25164165166167168169

الإحصائيات

سورة البقرة
ترتيب المصحف2ترتيب النزول87
التصنيفمدنيّةعدد الصفحات48.00
عدد الآيات286عدد الأجزاء2.40
عدد الأحزاب4.80عدد الأرباع19.25
ترتيب الطول1تبدأ في الجزء1
تنتهي في الجزء3عدد السجدات0
فاتحتهافاتحتها
حروف التهجي: 1/29آلم: 1/6

الروابط الموضوعية

المقطع الأول

من الآية رقم (164) الى الآية رقم (165) عدد الآيات (2)

لمَّا أعلنَ أنَّ الإلهَ إلهٌ واحدٌ وهي قضيةٌ تُتلقى بالإنكارِ من كثيرٍ من النَّاسِ فناسبُه إقامةُ الحجَّةِ، فجاءَ بهذه الأدلَّةِ الواضحةِ لكلِ عاقلٍ على وحدانيةِ اللهِ، أما الذين لا يعقلونَ فقد اتَّخذُوا من دونِ اللهِ أندادًا.

فيديو المقطع


المقطع الثاني

من الآية رقم (166) الى الآية رقم (169) عدد الآيات (4)

لمَّا ذَمَّ من اتخذَ من دونِ اللهِ أندادًا بَيَّنَ هنا أن الذينَ أفنَوا عمرَهم في عبادتِهم يتبرَّأونَ منهم عندَ احتياجِهم إليهم، ثُمَّ أَمَرَ بأكلِ الحلالِ الطيبِ وحَذَّرَ من اتباعِ الشيطانِ.

فيديو المقطع


مدارسة السورة

سورة البقرة

استخلاف الإنسان في الأرض/ العبادة/ الإسلام لله تعالى

أولاً : التمهيد للسورة :
  • • فلماذا سميت السورة بالبقرة؟: قد يتساءل البعض لماذا سميت هذه السورة بسورة البقرة؟ قد يجيب البعض بأنها سميت كذلك لأنّ قصة البقرة جاءت في هذه السورة. فنقول: إنَّ هذه السورة قد جاء بها قصص كثيرة، فلماذا سميت السورة باسم هذه القصة دون غيرها؟ العناوين دلالة الاهتمام، فهذه إشارة إلى أهمية هذه القصة، أو أن أهم موضوع في السورة هو قصة البقرة.
  • • ليست مجرد قصة:: لم تكن قصة (بقرة بني إسرائيل) مجرد قصة من قصص بني إسرائيل، ولكنها تجسيد لحال بني إسرائيل مع أوامر الله، تلكأ في تنفيذ أوامر الله، تعنت، وتشدد، وتحايل، ومماطلة، وجدال، وجحود، وعناد. وهذا في غاية المناسبة لسورة البقرة التي تضمنت تربية المؤمنين على الاستجابة ﻷوامر الله، فقد تضمنت الكثير من التشريعات والأحكام، فكأن الاسم شعار للمؤمنين ليحذروا من التشبه بأصحاب البقرة، لكي يتذكر المسلم المسؤول عن الأرض هذه الأخطاء ويتجنبها. ولهذا خُتمت السورة بقوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (285).
ثانيا : أسماء السورة :
  • • الاسم التوقيفي :: «سورة البقرة»، وتسمى مع سورة آل عمران بـ«الزَّهراوَين».
  • • معنى الاسم :: البقرة: حيوان معروف، لحمه يؤكل ولبنه يشرب، والزهراوان: المُنيرتان المُضيئتان، واحدتها زهراء.
  • • سبب التسمية :: سميت سورة البقرة؛ لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها، ولم ترد أي إشارة إلى هذه القصة في أي سورة غيرها، وتسمى مع سورة آل عمران بـ«الزَّهراوَين»؛ لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما.
  • • أسماء أخرى اجتهادية :: وتسمى أيضًا «سَنام القرآن» وسنام كل شيء أعلاه، فسميت بذلك تعظيمًا لشأنها، و«فُسطاط القرآن» والفسطاط هو المدينة الجامعة، لما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها.
ثالثا : علمتني السورة :
  • • علمتني السورة :: وجوب الاستجابة لأوامر لله، والاستسلام الكامل لأحكامه، والانقياد والإذعان لها.
  • • علمتني السورة :: أن هذا الكتاب العزيز لا شك فيه بأي وجه من الوجوه، لا شك في نزوله، ولا في أخباره، ولا أحكامه، ولاهدايته: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾
  • • علمتني السورة :: تكريم الله للإنسان بسجود الملائكة له، وتعليمه أسماء جميع الأشياء، وإسكانه الجنة، واستخلافه في الأرض: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ...﴾
  • • علمتني السورة :: أن من لا يعرف من القرآن إلا تلاوته دون فهم يشابه طائفة من اليهود لم يعلموا من التوراة إلا التلاوة: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾

مدارسة الآية : [164] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ..

التفسير :

[164] إن في خلق السموات بارتفاعها واتساعها، والأرض بجبالها وسهولها وبحارها، وفي اختلاف الليل والنهار من الطول والقصر، والظلمة والنور، وتعاقبهما بأن يَخْلُف كل منهما الآخر، وفي السفن الجارية في البحار، التي تحمل ما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ما

أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة, آيات أي:أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها{ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي:لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل, ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره، ففي{ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} في ارتفاعها واتساعها, وإحكامها, وإتقانها, وما جعل الله فيها من الشمس والقمر, والنجوم, وتنظيمها لمصالح العباد. وفي خلق{ الْأَرْضِ} مهادا للخلق, يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها, والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير, وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها, وحكمته التي بها أتقنها, وأحسنها ونظمها, وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع, من منافع الخلق ومصالحهم, وضروراتهم وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله, واستحقاقه أن يفرد بالعبادة, لانفراده بالخلق والتدبير, والقيام بشئون عباده{ و} في{ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وهو تعاقبهما على الدوام, إذا ذهب أحدهما, خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر, والبرد, والتوسط, وفي الطول, والقصر, والتوسط, وما ينشأ عن ذلك من الفصول, التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم, وجميع ما على وجه الأرض, من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير, وتسخير, تنبهر له العقول, وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول, ما يدل ذلك على قدرة مصرفها, وعلمه وحكمته, ورحمته الواسعة, ولطفه الشامل, وتصريفه وتدبيره, الذي تفرد به, وعظمته, وعظمة ملكه وسلطانه, مما يوجب أن يؤله ويعبد, ويفرد بالمحبة والتعظيم, والخوف والرجاء, وبذل الجهد في محابه ومراضيه.{ و} في{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} وهي السفن والمراكب ونحوها, مما ألهم الله عباده صنعتها, وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها. ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح, التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال, والبضائع التي هي من منافع الناس, وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم. فمن الذي ألهمهم صنعتها, وأقدرهم عليها, وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر, تجري فيه بإذنه وتسخيره, والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية, النار والمعادن المعينة على حملها, وحمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور, حصلت اتفاقا, أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز, الذي خرج من بطن أمه, لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة, وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد, حكيم عليم, لا يعجزه شيء, ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته, واستكانت لعظمته, وخضعت لجبروته. وغاية العبد الضعيف, أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب, التي بها وجدت هذه الأمور العظام, فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه, وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له, والخوف والرجاء, وجميع الطاعة, والذل والتعظيم.{ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} وهو المطر النازل من السحاب.{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فأظهرت من أنواع الأقوات, وأصناف النبات, ما هو من ضرورات الخلائق, التي لا يعيشون بدونها. أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله, وأخرج به ما أخرج ورحمته, ولطفه بعباده, وقيامه بمصالحهم, وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟{ وَبَثَّ فِيهَا} أي:في الأرض{ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي:نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة, ما هو دليل على قدرته وعظمته, ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس, ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع. فمنها:ما يأكلون من لحمه, ويشربون من دره، ومنها:ما يركبون، ومنها:ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم, ومنها:ما يعتبر به، ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم, المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها, ويعلم مستقرها ومستودعها. وفي{ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} باردة وحارة, وجنوبا وشمالا, وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب, وتارة تؤلف بينه, وتارة تلقحه, وتارة تدره, وتارة تمزقه وتزيل ضرره, وتارة تكون رحمة, وتارة ترسل بالعذاب. فمن الذي صرفها هذا التصريف, وأودع فيها من منافع العباد, ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات, وتصلح الأبدان والأشجار, والحبوب والنوابت, إلا العزيز الحكيم الرحيم, اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع, ومحبة وإنابة وعبادة؟. وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير, فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد, ويروي التلول والوهاد, وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته, أمسكه عنهم, فينزله رحمة ولطفا, ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه, وأغزر إحسانه, وألطف امتنانه"أليس من القبيح بالعباد, أن يتمتعوا برزقه, ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره, وعفوه وصفحه, وعميم لطفه؟ فله الحمد أولا وآخرا, وباطنا وظاهرا. والحاصل, أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات, وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة, علم بذلك, أنها خلقت للحق وبالحق, وأنها صحائف آيات, وكتب دلالات, على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته, وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر, وأنها مسخرات, ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها. فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون, وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله, ولا رب سواه.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.

الخلق: هو الإحداث للشيء على غير مثال سابق. وهو هنا بمعنى المخلوق. إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السموات والأرض.

والسموات: جمع سماء، وهي كل ما علا كالسقف وغيره، إلا أنها إذا أطلقت لم يفهم منها سوى الأجرام المقابلة للأرض، وهي سبع كما ورد ذلك صريحا في بعض الآيات التي منها قوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ.

وجمعت السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية، كما يدل عليه قوله- تعالى-: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ولأن إفرادها قد يوهم بأنها واحدة مع أن القرآن صريح. في كونها سبعا.

وجاءت الأرض مفردة- وهي لم تجيء في القرآن إلا كذلك- لأن المشاهدة لا تقع إلا على أرض واحدة، ومن هنا حمل بعض أهل العلم تعددها الذي يتبادر من ظاهر قوله- تعالى-:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ على معنى أنها طبقات لا ينفصل بعضها عن بعض.

ومن الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته في خلق السموات ارتفاعها بغير عمد كما يرى ذلك بالمشاهدة، وتزيينها بالمصابيح التي جعلها الله زينة للسماء ورجوما للشياطين، ووجودها بتلك الصورة العجيبة الباهرة التي لا ترى فيها أى تفاوت أو اضطراب ومن الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته في خلق الأرض، فرشها بتلك الطريقة الرائعة التي يتيسر معها للإنسان أن يتقلب في أرجائها، ويمشى في مناكبها، وينتفع بما يحتاج إليه منها أينما كان، وتفجيرها بالأنهار، وعمارتها بحدائق ذات ثمار تختلف ألوانها ويتفاضل أكلها.

وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي تتحدث عن نعم الله على عباده في خلق السموات والأرض، وعن مظاهر قدرته ووحدانيته في إيجادهما على تلك الصورة، ومن ذلك قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.

وقوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.

وقوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً.

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الدالة على وجود الله وقدرته ووحدانيته.

ويتمثل الدليل الثالث على قدرته- سبحانه- ووحدانيته في قوله تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، والاختلاف: افتعال من الخلف، وهو أن يجيء شيء عوضا عن شيء آخر يخلفه على وجه التعاقب. والمراد أن كلا من الليل والنهار يأتى خلفا من الآخر وفي أعقابه، ويجوز أن يكون المراد باختلافهما، في أنفسهما بالطول والقصر، واختلافهما في جنسهما بالسواد والبياض.

واللَّيْلِ: هو الظلام المعاقب للنهار، واحدته ليلة كتمر وتمرة.

والنَّهارِ: هو الضياء المتسع، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر:

ملكت بها كفى فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها

أى: أوسعت فتقها.

وقد جعل الله الليل للسكون والراحة والعبادة لمن وفقه الله لقضاء جانب منه في مناجاته- سبحانه-، وجعل النهار للعمل وابتغاء الرزق.

قال- تعالى-: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.

وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار، لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد سوى فوائد الآخر، بحيث لو دام أحدهما لا نقلب النفع ضرّا.

قال- تعالى-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

ومن العظات التي تؤخذ من هذا الاختلاف أن مدد الليل والنهار تختلف فلكل منهما مدة يستو فيها من السنة بمقتضى نظام دقيق مطرد.

قال- تعالى-: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وكون الليل والنهار يسيران على هذا النظام الدقيق المطرد الذي لا ينخرم دليل على أن الاختلاف تدبير من إله قادر حكيم لا يدخل أفعاله تفاوت ولا اختلال.

وإذا كان لهذا الاطراد أسباب تحدث عنها العلماء، فإن الذي خلق الأسباب وجعل بينها وبين هذا الاختلاف تلازما إنما هو الإله الواحد القهار.

أما المظهر الرابع من المظاهر الدالة في هذا الكون على قدرته- سبحانه- ووحدانيته وألوهيته، فقد تحدثت عنه الآية في قوله- تعالى-: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ.

(الفلك) : ما عظم من السفن، ويستعمل لفظ الفلك للواحد والجمع. والظاهر أن المراد به هنا الجمع بدليل قوله- تعالى-: الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ولو كان هذا اللفظ للمفرد لقال:

الذي يجرى، كما جاء في قوله- تعالى-: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ والجملة الكريمة معطوفة على خلق السموات والأرض.

قال صاحب المنار: وكان الظاهر أن تأتى هذه الجملة في آخر الآية ليكون ما للإنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة. والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم. قال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فهذا وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله .

و «ما» في قوله: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ مصدرية، والباء للسببية أى: تجرى بسبب نفع الناس ولأجله في التجارة وغيرها. أو موصولة والباء للحال، أى تجرى مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس. وخص- سبحانه- النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفع وما يضر لأن المراد هنا عد النعم، ولأن الذي يحمل فيها ما يضر غيره هو في الوقت نفسه يقصد منفعة نفسه.

ومن وجوه الاستدلال بالفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله- تعالى- هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفنا، وهو الذي سخر لبحر لتجرى فيه مقبلة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقا حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذي رعاها برعايته وهي كنقطة صغيرة في ذلك الماء الواسع، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهي حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.

الدليل الخامس والسادس على أنه- سبحانه- هو المستحق للعبادة يتمثل في قوله- تعالى-في هذه الآية: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ.

والمراد بالسماء: جهة العلو، أى: وما أنزل من جهة السماء من ماء، و «من» في قوله:

مِنَ السَّماءِ ابتدائية، وفي قوله: مِنْ ماءٍ بيانية، وهما ومجرورهما متعلقان بأنزل.

والمراد بإحياء الأرض: تحرك القوى النامية فيها، وإظهار ما أودع الله فيها من نبات وزهور وثمار وغير ذلك.

والمراد بموتها: خلوها من ذلك باستيلاء اليبوسة والقحط عليها.

قال- تعالى-: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

(والبث) : التفريق والنشر لما كان خافيا، ومنه بث الشكوى أى: نشرها وإظهارها، وكل شيء بثثته فقد فرقته ونشرته، والضمير في قوله: «فيها» يعود إلى الأرض.

(والدابة) : اسم من الدبيب والمشي ببطء، كل ما يمشى فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق عليه دابة. والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام، لا ما يجرى به العرف الخاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع.

وجملة وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ... معطوفة على ما قبلها، وجملة وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ معطوفة على قوله: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.

والمعنى: وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء مبارك، عمرت به الأرض بعد خرابها، وانتشرت فيها أنواع الدواب كلها، لدليل ساطع على قدرة الله ووحدانيته.

ذلك لأنه هو وحده الذي أنزل المطر من السماء ولو شاء لأمسكه مع أن الماء من طبعه الانحدار، وهو وحده الذي جعل الأرض التي نعيش عليها تنبت من كل زوج بهيج بسبب ما أنزل عليها من ماء، وهو وحده الذي نشر على هذه الأرض أنواعا من الدواب مختلفة في طبيعتها وأحجامها، وأشكالها وألوانها، وأصواتها، ومآكلها، وحملها، وتناسلها، ووجوه الانتفاع بها، وغير ذلك من وجوه الاختلاف الكثيرة، مما يشهد بأن خالق هذه الكائنات إله واحد قادر حكيم.

أما الدليل السابع والثامن في هذه الآية على قدرته- سبحانه- ووحدانيته واستحقاقه للعبادة فهما قوله- تعالى-: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.

الرياح جمع ريح وهي نسيم الهواء.

وتصريفها: تقليبها في الجهات المختلفة، ونقلها من حال إلى حال، وتوجيهها على حسب إرادته- سبحانه- ووفق حكمته. فتهب تارة صبا، أى من مطلع الشمس، وتارة دبورا، أى:

من جهة الغرب، وأحيانا من جهة الشمال أو الجنوب وقد يرسلها- سبحانه- عاصفة ولينة، حارة أو باردة، لواقح بالرحمة حينا وبالعذاب آخر. وتَصْرِيفِ مصدر صرف مضاف للمفعول والفاعل هو الله، أى: وتصريف الله الرياح. أو مضاف للفاعل والمفعول السحاب، أى: وتصريف الرياح السحاب.

وجاءت هذه الجملة الكريمة بعد إحياء الأرض بالمطر وبث الدواب فيها للتناسب بينهما، وتذكيرا بالسبب إذ بالرياح تكون حياة النبات والحيوان وكل دابة على الأرض، ولو أمسك- سبحانه- الرياح عن التصريف لما عاش كائن على ظهر الأرض.

وَالسَّحابِ: عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة، سمى بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له.

والْمُسَخَّرِ: من التسخير وهو التذليل والتيسير، ومعنى تسخيره- كما قال الآلوسى- أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضى صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا- والْمُسَخَّرِ صفة للسحاب باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله:

سَحاباً ثِقالًا.

والظرف «بين» يجوز أن يكون منصوبا بقوله المسخر فيكون ظرفا للتسخير، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في اسم المفعول فيتعلق بمحذوف أى: كائنا بين السماء والأرض.

وجاء ذكر السحاب بعد تصريف الرياح لأنها هي التي تثيره وتجمعه، وهي التي تسوقه إلى حيث ينزل مطرا في الأماكن التي يريد الله إحياءها.

قال- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.

ولا شك أن هذا التصريف للرياح مع أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى، وهي مع ذلك في غاية القوة بحيث تقلع الأشجار وتخرب الديار، وهذا التسخير للسحاب بحيث يبقى معلقا بين السماء والأرض مع حمله للمياه العظيمة التي تسيل بها الأودية المتسعة ... لا شك أن كل ذلك من أعظم الأدلة على أن لهذا الكون مدبرا قادرا حكيما هو الله رب العالمين.

وقوله: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اسم إِنَّ لقوله- تعالى- في أول الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ودخلت اللام على الاسم وهو لَآياتٍ لتأخره عن الخبر والتنكير للتعظيم والتفخيم كما وكيفا.

أى: إن فيما ذكره الله من مخلوقاته العجيبة، وكائناته الباهرة، لدلائل ساطعة، وآيات واضحة ترشد من يعقلون ويتدبرون فيها، إلى أن لهذا الكون إلها واحدا قادرا حكيما مستحقا للعبادة والخضوع والطاعة.

وموقع هذه الآية الكريمة من سابقتها كموقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله- تعالى- أخبر في الآية السابقة أن الإله واحد لا إله غيره وهي قضية قد تلقاها كثير من الناس بالإنكار، فناسب أن يأتى في هذه الآية الكريمة بالحجج والبراهين التي لا يسع الناظر فيها بتدبر وتفكير إلا التسليم عن اقتناع بوحدانية الله- تعالى- وقدرته.

قال الإمام الرازي: واعلم أن النعم على قسمين: نعم دنيوية ونعم دينية وهذه الأمور الثمانية، التي عدها الله- تعالى- نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها، واستدل بها على معرفة الصانع، صارت نعما دينية، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن، فلذلك قال: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .

وقال الآلوسى: أخرج ابن أبى الدنيا وابن مردويه عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» .

ثم قال الآلوسى: ومن تأمل في تلك المخلوقات التي وردت في هذه الآية وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده- تعالى- ووحدانيته وسائر صفاته الموجبة لتخصيص العبادة له، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه، مستنبعا لآثار معينه، وأحكام مخصوصة ... وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة».

والحق أن هذه الآية الكريمة قد اتجهت في تثبيت عقيدة وحدانية الله وقدرته وألوهيته إلى تنبيه الحواس والمدارك والمشاعر إلى ما في هذا الكون المشاهد المنظور من آيات ودلائل على حقية الخالق- عز وجل- بالعبادة.

لما فيها من عظات وعبر وصدق الله إذ يقول وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ.

ورحم الله القائل: ألا إن لله كتابين: كتابا مخلوقا وهو الكون، وكتابا منزلا وهو القرآن.

وإنما يرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك بما أوتينا من العقل. فمن أطاع فهو من الفائزين، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون.

وبعد أن ذكر- سبحانه- جانبا من الآيات الدالة على ألوهيته ووحدانيته أردف ذلك ببيان حال المشركين، وما يكون منهم يوم القيامة من تدابر وتقاطع وتحسر على ما فرط منهم فقال- تعالى-:

ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية [ بتفرده ] بخلق السماوات والأرض وما فيهما ، وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته ، فقال : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) يقول تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض ) تلك في [ لطافتها و ] ارتفاعها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ، وهذه الأرض في [ كثافتها و ] انخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع ( واختلاف الليل والنهار ) هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه ، لا يتأخر عنه لحظة ، كما قال تعالى : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) [ يس : 40 ] وتارة يطول هذا ويقصر هذا ، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان ، كما قال تعالى : ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) [ الحج : 61 ] أي : يزيد من هذا في هذا ، ومن هذا في هذا ( والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) أي : في تسخير البحر لحمل السفن من جانب إلى جانب لمعاش الناس ، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم ، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء ( وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ) كما قال تعالى : ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ) [ يس : 33 - 36 ] ( وبث فيها من كل دابة ) أي : على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها ، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك ، كما قال تعالى : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) [ هود : 6 ] ( وتصريف الرياح ) أي : تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب ، تارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب ، وتارة تسوقه ، وتارة تجمعه ، وتارة تفرقه ، وتارة تصرفه ، [ ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية ، وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا ، وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة ، وتارة دبور وهي غربية تفد من ناحية دبر الكعبة ، والرياح تسمى كلها بحسب مرورها على الكعبة . وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها ، وبسط ذلك يطول هاهنا ، والله أعلم ] . ( والسحاب المسخر بين السماء والأرض ) [ أي : سائر بين السماء والأرض ] يسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن ، كما يصرفه تعالى : ( لآيات لقوم يعقلون ) أي : في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى ، كما قال تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) [ آل عمران : 190 ، 191 ] . وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أبو سعيد الدشتكي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إنما نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ، فنشتري به الخيل والسلاح ، فنؤمن بك ونقاتل معك . قال : " أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهبا لتؤمنن بي " فأوثقوا له ، فدعا ربه ، فأتاه جبريل فقال : إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين . قال محمد صلى الله عليه وسلم : " رب لا ، بل دعني وقومي فلأدعهم يوما بيوم " . فأنزل الله هذه الآية : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) الآية .

ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، به . وزاد في آخره : وكيف يسألونك عن الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا .

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) إلى قوله : ( لآيات لقوم يعقلون )

فبهذا يعلمون أنه إله واحد ، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء .

وقال وكيع : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى قال : لما نزلت : ( وإلهكم إله واحد ) إلى آخر الآية ، قال المشركون : إن كان هكذا فليأتنا بآية . فأنزل الله عز وجل : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ) إلى قوله : ( يعقلون )

ورواه آدم بن أبي إياس ، عن أبي جعفر هو الرازي عن سعيد بن مسروق ، والد سفيان ، عن أبي الضحى ، به .

القول في المعنى الذي من أجله أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

* * *

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.

* * *

فقال بعضهم: أنـزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنـزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فتلا ذلك عَلى أصحابه, وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك, ونحن نـزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنـزل الله عند ذلك: " إن في خَلق السموات والأرض "، احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم.

* ذكر من قال ذلك:

2398- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, قال: نـزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: " إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار "، إلى قوله: لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ, وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.

* * *

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [آية]، (1) فأنـزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله, وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح.

* ذكر من قال ذلك:

2399- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, &; 3-269 &; عن أبي الضحى قال: لما نـزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنـزل الله تعالى ذكره: " إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار "، الآية.

2400- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنـزل الله تعالى ذكره: " إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار "، الآية.

2401- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال، حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ‍, فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنـزل الله: " إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار "، الآية.

2402- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرِنا آية! فنـزلت هذه الآية: " إنّ في خلق السموات والأرض ".

2403- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر, عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات, فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنـزداد يقينًا, ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه, فأوحى إليه: &; 3-270 &; إنّي مُعطيهم, فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا, ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنـزل الله عليه: " إنّ في خَلق السموات والأرض "، الآية: إن في ذَلك لآية لهم, إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا, فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا.

2404- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار "، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (2) غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك, أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده = على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء = بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نـزلت فيما قاله عطاء, وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى, ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت.

* * *

&; 3-271 &;

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " إنّ في خَلق السموات والأرض "، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما.

* * *

ومعنى " خلق " الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة.

وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل: " الأرض "، ولم تجمع كما جُمعت السموات, فأغنى ذلك عن إعادته (3)

* * *

فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال: " إنّ في خلق السموات والأرض "؟

قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية, وبالتي في سورة: الكهف: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [سورة الكهف: 51] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله, والإرادة خلق لها.

* * *

&; 3-272 &;

وقال آخرون: خلق الشيء صفة له, لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا -بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون.

* * *

وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق, هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.

فمعنى قوله: " إن في خلق السموات والأرض ": إنّ في السموات والأرض. (4)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " واختلاف الليل والنهار "، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس.

* * *

وإنما " الاختلاف " في هذا الموضع " الافتعال " من " خُلوف " كل واحد منهما الآخر، (5) كما قال تعالى ذكره: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [سورة الفرقان: 62].

بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده, وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل: " خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء ", ومنه قول زهير:

بِهَــا العِيـنُ وَالآرَامُ يَمْشِـينَ خِلْفَـةً

وَأَطْلاؤُهَــا يَنْهَضْــنَ مِــنْ كُــلِّ مَجْـثَم (6)

* * *

&; 3-273 &;

وأما " الليل ". فإنه جَمْع " ليلة ", نظيرُ" التمر " الذي هو جمع " تمرة ". وقد يجمع " ليالٍ"، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم " الياء " في ذلك نظير زيادتهم إياها في" ربَاعية وثَمانية وكرَاهية ".

* * *

وأما " النهار "، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنـزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه " النُّهُر "، قال الشاعر:

لَــوْلا الــثّرِيدانِ هَلَكْنَـا بِـالضُّمُرْ

ثَرِيــدُ لَيْـــلٍ وثَرِيــدٌ بِـــالنُّهُرْ (7)

ولو قيل في جمع قليله " أنهِرَة " كان قياسًا.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر.

* * *

و " الفلك " هو السُّفن, واحدُه وجمعه بلفظ واحد, ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يس: 41]، فذكَّره.

* * *

وقد قال في هذه الآية: " والفلك التي تجري في البحر "، وهي مُجْراة، لأنها &; 3-274 &; إذا أجريت فهي" الجارية ", فأضيف إليها من الصفة ما هو لها. (8)

* * *

وأما قوله: " بما ينفع الناس "، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وما أنـزل اللهُ من السماء من مَاء "، وفيما أنـزلهُ الله من السماء من ماء, وهو المطر الذي يُنـزله الله من السماء.

وقوله: " فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها "، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و " الهاء " التي في" به " عائدة على " الماء " و " الهاء والألف " في قوله: " بعد موتها " على الأرض.

و " موت الأرض "، خرابها، ودُثور عمارتها, وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ

قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله: " وبث فيها منْ كلّ دَابة "، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة.

* * *

&; 3-275 &;

ومعنى قوله: " وبَث فيها "، وفرَّقَ فيها, من قول القائل: " بث الأميرُ سراياه "، يعنى: فرَّق.

و " الهاء والألف " في قوله: " فيها "، عائدتان على الأَرْضَ .

* * *

" والدابة "" الفاعلة "، من قول القائل: " دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة "." والدابة "، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وتصريف الرياح "، وفي تصريفه الرياح, فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول, كما تقول: (9) " يعجبني إكرام أخيك ", تريد: إكرامُك أخَاك.

* * *

" وتصريف " الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ, ومرة يجعلها عَقيما, ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:-

2405- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " وتصريف الرياح والسحاب المسخر " قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك, إذا شَاء [جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح, إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه. (10)

* * *

&; 3-276 &;

وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: " وتصريف الرياح "، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. (11) وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها, لأن " تصريفها " تصريفُ الله لها," وتصرفها " اختلافُ هُبوبها.

وقد يجوز أن يكون معنى قوله: " وتصريف الرياح "، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " والسحاب المسخر "، وفي السحاب، جمع " سحابة ". يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [سورة الرعد: 12] فوحّد المسخر وذكره, كما قالوا: " هذه تَمرة وهذا تمر كثير ". في جمعه," وهذه نخلة وهذا نخل ". (12)

وإنما قيل للسحاب " سحاب " إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه, من قول القائل: " مرّ فلان يَجر ذَيله "، يعني: " يسحبه ".

* * *

فأما معنى قوله: " لآيات "، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ. (13)

* * *

&; 3-277 &;

" لقوم يعقلون "، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق, إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي, والمكلفين بالطاعة والعبادة, ولهم الثواب، وعليهم العقاب.

* * *

فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟

قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه, وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [شيء], وبارئًا لا مِثْل له. (14) وذلك وإن كان كذلك, فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم, غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. (15) فحاجَّهم تعالى ذكره فقال -إذ أنكروا قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة-: [إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر] (16) وذلك هو معنى قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا &; 3-278 &; يَنْفَعُ النَّاسَ - وأنـزل إليكم الغيثَ من السماء, فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه, وأمرعه بعد دُثوره, فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم (17) -، وذلك هو معنى قوله: وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل, ومنها جمالٌ ومراكبُ, ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودْقِه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله: " وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض ".

فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم, وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي, وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء, ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري, وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية.

* * *

والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة, المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.

-----------------

الهوامش :

(1) الزيادة بين القوسين لا يتم الكلام إلا بها ، ويدل عليها ما سيأتي في الآثار بعد .

(2) في المطبوعة : "فقال المشركون للنبي . . . " ، والصواب طرح هذه الفاء .

(3) انظر ما سلف 1 : 431-437 .

(4) لم يتبع أبو جعفر في هذا الموضع ما درج عليه من ترجيح القول الذي يختاره . وهذا مما يدل على ما ذهبنا إليه ، أنه كان يختصر كلامه أحيانًا ، مخافة الإطالة . هذا إذا لم يكن في المخطوطات خرم أو اختصار من ناسخ أو كاتب .

(5) "خلوف" مصدر"خلف" ، ولم أجده في كتب اللغة ، ولكنه عربي معرق في قياسه .

(6) ديوانه : من معلقته العتيقة . والهاء في"بها" إلى"ديار أم أوفى" صاحبته . والعين جمع عيناء : وهي بقر الوحش ، واسعة العيون جميلتها . والآرام جمع رئم : وهي الظباء الخوالص البياض ، تسكن الرمل . "خلفة" إذا جاء منها فوج ذهب آخر يخلفه مكانه . يصف مجيئها وذهوبها في براح هذه الرملة . والأطلاء جمع طلا : وهو ولد البقرة والظبية الصغير . ويصف الصغار من أولاد البقر والظباء في هذه الرملة ، وقد نهض هذا وذاك منها من موضع جثومه . يصف اختلاف الحركة في هذه الفقرة المهجورة التي فارقتها أم أوفى ، وقد وقف بها من بعد عشرين حجة - ، كما ذكر .

(7) تهذيب الألفاظ : 422 ، والمخصص 9 : 51 ، واللسان (نهر) ، والأزمنة والأمكنة 1 : 77 ، 155 وغيرها . ورواية اللسان والمخصص"لمتنا بالضمر" . والضمر (بضم الميم وسكونها) مثل العسر والعسر : الهزال ولحاق البطن من الجوع وغيره . والثريد : خبز يهشم ويبل بماء القدر ويغمس فيه حتى يلين .

(8) انظر ما سلف 1 : 196 .

(9) في المطبوعة : "كما قال : يعجبني . . يريد" ، والصواب ما أثبت .

(10) الزيادة بين القوسين من نص الدر المنثور 1 : 164 ، من نص تفسير قتادة الذي أخرجه الطبري .

(11) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 97 .

(12) في المطبوعة : "كما قال : هذه ثمرة . . . " ، والصواب ما أثبته .

(13) انظر معنى"آية" فيما سلف 1 : 106 ، وفهارس اللغة . وقد ترك الطبري تفسيره"المسخر" ، وكأن في الأصول اختصارًا من ناسخ أو كاتب ، إن لم يكن من الطبري نفسه ، كما أشرت إليه فيما مضى .

(14) الزيادة بين القوسين لا بد منها هنا .

(15) انظر ما سلف في 1 : 371 ، والرد على من ظن أن العرب كانت غير مقرة بالوحدانية .

(16) هذه الجملة قد سقط منها شيء كثير ، فاختلت واضطربت ، وكأن صوابها ما يأتي : [إنّ إلهكم الذي خلق لَكم السَّموَات والأرض ، فخلق الأرض وقَدّر لكم فيها أرزاقكم وأقواتكم ، وخلق السَّمَوات وأجرى فيها الشمس والقمر دائبين في سيرهما - وذلك هو معنى : (واختلاف الليل والنهار) -وخلق الرياح التي تسوق السفن التي تحملكم فتجريها في البحر لتبتغوا من فضله] -

(17) أمرع الأرض : صيرها خصبة بعد الجدب . والدثور : الدروس ، يريد خرابها وانمحاء آثار عمارتها من النبات وغيره . وكان في المطبوعة : "فينعثكم" ، والصواب ما أثبت . ونعشه الله ينعشه : رفعه وتداركه برحمته .

المعاني :

ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ :       تعاقُبِهما الميسر في غريب القرآن
وَالْفُلْكِ :       السُّفُنِ السراج
بَعۡدَ مَوۡتِهَا :       بعد قَحْطِها وجَفافِها الميسر في غريب القرآن
وَبَثَّ :       نَشَرَ السراج
بَثَّ :       نَشَر، وفَرَّقَ الميسر في غريب القرآن
بثّ فيها :       فرّق و نشر فيها بالتّوالد معاني القرآن
دَآبَّةࣲ :       كلِّ ما دَبَّ على وجهِ الأرضِ الميسر في غريب القرآن
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ :       تَقَلِيبِهَا، وَتَوْجِيهِهَا السراج
وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ :       تَوْجيهِها، وهُبوبِها، وَفْقَ ما يريدُ الميسر في غريب القرآن
تصريف الرّياح :       تقليبها في مهابِّها و أحوالها معاني القرآن
ٱلۡمُسَخَّرِ :       المُسَيَّرِ الميسر في غريب القرآن
لَـَٔايَٰتࣲ :       لَعلاماتٍ ودَلالاتٍ على قُدْرةِ اللهِ الميسر في غريب القرآن

التدبر :

وقفة
[164] خصَّ هذه الثمانية بالذكر؛ لأنها جامعة بين كونها دلائل، وبين كونها نعمًا على المكلفين على أوفر حظٍّ ونصيب، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشدَّ تأثيرًا في الخواطر.
وقفة
[164] ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ﴾ فيه إثبات الاستدلال بالحجج العقلية.
عمل
[164] ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ ...﴾ اختر واحدة من المخلوقات المذكورة في الآية، ثم استخرج ثلاث فوائد تدل على قدرة الله وحكمته فيها.
وقفة
[164] ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ﴾ سخرها الله حتى تجري على وجه الماء، وتقف فوقه مع ثقلها.
وقفة
[164] ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ القادر على تصريف الرياح وتقليبها وتوجيهها من جهات مختلفة قادر سبحانه على تصريف همك وتنفيس كربك وإبدال حالك.
وقفة
[164] ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ قال أُبيُّ بن كعب: «كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب».
لمسة
[164] ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ ما الفرق بين استعمال (الريح) و(رياح) في القرآن الكريم؟ كلمة (الريح) في القرآن الكريم تستعمل للشّرِّ؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ [فصلت: ١٦]، أما كلمة (الرياح) فهي تستعمل للخير؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: 57]، وقوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ [الحجر: 22].
وقفة
[164] ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ﴾ أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات، أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
وقفة
[164] ﴿لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ هنا معنًى يحسن التنبيه إليه: وهو أن القرآن يخاطب العقول، وبالتالي فلا تناقض بين هداية القرآن ودلالة العقل، بل العقل الرشيد الصادق لا تخطئ دلالته؛ ولهذا أحالنا القرآن عليه: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176]، ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: 5] أي: عقل.
وقفة
[164] ﴿لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ خص العقل بالذكر؛ لأن به يتوصل إلى معرفة الآيات، ومثله في: [الرعد: 4]، [النحل: 12]، [النور: 61]، [الروم: 24].
وقفة
[164] آيات الله في الكون وفي الأنفس لا يدركها إلا من تدبرها بعقله وقلبه وحواسه: ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: 3]، ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [يونس: 67].

الإعراب :

  • ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:
  • إنّ: حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد. في خلق: جار ومجرور. السموات: مضاف اليه مجرور وعلامة جرّه: الكسرة. وشبه الجملة الجار والمجرور «في السماوات .... » متعلق بخبر «إِنَّ» المقدم. الواو: عاطفة. الأرض: معطوف على «السَّماواتِ» مجرور مثلها بالكسرة.
  • ﴿ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ:
  • الواو: عاطفة آختلاف. الليل والنهار: معطوفة على «خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وتعرب إعرابها.
  • ﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ:
  • الواو: عاطفة. الفلك: معطوفة على «اللَّيْلِ» مجرور مثله بالكسرة. التي: اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة للفلك. تجري: فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي. في البحر: جار ومجرور متعلق بتجري. وجملة «تَجْرِي» صلة الموصول.
  • ﴿ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ:
  • جار ومجرور متعلق بتجري. ما: اسم موصول بمعنى «الذي» مبني على السكون في محل جر بالباء. ينفع: فعل مضارع مرفوع بالضمة والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هو. وجملة «يَنْفَعُ» صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. الناس: مفعول به منصوب بالفتحة.
  • ﴿ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ:
  • معطوفة بالواو على «بِما» وتعرب إعرابها. أنزل: فعل ماض مبني على الفتح. الله: فاعل مرفوع للتعظيم بالضمة. من السماء: جار ومجرور متعلق بحال محذوف من «ما» وجملة «أَنْزَلَ اللَّهُ» صلة الموصول لا محل لها والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لأنه مفعول به. التقدير: وما أنزله.
  • ﴿ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا:
  • تعرب إعراب «مِنَ السَّماءِ». الفاء: عاطفة للتسبيب. أحيا: فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو.
  • ﴿ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها:
  • جار ومجرور متعلق. بأحيا. الأرض: مفعول به منصوب بالفتحة. بعد: ظرف زمان متعلق بأحيا منصوب على الظرفية بالفتحة. موت: مضاف اليه مجرور بالكسرة وهو مضاف و «ها» ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة.
  • ﴿ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ:
  • الواو عاطفة. بثّ: فعل ماض مبني على الفتح معطوف على «أَنْزَلَ» أو على «أحيا» والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره: هو. فيها: جار ومجرور متعلق ببث. من كل: جار ومجرور متعلق بمفعول «بَثَّ» المحذوف و «مِنَ» حرف جر زائد للتبعيض. دابة: مضاف اليه مجرور بالكسرة و «مِنَ» في «مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» تبعيضية أو بيانية.
  • ﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ:
  • الواو: عاطفة. تصريف: معطوف على «السَّماءِ» مجرور مثلها بالكسرة. الرياح: مضاف اليه مجرور بالكسرة الواو: عاطفة. السحاب: معطوفة على «الرِّياحِ» مجرور مثلها بالكسرة.
  • ﴿ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ:
  • المسخر: صفة للسحاب مجرورة مثلها بالكسرة. بين: ظرف مكان متعلق بالمسخر منصوب على الظرفية. السماء: مضاف اليه مجرور وعلامة جرّه: الكسرة. الواو: عاطفة. الأرض: معطوفة على «السَّماءِ» مجرورة بالكسرة.
  • ﴿ لَآياتٍ لِقَوْمٍ:
  • اللام لام التوكيد المزحلقة. آيات: اسم «إن» المؤخر والواردة في مستهل الآية الكريمة. منصوب بالكسرة بدلا من الفتحة لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. لقوم: جار ومجرور متعلق بصفة محذوفة من آيات.
  • ﴿ يَعْقِلُونَ:
  • فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة. والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. وجملة «يَعْقِلُونَ» في محل جرّ صفة لقوم. '

المتشابهات :

البقرة: 164﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَ اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ
آل عمران: 190﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَ اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ
يونس: 6﴿إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ
الجاثية: 5﴿وَ اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا

أسباب النزول :

  • قوله تعالى إن في خلق السموات الآية أخرج سعيد بن منصور في سننه والفريابي في تفسيره والبيهقي في شعب الأيمان عن أبي الضحى قال لما نزلت وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [163] تعجب المشركون وقالوا إلها واحدا لئن كان صادقا فليأتنا بآية فأنزل الله إن في خلق السموات والأرض إلى قوله لقوم يعقلون [164] قلت هذا معضل لكن له شاهد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في كتاب العظمة عن عطاء قال نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [163] فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد فأنزل الله إن في خلق السموات والأرض إلى قوله لقوم يعقلون ك وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق جيد موصول عن ابن عباس قال قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا نتقوى به على عدونا فأوحى الله إليه أني معطيهم ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال رب دعني وقومي فأدعوهم يوما بيوم فأنزل الله هذه الآية إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الايات ما هو أعظم'
  • المصدر أسباب النزول للواحدي

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [164] لما قبلها :     ولَمَّا ذكرَ اللهُ عز وجل أنَّه واحد، وأنَّه منفرد بالإلهيَّة؛ ذكر هنا الأدلة على وحدانيته وألوهيته ونعمه، قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

القراءات :

الرياح:
قرئ:
بالإفراد والجمع.

مدارسة الآية : [165] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن ..

التفسير :

[165] ومع هذه البراهين القاطعة يتخذ فريق من الناس من دون الله أصناماً وأوثاناً وأولياء يجعلونهم نظراء لله تعالى، ويعطونهم من المحبة والتعظيم والطاعة، ما لا يليق إلا بالله وحده. والمؤمنون أعظم حبّاً لله من حب هؤلاء الكفار لله ولآلهتهم؛ لأن المؤمنين أخلصوا

ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن{ مِنَ النَّاسِ} مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي:نظراء ومثلاء, يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة. ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة, وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله, مشاق له, أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك, بل قد حقت عليه كلمة العذاب. وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله, لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير, وإنما يسوونهم به في العبادة, فيعبدونهم، ليقربوهم إليه، وفي قوله:{ اتخذوا} دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له, تسمية مجردة, ولفظا فارغا من المعنى، كما قال تعالى:{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق, وغيره مخلوق, والرب الرازق ومن عداه مرزوق, والله هو الغني وأنتم الفقراء، وهو الكامل من كل الوجوه, والعبيد ناقصون من جميع الوجوه، والله هو النافع الضار, والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء، فعلم علما يقينا, بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا، سواء كان ملكا أو نبيا, أو صالحا, صنما, أو غير ذلك، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أي:من أهل الأنداد لأندادهم, لأنهم أخلصوا محبتهم له, وهؤلاء أشركوا بها، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة, الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا, ومحبته عين شقاء العبد وفساده, وتشتت أمره. فلهذا توعدهم الله بقوله:{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله, وسعيهم فيما يضرهم.{ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} أي:يوم القيامة عيانا بأبصارهم،{ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} أي:لعلموا علما جازما, أن القوة والقدرة لله كلها, وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها, لا كما اشتبه عليهم في الدنيا, وظنوا أن لها من الأمر شيئا, وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه، فخاب ظنهم, وبطل سعيهم, وحق عليهم شدة العذاب, ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا, ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع، بل يحصل لهم الضرر منها, من حيث ظنوا نفعها. وتبرأ المتبوعون من التابعين, وتقطعت بينهم الوصل, التي كانت في الدنيا, لأنها كانت لغير الله, وعلى غير أمر الله, ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له, فاضمحلت أعمالهم, وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين, وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها, انقلبت عليهم حسرة وندامة, وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو, وتعلقوا بغير متعلق, فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها, فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين, وأخلص العمل لوجهه, ورجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه, فكانت أعماله حقا, لتعلقها بالحق, ففاز بنتيجة عمله, ووجد جزاءه عند ربه, غير منقطع كما قال تعالى:{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم, بأن يتركوا الشرك بالله, ويقبلوا على إخلاص العمل لله، وهيهات, فات الأمر, وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا, فهم كذبة, فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هو قول يقولونه, وأماني يتمنونها, حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم، فرأس المتبوعين على الشر, إبليس, ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر{ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}

الأنداد: جمع ند، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه. وأصله من ند البعير يند ندا وندادا وندودا، أى: نفر وذهب على وجهه شاردا. ويرى بعض العلماء أن المراد بالأنداد هنا الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة للتقرب بها إلى الله، وقيل: المراد بها الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم. والأولى أن يكون المراد بهذه الأنداد كل مخلوق أسند إليه أمر اختص به الله- تعالى- من نحو التحليل، والتحريم وإيصال النفع وغير ذلك من الأمور التي انفرد بها الخالق- عز وجل-.

والمعنى: أن من الناس من لا يعقل تلك الآيات التي دلت على وحدانية الله وقدرته، وبلغت بهم الجهالة أنهم يخضعون لبعض المخلوقات خضوعهم لله بزعم أنها مشابهة ومماثلة ومناظرة له- سبحانه- في النفع والضر، ويحبون تعظيم تلك المخلوقات وطاعتها والتقرب إليها والانقياد لها حبا يشابه الحب اللازم عليهم نحو الله- تعالى- أو يشابه حب المؤمنين لله، ومِنَ في قوله: وَمِنَ النَّاسِ للتبعيض، والجار والمجرور خبر مقدم ومِنَ في قوله: مَنْ يَتَّخِذُ في محل رفع مبتدأ مؤخر، و «من دون الله، حال من ضمير يتخذ وأَنْداداً مفعول به ليتخذ.

قال الجمل: وجملة يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ فيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون في محل رفع صفة لمن في أحد وجهيها، والضمير المرفوع يعود عليها باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ في يتخذ.

والثاني: أن تكون في محل نصب صفة لأندادا والضمير المنصوب يعود عليهم والمراد بهم الأصنام، وإنما جمعوا جمع العقلاء لمعاملتهم معاملة العقلاء. أو أن يكون المراد بهم من عبد من دون الله عقلاء وغيرهم ثم غلب العقلاء على غيرهم.

الثالث: أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في يتخذ، والضمير المرفوع عائد على ما عاد عليه الضمير في يتخذ وجمع حملا على المعنى».

ثم مدح- سبحانه- عباده المؤمنين فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أى: والذين آمنوا وأخلصوا لله العبادة أشد حبا له- سبحانه- من كل ما سواه، ومن حب المشركين للأنداد، ذلك لأن حب المؤمنين لله متولد عن أدلة يقينية، وعن علم تام، ببديع حكمته- سبحانه- وبالغ حجته، وسعة رحمته، وعدالة أحكامه، وعزة سلطانه، وتفرده بالكمال المطلق، والحب المتولد عن هذا الطريق يكون أشد من حب المشركين لمعبوداتهم لأن حب المشركين لمعبوداتهم متولد عن طريق الظنون والأوهام والتقاليد الباطلة.

والتصريح بالأشدية في قوله: أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أبلغ من أن يقال أحب لله؟ إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل- كما يقول الآلوسى- بل المراد الرسوخ والثبات. وقيل: عدل عن أحب إلى أشد حبا، لأن «أحب» شاع في الأشد محبوبية فعدل عنه احترازا عن اللبس.

ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله- تعالى- لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم، ولأنهم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتنبوه.

ثم أخبر- سبحانه- عما ينتظر الظالمين من سوء المصير فقال: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ «لو» شرطية، وجوابها محذوف لقصد التهويل ولتذهب النفس في تصويره كل مذهب «والقوة» القدرة والسلطان.

والمعنى: ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعد لهم يوم القيامة أن القدرة كلها لله وحده، وأن عذابه الذي يصيب به المتخبطين في ظلمات الشرك شديد، لو يعلمون ذلك، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من الحسرة والندامة.

وكان الظاهر بمقتضى تقدم ذكرهم أن يقال: ولو يرون إذ يرون. ولكن وضع الموصول وصلته موضع الضمير، ليحضر في ذهن السامع أنهم صاروا باتخاذهم الأنداد من الظالمين، وليشعر بأن سبب رؤيتهم العذاب الشديد هو ذلك الظلم العظيم.

وعبر بالماضي في قوله: «إذ يرون العذاب» لتحقق الوقوع، وكل ما كان كذلك فإنه يجرى مجرى ما وقع وحصل.

وجملة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً سدت مسد مفعولي يرى، وانتصب لفظ جَمِيعاً على التوكيد للقوة. أى. جميع جنس القوة ثابت لله، وهو مبالغة في عدم الاعتداد بقوة غيره، فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ.

وجملة وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ معطوفة على ما قبلها، وفائدتها المبالغة في تفظيع الخطب، وتهويل الأمر، فإن اختصاص القوة به- تعالى- لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه.

هذا، وقد قرأ نافع وابن عمر «ولو ترى» بالتاء على الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى له الخطاب.

أى: لو ترى ذلك أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول.

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة ، حيث جعلوا [ له ] أندادا ، أي : أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو ، ولا ضد له ولا ند له ، ولا شريك معه . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " .

وقوله : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) ولحبهم لله وتمام معرفتهم به ، وتوقيرهم وتوحيدهم له ، لا يشركون به شيئا ، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ، ويلجئون في جميع أمورهم إليه . ثم توعد تعالى المشركين به ، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال : ( ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا ) .

قال بعضهم : تقدير الكلام : لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا ، أي : إن الحكم له وحده لا شريك له ، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه ( وأن الله شديد العذاب ) كما قال : ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ) [ الفجر : 25 ، 26 ] يقول : لو علموا ما يعاينونه هنالك ، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم ، لانتهوا عما هم فيه من الضلال .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا له =

وقد بينا فيما مضى أن " الندّ"، العدل، بما يدل على ذلك من الشواهد، فكرهنا إعادته. (18)

* * *

= وأن الذين اتخذوا هذه " الأنداد " من دُون الله، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم.

* * *

واختلف أهل التأويل في" الأنداد " التي كان القوم اتخذوها. وما هي؟

* * *

فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.

* ذكر من قال ذلك.

2406- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: " ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله "، من الكفار لأوثانهم.

2407- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله تعالى ذكره: " يحبونهم كحب الله "، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد،" والذين آمنوا أشد حبًا لله "، من الكفار لأوثانهم.

2408- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

&; 3-280 &;

2409- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " ومن الناس من يتخذُ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله " قال، هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله،" والذين آمنوا أشد حبًا لله ", أي من الكفار لأوثانهم.

2410- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله " قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتَهم.

* * *

وقال آخرون: بل " الأنداد " في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.

* ذكر من قال ذلك:

2411- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله " قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله. (19)

* * *

فإن قال قائل: وكيف قيل: " كحب الله "؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال: " يُحبونهم كحب الله "؟

قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه, وإنما ذلك نظير قول القائل: (20) " بعت غُلامي كبيع غلامِك ", بمعنى: بعته كما بيع غلامك، وكبيْعك &; 3-281 &; غُلامَك," واستوفيتُ حَقي منه استيفاء حَقك ", بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطَب، اكتفاء بكنايته في" الغلام " و " الحق ", كما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيَّـا

عَـــلَى زَيْــدٍ بِتَسْــلِيم الأمِــيرِ (21)

يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير.

* * *

فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله. (22)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والشأم: " ولوْ ترى الذين ظَلموا " بالتاء " إذ يَرون العذابَ" بالياء " أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب " بفتح " أنّ" و " أنّ" كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد &; 3-282 &; الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون عذابَ الله ويعاينونه " أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب ".

ثم في نصَبْ" أنّ" و " أنّ" في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه, فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله، لأقروا -ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا, وأنّ الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ -إذا فتحت " أن " على هذا الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح " أن "، على قراءة من قرأ: " ولو ترى " ب " التاء ".

والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ &; 3-283 &; يَرى الذين ظلموا عذابَ الله, لأن القوة لله جميعًا, وأن الله شديد العذاب, لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف " اللام "، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها.

* * *

وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء: " ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب ". بمعنى: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال: " إن القوة لله جميعًا " في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد والآلهة," وإن الله شديد العذاب " لمن أشرك به، وادعى معه شُركاء، وجعل له ندًا.

* * *

وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر " إن " في" ترى " بالتاء. وهو أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ تحذفُ" القول " وتَكتفي منه بالمقول.

* * *

وقرأ ذلك آخرون: " ولو يَرَى الذين ظلموا " بالياء " إذ يَرَون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب " بفتح " الألف " من " أنّ"" وأنّ", بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, إذ يرون العذاب. فتكون " أن " الأولى منصوبة لتعلقها بجواب " لو " المحذوف، ويكون الجواب متروكًا, وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.

* * *

وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ: " ولو يَرَى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب " بالياء في" يرى " وفتح " الألفين " في" أن "" وأن "-: ولو يعلمون، (23) لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عَلم, فإذا قال: " ولو ترى ", فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.

ولو كسر " إنّ" على الابتداء، إذا قال: " ولو يرى " جاز, لأن " لو يرى "، لو يعلم.

وقد تكون " لو " في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. (24) تقول للرجل: " أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم " (25) كما قال الشاعر: (26)

إنْ يكُــنْ طِبَّـكِ الـدّلالُ, فلَـوْ فِـي

سَـالِفِ الدَّهْــرِ والسِّـنِينَ الخَــوَالِي! (27)

&; 3-284 &;

هذا ليس له جواب إلا في المعنى, وقال الشاعر (28)

وَبِحَـــــظٍّ مِمَّــــا نَعِيشُ, وَلا

تَــذْهَبْ بِـكَ التُّرَّهَـاتُ فِــي الأهْـوَالِ (29)

فأضمر: فعيشي. (30)

قال: وقرأ بعضهم: " ولو تَرى "، وفتح " أن " على " ترى ". وليس بذلك، (31) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم, ولكن أراد أن يعلم ذلك الناسُ، كما قال تعالى ذكره: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [سورة السجدة: 3]، ليخبر الناس عن جهلهم, وكما قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة: 107]. (32)

* * *

قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون " أنّ" عاملا فيها قوله: " ولو يرى ". وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن القوة لله جميعًا, فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في" أن " جواب " لو " الذي هو بمعنى " العلم ", لتقدم " العلم " الأول. (33)

* * *

&; 3-285 &;

وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب: " أن القوة لله وأن الله شديد العذاب " ممن قرأ: " ولو يَرَى " بالياء، فإنما نصبها بإعمال " الرؤية " فيها, وجعل " الرؤية " واقعةً عليها. وأما مَنْ نصبها ممن قرأ: " ولو ترى " بالتاء, فإنه نَصبَها على تأويل: لأنّ القوة لله جميعًا, ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر.

* * *

وقال آخرون منهم: فتح " أنّ" في قراءة من قرأ: " ولو يَرَى الذين ظلموا " بالياء، بإعمال " يرى ", وجوابُ الكلام حينئذ متروك, كما ترك جواب: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ [سورة الرعد: 31]، لأن معنى الجنة والنار مكررٌ معروف. (34) وقالوا: جائز كسر " إن "، في قراءة من قرأ ب " الياء ", وإيقاع " الرؤية " على " إذ " في المعنى, وأجازوا نصب " أن " على قراءة من قرأ ذلك ب " التاء "، لمعنى نية فعل آخر, وأن يكون تأويل الكلام: " ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب "، [يرَون] أنّ القوة لله جميعا، (35) وزعموا أن كسر " إنّ" الوجهُ، إذا قرئت: " ولو تَرَى " ب " التاء " على الاستئناف, لأن قوله: " ولو ترى " قد وَقع على " الذين ظلموا ". (36)

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك: " ولو تَرَى الذين ظلموا " -بالتاء من " ترى "-" إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب " بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله: " لرأيت " الثانية، محذوفةً مستغنى بدلالة قوله: " ولو ترى الذين ظلموا "، عن ذكره, وإن &; 3-286 &; كان جوابًا ل " لو ". (37)

ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيًّا به غيره. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة: 107] وقد بيناه في موضعه. (38)

وإنما اخترنا ذلك على قراءة " الياء "، لأن القوم إذا رَأوا العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه إنما يقال: " لو رأيت "، لمن لم يرَ, فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له: " لو رأيت ".

* * *

ومعنى قوله: " إذ يَرون العذاب "، إذ يُعاينون العذاب، كما:-

2412- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب "، يقول: لو عاينوا العذاب.

* * *

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: " ولو تَرَى الذين ظلموا "، ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي, حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم, لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة, وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا, ولا تدفع عنهم عذابًا أحللتُ بهم, وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي، وادَّعى مَعي إلهًا غيري.

----------------

الهوامش :

(18) انظر ما سلف 1 : 368-370 .

(19) الأثر : 2411- في المطبوعة : "حدثني موسى قال حدثنا أسباط" ، أسقط منه"قال حدثنا عمرو" ، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقر به رقم : 2404 . ثم انظر ص : 288 س : 11 فسيأتي تأويله وبيانه عن قول السدي .

(20) في المطبوعة : "وإنما نظير ذلك" ، وأثبت أولى العبارتين بالسياق والمعنى .

(21) لم أعرف قائله . وسيأتي في هذا الجزء 3 : 311 ، وهو من أبيات أربعة في البيان والتبيين 4 : 51 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 100 ، وأمالي الشريف 1 : 215 . وبعد البيت :

أَمـــيرٌ يــأكُلُ الفَــالُوذَ سِــرًّا

ويُطْعِــمُ ضيفَــهُ خُـبْزَ الشَّـعِير!

أتذكُــرُ إذْ قَبَــاؤك جــلْدُ شــاةٍ

وَإِذْ نَعْــلاَكَ مــن جِــلْدِ البَعِـيرِ?

فسُــبْحان الــذي أعطــاك مُلْكًـا

وعَلَّمـك الجـلوسَ عـلى السَّـرِير!!

(22) في المطبوعة : "كحب الله" ، وليس هذا تفسيرًا على سياق كلامه وتفسيره ، بل هو نص الآية ، والصواب ما أثبت .

(23) يريد أن"يرى" بمعنى : يعلم . وقاله أبو عبيدة في مجاز القرآن : 62 .

(24) في المطبوعة : "وقد تكون"لو يعلم" في معنى لا يحتاج . . . " ، والصواب حذف"يعلم" فإنه أراد"لو" وحدها ، وذلك ظاهر في استدلاله بعد .

(25) في المطبوعة : "لو يعلم" في الموضعين ، والصواب جعل إحداهما بالياء . والأخرى بالتاء .

(26) هو عبيد بن الأبرص .

(27) ديوانه : 37 ، من قصيدة جيدة يعاتب امرأته وقد عزمت على فراقه ، وقبله :

تلـكَ عِرْسِـي تَـرُومُ قِدْمًـا زِيَـالِي

أَلِبَيْــــنٍ تُرِيـــد أَمْ لِـــدَلاَلِ?

والزيال : المفارقة . وقوله : "طبك" ، أي شهوتك وإرادتك وبغيتك . يقول لها : إن كنت الدلال على تبغين وترومين ، فقد مضى حين ذلك ، أيام كنا شبابًا في سالف دهرنا وليالينا الخوالي! إذ- :

أنْـــت بَيْضَــاءُ كالمهــاة, وإِذْا

آتِيــكِ نَشْــوَانَ مُرْخِيًــا أَذْيـالِي

(28) هو عبيد بن الأبرص أيضًا من قصيدته السالفة .

(29) ديوانه : 37 ، وسيأتي في التفسير 7 : 117 ، وهو في الموضعين مصحف . كان هنا"وبحظ ما تعيش" . قال لها ذلك بعد أن ذكر أنها زعمت أنه كبر وقل ماله ، وضن عنه إخوانه وأنصاره . ثم أمرها أن ترفض مقالة العاذلين ، ويعظها أن تعيش معه بما يعيش به . والترهات جمع ترهة : وهي أباطيل الأمور . والأهوال جمع هول : وهو الأمر المخيف . ثم ذكر لها أمر أهلها إذا فارقته إليهم وما تلقاه من أهوال ، فقال :

مِنْهُــمُ مُمْسِــكٌ, ومِنْهــم عَـدِيمٌ,

وبَخِـــيلُ عَلَيْــكِ فِــي بُخّــالِ

(30) في المطبوعة : "فأضمر : عش" ، والصواب ما أثبت ، وستأتي على الصواب في الجزء السابع .

(31) قوله : "ليس بذلك" ، أي قول ضعيف ليس بذلك القوي .

(32) انظر ما سلف 2 : 484-488 .

(33) يعني بالعلم الأول"لو يرى" بمعنى"لو يعلم" ، والآخر الجواب المحذوف : "لعلموا" .

(34) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 97 ، وفيه"معاني الجنة . . . " ، والصواب ما في الطبري وإحدى نسخ معاني القرآن .

(35) الذي بين القوسين زيادة لا بد منها ، وإلا اختل الكلام ، واستدركتها من معاني القرآن للفراء 1 : 98 .

(36) هذا قول الفراء في معاني القراء 1 : 97-98 ، مع بعض التصرف في اللفظ . وقوله : "وقع" ، و"الوقوع" يعني به تعدي الفعل إليه . وانظر فهرس المصطلحات .

(37) في المطبوعة : "وإن كان جوابًا . . . " ، والصواب ما أثبت .

(38) انظر ما سلف 2 : 484-488 .

المعاني :

أَندَادࣰا :       نُظَراءَ كالأصنامِ والأولياءِ الميسر في غريب القرآن
أندادا :       أمثالا من الأوثان يعبدونها معاني القرآن
كَحُبِّ ٱللَّهِۖ :       يَمْنحونهم من التعظيم ما لا يَليقُ إلا باللهِ الميسر في غريب القرآن
إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعࣰا :       أي: ليعلَمُوا حين يَرَوْنَ عذابَ جهنَّمَ أن اللهَ هو المتفرِّدُ بالقوةِ الميسر في غريب القرآن

التدبر :

وقفة
[165] ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ﴾ بلا سجود أو قربان لهم، مجرد حب وتعلق بغير الله جعل فعلهم يقدح في إيمانهم أو يناقضه.
وقفة
[165] ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ﴾ قال السُّدِّي: «الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله عز وجل».
وقفة
[165] ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ اعلم أنَّ محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجدّ في طاعته، والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته، والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه، والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل من يحبه الله، وإيثاره على كل من سواه.
وقفة
[165] قيل لسفيان بن عيينة: «إن أهل الأهواء يحبون ما ابتدعوه من أهوائهم حبًّا شديدًا!» فقال: «أنسيت قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: 93]؟!».
وقفة
[165] من جعل ما لم يأمر الله بمحبته محبوبًا لله، فقد شرع دينًا لم يأذن الله به، وهو مبدأ الشرك، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾.
وقفة
[165] محبة المخلوقين إن زادت عن حدها قد تصل إلى شرك المحبة؛ فلا تتجاوز الحد في محبتهم مهما كانت منزلتهم ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ﴾.
وقفة
[165] تأمل تلك المظاهر المترفة تعبيرًا عما يسمى بـ (عيد الحب) وتذكر قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ﴾، فسترى أن سكرة الحب عند بعضهم فاقت مظهر حبه لله، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾، فتفقد قلبك قبل أن ﴿تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق: 9].
عمل
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ لا تعلِّق سعادتك بغير الله؛ فإن الحبيب يجفو، والقريب يبعد، والحي يموت، والمال يفنى، والصحة تزول، ولا يبقى إلا الله الحيُّ القيُّوم سبحانه.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ كل حبٍّ بعد حبِّ المؤمنين لربهم هو تبع لتلك المحبة، فهم يحبون لله، وفي الله، وبالله، وهم أشد حبًّا لله.
اسقاط
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ توقف! ولو كنت في خضم الحياة وصخب الأيام، انحز بقلبك جانبًا، تحسس محبة الله فيه، هذا سرُّ كل الحياة.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ ميزان عدل للحبِّ الصادق.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ لن يطرحهم في النار وقد باهى بهم.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ قال القرطبي: «أحبهم الله تعالى أولًا ثم أحبوه، وَمن شَهِـد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتمَّ».
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ كيف وصلوا إلى هذه المحبة؟! أرشدك الله إلى سِكَّة من السِّكك: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ». [البخاري: 6502].
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ هذه مسابقة الحب الحقيقي التي لا يتقدَّم إليها إلا المؤمنون.
تفاعل
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ أبشروا يا أحباب، ففي الحديث أقسَم النبي ﷺ -وهو الصادق المصدوق من غير قسَم-: «والله لَا يُلْقِي اللَّهُ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ» [الحاكم 4/195، وصححه الألباني].
عمل
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ من طرق الوصول لمحبة الله أن تحافظ على هذا الدعاء: «اللهم إني أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ».
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ قلوبٌ يباهي الله بحبها له، ما أجملها! وهل سيطرحها في النار وقد باهى بها؟!
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ يحبونه أشدَّ من حبهم حتى لأنفسهم، يحبون أن يرضى ولو تكدرت خواطرهم وتعبت قلوبهم وتألمت أرواحهم.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ أحبَّهم الله تعالى أولًا ثم أحبوه، ومن شَهِـد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتمَّ.
عمل
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ إن استطعت أن لا يسبقك أحدٌ في الحُب، فافعل.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ خلقنا الله متفاوتين في المواهب والقدرات، ولم يكن التفاضل عنده بها، لكن بالحب الذي يطيقه كل قلب! سابقهم بحبك.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ المؤمنون بالله حقًّا هم أعظم الخلق محبة لله، لأنهم يطيعونه على كل حال في السَّراء والضَّراء، ولا يشركون معه أحدًا.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ ليس شيء أحق بأن يحب من الله سبحانه، بل لا يصلح أن يحب أحد غيره إلا لأجله!
اسقاط
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ إذا أردت أن تقطع تعلقك بمخلوق؛ فتذكر رؤية الله لقلبك وهو مقبل على عبد فقير من عبيده ومعرض عنه!
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ التوحيد دليل المحبة.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ عند تزاحم الرغبات يبين الصادق في حبه.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ أشد الشدة هي العقد القوي، الحب الذي لا تنفصم عراه أبدًا.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ فينا عطش هائل للحب؛ لا يرويه أبدًا إلا حب الله.
وقفة
[165] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾ ماذا بقي من لذة للمحبين؟! وأين الغيرة أيها العشاق؟!
وقفة
[165] من أنصف نفسه وعرف أعماله استحى من الله أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه ولم يدع من حسنه شيئًا إلا فعله، فاسمع صفة المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾.
وقفة
[165] يتفاضل الخلق في حب الخالق؛ وليس في حب غيره ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾.
وقفة
[165] هل جرَّب الراكضون خلف سراب (عيد الحب) أن يملأ أحدهم قلبه بحب الله؟ ماذا لو جرب أن يناديه بأسمائه الحسنى كما يتقرب الحبيب إلى حبيبه بمناداته بأحب أسمائه؟ وكيف سيكون حبه لله لو حاول أن يفكر في معاني صفات الله العليا كما يفكر المحبوب بصفات حبيبه؟ إذن لأخذت عليه كل تفكيره، ولغمرته سعادة لا يمكن وصفها إلا بسعيه للمزيد في إرضاء مولاه ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾.
وقفة
[165] كثرة ذكر المحبوب دليل على شدة حبه؛ فذكر العبد لربه كثيرًا يدل على أن حبه لربه كبير ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ﴾.
وقفة
[165] ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً﴾ حذف جواب (لو) في الآية؛ لأن حذفه ترك للخيال أن يذهب كل مذهب في تصور شدة الموقف وفظاعته.

الإعراب :

  • ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ:
  • الواو: استئنافية. من الناس: جار ومجرور متعلق بخبر مقدم. من: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر
  • ﴿ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ:
  • يتخذ: فعل مضارع مرفوع بالضمة. والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره هو. وجملة «يَتَّخِذُ» صلة الموصول أما الجار والمجرور «مِنْ دُونِ» فهو في محل نصب حال لأنه متعلق بصفة مقدمة لأندادا. الله: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
  • ﴿ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ:
  • أي نظراء: مفعول به منصوب بالفتحة. يحبونهم: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. الهاء: ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به والميم علامة الجمع. وجملة «يُحِبُّونَهُمْ» في محل نصب صفة للموصوف «أَنْداداً» وجاءت «يُحِبُّونَهُمْ» على المعنى.
  • ﴿ كَحُبِّ اللَّهِ: الكاف:
  • حرف تشبيه وهو حرف جر. حب: اسم مجرور بالكاف وعلامة جرّه: الكسرة ويجوز أن تعرب الكاف: اسما بمعنى «مثل» منبيا على الفتح في محل نصب نائبا عن المصدر والتقدير: يحبونهم حبا مثل حب الله. الله لفظ الجلالة: مضاف اليه مجرور للتعظيم بالاضافة وعلامة الجر الكسرة.
  • ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا:
  • الواو: استئنافية. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. آمنوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة.
  • ﴿ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ:
  • خبر المبتدأ «الَّذِينَ» مرفوع بالضمة. حبا: تمييز منصوب بالفتحة. اللام: حرف جر. الله لفظ الجلالة: اسم مجرور للتعظيم باللام وعلامة الجر الكسرة والجار والمجرور متعلق بحبا. واللام للتبيين سبقها مصدر.
  • ﴿ وَلَوْ يَرَى:
  • الواو: استئنافية. لو: حرف شرط غير جازم. وهو حرف امتناع لامتناع أي أنّ جوابها ممتنع. يرى: فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر.
  • ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُوا:
  • الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. ظلموا: تعرب إعراب «آمَنُوا» وهي صلة الموصول.
  • ﴿ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ:
  • ظرف زمان متعلق بيرى: مبني على السكون في محل نصب وهي بمعنى «حين» تفيد المستقبل. يرون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة. والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. وجملة «يَرَوْنَ» في محل جر بالاضافة لوقوعها بعد الظرف «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» بتأويل مصدر سدّ مسدّ مفعولي «يرى». العذاب: مفعول به منصوب بالفتحة. وجواب الشرط محذوف اختصارا بتقدير لعلموا.
  • ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً:
  • أنّ: حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد. القوة: اسم «أَنَّ» منصوب بالفتحة اللام: حرف جرّ. الله لفظ الجلالة: اسم مجرور للتعظيم باللام وعلامة الجر: الكسرة. جميعا: حال منصوب بالفتحة وشبه الجملة «لِلَّهِ» متعلق بخبر «أَنَّ» و «أَنَّ» وما تلاها بتأويل مصدر في محل نصب بفعل يفسره ما قبله.
  • ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ:
  • الواو: عاطفة. أن الله: معطوفة على «أَنَّ الْقُوَّةَ» وتعرب إعرابها. شديد: خبر «أَنَّ» مرفوع بالضمة. العذاب: مضاف اليه مجرور علامة جرّه: الكسرة. '

المتشابهات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

أسباب النزول :

  • قال مقاتل: نزلت في مشركي العرب.'
  • المصدر المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [165] لما قبلها :     وبعد ذكر الأدلة على وحدانية الله وألوهيته ونعمه؛ ذكَر اللهُ عز وجل هنا أنَّه -بالرغم من وضوح هذه الأدلة- يوجد من الناس مَن لا يؤمن بوحدانية الله، ويتخذ من المخلوقين أندادًا لله يحبهم ويعظمهم، قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ

القراءات :

يحبونهم:
قرئ:
1- بضم الياء.
2- بفتحها، وهى لغة، والمضارع بكسر العين شذوذا لأنه مضاعف متعد، وقياسه أن يكون مضموم العين.
إذ يرون العذاب أن:
قرئ:
1- إذ ترون العذاب أن، بالتاء المفتوحة وفتح همزة «أن» ، وهى قراءة نافع، وابن عامر.
2- إذ يرون العذاب أن، بالياء المضمومة، وفتح همزة «أن» ، وهى قراءة ابن عامر.
3- إذ يرون العذاب أن، بالياء المفتوحة وفتح همزة «أن» ، وهى قراءة الباقين.
4- ولو ترى ... إن وإن، بالتاء، وكسر الهمزة فيهما، وهى قراءة الحسن، وقتادة، وشيبة، وأبى جعفر، ويعقوب.
5- ولو يرى ... أن ... وأن، بالياء المفتوحة وفتح الهمزة فيهما، وهى قراءة الكوفيين، وأبى عمرو، وابن كثير.
6- ولو يرى ... أن ... وإن، بالياء وكسر الهمزة فيهما، وهى قراءة فرقة.

مدارسة الآية : [166] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ ..

التفسير :

[166] عند معاينتهم عذاب الآخرة يتبرأ الرؤساء المتبوعون ممن اتبعهم على الشرك، وتنقطع بينهم كل الصلات التي ارتبطوا بها في الدنيا:من القرابة، والاتِّباع، والدين، وغير ذلك.

وتبرأ المتبوعون من التابعين, وتقطعت بينهم الوصل, التي كانت في الدنيا, لأنها كانت لغير الله, وعلى غير أمر الله, ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له, فاضمحلت أعمالهم, وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين, وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها, انقلبت عليهم حسرة وندامة, وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو, وتعلقوا بغير متعلق, فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها, فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين, وأخلص العمل لوجهه, ورجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه, فكانت أعماله حقا, لتعلقها بالحق, ففاز بنتيجة عمله, ووجد جزاءه عند ربه, غير منقطع كما قال تعالى:{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}

وقوله- تعالى-: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ... بدل من قوله: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ. أو مفعولا به بتقدير اذكر.

وتَبَرَّأَ من التبرؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد، ومنه برئت من الدين أى: تخلصت منه، وبرأ المريض من مرضه، أى: تخلص من مرضه.

والمراد بالذين اتبعوا: أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله.

والمراد بالذين اتبعوا: أتباعهم وأشياعهم الذين يتلقون جميع أقوالهم بالطاعة والخضوع بدون تدبر أو تعقل.

وجملة وَرَأَوُا الْعَذابَ حال من الأتباع والمتبوعين، والضمير يعود على الفريقين. أى:

تبرؤا جميعا من بعض في حال رؤيتهم للعذاب.

وجملة وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ معطوفة على تبرأ، أو رأوا.

والباء في بِهِمُ للسببية أى: وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة، وقيل للملابسة أى: تقطعت الأسباب ملتبسة بهم فخابت آمالهم وسقطوا صرعى.

والْأَسْبابُ جمع سبب، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقى به الشجر ونحوه، ثم سمى به كل ما يتوصل به إلى غيره، عينا كان أو معنى. فيقال للطريق سبب، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تربده، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك، والمراد بالأسباب هنا:

الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين ... إلخ.

والمعنى: واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ يوم القيامة، ذلك اليوم الهائل الشديد الذي يتنصل فيه الرؤساء من مرءوسيهم، والاتباع من متبوعيهم حال رؤيتهم جميعا للعذاب وأسبابه ومقدماته وما أعدلهم من شقاء وآلام، وقد ترتب على كل ذلك أن تقطع ما بين الرؤساء والأذناب من روابط كانوا يتواصلون بها في الدنيا، وصار كل فريق منهم يلعن الآخر ويتبرأ منه.

قال بعض العلماء: وفي قوله: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ استعارة تمثيلية إذ شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب- أى الحبل- عند ارتقائه فسقط هالكا، فكذلك هؤلاء قد علموا جميعا حينئذ أن لا نجاة لهم، فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة. وهي تمثيلية بديعة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشبها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبهة بها وهي:

تشبيه المشرك في عبادته الأصنام بالمرتقى بجامع السعى، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل إليها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول، وتشبيه الحرمان من الوصول للنعيم

بتقطع الحبل، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك..».

ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين ، فقال : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا [ ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ] ) تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا ، فتقول الملائكة : ( تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ) [ القصص : 63 ] ويقولون : ( سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 41 ] والجن أيضا تتبرأ منهم ، ويتنصلون من عبادتهم لهم ، كما قال تعالى : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [ الأحقاف : 5 ، 6 ] وقال تعالى : ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ) [ مريم : 81 ، 82 ] وقال الخليل لقومه : ( إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) [ العنكبوت : 25 ] وقال تعالى : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) [ سبأ : 31 - 33 ] وقال تعالى : ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ) [ إبراهيم : 22 ] .

وقوله : ( ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) أي : عاينوا عذاب الله ، وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا .

قال عطاء عن ابن عباس : ( وتقطعت بهم الأسباب ) قال : المودة . وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح .

القول في تأويل قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " إذْ تبرَأ الذين اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب "، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعواهم. (39)

* * *

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله: " إذ تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا "، فقال بعضهم بما:-

2413- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " إذ تبرأ الذين اتُّبعوا "، وهم الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك," من الذين اتَّبعوا "، وهم الأتباع الضعفاء," ورأوا العذاب ".

2414- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة.

2415- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: قلت لعطاء: " إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا " قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.

* * *

وقال آخرون بما:-

2416- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتُّبعوا "، أما " الذين اتُّبعوا "، فهم الشياطين تبرأوا من الإنس.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض, بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة.

* * *

وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله: " إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا "، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، هم الذين يتبرأون من أتباعهم.

وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله السدي في قوله: (40) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، أن " الأنداد " في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر, ويَعصُون الله في طاعتهم إياهم, كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره = وفسد تأويل قول من قال: (41) " إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا "، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس. لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا, وإذ تَقطعت بهم الأسباب.

* * *

ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الأسباب ". فقال بعضهم بما:-

2417- حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير,- عن عبيد المكتب, عن مجاهد: " وتَقطعت بهمُ الأسباب " قال، الوصال الذي كان بينهم في الدنيا. (42)

2418- حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد: " وتقطَّعت بهم الأسباب " قال، تواصلهم في الدنيا. (43)

2419 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد بمثله.

2420- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، المودّة.

2421- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

2422- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا.

2423- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى قال، أخبرني قيس بن سعد, عن عطاء, عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: " وتقطّعت بهم الأسباب " قال، المودة.

2424- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " وتقطعت بهم الأسباب "، أسبابُ الندامة يوم القيامة, وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها, فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ويتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف: 67]، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين.

2425- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، هو الوصْل الذي كان بينهم في الدنيا.

2426- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " وتقطعت بهم الأسباب "، يقول: الأسبابُ، الندامة.

* * *

وقال بعضهم: بل معنى " الأسباب "، المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا.

* ذكر من قال ذلك:

2427- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: " وتقطعت بهم الأسباب "، يقول: تقطّعت بهم المنازلُ.

2428- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، الأسباب المنازل.

* * *

وقال آخرون: " الأسباب "، الأرحام.

* ذكر من قال ذلك:

2429- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, وقال ابن عباس: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، الأرحام.

* * *

وقال آخرون : " الأسباب "، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.

* ذكر من قال ذلك:

2430- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا " وتقطعت بهم الأسباب "، فالأعمال.

2431- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، أسباب أعمالهم, فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون, والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار.

* * *

قال أبو جعفر: (44) " والأسباب "، الشيء يُتعلَّقُ به. قال: و " السبب " الحبل." والأسباب " جمع " سَبب ", وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل " سبب "، لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به. ويقال للطريق " سبب "، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه. وللمصاهرة " سبب "، لأنها سَببٌ للحرمة. وللوسيلة " سَبب "، للوصول بها إلى الحاجة, وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة، فهو " سبب " لإدراكها.

فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين ظلموا أنفسهم -من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ = عند معاينتهم عذابَ الله = المتبوعُ من التابع, وتتقطع بهم الأسباب.

وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا, وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [سورة إبراهيم: 22]، وأخبر تعالى ذكره أنّ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين, وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا, فقال تعالى ذكره: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [سورة الصافات:24-25] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه, وإن كان نسيبه لله وليًّا, فقال تعالى ذكره في ذلك: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [سورة التوبة: 114] وأخبر تعالى ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات.

وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب, فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم، (45)

ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم, ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة.

فلا مَعْنِىَّ أبلغُ -في تأويل قوله: " وتقطعت بهم الأسباب "- من صفة الله [ذلك] وذلك ما بيَّنا من [تقطّع] جَميع أسبابهم دون بَعضها، (46) على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع فيه, وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

-------------------

الهوامش :

(39) في المطبوعة : "من الذين اتبعوا" مرة أخرى ، والصواب"اتبعوهم" كما أثبت ، وإلا لم يكن ذلك إلا تكرارًا بلا معنى .

(40) انظر الأثر رقم : 2411 .

(41) قوله : "وفسد" معطوف على قوله : "صح" .

(42) الخبر : 2417- فضيل بن عياض بن مسعود التميمي الزاهد الخراساني : ثقة ، قال ابن سعد : "كان ثقة ثبتًا فاضلا عابدًا ورعًا كثير الحديث" . مات في أول المحرم سنة 187 بمكة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/123 ، والصغير : 209 ، وابن سعد 5 : 366 ، وابن أبي حاتم 3/2/73 .

وهذا الخبر يرويه أبو جعفر بإسنادين : من طريقي الفضيل بن عياض ، ثم من طريقي جرير ، وهو ابن عبد الحميد الضبي - كلاهما عن عبيد المكتب . ثم سيرويه عقب ذلك ، بإسنادين آخرين : 2418 ، 2419 ، من رواية سفيان ، وهو الثوري ، عن عبيد المكتب .

و"عبيد المكتب" ، بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء المثناة ، من"الإكتاب" ، أي تعليم الكتابة : هو عبيد بن مهران الكوفي ، وهو ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 237 ، وابن أبي حاتم 3/1/2 .

(43) الخبر : 2418- إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، شيخ الطبري : ثقة مأمون . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/1/211 ، وتاريخ بغداد 6 : 370 .

(44) من أول هذه الفقرة ، كلام أبي جعفر ، وأخشى أن يكون سقط شيء قبله . وهذا الابتداء على كل حال ، جار على غير النهج الذي سار عليه كتابه من قبل ومن بعد .

(45) في المطبوعة : "ينفعهم" ، والصواب ما أثبت ، فالأفعال قبله وبعده كلها ماضية . والخلال مصدر خاله (بشديد اللام) يخاله مخالة وخلالا : وهي الصداقة والمودة ، يقول امرؤ القيس :

صَـرَفتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى

فَلَسْــتُ بِمَقْـلِيِّ الخِـلالِ وَلاَ قَـالي

(46) الزيادة التي بين الأقواس ، لا بد منها حتى يستقم صدر الكلام وآخره ، في الجملة التالية . ويعني بقوله"صفة الله" : ما وصف الله سبحانه من تقطع أسباب الكافرين يوم القيامة ، كالذي عدده آنفًا في الفقرة السالفة .

المعاني :

ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ :       هم الرؤساءُ الميسر في غريب القرآن
الأَسْبَابُ :       الصِّلَاتُ السراج
ٱلۡأَسۡبَابُ :       الصِّلاتُ من القَرابَةِ والأَتْباعِ وغيرِ ذلك الميسر في غريب القرآن
تقطّعت بهم الأسباب :       نفرّقت الصّلات التي كانت بينهم في الدّنيا من نسب و صداقة و عهود معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[166] ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ في يوم القيامة تنقطع كل الروابط، ويَبْرَأ كل خليل من خليله، ولا يبقى إلا ما كان خالصًا لله تعالى.
وقفة
[166] ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ كل من تابع غيره في الباطل سيتبرأ منه يوم القيامة.
وقفة
[166] ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ قال ابن القيم: «فكل من تعلق بشيء غير الله انقطع به أَحوج ما كان إِليه»، ومن أحوج من العبد يوم القيامة؟!
وقفة
[166] ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ كم من خلَّة في الدنيا هـي ذِلَّة في الآخرة.
وقفة
[166] ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ التبعية للرموز تسوقها العاطفة والحميَّة غالبًا، ولهذا أكثرها ندامات.
وقفة
[166] ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ مشهد مخيف يوم القيامة؛ وهو براءة الأتباع من المتبوعين، والعكس.
تفاعل
[166] ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ استعذ بالله من هذا.

الإعراب :

  • ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ:
  • بدل من «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» إذ: ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب وهي بمعنى «حين» تفيد المستقبل. تبرأ: فعل ماض مبني على الفتح. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. وجملة «تَبَرَّأَ الَّذِينَ» في محل جر بالاضافة لوقوعها بعد الظرف «إِذْ».
  • ﴿ اتُّبِعُوا:
  • فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. والواو: ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل. والألف: فارقة. وجملة «اتُّبِعُوا» صلة الموصول لا محل لها من الإعراب
  • ﴿ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا:
  • من: حرف جر. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بمن. والجار والمجرور متعلق باتبعوا وجملة «تَبَرَّأَ» صلة الموصول، اتبعوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. والواو: ضمير ومتصل في محل رفع فاعل. والألف: فارقة. والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لأنه مفعول به التقدير: من الذين اتبعوهم أي تبرأ المتبوعون من الاتباع لهم.
  • ﴿ وَرَأَوُا الْعَذابَ:
  • الواو : حالية. رأوا: فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين لاتصاله بواو الجماعة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف: فارقة. العذاب: مفعول به منصوب بالفتحة. وجملة «رَأَوُا الْعَذابَ» في محل نصب حال وضمت الواو لالتقاء الساكنين
  • ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ:
  • الواو: عاطفة. تقطعت: فعل ماض معطوف على «تَبَرَّأَ» مبني على الفتح. والتاء: تاء التأنيث الساكنه لا محل لها. بهم: جار ومجرور متعلق بتقطعت و «هم» ضمير الغائبين في محل جر بالباء واشبع بالضمة. الاسباب: فاعل مرفوع بالضمة أو يكون الجار والمجرور «بِهِمُ» متعلقا بحال محذوفة أي موصولة بهم الاسباب. أو تكون سببية أي بسبب كفرهم أو بمعنى «عن». '

المتشابهات :

البقرة: 166﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ
القصص: 64﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [166] لما قبلها :     وبعد أن ذمَّ اللهُ عز وجل متخذي الأنداد؛ ذكرَ هنا أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم -معتقدين أنهم سبب نجاتهم- لم تُغْنِ شيئًا، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم، تبرأوا منهم، قال تعالى:
﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ

القراءات :

اتبعوا من الذين اتبعوا:
قرئ:
1- اتبعوا، الأول، مبينا للمفعول، والثاني مبينا للفاعل، وهى قراءة الجمهور.
2- اتبعوا، الأول، مبينا للفاعل، والثاني مبينا للمفعول، وهى قراءة مجاهد.

مدارسة الآية : [167] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ ..

التفسير :

[167] وقال التابعون:يا ليت لنا عودة إلى الدنيا، فنعلن براءتنا من هؤلاء الرؤساء، كما أعلنوا براءتهم مِنَّا. وكما أراهم الله شدة عذابه يوم القيامة يريهم أعمالهم الباطلة ندامات عليهم، وليسوا بخارجين من النار أبداً.

وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم, بأن يتركوا الشرك بالله, ويقبلوا على إخلاص العمل لله، وهيهات, فات الأمر, وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا, فهم كذبة, فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هو قول يقولونه, وأماني يتمنونها, حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم، فرأس المتبوعين على الشر, إبليس, ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر{ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}

ثم بين- سبحانه- ما قاله الأتباع على سبيل الحسرة والندم فقال: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا.

الكرة: الرجعة والعودة. يقال: كر يكر كرا: أى: رجع. و (لو) للتمني. وقوله فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ منصوب بعد الفاء بأن مضمرة في جواب التمني الذي أشربته لو، والكاف في قوله كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا في محل نصب نعت لمصدر محذوف أى تبرأ مثل تبرئهم.

والمعنى: وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب، ولنشفى غيظنا منهم لأنهم خذلونا وأوردونا موارد التهلكة والعذاب الأليم.

وقوله- تعالى-: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ تذبيل لتأكيد الوعيد، وبيان لحال المشركين في الآخرة.

قال الآلوسى: وقوله: كَذلِكَ في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الاراء المفهوم من قوله: إِذْ يَرَوْنَ أى: كإراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري وتقطع الأسباب وتمنى الرجعة، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم. وجوز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الضخامة. أى: مثل ذلك الاراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله- تعالى-: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.

والمراد بأعمالهم: المعاصي التي ارتكبوها وفي مقدمتها اتباعهم لمن أضلوهم.

وحَسَراتٍ جمع حسرة، وهي أشد درجات الندم والغم على ما فات. يقال: حسر يحسر حسرا فهو حسير، إذ اشتدت ندامته على أمر فاته.

قال الرازي: وأصل الحسر الكشف. يقال حسر ذراعيه أى: كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة. والحسور الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر. قال- تعالى-:

وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ .

والمعنى: كما أرى الله- تعالى- المشركين العذاب وما صاحبه من التبرؤ وتقطع الأسباب بينهم، يريهم- سبحانه- أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم.

ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.

أى: وما هم بخارجين من تلك النار التي عوقبوا بها بسبب شركهم، بل هم مستقرون فيها استقرارا أبديا، وقد جاءت الجملة اسمية لتأكيد نفى خروجهم من النار، وبيان أنهم مخلدون فيها كما قال- تعالى- في آية أخرى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها.

وهكذا يسوق لنا القرآن ما يدور بين التابعين والمتبوعين يوم القيامة من تنصل وتحسر وتخاصم بتلك الطريقة المؤثرة، حتى لكأنك أمام مشهد مجسم، ترى فيه الصور الشاخصة حاضرة. وذلك لون من ألوان بلاغة القرآن في عرضه للحقائق، حتى تأخذ سبيلها إلى النفوس الكريمة، وتؤتى ثمارها الطيبة في القلوب السليمة.

ثم وجه القرآن نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات، ونهاهم عن اتباع وساوس الشيطان فقال- تعالى-:

وقوله : ( وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ) أي : لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم ، فلا نلتفت إليهم ، بل نوحد الله وحده بالعبادة . وهم كاذبون في هذا ، بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه . كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك ; ولهذا قال : ( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) أي : تذهب وتضمحل كما قال الله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) [ الفرقان : 23 ] .

وقال تعالى : ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) الآية [ إبراهيم : 18 ] ، وقال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ) الآية [ النور : 39 ] ، ولهذا قال تعالى : ( وما هم بخارجين من النار ) .

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: " وقَال الذين اتَّبعوا "، وقال أتباع الرجال -الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله, ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم, إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة-: " لو أن لنا كرة ".

* * *

يعني" بالكرة "، الرجعةَ إلى الدنيا, من قول القائل: " كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا ", و " الكرَّة " المرة الواحدة, وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:

وَلَقَـدْ عَطَفْـنَ عَـلَى فَـزَارَةَ عَطْفَـةً

كَـرَّ الْمَنِيـحِ, وَجُـلْنَ ثَــمَّ مَجَــالا (47)

وكما:-

2432- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا "، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا.

2433- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة " قال، قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا.

* * *

وقوله: " فنتبرأ منهم " منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب " الفاء ". لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، (48) فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم, و يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام: 27]

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: " كذلك يُريهمُ الله أعمالهم "، يقول: كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله: وَرَأَوُا الْعَذَابَ ، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا, فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله " حسرات عليهم " يعني: نَدامات.

* * *

" والحسرات " جَمع " حَسْرة ". وكذلك كل اسم كان واحده على " فَعْلة " مفتوح الأول ساكن الثاني, فإن جمعه على " فَعَلات " مثل " شَهوة وتَمرة " تجمع " شَهوات وتَمرات " مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل " ضخمة "، تجمعها " ضخْمات " و " عَبْلة " تجمعها " عَبْلات ", وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر: (49)

عَــلَّ صُـرُوفَ الدَّهْـرِ أوْ دُولاتِهَـا

يُدِلْنَنَـــا اللَّمَّــة مِــنْ لَمَّاتِهَــا

فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا (50)

فسكنّ الثاني من " الزفرات "، وهي اسم. وقيل: إن " الحسرة " أشد الندامة.

* * *

فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم حَسرات عليهم, وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون على تركهم الازديادَ منه, فيريهم الله قليلَه! (51) بل كانت أعمالهم كلها معاصيَ لله, ولا حسرةَ عليهم في ذلك, وإنما الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟

قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون, فنذكر في ذلك ما قالوا, ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله.

فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب =ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم= غيرُهمْ بطاعته ربَّه. (52) فصار ما فاتهم من الثواب -الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه (53) عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً عليهم.

* ذكر من قال ذلك:

2434- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم "، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم أطاعوا الله, فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم بين المؤمنين, فيرثونهم. فذلك حين يندمون.

2435- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء, عن عبد الله -في قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار, وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة, فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار, فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم! (54)

* * *

فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه على هذا التأويل؟

قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [له] قبل أن يعمله: (55) هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله, كما يقال للرجل يَحضُر غَداؤه قبل أن يَتغدى به: (56) هذا غَداؤك اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله: " كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم "، يعني: كذلك يُريهم الله أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات عليهم.

* * *

وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟

* ذكر من قال ذلك:

2436- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم "، فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة.

2437- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " أعمالهم حسرات عليهم " قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ [فجعلها] حسرات عليهم. (57) قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم, وقرأ قول الله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [سورة الحاقة: 24]

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله: " كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم "، كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، (58) لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.

فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها. (59) والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية, فإنه مَنـزع بعيد. ولا أثر -بأنّ ذلك كما ذكر- تقوم به حُجة فيسلم لها، (60) ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنـزيل إلى باطن تأويل. (61)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم من الكفار =وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله, فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة, وتمنَّوا إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها, ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها = بخارجين من النار التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا, ولا ندمُهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ, ولكنهم فيها مخلدون.

* * *

وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ, وأنه إلى نهاية, ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية, ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية.

-------------------

الهوامش :

(47) ديوانه 48 ، ونقائض جرير والأخطل : 79 . وفي المطبوعة : "كر المشيح" ، وهو خطأ وفي الديوان"على قدارة" ، وهو خطأ . وفزارة بن ذبيان بن بغيض . والمنيح : قدح لاحظ له في الميسر ، وأقداح الميسر سبعة دوات أنصباء ، وأربعة لا نصيب لها مع السبعة ، ولكنها تعاد معها في كل ضربة . وقوله : "عطفن" يعني الخيل ، ذكرها في بيت قبله . وقد مضى من هذه القصيدة أبيات في 2 : 38 ، 39 ، 492 ، 496 .

(48) في المطبوعة : "إذا عاينوا" ، وهو خطأ .

(49) لم أعرف قائله .

(50) سيأتي في التفسير 24 : 43 / 30 : 34 (بولاق) بزيادة بيت . والعيني 4 : 396 واللسان (لمم) (زفر) (علل) وغيرها . والدولة (بفتح فسكون) والدولة (بضم الدال) : العقبة في المال والحرب وغيرهما ، وهو الانتقال من حال إلى حال ، هذا مرة وهذا مرة . ودالت الأيام : دارت بأصحابها . ويروي : "تديلنا" وأداله : جعل له العقبة في الأمر الذي يطلبه أو يتمناه ، بتغيره وانتقاله عنه إلى حال أخرى . واللمة : النازلة من نوازل الدهر ، كالملمة . والبيت الرابع الذي زاده الطبري :

وَتَنْقَـــعُ الغُلّــة مــن غُلاّتِهــا

والغلة : شدة العطش وحرارته . ونقع الغلة : سكنها وأطفأها وأذهب ظمأها .

(51) قوله : "فيريهم الله قليله" ، يعني به : فيريهم الله أنه قليل ، فيتمنون أن لو كانوا ازدادوا من فعله حتى يكثر .

(52) سياق هذه الجملة : حتى استوجب غيرهم بطاعته ربه ، ما كان الله أعد لهم . . . " فقدم وأخر وفصل ، كعادته .

(53) في المطبوعة : "إذا عاينوه" ، والصواب ما أثبت .

(54) الحديث : 2435- سفيان : هو الثوري . سلمة بن كهيل الحضرمي . سبق توثيقه : 439 ، ونزيد هنا أن الثوري قال : "كان ركنًا من الأركان" . وقال أحمد : "سلمة متقن الحديث" . وقال أبو زرعة : "كوفي ثقة مأمون ذكي" . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/75 ، وابن سعد 6 : 221 ، وابن أبي حاتم 2/1/170-171 ، وتاريخ الإسلام 5 : 81-82 .

أبو الزعراء - بفتح الزاي والراء بينهما عين مهملة ساكنة؛ هو عبد الله بن هانئ أبو الزعراء الكبير ، وهو خال سلمة بن كهيل . وهو ثقة من كبار التابعين . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 119 ، وابن أبي حاتم 2/2/195 .

وهذا الحديث قطعة من حديث طويل - كما قال الطبري هنا : "في قصة ذكرها" وستأتي قطعة أخرى منه في الطبري 15 : 97 (بولاق) . وهو حديث موقوف من كلام ابن مسعود ولكنه -عندنا- وإن كان موقوفًا لفظًا ، فإنه مرفوع حكمًا ، لأنه في صفة آخر الزمان ، وما يأتي من الفتن ، ثم فناء الدنيا ، ثم البعث والنشور والشفاعة ، وما إلى ذلك ، مما لا يعلم بالرأي .

وقد رواه -بطوله كاملا- الحاكم في المستدرك 4 : 496-498 ، من طريق الحسين بن حفص الإصبهاني ، عن سفيان ، بهذا الإسناد . وقال : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي . وهو كما قالا .

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10 : 328-330 ، بطوله ، وقال : رواه الطبراني وهو موقوف ، مخالف للحديث الصحيح وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا أول شافع"! هكذا قال الهيثمي ولم يذكر شيئًا عن إسناده . وليس هذا موضع التعقب على تعليله .

وروى أبو داود الطيالسي : 389- قطعة أخرى منه ، عن يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه . و"يحيى بن سلمة" . ضعيف جدًا . قال البخاري في الصغير ، ص : 143"منكر الحديث" ولا يضر ضعف الإسناد عند الطيالسي ، إذ جاء الحديث -كما ترى- بإسناد صحيح ، من رواية سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل .

(55) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام .

(56) في المطبوعة : "كما يقال للرجل" ، وزيادة الواو لازمة .

(57) الزيادة بين القوسين مما يستقيم به معنى الكلام ، ليطابق القول الذي قاله هؤلاء . ويوافق الشطر الثاني من هذا الخبر في ذكر أعمال أهل الجنة .

(58) في المطبوعة : "إذا رأوا جزاءها" ، والصواب ما أثبت .

(59) انظر تفسير معنى : "الظاهر ، والباطن" فيما سلف 2 : 15 ، واطلبه في فهرس المصطلحات .

(60) في المطبوعة : "تقوم له حجة" ، وهو خطأ ، صوابه ما أثبت .

(61) في المطبوعة : "فإذا كان الأمر . . . " ، والصواب ما أثبت . وقوله : "لم يحل" من أحال الشيء يحيله : إذا حوله من مكان إلى مكان ، أو من وجه إلى وجه .

المعاني :

كرّة :       عودة إلى الدّنيا معاني القرآن
كَذَٰلِكَ :       أي: كما أراهم عذاَبه، يُريهم أعمالَهم الفاسدةَ الميسر في غريب القرآن
حَسَرَاتٍ :       نَدَامَاتٍ السراج
حسرات :       ندامات شديدة معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[167] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ النفوس العفنة تريد أن ترجع من أجل هدف رخيص فقط.
وقفة
[167] من جعل عقله صدًى لعقل غيره، دون قناعة أو برهان؛ سيكون ذلك أشد خصومه يومًا من الدهر! تدبر: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾.
وقفة
[167] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها انقلبت عليهم حسرة وندامة، وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم؛ بأن يتركوا الشرك بالله، ويقبلوا على إخلاص العمل لله.
لمسة
[167] ﴿كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ ما الفرق بين الحسرة والندامة؟ الحسرة هي أشد الندم، والتلهف على ما فات حتى ينقطع الإنسان من أن يفعل شيئًا، يقولون هو كالحسير من الدواب الذي لا منفعة فيه، أما الندم فقد يندم على أمر وإن كان فواته ليس بذلك.
وقفة
[167] ﴿كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ قال السُّدِّي: «ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين؛ فذلك حين يندمون»، وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، والحسرة أعلى درجات الندامة على شيء فائت.
وقفة
[167] ﴿كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ كل وقت ضاع في المباح يتحسر صاحبه عليه غدًا، ولو كان من أهل الجنة، فكيف لو ضاع في الحرام وكان صاحبه من أهل النار!
تفاعل
[167] ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ استعذ بالله من هذا.

الإعراب :

  • ﴿ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا:
  • الواو: استئنافية. قال: فعل ماض مبني على الفتح. الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. اتبعوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. والألف: فارقة. وجملة «اتَّبَعُوا» صلة الموصول لا محل لها.
  • ﴿ لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً:
  • لو: حرف للتمني لا محل له. أنّ: حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد. لنا: جار ومجرور متعلق بخبر «أَنَّ» المقدم. كرّة: اسم «أَنَّ» مؤخر منصوب بالفتحة. و «أَنَّ» وما بعدها بتأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل تقديره: ثبت أو لو حدث هذا. والجملة: في محل نصب مفعول به «مقول القول». «كَرَّةً» بمعنى رجعة إلى الدنيا.
  • ﴿ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ: الفاء:
  • واقعة في جواب التمني. نتبرأ: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وما بعد الفاء وجملة «نتبرأ» صلة «أن» المضمرة لا محل لها. والمصدر المؤول من «أن» المضمرة وما بعدها معطوف على مصدر منتزع من الكلام السابق. من: حرف جر. وهم: ضمير الغائبين في محل جر ب «من» والجار والمجرور متعلق بنتبرأ. والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن.
  • ﴿ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا:
  • الكاف: حرف جر للتشبيه. ما: مصدرية. تبرأوا: تعرب إعراب «اتَّبَعُوا» منا: جار ومجرور متعلق بتبرأ. و «ما المصدرية وما بعدها» بتأويل مصدر في محل جر بالكاف. والجار والمجرور متعلق بمفعول مطلق محذوف. التقدير: فنتبرأ منهم تبرئة كتبرئتهم منا. وجملة «تبرأ» صلة «ما» المصدرية.
  • ﴿ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ:
  • الكاف: اسم مبني على الفتح في محل نصب نائب عن المفعول المطلق والتقدير: مثل ذلك الإراء يريهم والكاف هنا بمعنى «مثل» وهو مضاف. ذا: اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالاضافة. واللام: للبعد والكاف: للخطاب. يريهم: فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل. الهاء: ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول للفعل «يرى» والميم علامة جمع الذكور. الله لفظ الجلالة: فاعل مرفوع للتعظيم بالضمة.
  • ﴿ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ:
  • أعمالهم: مفعول به ثان منصوب بالفتحة. الهاء: ضمير متصل في محل جر بالاضافة والميم: علامة جمع الذكور حسرات: مفعول به ثالث أو حال منصوب بالكسرة بدلا من الفتحة لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. عليهم: جار ومجرور متعلق بحسرات أو بصفة محذوفة منها. و «هم» ضمير الغائبين في محل جرّ بعلى.
  • ﴿ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ:
  • الواو: استئنافية. ما: من المشبهات بليس وتعمل عملها وتسمى «ما» الحجازية ونافية لا عمل لها عند تميم. لتوكيد النفي. خارجين: اسم مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على انه خبر «ما» وعلامة نصبه: الياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض عن تنوين المفرد. من النار: جار ومجرور متعلق بخارجين. أو يكون الجار والمجرور في محل رفع محلا على انه خبر «هُمْ» على اللغة الثانية. '

المتشابهات :

البقرة: 167﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا
الشعراء: 102﴿فَـ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

أسباب النزول :

  • أخرج ابن أبي حاتم من طريق الأوزاعي: سمعت ثابت بن معبد يقول: ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} .'
  • المصدر المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [167] لما قبلها :     وبعد أن بَيَّنَ اللهُ عز وجل تبرؤ المتبوعين من الأتباع في الآخرة؛ بَيَّنَ هنا ما قاله الأتباع على سبيل الحسرة والندم، حيث تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرؤوا من المتبوعين الذين اتبعوهم على الباطل، قال تعالى:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

مدارسة الآية : [168] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا ..

التفسير :

[168] يا أيها الناس كلوا من رزق الله الذي أباحه لكم في الأرض، وهو الطاهر غير النجس، النافع غير الضار، ولا تتبعوا طرق الشيطان في التحليل والتحريم، والبدع والمعاصي. إنه عدو لكم ظاهر العداوة.

هذا خطاب للناس كلهم, مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب, وثمار, وفواكه, وحيوانات, حالة كونها{ حَلَالًا} أي:محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة, ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم.{ طَيِّبًا} أي:ليس بخبيث, كالميتة والدم, ولحم الخنزير, والخبائث كلها، ففي هذه الآية, دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا, وأن المحرم نوعان:إما محرم لذاته, وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له, وهو المحرم لتعلق حق الله, أو حق عباده به, وهو ضد الحلال. وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب, يأثم تاركه لظاهر الأمر، ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع{ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي:طرقه التي يأمر بها, وهي جميع المعاصي من كفر, وفسوق, وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب, والحام, ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة،{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي:ظاهر العداوة, فلا يريد بأمركم إلا غشكم, وأن تكونوا من أصحاب السعير،

كُلُوا صيغة أمر واردة في معنى الإباحة.

والحلال ما أذن الله في تناوله من مطعومات أو مشروبات.

قال الرازي: وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد، ومنه حل بالمكان إذا نزل، لأنه حل شد الارتحال للنزول، وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة، وحل من إحرامه، لأنه حل عقدة الإحرام.. ثم قال: واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه- في ذاته- كالميتة والدم ولحم الخنزير، وقد يكون حراما لوصف عارض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله- فحرمته لتعلق حق الغير به- فالحلال هو الخالي عن هذين القيدين» .

وَالطَّيِّبُ: هو المستلذ المستطاب الذي تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع في تهلكة، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم، والموقع في تهلكة يمجه العقل القويم.

ومن: في قوله: مِمَّا فِي الْأَرْضِ للتبعيض، لأن بعض ما في الأرض كالحجارة- مثلا- لا يؤكل، ولأنه ليس كل ما يؤكل يجوز أكله فلذلك قال: حَلالًا طَيِّباً ...

وقوله: حَلالًا مفعول به لقوله: «كلوا» أو حال مما في الأرض، أى: كلوه حال كونه حلالا. أو صفة لمصدر محذوف، أى: كلوه أكلا حلالا.

وقوله: طَيِّباً صفة مقررة ومؤكدة لمعنى يستفاد من قوله: حَلالًا وهو طهارة المأكول وخلوه من القذارة، وعدم إيقاعه في ضرر.

قال الآلوسى: «وفائدة وصف الحلال بالطيب تعميم الحكم كما في قوله- تعالى-:

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم، بخلاف غير الموصوفة» .

والمعنى: يا أيها الناس لقد أباح الله لكم أن تأكلوا من كل ما تحويه الأرض من المطعومات التي أحلت لكم، والتي تستلذها النفوس الكريمة، والقلوب الطاهرة، فتمتعوا بهذه الطيبات في غير سرف أو غرور، واشكروا الله- تعالى- على ما رزقكم من نعم.

ولقد أمر الله عباده في كثير من الآيات أن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ومن ذلك قوله- تعالى-: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

وفي صحيح مسلّم عن عياض المجاشعي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومى هذا. يقول الله- تعالى-: كل مال نحلته- أى منحته- عبادي فهو لهم حلال، وإنى خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا..» . وعن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فقام سعد بن أبى وقاص فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به» .

وليس من الورع ولا الزهد المرضى عنه شرعا ترك بعض المباحاث، فإن الله سوى في المباح بين الفعل والترك، ومن يجعل ترك المباح من الورع، والورع مندوب، فكأنه يقول: إن الترك راجح على الفعل، وهو غير ما حكم الله به.

وكان الحسن البصري- وهو من أجل التابعين- يقوم عوج من يعدون من الزهد المحمود الامتناع عن تناول بعض المباحات كالأطعمة اللذيذة.

يحكى عنه أنه شهد يوما وليمة، فرأى رجلا يرفع يده عند ما قدمت الحلوى فقال له الحسن:

كل يا لكع فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم من نعمته في هذه الحلوى.

ودخل عليه مرة أحد الزهاد فقال له الحسن: أتحب الخبيص- وهو طعام لذيذ- فقال الزاهد: لا أحبه ولا أحب من يحبه!! فأقبل الحسن على جلسائه وقال لهم: أترونه مجنونا.

والخلاصة: أنه لا ورع في ترك المباح الذي أحله الله من حيث فيه متعة للنفس، فذلك هو التنطع في الدين، وإنما الورع في ترك الإكثار من تناول تلك المباحات، لأن الإكثار منها قد يؤدى إلى الوقوع فيما نهى الله عنه.

هذا، وقد أورد بعض المفسرين آثارا تدل على أن هذه الآية نزلت في يوم معينين.

قال الآلوسى: نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقيل نزلت في قوم من ثقيف وبنى عامر ابن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حيث حرموا التمر والاقط على أنفسهم والذي نراه أن الخطاب في الآية لجميع المكلفين من البشر، وأنها واردة لتفنيد آراء الذين يحرمون على أنفسهم مطعومات لم يقم دليل من الشارع على تحريمها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ثم قال- تعالى-: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.

الخطوات: جمع خطوة كغرفة وقيل جمع خطوة كقبضة، وهي في الأصل ما بين القدمين عند المشي، وتستعمل على وجه المجاز في الآثار.

أى: كلوا أيها الناس من الطيبات التي أحلها الله لكم. ولا تتبعوا آثار الشيطان وزلاته ووساوسه وطرقه التي يحرم بها الحلال ويحلل الحرام والتي يقذفها في صدور بعض الناس فتجعلهم ينتقلون من الطاعات إلى المعاصي.

وفي الجملة الكريمة استعارة تمثيلية، إذ أن السائر في طريق إذا رأى آثار خطوات السائرين تتبع ذلك المسلك ظنا منه بأن ما سار فيه السائر قبله إلا لأنه موصل للمطلوب، فشبه المقتدى الذي لا دليل معه سوى المقتدى به وهو يظن مسلكه موصلا، بالذي يتبع خطوات السائرين، وشاعت هذه الاستعارة حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدى به.

وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهى عن اتباع الشيطان و «مبين» من أبان بمعنى بان وظهر، وقيل: من أبان بمعنى أظهر، أى: مظهر للعداوة.

والمعنى: «ولا تتبعوا خطواته لأن عداوته ظاهرة لكم بحيث لا تخفى على أى عاقل.

ما بين تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه ، فذكر [ ذلك ] في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا ، أي : مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول ، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما زينه لهم في جاهليتهم ، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : إن كل ما أمنحه عبادي فهو لهم حلال " وفيه : " وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري ، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي ، حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم : ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) فقام سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال . " يا سعد ، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به " .

وقوله : ( إنه لكم عدو مبين ) تنفير عنه وتحذير منه ، كما قال : ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) [ فاطر : 6 ] وقال تعالى : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) [ الكهف : 50 ] .

وقال قتادة ، والسدي في قوله : ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان .

وقال عكرمة : هي نزغات الشيطان ، وقال مجاهد : خطاه ، أو قال : خطاياه .

وقال أبو مجلز : هي النذور في المعاصي .

وقال الشعبي : نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش . وقال : هذا من خطوات الشيطان .

وقال أبو الضحى ، عن مسروق : أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح ، فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم . فقال : لا أريده . فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا . قال : فما شأنك ؟ قال : حرمت أن آكل ضرعا أبدا . فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطعم وكفر عن يمينك .

رواه ابن أبي حاتم ، وقال أيضا :

حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، عن سليمان التيمي ، عن أبي رافع ، قال : غضبت على امرأتي ، فقالت : هي يوما يهودية ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، إن لم تطلق امرأتك . فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من خطوات الشيطان . وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة ، وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة . وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك .

وقال عبد بن حميد : حدثنا أبو نعيم عن شريك ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذر في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته كفارة يمين .

[ وقال سعيد بن داود في تفسيره : حدثنا عبادة بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول ، عن عكرمة في رجل قال لغلامه : إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته طالق ، قال : لا يجلد غلامه ، ولا تطلق امرأته ، هذا من خطوات الشيطان ] .

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم = دون مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم ولحم خنـزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم - فلا تتبعوها ولا تعملوا بها, إنه = يعني بقوله: " إنه " إنّ الشيطان, و " الهاء " في قوله: " إنه " عائدة على الشيطان = لكم أيها الناس " عدو مُبين "، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة, وأكل من الشجرة.

يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة, ودعوا ما يأمركم به, والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم, دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره.

* * *

ومعنى قوله: " حَلالا "، طِلْقًا. (62) وهو مصدر من قول القائل: " قد حَلَّ لك هذا الشيء ", أي صار لك مُطلقًا، (63) " فهو يَحِلُّ لك حَلالا وحِلا "، ومن كلام العرب: " هو لك حِلٌّ", أي: طِلْق. (64) .

* * *

وأما قوله: " طيبًا " فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم.

* * *

وأما " الخطوات " فإنه جمع " خُطوة ", و " الخطوة " بعد ما بين قدمي الماشي. و " الخطوة " بفتح " الخاء "" الفعلة " الواحدة من قول القائل: " خَطوت خَطوة واحدةً". وقد تجمع " الخُطوة "" خُطًا " و " الخَطْوة " تجمع " خَطوات "،" وخِطاء ".

* * *

والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته, النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.

* * *

واختلف أهل التأويل في معنى " الخطوات ". فقال بعضهم: خُطُوات الشيطان: عمله.

* ذكر من قال ذلك:

2438- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " خطوات الشيطان "، يقول: عمله.

* * *

وقال بعضهم: " خطوات الشيطان "، خَطاياه.

* ذكر من قال ذلك:

2439- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " خُطُوات الشيطان " قال، خطيئته.

2440- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.

2441- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان " قال، خطاياه.

2442- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك قوله: " خطوات الشيطان " قال، خطايا الشيطان التي يأمرُ بها.

* * *

وقال آخرون: " خطوات الشيطان "، طاعته.

* ذكر من قال ذلك:

2443- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: " ولا تتبعوا خطوات الشيطان "، يقول: طاعته.

* * *

وقال آخرون: " خطوات الشيطان "، النذورُ في المعاصي.

* ذكر من قال ذلك:

2444- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن سليمان, عن أبي مجلز في قوله: " ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان " قال، هي النذور في المعاصي.

* * *

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في تأويل قوله: " خطوات الشيطان "، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من أنها " بعد ما بين قَدميه "، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على ما قد بينت.

-------------

الهوامش :

(62) الطلق (بكسر فسكون) . الحلال . يقال : هو لك طلق ، أي حلال . وفي الحديث : "الخيل طلق" ، أي أن الرهان عليها حلال .

(63) هكذا في المطبوعة ، وأخشى أن يكون الصواب فيما كتب الطبري"طلقًا" كما سلف ، وكما سيأتي في عبارته .

(64) في المطبوعة : "من كلام العرب . . . " ، وأثبت الواو ، وحذفها جيد أيضًا .

المعاني :

خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ :       طُرُقَه، وآثارَه الميسر في غريب القرآن
خطوات الشيطان :       طُرُقُه و آثارُه و أعماله معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[168] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ قال القرطبي: «المال الحلال يصفو من ست خصال: الربا، والحرام، والسحت، والغلول، والمكروه، والشبهة».
وقفة
‏[168] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ أصعب الحرام أوله، ثم يسهل، ثم يستساغ، ثم يؤلف، ثم يحلو، ثم يطبع على القلب، ثم يبحث القلب عن حرام آخر، حتى يعاقب؛ فلا يجد له لذة، ولا هو يستطع تركه.
وقفة
[168] من أولى خطوات الشيطان: الأكل الحرام؛ كما وقع لأبينا آدم u ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.
وقفة
[168] أوصى سفيان الثوري رجلًا فقال: إياك أن تزداد بحلمه عنك جرأة على المعصية؛ فإن الله لم يرض لأنبيائه المعصية والحرام والظلم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ [المؤمنون: 51]، ثم قال للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 267]، ثم أجملها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.
عمل
[168] اكتب نوعًا من الأكل أفتى العلماء بتحريمه، وتساهل الناس فيه، مع فتوى لأحد العلماء، وأرسلها في رسالة لمن تعرف ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ الانسلاخ لا يأتي فجأة، خطوة فخطوة.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ (خُطُوَاتِ) دليل على أن الشيطان لن يقف عند أول خطوة في المعصية.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ المعصية باب مغلق إن تجرأت على فتحه مرة فسيسهل عليك فتحه مرات، وهي خطوة قد يتبعها خطوات، فاحرص على قتل الخطوة الأولى.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ الخطوة مسافة يسيرة، وهكذا الشيطان يبدأ بالشىء اليسير من البدعة أو المعصية حتى تألفها النفس.
عمل
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ ﻻحظ: خطوات، فالخطوة ستتبعها الخطوة، لأن الشيطان لحوح ذو إصرار! فالحذر الحذر من الاستصغار ثم الاستمرار.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ الخطوة هي أقصر مسافة، لكن فيها الهلاك، فمشوار الألف ميل بعيدًا عن طريق الحق يبدأ بخطوة.
عمل
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ ﻻحظوا: (خطوات) ولم يقل خطوة، فالشيطان يأتينا بالتدرج! فالحذر الحذر.
لمسة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ التحذير من كيد الشيطان لتنوع أساليبه وخفائها وقربها من مشتهيات النفس.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أحل الله الأرض بأميالها وحرم خطوات يسيرة منها؛ فالحرية أن تعيش في السعة لا في الخطوات.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ الحلال بابه واسع؛ ولكن الشيطان يُرغب في الحرام الضيق.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ مبدأ كل عمل هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح كل هذا بصلاح الخطوة الأولى وهي الخواطر والأفكار، وفساده بفسادها.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ نهي عن أسباب الضلال ومداخل الفساد وبدايات الانحراف وعدم التساهل في الصغائر، وشحذ للتفكير في النهايات والعواقب.
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ إشارة إلى دور الشيطان في صرف الناس عن إطابة المطعم، مع الإشارة إلى أن إطابة المطعم سبب في إجابة الدعاء، فكم هي جناية الشيطان علينا حين يغرينا بأكل الحرام؟!
وقفة
[168] ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ الشيطان لا يقود الإنسان إلى الشر هرولة؛ وإنما بخطوات متدرجة.

الإعراب :

  • ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ:
  • يا: أداة نداء أي: اسم منادى مبني على الضم في محل نصب وها: زائدة للتنبيه. الناس: بدل أو عطف بيان من «أي» مرفوع بالضمة مجاراة لحركة «أي» لا محلها.
  • ﴿ كُلُوا:
  • فعل أمر مبني على حذف النون لان مضارعه من الافعال الخمسة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. والألف: فارقة.
  • ﴿ مِمَّا فِي الْأَرْضِ:
  • مؤلفة من «من» التبعيضية أو هي أبتدائية و «ما» اسم موصول مبني على السكون في محل جر بمن والجار والمجرور متعلق بمفعول «كُلُوا» المحذوف بتقدير كلوا بعضا مما في الارض. في الارض: جار ومجرور متعلق بصلة الموصول المحذوفة أي مما وجد فيها.
  • ﴿ حَلالًا طَيِّباً:
  • حال منصوب بالفتحة ويجوز أن يكون مفعول «كُلُوا» و «مِمَّا» متعلق بكلوا أو صفة للمصدر المحذوف «نائبة» عن المفعول المطلق. أي «أكلا حلالا طيبا: صفة للموصوف «حَلالًا» منصوبة مثلها بالفتحة.
  • ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا:
  • استئنافية لا: ناهية جازمة. تتبعوا: فعل مضارع مجزوم بلا. وعلامة جزمه: حذف النون لأنه من الافعال الخمسة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. والألف: فارقة
  • ﴿ خُطُواتِ الشَّيْطانِ:
  • خطوات: مفعول به منصوب بالكسرة بدلا من الفتحة لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. الشيطان: مضاف اليه مجرور وعلامة جرّه: الكسرة
  • ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ:
  • حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل يفيد هنا التعليل والهاء ضمير متصل- ضمير الغائب مبني على الضم في محل نصب اسم «إن» لكم: جار ومجرور متعلق بعدو. والميم: علامة جمع الذكور. عدو: خبر «إن» مرفوع بالضمة. مبين: صفة لعدو مرفوعة مثله بالضمة. '

المتشابهات :

البقرة: 168﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
البقرة: 208﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
الأنعام: 142﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
النور: 21﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ

أسباب النزول :

  • ١- قال الواحدي: قال الكلبي: نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. ونقل ابن عطية عن النقاش: أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب.٢- قال ابن ظفر: ورُوي عن عطاء أنها نزلت في المؤمنين، وقيل في عثمان بن مظعون وأصحابه الذين عزموا على الترهب.قلت: وستأتي قصتهم في آية المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم} وسياق آيات البقرة يدفع ذلك.'
  • المصدر المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [168] لما قبلها :     وبعد ذكر الأدلة على وحدانيته وألوهيته ونعمه؛ بَيَّنَ اللهُ عز وجل هنا أنه الرزاق لعباده، وأمرهم أن يأكلوا مما أباحه لهم من الأرض، وألا يتبعوا الشيطان، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ

القراءات :

خطوات:
قرئ:
1- بضم الخاء والطاء، وبالواو، وهى قراءة ابن عامر، والكسائي، وقنبل، وحفص، وعباس عن أبى عمرو، والبرجمي عن أبى بكر.
2- بضم الخاء والطاء، وبالواو، وهى قراءة باقى السبعة.
3- بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو، وهى قراءة أبى السمال.
4- بضم الخاء والطاء والهمزة، على أن الهمزة أصل، وهى قراءة على، وقتادة، والأعمش، وسلام.

مدارسة الآية : [169] :البقرة     المصدر: موسوعة الحفظ الميسر

﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن ..

التفسير :

[169] إنما يأمركم الشيطان بكل ذنب قبيح يسوءُكم، وبكل معصية بالغة القبح، وبأن تفتروا على الله الكذب من تحريم الحلال وغيره بدون علم.

فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته, حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين - بعداوته الداعية للحذر منه, ثم لم يكتف بذلك, حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به, وأنه أقبح الأشياء, وأعظمها مفسدة فقال:{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} أي:الشر الذي يسوء صاحبه, فيدخل في ذلك, جميع المعاصي، فيكون قوله:{ وَالْفَحْشَاءِ} من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي, ما تناهى قبحه, كالزنا, وشرب الخمر, والقتل, والقذف, والبخل ونحو ذلك, مما يستفحشه من له عقل،{ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فيدخل في ذلك, القول على الله بلا علم, في شرعه, وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله, أو نفى عنه ما أثبته لنفسه, أو أثبت له ما نفاه عن نفسه, فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا, وأوثانا, تقرب من عبدها من الله, فقد قال على الله بلا علم، ومن قال:إن الله أحل كذا, أو حرم كذا, أو أمر بكذا, أو نهى عن كذا, بغير بصيرة, فقد قال على الله بلا علم، ومن قال:الله خلق هذا الصنف من المخلوقات, للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك, فقد قال على الله بلا علم، ومن أعظم القول على الله بلا علم, أن يتأول المتأول كلامه, أو كلام رسوله, على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال, ثم يقول:إن الله أرادها، فالقول على الله بلا علم, من أكبر المحرمات, وأشملها, وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها, فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده, ويبذلون مكرهم وخداعهم, على إغواء الخلق بما يقدرون عليه. وأما الله تعالى, فإنه يأمر بالعدل والإحسان, وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلينظر العبد نفسه, مع أي الداعيين هو, ومن أي الحزبين؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية, الذي كل الفلاح بطاعته, وكل الفوز في خدمته, وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة, الذي لا يأمر إلا بالخير, ولا ينهى إلا عن الشر، أم تتبع داعي الشيطان, الذي هو عدو الإنسان, الذي يريد لك الشر, ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشر في طاعته, وكل الخسران في ولايته، الذي لا يأمر إلا بشر, ولا ينهى إلا عن خير.

وقوله- تعالى-: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لأنواع شروره ومفاسده.

والسوء في الأصل: مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه، والمراد به هنا، كل ما يغضب الله- تعالى- من المعاصي، لأنها تسوء صاحبها وتحزنه في الحال أو المآل.

والفحشاء والفاحشة والفحش: ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال.

وروى عن ابن عباس أنه فسر السوء بما لا حد فيه، والفحشاء بما فيه حد.

والأمر في الأصل: الطلب بالقول، واستعمل في تزيين الشيطان المعصية، لأن تزيينها في معنى الدعوة إليها.

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ؟

قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا، وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه، ولذلك قال: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وقال- تعالى-: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت»

.

وقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ معطوف على ما قبله.

أى: يأمركم الشيطان بالسوء والفحشاء، ويأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون.

ضم إلى ذلك الدليل الظنى أصل انعقد عليه الإجماع وأصبح مقطوعا به، وهو أن كل مجتهد بحق يكون حكم الشرع في حقه أو حق من يتابعه هو الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، وبمراعاة هذا الأصل المقطوع به لم يكن المجتهد المشهود له بالرسوخ في العلم قائلا على الله ما لا يعلم» .

هذا، ومن الآيات الكثيرة التي وردت في القرآن الكريم في التحذير من الشيطان ووساوسه قوله- تعالى-: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ.

وقوله- تعالى-: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا.

وقوله- تعالى-: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.

وقد أرشدنا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أن الإكثار من ذكر الله خير معين للإنسان للتغلب على وساوس الشيطان فقال في حديثه الطويل الذي رواه الترمذي والنسائي وابن حيان عن الحارث الأشعرى: «وآمركم بذكر الله كثيرا، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا فأحرز نفسه فيه، وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان إلا بذكر الله.

وبعد أن نهى- سبحانه- الناس عن إتباع خطوات الشيطان، وبين لهم مظاهر عداوته لهم، أردف ذلك ببيان حال طائفة من الناس لم يستمعوا لهذا النصح، بل اتبعوا خطوات الشيطان فقلدوا آباءهم في الشرك والجهالة فقال- تعالى-:

وقوله : ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) أي : إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة ، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه ، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم ، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضا .

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169)

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " إنما يأمرُكم "، الشيطانَ،" بالسوء والفحشاء وأن تَقولوا على الله ما لا تعلمون ".

* * *

" والسوء ": الإثم، مثل " الضُّرّ"، من قول القائل: " ساءك هذا الأمر يَسوءك سُوءًا "، وهو ما يَسوء الفاعل.

* * *

وأما " الفحشاء "، فهي مصدر مثل " السراء والضراء "، (65) وهي كل ما استُفحش ذكرُه، وقَبُح مَسموعه.

وقيل: إن " السوء " الذي ذكره الله، هو معاصي الله. فإن كان ذلك كذلك, فإنما سَمَّاها الله " سوءًا " لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقيل: إن " الفحشاء "، الزنا: فإن كان ذلك كذلك, فإنما يُسمى [كذلك]، (66) لقبح مسموعه، ومكرُوه ما يُذْكَر به فاعله.

* ذكر من قال ذلك:

2445- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " إنما يأمركم بالسوء والفحشاء "، أمّا " السوء "، فالمعصية, وأما " الفحشاء "، فالزنا.

* * *

وأما قوله: " وأنْ تَقولوا على الله مَا لا تعلمون "، فهو ما كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي, ويزعمون أن الله حرَّم ذلك. فقال تعالى ذكره لهم: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة المائدة: 103] فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، (67) أنّ قيلهم: " إنّ الله حرم هذا!" من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان, وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه, ولم يحرم أكله عليهم, ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعةً منهم للشيطان, واتباعًا منهم خطواته, واقتفاء منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال, الذين كانوا بالله وبما أنـزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا - وإسرافًا منهم, كما أنـزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ذكره: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .

* * *

---------------------------

الهوامش:

(65) لعل الصواب ، "فهي اسم مصدر" .

(66) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام .

(67) في المطبوعة ، "وأخبرهم" بالواو ، والصواب الجيد ما أثبت .

المعاني :

بِالسُّوءِ :       الذَّنْبِ القَبِيحِ السراج
يأمركم بالسّوء :       بالمعاصي و الذنوب معاني القرآن
وَالْفَحْشَاءِ :       المَعْصِيَةِ الْبَالِغَةِ القُبْح السراج
الفحشاء :       ما عظُم قُبْحُه من الذّنوب معاني القرآن

التدبر :

وقفة
[169] إلامَ يدعو الشيطان؟! إلى ثلاثة: (السوء): وهي معاصي الله، وسُمِّيت سوءًا لأنها تسوء صاحبها بسوء عواقبها، (الفحشاء): ما تناهى قبحه من المعاصي، كالزنا وشرب الخمر والقتل، وقيل: كل ما فيه الحد، (أن تقولوا على الله ما لا تعلمون): وهو من أقبح أنواع الفحشاء، لأنه وصف الله بما لا ينبغي له، وهو من أعظم الكبائر.
لمسة
[169] ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ دلت الآية على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح؛ لأنه الله وصف عمله بكلمة: ﴿إِنَّمَا﴾ وهي تفيد الحصر، قال بعض العارفين: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن ليجر العبد منه إلى الشر، أو يجره من العمل الأفضل إلى الفاضل، ثم يجره من العمل الفاضل إلى المعصية، أو يجره من طاعة سهلة إلى طاعة أفضل منها لكنها أشق، ليكون ازدياد المشقة سببًا لنفور العبد عن الطاعة بالكلية، فيترك العمل.
وقفة
[169] ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ قرن القول على الله بغير علم بالفواحش والإثم والبغي والشرك لشناعة جرمه وعظم ذنبه.
وقفة
[169] ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يجر الشيطان الإنسان للمحرمات بالشهوات، فإن تمكَّنت منه سوَّل له تحليلها.
وقفة
[169] ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يتدرج الشيطان معنا بالآثام، ثم الكبائر، ثم ضرب العقيدة.
تفاعل
[169] ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ استعذ بالله من هذا.
وقفة
[169] ﴿وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ هذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال أو هذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله أو حرمه.
وقفة
[169] ﴿وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ لأن الشيطان افترى على الله الكذب، يدعوك لتفتري على الله.

الإعراب :

  • ﴿ إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ:
  • إنّما: كافة ومكفوفة يأمركم: فعل مضارع مرفوع بالضمة. والفاعل: ضمير مستتر جوازا تقديره: هو والكاف: ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به. والميم: علامة جمع الذكور. بالسؤ: جار ومجرور متعلق بيأمر أي اتباع السوء فحذف المضاف واقيم المضاف اليه مقامه. والفحشاء: معطوفة بالواو على «السوء» وتعرب إعرابها.
  • ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ:
  • الواو: عاطفة. أن: مصدرية ناصبة، تقولوا: فعل مضارع منصوب بأن. وعلامة نصبه: حذف النون لأنه من الافعال الخمسة. الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. والألف: فارقة. و «أَنْ المصدرية وما تلاها» بتأويل مصدر في محل جر معطوف على «السوء» على: حرف جر الله لفظ الجلالة: اسم مجرور للتعظيم بعلى وعلامة الجر الكسرة والجار والمجرور متعلق بتقولوا. وجملة «تَقُولُوا» صلة «أَنْ» المصدرية لا محل لها.
  • ﴿ ما لا تَعْلَمُونَ:
  • اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به بتقولوا. لا: نافية لا عمل لها. تعلمون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة. والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. وجملة «لا تَعْلَمُونَ» صلة الموصول لا محل لها والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لأنه مفعول به أي مالا تعلمونه. '

المتشابهات :

البقرة: 169﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِـ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
يوسف: 24﴿كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ

أسباب النزول :

لم يذكر المصنف هنا شيء

الترابط والتناسب :

مُناسبة الآية [169] لما قبلها :     وبعد أن بَيَّنَ اللهُ عز وجل عداوة الشيطان للناس؛ حذَّرَ هنا من اتباعه، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ

القراءات :

لم يذكر المصنف هنا شيء

البحث بالسورة

البحث في المصحف