ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
بعدَ الأمرِ بالعبادةِ وتخويفِ المشركينَ من النَّارِ بَشَّرَ هنا المؤمنينَ بالجَنَّةِ وما فيها من نعيمٍ.
بعد تحدِّي الكفارِ في الصفحةِ الماضيةِ بأن يأتوا بسورةٍ مثلَ القرآنِ يأتي الردُّ على شبهتِهم أنَّه جاءَ في القرآنِ ذكرُ النحلِ والذبابِ والنملِ فقالُوا هذا لا يليقُ، وبيانُ أنَّ هذه الأمثالَ تزيدُ المؤمنينَ إيمانًا والكفارَ ضلالاً، =
ثُمَّ توبيخُ الكفارِ لكفرِهم باللهِ.
التفسير :
لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال:{ وَبَشِّرِ} أي:[يا أيها الرسول ومن قام مقامه]{ الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبهم{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. ووصفت أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته. فبشرهم{ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} أي:بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, [والأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم فيها ساكنها.{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي:أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر، يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا, وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.{ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي:هذا من جنسه, وعلى وصفه, كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها. وقوله:{ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} قيل:متشابها في الاسم, مختلف الطعوم وقيل:متشابها في اللون, مختلفا في الاسم، وقيل:يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا الصحيح ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال:{ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} فلم يقل "مطهرة من العيب الفلاني "ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار، فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق, والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح. ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشِّر والمبشَّر, والمبشَّرُ به, والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر:هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر:هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به:هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب. وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها], فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم
البشارة : الخبر السار فهو أخص من الخبر ، سمي بذلك لأن أثره يظهر على البشرة وهي ظاهر جلد الإِنسان ، والمأمور بالتبشير هو النبي صلى الله عليه وسلم أو كل من يتأتى منه تفخيماً لأمره ، وتعظيماً لشأنه .
والصالحات : جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة ، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل .
والجنات : جمع جنة ، وهي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظل ما تحته ويستره ، من الجن وهو ستر الشيء عن الحاسة ، ثم صارت الجنة اسماً شرعياً لدار النعيم في الآخرة ، وهي سبع درجات :
جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السلام ، وعليون . . . وتتفاوت منازل المؤمنين في كل درجة بتفاوت الأعمال الصالحة .
والأنهار جمع نهر - بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح - وهو الأخدود الذي يجري فيه الماء على الأرض ، وهو مشتق من مادة نهر الدالة على الانشقاق والاتساع ، ويكون كبيراً أو صغيراً .
وأسند إليه الجري في الآية مع أن الذي يجري في الحقيقة هو الماء ، أخذاً بفن معروف بين البلغاء ، وهو إسناد الفعل إلى مكانه ، توسعاً في أساليب البيان .
وقوله : " من تحتها " وارد على طريقة الإِيجاز بحذف كلمة " أشجار " اعتماداً على تبادرها إلى الذهن ، والمعنى : تجري من تحت أشجارها الأنهار . ثم بين - سبحانه - أحوال هؤلاء المؤمنين الصالحين فقال :
( كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ )
أي : إن سكان الجنة كلما رزقوا في الجنة ثمرة من ثمراتها ، وجدوها مثل الذي رزقوه فيها من قبل ، في بلوغه الغاية من حسن المنظر ولذة الطعم .
وفي هذا إِشارة إلى أن ثمار الجنة متماثلة في حسن منظرها ، ولذة طعمها بحيث لا تفضل ثمرة في ذلك على أخرى ، فجميع ثمرها يسر له القلب ، ويستحليه الذوق ، وإن اختلفت المناظر والطعوم .
ثم قال - تعالى ( وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) أي : يشبه بعضه بعضاً في الصورة والرائحة ، ويختلف في اللذة والطعم ، أو في المزية والحسن ، وعن ابن عباس : " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي "؛ وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها في معنى أن كل ثمر يشابه ما قبله في حسن المنظر ولذة الطعم مشابهة لا يفضل فيها ثمر الدنيا ، فإنه يتفاوت في مناظره حسناً ، وفي طعومه لذة .
ويرى بعض العلماء حمل قوله - تعالى - : ( قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ) على تقدير : من قبل دخول الجنة ، أي هذا الذي رزقناه في الدنيا ، وإلى هذا الرأي مال صاحب الكشاف فقد قال : " فإن قلت : كيف قيل .
" هذا الذي رزقنا من قبل؟ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت : معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل وشبهه ، بدليل قوله : ( وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : ( وَأُتُواْ بِهِ ) ؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً ، لأن قوله : ( هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين . فإن قلت : لأي غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة؟ قلت : لأن الإِنسان بالمألوف آنس؛ وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عن طبعه ، وعافته نفسه "
ثم قال - تعالى - : ( وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
الأزواج : جمع زوج وهي المرأة يختص بها الرجل ، والضمير في " فيها " يعود إلى الجنات .
والمعنى : أن لهؤلاء المؤمنين نساء مختصات بهم ، مطهرات غاية التطهير من كل دنس وقذر ، حسي ومعنوي ، لا كنساء الدنيا ، وهم في هذه الجنات باقون على الدوام ، لأن النعيم إنما يتم باطمئنان صاحبه على أنه دائم ، أما إذا كان محتملا للزوال فإن صاحبه يبقى منغص البال ، إذ سيذكر أنه سيفقده في يوم من الأيام ، فجملة ( وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) جيء بها على سبيل الاحتراس من وهم الانقطاع .
وبعد هذا البيان الجامع عن أحوال المهتدين بهديه أو الناكبين عن صراطه ، وما تخلل ذلك من المواعظ النافعة ، والتمثيلات الرائعة ، والبشارات الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً ، بعد كل ذلك بين - سبحانه - أنه لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير ، فقال - تعالى - :
( إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ . . . )
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال ، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله ، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء ، كما سنبسطه في موضعه ، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر ، أو عكسه ، أو حال السعداء ثم الأشقياء ، أو عكسه . وحاصله ذكر الشيء ومقابله . وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه ، كما سنوضحه إن شاء الله ؛ فلهذا قال تعالى : ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار ، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة ، ومعنى ( تجري من تحتها الأنهار ) أي : من تحت أشجارها وغرفها ، وقد جاء في الحديث : أن أنهارها تجري من غير أخدود ، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ، ولا منافاة بينهما ، وطينها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر ، نسأل الله من فضله [ وكرمه ] إنه هو البر الرحيم .
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على الربيع بن سليمان : حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن ثوبان ، عن عطاء بن قرة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك .
وقال أيضا : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : أنهار الجنة تفجر من جبل مسك .
وقوله تعالى : ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : ( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) قال : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ، فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في [ دار ] الدنيا .
وهكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ونصره ابن جرير .
وقال عكرمة : ( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) قال : معناه : مثل الذي كان بالأمس ، وكذا قال الربيع بن أنس . وقال مجاهد : يقولون : ما أشبهه به .
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا ؛ لشدة مشابهة بعضه بعضا ، لقوله تعالى : ( وأتوا به متشابها ) قال سنيد بن داود : حدثنا شيخ من أهل المصيصة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء ، فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول : هذا الذي أوتينا به من قبل . فتقول الملائكة : كل ، فاللون واحد ، والطعم مختلف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عامر بن يساف ، عن يحيى بن أبي كثير قال : عشب الجنة الزعفران ، وكثبانها المسك ، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها ، فيقول لهم أهل الجنة : هذا الذي أتيتمونا آنفا به ، فيقول لهم الولدان : كلوا ، فإن اللون واحد ، والطعم مختلف . وهو قول الله تعالى : ( وأتوا به متشابها )
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : ( وأتوا به متشابها ) قال : يشبه بعضه بعضا ، ويختلف في الطعم .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، والربيع بن أنس ، والسدي نحو ذلك .
وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : ( وأتوا به متشابها ) يعني : في اللون والمرأى ، وليس يشتبه في الطعم .
وهذا اختيار ابن جرير .
وقال عكرمة : ( وأتوا به متشابها ) قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيب .
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء ، وفي رواية : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء . رواه ابن جرير ، من رواية الثوري ، وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش ، به .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ( وأتوا به متشابها ) قال : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا : التفاح بالتفاح ، والرمان بالرمان ، قالوا في الجنة : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ، وأتوا به متشابها ، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم .
وقوله تعالى : ( ولهم فيها أزواج مطهرة ) قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : مطهرة من القذر والأذى .
وقال مجاهد : من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .
وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمأثم . وفي رواية عنه : لا حيض ولا كلف . وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال : المطهرة التي لا تحيض . قال : وكذلك خلقت حواء - عليها السلام - حتى عصت ، فلما عصت قال الله تعالى : إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة . وهذا غريب .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثني جعفر بن محمد بن حرب ، وأحمد بن محمد الجوري قالا حدثنا محمد بن عبيد الكندي ، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ( ولهم فيها أزواج مطهرة ) قال : من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق .
هذا حديث غريب . وقد رواه الحاكم في مستدركه ، عن محمد بن يعقوب ، عن الحسن بن علي بن عفان ، عن محمد بن عبيد ، به ، وقال : صحيح على شرط الشيخين .
وهذا الذي ادعاه فيه نظر ؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي : لا يجوز الاحتجاج به .
قلت : والأظهر أن هذا من كلام قتادة ، كما تقدم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( وهم فيها خالدون ) هذا هو تمام السعادة ، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع ، فلا آخر له ولا انقضاء ، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام ، والله المسئول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه جواد كريم ، بر رحيم .
القول في تأويل قوله : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
قال أبو جعفر: أما قوله تعالى: " وبشِّر "، فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ, إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه.
وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه, وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة, فقال له: يا محمد، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي - وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي, وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه - أن له جنات تجري من تحتها الأنهار، خاصةً, دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك (1) ، ودون من أظهر تصديقك (2) ، وأقرّ أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة، مُعدةً عندي. والجنات: جمع جنة, والجنة: البستان.
وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها - ولذلك قال عز ذكره (3) " : تجري من تحتها الأنهار ". لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها, لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض, فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة، أنها جارية في غير أخاديد.
509- كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن عمرو بن مُرَّة, عن أبي عُبيدة, عن مسروق, قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها, وثمرها أمثالُ القِلال, كلما نُـزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى, وماؤها يَجري في غير أخدود (4) .
510- حدثنا مجاهد [بن موسى]، (5) قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا مِسعر بن كدام, عن عمرو بن مرة, عن أبي عُبيدة، بنحوه.
511- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عبيدة -فذكر مثله- قال: فقلت لأبي عُبيدة: من حدّثك؟ فغضب، وقال: مسروق.
&; 1-385 &;
فإذا كان الأمر كذلك، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد, فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات: أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها, إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها, على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها.
وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده, كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ - لأهل الكفر به، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه, والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته (6) .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " كلما رُزقوا منها ": من الجنات, والهاء راجعةٌ على الجنات، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رُزقوا - من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل.
ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله: " هذا الذي رُزقنا من قَبل ".
فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
512- حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا &; 1-386 &; أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: " هذا الذي رُزقنا من قبل "، قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة, فلما نظروا (7) إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا.
513- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: " قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل "، أي في الدنيا.
514- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل "، يقولون: ما أشبهه به.
515- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.
516- حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: " قالوا هذا الذي رزقنا من قَبل "، في الدنيا, قال: " وأتوا به مُتشابهًا "، يعرفونه (8) .
قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا, لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول: أن ثمار الجنة كلما نـزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله.
517- كما حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عُبيدة, قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها, وثمرُها مثل القلال, كلما نُـزعت منها ثمرةٌ عادتْ مكانها أخرى (9) .
قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة, لأن التي عادت، نظيرةُ التي نُـزعت فأكِلت، في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: " وأتوا به متشابهًا "، لاشتباه جميعه في كل معانيه.
وقال بعضهم: بل قالوا: " هذا الذي رزقنا من قبل "، لمشابهته الذي قبله في اللون، وإن خالفه في الطعم.
* ذكر من قال ذلك:
518- حدثنا القاسم بن الحسين, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثنا شيخ من المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير, قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها, ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتِينا به من قبل. فيقول الملك: كُلْ، فاللونُ واحد والطعمُ مختلف (10) .
وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته، قول القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: " كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا "، فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا، أن يقولوا: هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها, فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها, الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله, كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه (11) - فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار &; 1-388 &; الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رُزقناه من قبل؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه (12) ، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها, فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله: " كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا "، من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال.
فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية: كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا (13) .
فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رُزقنا من قبل، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟
قيل: إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه: هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر: قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منـزلي. يعني بذلك: أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه, لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له، هو طعامه . بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله: " قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل "، إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك: هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل, ومن جنسه في السِّمَات والألوان (14) - على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا (15) .
القول في تأويل قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
قال أبو جعفر: والهاء في قوله: " وأتُوا به مُتشابهًا " عائدة على الرزق, فتأويله: وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا.
وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل " المتشابه " في ذلك:
فقال بعضهم: تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه.
* ذكر من قال ذلك:
519- حدثنا خلاد بن أسلم, قال: أخبرنا النضر بن شُميل, قال: أخبرنا أبو عامر، عن الحسن في قوله: " متشابهًا " قال: خيارًا كُلَّها لا رَذل فيها.
520- حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن أبي رَجاء: قرأ الحسنُ آيات من البقرة, فأتى على هذه الآية: " وأتُوا به مُتشابهًا " قال: ألم تَروْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل.
521- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, قال: قال الحسن: " وأتوا به متشابهًا " قال: يشبه بعضه بعضًا، ليس فيه من رَذْل (16) .
522- حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " وأتوا به &; 1-390 &; متشابهًا "، أي خيارًا لا رَذلَ فيه, وإن ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويُرْذَل منها, وثمار الجنة خيارٌ كله، لا يُرْذَل منه شيء.
523- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج. قال: ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل، ومنه نَقاوَةٌ, وثمرُ الجنة نقاوة كله، يشبه بعضُه بعضًا في الطيب، ليس منه مرذول (17) .
وقال بعضهم: تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم.
* ذكر من قال ذلك:
524- حدثني موسى, قال حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك، وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " وأتوا به متشابهًا " في اللَّوْن والمرْأى, وليس يُشبه الطعمَ.
525- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " وأتوا به متشابهًا " مِثلَ الخيار.
526- حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعمُه , مثلَ الخيار من القثّاء.
527- حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " وأتوا به متشابهًا "، يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم.
528- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا الثوري , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: " متشابهًا "، قال: مشتبهًا في اللون، ومختلفًا في الطعم.
&; 1-391 &;
529- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد: " وأتوا به متشابهًا "، مثل الخيار (18) .
وقال بعضهم: تشابُهه في اللون والطعم.
* ذكر من قال ذلك:
530- حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، قوله: " متشابهًا " قال: اللونُ والطعمُ.
531- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزّاق, عن الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، ويحيى بن سعيد: " متشابهًا " قالا في اللون والطعم.
وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما.
* ذكر من قال ذلك:
532- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: " وأتوا به متشابهًا " قال: يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أن ثمر الجنة أطيب.
533- حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: " وأتوا به متشابهًا "، قال: يشبه ثمر الدنيا, غير أن ثمر الجنة أطيبُ.
وقال بعضهم: لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء.
* ذكر من قال ذلك:
534- حدثني أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعيّ -ح- وحدثنا محمد &; 1-392 &; بن بشار, قال، حدثنا مؤمَّل, قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن الأعمش, عن أبي ظَبْيَان, عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي -: لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل، قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
535- حدثنا عباس بن محمد, قال: حدثنا محمد بن عُبيد، عن الأعمش, عن أبي ظبيان، عن ابن عباس, قال: ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء.
536- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: " وأتوا به متشابهًا "، قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا, التُّفاح بالتفاح والرُّمان بالرمان, قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا," وأتوا به متشابهًا " يعرفونه, وليس هو مثله في الطعم (19) .
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية, تأويلُ من قال: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر, والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون, مختلفًا في الطعم والذوق، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأن معناه: كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا: فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا, يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم والذوق، فتباينا, فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا.
وقد دللنا على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله: قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض (20) . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: " وأتوا به متشابهًا "، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بقوله: " وأتوا به متشابهًا ".
ويُسأل من أنكر ذلك (21) ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه, فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟
فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله, لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.
وإن قال: ذلك جائز, بل هو كذلك.
قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه (22) ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر, فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك, فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما:
537- حدثني به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب, ومحمد بن جعفر, عن عوف، عن قَسَامةَ، عن الأشعري, قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة, وعلّمه صَنعةَ كل شيء, فثمارُكم هذه من ثمار الجنة, غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ (23) .
(24) وقد زعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: " وأتوا به متشابهًا "، أنه متشابهٌ في الفضل، أي كل واحد منه له من الفضْل في نحوه، مثلُ الذي للآخر في نحوه.
قال أبو جعفر: وليس هذا قولا نستجيز التشاغلَ بالدلالة على فساده، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسبُ قولٍ - بخروجه عن قول جميع أهل العلم - دلالةٌ على خطئه.
القول في تأويل قوله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في" لهم " عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات, والهاء والألف اللتان في" فيها " عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة.
والأزواج جمع زَوْج, وهي امرأة الرجل. يقال: فلانة زَوْجُ فلان وزوجته.
وأما قوله: " مطهَّرة " فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ, مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ, وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره.
538- كما حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما أزواجٌ مطهرة، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمن.
539- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: " أزْواج مطهرة ". يقول: مطهرة من القذَر والأذى.
540- حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى القطان (25) ، عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة " قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمذِين.
541- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوه - إلا أنه زَاد فيه: ولا يُمنِين ولا يحضْنَ.
542- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد.
543- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابنُ المبارك, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.
544- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: لا يَبُلْنَ ولا يتغوّطنَ ولا يحضْنَ ولا يلدن ولا يُمْنِين ولا يبزُقنَ.
545- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوَ حديث محمد بن عمرو, عن أبي عاصم.
546- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: " ولهم فيها أزواج مطهرة "، إي والله من الإثم والأذى.
547- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة "، قال: طهّرهن اللهُ من كل بول وغائط وقذَر, ومن كل مأثم.
548- حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن قتادة، قال مطهرة من الحيض والحبَل والأذى.
549- حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن ليث, عن مجاهد, قال: المطهرة من الحيض والحبَل.
550- حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد: " ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة " قال: المطهَّرة التي لا تحيض. قال: وأزواج الدنيا ليست بمطهرة, ألا تراهنّ يدمَيْنَ ويتركن الصلاة والصيامَ؟ قال ابن زيد: وكذلك خُلقت حواء حتى عصَتْ, فلما عصَتْ قال الله: إني خلقتك مطهَّرة &; 1-397 &; وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة (26) .
551- حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، عن الحسن في قوله: " ولهم فيها أزواج مطهرة "، قال يقول: مطهَّرة من الحيض.
552- حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا خالد بن يزيد, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن الحسن في قوله: " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة "، قال: من الحيض.
553- حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء قوله: " ولهم فيها أزواج مطهرة "، قال: من الولد والحيض والغائط والبول, وذكر أشياءَ من هذا النحو (27) .
القول في تأويل قوله: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله " وهم "، عائدة على الذين آمنوا وعملوا &; 1-398 &; الصالحات. والهاء والألف في" فيها " على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم (28) .
--------------
الهوامش :
(1) في المطبوعة : "ما جئت به من الهدى" .
(2) في المخطوطة : "دون من أظهر . . " بحذف الواو ، وهو قريب في المعنى .
(3) في المطبوعة : "فلذلك قال . . " ، وما في المخطوطة أجود .
(4) الأثر 509- في الدر المنثور 1 : 38 . وقال ابن كثير في تفسيره 1 : 113 : "وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود" ، ولم يبين ، وانظر ما سيأتي رقم : 517 .
(5) الإسناد 510- الزيادة بين القوسين من المخطوطة ، وهو مجاهد بن موسى بن فروخ الخوارزمي ، أبو علي الختلي (بضم ففتح) ، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما . مترجم في التهذيب ، وترجمه البخاري في الكبير 4/1/413 ، والصغير : 245 ، والخطيب في تاريخ بغداد 13 : 265 - 266 وابن الأثير في اللباب 1 : 345 . مات مجاهد هذا في رمضان سنة 244 . وشيخه يزيد : هو يزيد بن هارون .
(6) في المخطوطة : "والتفريق لعقوبته" ، ولا معنى لها .
(7) في الدر المنثور : "فينظروا" ، وفي الشوكاني : "فنظروا" ، وكذلك في المخطوطة .
(8) الآثار 512 - 516 : في تفسير ابن كثير 1 : 113 - 114 ، والدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .
(9) انظر الآثار السالفة رقم : 509 - 511 . وفي المخطوطة : "أمثال القلال" كما مر آنفًا .
(10) الأثر 518- في ابن كثير 1 : 114 ، والدر المنثور 1 : 38 .
(11) في المطبوعة : "في وسطه" .
(12) في المطبوعة مكان قوله : "ذو غية" ، "ذو غرة" ، وفي المخطوطة : "ذو عته" . والعته : نقص العقل ، أو الجنون ، وأجودهن ما أثبته عن كتاب حادي الأرواح لابن قيم الجوزية 1 : 268 ، حيث نقل نص الطبري .
(13) هذا التفصيل الذي ذكره الطبري من جيد النظر في معاني الكلام .
(14) في المطبوعة : "في التسميات والألوان" ، وهو خطأ .
(15) يعني بذلك الذي تقدم ، معنى قوله : "وإنما يوجه كلام كل متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه ، دون المجهول من معانيه" ، وقد مضى ذكر ذلك في ص 388 .
هذا ، وقد وقع في المطبوعة خطأ بين ، فقد وضع في هذا المكان ما نقلناه إلى حق موضعه في ص 394 من أول قوله : "وقد زعم بعض أهل العربية . . " إلى قوله : "بخروجه عن قول جميع أهل العلم ، دلالة على خطئه" .
(16) في المطبوعة : "ليس فيه مرذول" .
(17) الآثار : 519 - 523 بعضها في الدر المنثور 1 : 38 ، وبعضها في الشوكاني 1 : 42 .
(18) الآثار : 524 - 529 بعضها في ابن كثير 1 : 114 - 115 ، والدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .
(19) الآثار : 530 - 536 بعضها في الدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .
(20) انظر ما مضى ص 387 وما بعدها .
(21) في المطبوعة : "وسأل من أنكر . . " ، وهو خطأ بين .
(22) في المطبوعة : "نظائر ألوان" .
(23) الحديث 537- هذا إسناد صحيح . وهو وإن كان موقوفًا لفظًا فإنه مرفوع حكمًا ، لأنه إخبار عن غيب لا يعلم بالرأي ولا القياس . والأشعري : هو أبو موسى ، ولم يكن ممن يحكى عن الكتب القديمة . عوف : هو ابن أبي جميلة الأعرابي ، وهو ثقة ثبت ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . قسامة - بفتح القاف وتخفيف السين المهملة : هو ابن زهير المازني التميمي البصري ، وهو ثقة تابعي قديم ، بل ذكره بعضهم في الصحابة فأخطأ . وله ترجمة في الإصابة 5 : 276 وابن سعد 7/1/110 ، وقال : "كان ثقة إن شاء الله ، وتوفي في ولاية الحجاج على العراق" ، وابن أبي حاتم 3/2/147 ، وروى توثيقه عن ابن معين .
والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 1 : 80 ، من رواية عبد الرزاق عن معمر عن عوف ، بهذا الإسناد . وذكره ابن القيم في حادي الأرواح 1 : 273 (ص 125 من الطبعة الثانية ، طبعة محمود ربيع سنة 1357) من رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن عقبة بن مكرم العمى الحافظ ، عن ربعى بن إبراهيم بن علية عن عوف ، بهذا الإسناد ، مرفوعًا صراحة : "قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" . وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 197 - 198"عن أبي موسى رفعه" ، وقال : "رواه البزار ، والطبراني ، ورجاله ثقات" . وذكره ابن القيم في حادي الأرواح قبل ذلك (ص 30 - 31) ، من رواية"هوذة بن خليفة عن عوف" بهذا الإسناد ، موقوفًا لفظًا . ورواية هوذة بن خليفة : رواها الحاكم في المستدرك 2 : 543 ، ولكن إسنادها عندي أنه مغلوط ، والظاهر أنه غلط من الناسخين . لأن الذي فيه : "هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ، قال : إن الله لما أخرج آدم" إلخ . ثم قال الحاكم : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي! ولا يمكن -فيما أعرف وأعتقد- أن يصحح الحاكم هذا الإسناد ، ثم يوافقه الذهبي ، إن كان على هذا الوجه ، لأن أبا بكر بن أبي موسى الأشعري تابعي ثقة ، فلو كان الإسناد هكذا كان الحديث مرسلا لا حجة فيه ، سواء أرفعه أم قاله من قبل نفسه ، فالظاهر أن الناسخين القدماء للمستدرك أخطئوا في زيادة"أبي بكر بن" ، وأن صوابه : "عن أبي موسى الأشعري" ، كما تبين من نقل ابن القيم رواية هوذة ، وكما تبين من الروايات الأخر التي سقناها . والحمد لله على التوفيق .
(24) هذه الفقرة كلها من أول قوله : "وقد زعم بعض أهل العربية . . " كانت في المطبوعة في الموضع الذي أشرنا إليه آنفًا ص 389 .
(25) في المخطوطة : "يحيى العطار" ، وهو خطأ .
(26) في المخطوطة : "كما دميت" بتشديد الميم ، وهما سواء ، ويعني بذلك دم الحيض . وهذا الأثر نقله ابن كثير 1 : 115 عن هذا الموضع ، وفيه"أدميت" ، كما في المطبوعة هنا . وقال ابن كثير بعد سياقه : "وهذا غريب" .
(27) الآثار 538 - 553 : بعضها في ابن كثير 1 : 115 ، والدر المنثور 1 : 39 ، والشوكاني 1 : 42 وكرهنا الإطالة بتفصيل مراجعها واحدًا واحدًا . ونقل ابن كثير 1 : 115 - 116 حديثًا مرفوعًا بهذا المعنى : يعني مطهرة"من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق" ، من تفسير ابن مردويه بإسناده - من طريق محمد بن عبيد الكندي عن عبد الرزاق بن عمر البزيعي عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد ، مرفوعًا . وقال : "هذا حديث غريب" . ثم نقل عن الحاكم أنه رواه في المستدرك ، من هذا الوجه ، وأنه صححه على شرط الشيخين . ثم قال : "وهذا الذي ادعاه فيه نظر ، فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا - قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي : لا يجوز الاحتجاج به . قلت : والأظهر أن هذا من كلام قتادة ، كما تقدم" . وهو كما قال ابن كثير . انظر الميزان 2 : 126 .
(28) في الدر المنثور 1 : 41 ، والشوكاني 1 : 42 ، أن ابن جرير أخرج عن ابن عباس في قوله"وهم فيها خالدون" -"أي خالدون أبدًا ، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له" .
وهذا الخبر سيأتي عند تفسير الآية : 82 من هذه السورة (1 : 307 بولاق) . فنقله السيوطي إلى هذا الموضع ، وتبعه الشوكاني .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 25 | ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ |
---|
آل عمران: 15 | ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا و أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّـهِ﴾ |
---|
النساء: 57 | ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
وبشر:
قرئ:
1- بالتشديد، وهى اللغة العليا.
2- بالتخفيف، وهى لغة أهل تهامة.
3- فعلا ماضيا مبنيا للمفعول، وهى قراءة زيد بن على.
قال الزمخشري: عطفا على «أعدت» .
مطهرة:
قرئ:
1- مطهرات.
2- مطهرة، بتشديد الطاء، وأصله: متطهرة، فأدغم.
التفسير :
يقول تعالى{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} أي:أيَّ مثل كان{ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. ولهذا قال:{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} فيتفهمونها، ويتفكرون فيها. فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة.{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال:{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى:{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال. ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال:{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} أي:الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة. والفسق نوعان:نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الآية].
روى الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس أن الله - تعالى - لما أنزل قوله - تعالى - ( إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ ) وقوله - تعالى - : ( مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً ) لما نزل قال المشركون : أرأيتم أي شيء يصنع بهذا؟! فأنزل الله ( إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . ) .
وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بهما المثل ضحك اليهود وقالوا : ما يشبه أن يكون هذا من كلام الله! فأنزل الله هذه الآية ( إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى ) . إلخ .
وقال السدي : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله تعالى : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . ) وقوله تعالى : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء ) قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال! فأنزل الله هذه الآية :
ويبدوا أن الآية الكريمة قد نزلت للرد على جميع تلك الفرق الضالة ، فقد قرر العلماء أن لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .
والاستحياء والحياد واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب . وهو في أصل اللغة انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم . وهذا المعنى غير لائق بجلال الله ، لذا ذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمة ، وهو ترك ضرب الأمثال بها .
والمعنى : إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل ، مألوف فى الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحاً .
ومذهب السلف : إمرار هذا وأمثاله على ما ورد ، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله - تعالى - مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات .
أي : ليس الحياء بمانع لله - تعالى - من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الصغيرة في نظركم؛ كالبعوض والذباب والعنكبوت ، فإن فيها من دلائل القدرة ، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول ، ويشهد بحكمة الخالق .
والمثل فى اللغة : الشبيه . وهو في عرف القرآن : الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع ، كالمثلين السابقين اللذين ضربهما الله في حال المنافقين؛ أو وصف غريب نحو قوله تعالى : ( ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ ) وضرب المثل : إيراده ، وعبر عن إيرادته بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع .
و ( ما ) في قوله ( مَثَلاً مَّا ) هي ما الإِبهامية ، تجيء بعد النكرة فتزيدها شيوعاً وعموماً ، كقولك : أعطني كتاباً ما ، أي كتاب كان .
والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة تطلق على الناموس وهي بدل أو بيان من قوله ( مَثَلاً ) .
وقوله : ( فَمَا فَوْقَهَا ) عطف على بعوضة ، والمراد فما فوقها في الحجم كالذباب والعنكبوت ، والكلب والحمار ، أو فما فوقها في المعنى الذي وقع التمثيل فيه ، وهو الصغر والحقارة كجناحها أو كالذرة .
قال صاحب الكشاف : سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ، من جهة أن التمثيل إنما يصار إليه ملا فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد . . وأن لله - تعالى - أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ أو بما لا يدركه لتناهيه فى صغره إلا هو وحده . . وقوله : ( فَمَا فَوْقَهَا ) فيه معنيان :
أحدهما : فما تجاوزهما وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول : فلان أسفل الناس وأنذلهم ، هو فوق ذلك ، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة .
والثاني : فيما زاد عليها في الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال :
( فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ ) .
أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد ، أما الشرط فلوقوع الفاء في جوابها ، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر ، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت : زيد ذاهب ، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت : أما زيد فذاهب .
والضمير في قوله ( أَنَّهُ ) يعود على المثل ، أو على ضربه المفهوم من قوله : ( أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ) .
والحق : خلاف الباطن ، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره .
ووجه كون المثل أو ضربه حقاً ، أنه يوضح المبهم ، ويفصل المجمل ، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها .
ووجه تفصيل الناس في هذه الآية إلى قسمين ، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك ، فهم مؤمن أو كافر .
والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم ، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك .
وعبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة ، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز .
وقال : ( أَنَّهُ الحق ) معرفاً بأل ، ولم يقل : أنه حق للمبالغة في حقية المثل .
ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفاً بأل ، للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال .
وقوله : ( مِن رَّبِّهِمْ ) حال من الحق ، ومن ابتدائية ، أي : إنه هذا الكلام وارد من الله ، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب ، فهو مؤذن بأنه من كلام الخالق الذي لا يقع منه الخطأ .
ثم بين - سبحانه - موقف الكافرين من هذه الأمثال عندما تتلى عليهم فقال :
( وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ) .
كلمة ( مَاذَآ ) مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإِشارة ، غير أن العرب توسعوا فيها فاستعملوها اسم استفهام مركباً من كلمتين ، وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة ، حتى تصير الإِشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد نحو : ماذا التواني؟ أو حيث لا يكون للإِشارة موقع كقوله تعالى : ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر ) وقد يتوسعون فيها توسعاً أٌوى فيجعلون ذا اسم موصول ، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله ، فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو ( مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ) ونحو ( مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ) أي : ما الذي أراده الله بهذا المثل .
والإِرادة في أصل اللغة : نزوع النفس إلى الفعل ، وإذا أسندت إلى الله دلت على صفة له تتعلق بالممكنات ، فيترجح بها أحد وجهي المقدور ، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع .
وقوله : ( مَثَلاً ) واقع في موقع التمييز لاسم الإِشارة " هذا " كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول . ماذا أردت بهذا جواباً؟
والاستفهام الذي حكاه القرآن على ألسنة هؤلاء الكافرين ، المقصود به الإِنكار والتحقير لهذه الأمثال ، ولأن يكون الله - تعالى - قد ضربها للناس .
والمعنى : فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف ، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين ، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، وأما الكافرون فإنهم لانطماس بصيرتهم ، وتغلب الأحقاد على قلوبهم فإنهم إذا سمعوا ذلك عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار .
ثم ساق - سبحانه - جملتين بين فيهما الحكمة من ضرب الأمثال فقال : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) .
فقد دلت هاتان الجملتان على أن العلم يكون المثل حقاً ، مما يزداد به المؤمنون رشداً على رشدهم ، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطاً في ظلمات جهلهم .
ووصف كلا من فريقي المؤمنين والمنكرين له بالكثرة مع أن المهتدين وصفوا بالقلة كثيرا كما في قوله : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ) وذلك لأن أهل الهدى كثيرون في أنفسهم ، وإذا وصفوا بالقلة فبالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من أهل الهدى كثير في الحقيقة ، وإن قلوا في الصورة ، فوصفوا بالكثرة ذهاباً إلى هذه الحقيقة .
وقدم الإِضلال على الهداية ، ليكون أول ما يقرع أسماع المبطلين عن الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفت في أعضادهم .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين ) .
الفاسقون : جمع فاسق ، من الفسق ، وهو في أصل اللغة : الخروج .
يقال : فسقت الرطبة من قشرها . أي : خرجت منه ، وشرعاً ، الخروج عن طاعة الله ، فيشمل الخروج من حدود الإِيمان ، وهو الكفر ، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر ، ولكنه اختص في العرف بارتكاب الكبيرة ، ولم يسمع الفسق في كلام الجاهلية ، بمعنى الخروج عن الطاعة فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإِسلامية .
وقصر الإِضلال بالمثل على الفاسقين ، إيذان بأن الفسق هو الذي أعدهم لأن يضلوا به ، حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا .
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة عن ابن مسعود - وعن ناس من الصحابة : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) [ البقرة : 17 ] وقوله أو كصيب من السماء ) [ البقرة : 19 ] الآيات الثلاث ، قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : ( هم الخاسرون )
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله [ تعالى هذه الآية ] إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) .
وقال سعيد ، عن قتادة : أي : إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما ، قل أو كثر ، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها )
قلت : العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية ، وليس كذلك ، وعبارة رواية سعيد ، عن قتادة أقرب والله أعلم . وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة .
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ؛ إذ البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت . وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن ، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله تعالى عند ذلك ، ثم تلا فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) [ الأنعام : 44 ] .
هكذا رواه ابن جرير ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، بنحوه ، فالله أعلم .
فهذا اختلافهم في سبب النزول ، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي ؛ لأنه أمس بالسورة ، وهو مناسب ، ومعنى الآية : أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي ، أي : لا يستنكف ، وقيل : لا يخشى أن يضرب مثلا ما ، أي : أي مثل كان ، بأي شيء كان ، صغيرا كان أو كبيرا .
و " ما " هاهنا للتقليل وتكون بعوضة ) منصوبة على البدل ، كما تقول : لأضربن ضربا ما ، فيصدق بأدنى شيء [ أو تكون " ما " نكرة موصوفة ببعوضة ] . واختار ابن جرير أن " ما " موصولة ، وبعوضة معربة بإعرابها ، قال : وذلك سائغ في كلام العرب ، أنهم يعربون صلة " ما " و " من " بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ، ونكرة أخرى ، كما قال حسان بن ثابت :
وكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا
قال : ويجوز أن تكون " بعوضة " منصوبة بحذف الجار ، وتقدير الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها .
[ وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء . وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورويت " بعوضة " بالرفع ، قال ابن جني : وتكون صلة ل " ما " ، وحذف العائد كما في قوله : ( تماما على الذي أحسن ) [ الأنعام : 154 ] أي : على الذي أحسن هو أحسن ، وحكى سيبويه : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، أي : يعني بالذي هو قائل لك شيئا ] .
وقوله : ( فما فوقها ) فيه قولان : أحدهما : فما دونها في الصغر ، والحقارة ، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح ، فيقول السامع : نعم ، وهو فوق ذلك ، يعني فيما وصفت . وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة ، قال الرازي : وأكثر المحققين ، وفي الحديث : لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء .
والثاني : فما فوقها : فما هو أكبر منها ؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة . وهذا [ قول قتادة بن دعامة و ] اختيار ابن جرير .
[ ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة ، رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة ] .
فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ، كما [ لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ] ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : ( ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) [ الحج : 73 ] ، وقال : ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) [ العنكبوت : 41 ] وقال تعالى : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) [ إبراهيم : 24 - 27 ] ، وقال تعالى : ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) الآية [ النحل : 75 ] ، ثم قال : ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) الآية [ النحل : 76 ] ، كما قال : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم ) الآية [ الروم : 28 ] . وقال : ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل ) الآية [ الزمر : 29 ] ، وقد قال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) [ العنكبوت : 43 ] وفي القرآن أمثال كثيرة .
قال بعض السلف : إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي ؛ لأن الله تعالى يقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون )
وقال مجاهد قوله : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها .
وقال قتادة : ( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) أي : يعلمون أنه كلام الرحمن ، وأنه من عند الله .
وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك .
وقال أبو العالية : ( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) يعني : هذا المثل : ( وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) كما قال في سورة المدثر : ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو ) [ المدثر : 31 ] ، وكذلك قال هاهنا : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين )
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : ( يضل به كثيرا ) يعني : المنافقين ، ويهدي به كثيرا ) يعني المؤمنين ، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا ، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم ، وأنه لما ضربه له موافق ، فذلك إضلال الله إياهم به ويهدي به ) يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم ، لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به ، وذلك هداية من الله لهم به وما يضل به إلا الفاسقين ) قال : هم المنافقون .
وقال أبو العالية : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) قال : هم أهل النفاق . وكذا قال الربيع بن أنس .
وقال ابن جريج عن مجاهد ، عن ابن عباس : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) يقول : يعرفه الكافرون فيكفرون به .
وقال قتادة : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) فسقوا ، فأضلهم الله على فسقهم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثت عن إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد يضل به كثيرا ) يعني الخوارج .
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنـزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها.
فقال بعضهم بما:
554- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنـزل الله: " إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً" إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
وقال آخرون بما:
555- حدثني به أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا قُرَاد، عن أبي جعفر الرازي, عن الرّبيع بن أنس, في قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها ". قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا, إن البعوضة تحيا ما جاعتْ, فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام: 44] (29) .
556- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم (30) ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام: 44].
وقال آخرون بما:
557- حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة، قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر (31) . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ".
558- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب, قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " (32) .
وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نـزلت فيه، مذهبًا؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.
وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوزَ أنْ يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا (33) .
فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به, إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين.
559- كما حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " مثلا ما بعوضة "، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها, يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
560- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله.
561- حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج عن مجاهد، مثله (34) .
قال أبو جعفر:- لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها, ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -
562- كما حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة, قال: البعوضة أضعفُ ما خلق الله.
563- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، بنحوه (35) .
- (36) خصها الله بالذكر في القِلة, فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما.
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ، الذي هذا الخبر جوابه, فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره (37) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا . وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما (38) ، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء (39) ، على ما وصف من ذلك قبل قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " - قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك, وقبّح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه, وأنه ضلال وفسوق, وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويل قوله: " إن الله لا يستحيي"، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى " إن الله لا يستحيي": إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [سورة الأحزاب: 37]، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية, والخشية بمعنى الاستحياء (40) .
وأما معنى قوله: " أن يضرب مثلا "، فهو أن يبيِّن ويصف, كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [سورة الروم: 28]، بمعنى وصف لكم, وكما قال الكُمَيْت:
وَذَلِــكَ ضَــرْبُ أَخْمَـاسٍ أُرِيـدَتْ
لأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــا (41)
بمعنى: وصف أخماس.
والمثَل: الشبه, يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله, كما يقال: شبَهُه وشِبْهه, ومنه قول كعب بن زهير:
كَـانَتْ مَوَاعِيـدُ عُرْقُـوبٍ لَهَـا مَثَلا
وَمَـــا مَوَاعِيدُهَــا إِلا الأَبَــاطِيلُ (42)
يعني شَبَهًا، فمعنى قوله إذًا: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " : إن الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به (43) .
وأما " ما " التي مع " مثل "، فإنها بمعنى " الذي", لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا.
فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت (44) ، فما وجه نصب البعوضة, وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت (45) : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟
قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدُهما، أن " ما " لما كانت في محل نصْب بقوله " يضرب "، وكانت البعوضة لها صلة، عُرِّبت بتعريبها (46) فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت:
وَكَـفَى بِنَـا فَضْـلا عَـلَى مَنْ غَيْرِنَا
حُـــبُّ النَّبِــيِّ مُحَــمَّدٍ إِيَّانَــا (47)
فعُرِّبت " غيرُ" بإعراب " من ". والعرب تفعل ذلك خاصة في" من " و " ما " (48) ، تعرب صِلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا، ونكرة أحيانًا.
وأما الوجه الآخر, فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها, ثم حذف ذكر " بين " و " إلى ", إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في" ما " الثانية، دلالة عليهما, كما قالت العرب: " مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة " و " له عشرون ما ناقة فجملا "، و " هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا "، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها (49) . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول: " ما بين كذا إلى كذا ", ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام (50) . فكذلك ذلك في قوله: " ما بعوضة فما فوقها " (51) .
وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ " ما " التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل (52) وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون " بعوضةً" منصوبةً بـ " يضرب ", وأن تكون " ما " الثانية التي في" فما فوقها " معطوفة على البعوضة لا على " ما ".
وأما تأويل قوله " فما فوقها ": فما هو أعظم منها (53) -عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله, فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى &; 1-406 &; -على ما قالاه- فما فوقها في العظم والكبر, إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.
وقيل في تأويل قوله " فما فوقها "، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ, فيقول السامع: " نعم, وفوقَ ذاك ", يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم (54) ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.
فقد تبين إذًا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في" ما "، إلا ما قلنا من أن تكون اسما، لا صلة بمعنى التطول (55) .
القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فأما الذين آمنوا "، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله: " فيعلمون أنه الحق من ربهم ". يعني: فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله، لِما ضرَبه له، مثَل.
564- كما حدثني به المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلامُ الله ومن عنده (56) .
565- وكما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة, قوله " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله (57) .
" وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا ".
قال أبو جعفر: وقوله " وأما الذين كفرُوا "، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكرُوا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفةُ المنافقين, وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية, فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:-
566- حدثنا به محمد عن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم " الآية, قال: يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (58) .
وتأويل قوله: " ماذا أراد الله بهذا مثلا "، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا." فذا "، الذي مع " ما "، في معنى " الذي"، وأراد صلته, وهذا إشارةٌ إلى المثل (59) .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: " يضلّ به كثيرًا "، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في" به " من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ, ومعنى الكلام: أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:-
567- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " يضلّ به كثيرًا " يعني المنافقين," ويهدي به كثيرًا "، يعني المؤمنين (60) .
- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و " يهدي به "، يعني بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق, فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين, كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ . وفيما في سورة المدثر - من قول الله: وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأٌ - أعني قوله: " يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا ".
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26)
وتأويل ذلك ما:-
568- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " وما يُضلّ به إلا الفاسقين "، هم المنافقون (61) .
569- وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " وما يُضِلّ به إلا الفاسقين "، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم (62) .
570- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " وما يضل به إلا الفاسقين "، هم أهل النفاق (63) .
قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة, لخروجها عن جُحرها (64) ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف: 50]، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.
571- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة, قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحُصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس في قوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة: 59]، أي بما بعُدوا عن أمري (65) . فمعنى قوله: " وما يُضلّ به إلا الفاسقين "، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضّلال من أهل النفاق.
--------------------
الهوامش :
(29) الأثر 555-"قراد" بضم القاف وفتح الراء مخففة : لقب له ، واسمه"عبد الرحمن بن غزوان بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي ، الخزاعي" ، وهو ثقة ، وقال أحمد : "كان عاقلا من الرجال" . وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/2/274 .
(30) في المطبوعة : "خلى آجالهم" ، وفي المخطوطة"خلا" ، والصواب ما أثبته . وخلا العمر يخلو خلوا : مضى وانقضى .
(31) في المخطوطة : "شيئًا قل منه أو كثر" بحذف"ما" ، وفي ابن كثير"مما قل أو كثر" وكلها متقاربة .
(32) الآثار : 554 - 558 أكثرها في ابن كثير 1 : 117 ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 41 ، والشوكاني 1 : 45 .
(33) في المطبوعة : "أن يضرب مثلا ما" ، وليست بشيء .
(34) الآثار : 559 - 561 ، وهي واحد كلها ، في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وسيأتي برقم : 566 .
(35) الأثر : 562 في الدر المنثور 1 : 41 .
(36) قوله : "خصها . . " جواب قوله آنفًا : " . . لما كانت أضعف الخلق" .
(37) في المطبوعة : "الدلالة على ذلك بينها جل ذكره في قوله" .
(38) قوله : "فيهما" متعلق بقوله"مثل" ، أي : اللتين مثل فيهما -ما عليه المنافقون مقيمون- بموقد النار . .
(39) في المطبوعة : "وبالصيب من السماء" .
(40) لم أعرف قائل هذا القول من المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب ، ولكني رأيت أبا حيان يقول في تفسيره 1 : 121 ، يزعم أن هذا المعنى هو الذي رجحه الطبري ، ومن البين أنه أخطأ فيما توهمه ، فإن لفظ الطبري دال على أنه لم يحقق معناه ، ولم يرضه ، ولم ينصره . هذا على أني أظن أن مجاز اللفظ يجيز مثل هذا الذي قاله المنسوب إلى المعرفة بلغة العرب ، وإن كنت أكره أن أحمل هذه الآية على هذا المعنى .
(41) هذا بيت استرقه الكميت استراقًا ، على أنه مثل اجتلبه . وأصله : أن شيخًا كان في إبله ، ومعه أولاده رحالا يرعونها ، قد طالت غربتهم عن أهلهم . فقال لهم ذات يوم : "ارعوا إبلكم ربعا" (بكسر فسكون : وهو أن تحبس عن الماء ثلاثًا ، وترد في اليوم الرابع) ، فرعوا ربعًا نحو طريق أهلهم . فقالوا : لو رعيناها خمسًا! (بكسر فسكون : أن تحبس أربعًا وترد في الخامس) فزادوا يومًا قبل أهلهم . فقالوا : لو رعيناها سدسًا! (أن تحبس خمسًا وترد في السادس) . ففطن الشيخ لما يريدون ، فقال : ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس ، ما همتكم رعيها ، إنما همتكم أهلكم! وأنشأ يقول :
وَذَلِـــكَ ضَــرْبُ أَخْمَــاسٍ أُرَاهُ,
لأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــا
فصار قولهم : "ضرب أخماس لأسداس" مثلا مضروبًا للذي يراوغ ويظهر أمرًا وهو يريد غيره .
وحقيقة قوله"ضرب : بمعنى وصف" ، أنه من ضرب البعير أو الدابة ليصرف وجهها إلى الوجه الذي يريد ، يسوقها إليه لتسلكه . فقولهم : ضرب له مثلا ، أي ساقه إليه ، وهو يشعر بمعنى الإبانة بالمثل المسوق . وهذا بين .
(42) ديوانه : 8 ، وفي المخطوطة : "وما مواعيده" ، وعرقوب -فيما يزعمون- : هو عرقوب ابن نصر ، رجل من العمالقة ، نزل المدينة قبل أن تنزلها يهود بعد عيسى ابن مريم عليه السلام . وكان يحتال في إخلاف المواعيد بالمماطلة ، كما هو معروف في قصته .
(43) هذا بقية تفسير الكلمة على مذهب من قال إن الاستحياء بمعنى الخشية ، لا ما أخذ به الطبري ، وتفسير الطبري صريح بين في آخر تفسير الآية .
(44) في المطبوعة : "كما قلت" .
(45) في المطبوعة : "على ما تأولت" ، وليست بجيدة .
(46) في المطبوعة"أعربت بتعريبها" . وقوله"عربت" : أي أجريت مجراها في الإعراب ، وهذا هو معنى"التعريب" في اصطلاح قدماء النحاة ، وستمر بك كثيرًا فاحفظها ، وهي أوجز مما اصطلح عليه المحدثون منهم .
(47) ليس في ديوانه ، ويأتي في الطبري 4 : 99 غير منسوب ، وفي الخزانة : 2 : 545 - 546 أنه لكعب بن مالك ، ونسب إلى حسان بن ثابت ولم يوجد في شعره . ونسب لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، ونسب أيضًا لعبد الله بن رواحة . وذكره السيوطي في شرح شواهد المغني : 116 ، 252 ، وأثبت بيتا قبله :
نَصَــرُوا نَبِيَّهُــمُ بِنَصْــرِ وَلِيِّـهِ
فاللــه, عَــزَّ, بِنَصْــرِهِ سَــمَّانَا
قال : يعني أن الله عز وجل سماهم"الأنصار" ، لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن والاه . والباء في"بنصر وليه" ، بمعنى"مع" .
(48) في المطبوعة : "فالعرب تفعل . . . " .
(49) في المخطوطة : "يعنون بذلك من قرنها . . " .
(50) في المخطوطة : "ليدل النصب في الأسماء على المحذوف . . . " ، وهما سواء
(51) أكثر هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 21 - 22 ، وذكر الوجهين السالفين جميعًا ، وكلامه أبسط من كلام الطبري وأبين .
(52) قد مضى قديمًا شرح معنى التطول (انظر : 18 ، 224 وما يأتي ص : 406 ، 154 من بولاق) ، وهو الزيادة في الكلام . وهذا الذي قال عنه : "زعم بعض أهل العربية" ، هو الفراء نفسه ، فقد ذكر هذا أول وجه من ثلاثة وجوه في الآية في معاني القرآن 1 : 21 ، وقال : "أولها : أن توقع الضرب على البعوضة ، وتجعل ما صلة ، كقوله : "عما قليل ليصبحن نادمين" ، يريد : عن قليل . المعنى -والله أعلم- : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا" .
والذي يسميه الطبري البغدادي المذهب في النحو"تطولا" ، يسميه الفراء الكوفي المذهب في النحو"صلة" ، وهي الزيادة في الكلام .
(53) في المخطوطة : "فهو ما قد عظم منها" ، وهو خطأ بلا معنى .
(54) في المطبوعة : "فوق الذي وصف" . وهذا التأويل الذي ذكره الطبري ، قد اقترحه الفراء في معاني القرآن 1 : 20 - 21 وأبان عنه ، وقال : "ولو جعلت في مثله من الكلام"فما فوقها" ، تريد أصغر منها ، لجاز ذلك . ولست أستحبه" ، يعني : أنه لا يستحبه في هذا الموضع من تفسير كتاب الله .
(55) قد شرحنا معنى"صلة" و"تطول" فيما مضى ص : 405 .
(56) الأثر : 564- هو عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، كما مر كثيرًا ، وكذلك جاء في الدر المنثور 1 : 43 .
(57) الأثر 565- في ابن كثير 1 : 118 .
(58) الأثر 566- قد مضى برقم : 559 .
(59) في المطبوعة : "فذا مع ما في معنى . . "
(60) الخبر : 567- في ابن كثير 1 : 119 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وهو فيها تام متصل ، وتمامه الأثر الذي يليه : 568 . ولكن ابن كثير أخطأ ، فوصل هذا الخير بكلام الطبري الذي يليه ، كأنه كله من تفسير ابن عباس وابن مسعود ، وهو خطأ محض . فقول الطبري بعد"فيزيد هؤلاء ضلالا . . " هو من تمام قوله قبل هذا"أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر" .
(61) الخبر 568- تمام الأثر السالف ، وقد ذكرنا موضعه .
(62) الأثر : 569- في ابن كثير 1 : 119 ، وفي الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وفيهما مكان"على فسقهم" ، "بفسقهم" .
(63) الأثر : 570- في ابن كثير 1 : 119 .
(64) انظر الطبري 15 : 170 (بولاق) . وقوله : "يحكى عن العرب سماعًا : فسقت الرطبة من قشرها ، إذا خرجت . وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها" ، وسائر ما قال هناك .
(65) الخبر : 571- لم أجده في مكانه من تفسير آية البقرة ، ولا في أية آية ذكر فيها هذا الحرف . ولم يخرجه أحد ممن اعتمدنا ذكره . وفي المخطوطة : "من أمري" .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الحج: 54 | ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ﴾ |
---|
البقرة: 26 | ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ﴾ |
---|
البقرة: 144 | ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
"يستحى:
قرئ:
1- يستحى، بياءين، والماضي «استحيا» ، وهى لغة أهل الحجاز، وبها قرأ الجمهور.
2- يستحى، بياء واحدة، والماضي: استحى، وهى لغة بنى تميم، وبها قرأ ابن كثير.
بعوضة:
قرئ:
1- بالنصب، وهى قراءة الجمهور، على أن تكون:
(أ) صفة ل «ما» : إذا جعلنا «ما» بدلا من «مثل» . و «مثل» مفعول «يضرب» .
(ب) بدلا من «مثل» .
(ج) عطف بيان، و «مثلا» مفعول «يضرب» .
(د) مفعولا ل «يضرب» ، و «مثلا» حال من النكرة مقدمة عليها.
(هـ) مفعولا ثانيا ل «يضرب» ، والأول هو «المثل» ، على أن «يضرب» يتعدى إلى اثنين.
(و) مفعول أول ل «يضرب» ، و «مثلا» المفعول الثاني.
(ز) منصوبا، على تقدير إسقاط الجار، والمعنى: أن يضرب مثلا ما بين بعوضة فما فوقها.
2- بالرفع، وهى قراءة الضحاك وإبراهيم بن أبى عبلة، على أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف.
يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا.
وما يضل به إلا الفاسقين:
وقرئ:
1- يضل به كثير ويهدى به كثير وما يضل به إلا الفاسقون، على البناء للمفعول فى الثلاثة، وهذه قراءة زيد بن على.
2- يضل به كثير ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقون، على البناء للفاعل الظاهر مع فتح حرف المضارعة فى الثلاثة، وهذه قراءة إبراهيم بن أبى عبلة.
التفسير :
ثم وصف الفاسقين فقال:{ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها. فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو:الإفساد في الأرض. فـ{ أُولَئِكَ} أي:من هذه صفته{ هُمُ الْخَاسِرُونَ} في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى:{ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي [كان] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.
ثم وصف الله - تعالى - هؤلاء الفاسقين بثلاث خصال ذميمة فقال : في بيان الخصلة الأولى : ( الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) .
والنقض : في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب مثل نقض الحبل المفتول وقد استعمل هنا مجازاً في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله .
وعبر عن إبطال العهد بالنقض ، لأنه أبلغ في الدلالة على الإِبطال من القطع والصرم ونحوهما ، لأن فى النقض إفساداً لهيئة الحبل .
والعهد : اسم للموثق الذي يلزم مراعاته وحفظه ، يقال : عهد إليه في كذا ، إذا أوصاه به ووثقه عليه .
وعهد الله : تارة يكون بما ركز في العقول من الحجة على التوحيد ، وتارة يكون بما أوجبه الله على الناس على لسان رسله - صلوات الله عليهم - وتارة بما يلتزمه المؤمن . وليس بلازم له في أصل الشرع مما ليس بمعصية كالنذور وما يجري مجراها .
والميثاق : التوثقة ، وهي التقوية والتثبيت ، والمراد به : ما قوى الله به عهده .
وقوله : ( مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) متعلق بينقضون ، ومن لابتداء الغاية ، وميثاقه الضمير فيه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله - فهو على الأولى مصدر مضاف إلى المفعول ، وعلى الثاني مضاف للفاعل .
أما الصفة الثانية التي وصفهم الله بها فهي قوله : ( وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ) وهو عام في كل قطيعة لا يرضاها الله ، كقطع الرحم ، والإِعراض عن موالاة المؤمنين ، وترك الجماعات المفروضة ، وعدم وصل الأقوال الطيبة بالأعمال الصالحة ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر .
وأما الصفة الثانية التي وصفهم بها فهي قوله - تعالى - :
( وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض ) .
والفساد في الأرض يقع بعبادة غير الله ، وبالدعاية إلى الكفر به ، وبالاستهزاء بالحق ، وبالاعتداء على حقوق الغير ، وبغير ذلك من الأمور التي حرمها الله - تعالى - .
وعبر بقوله ( فِي الأرض ) للإِشعار بأن فسادهم لا يقتصر عليهم ، وإنما هو يتعداهم إلى غيرهم .
ثم بين - سبحانه - بعد أن دمغهم بتلك الصفات المرذولة - عاقبة أمرهم فقال : ( أولئك هُمُ الخاسرون ) .
الخاسرون : جمع خاسر مأخوذ من الخسر والخسران وهو النقص ، ومن نقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله بوصله ، وأفسد في الأرض ، لا شك أنه قد نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، وكانت عاقبته الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .
قال ابن جرير : " والخاسرون جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم من رحمة الله بسسبب معصيتهم له ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك المنافق والكافر قد خسرا بحرمان الله لهما من رحمته التي خلقها لعباده . . . "
وبعد أن عدد القرآن مساوئ أولئك الضالين ، وبين سوء مصيرهم ، ومآلهم ، وجه إليهم الإِنكار والتوبيخ فخاطبهم بقوله :
( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ . . . )
وقال شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد ، قال : سألت أبي فقلت : قوله تعالى : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) إلى آخر الآية ، فقال : هم الحرورية . وهذا الإسناد إن صح عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فهو تفسير على المعنى ، لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج ، الذين خرجوا على علي بالنهروان ، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية ، وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل ؛ لأنهم سموا خوارج لخروجهم على طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام .
والفاسق في اللغة : هو الخارج عن الطاعة أيضا . وتقول العرب : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرتها ؛ ولهذا يقال للفأرة : فويسقة ، لخروجها عن جحرها للفساد . وثبت في الصحيحين ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور .
فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش ، والمراد من الآية الفاسق الكافر ، والله أعلم ، بدليل أنه وصفهم بقوله : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون )
وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) الآيات ، إلى أن قال : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [ الرعد : 19 - 25 ] .
وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه ، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله ، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به .
وقال آخرون : بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به ، وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك [ عن ] الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا قليلا . وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وقول مقاتل بن حيان .
وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق . وعهده إلى جميعهم في توحيده : ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته ، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة لهم على صدقهم ، قالوا : ونقضهم ذلك : تركهم الإقرار بما ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق ، وروي أيضا عن مقاتل بن حيان نحو هذا ، وهو حسن ، [ وإليه مال الزمخشري ، فإنه قال : فإن قلت : فما المراد بعهد الله ؟ قلت : ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد ، كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) [ الأعراف : 172 ] إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنزلة عليهم لقوله : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] .
وقال آخرون : العهد الذي ذكره [ الله ] تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) الآيتين [ الأعراف : 172 ، 173 ] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به . وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضا ، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) إلى قوله : ( الخاسرون ) قال : هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا .
وكذا قال الربيع بن أنس أيضا . وقال السدي في تفسيره بإسناده ، قوله تعالى : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) قال : هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه .
وقوله : ( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) قيل : المراد به صلة الأرحام والقرابات ، كما فسره قتادة كقوله تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) [ محمد : 22 ] ورجحه ابن جرير . وقيل : المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه .
وقال مقاتل بن حيان في قوله : ( أولئك هم الخاسرون ) قال في الآخرة ، وهذا كما قال تعالى : ( أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [ الرعد : 25 ] .
وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب .
وقال ابن جرير في قوله : ( أولئك هم الخاسرون ) الخاسرون : جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم [ و ] حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته ، يقال منه : خسر الرجل يخسر خسرا وخسرانا وخسارا ، كما قال جرير بن عطية :
إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنه
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم, فقال: وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه:-
فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه, وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته, ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك، تركُهم العمل به.
وقال آخرون: إنما نـزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم, وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله: إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم ، وبقوله: ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر . فكل ما في هذه الآيات، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا: فعهدُ الله الذي &; 1-411 &; نقضوه بعدَ ميثاقه، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها, واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث, والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته, وإنكارهم ذلك, وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ (66) ، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا.
وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده: ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه: ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة, وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب, مع علمهم أن ما أتوا به حقّ.
وقال آخرون: العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره, هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم, الذي وصفه في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [سورة الأعراف: 172-173]. ونقضُهم ذلك, تركهم الوفاء به.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال: إن هذه الآيات نـزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم, &; 1-412 &; وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل, ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه: إنّ الذين كفروا سواء عليهم ، وقوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، فيهم أنـزِلت, وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي، وإن كانت فيهم نـزلتْ, فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً، جميعُ المنافقين (67) ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم.
وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم, ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم, أعني: فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله, وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك, كما قال الله جل ذكره: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [سورة آل عمران: 187]، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه, وتركُهم العمل به.
وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها, لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة (68) - فيهم نـزلتْ، إلى تمام قصصهم. وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله (69) . يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة: 40]. وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر (70) - ما يدل على أن قوله: " الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه " مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم, ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية إذًا: وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله, الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم، في الكتب التي أنـزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس, وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه، وترك كتمان ذلك لهم (71) . ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه, هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ . [سورة الأعراف: 169] .
وأما قوله: " من بعد ميثاقه "، فإنه يعني: من بعد توَثُّق الله فيه (72) ، بأخذ عهوده بالوفاء له، بما عهد إليهم في ذلك (73) . غيرَ أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان تَوَثُّقًا, والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله.
وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض.
572- كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: " الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه "، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق, فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة, وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله (74) .
573- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع، في قوله: " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون "، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظَّهَرَة، (75) أظهرُوا هذه الخلال الست &; 1-415 &; جميعًا: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وَعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا, ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل, وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا (76) .
القول في تأويل قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
قال أبو جعفر: والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية: الرحم. وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد: 22]. وإنما عَنى بالرّحم، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها: أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها, والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها.
" وأن " التي مع " يوصل " في محل خفض، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في" به ": فكان معنى الكلام (77) : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في" به "، هي كناية عن ذكر " أن يوصل ". وبما قلنا في تأويل قوله: " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل "، وأنه الرّحم، كان قتادة يقول:
574- حدثنا بشر بن معاذ, قال حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل "، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة (78) .
وقد تأول بعضهم ذلك: أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية, وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض (79) .
قال أبو جعفر: وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب, ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه, فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك, غير أنها -وإن كانت كذلك- فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله، رَحمًا كانتْ أو غيرَها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ
قال أبو جعفر: وفسادُهم في الأرض: هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم، وكفرهم به, وتكذيبهم رسوله, وجحدهم نبوته, وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
قال أبو جعفر: والخاسرون جمع خاسر (80) ، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها -بمعصيتهم الله- من رحمته, كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه (81) . فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا, كما قال جرير بن عطية:
إِنَّ سَــلِيطًا فِــي الْخَسَــارِ إِنَّـهُ
أَوْلادُ قَــــوْمٍ خُـــلِقُوا أَقِنَّـــهْ (82)
يعني بقوله: " في الخسار "، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى " أولئك هم الخاسرون ": أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها, فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.
وقال بعضهم في ذلك بما:
575- حُدِّثت به عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل " خاسر ", فإنما يعني به الكفر, وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب.
--------------
الهوامش :
(66) في المطبوعة : "عن الناس" ، و"الناس" منصوب ، مفعول ثان ، للمصدر"كتمانهم" . والفعل"كتم" يتعدى إلى مفعول ومفعولين ، تقول : كتمت فلانًا سرى ، وكتمت عن فلان سرى ، وهما سواء .
(67) سياق العبارة : "ومعنى جميع المنافقين ، بما وافق منها صفة المنافقين" وعبارة الطبري أعرب .
(68) في المطبوعة : "من ابتداء الآيات" ، وكأنه تغيير من المصححين .
(69) في المطبوعة"عن خلق آدم وأبنائه في قوله" ، وهو خطأ محض . وقوله"وبيانه" ، مجرور معطوف على قوله : "وفي الآية التي بعد الخبر . . " أي ، "وفي بيانه في قوله : . . " .
(70) قوله : "وخطابه" مجرور معطوف على قوله : "وفي الآية . . " و"وبيانه . . " كما أسلفنا في التعليق قبله . وفي المطبوعة : "في ذلك خاصة" . ولست بشيء .
(71) هكذا في الأصول ، ولعل الأجود أن يقول : وترك كتمان ذلك عنهم .
(72) في المطبوعة : "منه" مكان"فيه" .
(73) في المطبوعة والمخطوطة"بما عهد إليه" ، وهو خطأ بين .
(74) الأثر : 572- في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 . وقوله"من ثمرة قلبه" ، أي خالص قلبه ، مأخوذ من ثمرة الشجرة ، لأنها خلاصتها وأطيب ما فيها . وفي حديث المبايعة : "فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه" ، أي خالص عهده وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، في المسند : 6501 ، 6503 ، 6793 . ويقال : خصني فلان بثمرة قلبه : أي خالص مودته .
(75) الظهرة (بثلاث فتحات) : الكثرة ، وأراد بها ظهور الأمر والغلبة . ولو أسكنت الهاء ، كان صوابًا ، من قولهم : ظهرت على فلان : إذا علوته وغلبته .
(76) الأثر : 573- في ابن كثير 1 : 120 - 121 عن أبي العالية ، ثم قال : "وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا" . هذا ، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ، والشوكاني خبرًا خرجوه عن ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال : "الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، قال : إياكم ونقض هذا الميثاق . وكان يسميهم : الفاسقين" الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 . أما ابن كثير فقد رواه في تفسيره 1 : 119 نقلا عن ابن أبي حاتم؛ بإسناده ، ولم ينسبه إلى الطبري . وأخشى أن يكون وهمًا من السيوطي والشوكاني .
(77) في المطبوعة : "وكان معنى الكلام" بالواو .
(78) الأثر : 574- في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 46 مختصرًا ، ونصه هناك : "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، قال : الرحم والقرابة" .
(79) في المخطوطة : "واستشهد على ذلك عموم ظاهر الآية ، ولا دلالة . . " .
(80) في المطبوعة : "جمع الخاسر" ، وليست بشيء .
(81) وضع في البيع يوضع (مبني للمجهول) وضيعة : إذا خسر خسارة من رأس المال .
(82) ديوانه : 598 ، والنقائض : 4 ، واللسان (قنن) ، وروايته : "أبناء قوم" . وسليط : بطن من بني يربوع قوم جرير ، واسم سليط : كعب بن الحارث بن يربوع . وكان غسان ابن ذهيل السليطي هجا بني الخطفي ، فهجاه جرير بهذا الرجز . وأقنة جمع قن (بكسر القاف) ، والقن : العبد الذي ملك هو وأبواه . والأنثى ، قن أيضًا بغير هاء .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 27 | ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ |
---|
الرعد: 25 | ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ |
---|
الرعد: 21 | ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي:كيف يحصل منكم الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.
( كَيْفَ ) اسم استفهام للسؤال عن الأحوال ، وليس المراد به هنا استعلام المخاطبين عن حال كفرهم ، وإنما المراد منه معنى تكثر تأديته في صورة الاستفهام وهو الإِنكار والتوبيخ ، كما تقول لشخص : كيف تؤذي أباك وقد رباك؟ لا تقصد إلا أن تنكر عليه أذيته لأبيه وتوبيخه عليها .
وفي الآية الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ لزيادة تقريعهم والتعجب من أحوالهم الغريبة ، لأنهم معهم ما يدعو إلى الإيمان ومع ذلك فهم منصرفون إلى الكفر .
وقوله : ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ) جار مجرى التنبيه على أن كفرهم ناشئ عن جهل وعدم تأمل في أدلة الإِيمان القائمة أمام أعينهم .
والأموات : جمع ميت بمعنى المعدوم . والإِحياء : بمعنى الخلق .
والمعنى : كيف تكفرون بالله وحالكم أنكم كنتم معدومين فخلقكم ، وأخرجكم إلى الوجود كما قال - تعالى - :
( هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ) ويصح أن يفسر الأموات بمعنى فاقدي الحياة . والإِحياء بنفخ الروح فيهم فيكون المعنى : وكنتم أمواتاً يوم استقراركم نطفاً في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، فنفخ فيكم الأرواح؛ وأصبحتم في طور إحساس وحركة وتفكير وبيان .
وبعد أن وبخهم على كفرهم بمن أخرجهم من الموت إلى الحياة ، أورد جملا لاستيفاء الأطوار التي ينتقل فيها الإِنسان من مبدأ الحياة إلى مقره الخالد في دار نعيم أو عذاب فقال : ( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم ( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) يبعثكم بعد الموت ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .
أي تصيرون إليه دون سواه ، فيجمعكم في المحشر؛ ويتولى حسابكم ، والحكم في أمركم بمقتضى عدله ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) أما الإِماتة فهم يشاهدونها بأعينهم بين الحين والحين ، وأما البعث فقد أخبر الله عنه بما يدل على صحته وينفي استبعاد ، بأدلة عقلية ونقلية كثيرة ، أما الأدلة العقلية ، فمنها : أن الذي قدر على إحيائهم من العدم ، قادر على إحيائهم وإعادتهم بعد موتهم فإن الإِعادة أهون من البدء دائما ، وأما الأدلة النقلية ، فمنها قوله - تعالى - :
( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ ) وفي قوله - تعالى - ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ترهيب لمن ينزع إلى الشر ، ويرتكب المعاصي من غير مبالاة ، وترغيب لمن يقبل على فعل الخير ، ويقدم على الطاعات .
قال الجمل : " والفاء في قوله ( فَأَحْيَاكُمْ ) على بابها من التعقيب ، وثم على بابها من التراخي ، لأن المراد بالموت الأول ، العدم السابق ، وبالحياة الأولى الخلق ، وبالموت الثاني الموت المعهود ، وبالحياة الثانية الحياة للبعث فجاءت الفاء وثم على بابيهما من التعيب والتراخي ، على هذا التفسير وهو أحسن الأقوال ، ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن البعث " .
يقول تعالى محتجا على وجوده وقدرته ، وأنه الخالق المتصرف في عباده : ( كيف تكفرون بالله ) أي : كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره ! ( وكنتم أمواتا فأحياكم ) أي : قد كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود ، كما قال تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) [ الطور : 35 ، 36 ] ، وقال ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) [ الإنسان : 1 ] والآيات في هذا كثيرة .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) [ غافر : 11 ] قال : هي التي في البقرة : ( وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم )
وقال ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( كنتم أمواتا فأحياكم ) أمواتا في أصلاب آبائكم ، لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ، ثم يميتكم موتة الحق ، ثم يحييكم حين يبعثكم . قال : وهي مثل قوله : ( [ ربنا ] أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى . فهذه ميتتان وحياتان ، فهو كقوله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم )
وهكذا روي عن السدي بسنده ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة - وعن أبي العالية والحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك .
وقال الثوري ، عن السدي عن أبي صالح : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) قال : يحييكم في القبر ، ثم يميتكم .
وقال ابن جرير عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة . وذلك كقول الله تعالى : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين )
وهذا غريب والذي قبله . والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس ، وأولئك الجماعة من التابعين ، وهو كقوله تعالى : ( قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ الجاثية : 26 ] .
[ وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس ، كما قال في الأصنام : ( أموات غير أحياء ) [ النحل : 21 ] ، وقال ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ) [ يس : 33 ] .
القول في تأويل قول الله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم بما:
576- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم "، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يومَ القيامة.
577- حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [سورة غافر: 11]، قال: هي كالتي في البقرة: " كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ".
578- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس, قال: حدثنا عَبْثَر, قال: حدثنا حُصين، عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا, ثم أمَتَّنَا, ثم أَحْيَيْتَنَا.
579- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم, عن حُصين, عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله, ثم أماتهم, ثم أحياهم (83) .
580- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد في قوله: " كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم "، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم, ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ, ثم يحييكم. وقوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، مثلها.
581- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عطاء الخراساني, عن ابن عباس، قال: هو قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ .
582- حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: حدثني أبو العالية، في قول الله: " كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا "، يقول: حين لم يكونوا شيئًا, ثم أحياهم حين خلقهم, ثم أماتهم, ثم أحياهم يوم القيامة, ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.
583- حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة, ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان, فهو قوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون ".
وقال آخرون بما:
584- حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن السُّدّيّ, عن أبي صالح: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون "، قال: يحييكم في القبر, ثم يميتكم.
وقال آخرون بما:
585- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, &; 1-420 &; عن قتادة، قوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم (84) ، فأحياهم الله وخلقهم, ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها, ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان (85) .
وقال بعضهم بما:
586- حدثني به يونس, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ . قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، حتى بلغ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [سورة الأعراف: 172-173]. قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى (86) فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال: وذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا [سورة النساء: 1]، قال: وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا (87) ، وقرأ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [سورة الزمر: 6]، قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام, ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة, فذلك قول الله: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ، &; 1-421 &; وقرأ قول الله: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [سورة الأحزاب: 7]. قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (88) [سورة المائدة: 7].
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه، وجه ومذهبٌ من التأويل.
* * *
فأما وجه تأويل من تأول قوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم "، أي لم تكونوا شيئًا, فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ, وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ, وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ:
فَـأَحْيَيْتَ لِـي ذكْري, وَمَا كُنْتُ خَامِلا
وَلَكِـنَّ بَعْـضَ الذِّكْـرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ (89)
يريد بقوله: " فأحييتَ لي ذكري"، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: " وكنتم أمواتًا " لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم, وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون, ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم, وتعفِّي آثاركم, وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها، &; 1-422 &; وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم (90) .
* * *
وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد, فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله " وكنتم أمواتًا "، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد, لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ (91) . وقوله جل ذكره: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا "، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه, وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الإنابة, ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.
* * *
وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها, فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره، نفخُه الأرواح فيها، وإماتتُه إياهم بعد ذلك، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور، ويبْعثُ الخلق للموعود.
* * *
وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك, وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم, وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم, وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب (92) ، والمصير في البرزخ إلى اليوم &; 1-423 &; البعث, وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه -عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات, وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته, وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف -فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين- أعني قوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " الآية, وقوله: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث, فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.
* * *
وقال بعضُهم: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة, فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه (93) ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ &; 1-424 &; ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه, والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ (94) ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ, كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح, فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً, نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.
* * *
وأولى ما ذكرنا -من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " الآية, القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله: " وكنتم أمواتًا " أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم, ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون, ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة, ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك, كما قال: " ثم إليه تُرجعون "، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم, ثم يحشرهم لموقف الحساب, كما قال جل ذكره: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج: 43] وقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [سورة يس: 51]. والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل, ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.
وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم "، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن &; 1-425 &; بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأكم خلقًا سويًّا، وجعلكم أحياءً، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه -بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم] (95) وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.
ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ - (96) نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركبوا من الآثام، واجترموا من الأجْرام، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية, محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم, ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم, ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه, وتعجيل التوبة، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب (97) .
فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه, وما سلف منه من كرامته إليه، وآلائه لديه, وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما, ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل, وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة, منبهًا لهم على حكمه &; 1-426 &; في المنيبين إليه بالتوبة, وقضائه في المستكبرين عن الإنابة, إعذارًا من الله بذلك إليهم، وإنذارًا لهم , ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان -بالاحتجاج عليهم- دون غيرهم من سائر أصناف الأمم، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (98) ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك, أنه لله رسولٌ مبعوث, وأن ما جاءهم به فمن عنده, إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص، من مكنون علومهم, ومصون ما في كتبهم, وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.
* * *
وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا، ولا لأسفارهم تاليًا, ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا, فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم, فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه، مع كفرهم به, وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته-: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [سورة البقرة: 29]. فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا, لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم, وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.
فلذلك قال جل ذكره: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ".
&; 1-427 &;
وقوله: " هو " مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله: " كيف تكفرون بالله ". ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه، إنشاؤه عينه, وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و " ما " بمعنى " الذي".
فمعنى الكلام إذًا: كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً, ثم يميتكم, ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب, وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
و " كيف " بمعنى التعجب والتوبيخ، لا بمعنى الاستفهام , كأنه قال: ويْحَكم كيف تكفرون بالله, كما قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [سورة التكوير: 26]. وحل قوله: " وكنتم أمواتًا فأحياكم " محلّ الحال. وفيه ضميرُ" قد " (99) ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن " فعل " إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية " قد ", كما قال ثناؤه: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [سورة النساء: 90]، بمعنى: قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحتَ كثرت ماشيتك, تريد: قد كثرت ماشيتك.
-------------
الهوامش :
(83) الأثر : 579-"حصين" . بضم الحاء المهملة : هو ابن عبد الرحمن السلمي . و"أبو مالك" : هو الغفاري الكوفي ، واسمه"غزوان" . سبقت ترجمته في : 168 .
(84) في المخطوطة : "في أصلبة" ، والصواب"صلبة" (بكسر الصاد وفتح اللام) أو"أصلب" (بسكون الصاد وضم اللام) . وكلها جمع صلب (بضم فسكون) : وهو عظم الظهر من لدن الكاهل إلى عجب الذنب .
(85) الآثار : 575 - 585 : بعضها في ابن كثير 1 : 122 مجملة ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 46 ، وكرهنا الإطالة بتفصيلها .
(86) القصيري ، بالتصغير : هي الضلع التي تلي الشاكلة أسفل الأضلاع ، وهي أقصرهن .
(87) في المطبوعة : "وبث فيهما بعد ذلك . . " ، وهو خطأ .
(88) الأثر : 586- في ابن كثير 1 : 122 ، والشوكاني 1 : 47 ، مختصرًا جدًا .
(89) الأغاني 18 : 140 ، والمؤتلف والمختلف للآمدي : 193 ، وأبو نخيلة اسمه لا كنيته ، كما قال أبو الفرج ، ويقال اسمه : يعمر بن حزن بن زائدة ، من بني سعد بن زيد مناة ، وكان الأغلب عليه الرجز ، وله قصيد قليل ، وكان عاقًّا بأبيه ، فنفاه أبوه عن نفسه . والبيت من أبيات ، يمدح بها مسلمة بن عبد الملك .
(90) في المطبوعة : "لتعارفوا" ، وهي قريبة في المعنى .
(91) الاستعتاب : الاستقالة من الذنب ، والرجوع إلى ما يجلب الرضا ، أي أن يستقيلوا وبهم ويستغفروه ، ويرجعوا عن إساءتهم ويطلبوا رضاه . واستعتبه : طلب إليه الرجوع إلى ما يرضى . والاسترجاع : طلب الرجوع . واسترجعه : رده الله إلى الطاعة .
(92) في المخطوطة : "للعودة إلى التراب" ، وهي قريب .
(93) في المخطوطة : "فيرد في جسمه" ، وهي قريب .
(94) في المطبوعة : "وأبينت" ، وهذه أجود .
(95) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة .
(96) قوله"نعمه" مفعول قوله"ثم عدد ربنا . . " ، وما بينهما فصل .
(97) في المطبوعة"يحذرهم بذلك . . . ويخوفهم . . . أحل بأوائلهم ، ويعرفهم" ، وانظر ما سيأتي في ص : 154 بولاق . وفي المخطوطة والمطبوعة : "من الخلاص . . " بغير واو ، هو لا يستقيم ، فلذلك زدناها . وقوله : "حلول مثلاته" جمع مثلة (بفتح الميم وضم الثاء) : وهي العقوبة والعذاب والنكال .
(98) سياق هذه العبارة : "وخاصًّا أهل الكتاب . . بالاحتجاج عليهم . . لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم" . وما بين هذه الأحرف المتعلقة بمراجعها ، فصل متتابع ، كعادة الطبري في كتابته .
(99) في المطبوعة"وفيه إضمار قد" ، ولم يرد بالضمير ما اصطلح عليه النحويون ، وإنما أراد المضمر الذي أخفى وستر . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 23 - 25 .
(100) الأثر : 587- في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 ، وفيهما زيادة على الذي في أصول الطبري ، وهي : " . . ما في الأرض جميعًا ، كرامةً من الله ونعمةً لابن آدم متاعًا ، وبُلْغةً ومنفعة إلى أجل" .
هذا وقد زادا معًا أثرًا آخر قالا أخرجه ابن جرير عن مجاهد ، هذا هو : "في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ، قال : سخّر لكم ما في الأرض جميعًا" . وإسناد هذا الأثر ، هو الذي يأتي برقم : 591 ، لأنه من تمامه ، كما هو بين فيما نقله السيوطي والشوكاني . ويوشك أن يكون في نسخ الطبري التي بين أيدينا حذف ألجأ النساخ إليه طول الكتاب ، فقد مضى آنفًا مثل هذا النقص ، ومثل هذه الزيادة
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 28 | ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ |
---|
آل عمران: 101 | ﴿وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّـهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
ترجعون:
قرئ:
1- ترجعون، مبنيا للمفعول، وهى قراءة الجمهور، وهى أفصح.
2- ترجعون، مبنيا للفاعل، وهى قراءة مجاهد وغيره.
التفسير :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أي:خلق لكم, برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع والاعتبار. وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة, لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث, فإن [تحريمها أيضا] يؤخذ من فحوى الآية, ومعرفة المقصود منها, وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا. وقوله:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}{ اسْتَوَى} ترد في القرآن على ثلاثة معاني:فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى:{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} وتارة تكون بمعنى "علا "و "ارتفع "وذلك إذا عديت بـ "على "كما في قوله تعالى:{ ثم استوى على العرش}{ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وتارة تكون بمعنى "قصد "كما إذا عديت بـ "إلى "كما في هذه الآية، أي:لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات{ فسواهن سبع سماوات} فخلقها وأحكمها, وأتقنها,{ وهو بكل شيء عليم} فـ{ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} و{ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} يعلم السر وأخفى. وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى:{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته.
وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى :
( هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ) .
أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .
ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال :
( ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ) .
استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .
والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : ( فَسَوَّاهُنَّ ) ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع .
فمعنى ( ثُمَّ استوى إِلَى السمآء ) علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملامسة والمباشرة .
وجملة ( ثُمَّ استوى ) معطوفة على جملة ( خَلَقَ لَكُمْ ) ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .
وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - :
( مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ ) وجملة ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .
وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى :
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ . . . )
لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض ، فقال : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ) أي : قصد إلى السماء ، والاستواء هاهنا تضمن معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عدي بإلى ( فسواهن ) أي : فخلق السماء سبعا ، والسماء هاهنا اسم جنس ، فلهذا قال : ( فسواهن ) . ( وهو بكل شيء عليم ) أي : وعلمه محيط بجميع ما خلق . كما قال : ( ألا يعلم من خلق ) [ الملك : 14 ] وتفصيل هذه الآية في سورة " حم السجدة " وهو قوله : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ فصلت : 9 - 12 ] .
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعا ، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ، وقد صرح المفسرون بذلك ، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله . فأما قوله تعالى : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها ) [ النازعات : 27 - 32 ] فقد قيل : إن ) ثم ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ، لا لعطف الفعل على الفعل ، كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقيل : إن الدحي كان بعد خلق السماوات ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
وقد قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك - وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات [ وهو بكل شيء عليم ] ) قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء . فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء . ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن : ( ن والقلم ) والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله تعالى : ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) [ النحل : 15 ] . وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها ) [ فصلت : 9 ، 10 ] . يقول : أنبت شجرها ( وقدر فيها أقواتها ) يقول : أقواتها لأهلها ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) [ فصلت : 10 ] يقول : من سأل فهكذا الأمر . ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) [ فصلت : 11 ] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، ( وأوحى في كل سماء أمرها ) [ فصلت : 12 ] قال : خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البرد وما لا نعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، فذلك حين يقول : ( خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) [ الأعراف : 54 ] ويقول ( كانتا رتقا ففتقناهما ) [ الأنبياء : 30 ] .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل ، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .
وقال مجاهد في قوله : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) ( فسواهن سبع سماوات ) قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، يعني بعضهن تحت بعض .
وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كما قال في آية السجدة : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ فصلت : 9 - 12 ] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها ) [ النازعات : 27 - 31 ] قالوا : فذكر خلق السماء قبل الأرض . وفي صحيح البخاري : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديما وحديثا ، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات ، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله : ( والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها ) [ النازعات : 30 - 32 ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض ، فأخرجت ما كان مودعا فيها من المياه ، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير - أيضا - من رواية ابن جريج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل .
وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ ، وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا ، وقد حرر ذلك البيهقي .
وبنحو الذي قلنا في قوله: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا "، كان قتادة يقول:
587- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا "، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض (100) .
القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله: " ثم استوى إلى السَّماء ".
فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء, أقبل عليها, كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:
أَقُــولُ وَقَـدْ قَطَعْـنَ بِنَـا شَـرَوْرَى
سَــوَامِدَ, وَاسْـتَوَيْنَ مِـنَ الضَّجُـوعِ (101)
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع, وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ, وإنما معنى قوله: " واستوين من الضجوع "، استوين على الطريق من الضجوع خارجات, بمعنى استقمن عليه.
وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل, ولكنه بمعنى فعله, كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: &; 1-429 &; تحوّل فِعله. [وقال بعضهم: قوله: " ثم استوى إلى السماء " يعني به: استوت] (102) . كما قال الشاعر:
أَقُـولُ لَـهُ لَمَّـا اسْـتَوَى فِـي تُرَابِهِ
عَـلَى أَيِّ دِيـنٍ قَتَّـلَ النَّـاسَ مُصْعَبُ (103)
وقال بعضهم: " ثم استوى إلى السماء "، عمدَ لها (104) . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه.
وقال بعضهم: الاستواء هو العلو, والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.
588- حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: " ثم استوى إلى السماء ". يقول: ارتفع إلى السماء (105) .
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء (106) .
قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته, فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب, يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم:
طَــالَ عَــلَى رَسْـمِ مَهْـدَدٍ أبَـدُهْ
وَعَفَـــا وَاسْــتَوَى بِــهِ بَلَــدُه (107)
يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء (108) ، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع, كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.
وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: " ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن "، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.
والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: " ثم استوى إلى السماء "، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله " استوى " أقبلَ, أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير, قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل (109) أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء, كان قبل خلق السماء أم بعده؟
قيل: بعده, وقبل أن يسويهن سبعَ سموات, كما قال جل ثناؤه: &; 1-431 &; ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [سورة فصلت: 11]. والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا, وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.
وقال بعضهم: إنما قال: " استوى إلى السّماء "، ولا سماء, كقول الرجل لآخر: " اعمل هذا الثوب "، وإنما معه غزلٌ.
وأما قوله " فسواهن " فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة, كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته, وتدبيره لهنّ على إرادته, وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ (110) .
589- كما: حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " فسوَّاهن سبع سموات " يقول: سوّى خلقهن، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (111) .
وقال جل ذكره: " فسواهن "، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع (112) ، وقد قال قبلُ: " ثم استوى إلى السماء " فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة, فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ, وذُكِّرت أخرى (113) فقيل: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [سورة المزمل: 18]، &; 1-432 &; كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها, فيقال: هذا بقر وهذه بقر, وهذا نخل وهذه نخل, وما أشبه ذلك.
وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة, غير أنها تدلّ على السموات, فقيل: " فسواهن "، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها (114) . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة, فيقال: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ، كما يذكر المؤنث (115) ، وكما قال الشاعر:
فَـــلا مُزْنَــةٌ وَدَقَــتْ وَدْقَهَــا
وَلا أَرْضَ أَبْقَـــــل إِبْقَالَهَــــا (116)
وكما قال أعشى بني ثعلبة:
فَإِمَّـــا تَـــرَيْ لِمَّتِــي بُــدِّلَتْ
فَـــإِنَّ الْحَـــوَادِثَ أَزْرَى بِهَــا (117)
وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض, فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت, ثم تكون تلك الواحدة جماعًا, كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ, وبُرْمة أعشار، للمتكسرة, وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق (118) .
فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات, ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها, فكيف زعمت أنها جِماع؟
قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات, فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:-
590- حدثني محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ, ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا, وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا, ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن (119) . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها, فجرى فيها الليل والنهار, وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال, وقدر فيها الأقوات, وبث فيها ما أراد من الخلق, ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان -كما قال- فحبكهن, وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها, وأوحى في كل سماء أمرها, فأكمل &; 1-434 &; خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته, ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما, فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا, قالتا: أتينا طائعين (120) .
فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض (121) وما فيها - وهن سبع من دخان, فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات (122) ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره (123) ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها: " ثم استوى إلى السماء " بمعنى الجميع (124) ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه: " فسوَّاهن "، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله " فسواهن "، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها, أم بمعنى غير ذلك (125) ؟
قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق, ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم (126) .
&; 1-435 &;
591- فحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ". قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء, ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا, فارتفع فوق الماء فسما عليه, فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة, ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين, فخلق الأرض على حوت, والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: ن وَالْقَلَمِ ، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة, والصفاةُ على ظهر ملَك, والملك على صخرة, والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب, فتزلزت الأرض, فأرسى عليها الجبال فقرّت, فالجبال تخر على الأرض, فذلك قوله: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (127) [سورة النحل: 15]. وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر (128) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [سورة فصلت: 9-11]، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس, فجعلها &; 1-436 &; سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة, وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض - وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها, من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب, فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة الأعراف: 54]. ويقول: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (129) [سورة الأنبياء: 30].
592- وحدثني الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: " هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء ". قال: خلق الأرض قبل السماء, فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان, فذلك حين يقول: " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ". قال: بعضُهن فوق بعض, وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض (130) .
&; 1-437 &;
593- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " فسواهنّ سبعَ سموات " قال: بعضُهن فوق بعض, بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.
594- حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء -" ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات ", ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [سورة النازعات: 30].
595- حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني أبو معشر, عن سعيد بن أبي سعيد, عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد, فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين, وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء, وخلق السموات في الخميس والجمعة, وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة, فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم, فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم, ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم, ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان, فسوَّاهنَّ وحبَكهن, وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه, وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه (131) .
القول في تأويل قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
يعني بقوله جل جلاله: " وهو " نفسَه، وبقوله: " بكل شيء عليم " أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا, وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ, لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب (132) - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم, وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم -ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم (133) ، إني بكل شيء عليم.
وقوله: " عليم " بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه.
596- حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه (134) .
------------------
الهوامش :
(101) البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم : 795 ، 857) ، وروايته"ثواني" مكان"سوامد" . وشرورى : جبل بين بني أسد وبني عامر ، في طريق مكة إلى الكوفة . والضجوع -بفتح الضاد المعجمة- : موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم . وقوله : "سوامد" جمع سامد . سمدت الإبل في سيرها : جدت وسارت سيرًا دائمًا ، ولم تعرف الإعياء . وسوامد : دوائب لا يلحقهن كلال . والنون في"قطعن" للإبل .
(102) هذه الجملة بين القوسين ، ليست في المخطوطة ، وكأنها مقحمة .
(103) لم أجد هذا البيت . وفي المطبوعة : "قبل الرأس مصعب" ، وهو خطأ لا شك فيه . وفي المخطوطة : "في ثراته" ، ولا معنى لها ، ولعلها"في تراثه" . وأنا في شك من كل ذلك . بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر ، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير .
(104) في المطبوعة : "عمد إليها" .
(105) الأثر : 588- في الدر المنثور 1 : 43 ، والأثر التالي : 589 ، من تمامه .
(106) في المطبوعة : "العالى إليها" .
(107) ديوانه : 110 ، واللسان (سوى) قال : "وهذا البيت مختلف الوزن ، فالمصراع الأول من المنسرح ، والثاني من الخفيف" . والرسم : آثار الديار اللاصقة بالأرض . ومهدد اسم امرأة . والأبد : الدهر الطويل ، والهاء في"أبده" راجع إلى الرسم . وعفا : درس وذهب أثره . والبلد : الأثر يقول : انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر .
(108) في المخطوطة : "الاستيلاء والاحتواء" .
(109) في المطبوعة : "وإن قال . . . " .
(110) في المطبوعة : "بعد إرتاقهن" وليست بشيء ، وفي المخطوطة : "بعد أن تتاقهن" ، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه . وارتتق الشيء : التأم والتحم حتى ليس به صدع . وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء : 30 من قول الله سبحانه : {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} والفتق : الشق .
(111) الأثر : 589- في الدر المنثور 1 : 43 ، وهو من تمام الأثر السالف : 588 .
(112) المكني : هو الضمير ، فيما اصطلح عليه النحويون ، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره . وفي المطبوعة : "الجمع" مكان"الجميع" حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة .
(113) في المطبوعة : "أنث السماء . . . وذكر" بطرح التاء .
(114) "بعض أهل العربية" هو الفراء ، وإن لم يكن اللفظ لفظه ، في كتابه معاني القرآن 1 : 25 ، ولكنه ذهب هذا المذهب ، في كتابه أيضًا ص : 126 - 131 .
(115) هكذا في الأصول"كما يذكر المؤنث" ، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة : "كما تذكر الأرض ، كما قال الشاعر : . . . " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال : " . . فإن السماء في معنى جمع فقال : (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات . وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدة- الجمع . ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان ، قال الله عز وجل : (رب السموات والأرض) ثم قال : (وما بينهما) ، ولم يقل : بينهن . فهذا دليل على ما قلت لك" . معاني القرآن . 1 : 25 ، وانظر أيضًا ص : 126 - 131 .
(116) البيت من شعر عامر بن جوين الطائي ، في سيبويه 1 : 240 ، ومعاني القرآن 1 : 127 والخزانة 1 : 21 - 26 ، وشرح شواهد المغني : 319 ، والكامل 1 : 406 ، 2 : 68 ، وقبله ، يصف جيشًا :
وَجَارِيَــةٍ مِــنْ بَنَــاتِ الْمُلُــو
كِ قَعْقَعْـــتُ بِــالْخَيْلِ خَلْخَالَهَــا
كَكِــرْ فِئَــةِ الْغَيْـثِ ذَاتِ الصَّبِـيرِ
تَــرْمِي السَّــحَابَ وَيَــرْمِي لَهَـا
تَوَاعَدْتُهَــا بَعْــدَ مَــرِّ النُّجُـومِ,
كَلْفَــــاءَ تُكْـــثِرُ تَهْطَالَهَـــا
فـــلا مزنـــة . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(117) أعشى بني ثعلبة ، وأعشى بني قيس ، والأعشى ، كلها واحد ، ديوانه 1 : 120 ، وفي سيبويه 1 : 239 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 128 ، والخزانة 4 : 578 ، ورواية الديوان :
فَـــإِنْ تَعْهَــدِينِي وَلِــي لِمَّــةٌ
فَـــإِنَّ الْحَــوَادِثَ أَلْــوَى بِهَــا
ورواية سيبويه كما في الطبري ، إلا أنه روى"أودى بها" . وألوى به : ذهب به وأهلكه . وأودى به : أهلكه ، أيضًا . وأما"أزرى بها" : أي حقرها وأنزل بها الهوان ، من الزرارية وهي التحقير . وكلها جيد .
(118) أخلاق ، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي . وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي . وبرمة أجبار ، ضد قولهم برمة أكسار ، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا ، كما لم يقولوا برمة كسر ، مفردًا . وأصله من جبر العظم ، وهو لأمه بعد كسره .
(119) في المخطوطة : "ولم يحبكن" .
(120) الأثر : 590- هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات 9 - 12 من سورة فصلت . ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (24 : 60 - 65 طبعة بولاق) . وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني- في هذا الموضع ، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت . وهو من كلام ابن إسحاق ، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه . وقد صرح الطبري -بعد- أنه إنما ذكره استشهادًا ، لا استدلالا ، إذ وجده أوضح بيانا ، وأحسن شرحًا .
(121) في المطبوعة : "بعد خلقه الأرض" .
(122) في المطبوعة : "عن خبر السموات" .
(123) في المطبوعة : "بتسويتها" ، وسياق كلامه : "أوضح بيانًا . . . من غيره" ، وما بينهما فصل .
(124) في المطبوعة"بمعنى الجمع" ، وفي التي تليها ، وقد مضى مثل ذلك آنفًا .
(125) في المطبوعة : "أم بمعنى" ، وهذه أجود .
(126) في المطبوعة : "ونزيد ذلك توكيدًا" .
(127) في الأصول : "وجعل لها رواسي أن تميد بكم" ، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح ، والآية كما ذكرتها في سورة النحل ، ومثلها في سورة لقمان : 10
(128) في المخطوطة : "يقول : من سأل ، فهكذا الأمر" .
(129) الخبر : 591- في ابن كثير 1 : 123 ، والدر المنثور 1 : 42 - 43 ، والشوكاني 1 : 48 . وقد مضى الكلام في هذا الإسناد ، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر : 168) ، وقد مضى أيضًا قول الطبري ، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم : 465 ص : 353 : "فإن كان ذلك صحيحًا ، ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مرتابًا . . " . وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده ، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به ، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده . فلئن سألت : فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده؟ وجواب ذلك : أنه لم يسقه ليحتج بما فيه ، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد ، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان ، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان ، فحبكهن سبعًا ، وأوحى في كل سماء أمرها . وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر ، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه . وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل ، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه ، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه . وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا ، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال .
(130) الأثر : 592- في ابن كثير 1 : 124 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 .
(131) الآثار : 593 - 595 ، لم نجدها في شيء من تلك المراجع .
(132) في المخطوطة : "وأهل الكتاب" عطفًا .
(133) في المطبوعة : "بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم . . " .
(134) الخبر : 596- ليس في مراجعنا .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
يس: 79 | ﴿قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
البقرة: 29 | ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
الأنعام: 101 | ﴿بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
الحديد: 3 | ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
هو:
فيها لغات:
1- تخفيف الواو مفتوحة.
2- تشديدها، وهى لغة همدان.
3- تسكينها، وهى لغة أسد وقيس.
4- حذفها، وهذا مختص بالشعر.
استوى:
قرئ:
1- بالفتح، وهى لغة أهل الحجاز.
2- بالإمالة، وهى لغة أهل نجد.
وبهما القراءات السبع.
وهو:
قرئ:
1- بتسكين الهاء، وهذا جائز بعد: الواو والفاء، وثم، ويقل بعد كاف الجر وهمزة الاستفهام، ويندر بعد «لكن» ، وبها قرأ أبو عمرو، والكسائي، وقالون.
2- بضمها، على الأصل، وهى قراءة الباقين.
3- بالوقوف عليها بالهاء «وهوه» ، وهى قراءة يعقوب