ، وبقية رجاله ثقات " .
(27) الأثر : 17516 - مكرر الذي قبله ، ولكنه مرسل عن أبي .
(28) الأثر : 17517 - مرسل ، قتادة لم يرو عن أبي بن كعب .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
التوبة: 129 | ﴿حَسْبِيَ اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ |
---|
المؤمنون: 86 | ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ و رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ |
---|
النمل: 26 | ﴿اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ |
---|
المؤمنون: 116 | ﴿فَتَعَالَى اللَّـهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء