ترتيب المصحف | 17 | ترتيب النزول | 50 |
---|---|---|---|
التصنيف | مكيّة | عدد الصفحات | 11.50 |
عدد الآيات | 111 | عدد الأجزاء | 0.60 |
عدد الأحزاب | 1.12 | عدد الأرباع | 4.50 |
ترتيب الطول | 12 | تبدأ في الجزء | 15 |
تنتهي في الجزء | 15 | عدد السجدات | 1 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
الثناء على الله: 3/14 | المُسبِّحات : 1/7 |
بعدَ بيانِ ما نالَ بني إسرائيلَ بسببِ مخَالفتِهم للتَّوراةِ، أثنى هنا على القرآنِ وبَيَّنَ أهدافَه، ثُمَّ حَذَّرَ من الدَّعاءِ على النَّفسِ والأولادِ بالشَرِّ، وبَيَّنَ قدرَتَه تعالى في خلقِ الَّليلِ والنَّهارِ.
قريبًا إن شاء الله
بعدَ ذِكْرِ الَّليلِ والنَّهارِ وما يقعُ فيهما من أعمالٍ، ذَكَرَ هنا مبدأَ المَسْؤوليةِ الفرْديةِ عن هذه الأعمالِ من خيرٍ أو شرٍ، فلا يحْملُ أحدٌ ذنبَ أحدٍ، ثُمَّ سُنَّةَ اللهِ في إهلاكِ القرى الظَّالمةِ.
قريبًا إن شاء الله
التفسير :
{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} فيديل لكم الكرة عليهم، فرحمهم وجعل لهم الدولة. وتوعدهم على المعاصي فقال:{ وَإِنْ عُدْتُمْ} إلى الإفساد في الأرض{ عُدْنَا} إلى عقوبتكم، فعادوا لذلك فسلط الله عليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
فانتقم الله به منهم، فهذا جزاء الدنيا وما عند الله من النكال أعظم وأشنع، ولهذا قال:{ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} يصلونها ويلازمونها لا يخرجون منها أبدا. وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل، فسنة الله واحدة لا تبدل ولا تغير.
ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة، عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله، مكن لهم في الأرض ونصرهم على أعدائهم.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه المعاني أبلغ تعبير وأحكمه. فقال- تعالى-: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً.
أى: عسى ربكم أن يرحمكم: ويعفو عنكم يا بنى إسرائيل متى أخلصتم له العبادة والطاعة، وأصلحتم أقوالكم وأعمالكم، فقد علمتم أنه- سبحانه- لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفعه إلا بتوبة.
قال: أبو حيان: وهذه الترجية ليست لرجوع دولة، وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمدا- عليهما السلام- ولكنهم لم يفعلوا .
وقوله- سبحانه-: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا إنذار لهم بإنزال العقوبات عليهم، إن عادوا إلى فسادهم وإفسادهم.
أى: وإن عدتم إلى المعاصي ومخالفة أمرى، وانتهاك حرماتى، بعد أن تداركتكم رحمتي، عدنا عليكم بالقتل والتعذيب وخراب الديار.
ولقد عادوا إلى الكفر والفسوق والعصيان، حيث أعرضوا عن دعوة الحق التي جاءهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بهذا الإعراض بل هموا بقتله صلى الله عليه وسلم وأيدوا كل متربص بالإسلام والمسلمين، فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما يستحقون من إجلاء وتشريد وقتل..
قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: «عادوا فسلط الله عليهم المؤمنين» .
ثم بين- سبحانه- عقوبتهم في الآخرة فقال: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أى: إن عدتم إلى معصيتنا في الدنيا عدنا عليكم بالعقوبة الرادعة، أما في الآخرة فقد جعلنا جهنم للكافرين منكم ومن غيركم «حصيرا» أى: سجنا حاصرا لكم لا تستطيعون الهروب منه، أو الفكاك عنه، أو فراشا تفترشونه، كما قال- تعالى-: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
قال بعض العلماء: قوله حَصِيراً فيه وجهان: الأول: أن الحصير المحبس والسجن. من الحصر وهو الحبس: يقال حصره يحصره حصرا، إذا ضيق عليه وأحاط به.
والثاني أن الحصير: البساط والفراش، من الحصير الذي يفرش، لأن العرب تسمى البساط الصغير حصيرا..» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد حكت لنا قضاء الله- تعالى- في بنى إسرائيل، وساقت لنا لكي نعتبر ونتعظ ألوانا من سنن الله- تعالى- التي لا تتخلف، والتي من أبرزها أن الإيمان والصلاح عاقبتهما الفلاح، وأن الكفر والفساد عاقبتهما الشقاء، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
هذا، والذي يراجع ما قاله المفسرون في بيان العباد الذين سلطهم الله- تعالى- على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول والثاني في الأرض، يرى أقوالا متعددة يبدو على كثير منها الاضطراب والضعف .
ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود- رضى الله عنهما- أن الله- تعالى- عهد إلى بنى إسرائيل في التوراة لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ فكان أول الفسادين قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، وكان يدعى «صحابين» فبعث الجنود، وكانوا من أهل فارس.. فتحصنت بنو إسرائيل.. ودخل فيهم «بختنصر» - أحد جنود صحابين- وسمع أقوالهم.. إلخ .
وهذا الأثر من وجوه ضعفه، أن غزو النبط ومعهم بختنصر لبنى إسرائيل سابق على زمان زكريا- عليه السلام- بحوالى ستة قرون.
لأن الثابت تاريخيا أن بختنصر غزا بنى إسرائيل وانتصر عليهم ثلاث مرات: الأولى في سنة 606 ق. م والثانية في سنة 599 ق. م، والثالثة في سنة 588 ق. م.
وفي هذه المرة الثالثة أكثر القتل فيهم، وساق الأحياء منهم أسارى إلى أرض بابل.
أما زكريا- عليه السلام- فمن المعروف أنه كان معاصرا لعيسى- عليه السلام- أو مقاربا لعصره: فقد أخبرنا القرآن الكريم أن زكريا هو الذي تولى كفالة مريم أم عيسى.
وإذا فالقول بأن إفسادهم الأول كان لقتلهم زكريا، وأن المسلط عليهم ملك النبط ومع «بختنصر» يتنافى مع الحقائق التاريخية.
وفضلا عن ذلك، فإن هذا الأثر اضطرابه ظاهر، لأن «صحابين» ملك النبط، هو الذي يسميه المؤرخون «سنحاريب» وكان ملكا للأشوريين، وهو الذي غزا مملكة يهوذا سنة 713 ق. م أى قبل غزو بختنصر لها بأكثر من مائة سنة، أى: أن بختنصر لم يكن معاصرا له.
والرأى الذي نختاره: هو أن العباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم
الأول، هم جالوت وجنوده. ونستند في اختيارنا لهذا الرأى إلى أمور من أهمها ما يلي:.
1- ذكر القرآن الكريم في سورة البقرة، عند عرضه لقصة القتال الذي دار بين طالوت قائد بنى إسرائيل، وبين «جالوت» قائد أعدائهم، ما يدل على أن بنى إسرائيل كانوا قبل ذلك مقهورين مهزومين من أعدائهم.
ويتجلى هذا المعنى في قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا ...
فقولهم- كما حكى القرآن عنهم- وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا.. يدل دلالة قوية، على أنهم كانوا قبل قتالهم لجالوت مهزومين هزيمة اضطرتهم إلى الخروج عن ديارهم، وإلى مفارقة أبنائهم.
2- قوله- تعالى-: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ صريح في أن الله- تعالى- نصر بنى إسرائيل- بعد أن تابوا وأنابوا- على أعدائهم.
وهذا المعنى ينطبق على ما قصه القرآن علينا، من أن بنى إسرائيل بقيادة طالوت قد انتصروا على جالوت وجنوده..
قال- تعالى-: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ، قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ، وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ...
ولقد كان هذا النصر نعمة كبرى لبنى إسرائيل، فقد جاءهم بعد أن أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، وبعد أن اعترضوا على اختيار طالوت ملكا عليهم، وبعد أن قاتل مع طالوت عدد قليل منهم. ولا شك أن النصر في هذه الحالة، أدعى لطاعة الله- تعالى- وشكره على آلائه.
3- قوله- تعالى-: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أكثر ما يكون انطباقا على عهد حكم طالوت، وداود، وسليمان لهم.
ففي هذا العهد الذي دام زهاء ثمانين سنة، ازدهرت مملكتهم، وعز سلطانهم وأمدهم الله خلاله بالأموال الوفيرة، وبالبنين الكثيرة، وجعلهم أكثر من أعدائهم عددا وقوة.
أما بعد هذا العهد، بل وقبل هذا العهد، فقد كانت حياتهم سلسلة من المآسى والنكبات..
فبعد موت سليمان- عليه السلام- سنة 975 ق. م تقريبا، انقسمت مملكتهم إلى قسمين: مملكة يهوذا في الجنوب، ومملكة إسرائيل في الشمال، واستمرتا في صراع ونزاع حتى قضى الآشوريون سنة 721 ق. م على مملكة إسرائيل، وقضى «بختنصر» على مملكة يهوذا سنة 588 ق. م.
4- ذكر بعض المفسرين أن العباد الذين سلطهم الله عليهم بعد إفسادهم الأول هم جالوت وجنوده.
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس في قوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: بعث الله عليهم في الأولى جالوت، فجاس خلال ديارهم، فسألوا الله- تعالى- أن يبعث لهم ملكا، فبعث لهم طالوت، فقاتلوا جالوت، وانتصروا عليه، وقتل داود جالوت، ورجع إلى بنى إسرائيل ملكهم. فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرة الآخرة «بختنصر» فخرب المساجد، وتبر ما علوا تتبيرا.. .
هذه بعض الأدلة التي تجعلنا نرجح أن المراد بالعباد الذين سلطهم الله- تعالى- على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول في الأرض، هم جالوت وجنوده.
أما العباد الذين سلطهم الله عليهم بعد إفسادهم الثاني، فيرى كثير من المفسرين أنهم «بختنصر» وجنوده.
وهذا الرأى ليس ببعيد عن الصواب، لما ذكرنا قبل ذلك من تنكيله بهم، وسوقهم أسارى إلى بابل سنة 588 ق. م.
إلا أننا نؤثر على هذا الرأى، أن يكون المسلط عليهم بعد إفسادهم الثاني، هم الرومان بقيادة زعيمهم، تيطس سنة 70 م. لأمور من أهمها:.
1- أن الذي يتتبع التاريخ يرى أن رذائل بنى إسرائيل في الفترة التي سبقت تنكيل «تبطس» بهم، أشد وأكبر من الرذائل التي سبقت إذلال «بختنصر» لهم. فهم- على سبيل المثال- قبيل بطش الرومان بهم، كانوا قد قتلوا من أنبياء الله زكريا ويحيى- عليهما السلام-، وكانوا قد حاولوا قتل عيسى- عليه السلام- ولكن الله- تعالى- نجاه من شرورهم.
2- ضربات الرومان- في ذاتها- كانت أشد وأقسى على بنى إسرائيل. من ضربات «بختنصر» لهم.
فمثلا عدد القتلى من اليهود على يد الرومان بقيادة «تيطس» بلغ مليون قتيل، وبلغ عدد الأسرى نحو مائة ألف أسير .
بينما عدد القتلى والأسرى منهم على يد «بختنصر» كان أقل من هذا العدد بكثير.
ولقد وصف المؤرخون النكبة التي أوقعها الرومان بهم، بأوصاف تفوق بكثير ما أوقعه البابليون بقيادة بختنصر بهم.
يقول أحد الكتاب واصفا ما حل باليهود على يد «تيطس» الرومانى: كان «تيطس» في الثلاثين من عمره، حين وقف سنة 70 م أمام أسوار أورشليم على رأس جيشه، بعد أن بدأت المدينة تعانى من أهوال الحصار.
وبعد أن اقتحم «تيطس» وجنوده المدينة، أصدر أمره إليهم: أن احرقوا وانهبوا واقتلوا، فأموال اليهود وأعراضهم حلال لكم، وقد أحرق الرومان معبد اليهود ودمروه، وتحققت نبوءة المسيح- عليه السلام- حين قال: ستلقى هذه الأرض بؤسا وعنتا، وسيحل الغضب على أهلها، وسيسقطون صرعى على حد السيف، ويسيرون عبيدا إلى كل مصر، وستطأ أورشليم الأقدام .
3- النكبة التي أنزلها الرومان بهم- من حيث آثارها- أشنع بكثير من النكبة التي أنزلها بختنصر بهم. لأنهم بعد تنكيل بختنصر بهم وأخذهم أسرى إلى بلاده وبقائهم في الأسر زهاء خمسين سنة عادوا إلى ديارهم مرة أخرى، بمساعدة «قورش» ملك الفرس، الذي انتصر على «بختنصر» سنة 538 ق. م تقريبا، وبدءوا يتكاثرون من جديد.
أما بعد تنكيل «تيطس» بهم فلم تقم لهم قائمة، ومزقوا في الأرض شر ممزق، وانقطع دابرهم كأمة.
وقد صرح بهذا المعنى صاحب تاريخ الإسرائيليين فقال بعد وصفه لما أوقعه «تيطس» بهم من ضربات: إلى هنا ينتهى تاريخ الإسرائيليين كأمة، فإنهم بعد خراب أورشليم على يد «تيطس» تفرقوا في جميع بلاد الله، وتاريخهم بعد ذلك ملحق بتاريخ الممالك التي توطنوها أو نزلوا فيها ...
ولهذه الأسباب نرجح أن يكون العباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الثاني في الأرض، هم الرومان بقيادة «تيطس» .
هذا، ومع ترجيحنا بأن المسلط عليهم في المرة الأولى، هم جالوت وجنوده وفي المرة الثانية هم الرومان بقيادة «تيطس» .
أقول مع ترجيحنا لذلك، إلا أننا نحب في نهاية حديثنا عن هذه الآيات الكريمة، أن نقرر ما يأتى:
1- أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث في بيان المراد بالعباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل عقب مرتى إفسادهم، وإلا لذكره المفسرون.
2- أن الإفساد في الأرض قد حدث كثيرا من بنى إسرائيل، وأن المقصود من قوله- تعالى- لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ إنما هو أظهر وأبرز مرتين حدث فيهما الإفساد منهم.
ومما يدل على أن هذا الإفساد قد تكرر منهم قوله- تعالى-: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وقوله- تعالى-: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ .
3- أن المقصود من سياق الآيات، إنما هو بيان سنة من سنن الله في الأمم حال صلاحها وفسادها.
وقد ساق القرآن الكريم هذا المعنى بأحكم عبارة، وذلك في قوله- تعالى-: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها.
ولا شك أن هذه السنة ماضية في الأمم دون تبديل أو تحويل في كل زمان ومكان.
وما دام هذا هو المقصود، ففهمه لا يتوقف على تحديد مرتى إفسادهم، وتحديد المسلط عليهم عقب كل مرة.
ويعجبني في هذا المقام، قول الإمام ابن كثير: «وقد وردت في هذا- أى في المسلط عليهم في المرتين- آثار كثيرة إسرائيلية، لم أر تطويل الكتاب بذكرها، لأن منها ما هو موضوع من وضع زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم.
وقد أخبر الله- تعالى- أنهم لما بغوا وطغوا سلط عليهم عدوهم، فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء» .
وقول الإمام الرازي: «واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي. سلط عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم» .
وقد بسطنا في تفسير هذه الآيات الكريمة، بصورة أكثر تفصيلا في غير هذا المكان، فليرجع إليه من شاء الاستزادة .
وبعد أن بين- سبحانه- أنه قد آتى موسى- عليه السلام- التوراة لتكون هداية لبنى إسرائيل، وأنه- عز وجل- قد قضى فيهم بقضائه العادل. أتبع ذلك بالثناء على القرآن الكريم، فقال- تعالى-:
(عسى ربكم أن يرحمكم ) أي : فيصرفهم عنكم ( وإن عدتم عدنا ) أي : متى عدتم إلى الإفساد ) عدنا ) إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال ؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) أي : مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه .
قال ابن عباس [ رضي الله عنهما ] : ( حصيرا ) أي : سجنا .
وقال مجاهد : يحصرون فيها . وكذا قال غيره .
وقال الحسن : فراش ومهاد .
وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل ، فسلط الله عليهم هذا الحي - محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
يقول تعالى ذكره: لعلّ ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة، فيستنقذكم من أيديهم، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها، فيعزّكم بعد ذلك، وعسى من الله: واجب، وفعل الله ذلك بهم، فكثر عددهم بعد ذلك، ورفع خَساستهم، وجعل منهم الملوك والأنبياء، فقال جلّ ثناؤه لهم: وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري، وقتل رسلي، عدنا عليكم بالقتل والسِّباء، وإحلال الذلّ والصِّغار بكم، فعادوا، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن عمر بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله ( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) قال: عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد. قال: فسلَّط الله عليهم ثلاثة ملوك من ملوك فارس: سندبادان وشهربادان وآخر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة ( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) قال: فعادوا فسلَّط الله عليهم المؤمنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال ( ) فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال: عاد القوم بشرّ ما يحضرهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته، ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة؛ قال الله عزّ وجلّ في آية أخرى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .... الآية، فبعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال ( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) فعادوا، فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى ( ) قال بعد هذا(وَإِنْ عُدْتُمْ) لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء (عُدْنا) إليكم بمثل هذا.
وقوله ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن مسعدة، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال: سجنا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال : ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول: جعل الله مأواهم فيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال: مَحْبِسا حَصُورا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول: سجنا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى (حَصِيرًا) قال: يحصرون فيها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال: يُحصرون فيها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) سجنا يسجنون فيها حصروا فيها.
حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول: سجنا.
وقال آخرون: معناه : وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال : قال الحسن: الحصير: فِراش ومِهاد، وذهب الحسن بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يُبْسط ويفترش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، فوجَّه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا، كما قال لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وهو وجه حسن وتأويل صحيح، وأما الآخرون، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس. وقد بيَّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة، وقد تسمي العرب الملك حصيرا
بمعنى أنه محصور: أي محجوب عن الناس، كما قال لبيد:
وَمَقاَمــةٍ غُلْــبِ الرّقــابِ كـأنَّهُمْ
جِــنٌّ لَـدَى بـابِ الحَـصِيرِ قِيـامُ (1)
يعني بالحصير: الملك، ويقال للبخيل: حصور وحصر: لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة، وحبسه إياه عن النفقة، كما قال الأخطل:
وشَــارِبٍ مُـرْبِحٍ بالكـأْسِ نـادَمَنِي
لا بــالحَصُورِ وَلا فِيهــا بِسَــوَّارِ (2)
ويروى: بسآر. ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه، واحتباسه إذا أراده. ومنه أيضا الحصور عن النساء لتعذّر ذلك عليه، وامتناعه من الجماع، وكذلك الحصر في الغائط: احتباسه عن الخروج، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفاظه. فأما الحصيران: فالجنبان، كما قال الطرمّاح:
قَلِيــلا تَتَـلَّى حاجَـةً ثُـمَّ عُـولِيَتْ
عَـلى كُـلّ مَفْـرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ (3)
يعني بالحصيرين: الجنبيّن.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معنى ذلك ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) فراشا ومهادا لا يزايله من الحصير الذي بمعنى البساط، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الحبس والامتهاد، مع أن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بمعنى حبس شيء، فإنما تقول: هو له حاصر أو محصر، فأما الحصير فغير موجود في كلامهم، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به، فيكون في لفظ فعيل، ومعناه مفعول به، ألا ترى بيت لبيد: لدى باب الحصير؟ فقال: لدى باب الحصير، لأنه أراد: لدى باب المحصور، فصرف مفعولا إلى فعيل. فأما فعيل في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر . فذلك ما لا نجده في كلام العرب، فلذلك قلت: قول الحسن أولى بالصواب في ذلك، وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن ذلك جائز، ولا أعلم لما قال وجها يصحّ إلا بعيدا وهو أن يقال: جاء حصير بمعنى حاصر، كما قيل: عليم بمعنى عالم، وشهيد بمعنى شاهد، ولم يسمع ذلك مستعملا في الحاصر كما سمعنا في عالم وشاهد.
---------------------
الهوامش :
(1) البيت في (ديوان لبيد، طبع ليدن سنة 1891 ص 39) . والرواية فيه : "لدى طرف الحصير" . وروايته في (مجاز القرآن لأبي عبيدة ص 371) وفي (لسان العرب: قوم): كرواية المؤلف هنا. قالا: ويقال للملك حصير، لأنه محجوب. والمقامة والمقام المجلس، ومقامات الناس: مجالسهم والمقامة: السادة، والغلب: جمع أغلب، وصف من غلب غلبا (كفرح فرحا): إذا غلظت رقبته. وفي (اللسان: حصر) ذكر هذا الشاهد كرواية المؤلف مع وضع لفظة "وقماقم" في مكان: "ومقامة" وأشار إلى الرواية الأخرى. ثم قال: والحصير المحبس، وفي التنزيل: "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا" ، قال القتيبي: هو من حصرته، أي حبسته. فهو محصور، وهذا حصيره، أي محبسه .
(2) تقدم شرح هذا الشاهد في الجزء الثالث من هذا التفسير (ص 255).
(3) البيت في ديوان الطرماح بن حكيم (طبع ليدن سنة 1927 ص 164) وقتلى الشيء: تتبعه وتتلى أيضا: بقي بقية من دينه. وعوليت: ذهب بها إلى العالية ، وهي نجد والحصير سفيفة تصنع من بردي وأسل ثم تفرش.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه{ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي:أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره.
{ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} من الواجبات والسنن،{ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} أعده الله لهم في دار كرامته لا يعلم وصفه إلا هو.
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين، وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيتاء الكتاب لموسى- عليه السلام-، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة، ومعصيته توجب كل بلية وغرامة، لا جرم أثنى- سبحانه- على القرآن فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
والفعل يَهْدِي مأخوذ من الهداية، ومعناها: الإرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى البغية. والمفعول محذوف. أى: يهدى الناس.
وقوله- سبحانه- لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صفة لموصوف محذوف، أى يهدى الناس إلى الطريقة أو الملة التي هي أقوم.
قال صاحب الكشاف: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أى: للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها، أو للملة أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إيهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه .
والمعنى: إن هذا القرآن الكريم، الذي أنزله الله- تعالى- عليك يا محمد صلى الله عليه وسلم، يرشد الناس ويدلهم ويهديهم- في جميع شئونهم الدينية والدنيوية- إلى الملة التي هي أقوم الملل وأعدلها، وهي ملة الإسلام. فمنهم من يستجيب لهذه الهداية فيظفر بالسعادة، ومنهم من يعرض عنها فيبوء بالشقاء.
قال صاحب الظلال ما ملخصه: إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية، ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدى للتي هي أقوم، في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله.
ويهدى للتي هي أقوم في عالم العبادة، بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل، ولا تسهل حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدى للتي هي أقوم، في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا.
ويهدى للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع، ونظام التعامل.. .
وقوله- سبحانه-: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً صفة ثانية من صفات القرآن الكريم.
أى: أن هذا القرآن بجانب هدايته للتي هي أقوم، فهو- أيضا- يبشر المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات بأن لهم أجرا كبيرا من خالقهم- عز وجل-: أجرا كبيرا لا يعلم مقداره إلا مسديه ومانحه، وهو الله رب العالمين.
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ، بأنه يهدي لأقوم الطرق ، وأوضح السبل ( ويبشر المؤمنين ) به ( الذين يعملون الصالحات ) على مقتضاه ( أن لهم أجرا كبيرا ) أي : يوم القيامة .
يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن الذي أنـزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدّد من اهتدى به (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) يقول: للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل ، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام، يقول جلّ ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: التي هي أصوب: هو الصواب وهو الحقّ؛ قال: والمخالف هو الباطل. وقرأ قول الله تعالى فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ قال: فيها الحقّ ليس فيها عوج. وقرأ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا يقول: قيما مستقيما.
وقوله (وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ) يقول: ويبشر أيضا مع هدايته من اهتدى به للسبيل الأقصد الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويعملون في دنياهم بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم عنه بأن (لَهُمْ أجْرًا) من الله على إيمانهم وعملهم الصالحات ( كَبِيرًا ) يعني ثوابا عظيما، وجزاء جزيلا وذلك هو الجنة التي أعدّها الله تعالى لمن رضي عمله.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) قال: الجنة، وكلّ شيء في القرآن أجر كبير، أجر كريم، ورزق كريم فهو الجنة،
وأن في قوله ( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) نصب بوقوع البشارة عليها، وأن الثانية معطوفة عليها.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الإسراء: 9 | ﴿إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ |
---|
الكهف: 2 | ﴿قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
ويبشر:
1- بالتشديد، مضارع «بشر» المشدد، وهى قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- يبشر، مضارع «بشر» المخفف، وهى قراءة عبد الله، وطلحة، وابن وثاب، والأخوين.
التفسير :
{ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فالقرآن مشتمل على البشارة والنذارة وذكر الأسباب التي تنال بها البشارة وهو الإيمان والعمل الصالح والتي تستحق بها النذارة وهو ضد ذلك.
وقوله- سبحانه-: وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً بيان لسوء عاقبة الذين لا يستجيبون لهداية القرآن الكريم، وهو معطوف على قوله- تعالى-:
أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً.
أى: أن هذا القرآن يبشر المؤمنين بالأجر الكبير، ويبشر- على سبيل التهكم- الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب بالعذاب الأليم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وتخصيص الآخرة بالذكر من بين سائر ما لم يؤمن به الكفرة، لكونها أعظم ما أمروا بالإيمان به، ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها، الذي أنبأ عنه قوله- تعالى-: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب جهنم. أى: أعددنا وهيأنا لهم، فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا أليما.
والآية معطوفة على قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً فيكون إعداد العذاب الأليم للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين، ومصيبة العدو سرور يبشر به، فكأنه قيل: يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم.. .
ثم بين- سبحانه- بعض الأحوال التي قد يقدم الإنسان فيها على طلب ما يضره بسبب عجلته واندفاعه فقال- تعالى-:.
( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ) أي : ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن ( لهم عذابا أليما ) أي : يوم القيامة ، كما قال تعالى : ( فبشرهم بعذاب أليم ) [ آل عمران : 21 ] .
وقوله ( وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) يقول تعالى ذكره:
وأن الذين لا يصدّقون بالمعاد إلى الله، ولا يقرّون بالثواب والعقاب في الدنيا، فهم لذلك لا يتحاشون من ركوب معاصي الله (أَعْتَدْنَا لَهُمْ) يقول: أعددنا لهم، لقدومهم على ربهم يوم القيامة (عَذَابًا أَلِيما) يعني موجعا، وذلك عذاب جهنم.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
النساء: 18 | ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ |
---|
الإسراء: 10 | ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله -بلطفه- يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر.{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}
والمراد بالإنسان هنا: الجنس وليس واحدا معينا.
قال الآلوسى: وقوله: دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أى: دعاء كدعائه بالخير، فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية .
والمعنى: ويدعو الإنسان حال غضبه وضجره، على نفسه، أو على غيره، بِالشَّرِّ كأن يقول: «اللهم أهلكنى، أو أهلك فلانا..» .
دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أى: يدعو بالشر على نفسه أو على غيره، كدعائه بالخير، كأن يقول: اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين.
قال ابن كثير: يخبر- تعالى- عن عجلة الإنسان، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده، أو ماله، بِالشَّرِّ أى: بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال- تعالى-:.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ...
وفي الحديث: «لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها» .
وقيل المراد بالإنسان هنا: الكافر، أو الفاسق الذي يدعو الله- تعالى- بالشر، كأن يسأله بأن ييسر له أمرا محرما كالقتل والسرقة والزنا وما يشبه ذلك.
وقد أشار القرطبي إلى هذا الوجه بقوله: «وقيل نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول- كما حكى القرآن عنه-: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور، كما يدعو في طلب المباح. كما في قول الشاعر:
أطوف بالبيت فيمن يطوف ... وأرفع من مئزرى المسبل
واسجل بالليل حتى الصباح ... وأتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الهم عن يوسف ... يسخر لي ربة المحمل
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأنه المأثور عن بعض الصحابة والتابعين وهم أدرى بتفسير كتاب الله من غيرهم.
قال ابن جرير- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: عن ابن عباس قال في قوله- تعالى-: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ.. يعنى قول الإنسان اللهم العنه واغضب عليه، فلو يعجل له الله ذلك كما يعجل له الخير لهلك ...
وقال قتادة: يدعو على ماله فيلعن ماله، ويدعو على ولده، ولو استجاب الله له لأهلكه.
وقال مجاهد: ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته ولا يحب أن يجاب .
وقوله- تعالى-: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا بيان للسبب الذي حمل الإنسان على أن يدعو بالشر كما يدعو بالخير.
والعجول من العجل- بفتح العين والجيم- وهو الإسراع في طلب الشيء قبل وقته.
يقال: عجل- بزنة تعب- يعجل فهو عجلان، إذا أسرع.
أى: وكان الإنسان متسرعا في طلب كل ما يقع في قلبه، ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأنى المتبصر، ولا يتأمل تأمل المتدبر.
وشبيه بهذه الجملة قوله- تعالى-: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ .
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله ) بالشر ) أي : بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه ، كما قال تعالى : ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) [ يونس : 11 ] ، وكذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقد تقدم في الحديث : " لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم ، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها " .
وإنما يحمل ابن آدم على ذلك عجلته وقلقه ؛ ولهذا قال تعالى ( وكان الإنسان عجولا )
وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس - رضي الله عنهما - هاهنا قصة آدم ، عليه السلام ، حين هم بالنهوض قائما قبل أن تصل الروح إلى رجليه ، وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه ، فلما وصلت إلى دماغه عطس ، فقال : الحمد لله . فقال الله : يرحمك ربك يا آدم . فلما وصلت إلى عينيه فتحهما ، فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه ويعجبه ، فهم بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع وقال : يا رب عجل قبل الليل .
يقول تعالى ذكره مذكرا عباده أياديه عندهم، ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشرّ، فيقول: اللهمّ أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه، كدعائه بالخير: يقول: كدعائه ربه بأن يهب له العافية، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده، يقول: فلو استجيب له في دعائه على نفسه وماله وولده بالشرّ كما يستجاب له في الخير هلك، ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله ( وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) يعني قول الإنسان: اللهمَّ العنه واغضب عليه، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجل له الخير، لهلك، قال: ويقال: هو وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا أن يكشف ما به من ضرّ، يقول تبارك وتعالى: لو أنه ذكرني وأطاعني، واتبع أمري عند الخير، كما يدعوني عند البلاء، كان خيرا له.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) يدعو على ماله، فيلعن ماله وولده، ولو استجاب الله له لأهلكه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ) قال: يدعو على نفسه بما لو استجيب له هلك، وعلى خادمه، أو على ماله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) قال: ذلك دعاء الإنسان بالشرّ على ولده وعلى امرأته، فيعجل: فيدعو عليه، ولا يحب أن يصيبه.
واختلف في تأويل قوله ( وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) فقال مجاهد ومن ذكرت قوله: معناه: وكان الإنسان عَجولا بالدعاء على ما يكره، أن يُستجاب له فيه.
وقال آخرون: عنى بذلك آدم أنه عجل حين نفخ فيه الروح قبل أن تجري في جميع جسده ، فرام النهوض، فوصف ولده بالاستعجال، لما كان من استعجال أبيهم آدم القيام، قبل أن يتمّ خلقه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شُعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، أن سلمان الفارسيّ، قال: أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يُخلق، قال: وبقيت رجلاه؛ فلما كان بعد العصر قال: يا ربّ عَجِّل قبل الليل، فذلك قوله ( وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ).
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك عن ابن عباس، قال: لما نفخ الله في آدم من روحه أتت النفخة من قبَل رأسه، فجعل لا يجرى شيء منها في جسده، إلا صار لحما ودما؛ فلما انتهت النفخة إلى سرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تبارك وتعالى ( وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) قال: ضَجِرا لا صبر له على سرّاء، ولا ضرّاء.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يقول تعالى:{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} أي:دالتين على كمال قدرة الله وسعة رحمته وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له.{ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} أي:جعلناه مظلما للسكون فيه والراحة،{ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي:مضيئة{ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في معايشكم وصنائعكم وتجاراتكم وأسفاركم.
{ وَلِتَعْلَمُوا} بتوالي الليل والنهار واختلاف القمر{ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فتبنون عليها ما تشاءون من مصالحكم.
{ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} أي:بينا الآيات وصرفناه لتتميز الأشياء ويستبين الحق من الباطل كما قال تعالى:{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته، وسعة رحمته بعباده، ومجازاتهم على أعمالهم يوم القيامة
قال أبو حيان: قوله- تعالى- وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. لما ذكر- سبحانه- القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة، ذكر ما أنعم به مما لم يمكن الانتفاع إلا به، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي. وأيضا لما ذكر عجلة الإنسان، وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك في الانتقال لا يثبت على حال، فنور عقب ظلمة وبالعكس، وازدياد نور وانتقاص آخر .
والمراد بالآيتين هنا: العلامتان الواضحتان، الدالتان على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته.
وقوله: فَمَحَوْنا من المحو بمعنى إزالة أثر الشيء، يقال: محا فلان الشيء محوا- من باب قتل- إذا أزال أثره.
وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهات: أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه، أن المراد بالآيتين: نفس الليل والنهار، وأن الكلام ليس فيه حذف.
فيكون المعنى: وجعلنا الليل والنهار- بهيئاتهما الثابتة، وتعاقبهما الدائم، واختلافهما طولا وقصرا- آيتين كونيتين كبيرتين، دالتين على أن لهما صانعا قادرا، حكيما، هو الله رب العالمين.
وقوله- سبحانه- فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أى: فجعلنا الآية التي هي الليل. ممحوة الضوء، مظلمة الهيئة، مختفية فيها الأشياء، ساكنة فيها الحركات.
وقوله- تعالى-: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أى: وجعلنا الآية التي هي النهار مضيئة، تبصر فيها الأشياء وترى بوضوح وجلاء.
وعلى هذا الاتجاه، تكون إضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه، مع اختلاف اللفظ، تنزيلا لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى، كما في قوله- تعالى- شَهْرُ رَمَضانَ فرمضان هو نفس الشهر.
وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الكلام على حذف مضاف، وأن المراد بالآيتين:
الشمس والقمر، فيكون المعنى: وجعلنا نيرى الليل والنهار- وهما الشمس والقمر- آيتين دالتين على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته، فمحونا آية الليل- وهي القمر-، بأن أزلنا عنه شعاعه وضياءه، ولم نجعله كالشمس في ذلك، وجعلنا آية النهار- وهي الشمس- مبصرة، أى: ذات شعاع وضياء يبصر في ضوئها الشيء على حقيقته.
وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين دون أن يرجح بينهما فقال: قوله- تعالى-:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. فيه وجهان: أحدهما: أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أى:
فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة.
والثاني: أن يراد: وجعلنا نيرى الليل والنار آيتين، يريد الشمس والقمر ...
أى: فمحونا آية الليل التي هي القمر، حيث لم نخلق له شعاعا كشعاع الشمس تبصر به الأشياء، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء .
والذي نراه: أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ولأنه لا يحتاج إلى تقدير، وما كان كذلك أولى مما يحتاج إلى تقدير، ولأن الليل والنهار هما بذاتهما من أظهر العلامات والأدلة على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته.
وهناك عشرات الآيات القرآنية في هذا المعنى، ومن ذلك قوله- تعالى- وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ .
وقوله- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... .
وقال- تعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي أوردها الله- تعالى- في هذا المعنى.
وقوله- سبحانه-: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ بيان لمظهر من مظاهر حكمته- تعالى- ورحمته بعباده.
والجملة الكريمة متعلقة بما قبلها، وهو قوله- سبحانه-: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أى: جعلنا النهار مضيئا، لتطلبوا فيه ما تحتاجونه من أمور معاشكم، ومن الأرزاق التي قسمها الله بينكم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وفي التعبير عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء: دلالة على أنه ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب، وإنما الإعطاء من الله- تعالى-
بطريق التفضل.. .
وشبيه بهذه الجملة الكريمة قوله- تعالى-: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
فقوله- تعالى-: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يعود إلى الليل. وقوله- تعالى-: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعود على النهار.
ثم بين- سبحانه- حكمة أخرى ونعمة أخرى لجعله الليل والنهار على هذه الهيئة فقال:
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.
أى: وجعلنا الليل والنهار على هذه الصفة من التعاقب والاختلاف في الطول والقصر لتعرفوا عن طريق ذلك عدد الأيام والشهور والأعوام، التي لا تستغنون عن معرفتها في شئون حياتكم، ولتعرفوا- أيضا- الحساب المتعلق بها في معاملاتكم، وبيعكم وشرائكم، وأخذكم وعطائكم، وصلاتكم، وصيامكم، وزكاتكم، وحجكم، وأعيادكم.. وغير ذلك مما تتوقف معرفته على تقلب الليل والنهار. وولوج أحدهما في الآخر.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا.
والتفصيل: من الفصل بمعنى القطع. والمراد به هنا: الإبانة التامة للشيء بحيث يظهر ظهورا لا خفاء معه ولا التباس.
ولفظ كُلَّ منصوب على الاشتغال بفعل يفسره ما بعده.
أى: وفصلنا كل شيء تحتاجون إليه في أمور دينكم ودنياكم، تفصيلا، واضحا جليا، لا خفاء معه ولا التباس، فقد أقمنا هذا الكون على التدبير المحكم، وعلى الصنع المتقن، وليس على المصادفات التي لا تخضع لنظام أو ترتيب.
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام ، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ، ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصناعات والأعمال والأسفار ، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك ؛ ولهذا قال : ( لتبتغوا فضلا من ربكم ) أي : في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك ( ولتعلموا عدد السنين والحساب ) فإنه لو كان الزمان كله نسقا واحدا وأسلوبا متساويا ؛ لما عرف شيء من ذلك ، كما قال تعالى : ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) [ القصص : 71 - 73 ] ، وقال تعالى : ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) [ الفرقان : 61 ، 62 ] وقال تعالى : ( وله اختلاف الليل والنهار ) [ المؤمنون : 80 ] ، وقال : ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ) [ الزمر : 5 ] ، وقال تعالى : ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ الأنعام : 96 ] ، وقال تعالى : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ) [ يس : 37 ، 38 ] .
ثم إنه تعالى جعل لليل آية ، أي : علامة يعرف بها وهي الظلام وظهور القمر فيه ، وللنهار علامة ، وهي النور وظهور الشمس النيرة فيه ، وفاوت بين ضياء القمر وبرهان الشمس ليعرف هذا من هذا ، كما قال تعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) إلى قوله : ( لآيات لقوم يتقون ) [ يونس : 5 ، 6 ] ، كما قال تعالى : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) الآية [ البقرة : 189 ] .
قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير في قوله : ( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) قال : ظلمة الليل وسدفة النهار .
وقال ابن جريج عن مجاهد : الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل ( فمحونا آية الليل ) قال : السواد الذي في القمر ، وكذلك خلقه الله تعالى .
وقال ابن جريج : قال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس ، والقمر آية الليل ، والشمس آية النهار ( فمحونا آية الليل ) السواد الذي في القمر .
وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة : أن ابن الكواء سأل [ أمير المؤمنين ] علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، ما هذه اللطخة التي في القمر ؟ فقال : ويحك أما تقرأ القرآن ؟ ( فمحونا آية الليل ) فهذه محوه .
وقال قتادة في قوله : ( فمحونا آية الليل ) كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه ، وجعلنا آية النهار مبصرة ، أي : منيرة ، خلق الشمس أنور من القمر وأعظم .
وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) قال : ليلا ونهارا ، كذلك خلقهما الله ، عز وجل .
يقول تعالى ذكره: ومن نعمته عليكم أيها الناس، مخالفته بين علامة الليل وعلامة النهار، بإظلامه علامة الليل، وإضاءته علامة النهار، لتسكنوا في هذا، وتتصرّفوا في ابتغاء رزق الله الذي قدره لكم بفضله في هذا، ولتعلموا باختلافهما عدد السنين وانقضاءها، وابتداء دخولها، وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ) يقول: وكلّ شيء بيناه بيانا شافيا لكم أيها الناس لتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من نعمه، وتخلصوا له العبادة، دون الآلهة والأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أبي الطُفيل، قال: قال ابن الكَوّاء (4) لعليّ: يا أمير المؤمنين، ما هذه اللَّطْخة التي في القمر؟ فقال: ويْحَك أما تقرأ القرآن (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ، فهذه محوه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق ، عن زائدة، عن عاصم، عن عليّ بن ربيعة، قال: سأل ابن الكوّاء عليا فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال عليّ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) هُوَ المَحْو.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عمر، قال: كنت عند عليّ، فسأله ابن الكَوّاء عن السواد الذي في القمر؟ فقال: ذاك آية الليل مُحِيت.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زُريع، قال: ثنا عمران بن حُدير، عن رفيع بن أبي كثير قال: قال عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: سَلُوا عما شئتم، فقام ابن الكوّاء فقال: ما السواد الذي في القمر، فقال: قاتلك الله، هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك؟ قال: ذلك مَحْو الليل.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ، قال: ثنا ابن عُفَير، قال: ثنا ابن لَهيعة، عن حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رجلا قال لعليّ: ما السواد الذي في القمر؟ قال: إن الله يقول ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ).
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ) قال: هو السواد بالليل.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار، فمحونا آية الليل: السواد الذي في القمر.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ذكر ابن جريج، عن مجاهد، في قوله ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ) قال: الشمس آية النهار، والقمر آية الليل (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) قال: السواد الذي في القمر، وكذلك خلقه الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ) قال: ليلا ونهارا، كذلك خلقهما الله، قال ابن جريج : وأخبرنا عبد الله بن كثير، قال ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) قال: ظلمة الليل وسدفة النهار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) : أي منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، ثنا عيسى، وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ) قال: ليلا ونهارا، كذلك جعلهما الله.
واختلف أهل العربية في معنى قوله ( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) فقال بعض نحويي الكوفة معناها: مضيئة، وكذلك قوله (والنَّهار مُبْصِرًا) معناه: مضيئا، كأنه ذهب إلى أنه قيل مبصرا، لإضاءته للناس البصر. وقال آخرون: بل هو من أبصر النهار: إذا صار الناس يبصرون فيه فهو مبصر، كقولهم: رجل مجبن: إذا كان أهله وأصحابه جبناء، ورجل مضعف: إذا كانت رواته ضعفاء، فكذلك النهار مبصرا: إذا كان أهله بصراء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) قال: جعل لكم سبحا طويلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ) : أي بيناه تبيينا.
---------------------
الهوامش :
(4) ابن الكواء: هو عبد الله بن الكواء الخارجي، أحد الذين كانوا مع علي في صفين، ثم فارقوه بعد التحكيم. فكان من زعماء الخوارج.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
يونس: 5 | ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ﴾ |
---|
الإسراء: 12 | ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
مبصره.
وقرئ:
مبصرة، بفتح الميم والصاد، وهو مصدر، أقيم مقام الاسم، وهى قراءة قتادة، وعلى بن الحسن.
التفسير :
وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه، أي:ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازما له لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله.{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} فيه ما عمله من الخير والشر حاضرا صغيره وكبيره
ثم ساق- سبحانه- صورة من صور هذا التفصيل المحكم في كل شيء فقال- تعالى-: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
والمراد بطائره: عمله الصادر عنه باختياره وكسبه، حسبما قدره الله- تعالى- عليه من خير وشر.
أى: وألزمنا كل إنسان مكلف عمله الناتج عنه، إلزاما لا فكاك له منه، ولا قدرة له على مفارقته.
وعبر- سبحانه- عن عمل الإنسان بطائره، لأن العرب كانوا- كما يقول الآلوسى- يتفاءلون بالطير، فإذا سافروا ومر بهم الطير زجروه، فإن مر بهم سانحا- أى من جهة الشمال إلى اليمين- تيمنوا وتفاءلوا، وإن مر بارحا، أى: من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير استعارة تصريحية، لما يشبههما من قدر الله- تعالى- وعمل العبد، لأنه سبب للخير والشر .
وقوله- سبحانه-: فِي عُنُقِهِ تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط بين الإنسان وعمله.
وخص- سبحانه- العنق بالذكر من بين سائر الأعضاء، لأن اللزوم فيه أشد، ولأنه العضو الذي تارة يكون عليه ما يزينه كالقلادة وما يشبهها، وتارة يكون فيه ما يشينه كالغل والقيد وما يشبههما.
قال الامام ابن كثير: وطائره: هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد- من خير أو شر، يلزم به ويجازى عليه: كما قال- تعالى-: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وكما قال- تعالى-: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه، قليله وكثيره: ويكتب عليه ليلا ونهارا، صباحا ومساء .
وقوله- سبحانه-: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً بيان لحاله في الآخرة بعد بيان حاله في الدنيا.
والمراد بالكتاب هنا صحائف أعماله التي سجلت عليه في الدنيا.
أى: ألزمنا كل إنسان مكلف عمله الصادر عنه في الدنيا، وجعلناه مسئولا عنه دون غيره. أما في الآخرة فسنخرج له ما عمله من خير أو شر «في كتاب يلقاه منشورا» أى:
مفتوحا بحيث يستطيع قراءته، ومكشوفا بحيث لا يملك إخفاء شيء منه، أو تجاهله، أو المغالطة فيه.
كتاب ظهرت فيه الخبايا والأسرار ظهورا يغنى عن الشهود والجدال.
كتاب مشتمل على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإنسان، كما قال- تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ .
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) وطائره : هو ما طار عنه من عمله ، كما قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : من خير وشر ، يلزم به ويجازى عليه ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 5 ، 6 ] ، وقال تعالى : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 17 ، 18 ] ، وقال تعالى : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) [ الانفطار : 10 - 14 ] ، قال : ( إنما تجزون ما كنتم تعملون ) [ الطور : 16 ] وقال : ( من يعمل سوءا يجز به ) [ النساء : 123 ] .
والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه ، قليله وكثيره ، ويكتب عليه ليلا ونهارا ، صباحا ومساء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبى الزبير ، عن جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لطائر كل إنسان في عنقه " . قال ابن لهيعة : يعني الطيرة .
وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث ، غريب جدا ، والله أعلم .
وقوله [ تعالى ] ( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) أي : نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة ، إما بيمينه إن كان سعيدا ، أو بشماله إن كان شقيا ) منشورا ) أي : مفتوحا يقرؤه هو وغيره ، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) [ القيامة : 13 - 15 ]
يقول تعالى ذكره: وكلّ إنسان ألزمناه ما قضى له أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه، وإنما قوله (ألْزَمْناهُ طائِرَهُ) مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها، فأعلمهم جلّ ثناؤه أن كلّ إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر، وشقاء يورده سعيرا، أو كان سعدا يورده جنات عدن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن بشار ، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا عَدْوَى وَلا طِيَرةَ وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَه فِي عُنُقِهِ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال: الطائر: عمله، قال: والطائر في أشياء كثيرة، فمنه التشاؤم الذي يتشاءم به الناس بعضهم من بعض.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قوله ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال: عمله وما قدر عليه، فهو ملازمه أينما كان، فزائل معه أينما زال. قال ابن جريج: وقال : طائره: عمله، قال: ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: عمله وما كتب الله له.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: طائره: عمله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو جميعا عن منصور، عن مجاهد ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال: عمله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال: ثنا ابن فضيل، عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقيّ أو سعيد. قال: وسمعته يقول: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، قال: هو ما سبق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) : إي والله بسعادته وشقائه بعمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: طائره: عمله.
فإن قال قائل: وكيف قال: ألزمناه طائره في عنقه إن كان الأمر على ما وصفت، ولم يقل: ألزمناه في يديه ورجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد؟ قيل: لأن العنق هو موضع السمات، وموضع القلائد والأطوقة، وغير ذلك مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة بني آدم وغيرهم من ذلك إلى أعناقهم وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه، وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه، فكذلك قوله ( أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) فقرأه بعض أهل المدينة ومكة، وهو نافع وابن كثير وعامة قرّاء العراق (ونُخْرِجُ) بالنون ( لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) بفتح الياء من يَلْقاه وتخفيف القاف منه، بمعنى: ونخرج له نحن يوم القيامة ردّا على قوله (ألْزَمْناهُ)، ونحن نخرج له يوم القيامة كتاب عمله منشورا، وكان بعض قرّاء أهل الشام يوافق هؤلاء على قراءة قوله (ونُخْرِجُ) ويخالفهم في قوله (يَلْقاهُ) فيقرؤه (ويُلَقَّاهُ) بضم الياء وتشديد القاف، بمعنى: ونخرج له نحن يوم القيامة كتابا يلقاه، ثم يردّه إلى ما لم يسمّ فاعله، فيقول: يلقى الإنسان ذلك الكتاب منشورا.
وذُكر عن مجاهد ما حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن جرير بن حازم عن حميد، عن مجاهد أنه قرأها(وَيخْرَجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا) قال: يزيد: يعني يخرج الطائر كتابا، هكذا أحسبه قرأها بفتح الياء، وهي قراءة الحسن البصري وابن محيصن؛ وكأن من قرأ هذه القراءة وجَّه تأويل الكلام إلى: ويخرج له الطائر الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القيامة، فيصير كتابا يقرؤه منشورا. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: (ويُخرَجُ لَهُ) بضم الياء على مذهب ما لم يسمّ فاعله، وكأنه وجَّه معنى الكلام إلى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا، يريد: ويخرج الله ذلك الطائر قد صيره كتابا، إلا أنه نحاه نحو ما لم يسمّ فاعله.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه (ونُخْرِجُ) بالنون وضمها( لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) بفتح الياء وتخفيف القاف، لأن الخبر جرى قبل ذلك عن الله تعالى أنه الذي ألزم خلقه ما ألزم من ذلك؛ فالصواب أن يكون الذي يليه خبرا عنه، أنه هو الذي يخرجه لهم يوم القيامة، أن يكون بالنون كما كان الخبر الذي قبله بالنون، وأما قوله (يَلقاهُ) فإنّ في إجماع الحجة من القرّاء على تصويب ما اخترنا من القراءة في ذلك، وشذوذ ما خالفه الحجة الكافية لنا على تقارب معنى القراءتين: أعني ضمّ الياء وفتحها في ذلك، وتشديد القاف وتخفيفها فيه؛ فإذا كان الصواب في القراءة هو ما اخترنا بالذي عليه دللنا، فتأويل الكلام: وكلّ إنسان منكم يا معشر بني آدم، ألزمناه نحسه وسعد، وشقاءه وسعادته، بما سبق له في علمنا أنه صائر إليه، وعامل من الخير والشرّ في عنقه، فلا يجاوز في شيء من أعماله ما قضينا عليه أنه عامله ، وما كتبنا له أنه صائر إليه، ونحن نخرج له إذا وافانا كتابا يصادفه منشورا بأعماله التي عملها في الدنيا، وبطائره الذي كتبنا له، وألزمناه إياه في عنقه، قد أحصى عليه ربه فيه كلّ ما سلف في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) قال: هو عمله الذي عمل أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل يلقاه منشورا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) : أي عمله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر ، عن قتادة ( أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال: عمله (ونُخْرِجُ لَهُ) قال : نخرج ذلك العمل (كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا) قال معمر: وتلا الحسن عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملَكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك. فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طُويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: طائره: عمله، ونخرج له بذلك العمل كتابا يلقاه منشورا.
وقد كان بعض أهل العربية يتأوّل قوله ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ): أي حظه من قولهم: طار سهم فلان بكذا: إذا خرج سهمه على نصيب من الأنصباء، وذلك وإن كان قولا له وجه، فإن تأويل أهل التأويل على ما قد بينت، وغير جائز أن يتجاوز في تأويل القرآن ما قالوه إلى غيره، على أن ما قاله هذا القائل، إن كان عنى بقوله حظه من العمل والشقاء والسعادة، فلم يبعد معنى قوله من معنى قولهم.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
طائر:
وقرئ:
طيره، وهى قراءة مجاهد، والحسن، وأبى رجاء.
فى عنقه:
وقرئ:
فى عنقه، بإسكان النون.
ونخرج:
1- بنون، وهى قراءة الجمهور، مضارع «أخرج» ، و «كتابا» بالنصب.
وقرئ:
1- يخرج، بالياء، مبنيا للمفعول، و «كتابا» بالنصب أي: ويخرج الطائر كتابا، وهى قراءة أبى جعفر.
2- على القراءة السابقة، و «كتاب» بالرفع، على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ورويت عن أبى جعفر أيضا.
3- ويخرج، بفتح الياء وضم الراء، و «كتابا» بالنصب أي: طائره كتابا، وهى قراءة ابن محيصن، ومجاهد.
4- على القراءة السابقة، «كتاب» بالرفع، على أنه فاعل، وهى قراءة الحسن.
يلقاه:
1- بفتح الياء وسكون اللام، وهى قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- يلقاه، بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، وهى قراءة ابن عامر، والجحدري، والحسن بخلاف عنه.
التفسير :
ويقال له:{ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد:حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
ثم بين- سبحانه- ما يخاطب به الإنسان بعد أن فتح كتابه أمامه، فقال- تعالى- اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً.
أى: ويقال له بعد أن وجد كتابه منشورا أمامه، اقرأ كتابك هذا، وما اشتمل عليه من أعمال صدرت عنك في الدنيا، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.
أى: محاسبا، كجليس بمعنى مجالس، أو حاسبا وعادّا كصريم بمعنى صارم يقال حسب فلان على فلان قوله، إذا عده عليه.
ولفظ كَفى هنا لازم، ويطرد في هذه الحالة جر فاعله بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية و «حسيبا» تمييز، وعليك متعلق به.
وتارة يأتى لفظ «كفى» متعديا، كما في قوله- تعالى-: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ.
ولهذا قال تعالى : ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) أي : إنك تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك غير ما عملت ؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك ، ولا ينسى أحد شيئا مما كان منه ، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي .
وقوله [ تعالى ] ( ألزمناه طائره في عنقه ) إنما ذكر العنق ؛ لأنه عضو لا نظير له في الجسد ، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه ، كما قال الشاعر : .
اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامة
قال قتادة ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا عدوى ولا طيرة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " . كذا رواه ابن جرير .
وقد رواه الإمام عبد بن حميد ، رحمه الله ، في مسنده متصلا فقال : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر [ رضي الله عنه ] قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " طير كل عبد في عنقه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني يزيد : أن أبا الخير حدثه : أنه سمع عقبة بن عامر [ رضي الله عنه ] يحدث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه ، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة : يا ربنا ، عبدك فلان ، قد حبسته ؟ فيقول الرب جل جلاله : اختموا له على مثل عمله ، حتى يبرأ أو يموت " .
إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه .
وقال معمر ، عن قتادة : ( ألزمناه طائره في عنقه ) قال : عمله . ( ونخرج له يوم القيامة ) قال : نخرج ذلك العمل ( كتابا يلقاه منشورا ) قال معمر : وتلا الحسن البصري ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) [ ق : 17 ] يا ابن آدم ، بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) قد عدل - والله - عليك من جعلك حسيب نفسك .
هذا من حسن كلام الحسن ، رحمه الله .
يقول تعالى ذكره: (ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا) فيقال له ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) فترك ذكر قوله: فنقول له، اكتفاء بدلالة الكلام عليه. وعنى بقوله (اقرأْ كِتابَكَ) : اقرأ كتاب عملك الذي عملته في الدنيا، الذي كان كاتبانا يكتبانه، ونحصيه عليك ( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) يقول: حسبك اليوم نفسك عليك حاسبا يحسب عليك أعمالك، فيحصيها عليك، لا نبتغي عليك شاهدا غيرها، ولا نطلب عليك محصيا سواها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
أي:هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة.
وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
واستدل بهذه الآية على أن أهل الفترات وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله حتى يبعث إليهم رسولا لأنه منزه عن الظلم.
ثم ساق- سبحانه- قاعدة كلية، لتحمل كل إنسان نتيجة عمله، فقال- تعالى-:
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
والفعل تَزِرُ من الوزر بمعنى الإثم والحمل والثقل. يقال: وزر يزر وزرا، أى:
أثم، أو حمل حملا ثقيلا، ومنه سمى الوزير، لأنه يحمل أعباء تدبير شئون الدولة.
أى: من اهتدى إلى الطريق المستقيم، وقدم في حياته العمل الصالح فثمرة هدايته راجعة إلى نفسه، ومن ضل عن الطريق القويم، وفسق عن أمر ربه فوبال ضلاله راجع إليه وحده، ولا تحمل نفس آثمة، إثم نفس أخرى، وإنما تسأل كل نفس عن آثامها فحسب.
وقد تكرر هذا المعنى في كثير من آيات القرآن الكريم ومن ذلك قوله- تعالى-:
وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى .
وقوله- تعالى-: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. .
ولا يتنافى هذا مع قوله- تعالى-: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ.. .
وقوله- تعالى-: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. .
لأن المقصود في هاتين الآيتين وأشباههما، أن دعاة الكفر والفسوق والعصيان، يحملون ذنوبهم يوم القيامة، ويحملون فوق ذلك جانبا من ذنوب من كانوا هم سببا في ضلالهم، لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها- كما جاء في الحديث الصحيح- فهم يحملون آثام أنفسهم، والآثام التي كانوا سببا في ارتكاب غيرهم لها.
كذلك لا يتنافى قوله- تعالى-: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى مع ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما من «أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه..» .
لأن العلماء حملوا الحديث على أن يكون الميت قد أوصى بذلك قبل موته، أو أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه ويشقون الجيوب، ويلطمون الخدود.. فتعذيبه بسبب تفريطه، وعدم تنفيذه لقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ.. .
وقوله- تعالى-: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله- تعالى- بعباده- ورأفته بهم، وكرمه معهم.
قال الآلوسى: قوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا بيان للعناية الربانية إثر بيان آثار الهداية والضلالة بأصحابها، وعدم حرمان المهتدى من ثمرات هدايته. وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها.
أى: وما صح وما استقام منا، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة.. أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا، على فعل شيء أو ترك شيء أصليا كان أو فرعيا، حتى نبعث إليه رَسُولًا يهدى إلى الحق، ويردع عن الضلال، ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع.. .
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم، تشبه هذه الآية، في بيان أن الله- تعالى- لا يعذب أحدا من خلقه، حتى يبعث إليه رسولا يبشره وينذره، فيعصى ذلك الرسول، ويستمر في كفره وضلاله بعد التبشير والإنذار.
ومن هذه الآيات قوله- تعالى-: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً .
وقوله- تعالى-: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى .
وقوله- تعالى-: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ.. .
قال ابن كثير عند تفسيره لقوله- تعالى-: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا:
هذا إخبار عن عدله- تعالى- وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، بإرسال الرسول إليه، كما قال- تعالى-: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ...
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله- تعالى- لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.. .
هذا، وما ذهب إليه الإمام ابن كثير، والإمام الآلوسى، من أن الله- تعالى- اقتضت رحمته وعدالته، أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، عن طريق إرسال الرسل، هو الذي نعتقده، وتطمئن إليه نفوسنا، لأنه هو الظاهر من معاني الآيات الكريمة، ولأنه هو المناسب لرحمة الله- تعالى- التي وسعت كل شيء.
وهناك من يرى أن من مات على الكفر فهو في النار، ولو لم يرسل الله- تعالى- إليه رسولا، واستدلوا بأدلة لا مجال لذكرها هنا .
ثم ساق- سبحانه- سنة من سننه في إهلاك الأمم، وفي حال الذين يريدون العاجلة، وحال الذين يريدون الآجلة، فقال- تعالى-:
يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى آثار النبوة ، فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه ) ومن ضل ) أي : عن الحق ، وزاغ عن سبيل الرشاد ، فإنما يجني على نفسه ، وإنما يعود وبال ذلك عليه .
ثم قال : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) أي : لا يحمل أحد ذنب أحد ، ولا يجني جان إلا على نفسه ، كما قال تعالى : ( وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ) [ فاطر : 18 ] .
ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) [ العنكبوت : 13 ] ، وقوله [ تعالى ] ( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) [ النحل : 25 ] ، فإن الدعاة عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم ، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك ، ولا يحملوا عنهم شيئا . وهذا من عدل الله ورحمته بعباده .
وكذا قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) إخبار عن عدله تعالى ، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه ، كما قال تعالى : ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ) [ الملك : 8 ، 9 ] ، وكذا قوله [ تعالى ] : ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ) [ الزمر : 71 ] ، وقال تعالى : ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ) [ فاطر : 37 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه ، ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت مقحمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى : ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) [ الأعراف : 56 ] .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح بن كيسان ، عن الأعرج بإسناده إلى أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اختصمت الجنة والنار " فذكر الحديث إلى أن قال : " وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأنه ينشئ للنار خلقا فيلقون فيها ، فتقول : هل من مزيد ؟ ثلاثا ، وذكر تمام الحديث .
فإن هذا إنما جاء في الجنة لأنها دار فضل ، وأما النار فإنها دار عدل ، لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه . وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا : لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري من حديث عبد الرزاق عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تحاجت الجنة والنار " فذكر الحديث إلى أن قال : " فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه ، فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا " .
بقي هاهنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها ، قديما وحديثا ، وهي : الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ، ماذا حكمهم ؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ، ومن مات في الفترة ولم تبلغه الدعوة . وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا ذاكرها لك بعون الله [ تعالى ] وتوفيقه ثم نذكر فصلا ملخصا من كلام الأئمة في ذلك ، والله المستعان .
فالحديث الأول : عن الأسود بن سريع :
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الأحنف بن قيس ، عن الأسود بن سريع [ رضي الله عنه ] أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب ، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : رب ، قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ، ما أتاني لك رسول . فيأخذ مواثيقهم ليطعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " .
وبالإسناد عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبى هريرة ، مثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره : " من دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن لم يدخلها يسحب إليها " .
وكذا رواه إسحاق بن راهويه ، عن معاذ بن هشام ، ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد ، من حديث حنبل بن إسحاق ، عن علي بن عبد الله المديني ، به وقال : هذا إسناد صحيح ، وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعة كلهم يدلي على الله بحجة " فذكر نحوه .
ورواه ابن جرير ، من حديث معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، فذكره موقوفا ، ثم قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) .
وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة موقوفا .
الحديث الثاني : عن أنس بن مالك :
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الربيع ، عن يزيد بن أبان قال : قلنا لأنس : يا أبا حمزة ، ما تقول في أطفال المشركين ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يكن لهم سيئات فيعذبوا بها فيكونوا من أهل النار ، ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من ملوك أهل الجنة هم من خدم أهل الجنة " .
الحديث الثالث : عن أنس أيضا :
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن عبد الوارث ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بأربعة يوم القيامة : بالمولود ، والمعتوه ، ومن مات في الفترة ، والشيخ الفاني الهرم ، كلهم يتكلم بحجته ، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار : ابرز . ويقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه . قال : فيقول من كتب عليه الشقاء : يا رب ، أنى ندخلها ومنها كنا نفر ؟ قال : ومن كتبت عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا ، قال : فيقول الله تعالى : أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة ، وهؤلاء النار " .
وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن يوسف بن موسى ، عن جرير بن عبد الحميد ، بإسناده مثله .
الحديث الرابع : عن البراء بن عازب ، رضي الله عنه :
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضا : حدثنا قاسم بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله .
- يعني ابن داود - عن عمر بن ذر ، عن يزيد بن أمية ، عن البراء قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين قال : " هم مع آبائهم " . وسئل عن أولاد المشركين فقال : " هم مع آبائهم " . فقيل : يا رسول الله ، ما يعملون ؟ قال : " الله أعلم بهم " .
ورواه عمر بن ذر ، عن يزيد بن أمية ، عن رجل ، عن البراء ، عن عائشة ، فذكره .
الحديث الخامس : عن ثوبان :
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا ريحان بن سعيد ، حدثنا عباد بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم شأن المسألة ، قال : " إذا كان يوم القيامة ، جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم ، فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر ، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك ، فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني ؟ فيقولون : نعم ، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها ، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا ، فرجعوا إلى ربهم فيقولون : ربنا أخرجنا - أو : أجرنا - منها ، فيقول لهم : ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني ؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم . فيقول : اعمدوا إليها ، فادخلوها .
فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا ، فقالوا : ربنا فرقنا منها ، ولا نستطيع أن ندخلها فيقول : ادخلوها داخرين " . فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما " . ثم قال البزار : ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه ، لم يروه عن أيوب إلا عباد ، ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد .
قلت : وقد ذكره ابن حبان في ثقاته ، وقال يحيى بن معين والنسائي : لا بأس به ، ولم يرضه أبو داود . وقال أبو حاتم : شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به .
الحديث السادس : عن أبي سعيد - سعد بن مالك بن سنان الخدري :
قال الإمام محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الهالك في الفترة والمعتوه والمولود ، يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب ، ويقول المعتوه : رب ، لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، ويقول المولود : رب لم أدرك العقل فترفع لهم نار فيقال لهم : ردوها " ، قال : فيردها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، فيقول : إياي عصيتم ، فكيف لو أن رسلي أتتكم ؟ " .
وكذا رواه البزار ، عن محمد بن عمر بن هياج الكوفي ، عن عبيد الله بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، به ثم قال : لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه ، عن عطية عنه ، وقال في آخره : " فيقول الله : إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب ؟ "
الحديث السابع : عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه :
قال هشام بن عمار ومحمد بن المبارك الصوري حدثنا عمر بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن معاذ بن جبل ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة ، وبالهالك صغيرا . فيقول الممسوخ : يا رب ، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني - وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك - فيقول الرب عز وجل : إني آمركم بأمر فتطيعوني ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : اذهبوا فادخلوا النار - قال : ولو دخلوها ما ضرتهم - فتخرج عليهم قوابص ، فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء ، فيرجعون سراعا ، ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ، فيقول الرب عز وجل : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، وعلى علمي خلقتكم ، وإلى علمي تصيرون ، ضميهم ، فتأخذهم النار " .
الحديث الثامن : عن أبي هريرة ، رضي الله عنه :
قد تقدم ، روايته مندرجة مع رواية الأسود بن سريع ، رضي الله عنه :
وفي الصحيحين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " .
وفي رواية قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " . وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، عن عطاء بن قرة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما أعلم ، شك موسى - قال : " ذراري المسلمين في الجنة ، يكفلهم إبراهيم عليه السلام " .
وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الله - عز وجل - أنه قال : " إني خلقت عبادي حنفاء " وفي رواية لغيره " مسلمين " .
الحديث التاسع : عن سمرة ، رضي الله عنه :
رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه " المستخرج على البخاري " من حديث عوف الأعرابي ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن سمرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مولود يولد على الفطرة " فناداه الناس : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ قال : " وأولاد المشركين " .
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مكرم الضبي ، عن عيسى بن شعيب ، عن عباد بن منصور ، عن أبي رجاء ، عن سمرة قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال : " هم خدم أهل الجنة " .
الحديث العاشر : عن عم حسناء .
قال [ الإمام ] أحمد : [ حدثنا إسحاق ، يعني الأزرق ] ، أخبرنا روح ، حدثنا عوف ، عن حسناء بنت معاوية من بني صريم قالت : حدثني عمي قال : قلت : يا رسول الله ، من في الجنة ؟ قال : " النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والوئيد في الجنة " .
فمن العلماء من ذهب إلى التوقف فيهم لهذا الحديث ، ومنهم من جزم لهم بالجنة ، لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري : أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام ، حين مر على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان ، فقال له جبريل : هذا إبراهيم ، عليه السلام ، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، قالوا : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ . قال " نعم ، وأولاد المشركين " .
ومنهم من جزم لهم بالنار ، لقوله عليه السلام : " هم مع آبائهم " .
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات ، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة ، ومن عصى دخل النار داخرا ، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة .
وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها ، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض . وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، رحمه الله ، عن أهل السنة والجماعة ، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في " كتاب الاعتقاد " وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد .
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان ، ثم قال : وأحاديث هذا الباب ليست قوية ، ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها ؛ لأن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء ، فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين ، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ؟ !
والجواب عما قال أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح ، كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن . وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها ، وأما قوله : " إن الآخرة دار جزاء " . فلا شك أنها دار جزاء ، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار ، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة ، من امتحان الأطفال ، وقد قال الله تعالى : ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود ) [ ن : 42 ] وقد ثبتت السنة في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة ، وأما المنافق فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقا واحدا كلما أراد السجود خر لقفاه .
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه ، ويتكرر ذلك مرارا ، ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ، ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة .
وأما قوله : " وكيف يكلفهم دخول النار ، وليس ذلك في وسعهم ؟ " فليس هذا بمانع من صحة الحديث ، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط ، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة ، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم ، كالبرق ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب ، ومنهم الساعي ومنهم الماشي ، ومنهم من يحبو حبوا ، ومنهم المكدوش على وجهه في النار ، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم ، وأيضا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار ، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار ، فإنه يكون عليه بردا وسلاما ، فهذا نظير ذلك ، وأيضا فإن الله تعالى [ قد ] أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا ، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم ، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ، وهذا أيضا شاق على النفوس جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور ، والله أعلم .
فصل
فإذا تقرر هذا ، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال :
أحدها : أنهم في الجنة ، واحتجوا بحديث سمرة أنه ، عليه السلام رأى مع إبراهيم أولاد المسلمين وأولاد المشركين وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والمولود في الجنة " . وهذا استدلال صحيح ، ولكن أحاديث الامتحان أخص منه . فمن علم الله [ عز وجل ] منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة ، ومن علم منه أنه لا يجيب ، فأمره إلى الله تعالى ، ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الامتحان ، ونقله الأشعري عن أهل السنة [ والجماعة ] ثم من هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة من يجعلهم مستقلين فيها ، ومنهم من يجعلهم خدما لهم ، كما جاء في حديث علي بن زيد ، عن أنس ، عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف ، والله أعلم .
القول الثاني : أنهم مع آبائهم في النار ، واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب ، حدثني عبد الله بن أبى قيس مولى غطيف ، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم تبع لآبائهم " . فقلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .
وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب ، عن محمد بن زياد الألهاني ، سمعت عبد الله بن أبي قيس سمعت ، عائشة تقول : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين قال : " هم من آبائهم " . قلت : فذراري المشركين ؟ قال : " هم مع آبائهم " قلت : بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .
ورواه [ الإمام ] أحمد أيضا ، عن وكيع ، عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل - وهو متروك - عن مولاته بهية عن عائشة ؛ أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أطفال المشركين فقال : " إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار " .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن فضيل بن غزوان ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان عن علي - رضي الله عنه - قال : سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال : " هما في النار " . قال : فلما رأى الكراهية في وجهها [ قال ] لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " . قالت : فولدي منك ؟ قال : [ قال : " في الجنة " . قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] .
" إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " ثم قرأ : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) [ الطور : 21 ] .
وهذا حديث غريب ؛ فإن محمد بن عثمان هذا مجهول الحال ، وشيخه زاذان لم يدرك عليا ، والله أعلم .
وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة ، عن أبيه ، عن الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوائدة والموءودة في النار " . ثم قال الشعبي : حدثني به علقمة ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود .
وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال : أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا : إن أمنا ماتت في الجاهلية ، وكانت تقري الضيف وتصل الرحم ، وأنها وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث . فقال : " الوائدة والموءودة في النار ، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام ، فتسلم " . وهذا إسناد حسن .
والقول الثالث : التوقف فيهم ، واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم : " الله أعلم بما كانوا عاملين " . وهو في الصحيحين من حديث جعفر بن أبي إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " وكذلك هو في الصحيحين ، من حديث الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، وعن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن أطفال المشركين ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .
ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف . وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة ؛ لأن الأعراف ليس دار قرار ، ومآل أهلها إلى الجنة كما تقدم تقرير ذلك في " سورة الأعراف " ، والله أعلم .
فصل
وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين ، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي ، عن الإمام أحمد أنه قال : لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة . وهذا هو المشهور بين الناس ، وهو الذي نقطع به إن شاء الله ، عز وجل . فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر ، عن بعض العلماء : أنهم توقفوا في ذلك ، وأن الولدان كلهم تحت مشيئة الله ، عز وجل . قال أبو عمر : ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث منهم : حماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وابن المبارك ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم قالوا : وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر ، وما أورده من الأحاديث في ذلك ، وعلى ذلك أكثر أصحابه . وليس عن مالك فيه شيء منصوص ، إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة ، انتهى كلامه وهو غريب جدا .
وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب " التذكرة " نحو ذلك أيضا ، والله أعلم .
وقد ذكروا في ذلك حديث عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال : " أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم " . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة ، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع ؛ كره جماعة من العلماء الكلام فيها ، روي ذلك عن ابن عباس ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، ومحمد ابن الحنفية وغيرهم . وأخرج ابن حبان في صحيحه ، عن جرير بن حازم سمعت أبا رجاء العطاردي ، سمعت ابن عباس وهو على المنبر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا - أو مقاربا - ما لم يتكلموا في الولدان والقدر " .
قال ابن حبان : يعني أطفال المشركين .
وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير بن حازم ، به . ثم قال : وقد رواه جماعة عن أبي رجاء ، عن ابن عباس موقوفا .
يقول تعالى ذكره: من استقام على طريق الحقّ فاتبعه، وذلك دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عليه وسلم (فإِنَّمَا يهتَدِي لِنَفسِهِ) يقول: فليس ينفع بلزومه الاستقامة، وإيمانه بالله ورسوله غير نفسه (وَمَنْ ضَلَّ) يقول: ومن جار عن قصد السبيل، فأخذ على غير هدى، وكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله من الحقّ، فليس يضرّ بضلاله وجوره عن الهدى غير نفسه، لأنه يوجب لها بذلك غضب الله وأليم عذابه.. وإنما عنى بقوله ( فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) فإنما يكسب إثم ضلاله عليها لا على غيرها، وقوله ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) يعني تعالى ذكره: ولا تحمل حاملة حمل أخرى غيرها من الآثام. وقال ( وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) لأن معناها: ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى يقال منه: وزرت كذا أزره وزرا، والوزر: هو الإثم، يجمع أوزارا، كما قال تعالى وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ وكأن معنى الكلام: ولا تأثم آثمة إثم أخرى، ولكن على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره، ولا يؤاخذ إلا بعمله.
وقوله ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) يقول تعالى ذكره: وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم.
كما حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) : إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبرا، أو يأتيه من الله بيِّنة، وليس معذّبا أحدا إلا بذنبه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبي هريرة، قال: إذا كان يوم القيامة، جمع الله تبارك وتعالى نسم الذين ماتوا في الفترة والمعتوه والأصمّ والأبكم، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا، ثم أرسل رسولا أن ادخلوا النار، فيقولون: كيف ولم يأتنا رسول، وايم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ثم يرسل إليهم، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل؛ قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ).
حدثنا القاسم ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة نحوه.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
يونس: 108 | ﴿فَـ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾ |
---|
الإسراء: 15 | ﴿ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ |
---|
النمل: 92 | ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَـ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ |
---|
الزمر: 41 | ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ويستأصلها بالعذاب أمر مترفيها أمرا قدريا ففسقوا فيها واشتد طغيانهم،{ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي:كلمة العذاب التي لا مرد لها{ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}
قال أبو حيان- رحمه الله-: لما ذكر- تعالى- في الآية السابقة، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا، بين بعد ذلك علة إهلاكهم، وهي مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والتمادي على الفساد- فقال، سبحانه-: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها..
وقوله- سبحانه-: أَمَرْنا
من الأمر الذي هو ضد النهى، والمأمور به هو الإيمان والعمل الصالح، والشكر لله رب العالمين، وحذف لظهوره والعلم به.
وقوله مُتْرَفِيها
جمع مترف، وهو المتنعم الذي لا يمنع من تنعمه، بل يترك يفعل ما يشاء. يقال: ترف فلان- كفرح- أى: تنعم، وفلان أترفته النعمة، أى: أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها في وجوهها المشروعة.
والمراد بهم، أصحاب الجاه والغنى والسلطان، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب، ولكنهم استعملوها في الفسوق والعصيان، لا في الخير والإحسان.
والمعنى: وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية، أمرنا مترفيها، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإيمان والعمل الصالح، والمداومة على طاعتنا وشكرنا، فلم يستجيبوا لأمرنا، بل فسقوا فيها، وعاثوا في الأرض فسادا.
وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وقال- سبحانه-: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ...
مع أن الهلاك لأهلها، للإشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية، بحيث تصير هي وسكانها أثرا بعد عين.
وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم في معظم الأحيان، ولأنهم في أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى الله عنه، وإلى الانغماس في المتع والشهوات.
والحكمة من هذا الأمر، هو الإعذار والإنذار، والتخويف والوعيد.
كما قال- تعالى-: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.. .
وهذا التفسير للآية الكريمة، سار عليه جمهور المفسرين.
ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك، فهو يرى أن الأمر في الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التي أبطرتهم.
قال- رحمه الله-: قوله- تعالى-: وَإِذا أَرَدْنا
وإذا دنا وقت إهلاك قوم، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم فَفَسَقُوا
أى: أمرناهم بالفسق ففعلوا.
والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون، فبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة، على المعصية، فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم.. .
ومن المفسرين من يرى أن قوله- تعالى-: أَمَرْنا
بمعنى كثّرنا- بتشديد الثاء- وقرئ أَمَرْنا
بتشديد الميم، أى: كثرنا مترفيها وجعلناهم أمراء مسلطين..
ولكن هذه القراءة. وقراءة آمرنا بمعنى «كثرنا» أيضا، ليستا من القراءات السبعة أو العشرة، وإنما هما من القراءات الشاذة.
قال الإمام ابن جرير: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأ «أمرنا» بقصر الألف وتخفيف الميم- لإجماع الحجة من القراء بتصويبها دون غيرها وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة، فأولى التأويلات به تأويل من تأوله: أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها. فحق عليهم القول، لأن الأغلب من معنى أَمَرْنا
الأمر الذي هو خلاف النهى دون غيره.
وتوجيه معاني كلام الله- جل ثناؤه- إلى الأشهر الأعرف من معانيه، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره.. .
ويبدو لنا أن الرأى الأول الذي سار عليه جمهور المفسرين، وعلى رأسهم الإمام ابن جرير، أولى بالقبول، لأسباب منها:
ان القرآن الكريم يؤيده في كثير من آياته، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ.. .
فقوله- تعالى-: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ دليل واضح على أن قوله- سبحانه-: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها..
معناه: أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وليس معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا لأنه- سبحانه- لا يأمر لا بالفسق ولا بالفحشاء.
ومنها: أن الأسلوب العربي السليم يؤيده لأنك إذا قلت: أمرته فعصاني كان المعنى المتبادر والظاهر من هذه الجملة، أمرته بالطاعة فعصاني، وليس معناه. أمرته بالعصيان فعصاني.
ومنها: أن حمل الكلام على الحقيقة- كما سار جمهور المفسرين- أولى من حمله على المجاز- كما ذهب صاحب الكشاف-.
وقوله- سبحانه-: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
بيان لما نزل بهذه القرية وأهلها من عذاب محاها من الوجود، إذ التدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر، وهدم البناء.
أى: أمرنا مترفيها بطاعتنا وشكرنا، فعصوا أمرنا وفسقوا فيها، فثبت وتحقق عليها عذابنا، فأهلكناها إهلاكا استأصل شأفتها، وأزال آثارها.
وأكد- سبحانه- فعل التدمير بمصدره، للمبالغة في إبراز شدة الهلاك الواقع على تلك القرية الظالم أهلها.
قال الآلوسى ما ملخصه: والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه، وإهلاك جميعهم، لصدور الفسق منهم جميعا، فإن غير المترف يتبع المترف عادة ...
وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال- تعالى-: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً....
وقد صح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها قالت: قلت، يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث .
اختلف القراء في قراءة قوله : ( أمرنا ) فالمشهور قراءة التخفيف ، واختلف المفسرون في معناها ، فقيل : معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا ، كقوله تعالى : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ) [ يونس : 24 ] ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء ، قالوا : معناه : أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب .
وقيل : معناه : أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة . رواه ابن جريج عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضا .
وقال ابن جرير : وقد يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء .
قلت : إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ " أمرنا مترفيها " قال علي بن طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب ، وهو قوله : ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ) [ الأنعام : 123 ] ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس .
وقال العوفي عن ابن عباس : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) يقول : أكثرنا عددهم ، وكذا قال عكرمة ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة ، وعن مالك عن الزهري : ( أمرنا مترفيها ) : أكثرنا .
وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا أبو نعامة العدوي ، عن مسلم بن بديل ، عن إياس بن زهير ، عن سويد بن هبيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " .
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتابه " الغريب " : المأمورة : كثيرة النسل . والسكة : الطريقة المصطفة من النخل ، والمأبورة : من التأبير ، وقال بعضهم : إنما جاء هذا متناسبا كقوله : " مأزورات غير مأجورات " .
اختلف القرّاء في قراءة قوله (أمَرْنَا مُتْرَفِيها) فقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق (أمَرْنا) بقصر الألف وغير مدها وتخفيف الميم وفتحها. وإذا قرئ ذلك كذلك، فإن الأغلب من تأويله: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا فيها بمعصيتهم الله، وخلافهم أمره، كذلك تأوّله كثير ممن قرأه كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (أمَرْنا مُتْرَفِيها) قال: بطاعة الله، فعصوا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا شريك، عن سلمة أو غيره، عن سعيد بن جبير، قال: أمرنا بالطاعة فعصوا، وقد يحتمل أيضا إذا قرئ كذلك أن يكون معناه: جعلناهم أمراء ففسقوا فيها، لأن العرب تقول: هو أمير غير مأمور. وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: قد يتوجَّه معناه إذا قرئ كذلك إلى معنى أكثرنا مترفيها، ويحتجّ لتصحيحه ذلك بالخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خَيْرُ المَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أوْ سِكّةٌ مَأْبُورَةٌ" ويقول: إن معنى قوله: مأمورة: كثيرة النسل. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين ينكر ذلك من قيله، ولا يجيزنا أمرنا، بمعنى أكثرنا إلا بمد الألف من أمرنا. ويقول في قوله " مهرة مأمورة ": إنما قيل ذلك على الاتباع لمجيء مأبورة بعدها، كما قيل : " ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيرَ مَأْجُورَاتٍ" فهمز مأزورات لهمز مأجورات، وهي من وزرت إتباعا لبعض الكلام بعضا. وقرأ ذلك أبو عثمان (أمَّرْنا) بتشديد الميم، بمعنى الإمارة.
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم عن عوف، عن أبي عثمان النهدي أنه قرأ (أمَّرْنا) مشدّدة من الإمارة. وقد تأوّل هذا الكلام على هذا التأويل، جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أمَّرْنا مُترَفِيها) يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب، وهو قوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا .
حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: سمعت الكسائي يحدّث عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، أنه قرأها(أمَّرْنا) وقال: سلَّطنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن أبي حفص، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: (أمَّرْنا) مثقلة: جعلنا عليها مترفيها: مستكبريها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: (أمَّرْنا مُتْرَفِيها) قال: بعثنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك (آمَرْنا) بمدّ الألف من أمرنا، بمعنى: أكثرنا فسقتها. وقد وجَّه تأويل هذا الحرف إلى هذا التأويل جماعة من أهل التأويل، إلا أن الذين حدّثونا لم يميزوا لنا اختلاف القراءات في ذلك، وكيف قرأ ذلك المتأوّلون، إلا القليل منهم.
ذكر من تأوّل ذلك كذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِذَا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُترَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) يقول: أكثرنا عددهم.
حدثنا هناد ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة قوله (آمَرْنا مُتْرَفِيها) قال: أكثرناهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله (أمَرْنا مُتْرَفِيها) قال: أكثرناهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيها) يقول: أكثرنا مترفيها: أى كبراءها.
حدثنا بشر، قالا ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنَا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ) يقول: أكثرنا مترفيها: أى جبابرتها، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) وكان يقال: إذا أراد الله بقوم صلاحا، بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد بهم فسادا بعث عليهم مفسدا، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (آمَرْنَا مُتْرَفِيها) قال: أكثرناهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على زينب وهو يقول: " لا إِلَهَ إِلا الله وَيْلٌ لِلْعَرَبِ منْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمُ منْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هذَا، وحلق بين إبهامه والتي تليها، قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ) قال: ذكر بعض أهل العلم أن أمرنا: أكثرنا. قال: والعرب تقول للشيء الكثير أمِرَ لكثرته. فأما إذا وصف القوم بأنهم كثروا، فإنه يقال: أمر بنو فلان، وأمر القوم يأمرون أمرا، وذلك إذا كثروا وعظم أمرهم، كما قال لبيد.
إنْ يُغْبَطُــوا يُهْبَطُــوا وَإِنْ أَمِـرُوا
يَوْمــا يَصِــيرُوا للقُــلّ والنَّقَــدِ (5)
والأمر المصدر، والاسم الإمر، كما قال الله جلّ ثناؤه لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قال: عظيما، وحكي في مثل شرّ إِمْر: أي كثير.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بقصر الألف من أمرنا وتخفيف الميم منها، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها دون غيرها. وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة، فأولى التأويلات به تأويل من تأوّله: أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها، فحقّ عليهم القول، لأن الأغلب من معنى أمرنا: الأمر، الذي هو خلاف النهي دون غيره، وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره.
ومعنى قوله (فَفَسَقُوا فِيهَا): فخالفوا أمر الله فيها، وخرجوا عن طاعته (فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ) يقول: فوجب عليهم بمعصيتهم الله وفسوقهم فيها، وعيد لله الذي أوعد من كفر به، وخالف رسله، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج (فَدَمَّرْناها تَدْميرًا) يقول: فخرّبناها عند ذلك تخريبا، وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا، كما قال الفرزدق:
وكــانَ لَهُــمْ كَبكْــرِ ثَمُـودَ لَمَّـا
رَغــا ظُهْــرًا فَدَمَّــرَهُمْ دَمـارًا (6)
والبيت من قصيدة ناقض بها الفرزدق قصيدة جرير التي مطلعها:
ألا حَــيَّ الدّيــارَ بِسُــعْدِ إنّــي
أُحِــبّ لِحُــبّ فاطمــةَ الّذيــارا
والضمير في قوله " وكان لهم كبكر ثمود " راجع إلى جرير المذكور في البيت قبله وهو :
جَــرٍّ الْمُخْزِيــاتِ عَــلى كُـلَيْبٍ
جَــرِيرٌ ثــمَّ مــا مَنَـعَ الدَّمَـارَا
وبكر ثمود : ولد ناقة صالح . ورغا: صوت . والرغاء: صوت ذوات الخف.
--------------------------
الهوامش :
(5) البيت في ديوان لبيد طبع فينا سنة 1880 رواية الطوسي ص 19 وفي روايته آخر البيت : "للهلك والنكد" في موضع: للقل والنقد في رواية المؤلف: وقال شارحه: يقول: إن غبطوا يوما فإنهم يموتون، ويهبطوا هاهنا يموتون. قال أبو الحسن: وهو قول أبي عمرو. ويروى: "إن يغبطوا: يموتون غبطة، كأنهم يموتون من غير مرض. ويقال للناقة إذا ذبحت من غير علة: اعتبطت، أخذه من العبيط، والعبيط: الطري من كل شيء" أ ه. قلت: والقد النفد بمعنى القلة والغناء.
(6) البيت للفرزدق (ديوانه 443) استشهد به المؤلف على أن قوله تعالى: "فدمرناها تدميرا" معناه: خربناها تخريبا.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
أمرنا:
1- هذه قراءة الجمهور، وفيها قولان:
(أ) أحدهما، من الأمر الذي هو ضد النهى.
(ب) والثاني: بمعنى: كثرنا.
وقرئ:
2- أمرنا، بكسر الميم أي كثرنا، لغة فى المفتوح الميم، وهى قراءة الحسن، ويحيى بن يعمر، وعرمة.
3- آمرنا، بالمد: كثرنا، وهى قراءة على بن أبى طالب، وابن أبى إسحاق، وأبى رجاء، وعيسى بن عمر، وسلام، وعبد الله بن أبى يزيد، والكلبي.
4- أمرنا، بتشديد الميم أي: كثرنا، وهى قراءة ابن عباس، وأبى عثمان النهدي، والسدى، وزيد بن على، وأبى العالية.
التفسير :
وهؤلاء أمم كثيرة أبادهم الله بالعذاب من بعد قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ممن عاقبهم الله لما كثر بغيهم واشتد كفرهم أنزل [الله] بهم عقابه العظيم.
{ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} فلا يخافوا منه ظلما وأنه يعاقبهم على ما عملوه.
ثم بين- سبحانه- أن هذه القرية لم تكن بدعا في نزول العذاب بها، بل هناك قرى كثيرة عتت عن أمر ربها فأخذها- سبحانه- أخذ عزيز مقتدر، فقال- تعالى-: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ....
وكَمْ هنا خبرية أى: أن معناها الإخبار عن عدد كثير، وهي في محل نصب مفعول به لجملة أَهْلَكْنا و «من» في قوله- تعالى-: مِنَ الْقُرُونِ بيان للفظ كَمْ وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما «من» في قوله- تعالى-: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فهي لابتداء الغاية.
والقرون: جمع قرن، ويطلق على القوم المقترنين في زمان واحد. والمشهور أن مدته مائة سنة.
أى: أن هذه القرية المدمرة بسبب فسوق أهلها، وعصيانهم لأمرنا، ليست هي القرية الوحيدة التي نزل بها عذابنا، بل إننا قد أهلكنا كثيرا من القرى من بعد زمن نوح- عليه السلام- كقوم عاد وثمود وغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الكفر على الإيمان والغي على الرشد.
وخص نوح- عليه السلام- بالذكر، لأنه أول رسول كذبه قومه وآذوه وسخروا منه..
فأهلكهم الله- تعالى- بالطوفان.
قال ابن كثير: ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام، كما قاله ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالتهديد الشديد لمن يخالف أمره فقال- تعالى-:
وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.
أى: وكفى بربك- أيها الرسول الكريم- إحاطة واطلاعا وعلما بما يقدمه الناس من خير أو شر، فإنه- سبحانه- يعلم السر وأخفى.
والآية الكريمة بجانب أنها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فهي- أيضا- تهديد للمشركين، وإنذار لهم بأنهم إذا ما استمروا على كفرهم، ومعاداتهم للحق، وتطاولهم على من جاء به وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فسيكونون محلا لغضب الله- تعالى- وسخطه، ولنزول عذابه الذي أهلك به أمثالهم في الشرك والكفر والجحود.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها .
وقوله- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ .
يقول تعالى منذرا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أمما من المكذبين للرسل من بعد نوح ، ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام ، كما قاله ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام .
ومعناه : أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم ، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق ، فعقوبتكم أولى وأحرى .
وقوله [ تعالى ] ( وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) أي : هو عالم بجميع أعمالهم ، خيرها وشرها ، لا يخفى عليه منها خافية [ سبحانه وتعالى ] .
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره مكذّبي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش، وتهديدهم لهم بالعقاب، وإعلام منه لهم، أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم أنه محلّ بهم سخطه، ومنـزل بهم من عقابه ما أنـزل بمن قبلهم من الأمم الذين سلكوا في الكفر بالله، وتكذيب رسله سبيلهم، يقول الله تعالى ذكره: وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به، وتكذيب رسله، على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم، لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جلّ ثناؤه، فيعذّب قوما بما لا يعذّب به آخرين، أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين؛ يقول جلّ ثناؤه: فأنيبوا إلى طاعة الله ربكم، فقد بعثنا إليكم رسولا ينبهكم على حججنا عليكم، ويوقظكم من غفلتكم، ولم نكن لنعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولا منبها لهم على حجج الله، وأنتم على فسوقكم مقيمون، وكفى بربك يا محمد بذنوب عباده خبيرا: يقول: وحسبك يا محمد بالله خابرا بذنوب خلقه عالما، فإنه لا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء، ولا أفعال غيرهم من خلقه، وهو بجميع ذلك عالم خابر بصير، يقول: يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
وقد اختلف في مبلغ مدة القرن،
فحدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي محمد بن عبد الله بن أبي أوفى، قال: القرن: عشرون ومئة سنة، فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل قرن كان، وآخرهم يزيد بن معاوية.
وقال آخرون: بل هو مئة سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا حسان بن محمد بن عبد الرحمن الحمصي أبو الصلت الطائي، قال: ثنا سلامة بن حواس، عن محمد بن القاسم، عن عبد الله بن بسر المازني، قال: وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على رأسه وقال: " سَيَعيِشُ هذَا الغُلام قَرْنا " قلت: كم القرن؟ قال: " مِئَةُ سَنَةٍ".
حدثنا حسان بن محمد، قال: ثنا سلامة بن حواس، عن محمد بن القاسم، قال: ما زلنا نعدّ له حتى تمَّت مئة سنة ثم مات، قال أبو الصلت: أخبرني سلامة أن محمد بن القاسم هذا كان ختن عبد الله بن بسر.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: أخبرنا عمر بن شاكر، عن ابن سيرين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً".
وقوله (وكَفَى بِرَبِّكَ) أدخلت الباء في قوله (بِرَبِّكَ) وهو في محلّ رفع، لأن معنى الكلام: وكفاك ربك ، وحسبك ربك بذنوب عباده خبيرا، دلالة على المدح، وكذلك تفعل العرب في كلّ كلام كان بمعنى المدح أو الذمّ، تدخل في الاسم الباء والاسم المدخلة عليه الباء في موضع رفع لتدلّ بدخولها على المدح أو الذمّ كقولهم: أكرم به رجلا وناهيك به رجلا وجاد بثوبك ثوبا، وطاب بطعامكم طعاما، وما أشبه ذلك من الكلام، ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت، لأنها في محلّ رفع، كما قال الشاعر:
ويُخْـبرُنِي عَـنْ غـائبِ المَـرْءِ هَدْيُهُ
كَـفَى الهَـدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبرًا (7)
فأما إذا لم يكن في الكلام مدح أو ذمّ فلا يدخلون في الاسم الباء؛ لا يجوز أن يقال: قام بأخيك، وأنت تريد: قام أخوك، إلا أن تريد: قام رجل آخر به، وذلك معنى غير المعنى الأوّل.
------------------------
الهوامش:
(7) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة رقم 24059 ص 178) قال : "وكل ما في القرآن من قوله: "وكفى بربك) ، وفي (كفى بالله) و (كفى بنفسك اليوم): فلو ألقيت الباء ، كان الخوف مرفوعا ، كما قال الشاعر: "ويخبرني ... البيت". وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه ؛ ألا ترى أنك تقول : كفاك به ، ونهاك به ، وأكرم به رجلا ، وبئس به رجلا ، ونعم به رجلا ، وطاب بطعامك طعاما ، وجاد بثوبك ثوبا . ولو لم يكن مدحا أو ذما لم يجز دخولها؛ ألا ترى أن الذي يقول : قام أخوك . أو قعد أخوك ، لا يجوز له أن يقول: قام بأخيك ، ولا قعد بأخيك؛ إلا أن تريد قام به غيره وقعد به . أ هـ . وقد اغترف ا لمؤلف من كلام الفراء ما شاء ، غير أنه لم يعزه إلى قائله في هذا الموضع .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الإسراء: 17 | ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ |
---|
الفرقان: 58 | ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
جاري إعداد الملف الصوتي
لم يذكر المصنف هنا شيء