ترتيب المصحف | 6 | ترتيب النزول | 55 |
---|---|---|---|
التصنيف | مكيّة | عدد الصفحات | 23.00 |
عدد الآيات | 165 | عدد الأجزاء | 1.17 |
عدد الأحزاب | 2.35 | عدد الأرباع | 9.40 |
ترتيب الطول | 5 | تبدأ في الجزء | 7 |
تنتهي في الجزء | 8 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
الثناء على الله: 2/14 | الحمد لله: 2/5 |
بعدَ ذكرِ هذا العددِ الكبيرِ من الرسلِ يأتي الردُّ على الذينَ زعمُوا أنَّ اللهَ لم يرسلْ رسلًا ولم ينزلْ كتبًا، وإثباتُ أن هذا القرآنَ منزّلٌ من اللهِ.
بعدَ الرَّدِ على نفي الإرسالِ والإنزالِ والوحي، وإثباتِ أنَّ القرآنَ منَزّلٌ منَ اللهِ أعقَبَه هنا بوعيدِ مَنِ ادَّعى النبوَّةَ والرِّسالةَ على سبيلِ الكَذِبِ والافتراءِ، وبيانُ حالِهم عندَ الموتِ ويومَ القيامةِ.
التفسير :
هذا تشنيع على من نفى الرسالة، [من اليهود والمشركين] وزعم أن الله ما أنزل على بشر من شيء، فمن قال هذا، فما قدر الله حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، إذ هذا قدح في حكمته، وزعم أنه يترك عباده هملا، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ونفي لأعظم منة، امتن الله بها على عباده، وهي الرسالة، التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة، والكرامة، والفلاح، إلا بها، فأي قدح في الله أعظم من هذا؟"{ قُلْ ْ} لهم –ملزما بفساد قولهم، وقرِّرْهم، بما به يقرون-:{ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ْ} وهو التوراة العظيمة{ نُورًا ْ} في ظلمات الجهل{ وَهُدًى ْ} من الضلالة، وهاديا إلى الصراط المستقيم علما وعملا، وهو الكتاب الذي شاع وذاع، وملأ ذكره القلوب والأسماع. حتى أنهم جعلوا يتناسخونه في القراطيس، ويتصرفون فيه بما شاءوا، فما وافق أهواءهم منه، أبدوه وأظهروه، وما خالف ذلك، أخفوه وكتموه، وذلك كثير.{ وَعُلِّمْتُمْ ْ} من العلوم التي بسبب ذلك الكتاب الجليل{ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ْ} فإذا سألتهم عمن أنزل هذا الكتاب الموصوف بتلك الصفات، فأجب عن هذا السؤال. و{ قل الله ْ} الذي أنزله، فحينئذ يتضح الحق وينجلي مثل الشمس، وتقوم عليهم الحجة، ثم إذا ألزمتهم بهذا الإلزام{ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ْ} أي:اتركهم يخوضوا في الباطل، ويلعبوا بما لا فائدة فيه، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.
قوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ كلمة قَدَرُوا مأخوذة من القدر- بفتح فسكون-، وأصل القدر معرفة مقدار الشيء بالسبر والحزر، يقال:
قدر الشيء يقدره إذا سبره وحزره ليعرف مقداره، ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه.
والمعنى: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده وفي الرحمة بهم، بل أخلوا بحقوقه إخلالا عظيما، وضلوا ضلالا كبيرا، إذ أنكروا بعثة الرسل وإنزال الكتب، وقالوا تلك المقالة الشنعاء ما أنزل الله على بشر شيئا من الأشياء، قاصدين بهذا القول الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي أن القرآن من عند الله.
ولفظ حَقَّ منصوب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر، أى: قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يلزمهم بما يخرس ألسنتهم، وأن يرد على سلبهم العام بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم فقال- تعالى-: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين بأن الله ما أنزل على بشر شيئا من الأشياء: قل لهم من الذي أنزل التوراة وهو الكتاب الذي جاء به موسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أى: ضياء من ظلمة الجهالة وهداية تعصم من الأباطيل والضلالة.
وكلمة نُوراً حال من الضمير في به أو من الكتاب.
ثم بين- سبحانه- ما فعله الجاحدون بكتبه من تحريف وتغيير فقال: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً.
القراطيس: جمع قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق ونحوه.
أى: تجعلون هذا الكتاب الذي أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إظهار ما تريدون إظهاره منها، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم نفوسكم السقيمة وشهواتكم الأثيمة.
فالمراد من هذه الجملة الكريمة ذم المحرفين لكتب الله، وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع، الذي قصدوا من ورائه الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والتوصل إلى ما يبغونه من مطامع وأهواء.
وقوله وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أى: وعلمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف التي لا يرتاب عاقل في أنها تنزيل رباني.
وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.
أى: قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين: الله- تعالى- هو الذي أنزل الكتاب على موسى، ثم بعد هذا القول الفصل ذرهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يلعبون، وفي غيهم يعمهون حتى يأتيهم من الله اليقين.
وفي أمره صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهه على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.
وكان العطف بثم في قوله ثُمَّ ذَرْهُمْ للدلالة على الترتيب الرتبى أى: أنهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الأولى، وإنما كان الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.
هذا، وللمفسرين لهذه الآية قولان:
الأول: أنها مكية النزول تبعا للسورة، وأن الذين قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ مشركو مكة، وإنما ألزمهم الله بإنزال التوراة لأنهم كانوا يعرفون ذلك ولا ينكرون أن الله قد أنزلها على موسى.
قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: عنى بذلك وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم. فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر. وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى..) .
وقد تابع ابن كثير رأى ابن جرير وقال: وهذا الرأى هو الأصح، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر كما قال- تعالى- أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وكذا قالوا هنا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ .
الثاني: أن هذه الآية مدنية النزول، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات منها مدنية كما نص عليه كثير من العلماء.
ومما يؤيد كون هذه الآية مدنية ما ورد من آثار في أسباب نزولها، ومن هذه الآثار ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: والله ما أنزل الله من السماء كتابا) فنزل قوله- تعالى- وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. إلخ وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير- مرسلا- قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» - وكان حبرا سمينا- فغضب وقال: (هل أنزل الله على بشر من شيء) فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية» .
والذي نراه أن الآية الكريمة تصلح للرد على الفريقين: فريق المشركين وفريق اليهود إلا أن سياقها يجعلنا نرجح أن الخطاب فيها موجه بالأصالة إلى اليهود وإلى غيرهم بالتبع، لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس أى أوراقا مفرقة ليظهروا منها ما يناسب أهواءهم وليخفوا منها ما فيه شهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ولأن هناك آثارا متعددة تثبت أنها نزلت في شأنهم.
يقول تعالى : وما عظموا الله حق تعظيمه ، إذ كذبوا رسله إليهم ، قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير : نزلت في قريش . واختاره ابن جرير ، وقيل : نزلت في طائفة من اليهود ; وقيل : في فنحاص رجل منهم ، وقيل : في مالك بن الصيف .
( قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) والأول هو الأظهر ; لأن الآية مكية ، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء وقريش - والعرب قاطبة - كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر ، كما قال [ تعالى ] ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ] ) [ يونس : 2 ] ، وقال تعالى : ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) [ الإسراء : 94 ، 95 ] ، وقال هاهنا : ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) قال الله تعالى : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ) ؟ أي : قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله ، في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة : ( من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) يعني : التوراة التي قد علمتم - وكل أحد - أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورا وهدى للناس ، أي : ليستضاء بها في كشف المشكلات ، ويهتدى بها من ظلم الشبهات .
وقوله : ( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) أي : يجعلها حملتها قراطيس ، أي : قطعا يكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرفون فيها ما يحرفون ويبدلون ويتأولون ، ويقولون : ( هذا من عند الله ) [ البقرة : 79 ] ، أي : في كتابه المنزل ، وما هو من عند الله ; ولهذا قال : ( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا )
وقوله : ( وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ) أي : ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق ، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك أنتم ولا آباؤكم .
قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب . وقال مجاهد : هذه للمسلمين .
وقوله : ( قل الله ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي : قل : الله أنزله . وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة ، لا ما قاله بعض المتأخرين ، من أن معنى ) قل الله ) أي : لا يكون خطاب لهم إلا هذه الكلمة ، كلمة : " الله "
وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمرا بكلمة مفردة من غير تركيب ، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها .
وقوله : ( ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) أي : ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون ، حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون ألهم العاقبة ، أم لعباد الله المتقين؟
القول في تأويل قوله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " وما قدروا الله حق قدره "، وما أجلُّوا الله حق إجلاله, ولا عظموه حق تعظيمه =" إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء "، يقول: حين قالوا: لم ينـزل الله على آدميٍّ كتابًا ولا وحيًا. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: " إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء "، وفي تأويل ذلك.
فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود.
* * *
ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل.
فقال بعضهم: كان اسمه: مالك بن الصيف.
* * *
وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص.
* * *
واختلفوا أيضًا في السبب الذي من أجله قال ذلك.
* * *
* ذكر من قال: كان قائل ذلك: مالك بن الصيف.
13535 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى, أما تجد في التوراة أن الله يُبْغِض الحَبْر السمين؟ وكان حبرًا سمينًا, فغضب فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا موسى! فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فأنـزل الله: " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى "، الآية .
13536 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء "، قال: نـزلت في مالك بن الصيف، كان من قريظة، من أحبار يهود =" قل " يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، الآية .
* * *
* ذكر من قال: نـزلت في فنحاص اليهوديّ.
13537 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء "، قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنـزل الله على محمد من شيء!
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى.
* ذكر من قال ذلك:
13538 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من يهودَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ, فقالوا: يا أبا القاسم, ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله؟ فأنـزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَـزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ، الآية[سورة النساء : 153]. فجثا رجل من يهود فقال: ما أنـزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئًا! فأنـزل الله: " وما قدروا الله حق قدره ". = قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله (2) = " إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا "، فحلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبْوته, وجعل يقول: " ولا على أحَدٍ". (3)
13539 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء "، إلى قوله: فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ، هم اليهود والنصارى, قوم آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به، (4)
ولم يأخذوا به، ولم يعملوا به, فذمهم الله في عملهم ذلك. ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصَمٌ به غدًا أن يقال: يا أبا الدرداء، قد علمت, فماذا عملت فيما علمت ؟
13540 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء "، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يا محمد، أنـزل الله عليك كتابًا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنـزل الله من السماء كتابًا! قال: فأنـزل الله: " قل " يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، إلى قوله : وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: الله أنـزله .
* * *
وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: " ما أنـزل الله على بشر من شيء " .
* ذكر من قال ذلك:
13541 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء "، قالها مشركو قريش. قال: وقوله: (قُلْ مَنْ أَنـزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلناسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) ، (5) قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. قال: وقوله: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: هذه للمسلمين.
13542 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " وما قدروا الله حق قدره "، قال: هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم, فمن آمنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حق قدره.
13543 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " وما قدروا الله حق قدره "، يقول: مشركو قريش .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله (6) " وما قدروا الله حق قدره "، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضًا خبرًا عنهم، أشبهُ من أن يكون خبرًا عن اليهود ولما يجر لهم ذكرٌ يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود, بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصُحُف إبراهيم وموسى، وزبور داود. وإذا لم يأت بما روي من الخبر، (7) بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند = ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ = وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان = وكان قوله: " وما قدروا الله حق قدره "، موصولا بذلك غير مفصول منه = (8) لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.
ولكني أظن أن الذين تأوّلوا ذلك خبرًا عن اليهود, وجدوا قوله: " قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم "، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة, فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، (9) فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم, إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنـزيل, لما وصفت قبل من أن قوله: " وما قدروا الله حق قدره "، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل, فالأولى أن يكون ذلك خبرًا عنهم .
والأصوب من القراءة في قوله: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا)، أن يكون بالياء لا بالتاء, على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا, ويكون الخطاب بقوله : قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك, وكذلك كان يقرأ.
13544 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا).
* * *
القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا
(10) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " قل "، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ = قل: " من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا "، يعني: جلاءً وضياء من ظلمة الضلالة (11) =" وهدى للناس "، يقول: بيانًا للناس, يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم (12) =" تجعلونه قراطيس تبدونها ".
* * *
فمن قرأ ذلك: (تَجْعَلُونَهُ) ، جعله خطابًا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك.
* * *
ومن قرأه بالياء: (يَجْعَلُونَهُ)، فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس, وجرى الكلام في" يبدونها " بذكر " القراطيس ", والمراد منه المكتوب في القراطيس, يراد: يبدون كثيرًا مما يكتبون في القراطيس فيظهارونه للناس، ويخفون كثيرًا مما يثبتونه في القراطيس فيسرُّونه ويكتمونه الناس. (13)
* * *
ومما كانوا يكتمونه إياهم، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، كالذي:-
13545 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا "، اليهود.
13546 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: " قل " يا محمد " من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها "، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة =" ويخفون كثيرًا "، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل عليه = قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول: " يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا "، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا.
* * *
القول في تأويل قوله : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنـزله إليكم، (14) ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم، ومن أنباء من بعدكم، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة =" ولا آباؤكم "، يقول: ولم يعلمه آباؤكم، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:-
13547 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد: " وعلمتم "، معشرَ العرب " ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ".
13548 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول في قوله: " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم "، قال: هذه للمسلمين .
* * *
وأما قوله: " قل الله "، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامَه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: " قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا "، (15) بقيل الله، (16) كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، [سورة الأنعام : 63]. (17) فأمره باستفهام المشركين عن ذلك, كما أمره باستفهامهم إذ قالوا: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، عمن أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام : 64] ، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنـزله على موسى، كما:-
13549 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، قال: الله أنـزله. (18)
* * *
ولو قيل: معناه: " قل: هو الله "، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك = لا على وجه الجواب، إذ لم يكن قوله: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم, فيكون قوله: " قل الله "، جوابًا لهم عن مسألتهم, وإنما هو أمرٌ من الله لمحمد بمسألة القوم: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله = كان جائزًا، (19) من أجل أنه استفهام, ولا يكون للاستفهام جوابٌ، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.
* * *
وأما قوله: " ثم ذرهم في خوضهم يلعبون "، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذَرْ هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، (20) بعد احتجاجك عليهم في قيلهم: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، بقولك: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، وإجابتك ذلك بأن الذي أنـزله: الله الذي أنـزل عليك كتابه =" في خوضهم "، يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته (21) =" يلعبون "، يقول: يستهزئون ويسخرون. (22)
* * *
وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهدُّد لهم: يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين، يا محمد. فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي, وأحلّ بهم إن تمادوا في غَيِّهم سَخَطي. (23)
* * *
--------------------
الهوامش :
(1) انظر تفسير"بشر" فيما سلف 6: 538/10 : 152.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ما علموا كيف الله" ، هكذا ، وهو تعبير غريب جدًا أكاد أستنكره ، وأخشى أن يكون تحريفًا ، وهو تفسير للآية ، أي: "قدروا الله".
(3) الأثر: 13538 - هذا الخبر لم يذكر في تفسير الآية من سورة النساء 9: 356 - 358 ، وهذا من وجوه اختصار أبي جعفر تفسيره.
(4) في المطبوعة: "فلم يهتدوا" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) هذه إحدى القراءتين في الآية بالياء فيها جميعا"يجعلونه" ، "يبدونها" ، "يخفون" ، وهي غير قراءتنا في مصحفنا ، وسيذكرها أبو جعفر فيما يلي.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "عني بذلك" ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا لم يكن بما روى هذا الخبر" ، وهو كلام غير مستقيم ، صوابه ما أثبت إن شاء الله - أي: "وإذا لم يأت بما روى . . . خبر صحيح".
(8) السياق: "وإذا لم يأت بما روى . . . خبر صحيح . . .ولا كان . . . وكان الخبر. . . وكان قوله .. . . لم يجز" ، كل ذلك عطوف متتابعة ، وجواب"وإذ لم يأت" قوله: "لم يجز".
(9) هذه القراءة الثانية للآية ، وهي قراءتنا اليوم في مصحفنا.
(10) أثبت الآية على قراءتنا في مصحفنا ، وإن كان تفسير أبي جعفر بعد على القراءة الأخرى. فليتنبه قارئ التفسير إلى موضع الخلاف كما حرره أبو جعفر ، ص: 524 ، 525.
(11) انظر تفسير"النور" فيما سلف 10: 338 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(12) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).
(13) انظر تفسير"القرطاس" فيما سلف ص365: 366.
(14) في المطبوعة والمخطوطة: "الكتاب" بغير باء الجر ، والصواب إثباتها ، فإن مفعول"علمكم" ، هو: "ما لم تعلموا".
(15) هذه القراءة الأخرى التي اختارها أبو جعفر ، فتركت تفسيره على حاله ، لئلا يختلط الكلام على قارئه.
(16) قوله"بقيل الله" متعلق بقوله"أن يجيب . . .".
(17) وتركت هذه الآية أيضًا على قراءة أبي جعفر التي اختارها"لئن أنجيتنا" ، كما سلف ص: 414 ، وأما قراءتنا في مصحفنا: "لئن أنجانا". وانظر ما مضى في ترجيح أبي جعفر أولى القراءتين على الأخرى.
(18) الأثر: 13549 - هذا مختصر الأثر السالف رقم: 13540.
(19) قوله: "كان جائزًا" ، جواب قوله آنفًا"ولو قيل: معناه . . ." ، وما بينهما فصل.
(20) انظر تفسير"ذر" فيما سلف ص: 441 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(21) انظر تفسير"الخوض" فيما سلف 9: 320/11 : 436 .
(22) انظر تفسير"اللعب" فيما سلف ص: 441 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 91 | ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ |
---|
الزمر: 67 | ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ |
---|
الحج: 74 | ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
قدروا:
وقرئ:
بالتشديد، وهى قراءة الحسن، وعيسى الثقفي.
تجعلونه ... وتبدونها وتخفون:
قرئت:
1- بالتاء، وهى قراءة الجمهور.
2- بالياء، وهى قراءة ابن كثير، وأبى عمرو.
التفسير :
أي:{ وَهَذَا ْ} القرآن الذي{ أَنْزَلْنَاهُ ْ} إليك{ مُبَارَكٌ ْ} أي:وَصْفُه البركة، وذلك لكثرة خيراته، وسعة مبراته.{ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ْ} أي:موافق للكتب السابقة، وشاهد لها بالصدق.{ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ْ} أي:وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى، وهي:مكة المكرمة، ومن حولها، من ديار العرب، بل، ومن سائر البلدان. فتحذر الناس عقوبة الله، وأخذه الأمم، وتحذرهم مما يوجب ذلك.{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ْ} لأن الخوف إذا كان في القلب عمرت أركانه، وانقاد لمراضي الله.{ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ْ} أي:يداومون عليها، ويحفظون أركانها وحدودها وشروطها وآدابها، ومكملاتها. جعلنا الله منهم.
وتوجيه الخطاب إلى اليهود لا يتنافى مع كونها مكية، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكي خطابا لغير اليهود.وبعد أن أبطل- سبحانه- بالدليل قول من قال «ما أنزل الله على بشر من شيء» أتبعه ببيان أن هذا القرآن من عند الله وأنه مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها فقال- تعالى-:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
والمعنى: وهذا القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى: كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا.
والمبارك اسم مفعول من باركه وبارك فيه، إذا جعل له البركة، ومعناها كثرة الخير ونماؤه.
وقدم هنا وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله «وهذا ذكر مبارك أنزلناه» لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك.
ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا، والثانية اسمية لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى: أن بركته ثابتة مستقرة.
قال الإمام الرازي: العلوم إما نظرية وإما عملية، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى في هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح، وإما أعمال القلب، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة» .
وقوله مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التي قبله في إثبات التوحيد ونفى الشرك، وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.
وقوله: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أى: ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة، ومن حولها من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم قال- تعالى- وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال- تعالى- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل، وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة.
ووجه الاقتصار على مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم في قوله- تعالى- قبل ذلك وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ.
قال الآلوسى: ويمكن أن يقال خصهم بالذكر لأنهم الأحق بإنذاره صلى الله عليه وسلم فهو كقوله- تعالى-:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه» .
وقال صاحب المنار «وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا، واستدلوا به على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بقومه العرب.
والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور، فإن إرساله إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم، وقد ثبت عموم بعثته صلى الله عليه وسلم من آيات أخرى كقوله- تعالى- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً .
وقوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
أى: والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذي أنزله الله هداية ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، وحرص على العمل الصالح الذي ينفعه.
ثم ختمت الآية بهذا الثناء الجميل عليهم فقالت وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أى يؤدونها في أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها في خشوع واطمئنان، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطرا بعد الإيمان.
قال الإمام الرازي: «ويكفيها شرفا أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا عليها كما في قوله- تعالى- وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أى صلاتكم، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة، ففي الحديث الشريف «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام» .
وقوله : ( وهذا كتاب ) يعني : القرآن ( أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ) يعني : مكة ( ومن حولها ) من أحياء العرب ، ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم ، كما قال في الآية الأخرى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [ الأعراف : 158 ] ، وقال ( لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] ، وقال ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) [ هود : 17 ] ، وقال ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) [ الفرقان : 1 ] ، وقال ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) [ آل عمران : 20 ] ، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي " وذكر منهن : " وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة " ; ولهذا قال : ( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) أي : كل من آمن بالله واليوم الآخر آمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن ، ( وهم على صلاتهم يحافظون ) أي : يقومون بما افترض عليهم ، من أداء الصلوات في أوقاتها .
القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن، يا محمد =" كتاب " .
* * *
وهو اسم من أسماء القرآن، قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته، ومعناه مكتوب, فوضع " الكتاب " مكان " المكتوب ". (24)
* * *
=" أنـزلناه "، يقول: أوحيناه إليك =" مبارك "، وهو " مفاعل " من " البركة " (25) =" مصدّق الذي بين يديه "، يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه قبلك, لم يخالفها [دلالة ومعنى] (26) نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ , يقول: هو الذي أنـزل إليك، يا محمد، هذا الكتاب مباركًا، مصدقًا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله. ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه, إذ كان قد تقدم [من] الخبر عن ذلك ما يدل على أنه [له] مواصل, (27) فقال: " وهذا كتاب أنـزلناه إليك مبارك ", ومعناه: وكذلك أنـزلت إليك كتابي هذا مباركًا, كالذي أنـزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورًا.
* * *
وأما قوله: " ولتنذر أمَّ القرى ومن حولها "، فإنه يقول: أنـزلنا إليك، يا محمد، هذا الكتاب مصدِّقًا ما قبله من الكتب, ولتنذِر به عذابَ الله وبأسَه مَنْ في أم القرى، وهي مكة =" ومن حولها "، شرقًا وغربًا، من العادلين بربّهم غيره من الآلهة والأنداد, والجاحدين برسله، وغيرهم من أصناف الكفار.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13550 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " ولتنذر أم القرى ومن حولها "، يعنى ب " أم القرى "، مكة =" ومن حولها "، من القرى إلى المشرق والمغرب.
13551- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " ولتنذر أم القرى ومن حولها "، و " أم القرى "، مكة =" ومن حولها "، الأرض كلها.
13552 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: " ولتنذر أم القرى "، قال: هي مكة = وبه عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن الأرض دُحِيَتْ من مكة.
13553- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " ولتنذر أم القرى ومن حولها "، كنا نُحَدّث أن أم القرى، مكة = وكنا نحدَّث أن منها دُحيت الأرض.
13554 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: " ولتنذر أم القرى ومن حولها "، أما " أم القرى " فهي مكة، وإنما سميت " أم القرى ", لأنها أول بيت وضع بها.
* * *
وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة " أم القرى "، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (28)
* * *
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعادِ في الآخرة إلى الله، ويصدِّق بالثواب والعقاب, فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنـزلناه إليك، يا محمد، ويصدق به، ويقرّ بأن الله أنـزله, ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمرَه الله بإقامتها، (29) لأنه منذرُ من بلغه وعيدَ الله على الكفر به وعلى معاصيه, وإنما يجحد به وبما فيه ويكذِّب، أهل التكذيب بالمعاد، والجحود لقيام الساعة, لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابًا, ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابًا.
* * *
------------------------
الهوامش :
(23) في المطبوعة: "وتهديد لهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض ، ولكن الناشر غيره في جميع المواضع السالفة ، فجعله"تهديد" ، ولا أدري لم؟
(24) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 1: 97 ، 99.
(25) انظر تفسير"مبارك" فيما سلف 7: 25.
(26) في المطبوعة: "لم يخالفها ولا ينبأ وهو معنى نورًا وهدى" ، وهو كلام لا يستقيم.
وفي المخطوطة: "لم يخالفها ولا ينبأ ومعنى نورًا وهدى" ، وهو غير منقوط ، وهو أيضًا مضطرب ، فرجحت ما كتبته بين القوسين استظهارًا لسياق المعنى.
(27) في المطبوعة: "ما يدل على أنه به متصل" ، وفي المخطوطة: "ما يدل على أنه من أصل" ، فرجحت ما أثبت ، وزدت"من" و"له" بين القوسين ، فإن هذا هو حق المعنى إن شاء الله.
(28) انظر تفسير"أم القرى" فيما سلف 1: 108 ، وانظر أيضًا الأثر رقم: 6589.
(29) انظر تفسير"المحافظة على الصلوات" فيما سلف 5: 167 ، 168.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 92 | ﴿ وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ |
---|
الأنعام: 155 | ﴿ وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
ولتنذر:
1- بالتاء، خطابا للرسول، وهى قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- بالياء، أي القرآن بمواعظة وأوامره، وهى قراءة أبى بكر.
صلاتهم:
1- بالتوحيد، وهى قراءة الجمهور.
وقرئ:
2- صلواتهم، بالجمع، وقد رويت عن أبى بكر.
التفسير :
يقول تعالى:لا أحد أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، ممن كذب [على] الله.بأن نسب إلى الله قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق، لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها، وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله -ما هو من أكبر المفاسد. ويدخل في ذلك، ادعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه، وهو كاذب في ذلك، فإنه - مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه- يوجب على الخلق أن يتبعوه، ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم. ويدخل في هذه الآية، كل من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار، وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف.{ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ} أي:ومن أظلم ممن زعم. أنه يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في أحكامه، ويشرع من الشرائع، كما شرعه الله. ويدخل في هذا، كل من يزعم أنه يقدر على معارضة القرآن، وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله. وأي:ظلم أعظم من دعوى الفقير العاجز بالذات، الناقص من كل وجه، مشاركةَ القوي الغني، الذي له الكمال المطلق، من جميع الوجوه، في ذاته وأسمائه وصفاته؟"ولما ذم الظالمين، ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار، ويوم القيامة فقال:{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ْ} أي:شدائده وأهواله الفظيعة، وكُرَبه الشنيعة –لرأيت أمرا هائلا، وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها.{ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ْ} إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها، وتعصيها للخروج من الأبدان:{ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ْ} أي:العذاب الشديد، الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل، فإن هذا العذاب{ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ْ} من كذبكم عليه، وردكم للحق، الذي جاءت به الرسل.{ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ْ} أي:تَرَفَّعون عن الانقياد لها، والاستسلام لأحكامها. وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطاب، والعذاب الموجه إليهم، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده. وفيه دليل، على أن الروح جسم، يدخل ويخرج، ويخاطب، ويساكن الجسد، ويفارقه، فهذه حالهم في البرزخ. وأما يوم القيامة، فإنهم إذا وردوها، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال، ولا أولاد ولا جنود، ولا أنصار، كما خلقهم الله أول مرة، عارين من كل شيء. فإن الأشياء، إنما تتمول وتحصل بعد ذلك، بأسبابها، التي هي أسبابها، وفي ذلك اليوم تنقطع جميع الأمور، التي كانت مع العبد في الدنيا، سوى العمل الصالح والعمل السيء، الذي هو مادة الدار الآخرة، الذي تنشأ عنه، ويكون حسنها وقبحها، وسرورها وغمومها، وعذابها ونعيمها، بحسب الأعمال. فهي التي تنفع أو تضر، وتسوء أو تسر، وما سواها من الأهل والولد، والمال والأنصار، فعواري خارجية، وأوصاف زائلة، وأحوال حائلة
وبعد أن بين- سبحانه- مزايا هذا القرآن أتبع ذلك ببيان عاقبة الذين يفترون الكذب على الله- تعالى-، وصور أحوالهم عند النزع الأخير وعند ما يقفون أمام ربهم للحساب بصورة ترتجف لها الأفئدة فقال- تعالى-:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ.
والمعنى لا أحد أشد ظلما ممن اختلق الكذب على الله فجعل له شركاء من خلقه، وأنكر ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من هدايات، وحلل وحرم بهواه ما لم يأذن به الله.
والاستفهام إنكارى فهو في معنى النفي. ومَنْ اسم موصول والمراد به الجنس. أى:
كل من افترى على الله كذبا، وليس المراد فردا معينا.
أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ أى: قال بأن الله أوحى إلى بالرسالة أو النبوة مع أنه كاذب في دعواه، فإن الله ما أوحى إليه شيئا، وهذا يصدق على ما ادعاه مسيلمة الكذاب والأسود العنسي من أنهما نبيان يوحى إليهما. ويصدق- أيضا- على كل مدع للوحى والنبوة في كل زمان ومكان.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على صلة مَنْ من عطف الخاص على العام، لأن هذا القول هو نوع من أنواع افتراء الكذب.
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أى: ولا أحد أظلم- أيضا- ممن قال بأنى قادر على أن أنزل قرآنا مثل الذي أنزله الله كالذين حكى القرآن عنهم قوله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد توعدت بأشد ألوان الوعيد كل مفتر على الله الكذب، وكل مدع أنه يوحى إليه شيء وكل من زعم أنه في قدرته أن يأتى بقرآن مثل هذا القرآن كما حدث من النضر بن الحارث وعبد الله بن سعد بن أبى سرح.
ثم بين- سبحانه- مصير كل ظالم أثيم فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ أى: ولو ترى أيها الرسول الكريم أو أيها العاقل حالة أولئك الظالمين وهم في غمرات الموت أى: في شدائده وكرباته وسكراته لرأيت شيئا فظيعا هائلا ترتعد منه الأبدان، فجواب الشرط محذوف.
والغمرات: جمع غمرة وهي الشدة. وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، يقال غمره الماء إذا علاه وستره ثم استعمل في الشدائد والمكاره.
وتقييد الرؤية بهذا الوقت لإفادة أنه ليس المراد مجرد الرؤية، بل المراد رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر.
وقوله وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أى والملائكة الموكلون بقبض أرواحهم باسطوا أيديهم إليهم بالإماتة والعذاب قائلين لهم على سبيل التوبيخ والزجر: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم.
والأمر هنا للتعجيز أى: أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم إلى ذلك سبيلا.
قال الآلوسى: وذهب بعضهم إلى أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له: أخرج مالي عليك الساعة ولا أبرح مكاني حتى انتزعه منك . وفي الكشاف: أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها» .
ولعل مما يؤيد قول ابن المنير في تعليقه على ما قال صاحب الكشاف ما جاء في آية أخرى وهي قوله- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ .
وقوله: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ هذا القول من تتمة ما تقوله الملائكة لأولئك الظالمين.
أى: تقول لهم أخرجوا أنفسكم، اليوم تلقون عذاب الذل والهوان لا بظلم من الرحمن، وإنما بسبب أنكم كنتم في دنياكم تفترون على الله الكذب، وبسبب أنكم كنتم معرضين عن آياته، مستكبرين عنها ولا تتأملون فيها، ولا تعتبرون بها.
والمراد باليوم مطلق الزمن لا اليوم المتعارف عليه، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده.
والهون معناه: الهوان والذل، وفسره صاحب الكشاف، بالهوان الشديد وقال: «وإضافة العذاب إليه كقولك، رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه» .
يقول تعالى : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) أي : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فجعل له شريكا أو ولدا ، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يكن أرسله; ولهذا قال تعالى : ( أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء )
قال عكرمة وقتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب لعنه الله .
( ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) يعني : ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول ، كما قال تعالى : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ) [ الأنفال : 31 ] ، قال الله : ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ) أي : في سكراته وغمراته وكرباته ، ( والملائكة باسطو أيديهم ) أي : بالضرب كما قال : ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) الآية [ المائدة : 28 ] ، وقال : ( ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ) الآية [ الممتحنة : 2 ] .
وقال الضحاك ، وأبو صالح : ( باسطو أيديهم ) أي : بالعذاب . وكما قال تعالى ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) [ الأنفال : 50 ] ; ولهذا قال : ( والملائكة باسطو أيديهم ) أي : بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم; ولهذا يقولون لهم : ( أخرجوا أنفسكم ) وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال ، والأغلال والسلاسل ، والجحيم والحميم ، وغضب الرحمن الرحيم ، فتتفرق روحه في جسده ، وتعصى وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم : ( أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) أي : اليوم تهانون غاية الإهانة ، كما كنتم تكذبون على الله ، وتستكبرون عن اتباع آياته ، والانقياد لرسله .
وقد وردت أحاديث متواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر ، وهي مقررة عند قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) [ إبراهيم : 27 ] .
وقد ذكر ابن مردويه هاهنا حديثا مطولا جدا من طريق غريبة ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعا ، فالله أعلم .
القول في تأويل قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا "، ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا =" ممن افترى على الله كذبًا ", يعني: ممن اختلق على الله كذبًا, (30) فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا, وهو في دعواه مبطل، وفي قيله كاذب.
* * *
وهذا تسفيهٌ من الله لمشركي العرب، وتجهيلٌ منه لهم، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحنفيِّ مسيلمة، لنبي الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أحدهما النبوّة، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم = ونفْيٌ منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاقَ الكذب عليه ودعوى الباطل.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
13555 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء "، قال: نـزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به =" ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله "، نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح, أخي بني عامر بن لؤي, كان كتب للنبي صلى الله عليه وسلم, (31) وكان فيما يملي" عَزِيزٌ حَكِيمٌ", فيكتب " غَفُورٌ رَحِيمٌ", فيغيره, ثم يقرأ عليه " كذا وكذا "، لما حوَّل, فيقول: " نعم، سواءٌ". فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينـزل عليه " عَزِيزٌ حَكِيمٌ" فأحوِّله، ثم أقرأ ما كتبت, (32) فيقول: " نعم سواء " ! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة, إذ نـزل النبي صلى الله عليه وسلم بمرّ. (33)
* * *
وقال بعضهم: بل نـزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة .
* ذكر من قال ذلك:
13556 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء " إلى قوله: تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ . قال: نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أسلم, وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم, فكان إذا أملى عليه: " سميعًا عليمًا ", كتب هو: " عليمًا حكيمًا "، وإذا قال: " عليمًا حكيمًا " كتب: " سميعًا عليمًا "، فشكّ وكفر, وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ, وإن كان الله ينـزله فقد أنـزلت مثل ما أنـزل الله ! قال محمد: " سميعًا عليمًا " فقلت أنا: " عليمًا حكيمًا " ! فلحق بالمشركين, ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار. فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا، وجُدِعت أذن عمار يومئذ. (34) فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر, فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه, فأنـزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [سورة النحل :106] ، فالذي أكره: عمار وأصحابه = والذي شرح بالكفر صدرًا، فهو ابن أبي سرح. (35)
* * *
وقال آخرون: بل القائل: " أوحي إلي ولم يوح إليه شيء "، مسيلمة الكذاب.
* ذكر من قال ذلك:
13557 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله "، ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب, فكبرا عليّ وأهمّاني, (36) فأوحى إليّ: أن انفخهما, فنفختهما فطارا, فأوَّلتهما في منامي الكذَّابين اللذين أنا بينهما، كذّاب اليمامةِ مُسيلمة, وكذّاب صنعاء العنسي. وكان يقال له: " الأسود ". (37)
13558 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: " أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء "، قال: نـزلت في مسيلمة.
13559- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة = وزاد فيه: وأخبرني الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا نائم رأيتُ في يديّ سوارين من ذهب, فكبر ذلك عليّ, فأوحي إلي أن انفخهما, فنفخهما فطارا, فأوّلت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء العنسي. (38)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء "، ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: " إني قد قلت مثل ما قال محمد ", وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذابين، ادّعيا على الله كذبًا. أنه بعثهما نبيين, وقال كل واحد منهما إنّ الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله. فإذ كان ذلك كذلك, فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره: " أوحى الله إلي", وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئًا. فأما التنـزيل، فإنه جائز أن يكون نـزل بسبب بعضهم = وجائز أن يكون نـزل بسبب جميعهم = وجائز أن يكون عني به جميعُ المشركين من العرب = إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيّروه. فعيّرهم الله بذلك، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك، ومع تركهم نكيرَه هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون, ولنبوّته جاحدون, ولآيات كتاب الله وتنـزيله دافعون, فقال لهم جل ثناؤه: " ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا "، وقال: " أوحي إلي"، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، فينقض قولَه بقوله, ويكذب بالذي تحققه, وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره العاقلُ الأريب علم أن فاعله من عقله عديم .
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: " ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله "، ما:-
3560 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله "، قال: زعم أنه لو شاء قال مثله = يعني الشعر .
* * *
فكأنّ ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوّله، يوجِّه معنى قول قائل: " سأنـزل مثل ما أنـزل الله ", إلي: سأنـزل مثل ما قال الله من الشعر. وكذلك تأوّله السدي. وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى. (39)
* * *
القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو ترى، يا محمد، حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهة والأنداد, والقائلين: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ , والمفترين على الله كذبًا، الزاعمين أنّ الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء, والقائلين: سَأُنْـزِلُ مِثْلَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ، (40) فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت, ونـزل بهم أمر الله, وحان فناء آجالهم, والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم, كما قال جل ثناؤه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [سورة محمد : 27 ، 28] . يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم.
و " الغمرات " جمع " غمرة ", و " غمرة كل شيء "، كثرته ومعظمه, وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها, ومنه قول الشاعر: (41)
وَهَــلْ يُنْجِــي مِـنَ الْغَمَـرَاتِ إلا
بُرَاكَـــاءُ القِتَـــالِ أوِ الفِــرَارُ (42)
* * *
وروي عن ابن عباس في ذلك, ما:-
13561 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت "، قال: سكرات الموت.
13562 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " في غمرات الموت "، يعني سكرات الموت.
* * *
وأما " بسط الملائكة أيديها "، (43) فإنه مدُّها. (44)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك.
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
13563 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم "، قال: هذا عند الموت،" والبسط"، الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم .
13564 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي, قال حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم "، يقول: " الملائكة باسطو أيديهم "، يضربون وجوههم وأدبارهم = والظالمون في غمرات الموت, وملك الموت يتوفّاهم.
13565 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " والملائكة باسطو أيديهم "، يضربونهم .
* * *
وقال آخرون: بل بسطها أيديها بالعذاب.
* ذكر من قال ذلك :
13566 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: " والملائكة باسطو أيديهم "، قال : بالعذاب.
13567 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: " والملائكة باسطو أيديهم "، بالعذاب.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفيين يتأوّل ذلك بمعنى: باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم. (45)
* * *
فإن قال قائل: ما وجه قوله: " أخرجوا أنفسكم "، ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها رب العالمين؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار, وأمروا في حال الموت بإخراج أنفسهم؟ فإن كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم!
قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي [إليه] ذهبت (46) وإنما ذلك أمرٌ من الله على ألسن رُسله الذين يقبضون أرواحَ هؤلاء القوم من أجسامهم, بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه، وتسليمها إلى رسله الذين يتوفَّونها.
* * *
القول في تأويل قوله : الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما تقولُ رسل الله التي تقبض أرواحَ هؤلاء الكفار لها, (47) يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، إلى سخط الله ولعنته, فإنكم اليوم تُثابون على كفركم بالله, (48) وقيلكم عليه الباطل, وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوحَ إليكم شيئًا, وإنكاركم أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا, (49) واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله، والانقياد لطاعته =" عذابَ الهون "، وهو عذاب جهنم الذي يُهينُهم فيذلّهم, حتى يعرفوا صَغَار أنفسهم وذِلَّتَها، كما:-
13568 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما " عذاب الهون "، فالذي يهينهم.
13569 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: " اليوم تجزون عذاب الهون "، قال: عذاب الهون، في الآخرة = بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
* * *
والعرب إذا أرادت ب " الْهُونِ" معنى " الهوان "، ضمت " الهاء ", وإذا أرادت به الرفق والدَّعَة وخفة المؤونة، فتحت " الهاء ", (50) فقالوا: هو " قليل هَوْن المؤونة "، ومنه قول الله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان : 63] ، يعني: بالرفق والسكينة والوقار، ومنه قول جندل بن المثنَّى الطُّهويّ: (51)
وَنَقْــضَ أَيْــامٍ نَقَضْــنَ أَسْــرَهُ
هَوْنًــا وَأَلْقَــى كُـلُّ شَـيْخٍ فَخـرَهُ (52)
ومنه قول الآخر: (53)
هَوْنَكُمَــا لا يَـرُدُّ الدَّهْـرُ مـا فَاتَـا
لا تَهْلِكَـا أَسَـفًا فِـي إِثْـرِ مَـنْ مَاتَا (54)
يريد: أرْوِدا. (55) وقد حكي فتح " الهاء " في ذلك بمعنى " الهوان "، واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جُوَين: (56)
يُهِيـنُ النفُــوسَ, وَهَــوْنُ النُّفُــو
سِ عِنْـدَ الكَرِيهَـــةِ أَغْلَى لَهَــا (57)
والمعروف من كلامهم، ضمُّ" الهاء " منه، إذا كان بمعنى الهوان والذل, كما قال ذو الإصبع العدواني:
اذْهَــبْ إلَيْـكَ فَمَـا أُمِّـي بِرَاعِيَـةٍ
تَرْعَى الْمَخَاضَ وَلا أُغْضِي عَلَى الهُونِ (58)
يعني: على الهوان = وإذا كان بمعنى الرفق، ففتْحُها.
--------------------------------
الهوامش :
(30) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: 296 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(31) في المطبوعة: "كان يكتب للنبي . . ." ، والصواب الجيد ما في المخطوطة.
(32) في المطبوعة: "ثم أقول لما أكتب" ، وفي المخطوطة: "ثم أقول أكتب" ، وفوق الكلام حرف (ط) من الناسخ ، دلالة على الخطأ ، وأنه خطأ قديم في النسخة التي نقل عنها. ورجحت قراءتها كما أثبت ، وهو سياق الكلام.
(33) "مر" ، هي"مر الظهران".
(34) "جدعت أذنه" ، قطعت ، وكان يقال له"الأجدع" ، انظر ابن سعد 3: 181.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وجدع أذن عمار" ، ذهب إلى تذكير"الأذن" ، والصواب تأنيثها ، لم يذكروا فيها تذكيرًا فيما أعلم. وهذا خبر غريب وقد روى ابن سعد في الطبقات 3: 181 عن ابن عمر: "رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة ، على صخرة قد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين! أمن الجنة تفرون؟ أنا عمار بن ياسر ، هلموا إلي! = وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت ، فهي تذبذب ، وهو يقاتل أشد القتال".
ثم قال: "قال: شعبة: لم ندر أنها أصيبت باليمامة". فهذا خبر آخر ، والمشهور من خبره أنها أصيبت مع النبي صلى الله عليه وسلم. كأن ذلك كان في بعض الغزوات.
(35) الأثر: 13556 - كان حق هذا الخبر أن يذكر في تفسير آية"سورة النحل" ، لبيان أنها نزلت أيضًا في"عبد الله بن سعد بن أبي سرح" ، ولكن أبا جعفر لم يفعل ، وذلك دلالة أخرى قاطعة على اختصاره تفسيره.
(36) في المخطوطة: "فأهمني" ، وعلى الكلمة حرف (ط) دلالة على الخطأ ، والصواب ما في المطبوعة ، موافقًا لرواية البخاري ومسلم.
(37) الأثر: 13557 - خبر الرؤيا ، رواه البخاري (الفتح 8: 69 ، 70) ، ومسلم في صحيحه: 15: 34.
(38) الأثر: 13559 - انظر التعليق على رقم: 13557.
(39) لم يذكر"الشعر" في خبر السدي السالف رقم: 13556 ، ولعل أبا جعفر نسي أن يكتبه ، أو لعله أراد أن ذلك مروي في خبر السدي السالف وإن كان لم يذكره هناك.
(40) هكذا جاء على الجمع في المخطوطة أيضًا"والمفترين . . . الزاعمين . . . والقائلين" ، والسياق يقتضي الإفراد ، ولكني تركته على حاله ، لظهور معناه ، وإن كنت أرجح أن الصواب: "والمفتري على الله كذبًا الزاعم أن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء ، والقائل: سأنزل مثل ما أنزل الله".
(41) هو بشر بن أبي حازم.
(42) شرح المفضليات: 677 ، النقائض: 423 ، الأغاني 13: 137 ، ديوان الخنساء: 216 ، واللسان (برك) ، وغيرها. وهذا البيت آخر قصيدة في المفضليات ، وروايته: "ولا ينجي". و"البراكاء" (بفتح الباء وضمها): الثبات في ساحة الحرب ، والجد في القتال ، وهو من"البروك" ، يبرك المقاتل في مكانه ، أي: يثبت. وكان في المطبوعة: "تراك للقتال" ، وهو خطأ صرف. وفي المخطوطة: "براكا للقتال" ، وهو أيضًا خطأ.
(43) في المطبوعة: "أيديهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض.
(44) انظر تفسير"بسط الأيدي" فيما سلف 10: 100 ، 213.
(45) هو الفراء في معاني القرآن 1: 345.
(46) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق.
(47) قوله: "لها" ، أي للكفار.
(48) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزي).
(49) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا" ، وهو لا معنى له ، وإنما هو تحريف من الناسخ ، والصواب ما أثبت.
(50) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 200.
(51) في المطبوعة والمخطوطة: "المثني بن جندل الطهوي" وهو خطأ صرف ، وإنما هو"جندل بن المثني الطهوي" ، وهو شاعر إسلامي راجز ، كان يهاجي الراعي. انظر سمط اللآلى ص: 644 ، وغيره.
(52) لم أعثر على الرجز ، وإن كنت أذكره. و"الأسر" : القوة. وقوله: "ألقى كل شيخ فخره" ، كناية عن عجز الشيخ إذا بلغ السن.
(53) هو ذو جدن الحميري ، ويقال هو: "علقمة بن شراحيل بن مرثد الحميري".
(54) سيرة ابن هشام 1: 39 ، تاريخ الطبري 2: 107 ، الأغاني 16: 70 ، معجم ما استعجم: 1398 ، ومعجم البلدان (بينون) و(سلحون) واللسان (هون) ، وبعد البيت:
أبَعْــدَ بَيْنُــونَ لاَ عَيْــنٌ وَلاَ أثَـرٌ
وَبَعْـدَ سَـلْحُونَ يَبْنِي النَّـاس أبْيَاتَـا
وَبَعْــدَ حِــمْيَرَ إذْ شَـالَتْ نعَـامَتُهُمْ
حَــتَّهُمُ غَيْـبُ هَـذَا الدَّهْـرِ حتَّاتَـا
و"بينون" ، و"سلحون" ، و"غمدان" من حصون اليمن التي هدمها أرياط الحبشي ، في غزوة اليمن ، فذكرها ذو جدن ، يأسى على ما دخل أهل حمير من الذل والهوان.
(55) في المطبوعة: "رودا" ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة. و"الإرواد" ، الإمهال والرفق ، والتأني ، ومنه قيل: "رويدك" ، أي: أمهل ، وتأن ، وترفق.
(56) هكذا قال أبو جعفر ، والمشهور أنه للخنساء ، وهو في شعرها ، وبعض أبيات قصيدة الخنساء ، تروى لعامر بن جوين الطائي ، فلعل هذا مما يروى له من شعرها. أو لعله من شعر عامر بن جوين ، وروى للخنساء.
(57) ديوان الخنساء: 215 ، والأغاني 13: 136 ، والنقائض: 423 ، واللسان (هون). وروايتهم جميعًا"يوم الكريهة أبقى لها". وفي المطبوعة: "أعلى" ، والصواب من المخطوطة.
(58) شرح المفضليات: 323 ، وما بعدها ، والأمالي 1: 256 ، واللسان (هون) ، وغيرها كثير. وقد جاء أبو جعفر برواية لم تذكر إلا في اللسان ، عن ابن بري ، وأما رواية الرواة ، فهي:
عَنِّــي إلَيْــكَ فَمَـا أُمِّـي بِرَاعِيَـةٍ
تَـرْعَى المَخَـاضَ، وَلا رأيـي بمَغْبُونِ
إِنِّــــي أَبِـــيٌّ ذُو مُحَافَظَـــةٍ
وَابــنُ أَبِــيٍّ أَبِــيٍّ مِـنْ أَبِيِّيـنِ
لا يُخْـرِجُ القَسْـرُ مِنِّـي غَـيْرَ مَا بِيَةٍ
وَلا أَلِيــنُ لِمَــنْ لا يَبْتَغِـي لِينِـي
عَـفٌّ نَـدُودٌ، إذَا مَـا خِـفْتُ مِـنْ بَلَدٍ
هُونًـا، فَلَسْـتُ بوَقَّـافٍ عَـلَى الهُونِ
فالشاهد في البيت الأخير
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 93 | ﴿وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ |
---|
الأحقاف: 20 | ﴿أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَـ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
ما أنزل:
وقرئ:
ما نزل، بالتشديد، وهى قراءة أبى حيوة.
الهون:
وقرئ:
الهوان، بالألف وفتح الهاء، وهى قراءة عبد الله، وعكرمة.
التفسير :
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ ْ} أي:أعطيناكم، وأنعمنا به عليكم{ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ْ} لا يغنون عنكم شيئا{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ْ} فإن المشركين يشركون بالله، ويعبدون معه الملائكة، والأنبياء، والصالحين، وغيرهم، وهم كلهم لله، ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم، وشركة في عبادتهم، وهذا زعم منهم وظلم، فإن الجميع عبيد لله، والله مالكهم، والمستحق لعبادتهم. فشركهم في العبادة، وصرفها لبعض العبيد، تنزيل لهم منزلة الخالق المالك، فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة.{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ْ} أي:تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين شركائكم، من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم تُجْد شيئا.{ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ْ} من الربح، والأمن والسعادة، والنجاة، التي زينها لكم الشيطان، وحسنها في قلوبكم، فنطقت بها ألسنتكم. واغتررتم بهذا الزعم الباطل، الذي لا حقيقة له، حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون، وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم.
ثم صور- سبحانه- حالهم عند ما يعرضون للحساب فقال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أى: ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه في الدنيا من متاع، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التي زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله.
وفرادى قيل هو جمع فرد، وفريد وقيل: هو اسم جمع لأن فردا لا يجمع على فرادى وقول من قال إنه جمع: أراد أنه جمع له في المعنى:
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة، بعد بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم.
وقوله: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأى العين.
أى: جئتمونا منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الدنيا، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة حفاة عراة. فالكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف.
روى الشيخان عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ .
ورويا- أيضا- عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تحشرون حفاه عراة غرلا. قالت:
يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» .
وروى الطبراني بسنده عن عائشة أنها قالت قرأت قول الله- تعالى- وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقالت: يا رسول الله وا سوأتاه! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض.
قوله: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ أى: تركتم ما أعطيناكم وملكناكم في الدنيا من أموال وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عند ما جئتمونا للحساب.
الخول: ما أعطاه الله لعباده من النعم: يقال: خوله الشيء تخويلا، ملكه إياه ومكنه منه.
ومنه التخول بمعنى التعهد.
والجملة الكريمة تتضمن توبيخهم، لأنهم لم يقدموا منه شيئا في دنياهم ليكون نافعا لهم في أخراهم، بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به في معادهم.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول ابن آدم: مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» .
وقوله: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ تقريع وتوبيخ لهم على شركهم.
أى: ما نرى وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التي توهمتم أنهم شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم.
وقوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أى: لقد تقطع الاتصال الذي كان بينكم في الدنيا واضمحل.
ففاعل تَقَطَّعَ ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ شُرَكاءُ وبَيْنَكُمْ منصوب على الظرفية.
وقرئ بالرفع أى: لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل في الوصل وفي الفراق بالاشتراك والأصل لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به أى: تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات.
وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أى: وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء، ورجاء الأنداد والأصنام. كما قال- تعالى- إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ .
وهكذا يسوق القرآن مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التي تهز النفوس، وتحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح.
وبعد أن ساق- سبحانه- ألوانا من الدلائل على وحدانيته، وعلى صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، شرع- سبحانه- في سرد مظاهر قدرته، وكمال علمه وحكمته عن طريق التأمل في هذا الكون العجيب، وفي بدائع مخلوقاته فقال- تعالى-:
وقوله : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) أي : يقال لهم يوم معادهم هذا ، كما قال ( وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) [ الكهف : 48 ] ، أي : كما بدأناكم أعدناكم ، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه ، فهذا يوم البعث .
وقوله : ( وتركتم ما خولناكم ) أي : من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا ( وراء ظهوركم ) وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس "
وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج فيقول الله - عز وجل - له أين ما جمعت؟ فيقول يا رب ، جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول : فأين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا ، وتلا هذه الآية : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدار الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أن تلك تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثم معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ، ويناديهم الرب ، عز وجل ، على رءوس الخلائق : ( أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) [ الأنعام : 22 ] وقيل لهم ( أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون ) [ الشعراء : 92 ، 93 ] ; ولهذا قال هاهنا : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) أي : في العبادة ، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم .
ثم قال تعالى : ( لقد تقطع بينكم ) قرئ بالرفع ، أي شملكم ، وقرئ بالنصب ، أي : لقد انقطع ما بينكم من الوصلات والأسباب والوسائل ( وضل عنكم ) أي : وذهب عنكم ( ما كنتم تزعمون ) من رجاء الأصنام ، كما قال : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) [ البقرة : 166 ، 167 ] ، وقال تعالى : ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) [ المؤمنون : 101 ] ، وقال ( إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) [ العنكبوت : 25 ] ، وقال ( وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) الآية [ القصص : 64 ] ، وقال تعالى : ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا ) إلى قوله : ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) [ الأنعام : 22 - 24 ] ، والآيات في هذا كثيرة جدا .
القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد, يخبر عبادَه أنه يقول لهم عند ورودهم عليه: " لقد جئتمونا فرادى " .
ويعني بقوله: " فرادى "، وُحدانًا لا مال معهم، ولا إناث، ولا رقيق، (59) ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا =" كما خلقناكم أوّل مرة "، عُرَاة غُلْفًا غُرْلا حُفاة، كما ولدتهم أمهاتهم, (60) وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم, لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهَوْن به في الدنيا.
* * *
و " فرادى "، جمع, يقال لواحدها: " فَرِد ", كما قال نابغة بني ذبيان:
مِـنْ وَحْـشِ وَجْـرَةَ مَوْشـيٍّ أَكَارِعُهُ
طَـاوِي المَصِـيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ (61)
و " فَرَدٌ" و " فريد ", كما يقال: " وَحَد " و " وَحِد " و " وحيد " في واحد " الأوحاد ". وقد يجمع " الفَرَد "" الفُرَاد " كما يجمع " الوَحَد "،" الوُحَاد ", ومنه قول الشاعر: (62)
تَـرَى النَّعَـرَاتِ الـزُّرْقَ فَـوْقَ لَبَانِه
فُـرَادَى وَمَثْنًـى أَصْعَقَتْهَـا صَوَاهِلُـهْ (63)
وكان يونس الجرْميّ، (64) فيما ذكر عنه، يقول: " فُراد " جمع " فَرْد ", كما قيل: " تُؤْم " و " تُؤَام " للجميع. ومنه: " الفُرَادى "، و " الرُّدَافى " و " القُرَانى ". (65) يقال: " رجل فرد " و " امرأة فرد ", إذا لم يكن لها أخٌ." وقد فَرد الرجلُ فهو يفرُد فرودًا ", يراد به تفرَّد," فهو فارد ".
* * *
13570 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، [قال ابن زيد قال] ، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه: أنه سمع القرظيّ يقول: قرأت عائشةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الله: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة "، فقالت: واسوأتاه, إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ , لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال, شغل بعضهم عن بعض. (66)
* * *
وأما قوله: " وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم "، فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم.
وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم.
* * *
وكل ما ملكته غيرك وأعطيته: " فقد خوّلته ", (67) يقال منه: " خال الرجل يَخَال أشدّ الخِيال " بكسر الخاء =" وهو خائل ", ومنه قول أبي النجم:
أَعْطَــى فَلَــمْ يَبْخَـلْ وَلَـمْ يُبَخَّـلِ
كَـومَ الـذُّرَى مِـنْ خَـوَلِ المُخَــوِّلِ (68)
وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير:
هُنَـالِكَ إِنْ يُسْـتَخْوَلُوا الْمَـالَ يُخـوِلُوا
وَإن يُسْـأَلُوا يُعطُـوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا (69)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
13571 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " وتركتم ما خوّلناكم "، من المال والخدم =" وراء ظهوركم "، في الدنيا.
* * *
القول في تأويل قوله : وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة. (70)
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في النضر بن الحارث، لقيله: إنّ اللات والعزى يشفعان لهُ عند الله يوم القيامة.
* * *
وقيل: إن ذلك كان قول كافة عَبَدة الأوثان.
* ذكر من قال ذلك:
13572 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء "، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدُون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنّ هذه الآلهة شركاءُ لله.
13573- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: " سوف تشفع لي اللات والعزَّى "! فنـزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، إلى قوله: " شركاء ".
* * *
القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: " لقد تقطع بينكم "، يعني تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا, ذهب ذلك اليوم, فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر, وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون، فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة, فلا أحدَ منهم ينصر صاحبه، ولا يواصله. (71)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13574 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " لقد تقطع بينكم "،" البين "، تواصلهم.
13575- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " لقد تقطع بينكم "، قال: تواصلهم في الدنيا .
13576 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: " لقد تقطع بينكم "، قال: وصلكم.
13577- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " لقد تقطع بينكم "، قال: ما كان بينكم من الوصل.
13578 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس: " لقد تقطع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون "، يعني الأرحام والمنازل.
13579 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " لقد تقطع بينكم "، يقول: تقطع ما بينكم.
13580 - حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش: " لقد تقطع بينكم "، التواصل في الدنيا. (72)
* * *
واختلفت القرأة في [قراءة] قوله: " بينكم ".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصبًا، بمعنى: لقد تقطع ما بينكم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقَيْن: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) ، رفعًا, بمعنى: لقد تقطع وصلُكم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
وذلك أن العرب قد تنصب " بين " في موضع الاسم. ذكر سماعًا منها: " أتاني نحَوك، ودونَك، وسواءَك ", (73) نصبًا في موضع الرفع. وقد ذكر عنها سماعًا الرفع في" بين "، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسمًا، وينشد بيت مهلهل:
كَــأَنَّ رِمــاحَهُم أَشْــطَانُ بِــئْرٍ
بَعِيـــدٍ بَيْــنُ جَالَيْهَــا جَــرُورِ (74)
برفع " بين "، إذ كانت اسمًا، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصبُ فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسمًا.
* * *
وأما قوله: " وضل عنكم ما كنتم تزعمون "، فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم, وأنه لكم شفيع عند ربكم, فلا يشفع لكم اليوم. (75)
* * *
---------------
الهوامش:
(59) في المطبوعة: "ولا أثاث ولا رفيق" ، والصواب ما في المخطوطة ، يعني نساءهم وخدمهم ، وانظر الأثر التالي رقم: 13571 ، وانظر تفسير البغوي (بهامش ابن كثير 3: 361) قال: "وحدانا لا مال معكم ، ولا زوج ، ولا ولد ، ولا خدم". فهذا صواب القراءة بحمد الله.
(60) "غلف جمع"أغلف" ، وهو الذي لم يختتن. و"الغرل" جمع"أغرل" ، وهو أيضًا الذي لم يختتن ، وهذا حديث مسلم في صحيحه من حديث عائشة: "يحشر الناس يوم القيامة حفة عراة غرلا" (17: 192 ، 193).
(61) ديوانه: 26 ، واللسان (فرد) ، وغيرهما كثير. من قصيدته المشهورة التي اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر ، يقول قبله في صفة الثور:
كـأنّ رَحْـلِي وَقَـدْ زَالَ النَّهَـارُ بِنَـا
يَـوْمَ الجَـلِيلِ عَـلَى مُسْـتَأنِسٍ وَحَـدِ
و"وجرة" ، منزل بين مكة والبصرة ، مربة للوحوش والظباء."موشي أكارعه" ، في قوائمه نقط سود."طاوي المصير" ، ضامر البطن ، و"المصير" جمع"مصران". يصف بياض الثور والتماعه. كأنه سيف مصقول جديد الصقل.
(62) هو تميم بن أبي بن مقبل.
(63) مضى البيت وتخريجه وتفسيره 7: 543 ، بغير هذه الرواية ، فراجعه هناك.
(64) مضى في 10: 120 ، تعليق: 1 ، ذكر"يونس [الحرمري]" ، وقد أشكل على أمره ، كما ذكرت هناك ، وصح بهذا أنه"الجرمي" ، ولم أجد في قدماء النحاة من يقال له: "يونس الجرمي" ، وذكرت هناك أن"يونس بن حبيب" ، ضبي لا جرمي ، فعسى أن يهديني من يقرأ هذا إلى الصواب فيه ، متفضلا مشكورا.
(65) في المطبوعة: "والغواني" ، وفي المخطوطة: "والعواـي" غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت ، يقال: جاءوا قرانى" أي مقترنين ، قال ذو الرمة:
قُــرَانَى وَأَشْــتَاتًا، وَحَـادٍ يَسُـوقُهَا
إلَـى المَـاءِ مِـنْ جَـوْزِ التَّنُوفَةِ مُطْلِقُ
(66) الأثر: 13570 -"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري" ، ثقة مضى برقم: 1387 ، 5973 ، 6889 ، 10330. وأما "ابن أبي هلال" ، فهو: "سعيد بن أبي هلال الليثي المصري" ، ثقة. مضى برقم: 1495 ، 5465.
وأما "القرظي" ، فقد بينه الحاكم في المستدرك في إسناده وأنه: "عثمان بن عبد الرحمن القرظي" ، ولكنه مع هذا البيان ، لم يزل مجهولا ، فإني لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من الكتب. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "القرطبي" ، وهو خطأ. وهذا الخبر ، أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 565 ، من طريق"عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث" ، ليس فيه"قال ابن زيد" ، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، وعلق عليه الذهبي فقال: "صحيح ، فيه انقطاع". والذي في إسناد الطبري"قال ابن زيد قال" ، عندي أنه زيادة من الناسخ ، لأن عبد الله بن وهب ، يروي مباشرة عن"عمرو بن الحارث" ، كما يروي عن"عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" ، ولما كثر إسناد أبي جعفر"حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد" ، أسرع قلم الناسخ بإثبات"ابن زيد" مقمحًا في هذا الإسناد ، كما دل عليه إسناد الحاكم. وانقطاع هذا الإسناد ، كما بينه الذهبي ، هو فيما أرجح ، أن"عثمان بن عبد الرحمن القرظي" لم يسمع من عائشة.
(67) في المطبوعة والمخطوطة: "وكل من ملكته غيرك . . ." ، وهو خطأ محض ، صوابه ما أثبت.
(68) لامية أبي النجم في كتاب (الطرائف) ، والمراجع هناك ، وسيأتي في التفسير 23: 127 (بولاق) ، وهو مطلع رجزه ، وقبله:
الَحْــمُد لِلــه الوَهُــوبِ المُجْـزِلُ
وقوله: "كوم الذرى" ، أي: عظام الأسمنة ، "كوم" جمع"كوماء" ، وهي الناقة العظيمة السنام. و"المخول" بكسر الواو ، الله الرَّزَّاق ذو القوة المتين. وانظر تعليقي على البيت في طبقات فحول الشعراء: 576 ، تعليق: 4.
(69) ديوانه" 112 ، واللسان (خبل) (خول) ، وسيأتي في التفسير 23: 127 (بولاق) ، وغيرها كثير. من قصيدته المشهورة في هرم بن سنان بن أبي حارثة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري ، يذكر قومهما بالكرم في زمن الجدب ، وقبله:
إذَا السَّـنَةُ الشَّهْبَاءِ بِالنَّـاسِ أجْحَـفَتْ
وَنَـالَ كِـرَامَ المَـالِ فِـي السَّنَةِ الأَكْلُ
رَأَيْـتُ ذَوِي الحَاجَـاتِ حَــوْلَ بُيُوتِهِمْ
قَطِينًـا لَهُـمْ، حَـتَّى إذَا أَنْبَـتَ البَقْـلُ
هُنَــالِكَ إِنْ يُسْـتَخْوَلوا . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواية غير أبي عمرو بن العلاء: "إن يستخبلوا المال يخبلوا" ، يقال: "استخبل الرجل ناقة فأخبله" ، إذا استعاره ناقة لينتفع بألبانها وأوبارها فأعاره. و"الاستخوال" مثله. وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قال: "ولو أنشدتها لأنشدتها: إن يستخولوا المال يخولوا" ، وقال: "الاختبال: المنيحة ، ولا أعرف الاستخبال ، وأراه: يستخولوا. والاستخوال أن يملكوهم إياه".
وقوله: "ييسروا" ، من"الميسر" الذي تقسم فيه الجزر. وقوله: "يغلوا" ، أي: يختاروا سمان الجزر للنحر ، فهم لا ينحرون إلا غالية.
(70) انظر تفسير"الشفيع" فيما سلف ص: 446 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.
(71) انظر تفسير"البين" فيما سلف 8: 319.
(72) الأثر: 13580 - هذا إسناد منقطع كما أشرت إليه فيما سلف رقم: 1246 ، 2150 و"أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي" ، ثقة معروف ، مضى برقم: 1246 ، 2150 ، 3000 ، 5725 ، 8098.
(73) في المطبوعة: "إيابي نحوك . . ." وهو خطأ محض ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، والصواب في معاني القرآن للفراء 1: 345.
(74) أمالي القالي 2: 132 ، واللسان (بين) ، وغيرهما ، من قصيدته المشهورة التي قالها لما أدرك بثأر أخيه كليب وائل. وقبله:
فِــدًى لِبَنِـي الشَّـقِيقَةِ يَـوْمَ جَـاءوا
كَأُسْــدِ الغَـابِ لَجَّـتْ فِـي زَئِـيرِ
و"الأشطان" الحبال الشديدة الفتل ، التي يستقي بها ، واحدها"شطن". (بفتحتين) و"الجال" و"الجول" (بضم الجيم): ناحية البئر وجانبها وما يحبس الماء منها. و"جرور" صفة البئر البعيدة القعر ، لأن دلوها يجر على شفرها ، لبعد قعرها. يصف طول رماحهم ، وحركة أيديهم في الضرب بها ، ثم نزعها من بدن من أصابته.
(75) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل).
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
الأنعام: 94 | ﴿وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ |
---|
الكهف: 48 | ﴿وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
فرادى:
قرئ:
1- فرادى، غير مصروف.
2- فرادا، بالتنوين، وهى قراءة عيسى بن عمر، وأبى حيوة.
بينكم:
قرئ:
1- بالرفع، على الاتساع فى الظرف، وهى قراءة جمهور السبعة.
2- بفتح النون، وهى قراءة نافع، والكسائي، وحفص.