ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
ثُمَّ أعقبها بـ: قصَّةِ إبراهيمَ عليه السلام معَ الطَّيرِ، وبعد ذكرِ قدرتِه تعالى على إحياءِ المَوتى الدَّالةِ على البعثِ ذَكَرَ ما ينفعُ يومَ البعثِ، ومنه الإنفاقُ في سبيلِ اللهِ، وبَيَّنَ ثوابَه.
لمَّا دعا إلى الإنفاقِ حَثَّ هنا على ردِّ السائل- إن لم يعطْه شيئًا- بكلامٍ طيبٍ أو عِدَةٍ حَسَنَةٍ، والعفو عمّا بدرَ منه من أذىً، ثُمَّ بَيَّنَ ما يُبطلُ الصدقةَ من: المَنِّ، والأذى، والرياءِ، للتحذيرِ منها.
التفسير :
وهذا فيه أيضا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين، فلهذا قال الله له:{ أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان، فقال له ربه{ فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك} أي:ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك.{ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا} أي:مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي:من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء{ ثم ادعهن يأتينك سعيا} أي:تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد وهذا من ملكوت السماوات والأرض الذي أراه الله إياه في قوله{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} ثم قال:{ واعلم أن الله عزيز حكيم} أي:ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات، فلم يستعص عليه شيء منها، بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلاله، ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته، لا يفعل شيئا عبثا:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى أى: واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن قال إبراهيم- عليه السلام- مخاطبا خالقه- سبحانه-: رب أرنى بعيني كيف تعيد الحياة إلى الموتى.
وفي قوله: (رب) تصريح بكمال أدبه مع خالقه- عز وجل- فهو قبل أن يدعوه يستعطفه ويعترف له بالربوبية الحقة، والألوهية التامة، ويلتمس منه معرفة كيفية إحياء الموتى، فهو لا يشك في قدرة الله ولا في صحة البعث- وحاشاه أن يفعل ذلك- فهو رسول من أولى العزم من الرسل، وإنما هو يريد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، ومن مرتبة البرهان إلى مرتبة العيان، فإن العيان يغرس في القلب أسمى وأقوى ألوان المعرفة والاطمئنان.
وقد ذكر المفسرون لسؤال إبراهيم- عليه السلام- أسبابا منها: أنه لما قال للنمرود رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أحب أن يترقى بأن يرى ذلك مشاهدة. وقد أجاب الخالق- عز وجل- على طلب إبراهيم بقوله: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أى: أتقول ذلك وتطلبه ولم تؤمن بأنى قادر على الإحياء وعلى كل شيء؟
فالجملة الكريمة استئناف مبنى على السؤال، وهي معطوفة على مقدر، والاستفهام للتقرير.
وهنا يحكى القرآن جواب إبراهيم على خالقه- عز وجل- فيقول: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. أى قال إبراهيم في الرد على سؤال ربه له أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ بلى يا رب آمنت بك وبقدرتك وبوحدانيتك إيمانا صادقا كاملا، ولكني سألت هذا السؤال ليزداد قلبي سكونا واطمئنانا وإيمانا لأن من شأن المشاهدة أن تغرس في القلب سكونا واطمئنانا أشد، وإيمانا أقوى، وأنا في جميع أحوالى مؤمن كل الإيمان بقدرتك ووحدانيتك يا رب العالمين.
قال القرطبي ما ملخصه: لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا جاء في الحديث (ليس الخبر كالمعاينة) ، قال الأخفش: لم يرد إبراهيم رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. وقال الحسين:
سأل ليزداد يقينا إلى يقينه.
وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق بالشك منه، ونحن لا نشك فإبراهيم- عليه السلام- أحرى ألا يشك، فالحديث مبنى على نفى الشك عن إبراهيم.. وإذا تأملت سؤاله- عليه السلام- وسائر ألفاظه الآتية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، وكيف هنا إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء والإحياء متقرر، - فسؤال إبراهيم إنما هو عن الكيفية لا عن أصل القضية..» .
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قال له أَوَلَمْ تُؤْمِنْ وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟ قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. وبَلى إيجاب لما بعد النفي معناه: بلى آمنت. وقوله: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أى ليزداد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة- أى علم المشاهدة- إلى علم الاستدلال الذي يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله: لِيَطْمَئِنَّ قلت بمحذوف تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب».
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما كان من جواب الخالق- عز وجل- على نبيه إبراهيم فقال:
قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً.
قوله: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أى فاضممهن إليك- قرئ بضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء- يقال: صاره يصوره ويصيره، أى أماله وضمه إليه. ويقال- أيضا صار الشيء بمعنى قطعه وفصله والمعنى: قال الله- تعالى- لإبراهيم: إذا أردت معرفة ما سألت عنه فخذ أربعة من الطير فاضممهن إليك لتتأملهن وتعرف أشكالهن وهيئاتهن كيلا تلتبس عليك بعد الإحياء، ثم اذبحهن وجزئهن أجزاء ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أى ثم اجعل على كل مكان مرتفع من الأرض جزءا من كل طائر من تلك الطيور ثم نادهن يأتينك مسرعات إليك. والفاء في قوله فَخُذْ هي التي تسمى بالفاء الفصيحة لأنها تفصح عن شرط مقدر أى: إذا أردت ذلك فخذ..
وقوله: مِنَ الطَّيْرِ متعلق بمحذوف صفة لأربعة أى فخذ أربعة كائنة من الطير، أو متعلق بقوله فَخُذْ أى خذ من الطير. والطير اسم جمع- كركب وسفر- وقيل هو جمع طائر مثل تاجر وتجر. قالوا: وهذه الطيور الأربعة هي الطاوس والنسر والغراب والديك.
ومما قالوه في اختيار الطير لهذه الحالة: أن الطير من صفاته الطيران، وأنه لا يستأنس بالإنسان بل يطير بمجرد رؤيته، ولسهولة تأتى ما يفعل به من التجزئة والتفرقة.
وقوله: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً معطوف على محذوف دل عليه قوله:
جُزْءاً لأن تجزئتهن إنما تقع بعد الذبح والتقدير: فاذبحهن ثم اجعل.. إلخ. وقوله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ أى قل لهن تعالين بإذن الله.
وقوله يَأْتِينَكَ جواب الأمر فهو في محل جزم، سَعْياً منصوب على المصدر النوعي، لأن السعى نوع من الإتيان فكأنه قيل: يأتينك إتيانا سريعا:
قال الفخر الرازي: أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية: قطعهن، وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها ببعض- وفعل كما أمره الله، ثم قال لهن تعالين بإذن الله فأقبلن مسرعات إليه بعد أن انضم كل جزء إلى أصله- ثم قال: ولكن أبا مسلّم أنكر ذلك وقال: إن إبراهيم لما طلب إحياء الميت من الله- تعالى- أراه الله مثالا قرب به الأمر عليه، والمراد بصرهن إليك: الإمالة والتمرين على الإجابة. أى: فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك، فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته، ثم ادعهن يأتينك سعيا، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة..» .
والذي يطمئن إليه القلب هو رأى الجمهور لأن الآية مسوقة لتحقيق معجزة تجرى على يد إبراهيم وهي إحياء الموتى بالمشاهدة كما جرى إحياء الرجل الذي أماته الله مائة عام والذي جاء ذكره في الآية السابقة، ولأن ظاهر الآية صريح في أنه حصل تقطيع لأجزاء الطير ثم وضع كل جزء منها على مرتفع من الأرض، وما دام الأمر كذلك فلا يجوز حمل المعنى على غير هذا الظاهر، كما لا يجوز تحميل الألفاظ ما لا تحتمله. وما ذهب إليه أبو مسلّم هو قول بلا دليل فضلا عن مخالفته لما عليه إجماع المفسرين.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى واعلم أن الله- تعالى- غالب على أمره، قاهر فوق عباده، حكيم في كل شئونه وأفعاله وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا أبلغ الأدلة والشواهد على قدرة الله- تعالى- وعلى أنه هو المستحق للعبادة والخضوع، وعلى أن ما أخبر به من صحة البعث والنشور حق لا ريب فيه.
ثم حض الله- تعالى- عباده على الإنفاق في سبيله، ووعدهم على ذلك بجزيل الثواب، فقال- تعالى-:
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام ، أسبابا ، منها : أنه لما قال لنمروذ : ( ربي الذي يحيي ويميت ) أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين ، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال : ( رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )
فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة وسعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، إذ قال : رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال : أولم تؤمن . قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي " وكذا رواه مسلم ، عن حرملة بن يحيى ، عن ابن وهب به فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده ، بلا خلاف . وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة ، أحدها . . . .
وقوله : ( قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) اختلف المفسرون في هذه الأربعة : ما هي ؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها ، إذ لو كان في ذلك متهم لنص عليه القرآن ، فروي عن ابن عباس أنه قال : هي الغرنوق ، والطاوس ، والديك ، والحمامة . وعنه أيضا : أنه أخذ وزا ، ورألا وهو فرخ النعام وديكا ، وطاوسا . وقال مجاهد وعكرمة : كانت حمامة ، وديكا ، وطاوسا ، وغرابا .
وقوله : ( فصرهن إليك ) أي : قطعهن . قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبو مالك ، وأبو الأسود الدؤلي ، ووهب بن منبه ، والحسن ، والسدي ، وغيرهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( فصرهن إليك ) أوثقهن ، فلما أوثقهن ذبحهن ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ، ثم قطعهن ونتف ريشهن ، ومزقهن وخلط بعضهن في بعض ، ثم جزأهن أجزاء ، وجعل على كل جبل منهن جزءا ، قيل : أربعة أجبل . وقيل : سبعة . قال ابن عباس : وأخذ رؤوسهن بيده ، ثم أمره الله عز وجل ، أن يدعوهن ، فدعاهن كما أمره الله عز وجل ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش ، والدم إلى الدم ، واللحم إلى اللحم ، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض ، حتى قام كل طائر على حدته ، وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها ، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم ، عليه السلام ، فإذا قدم له غير رأسه يأباه ، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته ; ولهذا قال : ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) أي : عزيز لا يغلبه شيء ، ولا يمتنع منه شيء ، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء ، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن أيوب في قوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت زيد بن علي يحدث ، عن رجل ، عن سعيد بن المسيب قال : اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا . قال : ونحن شببة ، فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو : قول الله تعالى : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) الآية [ الزمر : 53 ] . فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول : إنها ، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم : ( رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني ابن أبي سلمة عن محمد بن المنكدر ، أنه قال : التقى عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص : أي آية في القرآن أرجى عندك ؟ فقال عبد الله بن عمرو : قول الله عز وجل : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا [ من رحمة الله ] ) الآية فقال ابن عباس : لكن أنا أقول : قول الله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ) فرضي من إبراهيم قوله : ( بلى ) قال : فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان .
وهكذا رواه الحاكم في المستدرك ، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم ، عن إبراهيم بن عبد الله السعدي ، عن بشر بن عمر الزهراني ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، بإسناده ، مثله . ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي
القول في تأويل قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني . وإنما صلح أن يعطف بقوله : . { وإذ قال إبراهيم } على قوله : { أو كالذي مر على قرية } وقوله : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } لأن قوله : { ألم تر } ليس معناه : ألم تر بعينيك , وإنما معناه : ألم تر بقلبك , فمعناه : ألم تعلم فتذكر , فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فيعطف عليه أحيانا بما يوافق لفظه من الكلام , وأحيانا بما يوافق معناه . واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموت ؟ فقال بعضهم : كانت مسألته ذلك ربه , أنه رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير , فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانا , فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا , فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به . ذكر من قال ذلك : 4661 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة قوله : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } ذكر لنا أن خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع , فقال : { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } . 4662 - حدثنا عن الحسن , قال : سمعت أبا معاذ , قال : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رب أرني كيف تحيي الموتى } قال : مر إبراهيم على دابة ميت قد بلي وتقسمته الرياح والسباع , فقام ينظر , فقال : سبحان الله , كيف يحيي الله هذا ؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك , فذلك قوله : { رب أرني كيف تحيي الموتى } . 4663 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , قال : قال ابن جريج : بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق , إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزعت لحمها وبقي عظامها . فلما ذهبت السباع , وطارت الطير على الجبال والآكام , فوقف وتعجب ثم قال : رب قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع والطير { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى } ولكن ليس الخبر كالمعاينة . 4664 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : مر إبراهيم بحوت نصفه في البر , ونصفه في البحر , فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله , وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله , فقال له الخبيث : يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فقال : يا رب أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي . وقال آخرون : بل كان سبب مسألته ربه ذلك , المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك . ذكر من قال ذلك : 4665 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني محمد بن إسحاق , قال : لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصه الله في سورة الأنبياء , قال نمرود فيما يذكرون لإبراهيم : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمرود : أنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قص الله من محاجته إياه . قال : فقال إبراهيم عند ذلك : { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } من غير شك في الله تعالى ذكره ولا في قدرته , ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه , فقال : ليطمئن قلبي , أي ما تاق إليه إذا هو علمه . وهذان القولان , أعني الأول وهذا الآخر , متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا . وقال آخرون : بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا , فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا , ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا . ذكر من قال ذلك : 4666 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك , فأذن له , فأتى إبراهيم وليس في البيت فدخل داره , وكان إبراهيم أغير الناس , إن خرج أغلق الباب ; فلما جاء وجد في داره رجلا , فثار إليه ليأخذه , قال : من أذن لك أن تدخل داري ؟ قال ملك الموت : أذن لي رب هذه الدار , قال إبراهيم : صدقت ! وعرف أنه ملك الموت , قال : من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلا . فحمد الله وقال : يا ملك الموت أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار . قال : يا إبراهيم لا تطيق ذلك . قال : بلى . قال : فأعرض ! فأعرض إبراهيم ثم نظر إليه , فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار , ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار . فغشي على إبراهيم , ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى , فقال : يا ملك الموت لو لم يلق الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه , فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين ! قال : فأعرض ! فأعرض إبراهيم ثم التفت , فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا , في ثياب بيض , فقال : يا ملك الموت لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه . فانطلق ملك الموت , وقام إبراهيم يدعو ربه يقول : { رب أرني كيف تحيي الموتى } حتى أعلم أني خليلك { قال أولم تؤمن } بأني خليلك , يقول تصدق , { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } بخلولتك . 4667 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , قال : ثنا عمرو بن ثابت , عن أبيه , عن سعيد بن جبير : { ولكن ليطمئن قلبي } قال : بالخلة . وقال آخرون : قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى . ذكر من قال ذلك : 4668 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن أيوب في قوله : { ولكن ليطمئن قلبي } قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها . 4669 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , قال : سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل , عن سعيد بن المسيب , قال : أتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا , قال : ونحن يومئذ شببة , فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } 39 53 حتى ختم الآية , فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول إنها , وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } . 4670 - حدثنا القاسم , قال : ثني الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : سألت عطاء بن أبي رباح , عن قوله : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس , فقال : { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى . .. قال فخذ أربعة من الطير } ليريه . 4671 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري , قالا : ثنا سعيد بن تليد , قال : ثنا عبد الرحمن بن القاسم , قال : ثني بكر بن مضر , عن عمرو بن الحارث , عن يونس بن يزيد , عن ابن شهاب , قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب , عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن أحق بالشك من إبراهيم , قال : رب أرني كيف تحيي الموتى , قال أولم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " . * - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فذكر نحوه . وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية , ما صح به الخبر عن رسول الله صلى أنه قال , وهو قوله : " نحن أحق بالشك من إبراهيم , قال رب أرني كيف تحيي الموتى , قال أولم تؤمن " وإن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه , كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفا من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء , ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عيانا , فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك , فقال له ربه : { أولم تؤمن } يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ؟ قال : بلى يا رب , لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي , فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت . 4672 - حدثني بذلك يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , عن ابن زيد . ومعنى قوله : { ليطمئن قلبي } ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه . وهذا التأويل الذي . قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجهوا معنى قوله : { ليطمئن قلبي } إلى أنه ليزداد إيمانا , أو إلى أنه ليوفق . ذكر من قال ذلك : ليوفق , أو ليزداد يقينا أو إيمانا : 4673 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو نعيم , عن سفيان , عن قيس بن مسلم , عن سعيد بن جبير : { ليطمئن قلبي } قال : ليوفق . 4674 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان . وحدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا سفيان , عن أبي الهيثم , عن سعيد بن جبير : { ليطمئن قلبي } قال : ليزداد يقيني . 4675 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا أبو زهير , عن جويبر , عن الضحاك : { ولكن ليطمئن قلبي } يقول : ليزداد يقينا . 4676 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { ولكن ليطمئن قلبي } قال : وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينا إلى يقينه . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : قال معمر وقال قتادة : ليزداد يقينا . 4677 - حدثنا عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { ولكن ليطمئن قلبي } قال : أراد إبراهيم أن يزداد يقينا . * - حدثني المثنى , قال : ثنا محمد بن كثير البصري , قال : ثنا إسرائيل , قال : ثنا أبو الهيثم , عن سعيد بن جبير : { ليطمئن قلبي } قال : ليزداد يقيني . * - حدثني المثنى , قال : ثنا الفضل بن دكين , قال : ثنا سفيان , عن أبي الهيثم , عن سعيد بن جبير : { ولكن ليطمئن قلبي } قال : ليزداد يقينا . 4678 - حدثنا صالح بن مسمار , قال : ثنا زيد بن الحباب , قال : ثنا خلف بن خليفة , قال : ثنا ليث بن أبي سليم , عن مجاهد وإبراهيم في قوله : { ليطمئن قلبي } قال : لأزداد إيمانا مع إيماني . * - حدثنا صالح , قال : ثنا زيد , قال : أخبرنا زياد , عن عبد الله العامري , قال : ثنا ليث , عن أبي الهيثم , عن سعيد بن جبير في قول الله : { ليطمئن قلبي } قال : لأزداد إيمانا مع إيماني . وقد ذكرنا فيما مضى قول من قال : معنى قوله : { ليطمئن قلبي } بأني خليلك . وقال آخرون : معنى قوله : { ليطمئن قلبي } لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك . ذكر من قال ذلك : 4679 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس قوله : { ليطمئن قلبي } قال : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك , وتعطيني إذا سألتك . وأما تأويل قوله : { قال أولم تؤمن } فإنه : أولم تصدق ؟ كما : 4680 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , وحدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا سفيان , عن قيس بن مسلم , عن سعيد بن جبير قوله : { أولم تؤمن } قال : أولم توقن بأني خليلك ؟ 4681 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { أولم تؤمن } قال : أولم توقن.قال فخذ أربعة من الطير
القول في تأويل قوله تعالى : { قال فخذ أربعة من الطير } . يعني تعالى ذكره بذلك : قال الله له : فخذ أربعة من الطير . فذكر أن الأربعة من الطير : الديك , والطاووس , والغراب , والحمام . ذكر من قال ذلك : 4682 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني محمد بن إسحاق , عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسا , وديكا , وغرابا , وحماما . 4683 - حدثنا المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : الأربعة من الطير : الديك , والطاووس , والغراب , والحمام . 4684 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج : { قال فخذ أربعة من الطير } قال ابن جريج : زعموا أنه ديك , وغراب , وطاووس , وحمامة . 4685 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : { قال فخذ أربعة من الطير } قال : فأخذ طاووسا , وحماما , وغرابا , وديكا ; مخالفا أجناسها وألوانها .فصرهن إليك
القول في تأويل قوله تعالى : { فصرهن إليك } . اختلفت القراء في قراءة ذلك , فقرأته عامة قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة : { فصرهن إليك } بضم الصاد من قول قائل : صرت إلى هذا الأمر : إذا ملت إليه أصور صورا , ويقال : إني إليكم لأصور أي مشتاق مائل , ومنه قول الشاعر : الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى أحبابنا صور وهو جمع أصور وصوراء وصور , مثل أسود وسوداء . ومنه قول الطرماح : عفائف إلا ذاك أو أن يصورها هوى والهوى للعاشقين صروع يعني بقوله : " أو أن يصورها هوى " : يميلها . فمعنى قوله : { فصرهن إليك } اضممهن إليك ووجههن إليك ووجههن نحوك , كما يقال : صر وجهك إلي , أي أقبل به إلي . ومن وجه قوله : { فصرهن إليك } إلى هذا التأويل كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه , ويكون معناه حينئذ عنده , قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك , ثم قطعهن , ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا . وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم الصاد : قطعهن , كما قال توبة بن الحمير : فلما جذبت الحبل أطت نسوعه بأطراف عيدان شديد أسورها فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كان ارتقائي يصورها يعني يقطعها . وإذا كان ذلك تأويل قوله : فصرهن , ويكون إليك من صلة " خذ " . وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : " فصرهن إليك " بالكسر , بمعنى قطعهن . وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون فصرهن ولا فصرهن , بمعنى قطعهن في كلام العرب , وأنهم لا يعرفون كسر الصاد منها لغة في هذيل وسليم ; وأنشدوا لبعض بني سليم : وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليت قنوان الكروم الدوالح يعني بقوله يصير : يميل , وأن أهل هذه اللغة يقولون : صاروه وهو يصيره صيرا , وصر وجهك إلي : أي أمله , كما تقول : صره . وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله : { فصرهن } ولا لقراءة من قرأ : " فصرهن " بضم الصاد وكسرها وجها في التقطيع , إلا أن يكون " فصرهن إليك " في قراءة من قرأه بكسر الصاد من المقلوب , وذلك أن تكون لام فعله جعلت مكان عينه , وعينه مكان لامه , فيكون من صرى يصري صريا , فإن العرب تقول : بات يصري في حوضه : إذا استقى , ثم قطع واستقى , ومن ذلك قول الشاعر : صرت نطرة لو صادفت جوز دارع غدا والعواصي من دم الجوف تنعر صرت : قطعت نظرة . ومنه قول الآخر : يقولون إن الشام يقتل أهله فمن لي إذا لم آته بخلود تعرب آبائي فهلا صراهم من الموت أن لم يذهبوا وجدودي يعني قطعهم , ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل , وحولت عينها فجعلت لامها , فقيل صار يصير , كما قيل : عثي يعثى عثا , ثم حولت لامها , فجعلت عينها , فقيل عاث يعيث . فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا : { فصرهن إليك } سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معني به في هذا الموضع التقطيع , قالوا : وهما لغتان : إحداهما صار يصور , والأخرى صار يصير , واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل , وببيت المعلى بن جمال العبدي : وجاءت خلعة دهس صفايا يصور عنوقها أحوى زنيم بمعنى يفرق عنوقها ويقطعها , وببيت خنساء : لظلت الشم منها وهي تنصار يعني بالشم : الجبال أنها تتصدع وتتفرق . وببيت أبي ذؤيب : فانصرن من فزع وسد فروجه غبر ضوار وافيان وأجدع قالوا : فلقول القائل : صرت الشيء معنيان : أملته , وقطعته , وحكوا سماعا : صرنا به الحكم : فصلنا به الحكم . وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين من أن معنى الضم في الصاد من قوله : { فصرهن إليك } والكسر سواء بمعنى واحد , وأنهما لغتان معناهما في هذا الموضع فقطعهن , وأن معنى إليك تقديمها قبل فصرهن من أجل أنها صلة قوله : " فخذ " , أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويي الكوفيين الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت , لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله : { فصرهن } غير خارج من أحد معنيين : إما قطعهن , وإما اضممهن إليك , بالكسر قرئ ذلك أو بالضم . ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها , ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين أعني الكسر والضم , أوضح الدليل على صحة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول , وخطأ قول نحويي الكوفيين ; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله : { فصرهن } بمعنى فقطعهن , على أن أصل الكلام فاصرهن , ثم قلبت فقيل فصرهن بكسر الصاد لتحول ياء فاصرهن مكان رائه , وانتقال رائه مكان يائه , لكان لا شك مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم , قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده , وبينه إذا قرئ بضمها , إذ كان غير جائز لمن قلب فاصرهن إلى فصرهن أن يقرأه فصرهن بضم الصاد , وهم مع اختلاف قراءتهم ذلك قد تأولوه تأويلا واحدا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا . ففي ذلك أوضح الدليل على خطأ قول من قال : إن ذلك إذا قرئ بكسر الصاد بتأويل التقطيع مقلوب من صرى يصري إلى صار يصير , وجهل من زعم أن قول القائل صار يصور وصار يصير غير معروف في كلام العرب بمعنى قطع . ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره : { فصرهن } أنه بمعنى فقطعهن . 4686 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار , قال : ثنا محمد بن الصلت , قال : ثنا أبو كدينة , عن عطاء , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { فصرهن } قال : هي نبطية فشققهن . 4687 - حدثني محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن أبي جمرة , عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك } قال : إنما هو مثل . قال : قطعهن ثم اجعلهن في أرباع الدنيا , ربعا ههنا , وربعا ههنا , ثم ادعهن يأتينك سعيا . 4688 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { فصرهن } قال : قطعهن . 4689 - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا حصين , عن أبي مالك في قوله : { فصرهن إليك } يقول : قطعهن . * - حدثني المثنى , قال : ثنا عمرو بن عون , قال : أخبرنا هشيم , عن حصين , عن أبي مالك , مثله . 4690 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا يحيى بن يمان , عن أشعث , عن جعفر , عن سعيد : { فصرهن } قال : قال جناح ذه عند رأس ذه , ورأس ذه عند جناح ذه . 4691 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : حدثنا المعتمر بن سليمان , عن أبيه , قال : زعم أبو عمرو , عن عكرمة في قوله : { فصرهن إليك } قال : قال عكرمة بالنبطية : قطعهن . 4692 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا إسرائيل , عن يحيى , عن مجاهد : { فصرهن إليك } قال : قطعهن . 4693 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فصرهن إليك } انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا , ثم اخلط لحومهن بريشهن . * - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فصرهن إليك } قال : انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا . 4694 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فصرهن إليك } أمر نبي الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن , ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن . 4695 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { فصرهن إليك } قال : فمزقهن , قال : أمر أن يخلط الدماء بالدماء , والريش بالريش , ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا . 4696 - حدثنا عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ , قال : أخبرنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك : { فصرهن إليك } يقول : فشققهن وهو بالنبطية صرى , وهو التشقيق . 4697 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { فصرهن إليك } يقول قطعهن . 4698 - حدثنا عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { فصرهن إليك } يقول قطعهن إليك ومزقهن تمزيقا . 4699 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق : { فصرهن إليك } أي قطعهن , وهو الصور في كلام العرب . ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله : { فصرهن إليك } أنه بمعنى فقطعهن إليك , دلالة واضحة على صحة ما قلنا في ذلك , وفساد قول من خالفنا فيه . وإذ كان ذلك كذلك , فسواء قرأ القارئ ذلك بضم الصاد فصرهن إليك أو كسرها فصرهن إذ كانت اللغتان معروفتين بمعنى واحد , غير أن الأمر وإن كان كذلك , فإن أحبهما إلي أن أقرأ به " فصرهن إليك " بضم الصاد , لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما وأكثرهما في إحياء العرب . وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى أوثق . ذكر من قال ذلك : 4700 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { فصرهن إليك } صرهن : أوثقهن . 4701 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قلت لعطاء قوله : { فصرهن إليك } قال : اضممهن إليك . 4702 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : { فصرهن إليك } قال : اجمعهن .ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا
القول في تأويل قوله تعالى : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا } . اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } فقال بعضهم : يعني بذلك على كل ربع من أرباع الدنيا جزءا منهن . ذكر من قال ذلك : 4703 - حدثني المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن أبي جمرة , عن ابن عباس : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } قال : اجعلهن في أرباع الدنيا : ربعا ههنا , وربعا ههنا , وربعا ههنا , وربعا ههنا , ثم ادعهن يأتينك سعيا . * - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } قال : لما أوثقهن ذبحهن , ثم جعل على كل جبل منهن جزءا . 4704 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : قال : أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن , ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن , ثم يجزئهن على أربعة أجبل , فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن , وأمسك برءوسهن بيده , فجعل العظم يذهب إلى العظم , والريشة إلى الريشة , والبضعة إلى البضعة , وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم . ثم دعاهن فأتينه سعيا على أرجلهن , ويلقى كل طير برأسه . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم . يقول : كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة , كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها . 4705 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : ذبحهن , ثم قطعهن , ثم خلط بين لحومهن وريشهن , ثم قسمهن على أربعة أجزاء , فجعل على كل جبل منهن جزءا , فجعل العظم يذهب إلى العظم , والريشة إلى الريشة , والبضعة إلى البضعة , وذلك بعين خليل الله إبراهيم , ثم دعاهن فأتينه سعيا , يقول : شدا على أرجلهن . وهذا مثل أراه الله إبراهيم , يقول : كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة , كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها . 4706 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثنا ابن إسحاق , عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة , ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء , ثم عمد إلى أربعة أجبال , فجعل على كل جبل ربعا من كل طائر , فكان على كل جبل ربع من الطاووس , وربع من الديك , وربع من الغراب وربع من الحمام . ثم دعاهن فقال : تعالين بإذن الله كما كنتم ! فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن , فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه , ثم أقبلن إليه سعيا , كما قال الله . وقيل : يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد , ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها , وشامها ويمنها . فأراه الله إحياء الموتى بقدرته , حتى عرف ذلك بغير ما قال نمرود من الكذب والباطل . 4707 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } قال : فأخذ طاووسا , وحمامة , وغرابا , وديكا , ثم قال : فرقهن , اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه ! فقطعهن وفرقهن أرباعا على الجبال , ثم دعاهن فجئنه جميعا , فقال الله : كما ناديتهن فجئنك , فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا , فكذلك أجمع هؤلاء أيضا ; يعني الموتى . وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة , فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها . وقالوا : كانت سبعة أجبال . ذكر من قال ذلك : 4708 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : لما قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطير والسباع عنها حين دنا منها , وسأل ربه ما سأل , قال : فخذ أربعة من الطير - قال ابن جريج : فذبحها - ثم أخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن , ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا حيث رأيت الطير ذهبت والسباع ! قال : فجعلهن سبعة أجزاء , وأمسك رءوسهن عنده , ثم دعاهن بإذن الله , فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى , وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى , وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رءوس الجبال , حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في السماء , ثم أقبلن يسعين حتى وصلت رأسها . 4709 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك , ثم اجعل على سبعة أجبال , فاجعل على كل جبل منهن جزءا , ثم ادعهن يأتينك سعيا ! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير , فقطعهن أعضاء , لم يجعل عضوا من طير مع صاحبه , ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا , وصدر هذا مع جناح هذا , وقسمهن على سبعة أجبال , ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه , ثم أقبلن إليه جميعا . وقال آخرون : بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل . ذكر من قال ذلك : 4710 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } قال : ثم بددهن على كل جبل يأتينك سعيا , وكذلك يحيي الله الموتى . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل , ثم ادعهن يأتينك سعيا , كذلك يحيى الله الموتى ; هو مثل ضربه الله لإبراهيم . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج , قال : قال ابن جريج , قال مجاهد : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } ثم بددهن أجزاء على كل جبل , ثم ادعهن : تعالين بإذن الله ! فكذلك يحيي الله الموتى ; مثل ضربه الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم . 4711 - حدثني المثنى , قال : ثني إسحاق , قال : ثنا أبو زهير , عن جويبر , عن الضحاك , قال : أمره أن يخالف بين قوائمهن ورءوسهن وأجنحتهن , ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا . * - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ , قال : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن . وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد , وهو أن الله تعالى ذكره أمر إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها عليها أجزاء , لأن الله تعالى ذكره قال له : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } والكل حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه لفظه واحد ومعناه الجمع . فإذا كان ذلك كذلك فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة عليها خارجة من أحد معنيين : إما أن تكون بعضا أو جميعا ; فإن كانت بعضا فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيل إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه . أو يكون جميعا , فيكون أيضا كذلك . وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على كل جبل , وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن , وإما ما في الأرض من الجبال . فأما قول من قال : إن ذلك أربعة أجبل , وقول من قال : هن سبعة ; فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به . وإنما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهن متفرقات متبددات في أماكن مختلفة شتى , حتى يؤلف بعضهن إلى بعض , فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارا أحياء يطرن , فيطمئن قلب إبراهيم ويعلم أن كذلك يجمع الله أوصال الموتى لبعث القيامة وتأليفه أجزاءهم بعد البلى ورد كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الرد . والجزء من كل شيء هو البعض منه كان منقسما جميعه عليه على صحة أو غير منقسم , فهو بذلك من معناه مخالف معنى السهم ; لأن السهم من الشيء : هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة , ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءهم من المواريث السهام دون الأجزاء . وأما قوله : { ثم ادعهن } فإن معناه ما ذكرت آنفا عن مجاهد أنه قال : هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل تعالين بإذن الله . فإن قال قائل : أمر إبراهيم أن يدعوهن وهن ممزقات أجزاء على رءوس الجبال أمواتا , أم بعد ما أحيين ؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن ممزقات لا أرواح فيهن , فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال ؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين , فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن وقد أبصرهن ينشرن على رءوس الجبال ؟ قيل : إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيم صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرقات إنما هو أمر تكوين , كقول الله للذين مسخهم قردة بعد ما كانوا إنسا : { كونوا قردة خاسئين } 2 65 لا أمر عبادة , فيكون محالا إلا بعد وجود المأمور المتعبد .واعلم أن الله عزيز حكيم
القول في تأويل قوله تعالى : { واعلم أن الله عزيز حكيم } . يعني تعالى ذكره بذلك : واعلم يا إبراهيم أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن , وتفريقك أجزاءهن على الجبال , فجمعهن ورد إليهن الروح , حتى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقهن , { عزيز } في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة الذين خالفوا أمره , وعصوا رسله , وعبدوا غيره , وفي نقمته حتى ينتقم منهم , { حكي } في أمره . 4712 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثنا ابن إسحاق : { واعلم أن الله عزيز حكيم } قال : عزيز في بطشه , حكيم في أمره . 4713 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { واعلم أن الله عزيز } في نقمته { حكيم } في أمره .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 260 | ﴿ وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾ |
---|
البقرة: 126 | ﴿ وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ |
---|
الأنعام: 74 | ﴿ وَإِذْ قَالَ إبراهيم لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ |
---|
ابراهيم: 35 | ﴿ وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ |
---|
الزخرف: 26 | ﴿ وَإِذْ قَالَ إبراهيم لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
فصرهن:
قرئ:
1- بكسر الصاد، وهى قراءة حمزة، ويزيد، وخلف، ورويس.
2- بضمها، وهى قراءة باقى السبعة.
3- بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها، من: صره يصره، إذا جمعه، وهى قراءة ابن عباس.
جزءا:
قرئ:
2- جزءا، بإسكان الزاى وبالهمزة، وهى قراءة الجمهور.
2- جزاء، بضم الزاى وبالهمزة، وهى قراءة أبى بكر.
3- جزا، بحذف الهمزة وتشديد الزاى، وهى قراءة أبى جعفر، ووجهه أنه حين حذف ضعّف الزاى.
التفسير :
هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في قوله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وهنا قال:( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) أي:في طاعته ومرضاته، وأولاها إنفاقها في الجهاد في سبيله ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل، الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته، فيقوى شاهد الإيمان مع شاهد العيان، فتنقاد النفس مذعنة للإنفاق سامحة بها مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة، ( والله يضاعف ) هذه المضاعفة ( لمن يشاء ) أي:بحسب حال المنفق وإخلاصه وصدقه وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها، ويحتمل أن يكون ( والله يضاعف ) أكثر من هذه المضاعفة ( لمن يشاء ) فيعطيهم أجرهم بغير حساب ( والله واسع ) الفضل، واسع العطاء، لا ينقصه نائل ولا يحفيه سائل، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة، لأن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته، ومع هذا فهو ( عليم ) بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته.
ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلنا في صدقة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما حث الناس حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم فقال: يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» . وجاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال عبد الرحمن بن سمرة- راوي الحديث- فرأيته صلّى الله عليه وسلّم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: «ماضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان» . وقال أبو سعيد الخدري: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: «يا رب عثمان إنى رضيت عن عثمان فارض عنه» .
ونزول هاتين الآيتين في شأن صدقة هذين الصحابيين الجليلين لا يمنع من شمولهما لكل من نهج نهجهما، وبذل من ماله في سبيل الله.
و «المثل» ، الشبه والنظير. ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه لمورده الذي ورد فيه أولا. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية.
و «الحبة» كما يقول القرطبي- اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب.
وسنبلة- بوزن فنعلة- من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أى استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال. وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل .
والمعنى: مثل صدقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، أى: في طاعته، كمثل حبة ألقيت في أرض طيبة، أصابها الغيث، فخرجت الحبة على هيئة زرع قوى جميل فأنبتت في الوقت المناسب لإنباتها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
فأنت ترى أن الخالق- عز وجل- قد شبه حال الصدقة التي ببذلها المؤمن في سبيل الله فيكافئه الله- تعالى- عليها بالثواب العظيم، بحال الحبة التي تلقى في الأرض النقية فتخرج عودا مستويا قائما قد تشعب إلى سبع شعب، في كل شعبة سنبلة، وفي كل سنبلة مائة حبة. وفي هذا التشبيه ما فيه من الحض على الإنفاق في وجوه الخير، ومن الترغيب في فعل البر ولا سيما النفقة في الجهاد في سبيل الله.
قال ابن كثير: وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة. فإن هذا فيه اشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله- تعالى- لأصحابها كما ينمى الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة».
وقال- سبحانه-: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ فأسند الإنبات إلى الحبة، مع أن المنبت في الحقيقة هو الله، وذلك لأنها سبب لوجود تلك السنابل المليئة بالحبات، ولأنها هي الأصل لما تولد عنها.
ثم قال- تعالى-: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أى والله- تعالى- يضاعف الثواب والجزاء أضعافا كثيرة لمن يشاء من عباده، فيعطى بعضهم سبعمائة ضعف، ويعطى بعضهم أكثر من ذلك، لأن الصدقة يختلف ثوابها باختلاف حال المتصدق، فمتى خرجت منه بنية خالصة، وقلب سليم، ونفس صافية، ومن مال حلال، ووضعت في موضعها المناسب، متى كانت كذلك كان الجزاء عليها أوفر، والمضاعفة لها تزيد على سبعمائة ضعف. إذ عطاء الله لمن يشاء من عباده ليس له حدود، وثوابه ليس له حساب معدود.
ولذا ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أى والله- تعالى- عطاؤه واسع، وجوده عميم، وفضله كبير، وهو- تعالى- عليم بنيات عباده وبأقوالهم وبأفعالهم وبسائر شئونهم، فيجازى كل إنسان على حسب نيته وعمله.
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فقال : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) قال سعيد بن جبير : في طاعة الله . وقال مكحول : يعني به : الإنفاق في الجهاد ، من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك ، وقال شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الجهاد والحج ، يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ; ولهذا قال الله تعالى : ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة )
وهذا المثل أبلغ في النفوس ، من ذكر عدد السبعمائة ، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل ، لأصحابها ، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة ، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف ، قال الإمام أحمد :
حدثنا زياد بن الربيع أبو خداش ، حدثنا واصل مولى ابن عيينة ، عن بشار بن أبي سيف الجرمي ، عن عياض بن غطيف قال : دخلنا على أبي عبيدة [ بن الجراح ] نعوده من شكوى أصابه وامرأته تحيفة قاعدة عند رأسه قلنا : كيف بات أبو عبيدة ؟ قالت : والله لقد بات بأجر ، قال أبو عبيدة : ما بت بأجر ، وكان مقبلا بوجهه على الحائط ، فأقبل على القوم بوجهه ، وقال : ألا تسألوني عما قلت ؟ قالوا : ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، أو عاد مريضا أو ماز أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله عز وجل ، ببلاء في جسده فهو له حطة " .
وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به ، ومن وجه آخر موقوفا .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، سمعت أبا عمرو الشيباني ، عن ابن مسعود : أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة " .
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن مهران ، عن الأعمش ، به . ولفظ مسلم : جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله . فقال : " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة " .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عمرو بن مجمع أبو المنذر الكندي ، أخبرنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل ، جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به ، وللصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " .
حديث آخر : قال [ الإمام ] أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ابن آدم يضاعف ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما شاء الله ، يقول الله : إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشهوته من أجلي ، وللصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك . الصوم جنة ، الصوم جنة " . وكذا رواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي سعيد الأشج ، كلاهما عن وكيع ، به .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن الركين ، عن يسير بن عميلة عن خريم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف " .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، حدثنا ابن وهب ، عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب ، عن زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف " .
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن الخليل بن عبد الله ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أرسل بنفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ، ومن غزا في سبيل الله ، وأنفق في جهة ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم " . ثم تلا هذه الآية : ( والله يضاعف لمن يشاء ) وهذا حديث غريب .
وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة ، عند قوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) [ البقرة : 245 ] .
حديث آخر : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزاز ، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب ، أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي ، أخبرنا أبي ، عن عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما نزلت هذه الآية : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رب زد أمتي " قال : فأنزل الله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قال : " رب زد أمتي " قال : فأنزل الله : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [ الزمر : 10 ] .
وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن حاجب بن أركين ، عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقرئ ، عن أبي إسماعيل المؤدب ، عن عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فذكره .
وقوله هاهنا : ( والله يضاعف لمن يشاء ) أي : بحسب إخلاصه في عمله ( والله واسع عليم ) أي : فضله واسع كثير أكثر من خلقه ، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق .
القول في تأويل قوله : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
قال أبو جعفر: وهذه الآية مردودة إلى قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ البقرة: 245 ] والآياتُ التي بعدها إلى قوله: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله )، من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت, وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيم مع إبراهيم, وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها, وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل، مما قد ذكرناه قبل = (62) . اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترضَ به من قصصهم بين ذلك، احتجاجًا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة = وحضًّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ البقرة: 244 ]، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدَد عدوّهم, ويعدهم النصرة عليهم, ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم, وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرِّق جمعهم ومُوهِنُ كيدهم = وقطعًا منه ببعض عذرَ اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم, بما أطلع نبيَّه عليه من خفي أمورهم, &; 5-513 &; ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم, ليعلموا أن ما آتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله, وأنه ليس بتخرُّص ولا اختلاق, = وإعذارًا منه به إلى أهل النفاق منهم, ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يُحلَّ بهم من بأسه وسطوته, مثل الذي أحلَّهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها, فتركها خاوية على عروشها.
ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وما عنده له من الثواب على قَرْضه, فقال: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم =( كمثل حبة ) من حبات الحنطة أو الشعير, أو غير ذلك من نبات الأرض التي تُسَنْبل رَيْعَها سنبلة بذرها زارع (63) . =" فأنبتت ", يعني: فأخرجت =( سبع سنابلَ في كل سنبلة مائة حبة ), يقول: فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله, له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته. كما: -
6028 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) فهذا لمن أنفق في سبيل الله, فله أجره سبعمائة. (64) .
6029 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء )، قال: هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرُج.
&; 5-514 &;
6030 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) الآية، فكان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة, ورابط مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة, ولم يلق وجهًا إلا بإذنه, (65) . كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف, ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وهل رأيتَ سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتْك فضرب بها مثل المنفقَ في سبيل الله ماله؟ (66) .
قيل: إن يكن ذلك موجودًا فهو ذاك, (67) . وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة, إنْ جَعل الله ذلك فيها.
ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة; يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة = فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة، مضافًا إليها، &; 5-515 &; لأنه كان عنها. وقد تأوّل ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6031 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة )، قال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة, فهذا لمن أنفق في سبيل الله =: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
* * *
القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( والله يضاعف لمن يشاء ). فقال بعضهم: الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجرَ حسناته = بعد الذي أعطى غير منفق في سبيله، دون ما وعد المنفق في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله, فلا ينقصة عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. (68) .
* ذكر من قال ذلك:
6032 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله -يعني السبعمائة- &; 5-516 &; ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم )، يعني لغير المنفق في سبيله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده، فتركت ذكره.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله: ( والله يضاعف لمن يشاء ) والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف، لمن يشاء من المنفقين في سبيله. لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله، فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف، إلى أنه عِدَة منه على [ العمل في غير سبيله، أو ] على غير النفقة في سبيل الله. (69) .
* * *
القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ( والله واسع )، أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده = (70) .( عليم ) من يستحق منهم الزيادة، كما: -
6033 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) قال: ( واسع ) أن يزيد من سعته =( عليم )، عالم بمن يزيده.
* * *
&; 5-517 &;
وقال آخرون: معنى ذلك: ( والله واسع )، لتلك الأضعاف =( عليم ) بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله.
---------------
الهوامش :
(62) سياق الجملة : "والآيات التي بعدها... اعتراض من الله تعالى..." مبتدأ وخبره .
(63) في المطبوعة : "تسنبل سنبلة بذرها زارع" ، وضع"سنبلة" مكان"ريعها" ، ظنها محرفة .
وريع البذر : فضل ما يخرج من البزر على أصله . وهو من"الريع" بمعنى النماء والزيادة . والمعنى : تسنبل أضعافها زيادة وكثرة .
(64) في المطبوعة : "فله سبع مائة" بحذف"أجره" ، وفي
المخطوطة : "فله سبعمائة" بياض بين الكلمتين ، وأتممت العبارة من الدر المنثور 1 : 336 ، وفيه : "فله أجره سبعمائة مرة" .
(65) في المخطوطة : "لم يلف وجها" ، والذي في المطبوعة لا بأس به ، وإن كنت في شك منه .
وفي الدر المنثور 1 : 336"لم يذهب وجها" .
(66) في هامش المخطوطة تعليق على هذا السؤال ، وهو أول تعليق أجده على هذه النسخة بخط غير حط كاتبها ، وهو مغربي كما سيتبين مما كتب ، وبعض الحروف متآكل عند طرف الهامش ، فاجتهدت في قراءتها :
"أقول : بل ذلك ثابت محقّق مشاهدٌ في البلاد ، وأكثر منه . فإن سنبل تلك البلاد يكثر حبّه وفروعه إلى ما يقارب الفتر . ولقد عدت من فروع حبة واحدة ثلاثة وستين فرعًا ، وشاهدت من ذلك مرارًا . فقد أراني بعض أصحابي جملة من ذلك... ، كان أقل ما عددناه للحبة ثلاثة عشر سنبلة إلى ما يبلغ أو يزيد على ما ذكرت أولًا من العدد . كتبه محمد بن محمود الجزائري الحنفي"
ثم انظر ما قاله القرطبي وغيره في سائر كتب التفسير .
(67) في المخطوطة : "قيل قيل أن يكون ذلك موجود فهو ذاك" ، وهو خطأ ولا شك ، وما في المطبوعة جيد في السياق .
(68) كانت هذه الجملة كلها في المطبوعة : "والله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته ، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة . فأما المنفق في سبيله فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة" . وقد غيروا ما كان في المخطوطة لأنه فاسد بلا شك وهذا نصه : "والله يضاعف لمن يشاء أجر حسناته ، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة . فأما المنفق في سبيله عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة" . ولكنى استظهرت من سياق التفسير بعد ، أن الصواب غير ما في المطبوعة ، وأن في الكلام تصحيفًا وسقطًا ، أتممته بما يوافق المعنى الذي قاله هؤلاء ، كما يتبين من كلام أبي جعفر فيما بعد .
(69) زدت ما بين القوسين ، لأنه مما يقتضيه سياق الكلام والتركيب .
(70) انظر تفسير"واسع" و"عليم" فيما سلف 2 : 537 ، وانظر فهارس اللغة أيضًا .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 261 | ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ |
---|
البقرة: 262 | ﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ |
---|
البقرة: 265 | ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ |
---|
البقرة: 274 | ﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ |
---|
النساء: 38 | ﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
مائة حبة:
قرئ شاذا:
مائة حبة، بالنصب، على تقدير: أخرجت، أو أنبتت، أو على البدل من «سبع سنابل» .
التفسير :
أي:الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته، ولا أذية له قولية أو فعلية، فهؤلاء لهم أجرهم اللائق بهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لأنهم عملوا عملا خالصا لله سالما من المفسدات.
وقوله- تعالى-: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف جيء به لبيان كيفية الإنفاق الذي يحبه الله، ويجازى عليه المنفقين بالجزاء العظيم.
وقوله: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً تحذير للمتصدق من هاتين الصفتين الذميمتين لأنهما مبطلتان لثواب الصدقة.
والمن معناه: أن يتطاول المحسن بإحسانه على من أحسن إليه، ويتفاخر عليه بسبب ما أعطاه من عطايا. كأن يقول على سبيل التفاخر والتعبير: لقد أحسنت إليك وأنقذتك من الفقر وما يشبه ذلك.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: والمن في اللغة على وجوه: فقد يأتى بمعنى الإنعام. يقال:
قد من الله على فلان. إذا أنعم عليه بنعمه. وقد يأتى بمعنى النقص من الحق والبخس له. قال- تعالى-: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أى غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمى الموت منونا لأنه يقطع الأعمار، ومن هذا الباب المنة المذمومة لأنها تنقص النعمة وتكدرها، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة.
والمراد بالمن في الآية المذموم الذي هو بمعنى «إظهار الاصطناع إليهم» .
وقال صاحب الكشاف: المن: أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له، وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم.
وإن امرؤ أسدى إلى صنيعة وذكرنيها إنه للئيم وفي نوابغ الكلم: صنوان: من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضن» والمراد بالأذى في الآية: أن يقول المعطى لمن أعطاه قولا يؤذيه، أو يفعل معه فعلا يسيء به إليه، وهو أعم من المن، إذ المن نوع من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه.
وجاء العطف بثم في الجملة الكريمة، لإظهار التفاوت الشديد في الرتبة بين الإنفاق الذي يحبه الله، وبين الإنفاق الذي يصاحبه المن والأذى، وللإشعار بأن المن والأذى بغيضان عند الإنفاق وبعده، فعلى المنفق أن يستمر في أدبه وإخلاصه وقت الإنفاق وبعده حتى لا يذهب ثوابه، إذ المنّ والأذى مبطلان للثواب في أى وقت يحصلان فيه.
قال الشيخ ابن المنير مبينا أن ثُمَّ هنا تفيد استمرار الفعل بجانب إفادتها للتفاوت في الرتبة: وعندي فيها- أى في ثم- وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها. وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه. فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، ولكن معناها الأصلى تراخى زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعار إليه دوام وجود الفعل وتراخى زمن بقائه. وعليه حمل قوله-: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أى: داوموا على هذه الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد.. وكذلك قوله هنا «ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى» أى يدومون على تناسى الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان والأذى.. .
وكرر- سبحانه- النفي في قوله: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لتأكيده وشموله لأفراد كل واحد منهما، أى يجب ألا يقع منهم أى نوع من أنواع المن ولا أى نوع من أنواع الأذى. حتى لقد قال بعض الصالحين: «لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه بنفقة تبتغى بها وجه الله، فلا تسلّم عليه» .
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة المنفقين بلا من ولا أذى فقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أى: لهم جزاؤهم العظيم مكافأة لهم على أدبهم وإخلاصهم، عند مربيهم ومالك أمرهم، ولا خوف عليهم مما سيجدونه في مستقبلهم، ولا هم يحزنون على ماضيهم، وذلك لأن الله- تعالى- قد أحاطهم برعايته في دنياهم وأخراهم وعوضهم عما فارقوه خير عوض وأكرمه.
ثم كرر- سبحانه- التحذير من المن والأذى، مناديا المؤمنين بأن يجتنبوا في صدقاتهم هاتين الرذيلتين، مبينا أن الكلمة الطيبة للفقير خير من إعطائه مع إيذائه، استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعاني وغيرها بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول:
يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من أعطوه ، فلا يمنون على أحد ، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل .
وقوله : ( ولا أذى ) أي : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان . ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال : ( لهم أجرهم عند ربهم ) أي : ثوابهم على الله ، لا على أحد سواه ( ولا خوف عليهم ) أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة ( ولا هم يحزنون ) أي : [ على ] ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها ; لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك .
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: المعطيَ ماله المجاهدين في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم, وغير ذلك من مؤنهم, (71) . ثم لم يتْبع نفقته التي أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم، ولا أذى لهم. فامتنانه به عليهم، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم -بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم- معروفا, ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما " الأذى " فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد, وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفَق عليه.
وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله, وأوجبَ الأجر لمن كان غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله, لأن النفقة التي هي في سبيل الله: ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده. (72) . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا, فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه, لأنه لا يدَ له قِبَله ولا صَنيعة يستحق بها &; 5-518 &; عليه -إن لم يكافئه- عليها المنَّ والأذى, إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ مرضاته، وعلى الله مثوبته، دون من أنفق ذلك عليه.
* * *
وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6034 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم )، (73) . علم الله أن أناسًا يمنون بعطيَّتهم, فكره ذلك وقدَّم فيه فقال: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . (74) .
6035 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال للآخرين = يعني: قال الله للآخرين, وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم =: ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى )، قال: فشرَط عليهم. قال: والخارجُ لم يشرُط عليه قليلا ولا كثيرًا - يعني بالخارج، الخارجَ في الجهاد الذي ذكر الله في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ الآية = قال ابن زيد: وكان أبي يقول: إن آذاك من يعطي من هذا شيئًا أو يقوِّي فقويت في سبيل الله, (75) . فظننتَ أنه يثقل عليه سلامُك، فكفَّ سلامَك عنه. قال ابن زيد: فنهى عن خير الإسلام. (76) . قال: وقالت امرأة لأبي: يا أبا أسامة, تدلُّني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا, فإنهم لا يخرجون إلا &; 5-519 &; ليأكلوا الفواكه!! عندي جعبة وأسهُمٌ فيها. (77) . فقال لها: لا بارك الله لك في جعبتك, ولا في أسهمك, فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه!
6036 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: ( لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى ) قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله: ( لهم أجرهم عند ربهم )، فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بيَّنَ. و " الهاء والميم " في" لهم " عائدة على " الذين ".
* * *
ومعنى قوله: ( لهم أجرهم عند ربهم )، لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله, ثم لم يتبعوها منًّا ولا أذى. (78) .
* * *
وقوله: ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )، (79) . يقول: وهم = مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا =( لا خوف عليهم ) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا, ولا في أهوال القيامة, وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها من عقاب الله =( ولا هم يحزنون ) على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. (80) .
---------------
الهوامش :
(71) في المخطوطة والمطبوعة : "الذين يعينون المجاهدين" بالجمع/ وسياق الجمل بعده بالإفراد ، وهو غير جائز .
(72) في المطبوعة : "مما ابتغى به" ، والصواب ما في المخطوطة .
(73) أتم الآية في المطبوعة ، وأثبت ما في المخطوطة .
(74) في المخطوطة : "قول معروف ومعرفة" ، وهو دال على كثرة سهو الناسخ في هذا الموضع من المخطوطة كما أسلفت مرارًا .
(75) في المطبوعة : "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى فقويت في سبيل الله" وهو غير مفهوم ، وهو تصرف فيما كان في المخطوطة ، ونصه : "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى في سبيل الله" . واستظهرت صواب قراءتها كما أثبته ، وقد أشرت مرارًا لكثرة سهو الناسخ في هذا من كتابته . والذي أثبته أشبه بما دل عليه سائر قوله .
(76) في المطبوعة : "فهو خير من السلام" ، ولا معنى له وفي المخطوطة"فنهي خير من الإسلام" وهو أيضًا بلا معنى ، وأظن الصواب ما أثبت . وذلك أن زيد بن أسلم قال : "فكف عنه سلامك" فنهاه عن أن يلقي عليه السلام . فعلق ابنه ابن زيد على قول أبيه أنه : "نهى عن خير الإسلام" ، إشارة إلى ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص : "أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" فالسلام خير الإسلام ، وهو ما نهى عنه ابن زيد من أوذي .
(77) أخشى أن يكون الناسخ سها كما سها فيما سلف ، وأن يكون صوابها"وفيها أسهم" ، والذي هنا مقبول .
(78) انظر معنى"أجر" فيما سلف 2 : 148 ، 513 .
(79) انظر تفسير : "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما سلف 2 : 148 ، 513 .
(80) عند هذا الموضع انتهى المجلد الرابع من مخطوطتنا ، وفي آخره ما نصه :
"آخر المجلد الرابع من كتاب البيان يتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى ، القول في تأويل قوله : "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم"
وكان الفراغ منه في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا"
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 277 | ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 62 | ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 262 | ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ |
---|
البقرة: 274 | ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
{ قول معروف} أي:تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له{ ومغفرة} لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأن القول المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره، ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما كان المنّ بالصدقة مفسدا لها محرما، لأن المنّة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمنّ بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضا فإن المانّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم،{ والله غني} عنها، ومع هذا فهو{ حليم} على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه، فإذا علم تعالى أنه لا خير فيهم ولا تغني عنهم الآيات ولا تفيد بهم المثلات أنزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه.
والمعنى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ بأن تقول للسائل كلاما جميلا طيبا تجبر به خاطره، ويحفظ له كرامته «ومغفرة» لما وقع منه من إلحاف في السؤال، وستر لحاله وصفح عنه، خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً أى خير من صدقة يتبعها المتصدق أذى للمتصدق عليه.
لأن الكلمة الطيبة للسائل، والستر عليه، والعفو عنه فيما صدر منه، كل ذلك يؤدى إلى رفع الدرجات عند الله، وإلى تهذيب النفوس، وتأليف القلوب وحفظ كرامة أولئك الذين مدوا أيديهم بالسؤال. أما الصدقة التي يتبعها الأذى فإن إيتاءها بتلك الطريقة يؤدى إلى ذهاب ثوابها، وإلى زيادة الآلام عند السائلين ولا سيما الذين يحرصون على حفظ كرامتهم، وعلى صيانة ماء وجوههم، فإن ألم الحرمان عند بعض الناس أقل أثرا في نفوسهم من آلام الصدقة المصحوبة بالأذى، لأن ألم الحرمان يخففه الصبر الذي وراءه الفرج، أما آلام الصدقة المصحوبة بالأذى لهم فإنها تصيب النفوس الكريمة بالجراح التي من العسير التئامها وشفاؤها.
قال القرطبي: روى مسلّم في صحيحه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» . فعلى المسئول أن يتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع. وقد قال بعض الحكماء: الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره».
وقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لوصفها وللعطف عليها. وقوله:
وَمَغْفِرَةٌ عطف عليه وسوغ الابتداء بها العطف أو الصفة المقدرة إذ التقدير ومغفرة للسائل أو من الله وقوله: خَيْرٌ خبر عنهما وقوله يَتْبَعُها أَذىً في محل جر صفة لصدقة.
ثم ختم الله- تعالى- الآية بقوله: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ أى والله- تعالى- غنى عن إنفاق المنفقين وصدقات المتصدقين. وإنما أمرهم بهما لمصلحة تعود عليهم. أو غنى عن الصدقة المصحوبة بالأذى فلا يقبلها. حَلِيمٌ فلا يعجل بالعقوبة على مستحقها، فهو- سبحانه- يمهل ولا يهمل.
والجملة الكريمة تذييل لما قبله مشتملة على الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
ثم قال تعالى : ( قول معروف ) أي : من كلمة طيبة ودعاء لمسلم ( ومغفرة ) أي : غفر عن ظلم قولي أو فعلي ( خير من صدقة يتبعها أذى )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل قال : قرأت على معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف ، ألم تسمع قوله : ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ) " ) والله غني ) [ أي ] : عن خلقه .
( حليم ) أي : يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم .
وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ، ففي صحيح مسلم ، من حديث شعبة ، عن الأعمش عن سليمان بن مسهر ، عن خرشة بن الحر ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " .
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري ، أخبرنا هشيم بن خارجة ، أخبرنا سليمان بن عقبة ، عن يونس بن ميسرة ، عن أبي إدريس ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة عاق ، ولا منان ، ولا مدمن خمر ، ولا مكذب بقدر "
وروى أحمد وابن ماجه ، من حديث يونس بن ميسرة نحوه .
ثم روى ابن مردويه ، وابن حبان ، والحاكم في مستدركه ، والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى " .
وقد روى النسائي ، عن مالك بن سعد ، عن عمه روح بن عبادة ، عن عتاب بن بشير ، عن خصيف الجزري ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة مدمن خمر ، ولا عاق لوالديه ، ولا منان " .
وقد رواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن المنهال عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي ، عن عتاب ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس .
ورواه النسائي من حديث ، عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، قوله . وقد روي عن مجاهد ، عن أبي سعيد وعن مجاهد ، عن أبي هريرة ، نحوه .
القول في تأويل قوله : قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( قول معروف )، قولٌ جميل, ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم (81) .. =( ومغفرة )، يعني: وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته (82) . =( خير ) عند الله =( من صدقة ) يتصدقها عليه =( يتبعها أذى ), يعني يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها، كما: -
6037 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن &; 5-521 &; جويبر, عن الضحاك: ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ) يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله: ( غنيّ حليم ) فإنه يعني: " والله غني" عما يتصدقون به =( حليم )، حين لا يعجل بالعقوبة على من يَمنُّ بصدقته منكم, ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. (83) .
وروي عن ابن عباس في ذلك، ما: -
6038 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( الغني )، الذي كمل في غناه, و ( الحليم )، الذي قد كمل في حلمه.
-----------------
الهوامش :
(81) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3 : 371 ، 372 / ثم 4 : 547 ، 548 / 5 : 7 ، 44 ، 76 ، 93 ، 173 .
(82) انظر تفسير"المغفرة" 2 : 109 ، 110 ، وفهارس اللغة .
(83) انظر تفسير"حليم" فيما سلف 5 : 117 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 263 | ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّـهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ |
---|
النمل: 40 | ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى ففيه أن المن والأذى يبطل الصدقة، ويستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال تعالى:{ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات، وفي هذه الآية مع قوله تعالى{ ولا تبطلوا أعمالكم} حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى، وقوله:{ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} أي:أنتم وإن قصدتم بذلك وجه الله في ابتداء الأمر، فإن المنة والأذى مبطلان لأعمالكم، فتصير أعمالكم بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ولا يريد به الله والدار الآخرة، فهذا لا شك أن عمله من أصله مردود، لأن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا في الحقيقة عمل للناس لا لله، فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور، فمثله المطابق لحاله{ كمثل صفوان} وهو الحجر الأملس الشديد{ عليه تراب فأصابه وابل} أي:مطر غزير{ فتركه صلدا} أي:ليس عليه شيء من التراب، فكذلك حال هذا المرائي، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب، وأن قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه، بل الرياء الذي فيه والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله، فلهذا{ لا يقدرون على شيء} من أعمالهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم، لا يملك لهم ضررا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته، فصرف الله قلوبهم عن الهداية، فلهذا قال:{ والله لا يهدي القوم الكافرين}
وقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى نداء منه- سبحانه- للمؤمنين يكرر فيه نهيهم عن المن والأذى، لأنهما يؤديان إلى ذهاب الأجر من الله- تعالى- وإلى عدم الشكر من الناس ولذا جاء في الحديث الشريف: «إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر» .
ثم أكد- سبحانه- هذا النهى عن المن والأذى بذكر مثلين فقال في أولهما: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- لا تبطلوا صدقاتكم بأن تحبطوا أجرها، وتمحقوا ثمارها، بسبب المن والأذى، فيكون مثلكم في هذا الإبطال لصدقاتكم بسبب ما ارتكبتم من آثام، كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل أن يرى الناس منه ذلك ولا يبغى به رضاء الله ولا ثواب الآخرة، لأنه كفر بالله، وكفر بحساب الآخرة.
وفي هذا التشبيه تنفير شديد من المن والأذى لأنه- سبحانه- شبه حال المتصدق المتصف بهما في إبطال عمله بسببهما بحال هذا المنافق المرائى الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
وقوله: كَالَّذِي.. الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أى: لا تبطلوها إبطالا كابطال الذي ينفق ماله رئاء الناس ... أو في محل نصب على الحال من فاعل تُبْطِلُوا أى لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق ماله رئاء الناس.
وقوله: رِئاءَ منصوب على أنه مفعول لأجله أى: كالذي ينفق ماله من أجل رئاء الناس.
وأما المثال الثاني فقال- سبحانه-: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا.
الصفوان اسم جنس جمعى واحده صفوانة كشجر وشجرة وهو الحجر الكبير الأملس، مأخوذ من الصفاء وهو خلوص الشيء مما يشوبه. يقال: يوم صفوان أى صافى الشمس. وقيل هو مفرد كحجر. والوابل المطر الشديد. يقال: وبلت السماء تبل وبلا ووبولا. اشتد مطرها والصلد هو الشيء الأجرد النقي من التراب الذي كان عليه. ومنه رأس أصلد إذا كان لا ينبت شعرا، والأصلد الأجرد الذي لا ينبت شيئا مأخوذ من صلد يصلد صلدا فهو صلد.
والمعنى: يا أيها المؤمنون لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء لا من أجل رضا الله، وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياء وحبا للظهور كمثل حجر أملس لا ينبت شيئا ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب، فانكشف حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد لا يصلح لإنبات أى شيء عليه.
فالتشبيه في الجملة الكريمة بين الذي ينفق ماله رياء وبين الحجر الكبير الأملس الذي عليه قدر رقيق من التراب ستر حاله، ثم ينزل المطر فيزيل التراب وتنكشف حقيقته ويراه الرائي عاريا من أى شيء يستره. وكذلك المنافق المرائى في إنفاقه يتظاهر بمظهر السخاء أمام الناس ثم لا يلبث أن ينكشف أمره لأن ثوب الرياء يشف دائما عما تحته، وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه.
ومن المفسرين من يرى أن التشبيه في الجملة الكريمة بين المنفق الذي يبطل صدقته بالمن والأذى وبين الحجر الأملس، وأن الضمير في قوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ يعود إلى هذا المبطل لصدقته بالمن والأذى. فيكون المعنى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل الحجر الأملس الذي عليه تراب كان يرجى أن يكون منبتا للزرع فنزل المطر فأزال التراب فبطل إنتاجه، فالمن والأذى يبطلان الصدقات ويزيلان أثرها النافع، كما يزيل المطر التراب الذي يؤمل منه الإنبات من فوق الحجر الأملس.
والذي نراه أن عودة الضمير في قوله: فَمَثَلُهُ على الذي ينفق ماله رثاء الناس أظهر لأنه أقرب مذكور، ولأن التشبيه في قوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ قد جاء بلفظ المفرد وهو المناسب للذي ينفق ماله رثاء الناس لأنه مفرد مثله، بخلاف قوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فإن الضمير فيه بلفظ الجمع، فمن الأولى أن يعود الضمير في قوله: فَمَثَلُهُ إلى المرائى لتوافقهما في الأفراد.
ثم قال- تعالى-: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أى أن الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، والذين يتصدقون رياء ومفاخرة لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لأن ما صاحب أعمالهم من رياء ومن أذى محق بركتها، وأذهب ثمرتها، وأزال ثوابها.
أو المعنى: أن أولئك المنانين والمرائين ليس عندهم قدرة على شيء من المال الذي بين أيديهم وإنما هذا المال ملك لله وهو- سبحانه- الذي أنعم به عليهم، فعليهم أن يشكروه على هذه النعمة، وأن ينفقوه بدون من أو أذى أو مراءاة، حتى يظفروا بحسن المثوبة منه- سبحانه-.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أى لا يهديهم إلى ما ينفعهم لأنهم آثروا الكفر على الإيمان.
والجملة الكريمة تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفيها إشارة إلى أن الإنفاق المصحوب بالمن والأذى والرياء ليس من صفات المؤمنين وإنما هو من صفات الكافرين، فعلى المؤمنين أن يجتنبوا هذه الصفات التي لا تليق بهم.
والذي ينظر في هذه الآيات الكريمة يرى أن الله- تعالى- قد حذر المنفقين من المن والأذى في ثلاث آيات متواليات، كما حذرهم من الرياء، وساق أكثر من تشبيه لتقبيح الصدقات التي لا تكون خالصة لوجه الله فلماذا كل هذا التشديد في النهى؟
والجواب عن ذلك: أن المن والأذى في الإنفاق كثيرا ما يحصلان بسبب استعلاء كاذب، أو رغبة في إذلال المحتاج وإظهاره بمظهر الضعيف: وكلا الأمرين لا يليق بالنفس المؤمنة المخلصة، ولا يتلاقى مطلقا مع الحكم التي من أجلها شرعت الصدقات بل إنه ليتنافر معها تنافرا تاما لأن الصدقات شرعها الله لتهذيب النفوس وتطهير القلوب ولتربط بين الأغنياء والفقراء برباط المحبة والمودة والإخاء، فإذا ما صاحبها المن والأذى أثمرت نقيض ما شرعت له، لأنها تثير في نفس المعطى بسبب ذلك الكبر والخيلاء وغير ذلك من الصفات الذميمة، وتثير في نفس الآخذ شعورا بالحقد والانتقام ممن أعطاه ثم آذاه وبذلك تنقطع الروابط، ويتمزق المجتمع، وتتحول المحبة إلى عداوة.
ولقد تحدث الإمام الرازي عن الآثار السيئة للمن والأذى فقال ما ملخصه:
وإنما كان المن مذموما لوجوه:
الأول: أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة، فإذا أضاف المعطى إلى ذلك إظهار الإنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة، وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه.
والثاني: أن إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريق ذلك.
الثالث: أن المعطى يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله- تعالى- عليه- وأن يعتقد أن لله عليه نعما عظيمة حيث وفقه لهذا العمل ومتى كان الأمر كذلك امتنع عن أن يجعل ما ينفقه منة على الغير.
الرابع: أن المعطى في الحقيقة هو الله، ومتى اعتقد العبد ذلك استنار قلبه، أما إذا اعتقد غير ذلك فإنه يكون في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول، وعن الآثار إلى المؤثر ... وأما الأذى فيتناول كل ذلك وغيره مما يسيء إلى الفقير بأن يقول له: فرج الله عنى منك، وأنت أبدا تأتى إلى بما يؤلم. إلخ
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير عددا من الأحاديث الشريفة التي نهت عن المن والأذى ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلّم عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا منّان» .
وبعد أن بين القرآن سوء عاقبة الذين يراءون في صدقتهم، ويفسدون ثمارها بالمن والأذى، أتبع ذلك ببيان حسن عاقبة الذين ينفقون أموالهم ابتغاء رضا الله، فقال- تعالى:
ولهذا قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى ، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى .
ثم قال تعالى : ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) أي : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس ، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ، ليشكر بين الناس ، أو يقال : إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية ، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ; ولهذا قال : ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر )
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه قال الضحاك : والذي يتبع نفقته منا أو أذى فقال : ( فمثله كمثل صفوان ) وهو جمع صفوانة ، ومنهم من يقول : الصفوان يستعمل مفردا أيضا ، وهو الصفا ، وهو الصخر الأملس ( عليه تراب فأصابه وابل ) وهو المطر الشديد ( فتركه صلدا ) أي : فترك الوابل ذلك الصفوان صلدا ، أي : أملس يابسا ، أي : لا شيء عليه من ذلك التراب ، بل قد ذهب كله ، أي : وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ; ولهذا قال : ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ) .
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ( يا أيها الذين آمنوا )، صدّقوا الله ورسوله =( لا تبطلوا صدقاتكم ), يقول: لا تبطلوا أجورَ صدَقاتكم بالمنّ والأذى, كما أبطل كفر الذي ينفق ماله =( رئاء الناس ), وهو مراءاته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه، وهو غيرُ مريدٍ به الله ولا طالب منه الثواب، (84) . وإنما ينفقه كذلك ظاهرًا &; 5-522 &; ليحمده الناس عليه فيقولوا: " هو سخيّ كريم, وهو رجل صالحٌ" فيحسنوا عليه به الثناء، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق, فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر.
* * *
وأما قوله: ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر )، فإن معناه: ولا يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته, ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله, فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق; وإنما قلنا إنه منافق, لأن المظهرَ كفرَه والمعلنَ شركه، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيًا. لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله، وفي الباطن مريبة سريرةُ عامله، مرادٌه به حمد الناس عليه. (85) . والكافر لا يُخِيلُ على أحدٍ أمرُه أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان (86) - إذا كان معلنًا كفرَه - لا لله. ومن كان كذلك، فغير كائن مرائيًا بأعماله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6039 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال أبو هانئ الخولاني, عن عمرو بن حريث, قال: إن الرجل يغزو, لا يسرق ولا يزني ولا يَغُلّ, لا يرجع بالكفاف! فقيل له: لم ذاك؟ قال: إن الرجل ليخرج، (87) . فإذا أصابه من &; 5-523 &; بلاءِ الله الذي قد حكم عليه، سبَّ ولعَن إمامَه ولعَن ساعة غزا, وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا! فهذا عليه, وليس له = مثلُ النفقة في سبيل الله يتبعها منٌّ وأذى. فقد ضرب الله مثلها في القرآن: ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صَدقاتكم بالمنّ والأذى )، حتى ختم الآية. (88) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس, ولا يؤمن بالله واليوم الآخر = و " الهاء " في قوله: ( فمثله ) عائدة على " الذي" =( كمثل صفوان )، و " الصفوان " واحدٌ وجمعٌ, فمن جعله جمعًا فالواحدة " صفوانة "، (89) . بمنـزلة " تمرة وتمر " و " نخلة ونخل ". ومن جعله واحدًا، جمعه " صِفْوان، وصُفِيّ، وصِفِيّ", (90) . كما قال الشاعر: (91) .
* مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ * (92)
&; 5-524 &;
و " الصفوان " هو " الصفا ", وهي الحجارة الملس.
* * *
وقوله: ( عليه تراب )، يعني: على الصفوان ترابٌ =( فأصابه ) يعني: أصاب الصفوان =( وابل )، وهو المطر الشديد العظيم, كما قال امرؤ القيس:
سَـــاعَةً ثُــمَّ انْتَحَاهَــا وَابِــلٌ
سَـــاقِطُ الأكْنَــافِ وَاهٍ مُنْهَمِــرُ (93)
يقال منه: " وَبلت السماء فهي تَبِل وَبْلا ", وقد: " وُبلت الأرض فهي تُوبَل ".
* * *
وقوله: ( فتركه صلدًا ) يقول: فترك الوابلُ الصفوانَ صَلدًا.
و " الصلد " من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره, وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء, وكذلك من الرؤوس, (94) . كما قال رؤبة:
لَمَّـــا رَأَتْنِــي خَــلَقَ المُمَــوَّهِ
بَــرَّاقَ أَصْــلادِ الجَــبِينِ الأجْلَـهِ (95)
&; 5-525 &;
ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي: " قِدْرٌ صَلود "," وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا " , ومنه قول تأبط شرًّا:
وَلَسْـتُ بِجِـلْبٍ جِـلْبِ رَعْـدٍ وَقِـرَّةٍ
وَلا بِصَفًـا صَلْـدٍ عَـنِ الخَـيْرِ أعْزَلِ (96)
* * *
ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثلَ لأعمالهم, فقال: فكذلك أعمالهم بمنـزلة الصَّفوان الذي كان عليه تراب, (97) . فأصابه الوابلُ من المطر, فذهب بما عليه من التراب, فتركه نقيًّا لا تراب عليه ولا شيء = يراهُم المسلمون في الظاهر أنّ لهم أعمالا - كما يُرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به, فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله، اضمحلّ ذلك كله, لأنه لم يكن لله، &; 5-526 &; كما ذهب الوابل من المطر بما كانَ على الصفوان من التراب, فتركه أملسَ لا شيء عليه
= فذلك قوله: ( لا يقدرون ), يعني به: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس, ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر, يقول: لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا, لأنهم لم يعملوا لمعادهم، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة, ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلبَ حمدهم. وإنما حظهم من أعمالهم، ما أرادوه وطلبوه بها.
* * *
ثم أخبر تعالى ذكره أنه ( لا يهدي القوم الكافرين ), يقول: لا يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها, وهم للباطل عليها مؤثرون, ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون (98) .
فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفةُ أعمالهم, فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنِّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم, كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس, وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر، عند الله. (99) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6040 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى فقرأ حتى بلغ: (عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا)، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ, كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس &; 5-527 &; عليه شيء، أنقى ما كان عليه. (100) .
6041 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ إلى قوله: ( والله لا يهدي القوم الكافرين )، هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة, يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ, كما ترك هذا المطر الصفا نقيًّا لا شيء عليه.
6042 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى إلى قوله: ( على شيء مما كسبوا ) أما الصفوان الذي عليه تراب، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا. فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس، (101) . ذهب الرياءُ بنفقته, كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًّا, فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم. فقال للمؤمنين: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى فتبطل كما بطلت صَدقة الرياء.
6043 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: أن لا ينفق الرجل ماله, خير من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر, فضرب الله مثلهما جميعًا: ( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منًّا وأذى.
6044 - حدثني محمد بن سعد, قال: حدثنى أبي, قال: حدثني عمي, قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى إلى ( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء, وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب.
6045 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, قال: &; 5-528 &; قال ابن جريج في قوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى قال: يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها.
6046 - حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى ، فقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى حتى بلغ: ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئًا؟ فكذلك منُّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئًا. وقرأ قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى ، وقرأ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ، فقرأ حتى بلغ: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ . [البقرة: 270-272]. (102) .
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : صَفْوَانٍ
قد بينا معنى " الصفوان " بما فيه الكفاية, (103) . غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل.
6047 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( كمثل صفوان ) كمثل الصفاة.
6048 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( كمثل صفوان ) والصفوان: الصفا.
6049 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.
&; 5-529 &;
6050 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما( صفوان ), فهو الحجر الذي يسمى " الصَّفاة ".
6051 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, مثله.
6052 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( صفوان ) يعني الحجر.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : فَأَصَابَهُ وَابِلٌ
قد مضى البيان عنه. (104) . وهذا ذكر من قال قولنا فيه:
6053 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما وابل: فمطر شديد.
6054 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( فأصابه وابل ) والوابل: المطر الشديد.
6055 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, مثله.
6056 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : فَتَرَكَهُ صَلْدًا
* ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك:
6057 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن &; 5-530 &; السدي: ( فتركه صلدًا ) يقول نقيًّا.
6058 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي, قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فتركه صلدًا ) قال: تركها نقية ليس عليها شيء.
6059- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عباس قوله: ( فتركه صلدًا ) قال: ليس عليه شيء.
6060 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق, قال حدثنا، أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( صلدًا) فتركه جردًا.
6061 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: خبرنا معمر, عن قتادة: (، فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء.
6062 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء.
* * *
------------------------
الهوامش :
(84) في المخطوطة والمطبوعة : "وهو مريد به غير الله" ، وهو سهو من الناسخ ، والسياق يقتضي أن تقدم"غير" ، وهو نص المعنى .
(85) في المطبوعة : "وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه" ، وهو تصرف من الطابع ، وفي المخطوطة : "وفي الباطن مربيه عامله مراد به حمد الناس عليه" ، وهي غير مفهومة المعنى ، وبين أنه قد سقط منها"سريرة" من قوله"مربية سريرة عامله" ، وهو إشارة إلى ما مر في تفسيره قبل من قوله : "فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر" . فاستظهرت أن الصواب زيادة"سريرة" ، لتتفق مع معاني ما قال أبو جعفر رحمه الله .
(86) أخال عليه الأمر يخيل : أشكل عليه واستبهم . وسياق الجملة بعد ذلك : "إنما هي للشيطان لا لله" .
(87) في المطبوعة : "قال : فإن الرجل" ، وفي المخطوطة : "فإن إن الرجل" تصحيف والصواب ما أثبت .
(88) الأثر : 6039 -"أبو هانئ الخولاني" : هو : حميد بن هانئ المصري من ثفات التابعين ، روى عن عمرو بن حريث وغيره . وروى عنه الليث وابن لهيعة وابن وهب وغيرهم من أهل مصر مات سنة 142 . و"عمرو بن حريث" ، هو الذي يروي عنه أهل الشام ، وهو غير"عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي الكوفي . وانظر ترجمته في التهذيب 8 : 18 .
(89) في المطبوعة : "واحد وجمع ، فمن جعله جمعا" ، وأثبت ما في المخطوطة .
(90) انظر ما سلف في تفسير"الصفا" 3 : 224 ، 225 ، وقوله : جمعه صفوان" يعنى : بكسر الصاد وسكون الفاء ، وهو قول الكسائي ، وقد تعقبوه وخطئوه في شاذ مذهبه . انظر القرطبي 3 : 313 ، وتفسير أبي حيان 2 : 302 ، ومن أجل ذلك أسقطه أصحاب اللغة من كتبهم .
(91) هو الأخيل الطائي .
(92) سلف شرح هذا البيت وتخريجه 3 : 224 ، وسقط ذكر هذا الموضع في التخريج السالف فأثبته هناك .
(93) ديوانه : 90 ، وطبقات فحول الشعراء : 79 ، وغيرهما كثير . وهو من أبيات روائع ، في صفة المطر والسيل أولها :
دِيَمــةٌ هَطْــلاَءُ فِيهَــا وَطَــفٌ
طَبَــقَ الأَرْضِ تَحَــرَّي, وَتَــدِرّْ
ثم قال بعد قليل : "ساعة" أي فعلت ذلك ساعة ، "ثم انتحاها" أي قصدها ، والضمير فيه إلى"الشجراء" في بيت سباق . و"ساقط الأكناف" ، قد دنا من الأرض دنوًّا شديدًا ، كأن نواحيه تتهدم على الشجراء . "منهمر" : متتابع متدفق . واقرأ تمام ذلك في شرح الطبقات .
(94) هذا البيان عن معاني"صلد" ، لا تصيبه في كثير من كتب اللغة .
(95) ديوانه : 165 من قصيدة مضى الاستشهاد بأبيات منها في 1 : 123 ، 309 ، 310 /2 : 222 ، والضمير في"رأتني" إلى صحابته التي ذكرها في أول الشعر و"خلق" : بال . و"المموه" يقال : : وجه مموه" أي مزين بماء الشباب ، ترقرق شبابه وحسنه . وقوله"خلق المموه" ، بحذف"الوجه" الموصوف بذلك . يقول : قد بلي شبابي وأخلق . "أصلاد الجبين" ، يعني أن جبينه قد زال شعره ، فهو يبرق كأنه صفاة ملساء لا نبات عليها . و"الأجله" . الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي جبهته ومقدم جبينه ، وذلك كله بعد أن كان كما وصف نفسه :
* بَعْــدَ غُـدَانِيِّ الشَّـبَابِ الأَبْلَـهِ *
فاستنكرته صاحبته ، بعد ما كان بينه وبينها في شبابه ما كان ، وليت شعري ماذا كان يبغي رؤبة منها ، وقد صار إلى المصير الذي وصف نفسه! ! .
(96) اللسان (جلب) (عزل) ، وغيرهما . ولم أجد القصيدة ، ولكني وجدت منها أبياتًا متفرقة ورواية اللسان والمطبوعة وغيرهما :
وَلَسْـتُ بِجِـلْبٍ جِـلْبِ رِيـحٍ وَقِـرَّةٍ
وَلاَ بِصَفًـا صَلْـدٍ عَـنِ الخَـيْرِ مَعْزِلِ
ولكنه في المطبوعة واللسان أيضًا"جلب ليل" ، والظاهر أن المطبوعة نقلت البيت من اللسان (جلب) دون إشارة إلى ما كان في المخطوطة ، ولكنى أثبت رواية المخطوطة ، فإنها لا تغير وهي سليمة المعاني .
الجلب (بكسر الجيم أو ضمها وسكون اللام) : هو السحاب المعترض تراه كأنه جبل ، ويقال أيضًا : هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه . ورواية الطبري في المخطوطة تقتضي المعنى الأول : والقرة (بكسر القاف) والقر (بضمها) : البرد الشديد ، يقول : لست امرءًا خاليا من الخير ، بل مطيفًا بالأذى ، كهذا السحاب المخيل المتراكم ، مخيف برعده ، ويلذغ ببرده ، ولا غيث معه . أما رواية اللسان وغيره ، فشرحها على معنى السحاب الرقيق جيد . وقوله : "أعزل" من"عزل الشيء يعزله" إذا نحاه جانبًا وأبعده ، كما سموا الزمل المنقطع المنفرد المنعزل"أعزل" ، فهو من صميم مادة اللغة ، وإن لم يأتوا عليه في كتب اللغة بشاهد . وهذا شاهده بلا شك . أما قوله في الرواية الأخرى"معزل" فهو بمعنى ذلك أيضًا : معتزل عن الخير ، أو معزول عنه . وهو مصدر ميمي من ذلك ، جاء صفة ، كما قالوا : "رجل عدل" ، وكما قالوا"فلان شاهد مقنع" أي رضا يقنع به ، مصدر ميمي من"قنع" ، وهذا بيان لا تجده في كتب اللغة فقيده واحفظه .
(97) في المخطوطة : "عليه ثواب" ، وهو تصحيف غث ، ولكنه دليل على شدة إهمال الناسخ وعجلته .
(98) في المخطوطة : "ولكنه تركهم" ، والصواب ما في المخطوطة .
(99) في المخطوطة : "واليوم عند الله" سقط منه "الآخر" ، وهو دليل على ما أسلفت من عجلته .
(100) في المطبوعة : "أنقى ما كان" ، حذف"عليه" ، كأنه استنكرها ، وهي معرقة في الصواب .
أي : أنقى ما كان عليه من النقاء .
(101) في المطبوعة : "فكذا هذا الذي ينفق" ، لا أدرى لم غير ما في المخطوطة .
(102) ما في المخطوطة والمطبوعة : "وما أنفقتم من خير فلأنفسكم" ، وهو خطأ ظاهر ، والصواب أنه يعني آيات سورة البقرة التي بينتها كما أثبتها .
(103) انظر ما سلف قريبًا ص : 523 ، 524 والمراجع في التعليق عليه .
(104) انظر ما سلف قريبا ص : 524 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 264 | ﴿فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ |
---|
ابراهيم: 18 | ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ﴾ |
---|
البقرة: 264 | ﴿لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ |
---|
التوبة: 37 | ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّـهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ |
---|
المائدة: 67 | ﴿وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ |
---|
النحل: 107 | ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّـهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
رئاء:
وقرئ:
بإبدال الهمزة الأولى ياء، لكسر ما قبلها، وهى قراءة طلحة بن مصرف، عن عاصم.
صفوان:
وقرئ:
بفتح الفاء، وهى قراءة ابن المسيب، والزهري، وهو شاذ فى الأسماء، وبابه المصادر، كالغليان والصفات، نحو: رجل صيمان.