ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
ودعا للاعتبارِ بحالِ بني إسرائيلَ وقلةِ انتفاعِهم بالآياتِ الواضحاتِ على صدقِ الرسلِ، ثُمَّ ذَمَّ حبِّ الدنيا، وبَيَّنَ أن النَّاسَ كانُوا على التوحيدِ حتى أضلَّتهم الشياطينُ فأرسلَ اللهُ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ.
لمَّا بَيَّنَ أنَّه هداهم إلى الطريقِ المستقيمِ ذَكَّرَهم هنا بسُنَّةِ الابتلاءِ على هذا الطريقِ، ثُمَّ السؤال الثاني: وهو عن نفقةِ التَّطوعِ والجهةِ التي تُصرفُ إليها.
التفسير :
يقول تعالى:( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ) تدل على الحق, وعلى صدق الرسل, فتيقنوها وعرفوها, فلم يقوموا بشكر هذه النعمة, التي تقتضي القيام بها.
بل كفروا بها وبدلوا نعمة الله كفرا, فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم عقابه ويحرمهم من ثوابه، وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها, لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية, فلم يشكرها, ولم يقم بواجبها, اضمحلت عنه وذهبت, وتبدلت بالكفر والمعاصي, فصار الكفر بدل النعمة، وأما من شكر الله تعالى, وقام بحقها, فإنها تثبت وتستمر, ويزيده الله منها.
ثم بين- سبحانه- أن كفر الكافرين ليس سيبه نقصان الدليل على صحة إيمان المؤمنين،وإنما سببه الجحود والحسد وإيثار الهوى على الهدى، بدليل أن بنى إسرائيل قد آتاهم الله آيات بينات تهدى إلى الإيمان ومع ذلك كفروا بها. استمع إلى القرآن وهو يصور موقفهم بعد تهديده للكافرين في الآية السابقة فيقول: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ....
قال الفخر الرازي: اعلم أنه ليس المقصود: سل بنى إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بتلك الأحوال بإعلام الله- تعالى- إياه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله- تعالى-.
أى: سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله- تعالى-، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه. والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم ... » «1» .
وسَلْ فعل أمر من سأل وأصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين قبلها وصارت ساكنة فحذفت. ولما فتحت السين لم يكن هناك حاجة إلى همزة الوصل فحذفت أيضا.
وكَمْ إما خبرية والمسئول عنه محذوف، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع والتوبيخ. كأنه قيل «سل بنى إسرائيل» عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد آتيناهم آيات كثيرة بينة ومع ذلك أعرض كثير منهم عنها.
وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني لقوله «سل» وقيل: في موضع المصدر، أى: سلهم هذا السؤال. وقيل: في موضع الحال. أى: سلهم قائلا: كم آتيناهم.
والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار- بأنه قد خالف ما تقتضيه الآيات من الإيمان بالله- تعالى-.
فالمراد بهذا السؤال تقريعهم على جحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا معرفة إجابتهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد فيقول لمن حضره: سله كم أنعمت عليه؟
ومن الآيات البينات والمعجزات الواضحات التي أظهرها الله- تعالى- لبنى إسرائيل على أيدى أنبيائهم ليؤمنوا بهم: عصا موسى التي ألقاها فإذا هي حية تسعى والتي ألقاها فإذا هي تلقف ما صنعه السحرة، والتي ضرب بها البحر فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق، ومع ذلك فمنهم من قال لموسى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ومنهم من كفر وعبد العجل..ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة الجاحدين لآياته فقال: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
التبديل: جعل شيء بدلا عن آخر، ونعمة الله هنا تتناول آياته الدالة على صدق رسله، كما تتناول ما أسبغه الله على عباده من صحة ومال وعقل وغير ذلك من نعمه الظاهرة والباطنة.
أى: ومن يبدل نعم الله بعد ما وصلت إليه واتضحت له، بأن كفر بها مع أنها تدعو إلى الإيمان، وجحد فضلها مع أنها تستلزم منه الشكر لمسديها من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقابا شديدا.
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ زيادة توبيخ لهم، وأنهم مستحقون لأشد ألوان العذاب، لأنهم قد كفروا بآيات الله وجحدوا نعمه بعد معرفتها والوقوف على تفاصيلها. فهو كقوله- تعالى-: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فهو تبديل عن معرفة لا عن جهل أو خطأ.
وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تعليل للجواب أقيم مقامه.
أى: ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب فلا يفلت منه أحد. ويحتمل أن يكون هذه الجملة هي الجواب بتقدير الضمير أى شديد العقاب له.
والعقاب هو الجزاء عن جناية وجرم، وهو مأخوذ- كما يقول القرطبي- من العقب، كأن المعاقب يمشى بالمحازاة للجاني في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب- أى الموضع الذي يركب منه-، فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب وقد عاقبه بذنبه .
فالآية الكريمة وعيد شديد لكل من يبدل نعم الله، ويترك شكرها.
يقول تعالى مخبرا عن بني إسرائيل : كم قد شاهدوا مع موسى ( من آية بينة ) أي : حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به ، كيده وعصاه وفلقه البحر وضربه الحجر ، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر ، ومن إنزال المن والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار ، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه ، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها ، وبدلوا نعمة الله [ كفرا ] أي : استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها ، والإعراض عنها . ( ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ) كما قال إخبارا عن كفار قريش : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) [ إبراهيم : 28 ، 29 ] .
القول في تأويل قوله عز ذكره : سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سل يا محمد بني إسرائيل = الذين لا ينتظرون - بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة إليّ بالإقرار بنبوتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي- إلا إن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي، فأفصلُ القضاء بينك وبين من آمن بك وصدَّقك بما أنـزلت إليك من كتبي، وفرضت &; 4-271 &; عليك وعليهم من شرائع ديني، وبينهم = كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، على ما فرضتُ عليهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعتُ عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك، مؤيِّدةً لهم على صدقهم، بيِّنةً أنها من عندي، واضحةً أنها من أدلتي على صدق نُذُري ورُسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حُجَجي، وكذَّبوا رسلي، وغيَّروا نعمي قِبَلهم، وبدَّلوا عهدي ووصيتي إليهم.
* * *
وأما " الآية "، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية (1) وهي ها هنا. ما:-
4040 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة "، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر، وهم اليهود.
4041 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة "، يقول: آتاهم الله آيات بينات: عصا موسى ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوَّهم وهم ينظرون، وظلَّل عليهم الغمام، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إليهم، قال الله: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات، فأمره بالصبر على من كذَّبه، واستكبر على ربه، وأخبره أنّ ذلك فعل من قبْله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم، &; 4-272 &; مع مظاهرته عليهم الحجج، وأنّ من هو بين أظهُرهم من اليهودِ إنما هم من بقايا من جرت عادتهم [بذلك]، ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
قال أبو جعفر: يعني" بالنعم " جل ثناؤه: الإسلام وما فرض من شرائع دينه.
ويعني بقوله: " ومن يُبدّل نعمة الله " ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام، (3) من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة، والله شديدٌ عقابه، أليم عذابه.
* * *
فتأويل الآية إذًا يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصَدَّقوا بها، ادخلوا في الإسلام جميعًا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد، وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعِبَرِ، فلا تبدِّلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبي ورسولي، فإنه من يبدِّل ذلك منكم فيغيره فإنى له معاقب بالأليم من العقوبة.
وبمثل الذي قلنا في قوله: " ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته "، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
&; 4-273 &;
4042- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته "، قال: يكفر بها.
4043 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
4044 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " ومن يبدِّل نعمة الله "، قال: يقول: من يبدِّلها كفرًا.
4045 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع " ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته "، يقول: ومن يكفُر نعمتَه من بعد ما جاءته.
---------------------
الهوامش :
(1) انظر ما سلف معنى"الآية" 1 : 106/ ثم 2 : 397- 398 ، 553/ ثم 3 : 184 . ومعنى"بينة" في 2 : 318 ، 397/ ثم 3 : 249/ وهذا الجزء 4 : 259 ، 260 .
(2) ما بين القوسين زيادة ، أخشى أن تكون لازمة حتى يستقيم الكلام .
(3) انظر معنى"التبديل" فيما سلف 3 : 396 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 211 | ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَـ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ |
---|
الأنفال: 13 | ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَـ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ |
---|
الحشر: 4 | ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ۖ وَمَن يُشَاقِّ اللَّـهَ فَـ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ |
---|
المائدة: 2 | ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ |
---|
الحشر: 7 | ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
سل:
قرئ:
1- اسأل، وهى قراءة أبى عمرو.
2- أسل، بنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة، التي هى عين، ولم تحذف همزة الوصل، لأنه لم يعتد بحركة السين لعروضها، وهى قراءة قوم.
3- سل، وهى قراءة الجمهور.
يبدل:
وقرئ:
بالتخفيف.
التفسير :
يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله, ولم ينقادوا لشرعه, أنهم زينت لهم الحياة الدنيا، فزينت في أعينهم وقلوبهم, فرضوا بها, واطمأنوا بها وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها, فأقبلوا عليها, وأكبوا على تحصيلها, وعظموها, وعظموا من شاركهم في صنيعهم, واحتقروا المؤمنين, واستهزأوا بهم وقالوا:أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟
وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر, فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان, وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران، بل المؤمن في الدنيا, وإن ناله مكروه, فإنه يصبر ويحتسب, فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما لا يكون لغيره.
وإنما الشأن كل الشأن, والتفضيل الحقيقي, في الدار الباقية, فلهذا قال تعالى:( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فيكون المتقون في أعلى الدرجات, متمتعين بأنواع النعيم والسرور, والبهجة والحبور.
والكفار تحتهم في أسفل الدركات, معذبين بأنواع العذاب والإهانة, والشقاء السرمدي, الذي لا منتهى له، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين, ونعي على الكافرين. ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية, لا تحصل إلا بتقدير الله, ولن تنال إلا بمشيئة الله، قال تعالى:( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان, ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك, فلا يعطيها إلا من يحب.
وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت أولئك الأشقياء على البقاء في كفرهم وجحودهم فقال- تعالى-: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا ... الآية.
التزيين: جعل الشيء زينا أى، شديد الحسن. والحياة نائب فاعل، زين، ولم تلحق تاء التأنيث بالفعل لأن نائب الفاعل مجازى التأنيث ولوجود الفاصل بين الفعل ونائب الفاعل.
والمعنى، أن الحياة الدنيا قد زينت للكافرين فأحبوها وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم، أما الآخرة فلم يفكروا فيها، ولم يهيئوا أنفسهم للقائها.
قال القرطبي: والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها. وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها».
وقوله: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا معطوف على جملة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ...
أو خبر لمبتدأ محذوف أى وهم يسخرون وتكون الواو للحال.
ويسخرون: يضحكون ويهزئون. يقال. سخرت منه وسخرت به وضحكت منه وضحكت به.
أى أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الحياة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهد هم في متع الحياة، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضى من حياتهم في غير متعة فهو ضياع منها، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه في دنياهم، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذي هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا.
وجيء بقوله: زُيِّنَ ماضيا للدلالة على أنه قد وقع وفرغ منه. وجيء بقوله وَيَسْخَرُونَ مضارعا للدلالة على تجدد سخريتهم من المؤمنين وحدوثها بين وقت آخر. قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ..:
وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنها نزلت في المنافقين عبد الله بن أبى وحزبه، كانوا يتنعمون في الدنيا أو يسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين، ويقولون: أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه يغلب بهم. ومنها. أنها نزلت في أبى جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعمار وخباب وابن مسعود وغيرهم بسبب ما كانوا فيه من الفقر والصبر على البلاء. والحق أنه لا مانع من نزولها في شأن كل الكافرين الذين يسخرون من المؤمنين.
وقوله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ رد منه- سبحانه- على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين، والذين يرون أنفسهم أنهم في زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين في نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها.
أى، والذين اتقوا الله- تعالى- وصانوا أنفسهم عن كل سوء فوق أولئك الكافرين مكانة ومكانا يوم القيامة، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلى النار وبئس القرار.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قال «من الذين آمنوا» ثم قال: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا؟
قلت: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن التقى، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك .
وقيدت الفوقية بيوم القيامة للتنصيص على دوامها، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية، ولإدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم في الدنيا.
وقوله: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تذييل قصد به تشريف المؤمنين، وبيان عظم ثوابهم.
أى: والله يرزق من يشاء بغير حساب من المرزوق. أو بلا حصر وعد لما يعطيه. أو أنه لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها. فهو- سبحانه- الذي يعطى ويمنع، وليس عطاؤه في الدنيا دليل رضاه عن المعطى فقد يعطى الكافر وهو غير راض عنه، أما عطاؤه في الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه.
قال الأستاذ الإمام: إن الرزق بلا حساب ولا سعى في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد، فإنك ترى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، والمتقى يكون دائما أسعد حالا وأكثر احتمالا، ومحلا لعناية الله به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر لأنه يجد في التقوى مخرجا من كل ضيق ... وأما الأمم فأمرها على غير هذا، فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه..
وليس من سنة الله أن يرزق الأمة العزة والثروة وهي لا تعمل، وإنما يعطيها بعملها ويسلبها بزللها..» .
ثم بين- سبحانه- أحوال الناس، وأنهم في حاجة إلى الرسل ليبشروهم وينذروهم ويحكموا بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه فقال- تعالى-:
ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها واطمأنوا إليها ، وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يرضي الله عنهم ، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها ، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم ، وبذلوا ابتغاء وجه الله ; فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم ، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ، ومسيرهم ومأواهم ، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين ، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين ; ولهذا قال تعالى : ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) أي : يرزق من يشاء من خلقه ، ويعطيه عطاء كثيرا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة كما جاء في الحديث : " ابن آدم ، أنفق أنفق عليك " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا " . وقال تعالى : ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ) [ سبأ : 39 ] ، وفي الصحيح أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم ، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا . ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا . وفي الصحيح " يقول ابن آدم : مالي ، مالي ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، وما لبست فأبليت ، وما تصدقت فأمضيت ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " .
وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له " .
القول في تأويل قوله تعالى : زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: زيِّن للذين كفروا حبُّ الحياة الدنيا العاجلة اللذات، (4) فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد، والإقرار بما جئت به من عندي، تعظُّمًا منهم على من صدَّقك واتبعك، ويسخرون بمن تبعك من أهل، الإيمان، والتصديق بك، في تركهم المكاثرة، والمفاخرة بالدنيا وزينتها من الرياش والأموال، &; 4-274 &; بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها، والذين عملوا لي= وأقبلوا على طاعتي، ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها، اتباعًا لك، وطلبًا لما عندي، واتقاءً منهم بأداء فرائضي، وتجنُّب معاصيَّ = فوق الذين كفروا يوم القيامة، بإدخال المتقين الجنة، وإدخال الذين كفروا النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم.
* ذكر من قال ذلك:
4046 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: " زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا "، قال: الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها =" ويسخرون من الذين آمنوا "، في طلبهم الآخرة - قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال: قالوا: لو كان محمد نبيًا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا! والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود!
4047 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة "، قال: " فوقهم " في الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه، بغير محاسبة منه لهم على ما منّ به عليهم من كرامته.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما في قوله: " يرزق من يشاء بغير حساب " من المدح ؟ قيل: المعنى الذي فيه من المدح، الخيرُ عن أنه غير خائف نفادَ خزائنه، &; 4-275 &; فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قَدْر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره، لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يُجحف به، فربنا تبارك وتعالى غيرُ خائف نفادَ خزائنه، ولا انتقاصَ شيء من ملكه، بعطائه ما يعطي عبادَه، فيحتاج إلى حساب ما يعطي، وإحصاء ما يبقي. فذلك المعنى الذي في قوله: " والله يرزق من يشاء بغير حساب "
----------------
الهوامش :
(4) في المطبوعة : "العاجلة في الذنب" وهو كلام بلا معنى . وقد سمى الله الدنيا"العاجلة" لتعجيله الذين يحبونها ما يشاء من زينتها ولذتها ، وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } [سورة الإسراء : 18] .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 212 | ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ |
---|
النور: 38 | ﴿وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ |
---|
آل عمران: 37 | ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۖ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
زين:
قرئ:
1- زين، على بناء الفعل للمفعول، ولا يحتاج إلى إثبات علامة التأنيث، للمفصل ولكون المؤنث غير حقيقى التأنيث، وهى قراءة الجمهور.
2- زينت، بالتاء، وهى قراءة ابن أبى عبلة.
3- زين، على البناء للفاعل، الذي هو ضمير يعود على الله تعالى، إذ قبله «فإن الله شديد العقاب» ، وهى قراءة مجاهد، وحميد بن قيس، وأبى حيوة.
التفسير :
( أي:كان الناس ) [ أي:كانوا مجتمعين على الهدى، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام، فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق الآخر على الدين، وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلائق ويقيموا الحجة عليهم، وقيل بل كانوا] مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء, ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم ( مُبَشِّرِينَ ) من أطاع الله بثمرات الطاعات, من الرزق, والقوة في البدن والقلب, والحياة الطيبة, وأعلى ذلك, الفوز برضوان الله والجنة.
( وَمُنْذِرِينَ ) من عصى الله, بثمرات المعصية, من حرمان الرزق, والضعف, والإهانة, والحياة الضيقة, وأشد ذلك, سخط الله والنار.
( وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) وهو الإخبارات الصادقة, والأوامر العادلة، فكل ما اشتملت عليه الكتب, فهو حق, يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع, أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه, وسنة رسوله, فصل النزاع, لما أمر بالرد إليهما.
ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب, وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض, وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف.
فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه, وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات, والأدلة القاطعات, فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) من هذه الأمة ( لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب, وأخطأوا فيه الحق والصواب, هدى الله للحق فيه هذه الأمة ( بِإِذْنِهِ ) تعالى وتيسيره لهم ورحمته.
( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فعمَّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم, عدلا منه تعالى, وإقامة حجة على الخلق, لئلا يقولوا:مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ وهدى - بفضله ورحمته, وإعانته ولطفه - من شاء من عباده، فهذا فضله وإحسانه, وذاك عدله وحكمته.
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما بين في الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا، بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق ثم اختلفوا، وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا» .
والأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدى بعضهم ببعض مأخوذ من أم بمعنى قصد لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده في مختلف شؤونه.
وللعلماء أقوال في معنى قوله- تعالى- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
القول الأول الذي عليه جمهور المفسرين أن المعنى: كان الناس أمة واحدة متفقين على توحيد الله- تعالى- مقرين له بالعبودية مجتمعين على شريعة الحق ثم اختلفوا ما بين ضال ومهتد، فبعث الله إليهم النبيين ليبشروا من اهتدى منهم بجزيل الثواب، ولينذروا من ضل بسوء العذاب، وليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه بالحكم العادل، والقول الفاصل.
قال القفال: ويشهد لصحة هذا الرأى قوله- تعالى- فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ... فهذا يدل على أن الأنبياء- عليهم السلام- إنما بعثوا حين الاختلاف، ويتأكد هذا بقوله: «وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا» ويتأكد أيضا بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ...
و «كان» على هذا الرأى على بابها من المضي، وعدم استمرار الحكم، وعدم امتداده إلى المستقبل، لأن الناس كانوا مهتدين ثم زالت الهداية عنهم أو عن كثير منهم بسبب اختلافهم فأرسل الله- تعالى- رسله لهدايتهم.
القول الثاني يرى أصحابه أن المعنى: كان الناس أمة واحدة مجتمعين على الضلال والكفر فبعث الله النبيين لهدايتهم..
و «كان» على هذا الرأى- أيضا- على بابها من المضي والانقضاء، ولا تحتاج على هذا الرأى إلى تقدير كلام محذوف، وهو ثم اختلفوا فبعث.. إلخ.
ومن العلماء الذين رجحوا القول الأول الإمام ابن كثير فقد قال: عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.. وهكذا قال قتادة ومجاهد. وقال العوفى عن ابن عباس (كان الناس أمة واحدة) يقول كانوا كفارا (فبعث الله النبيين) والقول الأول عن ابن عباس وهو أصح سندا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا- عليه السلام- فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .
أما الرأى الثالث فقد قرره الإمام القرطبي بقوله: ويحتمل أن تكون «كان» للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم. فلا يختص «كان» على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً .
وهذا الرأى قد اختاروه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره للآية الكريمة ووافقه عليه بعض العلماء الذين كتبوا في تفسير هذه الآية. قال الأستاذ الإمام ما ملخصه.
«خلق الله الإنسان أمة واحدة أى مرتبطا بعضه ببعض في المعاش لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضا، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفير جميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته ... وهذا معنى قولهم: «الإنسان مدني بطبعه» يريدون بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفى للوصول إلى جميع حاجاته إلا بالاستعانة بغيره.. ولما كان الناس كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف بمقتضى فطرهم، وكان من رحمة الله أن يرسل إليهم مبشرين ومنذرين.
وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمة في الآية التي نفسرها يكون على هذا المعنى:
إن الله قضى أن يكور الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض ولا سبيل لعقولهم، وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضار عنهم، لتفاوت عقولهم، واختلاف فطرهم، وحرمانهم من الإلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه نحو صاحبه، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله- تعالى- القادر على إثابتهم وعقوبتهم ... » .
وقال فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ما ملخصه: وإن هذا الرأى الذي اختاره الأستاذ الإمام هو الذي نختاره، وعلى هذا التأويل لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير محذوف، لأن ذات حالهم من كونهم لا علم لهم بالشرائع ولا تهتدى عقولهم إلى الحقائق بنفسها توجب البعث، ولأن تلك الحال التي تكون على الفطرة وحدها توجب الاختلاف فتوجب بعث النبيين.. ثم إن نفس كل إنسان فيها نزوع إلى الاجتماع، وحيث كان الاجتماع فلا بد من نظام يربط، وشرع يحكم.
وعلى هذا التأويل أيضا تكون الفاء في قوله: فَبَعَثَ ... - وهي التي يقول عنها النحويون إنها للترتيب والتعقيب- في موضعها من غير حاجة إلى تقدير، لأن كون الناس أمة واحدة اقتضت الرسالة واقتضت الاختلاف.
و «كان» على هذا التأويل تدل على الاستمرار والثبوت، لأن الناس بمقتضى فطرهم دائما في حاجة إلى شرع السماء لا يهتدون إلا به.
ثم قال فضيلته: وقد يقول قائل: إن جعل «كان» للاستمرار يفيد أن وحدة الناس في الفطرة وتأديها إلى التناحر يقتضى بعث النبيين إلى يوم القيامة، وأنه لا بد من نبي لعصرنا، ونحن نسلّم بالاعتراض ولا ندفع إيراده ونقول: نعم إنه لا بد من قيام رسالة إلى يوم القيامة وهي رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم التي جاءت بكتاب تتجدد به الرسالة والبعث إلى أن تفنى الأرض ومن عليها وهذا الكتاب هو القرآن الكريم الذي لا تبلى جدته، والذي تكفل الله بحفظه، وبإعجازه إلى يوم القيامة، والذي من يقرؤه فكأنما يتلقاه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم» .
هذه هي أشهر الأقوال في معنى قوله- تعالى- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وهناك أقوال أخرى لم نذكرها لضعفها.
وقوله- تعالى-: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ معطوف على فَبَعَثَ، والمراد بالكتاب الجنس.
والمعنى: وأنزل- سبحانه- مع هؤلاء النبيين الذين بعثهم مبشرين ومنذرين كلامه الملتبس بالحق والجامع لما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، لكي يفصلوا بواسطته بين الناس فيما اختلفوا من شئون دينية ودنيوية.
وذكر- سبحانه- الكتاب بصيغة المفرد للإشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت إلا أنها في جوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله، وإذا كان هناك خلاف بينها ففي تفاصيل الأحكام وفروعها لا في جوهرها وأصولها، وقوله: بِالْحَقِّ متعلق بأنزل، أو حال من الكتاب أى ملتبسا شاهدا به.
والضمير في قوله: لِيَحْكُمَ.. يجوز أن يعود إلى الله- تعالى- أو إلى النبيين، أو إلى الكتاب. ورجح بعضهم عودته إلى الكتاب لأنه أقرب مذكور. والجملة تعليلية للإنزال المذكور.
وفي إسناد الحكم إلى الكتاب تنبيه للناس إلى أن من الواجب عليهم أن يرجعوا إليه عند كل اختلاف. لأن هذا هو المقصد الأساسى من إنزال الكتب السماوية.
وللأستاذ الإمام محمد عبده كلام نفيس في هذا المعنى فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه:
«الحكم مسند إلى الكتاب نفسه، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، وفيه نداء للحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه، وألا يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء.. ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص، لما كان لإنزال الكتب فائدة، ولما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة، بل كانت متحكمة فيها الأهواء، فنعود المصلحة مفسدة، وينقلب الدواء علة، ولهذا رد الله الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به.. ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله- تعالى-: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ وقوله- تعالى-: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ..
ثم بقول- رحمه الله- «يتخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثرا مما جاء به وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد، وذلك قطع الكلمة أو الأثر عن بقية ما جاء في الكتاب والآثار الأخر ولى اللسان أو تأويله بغير ما قصد منه وما هم المؤول أن يعمل بالكتاب وإنما كل ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته، أو عضد لسطوته، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت، واعوجت السبيل أم استقامت، ثم يأتى ضال آخر يريد أن ينال من هذا ما نال غيره، فيحرف ويؤول حتى يجد المخدوعين بقوله، ويتخذهم عونا على الخادع الأول، فيقع الاختلاف والاضطراب، وآلة المختلفين في ذلك هو الكتاب ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت إلى اختلاف الناس في الكتاب الذي أنزله لهدايتهم فقال وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.
والضمير في قوله: فِيهِ وفي قوله: أُوتُوهُ يعود إلى الكتاب، والمعنى عليه:
وما اختلف في شأن الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف، إلا الذين أوتوه، أى علموه ووقفوا على تفاصيله، ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته وإنما كان خلافهم من بعد ما ظهرت لهم الدلائل الواضحة الدالة على صدقه، وما حملهم على هذا الاختلاف إلا البغي والظلم والحسد الذي وقع بينهم.
والمراد بالذين اختلفوا فيه أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلافهم في الكتاب يشمل تصديقهم ببعضه وتكذيبهم بالبعض الآخر، كما يشمل اختلافهم في تفسيره وتأويله وتنفيذ أحكامه وعدم تنفيذها، وذهاب كل فريق منهم مذهبا يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في فروعه.
وعبر عن الإنزال بالإيتاء- كما يقول الآلوسى- للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق، فإن الإنزال لا يفيد ذلك، وقيل: عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم» .
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ متعلق باختلف، وفيه زيادة تشنيع عليهم لأنهم قد اختلفوا فيه بعد أن قامت أمامهم الحجج الناصعة الدالة على الحق.
وقوله: بَغْياً مفعول لأجله لاختلفوا وبَيْنَهُمْ متعلق بمحذوف صفة لقوله بَغْياً.
أى أن داعي الاختلاف هو البغي والحسد الذي وقع بينهم، فجعل كل فريق منهم يخطئ الآخر، ويجرح رأيه.
وفي هذا التعبير إشارة إلى أن البغي قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم، ويدور بينهم، ولا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، لأنهم أربابه الذين تمكنوا منه، وتمكن منهم بقوة ورسوخ.
وبعضهم جعل الضمير في قوله: فِيهِ يعود إلى الحق، والضمير في قوله: أُوتُوهُ يعود إلى الكتاب. أى: وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب.
ويرى بعض العلماء أن عودة الضمير في كليهما إلى الحق أو إلى الكتاب جائز، وأن المعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابسا للحق ومصاحبا له، فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق والجملة الكريمة تحذير شديد من الوقوع فيما وقع فيه غيرهم من اختلاف يؤدى إلى البغي والتنازع والإعراض عن الحق.
ثم بين- سبحانه- حال المؤمنين بعد بيانه لحال الغاوين فقال- تعالى فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.
أى: فهدى الله الذين آمنوا وصدقوا رسله إلى الحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة، وذلك الهدى بفضل توفيقه لهم وتيسيره لأمرهم.
والفاء في قوله: فَهَدَى فصيحة لأنها أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف.
والتقدير: إذا كان هذا شأن الضالين المختلفين في الحق، فقد هدى الله بفضله الذين آمنوا إلى الصواب.
وبين- سبحانه- أن الذين رزقهم الهداية هم الذين آمنوا، للإشعار بأن سبب هدايتهم للحق هو إيمانهم وتقواهم، واستجابتهم للداعي الذي دعاهم إلى الطريق المستقيم.
وأسند الهداية إليه- سبحانه- لأنه هو خالقها، ولأن قلوب العباد بيديه فهو يقلبها كيف يشاء، وهذا لا ينافي أن للعبد اختيارا وكسبا فهو إذا سار في طريق الحق رزقه الله النور المشرق الذي يهديه، وإن سار في طريق الضلالة واستحب العمى على الهدى سلب الله عنه توفيقه بسبب إيثاره الضلالة على الهداية.
وقوله- تعالى- في ختام هذه الآية: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تذييل قصد به بيان كمال سلطانه، وتمام قدرته.
أى: والله وحده هو الهادي من يشاء من عباده إلى طريق الحق الذي لا يضل سالكه، فليس لأحد سلطان بجوار سلطانه، ولو أراد أن يكون الناس جميعا مهديين لكانوا، ولكن حكمته اقتضت أن يختبرهم ليتميز الخبيث من الطيب، فيجازى كل فريق بما يستحقه.
قال ابن كثير: وفي صحيح البخاري ومسلّم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قام من الليل يصلى يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» .
وفي الدعاء المأثور: اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما .
وبذلك نرى أن الآية قد بينت أن الناس لا يستغنون عن الدين الذي شرعه الله لهم على لسان رسله- عليهم الصلاة والسلام-، وأن الأشرار من الناس هم الذين يحملهم البغي على الاختلاف في الحق بعد ظهوره لهم، أما الأخيار منهم فهم الذين اهتدوا بتوفيق الله وتيسيره إلى طريق الخير والصواب وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وبعد أن ذكر- سبحانه- حال الناس، واختلاف سفهائهم على أنبيائهم، واهتداء عقلائهم إلى الحق، عقب ذلك بدعوة المؤمنين إلى الاقتداء بمن سبقهم في الصبر والثبات. فقال- تعالى-:
ال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو داود ، أخبرنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق . فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله : " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث بندار عن محمد بن بشار . ثم قال : صحيح ولم يخرجاه .
وكذا روى أبو جعفر الرازي ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : أنه كان يقرؤها : " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( كان الناس أمة واحدة ) قال : كانوا على الهدى جميعا ، " فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين منذرين " فكان أول نبي بعث نوحا . وهكذا قال مجاهد ، كما قال ابن عباس أولا .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( كان الناس أمة واحدة ) يقول : كانوا كفارا ، ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين )
والقول الأول عن ابن عباس أصح سندا ومعنى ; لأن الناس كانوا على ملة آدم ، عليه السلام ، حتى عبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم نوحا ، عليه السلام ، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .
ولهذا قال : ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم )
أي : من بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض ، ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )
وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة في قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، نحن أول الناس دخولا الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا له فالناس لنا فيه تبع ، فغدا لليهود ، وبعد غد للنصارى " .
ثم رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .
وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه في قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) فاختلفوا في يوم الجمعة ، فاتخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد . فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة . واختلفوا في القبلة ; فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس ، فهدى الله أمة محمد للقبلة . واختلفوا في الصلاة ; فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض النهار ، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في إبراهيم ، عليه السلام ، فقالت اليهود : كان يهوديا ، وقالت النصارى : كان نصرانيا ، وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في عيسى ، عليه السلام ، فكذبت به اليهود ، وقالوا لأمه بهتانا عظيما ، وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله روحه ، وكلمته ، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .
وقال الربيع بن أنس في قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) أي : عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده ، وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف ، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهودا على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أن رسلهم قد بلغوهم ، وأنهم قد كذبوا رسلهم .
وفي قراءة أبي بن كعب : " وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ، وكان أبو العالية يقول : في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .
وقوله : ( بإذنه ) أي : بعلمه ، بما هداهم له . قاله ابن جرير : ( والله يهدي من يشاء ) أي : من خلقه ( إلى صراط مستقيم ) أي : وله الحكم والحجة البالغة . وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : " اللهم ، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . وفي الدعاء المأثور : اللهم ، أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا ووفقنا لاجتنابه ، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل ، واجعلنا للمتقين إماما .
القول في تأويل قوله تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى " الأمة ": في هذا الموضع، (5) وفي" الناس " الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة واحدة.
فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
4048 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله " كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا ". (6)
&; 4-276 &;
4049 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " كان الناس أمة واحدة "، قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل " الأمة " على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس " الدين "، كما قال النابغة الذبياني:
حَــلَفْتُ فَلَـمْ أَتْـرُكْ لِنَفْسِـكَ رِيبَـةً
وَهَـلْ يَـأثَمَنْ ذُو أُمَّـةٍ وَهْـوَ طَائِعُ? (7)
يعني ذا الدين.
* * *
فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمَّة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
وأصل " الأمة "، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن " الأمة " من الخبر عن " الدين "، لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [ سورة المائدة:48 سورة النحل: 93]، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله: " كان الناس أمة واحدة "، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى " الأمة " إلى الطاعة لله، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [سورة النحل: 120]، يعني بقوله " أمة "، إمامًا في الخير يُقتدى به، ويُتَّبع عليه.
* ذكر من قال ذلك:
&; 4-277 &;
4050 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " كان الناس أمة واحدة "، قال: آدم.
4051 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
4052 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: " كان الناس أمة واحدة "، قال: آدم، قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحدَه، (8)
* * *
وكأنّ من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه بـ " الأمة "، كما يقال: " فلان أمة وحده "، يقول مقام الأمة.
وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، (9) فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم (10) سماه بذلك " أمة ".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرَج ذرية آدمَ من صلبه، فعرضهم على آدم.
* ذكر من قال ذلك:
4053 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع &; 4-278 &; قوله: " كان الناس أمة واحدة "- وعن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم= فكان أبيّ يقرأ: " كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " إلى " فيما اختلفوا فيه ". وإن الله إنما بعث الرسل وأنـزل الكتب عند الاختلاف.
4054 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " كان الناس أمة واحدة "، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم=" فبعث الله النبيين "، قال: هذا حين تفرقت الأمم.
* * *
وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح- وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس.
* * *
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله: " كان الناس أمة واحدة "، على دين واحد، فبعث الله النبيين.
* ذكر من قال ذلك:
4055 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " كان الناس أمة واحدة "، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. كما:-
&; 4-279 &;
4056 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " كان الناس أمة واحدة "، يقول: دينًا واحدًا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
= وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق، كما قال أبي بن كعب، كما:-
4057 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هي في قراءة ابن مسعود: " اختلفوا عنه " عن الإسلام. (11)
* * *
= فاختلفوا في دينهم، (12) فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين،" وأنـزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه "، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه إليهم.
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روي عكرمة، عن ابن عباس، وكما قاله قتادة.
وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا &; 4-280 &; الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعُنَا العلمُ به، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً، (13)
غير أنه أي ذلك كان، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها " يونس ": وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 19]. فتوعَّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: " فبعثَ الله النبيين مبشرين ومنذرين "، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب، وكريم المآب= ويعني بقوله: " ومنذرين "، ينذرون من عصى الله فكفر به، بشدّة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار=" وأنـزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه "، يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه " الحكم " إلى " الكتاب "، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذْ كان مَنْ حَكم من النبيين والمرسلين بحُكم، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب الذي أنـزل الله عز وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه على صحته من الحكم، حاكمًا بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيرُه.
* * *
&; 4-281 &;
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " وما اختلف فيه "، وما اختلف في الكتاب الذي أنـزله وهو التوراة=" إلا الذين أوتوه "، يعني، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها= و " الهاء " في قوله: " أوتوه " عائدة على " الكتاب " الذي أنـزله الله=" من بعد ما جاءتهم البينات "، يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا العمل بخلاف ما فيه.
فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ التوراةَ، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمِّدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.
ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها، (14) وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا بينهم.
* * *
و " البغي" مصدر من قول القائل: " بغى فلانٌ على فلان بغيًا "، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: " بَغَى " كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده. (15)
* * *
فمعنى قوله جل ثناؤه: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم "، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنـزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به، بل كان &; 4-282 &; اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، بغيًا بينهم، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالا من بعضم لبعض. كما:-
4058 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه " يقول: إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلم=" من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم "، يقول: بغيًا على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضُهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب بعض.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في" مِنْ" التي في قوله: " من بعد ما جاءتهم البينات " ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم " ؟
فقال بعضهم: " من "، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له. غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، بغيًا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم " البغي" قبل " من "، لأن " من " إذا كان الجالب لها " البغي"، فخطأ أن تتقدمه لأن " البغي" مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن " الذين " مستثنى، وأنّ" من بعد ما جاءتهم البينات " مستثنى باستثناء آخر، وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات = فكأنه كرر الكلام توكيدًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا، فذلك أشبه بتأويل الآية.
* * *
&; 4-283 &;
القول في تأويل قوله تعالى : فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " فهدى الله "، فوفق[الله] الذي آمنوا (16) وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه.
وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته: " الجمُعة "، ضلوا عنها وقد فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا، فجعلوها " السبت "، فقال صلى الله عليه وسلم: " نحن الآخِرون السابقون ، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد ".
4059 - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. (17)
4060- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة: " فهدى الله الذين آمنوا لما &; 4-284 &; اختلفوا فيه من الحق بإذنه "، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون الآولون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع، غدًا لليهود، وبعد غد للنصارى. (18)
* * *
* وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد، وهو ما:-
4061 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " فهدى الله الذين آمنوا " للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة.
واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعضَ يوم، وبعضهم بعض ليلة، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديًا، وقالت النصارى كان نصرانيًا! فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين للذين يدَّعونه من أهل الشرك. (19) واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لِفِرْية، وجعلته النصارى ربًا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ".
* * *
قال أبو جعفر: (20) فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد، وبما &; 4-285 &; جاء به لما اختلف -هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحق مَنْ كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وَسطًا، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما:-
4062- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه "، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: ( وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) يوم القيامة ( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ). فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
4063 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه "، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه "، عن الإسلام. (21)
* * *
&; 4-286 &;
قال أبو جعفر: وأمّا قوله: " بإذنه "، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى " الإذن " إذْ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا. (22)
* * *
وأما قوله: " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "، فإنه يعني به: والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحقّ: من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم، فمن الله جل وعز.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل،" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و " مِنْ" إنما هي في كتاب الله في" الحق " و " اللام " في قوله: " لما اختلفوا فيه "، وأنت تحول " اللام " في" الحق "، و " من " في" الاختلاف "، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا ؟
&; 4-287 &;
قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر: (23)
كَــانَتْ فَرِيضَـةُ مَـا تَقُـول كمـا
كَــانَ الزِّنَــاءُ فَريضَــةَ الرَّجْـمِ (24)
وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:
إنّ سِـــرَاجًا لَكَـــرِيمٌ مَفْخَــرُهْ
تَحْــلَى بـه العَيْـنُ إذَا مَـا تَجْـهَرُهْ (25)
وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج.
* * *
وقد قال بعضهم: إن معنى قوله " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق "، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهلَ الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها.
وذلك قولٌ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.
-------------------
الهوامش :
(5) انظر معنى (الأمة) فيما سلف 1 : 221/ ثم 3 : 74ن 100 ، 128ن 141 .
(6) الأثر : 4048 -رواه الحاكم في المستدرك 2 : 546- 547 وقال : "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي .
(7) ديوانه : 40 ، واللسان (أمم) من قصيدته المشهورة في اعتذاره للنعمان . يقول : أيتهجم على الإثم ذو دين ، وقد أطاع الله واخبت له ، فيحلف لك كاذبا يمين غموس كالتي حلفت بها ، لأنفي عن قلبك الريبة في أمري .
(8) في المطبوعة : "أمة واحدة" في الموضعين وهو خطأ والصواب ما أثبت . وذلك ما جاء في حديث قس بن ساعدة : "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده" ويقال أيضًا : "هو أمة على حدة" كالذي في الحديث : "يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو بن نفيل أمه على حدة" .
(9) في لمطبوعة : "سبب لاجتماع الأسباب من الناس" وهو تصحيف . والأشتات المتفرقون ، ومثله : شتى .
(10) قوله : "إلى حال اختلافهم" أي : إلى ان صارت حالهم إلى الاختلاف والتفرق .
(11) الأثر : 4057 - سيأتي هذا الأثر برقم : 4063 وكان نصه هنا كنصه هناك ولكنه تصحيف نساخ فيما أظن ، كما سيأتي . كان في المطبوعة"اختلفوا فيه - على الإسلام" .
(12) في المطبوعة : "واختلفوا في دينهم" بالواو والصواب بالفاء وهو من كلام الطبري ، لا من الأثر وهو من سياق قوله قبل : "وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق . . . فاختلفوا . . "
(13) هذه حجة رجل تقي ورع عاقل . بصير بمواضع الزلل في العقول وبمواطن الجرأة على الحق من أهل الجرأة الذين يتهجمون على العلم بغيًا بالعلم . ولو عقل الناس لأمسكوا فضل ألسنتهم ولكنهم قلما يفعلون .
(14) في المطبوعة : "تعمدهم الخطيئة التي أنزلها" ، وهو تصحيف وكلام بلا معنى .
(15) انظر معنى"البغي" فيما سلف 1 : 342 .
(16) انظر معنى"هدى" فيما سلف 1 : 166- 170 ، 230 ، 249 ، 549- 551 ، وانظر فهارس اللغة في الأجزاء السالفة ، في معنى هذه الكلمة وفي معنى"الإيمان" .
(17) الحديث : 4059 - محمد بن حميد الرازي شيخ الطبري : معروف مضت الرواية عنه كثيرا . ووقع في المطبوعة هنا"أحمد بن حميد" وهو غلط وتحريف .
عياض بن دينار الليثي : تابعي ثقة سمع من أبي هريرة . وقد وثقه ابن إسحاق في حديث آخر . رواه عنه في المسند : 7481 وترجمه البخاري في الكبير 4/1/22 وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ص : 299 (من كتاب الثقات المخطوط المصور) .
وهذا حديث صحيح معروف مشهورن من حديث أبي هريرةن ثبت عنه من غير وجه . ونظر الحديث الذي عقبه .
(18) الحديث : 4060 -هو في تفسير عبد الرزاق ص 23ن بهذا الإسناد وكذلك رواه أحمد في المسند : 7692ن عن عبد الرزاق .
* ورواه الشيخان وغيرهما . فانظر المسند أيضًا : 7213 ، 7308 ، 7393 ، 7395 ، 7693 ، وما أشرنا إليه هناك من التخريج في مواضع متعددة .
(19) في المطبوعة : "الذين يدعونه" والصواب ما أثبت .
(20) في المطبوعة : قال : فكانت هداية الله جل ثناؤه . . . " يتوهم القارئ أن هذا الآتي إنما هو من الأثر السالف وليس ذلك كذلكن بل هو من كلام أبي جعفر ، كما يدل عليه سياقه الآتي ، وكما يتبين من رواية هذا الأثر السالف في تفسير ابن كثير 1 : 489 : 490 والدر المنثور 1 : 243 . فلذلك فصلت بين الكلامين وجعلت صدر الكلام : "قال أبو جعفر" .
(21) الأثر : 4063 - انظر الأثر السالف رقم : 4057 والتعليق عليه . وكان في المطبوعة هنا وهناك : "لما اختلفوا فيه على الإسلام" ، وهو غير بين المعنى والذي أثبته هو نص ما في القرطبي 3 : 33 والدر المنثور 1 : 243 .
(22) انظر ما سلف 2 : 449- 450 .
(23) هو النابغة الجعدي .
(24) سلف تخريج البيت في 3 : 311 ، 312 .
(25) سلف تخريج الشعر في 3 : 312 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 213 | ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ |
---|
البقرة: 253 | ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ |
---|
النساء: 153 | ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ﴾ |
---|
آل عمران: 105 | ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم, فهي سنته الجارية, التي لا تتغير ولا تتبدل, أن من قام بدينه وشرعه, لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله, ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله, فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها, ومن السيادة آلتها.
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله, بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده, فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني, ومجرد الدعاوى, حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم ( مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ ) أي:الفقر ( وَالضَّرَّاءُ ) أي:الأمراض في أبدانهم ( وَزُلْزِلُوا ) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل, والنفي, وأخذ الأموال, وقتل الأحبة, وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال, وآل بهم الزلزال, إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال ( الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) .
فلما كان الفرج عند الشدة, وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى:( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.
فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة, والمشقات راحات, وأعقبه ذلك, الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى:أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ .
وقوله [ تعالى:] الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ فعند الامتحان, يكرم المرء أو يهان.
قال القرطبي: قال قتادة والسدى وأكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والحر والبرد وسوء العيش وأنواع الشدائد، وكانوا كما قال- تعالى-: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ.
وقيل نزلت في حرب أحد، ونظيرها- في آل عمران أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ.. وقالت فرقة: نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدى المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله ذلك تطييبا لقلوبهم» .
وما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة لا يمنع عمومها، وأنها تدعو المؤمنين في كل زمان ومكان إلى التذرع بالصبر والثبات تأسيا بمن سبقهم من المتقين حتى يفوزوا برضوان الله- تعالى- ونصره.
وأَمْ هنا يرى بعضهم أنها للاستفهام الإنكارى، ويرى بعض آخر أنها أم المتصلة، ويرى فريق ثالث أنها أم المنقطعة.
قال الجمل: وحسب هنا من أخوات ظن تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وأن وما بعدها سادة مسد المفعولين عند سيبويه، ومسد الأول عند الأخفش والثاني محذوف، ومضارعها فيه وجهان: الفتح وهو القياس والكسر .
ولَمَّا تدل على النفي مع توقع حصول المنفي بها، كما في قول النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
فنفى بلما ثم قال: وكأن قد، أى وكأنه قد زالت.
والْبَأْساءُ ما يصيب الناس في الأموال كالفقر. والضراء: ما يصيبهم في الأنفس كالمرض مشتقان من البؤس والضر.
وزُلْزِلُوا من الزلزلة وهي شدة التحريك وتكون في الأشخاص وفي الأحوال. فيقال:
زلزلت الأرض، أى تحركت واضطربت، ومعنى زلزلوا: خوفوا وأزعجوا واضطربوا.
والمعنى على أن أَمْ للاستفهام الإنكارى: أظننتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بمجرد الإيمان دون أن يصيبكم ما أصاب الذين سبقوكم من شدائد في الأنفس والأموال، ومن مخاوف أزعجتهم وأفزعتهم حتى بلغ الأمر برسولهم وبالمؤمنين معه أن يقولوا وهم في أقصى ما تحتمله النفوس البشرية من آلام: متى نصر الله؟!!
لا- أيها المؤمنون- إنى أنهاكم أن تظنوا هذا الظن، وآمركم أن تتيقنوا من أن الظفر بدخول الجنة يستلزم منكم التأسى بمن سبقكم من المتقين في الصبر والثبات.
والمعنى على أن أَمْ هنا هي المتصلة- أى المشعرة بمحذوف دل عليه الكلام-: قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب واهتدوا إلى الحق فآذاهم الناس أذى شديدا فصبروا على ذلك أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون ثباتهم على الشدائد؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دون أن يصيبكم ما أصابهم؟
والمعنى على أن أَمْ هنا منقطعة- أى تدل على الإضراب والاستفهام معا-: لقد أوذيتم أيها المؤمنون في سبيل دينكم أذى عظيما، فعليكم أن تصبروا وأن تثبتوا كما فعل الذين من قبلكم، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دون ابتلاء وصبر.. أى: بل أحسبتم.. إن كان هذا هو حسبانكم فهو حسبان باطل لا ينبغي لكم.
وقوله- تعالى-: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ.. استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: كيف مثل أولئك الذين خلوا ومضوا؟ فكان الجواب مستهم البأساء.. إلخ.
ومستهم أى: حلت بهم. وعبر بمستهم للإشعار بأن تلك الشدائد قد أصابتهم بالآلام التي اتصلت بحواسهم وأجسادهم ولكنها لم تضعف إيمانهم إذ حقيقة المس اتصال الجسم بجسم آخر.
قال صاحب الكشاف: وقوله: وَزُلْزِلُوا أى: أزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والافزاع «حتى يقول الرسول» أى: إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها مَتى نَصْرُ اللَّهِ أى بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه طلب النصر وتمنيه، واستطالة زمان الشدة. وفي هذه الغاية دليل على تناهى الأمر في الشدة وتماديه في العظم لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمع وراءها » .
والمراد بالرسول- كما يقول الآلوسى- الجنس لا واحد بعينه. وقيل: شعياء، وقيل:
أشعياء، وقيل اليسع. وعلى التعيين يكون المراد من الذين خلوا قوما بأعيانهم وهم أتباع هؤلاء الرسل » .
وقوله- تعالى-: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ استئناف على تقدير القول. أى فقيل لهم حينما التمسوا من الله النصر بعد تلك الشدائد والأهوال التي نزلت بهم: ألا إن نصر الله قريب.
تطييبا لأنفسهم، وبعثا للآمال في قلوبهم.
وفي هذه الجملة الكريمة ألوان من المؤكدات والمبشرات بالنصر القريب، ويشهد لذلك التعبير بالجملة الاسمية بدل الفعلية فلم يقل- مثلا- ستنصرون والتعبير بالجملة الاسمية يدل على التوكيد. ويشهد لذلك أيضا تصدير الجملة بأداة الاستفتاح الدالة على تحقيق مضمونها وتقريره، ووقوع إن المؤكدة بعد أداة الاستفتاح، وإضافة النصر إلى الله القادر على كل شيء والذي وعد عباده المؤمنين بالنصر فقال، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد» :
هذا، والمتأمل في الآية الكريمة يراها قد بينت للمؤمنين أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» . وأنهم لكي يصلوا إلى الجنة عليهم أن يتأسوا بالسابقين في جهادهم وصبرهم على الأذى، فقد اقتضت سنة الله أن يجعل هذه الحياة نزالا موصولا بين الأخيار والأشرار، ونزاعا مستمرا بين الأطهار والفجار، وكثيرا ما يضيق البغاة على المؤمنين، وينزلون بهم ما ينزلون من صفوف الاضطهاد إلا أن الله- تعالى- قد تكفل بأن يجعل العاقبة للمتقين.
ولقد حكى لنا التاريخ أن المؤمنين السابقين قد صبروا أجمل الصبر وأسماه في سبيل إعلاء كلمة الله.
روى البخاري عن خباب بن الأرت- رضى الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون .
وبذلك نرى أن السورة الكريمة من قوله- تعالى- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إلى هنا، قد بينت لنا أقسام الناس في هذه الحياة، ودعت المؤمنين إلى أن يتمسكوا بجميع تعاليم الإسلام، وأن يزهدوا في زينة الحياة التي شغلت المشركين عن كل شيء سواها، وأن يشكروا الله على هدايته إياهم إلى الحق الذي اختلف غيرهم فيه، وأن يوطنوا أنفسهم على تحمل الآلام لكي يحقق الله لهم الآمال.
ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين بعد ذلك إلى أن مما يعينهم على دفع الأذى وعلى دحر أعدائهم أن يبذلوا أموالهم في طاعة الله، وأن يعدوا أنفسهم للقتال في سبيله فقال- تعالى-:
يقول تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ) قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا ، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ; ولهذا قال : ( ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء ) وهي : الأمراض ; والأسقام ، والآلام ، والمصائب والنوائب .
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومرة الهمداني ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : ( البأساء ) الفقر . قال ابن عباس : ( والضراء ) السقم .
( وزلزلوا ) خوفا من الأعداء زلزالا شديدا ، وامتحنوا امتحانا عظيما ، كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال : قلنا : يا رسول الله ، ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فقال : " إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه ، لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ، لا يصرفه ذلك عن دينه " . ثم قال : " والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم قوم تستعجلون " .
وقال الله تعالى : ( الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [ العنكبوت : 1 3 ] .
وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة ، رضي الله عنهم ، في يوم الأحزاب ، كما قال الله تعالى : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) الآيات [ الأحزاب : 10 - 12 ] .
ولما سأل هرقل أبا سفيان : هل قاتلتموه ؟ قال : نعم . قال : فكيف كان الحرب بينكم ؟ قال : سجالا يدال علينا وندال عليه . قال : كذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لها العاقبة .
وقوله : ( مثل الذين خلوا من قبلكم ) أي : سنتهم . كما قال تعالى : ( فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ) [ الزخرف : 8 ] .
وقوله : ( وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) أي : يستفتحون على أعدائهم ، ويدعون بقرب الفرج والمخرج ، عند ضيق الحال والشدة . قال الله تعالى : ( ألا إن نصر الله قريب ) كما قال : ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) [ الشرح : 5 ، 6 ] .
وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ; ولهذا قال تعالى : ( ألا إن نصر الله قريب ) وفي حديث أبي رزين : " عجب ربك من قنوط عباده ، وقرب غيثه فينظر إليهم قنطين ، فيظل يضحك ، يعلم أن فرجهم قريب " الحديث .
القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
قال أبو جعفر: وأما قوله: " أم حسبتم "، كأنه استفهم بـ " أم " في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام، لسبوق كلام هو به متصل، (26) ولو لم يكن قبله كلام &; 4-288 &; يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا لآخر: " أم عندك أخوك "؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو قال: " أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك ؟" كان مصيبًا. وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته.
* * *
فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من " البأساء "- وهو شدة الحاجة والفاقة =" والضراء " -وهي العلل والأوصاب (27) - ولم تزلزلوا زلزالهم- يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.
* * *
وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل- نـزلت يومَ الخندق، حين لقي المؤمنون ما لَقوا من شدة الجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا إلى قوله: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا [الأحزاب: 9-11]
&; 4-289 &;
* ذكر من قال نـزلت هذه الآية يوم الأحزاب:
4064 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا "، قال: نـزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا [الأحزاب: 12]
4065 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساءُ والضراء وزلزلوا "، قال: نـزلت في يوم الأحزاب، أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاءٌ وحصرٌ، فكانوا كما قال الله جل وعزّ: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ
* * *
وأما قوله: " ولما يأتكم "، فإنّ عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى: ولم يأتكم، ويزعمون أن " ما " صلة وحشو، وقد بينت القول في" ما " التي يسميها أهل العربية " صلة "، ما حكمها؟ في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (28)
* * *
وأما معنى قوله: " مثل الذين خلوا من قبلكم "، فإنه يعني: شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم. (29)
* * *
وقد دللت في غير هذا الموضع على أن " المثل "، الشبه. (30)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
&; 4-290 &;
4066 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا "... (31)
4067 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن عبد الملك بن جريج، قال قوله: " حتى يقول الرسول والذين آمنوا "، قال: هو خيرُهم وأعلمهم بالله.
* * *
وفي قوله: " حتى يقول الرسول "، وجهان من القراءة: الرفع، والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لما كان يحسُن في موضعه " فعَل " أبطل عمل " حتى " فيها، لأن " حتى " غير عاملة في" فعل "، وإنما تعمل في" يفعل "، وإذا تقدمها " فعل "، وكان الذي بعدها " يفعل "، وهو مما قد فُعل وفُرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول، فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في" يفعل " وإبطال عمل " حتى " عنه، وذلك نحو قول القائل: " قمت إلى فلان حتى أضربُه "، والرفع هو الكلام الصحيح في" أضربه "، إذا أراد: قمت إليه حتى ضربته، إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه، وكان القيام غيرَ متطاول المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل " حتى " من الفعل على لفظ " فعل " متطاول المدة، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ، فالصحيح من الكلام نصب " يفعل "، وإعمال " حتى "، وذلك نحو قول القائل: " ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك = وجعل ينظر إليك حتى يثبتك "، فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره- النصبُ بـ " حتى "، كما قال الشاعر: (32)
مَطَــوْتُ بِهِـمْ حَـتَّى تَكِـلَّ مَطِيُّهـمْ
وَحَـتَّى الجِيَـادُ مَـا يُقَـدْنَ بِأَرْسَـانِ (33)
&; 4-291 &; فنصب " تكل "، والفعل الذي بعد " حتى " ماض، لأن الذي قبلها من " المطو " متطاول.
والصحيح من القراءة - إذْ كان ذلك كذلك-: " وزلزلوا حتى يقولَ الرسول "، نصب " يقول "، إذ كانت " الزلزلة " فعلا متطاولا مثل " المطو بالإبل ".
وإنما " الزلزلة " في هذا الموضع: الخوف من العدو، لا " زلزلة الأرض "، فلذلك كانت متطاولة وكان النصبُ في" يقول " وإن كان بمعنى " فعل " أفصحَ وأصحَّ من الرفع فيه. (34)
--------------
الهوامش :
(26) في المطبوعة : "لمسبوق كلام" وهو فاسد المعنى وذلك أن أحد شروط"أم" في الاستفهام : أن تكون نسقًا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام (انظر ما سلف 2 : 493) وقوله"لسبوق" هذا مصدر لم يرد في كتب اللغة ، ولكني رأيت الطبري وغيره يستعمله وسيأتي في نص الطبري بعد 2 : 240 ، 246 (بولاق) .
(27) انظر معنى"البأساء والضراء" فيما سلف 3 : 349- 352 .
(28) انظر ما سلف 1 : 405 ، 406/ ثم 2 : 230 ، 331 . وقوله : "صلة" أي زيادة ، كما سلف شرحها مرارا ، فاطلبها في فهرس المصطلحات .
(29) انظر تفسير"خلا" فيما سلف 3 : 100 ، 128 ، 129 .
(30) انظر ما سلف : 1 : 403 .
(31) الأثر : 4066 - هذا أثر ناقص ، ولم أجد تمامه في مكان آخر .
(32) هو امرؤ القيس .
(33) ديوانه : 186 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 133 وسيبويه 1 : 417/ 2 : 203 ، ورواية سيبويه : "سريت بهم" وفي الموضع الثاني منه روى :
"حَتَّى تَكِــــــلَّ غَـــــزِيّهم"
مطا بالقوم يمطو مطوًا : مد بهم وجد في السير . يقول : جد بهم ورددهم في السير حتى كلت مطاياهم فصارت من الإعياء إلى حال لا تحتاج معها إلى أرسان تقاد بها ، وصار راكبوها من الكلال إلى إلقاء الأرسان وطرحها على الخيل . لا يبالون من تبعهم وإعيائهم ، كيف تسير ، ولا إلى أين .
(34) قد استوفى الكلام في"حتى" الفراء في معاني القرآن 1 : 132- 138 واعتمد عليه الطبري في أكثر ما قاله في هذا الموضع .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 214 | ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم﴾ |
---|
آل عمران: 142 | ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ |
---|
التوبة: 16 | ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
وزلزلوا حتى يقول:
قرئ:
1- وزلزلوا حتى، وهى قراءة الجمهور، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية، وإما على التعليل.
2- وزلزلوا حتى، برفع «يقول» ، وهى قراءة نافع، والمضارع بعد «حتى» إذا كان للحال فلا يخلو أن يكون حالا فى حين الأخبار، أو حالا قد مضت، فتحكى على ما وقعت، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين.
3- وزلزلوا ويقول، بالواو، وهى قراءة الأعمش.
التفسير :
أي:يسألونك عن النفقة, وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه، فأجابهم عنهما فقال:( قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ ) أي:مال قليل أو كثير, فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم, أعظمهم حقا عليك, وهم الوالدان الواجب برهما, والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما, النفقة عليهما, ومن أعظم العقوق, ترك الإنفاق عليهما، ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة, على الولد الموسر، ومن بعد الوالدين الأقربون, على اختلاف طبقاتهم, الأقرب فالأقرب, على حسب القرب والحاجة, فالإنفاق عليهم صدقة وصلة، ( وَالْيَتَامَى ) وهم الصغار الذين لا كاسب لهم, فهم في مظنة الحاجة لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم, وفقد الكاسب, فوصى الله بهم العباد, رحمة منه بهم ولطفا، ( وَالْمَسَاكِينِ ) وهم أهل الحاجات, وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة, فينفق عليهم, لدفع حاجاتهم وإغنائهم.
( وَابْنَ السَّبِيلِ ) أي:الغريب المنقطع به في غير بلده, فيعان على سفره بالنفقة, التي توصله إلى مقصده.
ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف, لشدة الحاجة, عمم تعالى فقال:( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ) من صدقة على هؤلاء وغيرهم, بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات, لأنها تدخل في اسم الخير، ( فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) فيجازيكم عليه, ويحفظه لكم, كل على حسب نيته وإخلاصه, وكثرة نفقته وقلتها, وشدة الحاجة إليها, وعظم وقعها ونفعها.
قال الآلوسى: عن ابن جريج قال: سأل المؤمنون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين يضعون أموالهم فأنزل الله- تعالى- قوله: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ. الآية. وعن ابن عباس قال: كان عمرو بن الجموح شيخا كبيرا وعنده مال كثير فقال يا رسول الله: بماذا نتصدق، وعلى من ننفق؟ فنزلت الآية.
والمعنى: يسألك أصحابك يا محمد أى شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟ قل لهم:
ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه للوالدين قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما ووفاء لبعض حقوقهما، وللأقربين وفاء لحق القرابة والرحم ولليتامى لأنهم فقدوا الأب الحانى الذي يسد عوزهم، والمساكين لفقرهم واحتياجهم، وابن السبيل لأنه كالفقير لغيبة ماله وانقطاعه عن بلده.
قال الإمام الرازي: فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله- تعالى- في كيفية الإنفاق.
ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أى: وكل ما فعلمتوه من خير إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبا لجزيل ثوابه وهربا من أليم عقابه فإن الله به عليم فيجازيكم احسن الجزاء عليه..» .
وظاهر الآية- كما يقول الآلوسى- أن السؤال عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحا، لأنه أهم لأن اعتداد النفقة باعتباره. وأشار- سبحانه- إجمالا إلى بيان المنفق فإن قوله مِنْ خَيْرٍ يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا، وإنما تعرض لذلك- أى لبيان المنفق عليه- وليس في السؤال ما يقتضيه، لأن السؤال للتعلم لا للجدل، وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء، طلبه المريض أم لم يطلبه. ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين، (وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيبا، في أكل العسل فقال له: كله مع الخل) . فالكلام إذا من أسلوب الحكيم. ويحتمل أن يكون في الكلام- أى في كلام السائلين- ذكر المصرف- أيضا- كما في سؤال عمرو بن الجموح إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب، فتكون الآية جوابا لأمرين مسئول عنهما. والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم. وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أولا؟ قولان أشهرهما الثاني» .
ولم يتعرض- سبحانه- هنا لبقية المحتاجين كالسائلين والغارمين إما اكتفاء بذكرهم في مواضع أخرى، وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله- تعالى-: في آخر الآية وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فإنه شامل لكل خير واقع في أى مصرف كان.
قال الجمل و «ذا» اسم موصول بمعنى الذي والعائد محذوف، و «ما» على أصلها من الاستفهام ولذلك لم يعمل فيها يسألونك، وهي مبتدأ وذا خبره، والجملة محلها النصب بيسألون. والمعنى يسألونك أى الشيء الذي ينفقونه» .
وقوله: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تذييل قصد به الحض على فعل الخير، لأن المؤمن عند ما يشعر بأن الله يرى عمله ويجازيه عليه بما يستحقه، يشجعه ذلك على الاستمرار في عمل الخير. وإذا كان بعضنا يكثر من عمل الخير عند ما يعلم أن شخصا ذا جاه يسره هذا العمل، فكيف يكون الحال عند ما يعلم المؤمن التقى أن الذي يرى عمله ويكافئه عليه هو الله الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يعطى من يشاء بغير حساب.
قال بعض العلماء: وقد اختلف في هذه الآية. فقيل إنها منسوخة بآية الزكاة وهي قوله- تعالى-: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ... وقيل- وهو الأولى- إنها غير منسوخة، وهي لبيان صدقة التطوع فإنه متى أمكن الجمع فلا نسخ».
قال مقاتل بن حيان : هذه الآية في نفقة التطوع . وقال السدي : نسختها الزكاة . وفيه نظر . ومعنى الآية : يسألونك كيف ينفقون ؟ قاله ابن عباس ومجاهد ، فبين لهم تعالى ذلك ، فقال : ( قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ) أي : اصرفوها في هذه الوجوه . كما جاء في الحديث : " أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك " . وتلا ميمون بن مهران هذه الآية ، ثم قال : هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارا ، ولا تصاوير الخشب ، ولا كسوة الحيطان .
ثم قال تعالى : ( وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ) أي : مهما صدر منكم من فعل معروف ، فإن الله يعلمه ، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء ; فإنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة .
القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟، وعلى مَن ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم، ولليتامى منكم، والمساكين، وابن السبيل، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم، وهو مُحْصيه لكم حتى يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة، ويثيبكم = على ما أطعتموه بإحسانكم = عليه.
* * *
&; 4-292 &;
و " الخير " الذي قال جل ثناؤه في قوله: " قل ما أنفقتم من خير "، هو المال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُه من النفقة منه، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية.
* * *
وفي قوله: " ماذا "، وجهان من الإعراب.
أحدهما: أن يكون " ماذا " بمعنى: أيّ شيء ؟، فيكون نصبًا بقوله: " ينفقون ".
فيكون معنى الكلام حينئذ: يسألونك أيَّ شيء ينفقون؟، ولا يُنصَب بـ " يسألونك ". والآخر منهما الرفع. وللرفع في" ذلك " وجهان: أحدهما أن يكون " ذا " الذي مع " ما " بمعنى " الذي"، فيرفع " ما " ب " ذا " و " ذا " لِ" ما "، و " ينفقون " من صلة " ذا "، فإن العرب قد تصل " ذا " و " هذا "، كما قال الشاعر: (35)
عَــدَسْ! مَـا لِعَبَّـادٍ عَلَيْـكِ إمَـارَةٌ
أمنْــتِ وهــذَا تَحْــمِلِينَ طَلِيـقُ! (36)
فـ " تحملين " من صلة " هذا ".
فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟
والآخر من وجهي الرفع أن تكون " ماذا " بمعنى أيّ شيء، فيرفع " ماذا "، &; 4-293 &; وإن كان قوله: " ينفقون " واقعًا عليه، (37) إذ كان العاملُ فيه، وهو " ينفقون "، لا يصلح تقديمه قبله، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام، كما قال الشاعر: (38)
ألا تَسْــأَلانِ المَـرْءَ مَـاذَا يُحَـاِولُ
أَنَحْـبٌ فَيُقْضَـى أَمْ ضـلالٌ وَبَـاطِلُ (39)
وكما قال الآخر: (40)
وَقَـالُوا (41) تَعَرَّفْهـَا المَنَـازِلَ مِـنْ مِنًى
وَمَـا كُـلُّ مَـنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ (42)
فرفع " كل " ولم ينصبه " بعارف "، إذ كان معنى قوله: " وما كلُّ من يغشى منىً أنا عارف " جحودُ معرفه من يغشى منيً، فصار في معنى ما أحد. (43) وهذه الآية [نـزلت] (44) - فيما ذكر- قبل أن يفرض الله زكاةَ الأموال.
* ذكر من قال ذلك:
4068 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا &; 4-294 &; أسباط، عن السدي: " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين "، قال: يوم نـزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
4069 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أينَ يضعون أموالهم ؟ فنـزلت: " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل "، فذلك النفقةُ في التطوُّع، والزكاةُ سوى ذلك كله= قال: وقال مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك: " ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما.
4070 - حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح في قول الله: " يسألونك ماذا ينفقون "، قال: سألوه فأفتاهم في ذلك: " فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما.
4071 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد = وسألته عن قوله: " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين "= قال: هذا من النوافل، قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله السدي = : من أنه لم يكن يوم نـزلت هذه الآية زكاةٌ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله، وصدقةً يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة = قولٌ ممكن أن يكون كما قال: وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال، لأنه ممكن أن يكون قوله: " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من &; 4-295 &; الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات، كما قال في الآية الأخرى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [سورة البقرة: 177] . وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه.
* * *
وقد بينا معنى المسكنة، ومعنى ابن السبيل فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته. (45)
* * *
---------------------------
الهوامش :
(35) هو يزيد بن مفرغ الحميري .
(36) تاريخ الطبري 6 : 178 والأغاني 17 : 60 (ساسي) ومعاني القرآن للفراء 1 : 138 والخزانة : 2 : 216 ، 514 واللسان (عدس) من أبيات في قصة يزيد بن مفرغ مع عباد بن زياد بن أبي سفيان ، وكان معاوية ولاه سجستان فاستصحب معه يزيد بن مفرغ فاشتغل عنه بحرب الترك . فغاظ ذلك ابن مفرغ واستبطأ جائزته ، فبسط لسانه في لحية عباد وكان عباد عظيم اللحية فقال :
ألاَ لَيْــتَ اللِّحَــى كـانت حشيشًـا
فنَعْلِفَهـــا خـــيولَ المســـلمينَا
فعرف عباد ما أراد فطلبه منه ، فهجاه وهجا معاوية باستلحاق زياد بن أبي سفيان فأخذه عبيد الله بن زياد اخو عباد ، فعذبه عذابًا قبيحًا ، وأرسله إلى عباد ، ثم أمرهما معاوية بإطلاقه فلما انطلق على بغلة البريد ، قال هذا الشعر الذي أوله هذا البيت .
وقوله : "عدس" زجر للبغلة ، حتى صارت كل بغلة تسمى"عدس" . والشعر شعر جيد فاقرأه في المراجع السالفة .
(37) سلف أن"الوقوع" هو تعدي الفعل إلى المفعول ، فانظر فهرس المصطلحات وما سلف 2 : 108 ، 198 .
(38) هو لبيد بن ربيعة .
(39) ديوانه : 2/27 القصيدة : 41 ، وسيبويه 1 : 405 والخزانة 2 : 556 ومعاني القرآن للفراء 1 : 139 وغيرها . والشاهد فيه أنه رفع"نحب" وهو مردود على"ما" في"ماذا" . فدل ذلك على أن"ذا" بمعنى"الذي" وما بعده من صلته ، فلا يعمل فيما قبله . والنحب : النذر . يقول : أعليه نذر في طول سعيه الذي ألزم به نفسه؟ والنحب : الحاجة وهي صحيحة المعنى في مثل هذا البيت يقول : أهي حاجة لا بد منها يقضيها بسعيه ، أم هي اماني باطلة يتمناهان لو استغنى عنها وطرحها لما خسر شيئًا ، ولسارت به الحياة سيرًا بغير حاجة إلى هذا الجهاد المتواصل ، والاحتيال المتطاول؟
(40) هو مزاحم العقيلي .
(41) هو مزاحم العقيل
(42) ديوانه : 28 ، وسيبويه 1 : 36ن 73 ، شاهدا على نصب"كل" ورفعها ومعاني القرآن للفراء 1 : 139 وقال : لم"أسمع أحدًا نصب" كل وشرح شواهد المغني : 328 .
وقوله : "تعرفها المنازل" بنصبها على حذف الخافض أو الظرف أي تعرف صاحبتك بالمنازل من منى . فيقول : لا أعرف أحدًا يعرفها ممن يغشى مني فأسأله عنها .
(43) انظر أكثر ما مضى في معاني القرآن للفراء 138- 140 .
(44) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، ليستقيم الكلام .
(45) انظر تفسير"المسكين" فيما سلف 2 : 137 ، 293/ ثم 3 : 345 = ومعنى"اليتامى" فيما سلف 2 : 292/ ثم 3 : 345 = ومعنى"ابن السبيل" فيما سلف 3 : 345 .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 215 | ﴿قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ |
---|
البقرة: 270 | ﴿وَ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُهُ﴾ |
---|
سبإ: 39 | ﴿وَ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء