ترتيب المصحف | 8 | ترتيب النزول | 88 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 10.00 |
عدد الآيات | 75 | عدد الأجزاء | 0.50 |
عدد الأحزاب | 1.00 | عدد الأرباع | 4.00 |
ترتيب الطول | 18 | تبدأ في الجزء | 9 |
تنتهي في الجزء | 10 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
الجمل الخبرية: 1/21 | _ |
بعدَ أن نهَى عَن الفِرارِ منَ المشركينَ بَيَّنَ هنا للمؤمنينَ أنه ليس بحَولِهم وقُوَّتِهم قَتَلُوا أعداءَهم المُشركينَ يومَ بَدرٍ، ولكِنَّ الذي قَتَلَهم هو اللهُ، ثُمَّ أَمَرَ اللهُ المؤمنينَ بأن يُطيعوه ويُطيعوا رسولَه ﷺ ، ونهاهم أن يكونُوا كالكفَّار.
لَمَّا نهى اللهُ المؤمنينَ أن يكونُوا كالكفَّار؛ أخبَرَ هنا أنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عنده عزَّ وجَلَّ الكُفَّارُ، ثُمَّ أَمَرَ بالاستجابةِ له ولرسولِه ﷺ.
التفسير :
يقول تعالى ـ لما انهزم المشركون يوم بدر، وقتلهم المسلمون - {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} بحولكم وقوتكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو اللّه، ويناشده في نصرته،ثم خرج منه، فأخذ حفنة من تراب، فرماها في وجوه المشركين، فأوصلها اللّه إلى وجوههم،فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها، فحينئذ انكسر حدهم، وفتر زندهم، وبان فيهم الفشل والضعف، فانهزموا. يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك ـ حين رميت التراب ـ أوصلته إلى أعينهم، وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا. {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} أي: إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين، من دون مباشرة قتال، ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، ويعطيهم أجرا حسنا وثوابًا جزيلًا. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها، فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده، ويجزي كلا بحسب نيته وعمله.
ثم بين لهم- سبحانه- بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكرا له، وطاعة لأمره فقال- تعالى-: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، أى يوم بدر.
روى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر.
ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال: قتلت كذا، وأسرت كذا، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده ... ».
وقال ابن كثير: قال على بن طلحة عن ابن عباس: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه- يعنى يوم بدر- فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا، فقال جبريل: «خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم» فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.
وقال السدى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى يوم بدر «أعطنى حصا من الأرض» فناوله حصا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ...
وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال:
«شاهت الوجوه» ، فدخلت في أعينهم كلهم. وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله. وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى .
وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله- تعالى- وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى المقصود به رميه صلى الله عليه وسلم لأبى بن خلف يوم أحد، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق في غزوة خيبر، أو رميه المشركين في غزوة حنين.
قال ابن كثير: وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ... وسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم.
والمعنى: إنكم- أيها المؤمنون- لم تقتلوا المشركين في بدر بقوتكم وشجاعتكم، ولكن الله- تعالى- هو الذي أظفركم بحوله وقوته، بأن خذلهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر.
والفاء في قوله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ.. يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع.
وقوله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين.
أى: وَما رَمَيْتَ بالرعب في قلوب الأعداء إِذْ رَمَيْتَ في وجوههم بالحصباء يوم بدر وَلكِنَّ اللَّهَ- تعالى- هو الذي رَمى بالرعب في قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم.
أو المعنى: ما أوصلت الحصباء إلى أعينهم إذ رميتهم بها، ولكن الله هو الذي أوصلها إليها.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة: يعنى أن الرمية التي رميتها- يا محمد- لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم.. فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه، لأن أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله- عز وجل-، فكان الله- تعالى- هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول صلى الله عليه وسلم أصلا.
وقال الآلوسى: واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه- تعالى- وإنما لهم كسبها ومباشرتها وقال الإمام: أثبت- سبحانه- كونه صلى الله عليه وسلم راميا، ونفى كونه راميا، فوجب حمله على أنه صلى الله عليه وسلم رمى كسبا، والله- تعالى- رمى خلقا.
فإن قيل: لماذا ذكر مفعول القتل منفيا ومثبتا ولم يذكر للرمي مفعول قط؟
فالجواب- كما يقول أبو السعود-: «أن المقصود الأصلى بيان حال الرمي نفيا وإثباتا، إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر، وهو المنشأ لتغير المرمى به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الأمة الجمة شيء من ذلك».
وقوله- سبحانه-: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً بيان لبعض وجوه حكمته- سبحانه- في خذلان الكافرين، ونصر المؤمنين.
وقوله لِيُبْلِيَ من البلاء بمعنى الاختبار. وهو يكون بالنعمة لإظهار الشكر، كما يكون بالمحنة لإظهار الصبر. والمراد به هنا: الإحسان والنعمة والعطاء، ليزداد المؤمنون شكرا لربهم الذي وهبهم ما وهب من نعم.
واللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر.
والمعنى، ولكي يحسن- سبحانه- إلى عباده المؤمنين، وينعم عليهم بالنصر والغنائم، ليزدادوا شكرا له، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم.
وقوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل قصد به الحض على طاعة الله، والتحذير من معصيته، أى: إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم، عليم بضمائركم وقلوبكم، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره.
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد ، وأنه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خير ؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم ؛ ولهذا قال : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) أي : ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، أي : بل هو الذي أظفركم [ بهم ونصركم ] عليهم كما قال تعالى : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [ فاتقوا الله لعلكم تشكرون ] ) [ آل عمران : 123 ] . وقال تعالى : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ) [ التوبة : 25 ] يعلم - تبارك وتعالى - أن النصر ليس عن كثرة العدد ، ولا بلبس اللأمة والعدد ، وإنما النصر من عند الله تعالى كما قال : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) [ البقرة : 249 ] .
ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أيضا في شأن القبضة من التراب ، التي حصب بها وجوه المشركين يومبدر ، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : شاهت الوجوه . ثم أمر الصحابة أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( وما رميت إذ رميت ) أي : هو الذي بلغ ذلك إليهم ، وكبتهم بها لا أنت .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه - يعني يوم بدر - فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة ، فلن تعبد في الأرض أبدا . فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب ، فارم بها في وجوههم ، فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين .
وقال السدي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - يوم بدر : أعطني حصبا من الأرض . فناوله حصبا عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )
وقال أبو معشر المدني ، عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من تراب ، فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه . فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في قوله [ تعالى ] ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حصيات فرمى بحصاة [ في ] ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه ، فانهزموا .
وقد روي في هذه القصة عن عروة بن الزبير ، ومجاهد وعكرمة ، وقتادة وغير واحد من الأئمة : أنها نزلت في رمية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الرمية ، فانهزمنا .
غريب من هذا الوجه . وهاهنا قولان آخران غريبان جدا .
أحدهما : قال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ابن أبي الحقيق بخيبر ، دعا بقوس ، فأتى بقوس طويلة ، وقال : جيئوني غيرها . فجاءوا بقوس كبداء ، فرمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحصن ، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو في فراشه ، فأنزل الله - عز وجل - : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )
وهذا غريب ، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، ولعله اشتبه عليه ، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله ، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم ، والله أعلم .
والثاني : روى ابن جرير أيضا ، والحاكم في مستدركه ، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا أنزلت في رمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أبي بن خلف بالحربة وهو في لأمته ، فخدشه في ترقوته ، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا ، حتى كانت وفاته [ بها ] بعد أيام ، قاسى فيها العذاب الأليم موصولا بعذاب البرزخ المتصل بعذاب الآخرة .
وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها ، لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم ، والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير في قوله : ( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) أي : ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم ، من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، ويشكروا بذلك نعمته .
وهكذا فسر ذلك ابن جرير أيضا . وفي الحديث : وكل بلاء حسن أبلانا .
وقوله : ( إن الله سميع عليم ) أي : سميع الدعاء ، عليم بمن يستحق النصر والغلب .
القول في تأويل قوله : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله، ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش: فلم تقتلوا المشركين، أيها المؤمنون، أنتم, ولكن الله قتلهم.
* * *
وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه, ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين, إذ كان جل ثناؤه هو مسبِّب قتلهم, وعن أمره كان قتالُ المؤمنين إياهم. ففي ذلك أدلُّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صُنْعٌ به وَصَلوا إليها.
وكذلك قوله لنبيه عليه السلام: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، فأضاف الرميَ إلى نبي الله, ثم نفاه عنه, وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي, إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرميَّ به إلى الذين رُمُوا به من المشركين, والمسبِّب الرمية لرسوله.
فيقال للمنكرين ما ذكرنا (1) قد علمتم إضافة الله رَمْيِ نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه، بعد وصفه نبيَّه به، وإضافته إليه، وذلك فعلٌ واحد، (2) كان من الله تسبيبه وتسديده, (3) ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذفُ والإرسال, فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب, ومن الخلق الاكتسابُ بالقُوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15817- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (فلم تقتلوهم)، لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال هذا: " قتلت ", وهذا: " قتلت "=(وما رميت إذ رميت)، قال لمحمد حين حَصَب الكفار.
15818 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد,بنحوه.
15819- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر عن قتادة: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، قال: رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر.
15820- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن عكرمة قال: ما وقع منها شيء إلا في عين رجل.
15821 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة قال: لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا قال: هذه مصارعهم! ووَجد المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونـزل عليه, فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذه قريش قد جاءت بجَلَبتها وفخرها، تحادُّك وتكذب رسولك, اللهم إني أسألك ما وعدتني! ". فلما أقبلوا استقبلهم, فحثا في وجوههم, فهزمهم الله عز وجل. (4)
15822- حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة, عن يزيد بن عبد الله, عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة, عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر, سمعنا صوتًا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طَسْت, ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا. (5)
15823- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن قيس، ومحمد بن كعب القرظي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض, أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم, وقال: " شاهت الوجوه!"، فدخلت في أعينهم كلهم, وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم, وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنـزل الله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، الآية, إلى: (إن الله سميع عليم) .
15824- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وما رميت إذ رميت)، الآية, ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها وجوه الكفار, فهزموا عند الحجر الثالث.
15825- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعلي: " أعطني حصًا من الأرض "، فناوله حصى عليه تراب، فرمى به وجوه القوم, فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم رَدِفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، (6) فذكر رميةَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) .
15826- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، قال: هذا يوم بدر, أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات, فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وحصاة في ميسرة القوم، وحصاة بين أظهرهم، وقال: " شاهت الوجوه! "، وانهزموا, فذلك قول الله عز وجل: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) .
15827- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر فقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا! فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب! فأخذ قبضة من التراب, فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصابَ عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة, فولُّوا مدبرين.
15728- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: قال الله عز وجل في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، أي: لم يكن ذلك برميتك، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك, وما ألقى في صدور عدوك منها حين هزمهم الله. (7)
* * *
وروي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال, وهو ما:-
15829- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري: (وما رميت إذ رميت)، قال: جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل, فقال: "آلله محيي هذا، يا محمد، وهو رميم؟ "، وهو يفتُّ العظم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يحييه الله, ثم يميتك, ثم يدخلك النار! قال: فلما كان يوم أحد قال: والله لأقتلن محمدًا إذا رأيته! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله. (8)
* * *
وأما قوله: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا)، فإنّ معناه: وكي ينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم, (9) ويغنّمهم ما معهم, ويكتب لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . (10)
* * *
وذلك " البلاء الحسن ", رمي الله هؤلاء المشركين، ويعني ب " البلاء الحسن "، النعمة الحسنة الجميلة, وهي ما وصفت وما في معناه. (11)
15830- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال في قوله: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا)، أي ليعرِّف المؤمنين من نعمه عليهم، في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم, ليعرفوا بذلك حقه، وليشكروا بذلك نعمته. (12)
* * *
وقوله: (إن الله سميع عليم)، يعني: إن الله سميع، أيها المؤمنون، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومناشدته ربه، ومسألته إياه إهلاكَ عدوه وعدوكم، فقيل له: إنْ يَكُ إلا جحْش ! قال: أليسَ قال: أنا أقتلك؟ والله لو قالها لجميع الخلق لماتوا!"
ولقِيلكم وقيل جميع خلقه= " عليم "، بذلك كله، وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده, وغير ذلك من الأشياء، محيط به, فاتقوه وأطيعوا أمرَه وأمر رسوله. (13)
----------------------
الهوامش :
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " للمسلمين ما ذكرنا " ، وهو خطأ صرف ، وظاهر أن كاتب النسخة التي نقل عنها ناسخ المخطوطة ، قد وصل " راء " المنكرين بالياء والنون ، ولم يضع شرطة الكاف كعادتهم ، فقرأها خطأ ، ونقلها خطأ .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ذلك " بغير واو ، والكلام لا يستقيم بغيرها .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " بتسبيبه " وهو خطأ من الناسخ ، صوابه ما أثبت بغير باء في أوله ، كما يدل عليه السياق .
(4) الأثر : 15821 - " أبان العطار " ، هو " أبان بن يزيد العطار " ، ثقة ، مضى : 3832 ، 9656 ، 13518 ، 15719 .
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 2 : 268 في أثناء خبر طويل ، قد مضى بعضه برقم : 15719 ، وهو من كتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان ، رواه أبو جعفر مفرقًا في التاريخ ، سأخرجه مجموعًا في تخريج الأثر رقم : 16083 .
وكان في المطبوعة هنا : " قد جاءت بخيلائها وفخرها " ، وهو تصرف قبيح . وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في التاريخ .
و " الجلبة " ، هو اختلاط الناس إذ تجمعوا ، وصاح بعضهم ببعض يذمره ويستحثه ، كالذي يكون في اجتماع الجيوش .
(5) الأثر : 15822 - " أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي " ، شيخ الطبري ، ثقة . مضى برقم : 10260 ، 10521 .
و " يعقوب بن محمد الزهري " ، مختلف فيه ، وهو صدوق ، لكن لا يبالي عمن حدث . مضى برقم : 2867 ، 8012 ، 15654 ، 15714 .
و " عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز الزهري " ، الأعرج ، يعرف بابن أبي ثابت . ضعيف ، كان صاحب نسب ، لم يكن من أصحاب الحديث . مضى برقم : 8012 ، 15756 .
و " موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهيب بن زمعة الأسدي القرشي " ، ثقة ، متكلم فيه ، وقال أحمد : " لا يعجبني حديثه " ، وقال أبو داود : " له مشايخ مجهولون " . مضى برقم : 9923 ، 15756 .
و " يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي القرشي " ، روى عنه ابن أخيه " موسى بن يعقوب " . مترجم في الكبير 4 2 346 ، وابن أبي حاتم 4 2 276 ، ولم يذكرا فيه جرحًا .
و " أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة العدوي " ، كان من علماء قريش . ثقة . مترجم في التهذيب ، والكني البخاري : 13 ، وابن أبي حاتم 4 2 341 .
وهذا خبر ضعيف الإسناد ، لضعف " عبد العزيز بن عمران الزهري " ، وذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 32 ، وقال : " غريب من هذا الوجه " ، فقصر في بيان إسناده .
بيد أن الهيثمي ذكره في مجمع الزائد 6 : 84 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وإسناده حسن " ، فلعله إسناد غير هذا ، فإنه قد ضعف عبد العزيز بن عمران في هذا الباب مرارًا كثيرة .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 174 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه .
(6) " ردفه " ( بفتح فكسر ) : اتبعه ودهمه .
(7) الأثر : 15828 - سيرة ابن هشام 2 : 323 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15783 . وكان في المطبوعة والمخطوطة ، أغفل ذكر " وما رميت إذ رميت " ، وأتى ببقية الآية . وكان في المخطوطة " حين هزمهم " ، بغير ذكر لفظ الجلالة ، فغيرها في المطبوعة فقال : " فهزمتهم " . وأثبت ما في سيرة ابن هشام .
(8) أخشى أن يكون في هذا الموضع من التفسير نقص ، فإني وجدت ابن كثير ( 4 : 32 ) قد ذكر في تفسير هذه الآية ما نسبه إلى ابن جرير ، وهذا نصه بترتيبه وتعليقه :
وههنا قولان آخران غريبان جدًّا :
أحدهما : قال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر ، دعَا بقوس ، فأتِىَ بقوسٍ طويلة ، وقال : جيئوني بقوس غيرها . فجاؤوه بقوسٍ كَبْداء ، فرمى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصن ، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو في فراشه ، فأنزل الله " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى " .
وهذا غريب ، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، ولعله اشتبه عليه ، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله ، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدرٍ لا مَحالة ، وهذا مما لا يخفي على أئمة العلم ، والله أعلم .
والثاني : روى ابن جرير أيضًا ، والحاكم في مستدركه ، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيّب والزهري أنهما قالا : أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ أُبَيَّ بن خلفٍ بالحربة في لأْمَته ، فخدشه في تَرْقُوَته ، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارًا . حتى كانت وفاتُه بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليمَ ، موصولا بعذابِ البرزخ، المتصل بعذاب الآخرة .
وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضًا جدًّا ، ولعلهما أرادَا أن الآية تتناوله بعمومها، لا أنها نزلت فيه خاصة، كما تقدم، والله أعلم " .
قلت : والخبر الأول منهما ، رواه الواحدي في أسباب النزول : 174 من طريق " صفوان بن عمرو ، عن عبد العزيز بن جبير " ، وقوله : " عبد العزيز " ، خطأ ، صوابه ما في تفسير ابن كثير .
ثم إن السيوطي في الدر المنثور 3 : 175 ، خرج هذين الخبرين منسوبين إلى ابن جرير أيضًا ، وزاد نسبته الأول منهما إلى ابن أبي حاتم . وذكر الثاني وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم .
ثم زاد السيوطي في الدر المنثور، وهذان الخبران أنقلهما أيضًا بنصهما منه :
الأول : " أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيّب قال : لما كان يوم أُحُد ، أخذ أبيُّ بن خلفٍ يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعترض رجالٌ من المسلمين لأبيّ بن خلف ليقتلوه . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : استأخروا ! استأخرُوا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبيّ بن خلف ، وكسر ضِلْعًا من أضلاعه ، فرجع أبيّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلا ، فاحتملوه حين وَلَّوا قافلين ، فطفقوا يقولون : لا بأس ! فقال أبيّ حين قالوا ذلك : والله لو كانت بالناس لقتلتهم ! ألم يقلْ : إنِّي أقتلك إن شاء الله ؟ فانطلق به أصحابه يَنْعَشونه حتى مات ببعض الطريق ، فدفنوه .
قال ابن المسيب : وفي ذلك أنزل الله تعالى : " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى الآية" .
الثاني : " وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن الزهري في قوله : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى . قال : حيث رمَى أبيَّ بنَ خلف يوم أُحُدٍ بحربته ، فهذا كله ، يوشك أن يرجح سقوط شيء من أخبار أبي جعفر في هذا الموضع . إلا أن تكون هذه الأخبار ستأتي فيما بعد في غير هذا الموضع . أما فيما سلف ، فإن خبر " أبي بن خلف " قد مضى في حديث السدى رقم : 7943 ( ج 7 : 255 )
والخبر الأول رواه الحاكم في المستدرك 2 : 327 ، من طريق محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي .
(9) في المطبوعة : " ولينعم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(10) في المطبوعة : " ويثبت لهم أجور أعمالهم " ، وهو لا معنى له ، ولم يحسن قراءة المخطوطة ، لخطأ في نقطها .
(11) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف ص : 85 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(12) الأثر : 15830 - سيرة ابن هشام 2 : 323 ، 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15828 . وفي السيرة سقط من السياق قوله : " مع كثرة عددهم " ، فيصحح هناك .
(13) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 181 | ﴿عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُۥٓۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
البقرة: 227 | ﴿وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَٰقَ فَـ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
الأنفال: 17 | ﴿وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
الحجرات: 1 | ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
البقرة: 244 | ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
الأنفال: 53 | ﴿حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَ أَنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ـ{ذَلِكُمْ} النصر من اللّه لكم {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} أي: مضعف كل مكر وكيد يكيدون به الإسلام وأهله، وجاعل مكرهم محيقا بهم.
ثم يقرر- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف، وهي تقوية الحق وتوهين الباطل، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، وثباتا على ثباتهم فيقول: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ.
قال الإمام الرازي: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو مُوهِنُ- بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين. من التوهين. تقول وهنت الشيء أى ضعفته-، كَيْدِ بالنصب على المفعولية. وقرأ حفص عن عاصم مُوهِنُ كَيْدِ بالإضافة. وقرأ الباقون مُوهِنُ بالتخفيف، - من أوهننه فأنا موهنه بمعنى أضعفته- وكَيْدِ بالنصب وتوهين الله كيدهم ومكرهم يكون بأشياء منها: إطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم، .
واسم الإشارة ذلِكُمْ يعود إلى ما سبق من نعمة الإبلاء والقتل والرمي وغير ذلك من النعم. وهو مبتدأ وخبره محذوف، وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ.... معطوف عليه.
المعنى: ذلكم الذي منحته إياكم من العطاء الحسن، والقتل للمشركين، والإمداد بالملائكة، وإنزال الماء عليكم. ذلكم كله نعم منى إليكم، ويضاف إلى ذلك كله أنّه- سبحانه- مضعف لكيد الكافرين ومفسد لمكرهم بكم.
قال ابن كثير: وهذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنهم في تبار ودمار»
وقوله ( ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ) هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر : أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ، مصغرا أمرهم ، وأنهم كل ما لهم في تبار ودمار ، ولله الحمد والمنة .
القول في تأويل قوله : ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ذلكم)، هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا, وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم، وإمكانهم من قتلهم وأسرهم= فعلنا الذي فعلنا=(وأنّ الله موهن كيد الكافرين)، يقول: واعلموا أن الله مع ذلك مُضْعِف (14) = " كيد الكافرين ", يعنى: مكرهم, (15) حتى يَذِلُّوا وينقادوا للحق، أو يُهْلَكوا. (16)
* * *
وفى فتح " أن " من الوجوه ما في قوله: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ ، [سورة الأنفال: 14]، وقد بينته هنالك. (17)
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (موهن) .
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والبصريين: " مُوَهِّنُ" بالتشديد, من: " وهَّنت الشيء "، ضعَّفته.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (مُوهِنُ)، من أوهنته فأنا موهنه ", بمعنى: أضعفته.
* * *
قال أبو جعفر: والتشديد في ذلك أعجبُ إليّ، لأن الله تعالى كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, عقدًا بعد عَقْدٍ, وشيئًا بعد شيء, وإن كان الآخرُ وجهًا صحيحًا.
--------------------
الهوامش :
(14) انظر تفسير " الوهن " فيما سلف 7 : 234 ، 269 9 : 170 .
(15) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف ص : 322 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(16) في المخطوطة : " ويهلكوا " ، وصواب السياق ما أثبت .
(17) انظر ما سلف ص : 434 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
موهن:
قرئ:
1- موهّن، من «وهّن» بالتشديد، وهى قراءة الحرميين، وأبى عمرو.
2- موهن، من «أوهن» ، وهى قراءة باقى السبعة، وأبى رجاء، والأعمش، وابن محيصن.
التفسير :
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} أيها المشركون، أي: تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين. {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} حين أوقع اللّه بكم من عقابه، ما كان نكالاً لكم وعبرة للمتقين {وَإِنْ تَنْتَهُوا} عن الاستفتاح {فَهُوَ خَيْرٌ} لأنه ربما أمهلتم، ولم يعجل لكم النقمة. {وإن تعودوا} إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين {نَعُدْ} في نصرهم عليكم. {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} أي: أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون، معتمدين عليهم، شَيئا وأن الله مع الْمؤمنين. ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده، وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان. فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه، لما انهزم لهم راية [انهزاما مستقرا] ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.
وبعد أن ذكر- سبحانه- عباده المؤمنين بما حباهم به من منن في غزوة بدر، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله.. أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة في بدر على أضل الفريقين فقال- تعالى-: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه، عن ثعلبة، أن أبا جهل قال حين التقى القوم- في بدر-: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه- أى فأهلكه- الغداة. فكان المستفتح .
وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أهدى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين. فقال- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا.. الآية.
قال الراغب: وقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ... أى: إن طلبتم الظفر، أو طلبتم الفتاح أى الحكم.. والفتح إزالة الإغلاق والإشكال ... ويقال: فتح القضية فتاحا. أى فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها. قال- تعالى-: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. والاستفتاح: الاستنصار- أى طلب النصر- قال- تعالى- وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ....
والمعنى: إن تطلبوا الفتح أى: القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أى: فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل.
فالخطاب مسوق للكافرين على سبيل التهكم بهم، والتوبيخ لهم، حيث طلبوا من الله- تعالى- القضاء بينهم وبين المؤمنين، والنصر عليهم، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم، وإعلاء كلمة المؤمنين، لأنهم على الطريق القويم.
وقوله: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أى: وإن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق، يكن هذا الانتهاء خيرا لكم من الكفر ومحاربة الحق.
وقوله: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ ... تحذير لهم من التمادي في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد للحق.
أى: وَإِنْ تَعُودُوا إلى محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعداوتهم نَعُدْ
عليكم بالهزيمة والذلة. وعلى المؤمنين بالنصر والعزة، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم- ولو كثرت- أن تدفع عنكم شيئا من تلك الهزيمة وهذه الذلة، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده.
وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تذييل قصد به تثبيت المؤمنين، وإلقاء الطمأنينة في نفوسهم.
أى: وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته.
قال الجمل: «قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح «أن» والباقون بكسرها.
فالفتح من أوجه:
أحدها: أنه على لام العلة والمعلل تقديره، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت.
والثاني: أن التقدير: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف.
أى: والأمر أن الله مع المؤمنين.
والوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف.
هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب في قوله- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا.. للمشركين هو رأى جمهور المفسرين.
ومنهم من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين، وعليه يكون المعنى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ... أى تطلبوا- أيها المؤمنون- النصر على أعدائكم فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أى: فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم.
وَإِنْ تَنْتَهُوا أى عن المنازعة في أمر الأنفال، وعن التكاسل في طاعة الله ورسوله، فَهُوَ أى هذا الانتهاء خَيْرٌ لَكُمْ.
وَإِنْ تَعُودُوا إلى المنازعات والتكاسل نَعُدْ عليكم بالإنكار وتهييج الأعداء.
وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أى: ولن تفيدكم كثرتكم شيئا مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره.
وأن الله- تعالى- مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له.
والذي يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح، لأن أسباب النزول تؤيده، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أهدى الجندين.. وأن أبا جهل قال حين التقى القوم:
اللهم أينا أقطع للرحم.. فأحنه الغداة. قال ابن جرير: فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله في ذلك إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ...
ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ... للكافرين، أن بعض المفسرين- كابن جرير وابن كثير- ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا.
أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة «وقيل» وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال: قوله- تعالى-: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا.. خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أقرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، وأفكنا للعانى ... ».
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء.. وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم، ورعايته لهم.. ورغبت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق، وحذرتهم من التمادي في باطلهم وطغيانهم..
وأخبرتهم في ختامها بأن الله- تعالى- مع المؤمنين بتأييده ونصره.
ثم وجهت السورة الكريمة نداء ثانيا إلى المؤمنين، أمرتهم بطاعة الله ورسوله، ونهتهم عن التشبه بالكافرين وأمثالهم من المنافقين.
فقال- تعالى-:
يقول تعالى للكفار ( إن تستفتحوا ) أي : تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم ما سألتم ، كما قال محمد بن إسحاق وغيره ، عن الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ؛ أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة - وكان ذلك استفتاحا منه - فنزلت : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) إلى آخر الآية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد - يعني ابن هارون - أخبرنا محمد بن إسحاق ، حدثني الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة : أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان المستفتح .
وأخرجه النسائي في التفسير من حديث ، صالح بن كيسان ، عن الزهري ، به وكذا رواه الحاكم .
في مستدركه من طريق الزهري ، به وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . وروي [ نحو ] هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، ويزيد بن رومان ، وغير واحد .
وقال السدي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر ، أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال الله : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) يقول : قد نصرت ما قلتم ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو قوله تعالى إخبارا عنهم : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ] ) [ الأنفال : 32 ] .
وقوله : ( وإن تنتهوا ) أي : عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله ، ( فهو خير لكم ) أي : في الدنيا والآخرة . [ وقوله ] ( وإن تعودوا نعد ) كقوله ( وإن عدتم عدنا ) [ الإسراء : 8 ] معناه : وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة ، نعد لكم بمثل هذه الواقعة .
وقال السدي : ( وإن تعودوا ) أي : إلى الاستفتاح ) نعد ) إلى الفتح لمحمد - صلى الله عليه وسلم - والنصر له ، وتظفيره على أعدائه ، والأول أقوى .
( ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ) أي : ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا ، فإن من كان الله معه فلا غالب له ، فإن الله مع المؤمنين ، وهم الحزب النبوي ، والجناب المصطفوي .
القول في تأويل قوله : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، يعني: إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم، وأظلم الفئتين, وتستنصروه عليه, فقد جاءكم حكم الله، ونصرُه المظلوم على الظالم, والمحق على المبطل. (18)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15831- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
15832- . . . . قال: حدثنا سويد بن عمرو الكلبي, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن عكرمة: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
15833- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، يعني بذلك المشركين: إن تستنصروا فقد جاءكم المدد.
15834- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير, عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا)، قال: إن تستقضوا القضاء= وإنه كان يقول: (وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا)، قلت: للمشركين؟ قال: لا نعلمه إلا ذلك (19)
15835- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: كفار قريش في قولهم: " ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه "! ففُتح بينهم يوم بدر.
15836 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
15837- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: استفتح أبو جهل فقال: اللهم = يعني محمدًا ونفسه = " أيُّنا كان أفجرَ لك، اللهم وأقطعَ للرحم، فأحِنْه اليوم "! (20) قال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: استفتح أبو جهل بن هشام فقال: " اللهم أيُّنا كان أفجر لك وأقطعَ للرحم، فأحنه اليوم!" يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام ونفسه. قال الله عز وجل: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، فضربه ابنا عفراء: عوف ومعوِّذ, وأجهزَ عليه ابن مسعود.
15839- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنى عقيل, عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العدوي، حليف بني زهرة, أن المستفتح يومئذ أبو جهل, وأنه قال حين التقى القوم: " أينا أقطعُ للرحم، وآتانا بما لا يُعرف، فأحِنْه الغداة "! فكان ذلك استفتاحه, فأنـزل الله في ذلك: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، الآية. (21)
15840- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، الآية, يقول: قد كانت بدرٌ قضاءً وعِبْرةً لمن اعتبر.
15841- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة, أخذوا بأستار الكعبة واستنصروا الله وقالوا: " اللهم انصر أعز الجندين, وأكرم الفئتين, وخير القبيلتين "! فقال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، يقول: نصرت ما قلتم, وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
15842- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) إلى قوله: (وأن الله مع المؤمنين)، وذلك حين خرج المشركون ينظرون عِيرَهم, وإن أهلَ العير، أبا سفيان وأصحابه، أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم, فقال أبو جهل: " أينا كان خيرًا عندك فانصره "! وهو قوله: (إن تستفتحوا)، يقول: تستنصروا.
15843- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: إن تستفتحوا العذاب, فعُذِّبوا يوم بدر. قال: وكان استفتاحهم بمكة, قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، [سورة الأنفال: 32]. قال: فجاءهم العذاب يوم بدر. وأخبر عن يوم أحد: (وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) .
15844- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن مطرف, عن عطية قال: قال أبو جهل يوم بدر: " اللهم انصر أهدى الفئتين, وخير الفئتين وأفضل " فنـزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15845 - . . . . قال، حدثنا عبد الأعلى, عن معمر, عن الزهري: أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال: " اللهم أينا كان أفجر وأقطع لرحمه, فأحِنْه اليوم "! فأنـزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15846 - . . . . قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن ابن إسحاق, عن الزهري, عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن أبا جهل, قال يوم بدر: اللهمّ أقطعنا لرحمه, وآتانا بما لا نعرف, فأحنه الغداة!". وكان ذلك استفتاحًا منه, فنـزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، الآية. (22)
15847 - . . . . قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن إبراهيم بن سعد, عن صالح بن كيسان, عن الزهري, عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: كان المستفتح يوم بدر أبا جهل, قال: " اللهم أقطعنا للرحم, وآتانا بما لا نعرف, فأحنه الغداة!"، فأنـزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) . (23)
15848 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري, عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير, حليف بني زهرة قال: لما التقى الناس, ودنا بعضهم من بعض, قال أبو جهل: " اللهم أقطعنا للرحم, وآتانا بما لا نعرف, فأحنه الغداة!"، فكان هو المستفتح على نفسه= (24) قال ابن إسحاق: فقال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، لقول أبي جهل: " اللهم أقطعنا للرحم, وآتانا بما لا نعرف, فأحنه للغداة!" قال: " الاستفتاح "، الإنصاف في الدعاء. (25)
15849- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن يزيد بن رومان وغيره: قال أبو جهل يوم بدر: " اللهم انصر أحب الدينين إليك, دينَنا العتيق, أم دينهم الحديث "! فأنـزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، إلى قوله: (وأن الله مع المؤمنين) .
* * *
وأما قوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم)، فإنه يقول: " وإن تنتهوا "، يا معشر قريش، وجماعة الكفار، عن الكفر بالله ورسوله, وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به= " فهو خير لكم "، في دنياكم وآخرتكم (26) =(وإن تعودوا نعد)، يقول: وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه المؤمنين= " نعد "، أي: بمثل الواقعة التي أوقعت بكم يوم بدر.
* * *
وقوله: (ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت)، يقول: وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم, ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسَبْيكم وهزمكم (27) " فئتكم شيئًا ولو كثرت ", يعني: جندهم وجماعتهم من المشركين, (28) كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئًا=(وأن الله مع المؤمنين)، يقول جل ذكره: وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم, ينصرهم عليهم, أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين. (29)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15850- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق في قوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم)، قال: يقول لقريش= " وإن تعودوا نعد "، لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر=( ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين)، أي: وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئًا. وإني مع المؤمنين، أنصرهم على من خالفهم. (30)
* * *
وقد قيل: إن معنى قوله: (وإن تعودوا نعد)، وإن تعودوا للاستفتاح، نعد لفتح محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا القول لا معنى له، لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه السلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهارَ دينه وإعلاءَ كلمته، من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه, فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك: " إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم، وإن تعودوا نعد "، لأن الله قد كان وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الفتح بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، [سورة الحج: 39]، استفتح المشركون أو لم يستفتحوا.
* ذكر من قال ذلك:
15851- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وإن تعودوا نعد)، إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم =(ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين)، محمد وأصحابه.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وأن الله مع المؤمنين).
ففتحها عامة قرأة أهل المدينة بمعنى: ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله لمع المؤمنين= (31) فعطف ب " أن " على موضع " ولو كثرت "، كأنه قال: لكثرتها, ولأن الله مع المؤمنين. ويكون موضع " أن " حينئذ نصبًا على هذا القول. (32)
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت، على: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ , (وأن الله مع المؤمنين)، عطفًا بالأخرى على الأولى.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: " وَإِنَّ اللهَ"، بكسر الألف على الابتداء, واعتلوا بأنها في قراءة عبد الله: " وإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب, قراءة من كسر " إن " للابتداء, لتقضِّي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله: (وأن الله مع المؤمنين) . (33)
--------------------------
الهوامش :
(18) انظر تفسير " الاستفتاح " و " الفتح " فيما سلف 2 : 254 10 : 405 ، 406 12 : 563 .
(19) في المطبوعة والمخطوطة ، " لا نعلم " ، والجيد ما أثبت .
(20) يقال : " أحانه الله " ، أهلكه . و " الحين " ( بفتح فسكون ) : الهلاك ، أو هو أجل الهلاك على التحقيق .
(21) الأثر : 15839 - " عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدوي " ، مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ورأسه زمن الفتح ، ودعا له . وقال أبو حاتم : " رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير " ، وقال البخاري في التاريخ : " عبد الله بن ثعلية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مرسل ، إلا أن يكون عن أبيه ، وهو أشبه " . مترجم في الإصابة ، والتهذيب ، وأسد الغابة ، والاستيعاب : 341 ، وابن أبي حاتم 2 2 19 .
وهذا الخبر سيأتي من طريق ابن إسحاق ، عن الزهري ، برقم : 15846 ، 15848 ، ومن طريق صالح بن كيسان ، عن الزهري ، رقم : 15847 .
ورواه أحمد في مسنده 5 : 431 ، 4 من طريق يزيد بن هارون ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، وص : 431 ، 432 ، من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 328 من طريق يزيد بن هارون ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري = ثم من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
وهذا الإسناد الثاني الذي ذكره الحاكم ، لم أجده في المسند ، و " إبراهيم بن سعد " يروي عن " صالح بن كيسان " ، وعن " الزهري " ، عن " ابن إسحاق " .
(22) الأثر : 15846 - انظر تخريج الأثر رقم : 15839 ، والخبرين التاليين .
(23) الأثر : 15847 - انظر تخريج الآثار السالفة ، والذي سيليه .
(24) قول : " على نفسه " ، ليست في سيرة ابن هشام 2 : 280 . وانظر تخريج الخبر ، بعد .
(25) الأثر : 15848 - هما خبران ، أولهما إلى قوله : " المستفتح على نفسه " ، رواه ابن هشام في سيرته 2 : 280 ، وسائر الخبر ، رواه في سيرته 2 : 324 ، وهو تابع الأثر : 15830 .
وانظر تخريج الأثر رقم : 15839 .
(26) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف 20 : 566 ، تعليق : 1 والمراجع هناك .
(27) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف 7 : 133 .
(28) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص : 435 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(29) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص : 428 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(30) الأثر : 15850 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15848 ، في القسم الثاني منه .
وكان في المطبوعة و " إن الله مع المؤمنين ينصرهم " ، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها " أنصرهم " ، وأثبت نص ما في سيرة ابن هشام ، والذي في المخطوطة بعضه سهو من الناسخ وعجلة .
(31) في المطبوعة : " مع المؤمنين " بغير لام ، وأثبت ما في المخطوطة ، وأنا في شك منه .
(32) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 407 .
(33) في المطبوعة : " عما يقضي قوله " ، والصواب ما في المخطوطة .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 271 | ﴿وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ﴾ |
---|
الأنفال: 19 | ﴿إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡٔٗا﴾ |
---|
التوبة: 3 | ﴿فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّـهِ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
وأن الله:
قرئ:
1- بفتح الهمزة، وهى قراءة الصاحبين، وحفص.
2- بكسر الهمزة، وهى قراءة باقى السبعة.
3- والله، وهى قراءة ابن مسعود.
التفسير :
لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين، أمرهم أن يقوموا بمقتضى الإيمان الذي يدركون به معيته، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما. {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي: عن هذا الأمر الذي هو طاعة اللّه، وطاعة رسوله. {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} ما يتلى عليكم من كتاب اللّه، وأوامره، ووصاياه، ونصائحه، فتوليكم في هذه الحال من أقبح الأحوال.
والمعنى يا أيها الذين آمنوا حق الإيمان، أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أى ولا تعرضوا عنه، فإن في إعراضكم عنه خسارة عظيمة لكم في دنياكم وآخرتكم.
قال الآلوسى: «وأعيد الضمير إليه صلى الله عليه وسلم، لأن المقصود طاعته، وذكر طاعة الله- تعالى- توطئة لطاعته، وهي مستلزمة لطاعة الله- تعالى-، لأنه مبلغ عنه، فكان الراجع إليه صلى الله عليه وسلم كالراجع إلى الله- تعالى-» .
وقوله: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جملة حالية مسوقة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقا، لا لتقييد النهى عنه بحال السماع.
أى أطيعوا الله ورسوله- أيها المؤمنون- ولا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته
يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له ؛ ولهذا قال : ( ولا تولوا عنه ) أي : تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره ، ( وأنتم تسمعون ) أي : بعد ما علمتم ما دعاكم إليه .
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله=(أطيعوا الله ورسوله)، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه=(ولا تولوا عنه)، يقول: ولا تدبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفين أمره ونهيه (34) = " وأنتم تسمعون " أمرَه إياكم ونهيه, وأنتم به مؤمنون، كما:-
15852- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون)، أي: لا تخالفوا أمره، وأنتم تسمعون لقوله, وتزعمون أنكم منه. (35)
--------------------
الهوامش :
(34) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فارس اللغة ( ولي ) .
(35) الأثر : 15852 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15850.
وكان في المطبوعة هنا " وتزعمون أنكم مؤمنون " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 32 | ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ |
---|
آل عمران: 132 | ﴿وَ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
أي: لا تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية التي لا حقيقة لها، فإنها حالة لا يرضاها اللّه ولا رسوله،فليس الإيمان بالتمني والتحلي، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال.
وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ تأكيد لما قبله، ونهى لهم عن التشبه بالضالين.
أى أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم عن إخلاص وإذعان، ولا تقصروا في ذلك في وقت من الأوقات، وإياكم أن تتشبهوا بأولئك الكافرين والمنافقين الذين ادعوا السماع فقالوا سمعنا، والحال أنهم لم يسمعوا سماع تدبر واتعاظ، لأنهم لم يصدقوا ما سمعوه، ولم يتأثروا به. بل نبذوه وراء ظهورهم.
فالمنفى في قوله- تعالى- وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، لكنه جيء به على سبيل الإطلاق، للإشعار بأنهم قد نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا، بجعل سماعهم بمنزلة العدم، حيث إنه سماع لا وزن له، ولا فائدة لهم من ورائه، مع أنهم لو فتحوا آذانهم وقلوبهم للحق لاستفادوا، ولكنهم آثروا الغي على الرشد.
( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) قيل : المراد المشركون . واختاره ابن جرير .
وقال ابن إسحاق : هم المنافقون ؛ فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا ، وليسوا كذلك .
القول في تأويل قوله : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا، أيها المؤمنون، في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالمشركين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قالوا: " قد سمعنا "، بآذاننا= " وهم لا يسمعون "، يقول: وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم ولا ينتفعون به، لإعراضهم عنه, وتركهم أن يُوعُوه قلوبهم ويتدبروه. فجعلهم الله، إذ لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بآذانهم, (36) بمنـزلة من لم يسمعها. يقول جل ثناؤه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا أنتم في الإعراض عن أمر رسول الله، وترك الانتهاء إليه وأنتم تسمعونه بآذانكم، كهؤلاء المشركين الذين يسمعون مواعظ كتاب الله بآذانهم, ويقولون: " قد سمعنا ", وهم عن الاستماع لها والاتعاظ بها معرضون كمن لا يسمَعُها. (37)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:-
15853- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)، أي: كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة, ويُسِرُّون المعصية. (38)
15854- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (وهم لا يسمعون)، قال: عاصون.
15855- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وللذي قال ابن إسحاق وجه, ولكن قوله: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)، في سياق قَصَص المشركين, ويتلوه الخبر عنهم بذمّهم, وهو قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، فلأن يكون ما بينهما خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم.
---------------------
الهوامش :
(36) في المطبوعة : " فجعلهم الله لما لم ينتفعوا " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(37) في المخطوطة : " وهم لاستعمالها والاتعاظ بها " ، والصواب ما في المطبوعة ، وإنما هو إسقاط من الناسخ في كتابته . وكان في المطبوعة : " كمن لم يسمعها " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(38) الأثر : 15853 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15852.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 105 | ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ |
---|
الأنفال: 21 | ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ |
---|
الأنفال: 47 | ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ |
---|
الحشر: 19 | ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يقول تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} من لم تفد فيهم الآيات والنذر، وهم {الصُّمُّ} عن استماع الحق {الْبُكْمُ} عن النطق به. {الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} ما ينفعهم، ويؤثرونه على ما يضرهم، فهؤلاء شر عند اللّه من جميع الدواب، لأن اللّه أعطاهم أسماعا وأبصارا وأفئدة، ليستعملوها في طاعة اللّه، فاستعملوها في معاصيه وعدموا ـ بذلك ـ الخير الكثير، فإنهم كانوا بصدد أن يكونوا من خيار البرية. فأبوا هذا الطريق، واختاروا لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية،والسمع الذي نفاه اللّه عنهم، سمع المعنى المؤثر في القلب، وأما سمع الحجة، فقد قامت حجة اللّه تعالى عليهم بما سمعوه من آياته،وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته.
ثم وصف- سبحانه- الكفار والمنافقين وأشباههم وصفا يحمل العقلاء على النفور منهم، فقال- تعالى-: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ...
والدواب: جمع دابة وهي كل ما يدب على الأرض. قال- تعالى-: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. .
قال الجمل: «وإطلاق الدابة على الإنسان لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا، وفي المصباح: الدابة كل حيوان في الأرض مميزا أو غير مميز» .
وقد روى أن هذه الآية نزلت في نفر من بنى عبد الدار، كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فقتلوا جميعا يوم بدر.
وهذا لا يمنع أن الآية الكريمة يشمل حكمها جميع المشركين والمنافقين، إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
والمعنى: إن شر ما يدب على الأرض عِنْدَ اللَّهِ أى: في حكمه وقضائه، هم أولئك الصُّمُّ عن سماع الحق الْبُكْمُ عن النطق به الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أى لا يعقلون التمييز بينه وبين الباطل.
ووصفهم- سبحانه- بذلك مع أنهم يسمعون وينطقون، لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس، بل استعملوها فيما يضر ويؤذى، فكان وجودها فيهم كعدمها.
وقدم الصمم على البكم، لأن صممهم عن سماع الحق متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له، كما أن النطق به من فروع سماعه.
وقوله الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ تحقيق لكمال سوء حالهم، لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما فهم بعض الأمور.. أما إذا كان بجانب صممه وبكمه فاقد العقل، فإنه في هذه الحالة يكون قد بلغ الغاية في سوء الحال..
قال صاحب المنار: وقوله: الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أى: فقدوا فضيلة العقل الذي يميز بين الحق والباطل والخير والشر، إذ لو عقلوا لطلبوا، ولو طلبوا لسمعوا وميزوا، ولو سمعوا لنطقوا وبينوا، وتذكروا وذكروا.. فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق صاروا كالفاقدين لهذه المشاعر والقوى.. بل هم شر من ذلك لأنهم أعطيت لهم المشاعر والقوى فأفسدوها على أنفسهم لعدم استعمالها فيما خلقها الله لأجله، فهم كما قال الشاعر:
خلقوا، وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا
ولم يصفهم هنا بالعمى كما وصفهم في آية الأعراف وآيتي البقرة، لأن المقام هنا مقام تعريض بالذين ردوا دعوة الإسلام، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن» .
ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة ، فقال : ( إن شر الدواب عند الله الصم ) أي : عن سماع الحق ( البكم ) عن فهمه ؛ ولهذا قال : ( الذين لا يعقلون ) فهؤلاء شر البرية ؛ لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله [ عز وجل ] فيما خلقها له ، وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ؛ ولهذا شبههم بالأنعام في قوله : ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء [ صم بكم عمي فهم لا يعقلون ] ) [ البقرة : 171 ] . وقال في الآية الأخرى : ( أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) [ الأعراف : 179 ] .
وقيل : المراد بهؤلاء المذكورين نفر من بني عبد الدار من قريش . روي عن ابن عباس ومجاهد ، واختاره ابن جرير ، وقال محمد بن إسحاق : هم المنافقون .
قلت : ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا ؛ لأن كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح ، والقصد إلى العمل الصالح .
القول في تأويل قوله : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ شر ما دبَّ على الأرض من خلق الله عند الله، (39) الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه، (40) فيعتبروا به ويتعظوا به، وينكُصون عنه إن نطقوا به, (41) الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه, فيستعملوا بهما أبدانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15856- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن شر الدواب عند الله)، قال: " الدواب "، الخلق.
15857- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عكرمة قال: وكانوا يقولون: " إنا صم بكم عما يدعو إليه محمد, لا نسمعه منه, ولا نجيبه به بتصديق!" فقتلوا جميعًا بأحد, وكانوا أصحاب اللواء.
15858- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " الصم البكم الذين لا يعقلون ", قال: الذين لا يتّبعون الحق.
15859- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، وليس بالأصم في الدنيا ولا بالأبكم, ولكن صمّ القلوب وبُكمها وعُميها! وقرأ: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج: 46] .
* * *
واختلف فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني بها نفرٌ من المشركين.
* ذكر من قال ذلك:
15860- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال، قال ابن عباس: " الصم البكم الذين لا يعقلون "، نفرٌ من بني عبد الدار, لا يتبعون الحق.
15861 - . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: (الصم البكم الذين لا يعقلون) ، قال: لا يتبعون الحق= قال، قال ابن عباس: هم نَفرٌ من بني عبد الدار.
15861 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
* * *
وقال آخرون: عُني بها المنافقون.
* ذكر من قال ذلك:
15862- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، [أي المنافقون الذين نهيتكم أن تكونوا مثلهم، بُكمٌ عن الخير، صم عن الحق، لا يعقلون]، لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النقمة والتِّباعة. (42)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال بقول ابن عباس: وأنه عُني بهذه الآية مشركو قريش, لأنها في سياق الخبر عنهم.
------------------
الهوامش :
(39) انظر تفسير " دابة " فيما سلف 3 : 275 11 : 344 .
(40) انظر تفسير " الصمم " 1 : 328 - 331 3 : 315 10 : 478 11 : 350 .
(41) انظر تفسير " البكم " فيما سلف 1 : 328 - 331 3 : 315 11 : 350 .
(42) الأثر : 15862 -سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15853 . والذي بين القوسين سقط من ناسخ المخطوطة بلا شك ، لأن إسقاطه يجعل الخبر غير مطابق للترجمة ، لأنه عندئذ لا ذكر فيه للمنافقين . هذا فضلا عن أن أبا جعفر ينقل تفسير ابن إسحاق في سيرته بنصه في كل ما مضى ، فلا معنى لاختصاره هنا اختصارًا مخلا ، فثبت أن ذلك من الناسخ فزدته من السيرة .
أما الجملة التي أثبتها الناسخ ، وهي الخارجة عن القوسين . فكانت في المخطوطة : " ... من النعمة والساعة " ، الأولى خطأ ، وصوابها ما أثبت .
فجاء الناشر ، ولم يفهم معنى الكلام ، فجعله هكذا : " ... من النعمة والسعة " ، فصار خلطًا لا خير فيه ، ولا معنى له . ورددته إلى الصواب والحمد لله .
و " التباعة " ، ( بكسر التاء ) ، مثل " التبعة " ( بفتح التاء وكسر الباء ) : ما فيه إثم يتبع به صاحبه . يقال : " ما عليه من الله في هذا تبعة ولا تباعة " ، أي : مطالبة يطلب بإثمها .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنفال: 22 | ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّـهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ |
---|
الأنفال: 55 | ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّـهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} على الفرض والتقدير {لَتَوَلَّوْا} عن الطاعة {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه، وهذا دليل على أن اللّه تعالى لا يمنع الإيمان والخير، إلا لمن لا خير فيه، الذي لا يزكو لديه ولا يثمر عنده. وله الحمد تعالى والحكمة في هذا.
وقوله- تعالى- وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ... بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغي على الرشد، والضلالة على الهداية.
أى: ولو علم الله- تعالى- في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أى: استعدادا للإيمان ورغبة فيما يصلح نفوسهم وقلوبهم لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وتدبر، أى: لجعلهم سامعين للحق، ومستجيبين له، ولكنه- سبحانه- لم يعلم فيهم شيئا من ذلك، فحجب خيره عنهم بسبب سوء استعدادهم.
ولذا قال- تعالى- بعد ذلك: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أى: ولو أسمعهم سماع تفهم وتدبر، وهم على هذه الحالة العارية من كل خير لتولوا عما سمعوه من الحق وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن قبوله جحودا وعنادا.
قال الفخر الرازي: قوله- تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أى: أن كل ما كان حاصلا، فإنه يجب أن يعلمه الله، فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده، وتقرير الكلام: لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهم، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا به، ولتولوا وهم معرضون» .
ثم وجه- سبحانه- إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سببا في عذابهم، وذكّرهم بجانب من مننه عليهم، فقال- تعالى-:
ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ، ولا قصد لهم صحيح ، لو فرض أن لهم فهما ، فقال : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي : لأفهمهم ، وتقدير الكلام : ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم ؛ لأنه يعلم أنه ( ولو أسمعهم ) أي : أفهمهم ) لتولوا ) عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك ، ( وهم معرضون ) عنه .
القول في تأويل قوله : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفي معناها.
فقال بعضهم: عني بها المشركون. وقال: معناه: أنهم لو رزقهم الله الفهم لما أنـزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، لم يؤمنوا به, لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون.
* ذكر من قال ذلك:
15863- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم )، لقالوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا ، [سورة يونس: 15]، ولقالوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا [سورة الأعراف: 203]، ولو جاءهم بقرآن غيره=(لتولوا وهم معرضون).
15864- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)، قال: لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما انتفعوا بذلك, ولتولوا وهم معرضون.
15865 - وحدثني به مرة أخرى فقال: " لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم "، بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به.
* * *
وقال آخرون: بل عني بها المنافقون. قالوا: ومعناه ما:-
15866- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم)، لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم, (43) ولكن القلوب خالفت ذلك منهم, ولو خرجوا معكم لتولوا وهم معرضون, (44) ما وفَوا لكم بشيء مما خرجوا عليه. (45)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد، لما قد ذكرنا قبل من العلة, وأن ذلك ليس من صفة المنافقين. (46)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرًا، لأسمعهم مواعظ القرآن وعِبَره, حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه منه, ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون. ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا، لتولوا عن الله وعن رسوله, (47) وهم معرضون عن الإيمان بما دلَّهم على صحته مواعظُ الله وعبره وحججه، (48) معاندون للحق بعد العلم به. (49)
---------------------
الهوامش :
(43) في المطبوعة : " الذي قالوه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، مطابقًا لما في السيرة .
(44) كانت هذه الجملة الآتية في المخطوطة والمطبوعة هكذا : " فأوفوا لكم بشر مما خرجوا عليه " ، وهو لا معنى له . وصوابها ما أثبت من سيرة ابن هشام .
(45) الأثر : 15866 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15862 .
(46) انظر ص : 461 .
(47) انظر تفسير " التولي " فيما سلف 12 : 571 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(48) في المطبوعة : " ... دلهم على حقيقة " ، وفي المخطوطة : " ... دلهم على حجته " ، وهذا صواب قراءتها .
(49) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص : 332 تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنفال: 23 | ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّـهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَـ تَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ |
---|
التوبة: 76 | ﴿فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه. وقوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام. ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء. فليكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك. {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه.
قال القرطبي: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ.. هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، والاستجابة:
الإجابة.. قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أى: فلم يجبه عند ذاك مجيب.
وكان الإمام القرطبي يرى أن السين والتاء في قوله: «استجيبوا» زائدتان.
ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب، لأن الاستجابة هي الإجابة بنشاط وحسن استعداد.
وقوله لِما يُحْيِيكُمْ أى لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة.
وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله لِما يُحْيِيكُمْ أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن، أو الجهاد، أو العلم ... إلخ.
وذلك، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا.
والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله حق الإيمان، اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عن طواعية واختيار، ونشاط وحسن استعداد إِذا دَعاكُمْ الرسول- صلى الله عليه وسلم- لِما يُحْيِيكُمْ أى: إلى ما يصلح أحوالكم، ويرفع درجاتكم، من الأقوال النافعة، والأعمال الحسنة، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة: وتظفرون بالسعادتين:
الدنيوية والأخروية.
والضمير في قوله دَعاكُمْ يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله، ولأن في الاستجابة له استجابة لله- تعالى- قال- سبحانه-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً .
وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له- سبحانه-.
وقوله: يَحُولُ من الحول بين الشيء والشيء، بمعنى الحجز والفصل بينهما.
قال الراغب: أصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول: وباعتبار الانفصال قيل حال بيني وبينك كذا ...
أى فصل..» .
هذا، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان:
أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه- كما يقول ابن جرير-: أنه- سبحانه- أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئا، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته، وذلك أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز- جل ثناؤه- بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.
وقول من قال: يحول بينه وبين عقله. وقول من قال: يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.. فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له، .
وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى.
وقال ابن كثير- بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير-: وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها كيف شاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك) .
وروى: الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» .
أما القول الثاني فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه- كما يقول الزمخشري- «أنه- سبحانه- يميت المرء فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله، ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله، .
أو- كما يقول الفخر الرازي- بعبارة أوضح: «أن المراد أنه- تعالى- يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل. فكأنه قال: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء، فإن ذلك غير موثوق به،
وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب، لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم: سال الوادي، .
والذي نراه أن القول الثاني أولى بالقبول، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذي باتباعه يحيون حياة طيبة، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب، كما قال- تعالى- في ختامها وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
وليست مسوقة لإثبات قدرة الله، وأنه أملك لقلوب عباده منهم: وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء.
فالمعنى الذي ذكره ابن جرير- وتابعه عليه ابن كثير وغيره، معنى وجيه في ذاته، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها.. ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشري والرازي، لأن الآية التي معنا والتي بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة.
والمعنى الإجمالى للآية الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بعزيمة صادقة، وسرعة فائقة، إِذا دَعاكُمْ الرسول- صلى الله عليه وسلم- لِما يُحْيِيكُمْ أى لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة وَاعْلَمُوا علما يقينا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أى يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها: فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا، وسيجمع كذا في المستقبل، وسيحصل على كذا قريبا..
ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه.. فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت.
وقوله: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تذبيل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة. والضمير في قوله وَأَنَّهُ يعود إلى الله تعالى- أو هو ضمير الشأن. أى: وأنه- سبحانه- إليه وحده ترجعون لا إلى غيره، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم، ويجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب. في العمل الصالح بسرعة ونشاط، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله.
قال البخاري : ( استجيبوا ) أجيبوا ، ( لما يحييكم ) لما يصلحكم . حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن خبيب بن عبد الرحمن قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي ، فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ثم قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج ، فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرج ، فذكرت له ، وقال معاذ : حدثنا شعبة ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، سمع حفص بن عاصم ، سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا - وقال : هي ( الحمد لله رب العالمين ) السبع المثاني .
هذا لفظه بحروفه ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة .
وقال مجاهد في قوله : ( لما يحييكم ) قال : الحق .
وقال قتادة ( لما يحييكم ) قال : هو هذا القرآن ، فيه النجاة والتقاة والحياة .
وقال السدي : ( لما يحييكم ) ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .
وقوله تعالى : ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان .
رواه الحاكم في مستدركه موقوفا ، وقال : صحيح ولم يخرجاه ، ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا ولا يصح لضعف إسناده ، والموقوف أصح . وكذا قال مجاهد ، وسعيد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعطية ، ومقاتل بن حيان ، والسدي .
وفي رواية عن مجاهد في قوله : ( يحول بين المرء وقلبه ) حتى تركه لا يعقل .
وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه .
وقال قتادة هو كقوله : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ ق : 16 ] .
وقد وردت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يناسب هذه الآية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك . قال : فقلنا : يا رسول الله ، آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها . .
وهكذا رواه الترمذي في " كتاب القدر " من جامعه ، عن هناد بن السري ، عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ، عن الأعمش - واسمه سليمان بن مهران - عن أبي سفيان - واسمه طلحة بن نافع - عن أنس ثم قال : حسن . وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش ، رواه بعضهم عنه ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث أبي سفيان عن أنس أصح .
حديث آخر : قال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن بلال - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو مع ذلك على شرط أهل السنن ولم يخرجوه .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت ابن جابر يقول : حدثني بسر بن عبد الله الحضرمي : أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النواس بن سمعان الكلابي - رضي الله عنه - يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه . وكان يقول : يا مقلب القلوب ، ثبت قلوبنا على دينك . قال : والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه .
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فذكر مثله .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا حماد بن زيد ، عن المعلى بن زياد ، عن الحسن ؛ أن عائشة قالت : دعوات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بها : يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك . قالت : فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء . فقال : إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثني شهر ، سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في دعائه يقول : اللهم يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك . قالت : فقلت يا رسول الله ، أوإن القلوب لتقلب ؟ قال : نعم ، ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله - عز وجل - فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه . فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : بلى ، قولي : اللهم رب النبي محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، أخبرني أبو هانئ ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع عبد الله بن عمرو ؛ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد يصرف كيف شاء . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك .
انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري ، فرواه مع النسائي من حديث حيوة بن شريح المصري ، به .
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم).
فقال بعضهم: معناه: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان.
* ذكر من قال ذلك:
15867- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، قال: أمّا " ما يحييكم "، (50) فهو الإسلام, أحياهم بعد موتهم, بعد كفرهم.
* * *
وقال آخرون: للحق.
* ذكر من قال ذلك:
15868- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد في قول الله: (لما يحييكم)، قال: الحق.
15869 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
15870 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم)، قال: الحق.
15871 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، قال: للحق.
* * *
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى ما في القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
15872- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، قال: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. (51)
* * *
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو.
* ذكر من قال ذلك:
15873- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، أي: للحرب الذي أعزكم الله بها بعد الذل, وقوّاكم بعد الضعف, ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. (52)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب, قولُ من قال: معناه: استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق. وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلا فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد, والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن, وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب. أما في الدنيا, فبقاء الذكر الجميل, (53) وذلك له فيه حياة. وأما في الآخرة, فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها. (54)
* * *
وأما قول من قال: معناه الإسلام, فقول لا معنى له. لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، فلا وجه لأن يقال للمؤمن: استجب لله وللرسول إذا دعا إلى الإسلام والإيمان. (55)
* * *
وبَعْدُ، ففيما:-
15874- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيٍّ وهو يصلي, فدعاه: أيْ أُبَيّ ! فالتفت إليه أبيّ ولم يجبه. ثم إن أبيًّا خفف الصلاة, ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك، أي رسول الله! قال: وعليك، ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي! قال: أفلم تجد فيما أوحي إليّ: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "؟ قال: بلى، يا رسول الله! لا أعود. (56)
15875 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد, عن محمد بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو قائم يصلي, فصرخ به [فلم يجبه, ثم جاء]، (57) فقال: يا أبيّ، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ أليس الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ؟ قال أبيّ: لا جَرَم يا رسول الله, لا تدعوني إلا أجبتُ وإن كنت أصلي! (58)
* * *
=ما يُبِين عن أن المعنيَّ بالآية، هم الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحق بعد إسلامهم, لأن أبَيًّا لا شك أنه كان مسلمًا في الوقت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في هذين الخبرين.
* * *
القول في تأويل قوله : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: يحول بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكفر.
* ذكر من قال ذلك:
15876- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي, عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: بين الكافر أن يؤمن, وبين المؤمن أن يكفر. (59)
15877 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد= قالا حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري, عن الأعمش, عن عبد الله بن عبد الله الرازي, عن سعيد بن جبير, بنحوه.
15878 - حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة قال، حدثنا أبو عاصم, عن سفيان, عن الأعمش, عن عبد الله بن عبد الله, عن سعيد بن جبير, مثله.
15879 - حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية, عن المنهال, عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر, وبين الكافر وبين الإيمان.
15880- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل, عن الأعمش, عن عبد الله بن عبد الله الرازي, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: (يحول بين المرء وقلبه)، يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله.
15881 - . . . . قال، حدثنا حفص, عن الأعمش, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المؤمن والكفر, وبين الكافر والإيمان.
15882- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان, وعبد العزيز بن أبي رواد, عن الضحاك في قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين الكافر وطاعته, وبين المؤمن ومعصيته.
15883 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبى روق, عن الضحاك بن مزاحم, بنحوه.
15884 - . . . . قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: يحول بين المرء وبين أن يكفر, (60) وبين الكافر وبين أن يؤمن.
15885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد, عن الضحاك بن مزاحم: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين الكافر وبين طاعة الله, وبين المؤمن ومعصية الله.
15886 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا ابن أبي رواد, عن الضحاك, نحوه.
15887 - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر نحوه.
15888 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يحدث، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المؤمن ومعصيته.
15889 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)، يقول: يحول بين المؤمن وبين الكفر, ويحول بين الكافر وبين الإيمان.
15890 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته, ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
15891- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن ليث, عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر, وبين الكافر وبين الإيمان.
15892 - . . . . قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي رواد, عن الضحاك: (يحول بين المرء وقلبه)، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته, وبين المؤمن وبين معصيته.
15893 - . . . . قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن يعقوب القمي, عن جعفر, عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه)، يحول بين المؤمن والمعاصي, وبين الكافر والإيمان.
15894- . . . . قال، حدثنا عبيدة, عن إسماعيل, عن أبي صالح: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بينه وبين المعاصي.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يحول بين المرء وعقله, فلا يدري ما يَعمل.
* ذكر من قال ذلك:
15895- حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا عبد المجيد, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المرء وعقله.
15896 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه)، حتى تركه لا يعقل.
15897 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
15898 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: هو كقوله " حال "، حتى تركه لا يعقل. (61)
15899 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله, عن حميد, عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: إذا حال بينك وبين قلبك، كيف تعمل.
15900 - قال: حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين قلب الكافر, وأن يعمل خيرًا.
* * *
وقال آخرون: معناه: يحول بين المرء وقلبه، أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه.
* ذكر من قال ذلك:
15901- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين الإنسان وقلبه, فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه قريب من قلبه، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره.
* ذكر من قال ذلك:
15902- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة في قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: هي كقوله: أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، [سورة ق: 16] .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم, وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء, حتى لا يقدر ذو قلب أن يُدرك به شيئًا من إيمان أو كفر, أو أن يَعِي به شيئًا, أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن " الحول بين الشيء والشيء "، إنما هو الحجز بينهما, وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه, (62) لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه إدراكَه سبيلٌ.
وإذا كان ذلك معناه, دخل في ذلك قول من قال: " يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان ", وقول من قال: " يحول بينه وبين عقله ", وقول من قال: " يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه "، لأن الله عز وجل إذا حال بين عبد وقلبه, لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما مُنِع إدراكه به على ما بيَّنتُ.
غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عم بقوله: ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)، الخبرَ عن أنه يحول بين العبد وقلبه, ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئًا دون شيء, والكلام محتمل كل هذه المعاني, فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له.
* * *
وأما قوله: (وأنه إليه تحشرون)، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون، أيضًا، مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه: أنّ الله الذي يقدر على قلوبكم, وهو أملك بها منكم, إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة, (63) فيوفّيكم جزاء أعمالكم, المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته, فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه, وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم, فيوجب ذلك سَخَطَه, وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه.
-------------------
الهوامش :
(50) في المطبوعة والمخطوطة : " أما يحييكم " ، بإسقاط "ما " والجيد إثباتها .
(51) في المطبوعة : " الحياة والعفة " ، وهي في المخطوطة كما أثبتها غير منقوطة " الثاء " ، ثم زاد ناشرها أيضًا فأسقط من الكلام " والنجاة " ، وهذا من أسوأ العبث وأقبحه .
(52) الأثر : 15873 - سيرة ابن هشام 2 : 324 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15866.
(53) في المطبوعة والمخطوطة : " فيقال الذكر الجميل " ، وهو لا معنى له . صوابه ما أثبت .
(54) انظر تفسير " الاستجابة " فيما سلف ص : 409 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .
(55) في المطبوعة : " إذا دعاك " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(56) الأثر : : 15874 - سيأتي من طريق أخرى في الذي يليه .
" أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 12861 .
و " يزيد بن زريع العيشي " ، ثقة حافظ مضى مرارًا . برقم : 1769 ، 2533 ، 5429 ، 5438 ، غيرها .
و " روح بن القاسم التميمي الطبري " ، ثقة ، مضى برقم 6613 .
و " العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، مولى الحرقة " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 221 ، 14210 .
وأبوه : " عبد الرحمن بن يعقوب ، مولى الحرقة " ، تابعي ثقة . مضى برقم : 14210 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 2 : 412 ، 413 ، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم ، عن العلاء بن عبد الرحمن . عن أبيه ، بنحوه ، مطولا .
ورواه الترمذي في " فضائل القرآن ، باب ما جاء في فضل الفاتحة " ، من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن العلاء ، بنحوه مطولا ، وقال : " هذا حديث حسن صحيح" . وفي الباب عن أنس بن مالك " .
وخرجه ابن كثير في تفسيره 1 : 22 ، 23 .
ثم انظر حديث البخاري ( الفتح 8 : 119 ، 231 ) ، وهو حديث أبي سعيد بن المعلى ، بنحو هذه القصة عن أبي بن كعب . وقد فصل الحافظ ابن حجر هناك الكلام فيه ، وخرج حديث أبي بن كعب . وانظر أيضًا الموطأ : 83 ، خبر مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب : أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز ، أخبره : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي ... " بغير هذا السياق ، وما قاله فيه الحافظ ابن حجر ، وابن كثير في تفسيره ، حيث أشرنا إلى موضعه .
(57) هذا الذي بين القوسين ، ليس في المخطوطة ، زاده ناشر المطبوعة ، لا أدري من أين ؟ وفي الخبر سقط لا شك فيه ، ولكني لم أجد الخبر بنصه هذا .
(58) الأثر : 15875 - إسناد آخر للخبر السالف . وقد خرجته هناك .
" خالد بن مخلد القطواني " ، ثقة من شيوخ البخاري ، وأخرج له مسلم " مضى مرارًا ، برقم : 2206 ، 4577 ، 8166 ، 8397 ، وغيرها .
و " محمد بن جعفر بن أبي كثير الزرقي " ، ثقة معروف ، مضى برقم : 2206 ، 8397 .
(59) الأثر : 15876 - " عبد الله بن عبد الله الرازي " ، " أبو جعفر الرازي " ، قاضي الري ، ثقة ، لا بأس . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 2 92 .
وهو غير " أبي جعفر الرازي التميمي " ، " عيسى بن ماهان " .
(60) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " يحول بين المرء " ، ولو ظننت أنها : " يحول بين المؤمن " ، لكان في الذي سلف ما يرجحه .
(61) في المطبوعة : " قال : هي يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل " ، غير ما في المخطوطة كل التغيير ، لأنه لم يفهمه ، وهذا من أسوأ التصرف وأقبحه وأبعده من الأمانة . وإنما أراد أن " يحول " مضارعًا ، بمعنى " حال " ماضيًا ، ولذلك قال " حتى تركه لا يعقل " . فانظر أي فساد أدخله الناشر بلا ورع ! .
(62) انظر تفسير " المرء " فيما سلف 2 : 446 9 : 430 .
(63) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص 23 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
المرء:
وقرئ:
1- المرء، بكسر الميم، اتباعا لحركة الإعراب، وهى قراءة ابن أبى إسحاق.
2- المرء، بتشديد الراء من غير همز، وهى قراءة الحسن.
التفسير :
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} بل تصيب فاعل الظلم وغيره، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} من تعرض لمساخطه، وجانب رضاه.
ثم يؤكد- سبحانه- بعد ذلك ترهيبه لهم من التراخي في تغيير المنكر فيقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
والفتنة: من الفتن. وأصله- كما يقول الراغب-: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار.
كما في قوله- تعالى- ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أى: عذابكم. وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله- تعالى-: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا. وتارة في الاختيار نحو قوله- تعالى- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً .
والمراد بالفتنة هنا العذاب الدنيوي، كالأمراض، والقحط، واضطراب الأحوال، وتسلط الظلمة، وعدم الأمان.. وغير ذلك من المحن والمصائب والآلام التي تنزل بالناس بسبب غشيانهم الذنوب، وإقرارهم للمنكرات، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
والخطاب لجميع المؤمنين في كل زمان ومكان.
فالمعنى: داوموا أيها المؤمنون على طاعة الله بقوة ونشاط، واحذروا من أن ينزل بكم عذاب سيعم عند نزوله الأخيار والفجار والمحسنين والمسيئين.
وقوله، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ المراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله- تعالى-.
أى: واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره، وانتهك حرماته.
قال صاحب الكشاف: وقوله لا تُصِيبَنَّ لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر، أو صفة لفتنة.
فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم ... وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنبا أو عقابا، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله الجميع وليس من ظلم منكم خاصة.
فإن قلت: كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر؟
قلت: لأن فيه معنى النهى- ومتى كان كذلك جاز إدخال النون المؤكدة- كما إذا قلت:
انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك. ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ .
وقوله خَاصَّةً منصوب على الحال من الفاعل المستكن في قوله لا تُصِيبَنَّ.
ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف. والتقدير: إصابة خاصة.
هذا، وقد دلت الآية الكريمة على وجوب الإقلاع عن المعاصي، ووجوب محاربة مرتكبيها، فإن الأمة التي تشيع فيها المعاصي والمظالم والمنكرات.. ثم لا تجد من يحاربها ويعمل على إزالتها، تستحق العقوبة جزاء سكوتها واستخذائها وجبنها.
وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في حق بعض الصحابة الذين اشتركوا في واقعة الجمل فيما بعد.
ولكن هذا القول غير صحيح لأن الآية الكريمة تخاطب المؤمنين جميعا في كل زمان ومكان، وتأمرهم بالبعد عن المعاصي والمنكرات التي تفضى بهم إلى العذاب الدنيوي قبل الأخروى. وليست خاصة بفريق دون فريق.
لذا قال ابن كثير: والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عدى بن عميرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله- تعالى- لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» .
وروى الإمام أحمد أيضا عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب» .
وقال الإمام القرطبي: قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.
ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له:
يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» .
وفي صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .
وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا- أى اقترعوا- على سفينة فأصاب بعضهم أغلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» .
ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة.
قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر وعدم التغيير. وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها.
روى ابن وهب عن مالك قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها.
واحتج بصنيع أبى الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها.
فإن قيل: فقد قال الله- تعالى- وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب؟
فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله في حكمه الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة .
وقال بعض العلماء: وذكر القسطلاني «أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده. فكل من لم يكن بهذه الحالة، فهو راض بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار .
يحذر تعالى عباده المؤمنين ) فتنة ) أي : اختبارا ومحنة ، يعم بها المسيء وغيره ، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب ، بل يعمهما ، حيث لم تدفع وترفع . كما قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا شداد بن سعيد ، حدثنا غيلان بن جرير ، عن مطرف قال : قلنا للزبير : يا أبا عبد الله ، ما جاء بكم ؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ، ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ فقال الزبير - رضي الله عنه - : إنا قرأنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت .
وقد رواه البزار من حديث مطرف ، عن الزبير ، وقال : لا نعرف مطرفا روى عن الزبير غير هذا الحديث .
وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن الزبير نحو هذا .
وروى ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : قال الزبير : لقد خوفنا بها ، يعني قوله [ تعالى ] ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة .
وكذا رواه حميد ، عن الحسن ، عن الزبير ، رضي الله عنه .
وقال داود بن أبي هند ، عن الحسن في هذه الآية قال : نزلت في علي ، وعثمان وطلحة والزبير ، رضي الله عنهم .
وقال سفيان الثوري عن الصلت بن دينار ، عن عقبة بن صهبان ، سمعت الزبير يقول : لقد قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإن نحن المعنيون بها : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب )
وقد روي من غير وجه ، عن الزبير بن العوام .
وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل ، فاقتتلوا .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) يعني : أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة .
وقال في رواية له ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم إليهم فيعمهم الله بالعذاب .
وهذا تفسير حسن جدا ؛ ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) هي أيضا لكم ، وكذا قال الضحاك ، ويزيد بن أبي حبيب ، وغير واحد .
وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، إن الله تعالى يقول : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) [ التغابن : 15 ] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن . رواه ابن جرير .
والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم - وإن كان الخطاب معهم - هو الصحيح ، ويدل على ذلك الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن ، ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه إن شاء الله تعالى ، كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا أحمد بن الحجاج ، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أنبأنا سيف بن أبي سليمان ، سمعت عدي بن عدي الكندي يقول : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي - يعني عدي بن عميرة - يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله - عز وجل - لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة .
فيه رجل مبهم ، ولم يخرجوه في الكتب الستة ، ولا واحد منهم ، والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان الهاشمي ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن جعفر - أخبرني عمرو بن أبي عمرو ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل ، عن حذيفة بن اليمان ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم .
ورواه عن أبي سعيد ، عن إسماعيل بن جعفر ، وقال : أو ليبعثن الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم .
وقال أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال حدثنا رزين بن حبيب الجهني ، حدثني أبو الرقاد قال : خرجت مع مولاي ، فدفعت إلى حذيفة وهو يقول : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصير منافقا ، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ؛ لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتحاضن على الخير ، أو ليسحتنكم الله جميعا بعذاب ، أو ليؤمرن عليكم شراركم ، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد أيضا : حدثني يحيى بن سعيد ، عن زكريا ، حدثنا عامر ، قال : سمعت النعمان بن بشير - رضي الله عنه - يخطب يقول - وأومأ بإصبعيه إلى أذنيه - يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها - أو المدهن فيها - كمثل قوم ركبوا سفينة ، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها ، وأصاب بعضهم أعلاها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم ، فقالوا : لو خرقنا في نصيبنا خرقا ، فاستقينا منه ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا .
انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، فرواه في " الشركة " و " الشهادات " ، والترمذي في الفتن من غير وجه ، عن سليمان بن مهران الأعمش ، عن عامر بن شراحيل الشعبي ، به .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن ليث ، عن علقمة بن مرثد ، عن المعرور بن سويد ، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا ظهرت المعاصي في أمتي ، عمهم الله بعذاب من عنده . فقلت : يا رسول الله ، أما فيهم أناس صالحون ؟ قال : بلى ، قالت : فكيف يصنع أولئك ؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج بن محمد ، أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من قوم يعملون بالمعاصي ، وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيرون ، إلا عمهم الله بعقاب - أو : أصابهم العقاب .
ورواه أبو داود ، عن مسدد ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، به .
وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث ، عن عبيد الله بن جرير ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، هم أعز وأكثر ممن يعمله ، لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب .
ثم رواه أيضا عن وكيع ، عن إسرائيل - وعن عبد الرزاق ، عن معمر - وعن أسود ، عن شريك ويونس - كلهم عن أبي إسحاق السبيعي ، به .
وأخرجه ابن ماجه ، عن علي بن محمد ، عن وكيع ، به .
[ حديث آخر ] وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا جامع بن أبي راشد ، عن منذر ، عن حسن بن محمد ، عن امرأته ، عن عائشة تبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا ظهر السوء في الأرض ، أنزل الله بأهل الأرض بأسه . قالت : وفيهم أهل طاعة الله ؟ قال : نعم ، ثم يصيرون إلى رحمة الله .
القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: " اتقوا "، أيها المؤمنون= " فتنة ", يقول: اختبارًا من الله يختبركم, وبلاء يبتليكم (64) = " لا تصيبن "، هذه الفتنة التي حذرتكموها (65) " الذين ظلموا ", وهم الذين فعلوا ما ليس لهم فعله, إما أجْرام أصابوها، وذنوب بينهم وبين الله ركبوها. يحذرهم جل ثناؤه أن يركبوا له معصية، أو يأتوا مأثمًا يستحقون بذلك منه عقوبة. (66)
* * *
وقيل: إن هذه الآية نـزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين عُنوا بها.
* ذكر من قال ذلك:
15903- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا داود بن أبي هند, عن الحسن في قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال: نـزلت في علي، وعثمان، وطلحة، والزبير, رحمة الله عليهم.
15904- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال قتادة: قال الزبير بن العوام: لقد نـزلت وما نرى أحدًا منا يقع بها. ثم خُلِّفْنا في إصابتنا خاصة. (67)
15905 - حدثني المثنى قال، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة قال، حدثنا حماد, عن حميد, عن الحسن: أن الزبير بن العوام قال: نـزلت هذه الآية: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، وما نظننا أهلها, ونحن عُنِينا بها. (68)
15906 - . . . . قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن الصلت بن دينار, عن ابن صبهان قال: سمعت الزبير بن العوام يقول: قرأت هذه الآية زمانًا، وما أرانا من أهلها, فإذا نحن المعنيون بها: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب). (69)
15907- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال: هذه نـزلت في أهل بدر خاصة, وأصابتهم يوم الجمل، فاقتتلوا.
15908- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي خالد, عن السدي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)، قال: أصحاب الجمل.
15909- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمَّهم الله بالعذاب.
15910- . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال: هى أيضًا لكم.
15911- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال: " الفتنة "، الضلالة.
15912- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن المسعودي, عن القاسم قال: قال عبد الله: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة, إن الله يقول: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة الأنفال: 28]، فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. (70)
15913- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة, عن الحسن قال: قال الزبير: لقد خُوِّفنا بها= يعني قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) .
* * *
واختلف أهل العربية في تأويل ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: (اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا)، قوله: " لا تصيبن ", ليس بجواب, ولكنه نهي بعد أمر, ولو كان جوابًا ما دخلت " النون ".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا)، أمرهم ثم نهاهم. وفيه طرَفٌ من الجزاء، (71) وإن كان نهيًا. قال: ومثله قوله: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ ، [سورة النمل: 18]، أمرهم ثم نهاهم, وفيه تأويل الجزاء. (72)
وكأن معنى الكلام عنده: اتقوا فتنة، إن لم تتقوها أصابتكم.
* * *
وأما قوله: (واعلموا أن الله شديد العقاب)، فإنه تحذير من الله، ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره إياها بقوله: (واتقوا فتنة) , يقول: اعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم شديد عقابه لمن افتُتن بظلم نفسه، وخالف أمره, فأثم به. (73)
------------------------
الهوامش:
(64) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : 151 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(65) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف 2 : 96 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(66) انظر تفسير " الخصوص " فيما سلف 2 : 471 6 : 517 .
(67) في المطبوعة : " ثم خصتنا في إصابتنا خاصة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو فيها غير منقوط ، وظننت أن صواب نقطها ما أثبت . يعني : أنهم بقوا بعد الذين مضوا ، فإذا هي في إصابتهم خاصة .
(68) الأثر : 15905 - " زيد بن عوف القطعي " ، " أبو ربيعة " . ولقبه " فهد " ، متكلم فيه ، ضعيف ، مضى برقم : 5623 ، 14215 ، 14218 .
(69) الأثر : 15906 - " الصلت بن دينار الأزدي " " أبو شعيب " ، " المجنون " . متروك لا يحتج بحديثه . مترجم في التهذيب . والكبير 2 / 2 / 305 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 437 . وميزان الاعتدال 1: 468 .
وابن صهبان" هو "عقبة بن صهبان الحداني الأزدي " تابعي ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 113/ 312 ، ولم أجدهم ذكروا له رواية عن الزبير بن العوام ، ولكنه روى عن عثمان ، وعياض بن حمار ، وعبد الله بن مغفل ، وأبي بكرة الثقفي وعائشة .
(70) الأثر : 15912 - انظر الأثر التالي رقم : 15934 ، ونصه : " فمن استعاذ منكم ، فليستعذ ... " ، وكأنه الصواب .
(71) في المطبوعة : " ومنكم ظرف من الجزاء " ، فجاء الناشر بكلام غث لا معنى له وفي المخطوطة : " ومنه طرف " ، وصواب قراءته ما أثبت ، مطابقًا لما في معاني القرآن للفراء .
(72) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 407 .
(73) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة ( شدد ) ، ( عقب ) .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 196 | ﴿وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ |
---|
الأنفال: 25 | ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لا تصيبن:
وقرئ:
لتصيبن، وهى قراءة ابن مسعود، وعلى، وزيد بن ثابت، والباقر، والربيع بن أنس، وأبى العالية.