ترتيب المصحف | 5 | ترتيب النزول | 112 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 21.50 |
عدد الآيات | 120 | عدد الأجزاء | 1.07 |
عدد الأحزاب | 2.15 | عدد الأرباع | 8.60 |
ترتيب الطول | 6 | تبدأ في الجزء | 6 |
تنتهي في الجزء | 7 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
النداء: 2/10 | يا أيها الذين آمنوا: 1/3 |
لَمَّا أوجبَ في الصفحةِ السابقةِ قطعَ الأيدي والأرجلِ عندَ أخذِ المالِ في قطعِ الطريقِ أو الحِرَابةِ بَيَّنَ هنا أنَّ أخْذَ المالِ في السَّرِقةِ يُوجِبُ قَطعَ الأَيدي أيضًا.
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ بعضَ التكاليفِ وذكرَ مَن يُحارِبُونَ اللهَ ورسولَه ويَسعَونَ في الأرضِ فسادًا، هنا صبَّرَ اللهُ رسولَه على تحمُّلِ ذلك، وأمَرَه ألَّا يحزنَ ولا يَهتمَّ بأمْرِ المنافقينَ وأَمْرِ اليهودِ.
التفسير :
تفسير الآيتين 36 و 37:يخبر تعالى عن شناعة حال الكافرين بالله يوم القيامة ومآلهم الفظيع، وأنهم لو افتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه ما تقبل منهم، ولا أفاد، لأن محل الافتداء قد فات، ولم يبق إلا العذاب الأليم، الموجع الدائم الذي لا يخرجون منه أبدا، بل هم ماكثون فيه سرمدا.
وقوله- تعالى- يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ بيان لدوام نزول العذاب بهم بعد بيان شدة آلامه وأوجاعه.
أى: يريد هؤلاء الكافرون أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بعد أن ذاقوا عذابها وآلامها، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها أبدا، بسبب ما ارتكبوه في الدنيا من قبائح ومنكرات وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أى: دائم ثابت لا ينقطع.
فأنت ترى هاتين الآيتين قد بينتا سوء عاقبة الكافرين، بعد أن رغب- سبحانه- المؤمنين في التقرب إليه بالإيمان والعمل الصالح، وذلك لكي يزداد المؤمنون إيمانا. ولكي ينصرف الناس عن الكفر والفسوق والعصيان إلى الإيمان والطاعة والاستجابة لتعاليم الله الواحد القهار.
وبعد أن بين- سبحانه- عقوبة الذين يحاربون الله ورسوله، ودعا المؤمنين إلى التقرب إليه بالعمل الصالح وبين سوء عاقبة الكافرين. بعد أن بين كل ذلك أعقبه ببيان عقوبة السرقة فقال- تعالى:
كما قال تعالى : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) الآية [ الحج : 22 ] ، فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ، ولا سبيل لهم إلى ذلك ، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعالي جهنم ، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد ، فيردونهم إلى أسفلها ، ( ولهم عذاب مقيم ) أي : دائم مستمر لا خروج لهم منها ، ولا محيد لهم عنها .
وقد قال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل من أهل النار ، فيقول : يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول : شر مضجع . فيقول : هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ " قال : " فيقول : نعم ، يا رب! فيقول : كذبت! قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل : فيؤمر به إلى النار " .
رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه . وكذا رواه البخاري ومسلم من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه ، عن قتادة عن أنس به . وكذا أخرجاه من طريق أبي عمران الجوني واسمه عبد الملك بن حبيب عن أنس بن مالك به . ورواه مطر الوراق عن أنس بن مالك ورواه ابن مردويه من طريقه ، عنه .
ثم رواه ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن صهيب الفقير ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قال ] " يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة " قال : فقلت لجابر بن عبد الله : يقول الله : ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ) قال : اتل أول الآية : ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به ) الآية ، ألا إنهم الذين كفروا .
وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر ، عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط سياقا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مبارك بن فضالة حدثني يزيد الفقير قال : جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدث ، فحدث أن أناسا يخرجون من النار - قال : وأنا يومئذ أنكر ذلك ، فغضبت وقلت : ما أعجب من الناس ، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد ! تزعمون أن الله يخرج ناسا من النار ، والله يقول : ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها [ ولهم عذاب مقيم ] ) فانتهرني أصحابه ، وكان أحلمهم فقال : دعوا الرجل ، إنما ذلك للكفار : ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ) حتى بلغ : ( ولهم عذاب مقيم ) أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى قد جمعته قال : أليس الله يقول : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ؟ [ الإسراء : 79 ] فهو ذلك المقام ، فإن الله [ تعالى ] يحتبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء ، لا يكلمهم ، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم . قال : فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به .
ثم قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا عمرو بن حفص السدوسي حدثنا عاصم بن علي حدثنا العباس بن الفضل حدثنا سعيد بن المهلب حدثني طلق بن حبيب قال : كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة ، حتى لقيت جابر بن عبد الله فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله [ تعالى ] فيها خلود أهل النار ، فقال : يا طلق أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها ، هم المشركون ، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذبوا ، ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه ، فقال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يخرجون من النار بعدما دخلوا " . ونحن نقرأ كما قرأت .
القول في تأويل قوله عز ذكره : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " يريدون أن يخرجوا من النار "، يريد هؤلاء الذين كفروا بربهّم يوم القيامة، أن يخرجوا من النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها=" ولهم عذاب مقيم " ، يقول: لهم عذابٌ دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدًا، كما قال الشاعر: (1)
فَــإنَّ لَكُــمْ بِيَـوْمِ الشِّـعْبِ مِنِّـي
عَذَابًـــا دَائِمًـــا لَكُــمُ مُقِيمَــا (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
11906 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله: أعمى البصر أعمى القلب، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار، (3) وقد قال الله جل وعز: " وما هم بخارجين منها "؟ فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها! هذه للكفّار.
-----------------
الهوامش :
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 165.
(3) في المطبوعة: "يا أعمى البصر أعمى القلب ، تزعم. . . ." كأن نافعًا يوجه الحديث إلى ابن عباس ، وهذا عجيب أن يكون من نافع ، مع اجترائه وسلاطته! وكان في المخطوطة: "ما عمي البصار أعمى القلب ، برعم" ، هكذا غير منقوطة ، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها ، على أنه إخبار لابن عباس عمن يقول ذلك.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
المائدة: 37 | ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ |
---|
التوبة: 68 | ﴿وَعَدَ اللَّـهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ هِيَ حَسْبُهُمْ ۚ وَلَعَنَهُمُ اللَّـهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
أن يخرجوا:
قرئ:
1- مبنيا للفاعل، وهى قراءة الجمهور.
2- مبنيا للمفعول، وهى قراءة النخعي، وابن وثاب.
التفسير :
السارق:هو من أخذ مال غيره المحترم خفية، بغير رضاه. وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة، وهو قطع اليد اليمنى، كما هو في قراءة بعض الصحابة. وحد اليد عند الإطلاق من الكوع، فإذا سرق قطعت يده من الكوع، وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم، ولكن السنة قيدت عموم هذه الآية من عدة أوجه:منها:الحرز، فإنه لابد أن تكون السرقة من حرز، وحرز كل مال:ما يحفظ به عادة. فلو سرق من غير حرز فلا قطع عليه. ومنها:أنه لابد أن يكون المسروق نصابا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساوي أحدهما، فلو سرق دون ذلك فلا قطع عليه. ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها، فإن لفظ "السرقة"أخذ الشيء على وجه لا يمكن الاحتراز منه، وذلك أن يكون المال محرزا، فلو كان غير محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية. ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد في الشيء النزر التافه، فلما كان لابد من التقدير، كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب. والحكمة في قطع اليد في السرقة، أن ذلك حفظ للأموال، واحتياط لها، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى، فإن عاد، فقيل:تقطع يده اليسرى، ثم رجله اليمنى، وقيل:يحبس حتى يموت. وقوله:{ جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} أي:ذلك القطع جزاء للسارق بما سرقه من أموال الناس.{ نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ} أي:تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره، ليرتدع السراق -إذا علموا- أنهم سيقطعون إذا سرقوا.{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي:عَزَّ وحكم فقطع السارق.
قال الجمل ما ملخصه: قوله- تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ.. إلخ. شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى.
وقرأ الجمهور: والسارق بالرفع وفيها وجهان:
أحدهما: وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصريين- أن السارق مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة. أى: حكم السارق، ويكون قوله فَاقْطَعُوا بيانا لذلك الحكم المقدر. فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها، ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود. ولو لم يؤت بالفاء لتوهم أنه أجنبى، والكلام على هذا جملتان: الأولى خبرية والثانية أمرية.
والثاني: وهو مذهب الأخفش وجماعة كثيرة- أنه مبتدأ- أيضا- والخبر الجملة الأمرية من قوله فَاقْطَعُوا وإنما دخلت الفاء في الخبر، لأنه يشبه الشرط إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها، فهي في قوة قولك والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا» .
والمعنى: السَّارِقُ أى: من الرجال وَالسَّارِقَةُ أى: من النساء فَاقْطَعُوا أيديهما، أى فاقطعوا يد كل منهما الذكر إذا سرق قطعت يده. والأنثى إذا سرقت قطعت يدها.
والخطاب في قوله: فَاقْطَعُوا لولاة الأمر الذين إليهم يرجع تنفيذ الحدود وجمع- سبحانه- اليد فقال «أيديهما» ولم يقل يديهما بالتثنية، لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية.
وقوله جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت. أى: اقطعوا أيديهما جزاء لهما بسبب فعلهما الخبيث، وكسبهما السيئ، وخيانتهما القبيحة، ولكي يكون هذا القطع لأيديهما نَكالًا أى: عبرة وزجرا من الله- تعالى- لغيرهما حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة.
يقال: نكل فلان بفلان تنكيلا: أى: صنع به صنيعا يحذر غيره.
والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك. وأصله من النكل- بالكسر- وهو القيد الشديد، وحديدة اللجام، لكونهما مانعين وجمعه أنكال.
وسميت هذه العقوبة نكالا، لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده، وفضيحة لأمره.
وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: والله- تعالى- غالب على أمره، حكيم في شرائعه وتكاليفه.
قال صاحب المنار ما ملخصه. وقد كانت العرب بدوها وحضرها تفهم الكثير من وضع أسماء الله- تعالى- في الآيات بحسب المناسبة.
ومن ذلك ما نقل الأصمعى أنه قال: كنت أقرأ سورة المائدة، ومعى أعرابى، فقرأت هذه الآية فقلت واللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ سهوا فقال الأعرابى كلام من هذا؟ فقلت: كلام الله. قال:
أعد فأعدت واللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم تنبهت فقلت: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فقال: الآن أصبت فقلت له. كيف عرفت؟ فقال: يا هذا عَزِيزٌ حَكِيمٌ فأمر بالقطع، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع.
فقد فهم الأعرابى الأمى أن مقتضى العزة والحكمة، غير مقتضى المغفرة والرحمة وأن الله- تعالى- يضع كل اسم موضعه من كتابه» .
يقول تعالى حاكما وآمرا بقطع يد السارق والسارقة ، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما " . وهذه قراءة شاذة ، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها ، لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر . وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية ، فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه ، وزيادات هي من تمام المصالح . ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش قطعوا رجلا يقال له : " دويك " مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده .
وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به ، سواء كان قليلا أو كثيرا ; لعموم هذه الآية : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا ، بل أخذوا بمجرد السرقة .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس عن قوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) أخاص أم عام ؟
فقال : بل عام .
وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل غير ذلك ، فالله أعلم .
وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " . وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة ، فعند الإمام مالك بن أنس رحمه الله : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة ، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقها وجب القطع ، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم . أخرجاه في الصحيحين .
قال مالك رحمه الله : وقطع عثمان رضي الله عنه ، في أترجة قومت بثلاثة دراهم ، وهو أحب ما سمعت في ذلك . وهذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه ، قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن : أن سارقا سرق في زمان عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تقوم ، فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار ، فقطع عثمان يده .
قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع يشتهر ، ولم ينكر ، فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي ، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافا للحنفية . وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم .
وذهب الشافعي رحمه الله ، إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا . والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان : البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " .
ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة ، عن عائشة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " .
قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه . قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة دراهم ، لا ينافي هذا ; لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما ، فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذه الطريق .
ويروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم . وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه وإسحاق ابن راهويه - في رواية عنه - وأبو ثور وداود بن علي الظاهري رحمهم الله .
وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه - في رواية عنه - إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي ، فمن سرق واحدا منهما ، أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنهما ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة [ رضي الله عنها ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اقطعوا في ربع دينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهما . وفي لفظ للنسائي : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار .
فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم .
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه : أبو يوسف ومحمد وزفر وكذا سفيان الثوري رحمهم الله ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة . واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى وعن محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم .
ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن " . وكان ثمن المجن عشرة دراهم .
قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات .
وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم ، أو دينار ، أو ما يبلغ قيمته واحدا منهما ، يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم الله تعالى .
وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس ، أي : في خمسة دنانير ، أو خمسين درهما . وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله .
وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : " يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " بأجوبة :
أحدها : أنه منسوخ بحديث عائشة . وفي هذا نظر ; لأنه لا بد من بيان التاريخ .
والثاني : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن ، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه .
والثالث : أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية ، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة .
وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ، ونظم في ذلك شعرا دل على جهله ، وقلة عقله فقال :
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوت له
وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم . وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله ، أنه قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت . ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها ، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ; ولهذا قال [ تعالى ] ( جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) أي : مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك ( نكالا من الله ) أي : تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك ( والله عزيز ) أي : في انتقامه ( حكيم ) أي : في أمره ونهيه وشرعه وقدره .
القول في تأويل قوله عز ذكره : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن سرقَ من رجل أو امرأة، فاقطعوا، أيها الناس، يَدَه= ولذلك رفع " السارق والسارقة "، لأنهما غير معيّنين. ولو أريد بذلك سارقٌ وسارقة بأعيانهما، لكان وجه الكلام النّصب.
* * *
وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: ( والسارقون والسارقات ).
11907 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا= قال: وربما قال: في قراءة عبد الله=( والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما ).
11908 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم: في قراءتنا: ( والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما ).
* * *
=وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه، وصحة الرفع فيه، وأن " السارق والسارقة " مرفوعان بفعلهما على ما وصفت، للعلل التي وصفت.
* * *
وقال تعالى ذكره: " فاقطعوا أيديهما "، والمعنى: أيديهما اليمنى، كما:-
11909 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " فاقطعوا أيديهما " اليمنى.
11910 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما ).
* * *
ثم اختلفوا في" السارق " الذي عناه الله عز ذكره.
فقال بعضهم: عنى بذلك سارقَ ثلاثة دراهم فصاعدًا. وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجّوا لقولهم ذلك، بأنّ:-
11911- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قطَع في مِجَنّ قيمته ثلاثةُ دَرَاهم. (4)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارق رُبع دينار أو قيمته. وممن قال ذلك، الأوزاعيّ ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت:
11912- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القطعُ في ربع دِينارٍ فصاعدًا. (5)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارقَ عشرة دراهم فصاعدًا. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس:
11913- أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع في مِجَنّ قيمته عَشْرة دراهم. (6)
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك سارقَ القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنْ ليس لأحد أنَ يخُصَّ منها شيئًا، إلا بحجة يجب التسليم لها. (7) وقالوا: لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بأن ذلك في خاصّ من السُرَّاق. قالوا: والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة، ولم يروِ عنه أحد أنه أتي بسارق درهمٍ فَخلَّى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانقٌ أن يَقْطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في دِرْهم.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه قال: الآيةُ على العموم.
11914 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله: " والسارق والسارقة "، أخاصّ أم عام؟ فقال: بل عام. (8)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: " الآية معنيّ بها خاصٌّ من السراق، وهم سُرَّاق ربع دينار فصاعدًا أو قيمته "، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القطعُ في ربع دينار فصاعدًا ". وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلّوا بها لأقوالهم، والبيانَ عن أولاها بالصواب، بشواهده، (9) في كتابنا " كتاب السرقة "، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع.
* * *
وقوله: " جزاء بما كسبا نكالا من الله "، يقول: مكافأةً لهما على سرقتهما وعملهما في التلصصّ بمعصية الله (10) =" نكالا من الله " يقول: عقوبة من الله على لُصُوصيتهما. (11)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
11915 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم "، لا تَرْثُوا لهم أن تقِيموا فيهم الحدود، (12) فإنه والله ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ، ولا نهى عن أمرٍ قَطُّ إلا وهو فساد. (13)
* * *
وكان عمر بن الخطاب يقول: " اشتدُّوا على السُّرَّاق، فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلا رجلا ".
* * *
وقوله: " والله عزيز حكيم " يقول جل ثناؤه: " والله عزيزٌ" في انتقامه من هذا السارق والسارقةِ وغيرهما من أهل معاصيه=" حكيم "، في حكمه فيهم وقضائه عليهم. (14)
يقول: فلا تفرِّطوا أيها المؤمنون، في إقامة حكمي على السرَّاق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودًا في الدنيا عقوبةً لهم، فإني بحكمتي قضيت ذلك عليهم، (15) وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم.
-----------------
الهوامش :
(4) الأثر: 11911- رواه بغير إسناد. رواه مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر في الموطأ: 831 ، ورواه البخاري من طريق مالك (الفتح 2: 93- 94) ، ورواه مسلم من طريقه أيضًا ، في صحيحه 11: 184 ، 185.
و"المجن": الترس ، لأنه يجن صاحبه ، أي يواريه.
(5) الأثر: 11912- ساقه هنا بغير إسناد أيضًا ، وقد مضى ص: 266 ، تعليق رقم: 1.
وهذا الخبر رواه البخاري بأسانيده (الفتح 12: 89- 91) ، ومسلم بأسانيده في صحيحه 11: 180- 183.
(6) الأثر: 11913- خبر ابن عباس رواه الطحاوي في معاني الآثار 2: 93. وكان في المخطوطة والمطبوعة أن هذا الخبر مروي أيضًا عن"عبد الله بن عمر" ، ولم أجد الرواية بذلك عن"ابن عمر بل الرواية التي احتجوا بها في كتب أصحاب أبي حنيفة هي ما قاله"عبد الله بن عمرو" ، رواها عنه"عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده". رواه أحمد في المسند برقم: 6900 ، وانظر تخريج أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 93 ، وأحكام القرآن للجصاص 2: 417 ، فلذلك صححت ما قبل هذا الأثر"عبد الله بن عمرو" ، لا كما كان في المطبوعة والمخطوطة"ابن عمر".
(7) في المطبوعة: "وأنه ليس لأحد" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8) الأثر: 11914-"عبد المؤمن بن خالد الحنفي المروزي" ، قاضي مرو. قال أبو حاتم: "لا بأس به" ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"نجدة بن نفيع الحنفي". روى عن ابن عباس. مترجم في التهذيب.
(9) في المطبوعة: "والتلميح عن أولاها بالصواب" ، والطبري لا يقول مثل هذا أبدًا. وفي المخطوطة: "والسارق عن أولاها بالصواب" ، وهو تحريف قبيح من عجلة الناسخ ، صواب قراءته ما أثبت.
(10) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزى).
= وتفسير"كسب" فيما سلف 9: 196 ، تعليق: 1 والمراجع هناك.
(11) انظر تفسير"النكال" فيما سلف 2: 176 ، 177/ 8: 580.
(12) "رثى له يرثى": رحمه ورق له.
(13) ولكننا قد أظلنا زمان عطلت فيه الحدود ، بزعم الرثاء لمن أصاب حدًا من حدود الله. وطالت ألسنة قوم من أهل الدخل ، فاجترأوا على الله بافترائهم ، وزعموا أن الذي يدعونه من الرحمة لأهل الحدود هو الصلاح ، وأن ما أمر الله به هو الفساد!! فاللهم نجنا من زمان تبجح فيه الأشرار بسلطانهم ، وتضاءل فيه أهل الإيمان بمعاصيهم.
(14) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف 9: 378 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
= وتفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(15) في المطبوعة والمخطوطة: "فإني بحكمي قضيت..." ، والأجود هنا ما أثبت.
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 228 | ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ |
---|
البقرة: 240 | ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ |
---|
المائدة: 38 | ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ |
---|
الأنفال: 67 | ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ |
---|
التوبة: 40 | ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
السارق والسارقة:
قرئا:
1- بالرفع، وهى قراءة الجمهور.
2- بالنصب، على الاشتغال، وهى قراءة عيسى بن عمر، وابن أبى عبلة.
3- والسارقون والسارقات، وهى قراءة عبد الله.
التفسير :
{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيغفر لمن تاب فترك الذنوب، وأصلح الأعمال والعيوب.
ثم فتح- سبحانه- لعباده باب التوبة فقال- تعالى-: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
أى: فمن تاب إلى الله- تعالى- توبة صادقة من بعد ظلمه لنفسه بسبب إيقاعها في المعاصي التي من أكبرها السرقة وأصلح عمله بالطاعات التي تمحو السيئات فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أى: يقبل توبته، ويغسل حوبته، إن الله واسع المغفرة والرحمة ومن مظاهر ذلك أنه سبحانه- فتح لعباده باب التوبة والإنابة.
فالآية الكريمة ترغب العصاة من السراق وغيرهم في التوبة إلى الله، وفي الرجوع إلى طاعته حتى ينالوا مغفرته ورحمته.
ثم قال تعالى : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) أي : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله ، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه ، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور .
وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها . وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقال : " ما إخاله سرق " ! فقال السارق : بلى يا رسول الله . قال : " اذهبوا به فاقطعوه ، ثم احسموه ، ثم ائتوني به " . فقطع فأتي به ، فقال : " تب إلى الله " . فقال : تبت إلى الله . فقال : " تاب الله عليك " .
وقد روي من وجه آخر مرسلا ورجح إرساله علي ابن المديني وابن خزيمة رحمهما الله ، روى ابن ماجه من حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه ; أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني! فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا . فأمر به فقطعت يده . قال ثعلبة : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك ، أردت أن تدخلي جسدي النار .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حليا ، فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، سرقتنا هذه المرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقطعوا يدها اليمنى " . فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " ! قال : فأنزل الله عز وجل : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم )
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا ، فقال : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، إن هذه المرأة سرقتنا! قال قومها : فنحن نفديها ، فقال رسول الله : " اقطعوا يدها " فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار . قال : " اقطعوا يدها " . قال : فقطعت يدها اليمنى . فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال : " نعم ، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " . فأنزل الله في سورة المائدة : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم )
وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصحيحين ، من رواية الزهري عن عروة عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، في غزوة الفتح ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟ " فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله . فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد ، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " . ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها . قالت عائشة [ رضي الله عنها ] فحسنت توبتها بعد ، وتزوجت ، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا لفظ مسلم وفي لفظ له عن عائشة قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .
وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي - وهذا لفظه - وفي لفظ له : أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله وترد ما تأخذ على القوم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها "
وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .
القول في تأويل قوله عز ذكره : فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: " فمن تاب "، من هؤلاء السراق، يقول: من رجع منهم عمَّا يكرهه الله من معصيته إيَّاه، إلى ما يرضاه من طاعته (16) =" من بعد ظلمه "، و " ظلمه "، هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس (17) =" وأصلح "، (18) يقول: وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله، &; 10-299 &; والتوبة إليه ممَّا كان عليه من معصيته. (19)
وكان مجاهد -فيما ذكر لنا- يقول: توبته في هذا الموضع، الحدُّ الذي يقام عليه.
...............................................................................
...................................... (20)
* * *
11916 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح "، فتاب عليه، يقول: الحدُّ. (21)
11917 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ اليومَ من خطيئتك كيوم ولدتك أمك! قال: فأنـزل الله جل وعز: " فمن تاب من بعد ظُلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ". (22)
* * *
وقوله: " فإن الله يتوب عليه "، يقول: فإن الله جل وعز يُرْجعه إلى ما يحبّ ويرضى، عما يكرَه ويسخط من معصيته. (23)
* * *
وقوله: " إن الله غفور رحيم " يقول: إن الله عز ذكره ساترٌ على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبَه، بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة، وتركه فضيحتَه بها على رءوس الأشهاد=" رحيم " به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم. (24)
-----------------
الهوامش :
(16) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة.
(17) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس الغة.
(18) زدت قوله تعالى: "وأصلح" ، ليتم سياق أبي جعفر ، كما جرى عليه في تفسيره ، ولم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة.
(19) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف 9: 340 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.
(20) وضعت هذه النقط ، لأني قدرت أن قول مجاهد قد سقط من الناسخ ، أو من أبي جعفر نفسه. وذلك أن الخبر الآتي بعده عن ابن عباس ، لا عن مجاهد.
(21) في المطبوعة: "يقول: فتاب عليه بالحد" ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب. يعني أن توبة الله عليه بعد الحد الذي يقام عليه لتوبته.
(22) الأثر: 11917-"موسى بن داود الضبي" ، ثقة من شيوخ أحمد ، مضى برقم: 10190 = و"ابن لهيعة" ، مضى مرارًا.
و"حيي بن عبد الله بن شريح المعافري الحبلي المصري". روى له الأربعة ، ثقة. تكلم فيه أحمد وقال: "عنده مناكير". وقال البخاري: "فيه نظر". وقال ابن معين"ليس به بأس" وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة". وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"أبو عبد الرحمن الحبلي" هو"عبد الله بن يزيد المعافري" ، تابعي ثقة. مضى برقم: 6657 ، 9483.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: 6657 ، من طريق حسن بن موسى عن ابن لهيعة ، عن حيي ، مطولا مفصلا ، وخرجه أخي السيد أحمد هناك وقال: "إسناده صحيح".
ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 152 ، ثم نقل رواية أحمد ، ثم قال: "وهذه المرأة ، هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصححين ، من رواية الزهري ، عن عروة ، عن عائشة". ثم انظر فتح الباري (12: 76- 86) ، وصحيح مسلم 11: 186- 188.
والمرأة التي سرقت هي: "فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" (ابن سعد 8: 192) ، وقد استوفى الحافظ ابن حجر خبرها في شرح هذا الحديث في الفتح.
(23) في المطبوعة: "عما يكرهه...." وأثبت الصواب من المخطوطة.
(24) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
وذلك أن لله ملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما بما شاء من التصاريف القدرية والشرعية، والمغفرة والعقوبة، بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته.
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على شمول قدرته، ونفاذ إرادته بصيغة الاستفهام التقريرى فقال- تعالى-: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بحيث يتصرف فيهما وفي غيرهما من خلقه تصرف المالك في ملكه بدون مدافع أو منازع.
فالاستفهام هنا لتقرير العلم وتأكيده. أى إنك تعلم أيها العاقل ذلك علما. متيقنا، فاعمل بمقتضى هذا العلم، بأن تكون مطيعا لخالقك في كل ما أمر ونهى وبأن تدعو غيرك إلى هذه الطاعة.
وقوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ تأكيد لشمول قدرته ونفاذ إرادته، أى: هو-سبحانه- المالك لكل شيء، والخالق لكل شيء وهو صاحب السلطان المطلق في خلقه، فله- سبحانه- أن يعذب من يشاء تعذيبه وله أن يرحم من يشاء رحمته.
قال الآلوسى: وكان الظاهر لحديث: «سبقت رحمتي غضبى» ، تقديم المغفرة على التعذيب، وإنما عكس هنا، لأن التعذيب للمصر على السرقة، والمغفرة للتائب منها. وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق.
أو لأن المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله- تعالى- والأول في الدنيا والثاني في الآخرة، فجيء به على ترتيب الوجود. ولأن المقام مقام الوعيد .
وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما قبله، ومقرر لشمول قدرته- سبحانه- على كل شيء.
هذا وقد تكلم العلماء عن معنى السرقة، وعن شروط إقامة حدها، وعن طريقة إثباتها.
وعن غير ذلك من المسائل المتعلقة بها، تكلموا عن كل ذلك باستفاضة في كتب الفقه وفي بعض كتب التفسير.
ونرى أنه لا بأس من ذكر خلاصة لبعض المسائل التي تحدثوا عنها فنقول:
1- عرف الفقهاء السرقة شرعا بأنها أخذ العاقل البالغ مقدارا مخصوصا من المال على طريق الاستخفاء من حرز بمكان أو حافظ وبدون شبهة.
2- وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به، سواء أكان قليلا أم كثيرا، لعموم هذه الآية.
ولكن جمهور الفقهاء يرون أنه لا تقطع يد السارق إلا إذا بلغ المسروق قدرا معينا من المال، وقد تفاوتت أنظارهم في هذا القدر.
فالاحناف يرون أنه لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا، أو فيما قيمته عشرة دراهم. ومن حججهم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» .
والمالكية والشافعية يرون أنه لا قطع إلا في ربع دينار أو فيما قيمته ذلك.
ومن حججهم ما روى عن عائشة أنها قالت: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» .
قال القرطبي: وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» فبين أنه إنما أراد بقوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بعض السراق دون بعض، فلا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، ويقطع في ربع دينار أو فيما قيمته ربع دينار أو في ثلاثة دراهم.. وقال أحمد: إن سرق ذهبا فربع دينار. وإن سرق غير الذهب والفضة فالقيمة ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق» .
وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري: لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا، أو في دينار ذهبا عينا أو وزنا. ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك صاحبه.. ثم قال: وتقطع اليد من الرسغ. ولا خلاف في أن اليمنى هي التي تقطع أولا» .
3- وقد اشترط الفقهاء في المال المسروق الذي تقطع فيه يد السارق أن يكون ما لا محرزا، أى مصونا محفوظا معنيا بحفظه العناية اللائقة بمثله.
قال القرطبي: الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله. قال ابن المنذر: ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم. وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم. وحكى عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز. وفي الموطأ لمالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في ثمر معلق- أى في ثمر على الأشجار- ولا حريسة جبل- أى ما يحرس بالجبل- فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» .
كذلك اشترطوا عدم الشبهة في المال المسروق، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» .
فلا يقطع من سرق ما لا له فيه شركة، أو سرق من مدينه مثل دينه، ولا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده. ولا الأب إذا سرق من مال ابنه وما أشبه ذلك لوجود الشبهة.
كذلك اشترطوا في المسروق الذي يجب فيه الحد أن يكون ما لا متقوما. أى: مما يتموّله الناس، ويعدونه لمقاصدهم المختلفة فلا تقطع يد السارق إذا سرق شيئا تافها، أو سرق شيئا مما لا يتمول كالتراب والطين والماء وما يشبه ذلك.
كذلك اشترطوا فيه ألا يكون مما يحرم تناوله أو استعماله. فإذا كان مما يحرم تناوله أو استعماله كالخمر أو الخنزير أو أدوات اللهو والمجون فإنه في تلك الأحوال لا تقطع يد السارق.
وهكذا نرى أن الشريعة الإسلامية وإن كانت قد شرعت العقوبات الشديدة لزجر العصاة والمفسدين والخائنين.. إلا أنها لا تطبق هذه العقوبات إلا على الذين يستحقونها، وفي أضيق الحدود، وبأدق الشروط، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» .
ولو أن المسلمين ساروا على هدى شريعة الله لنالوا الأمان والاطمئنان في دنياهم، والفوز والرضا من الله- تعالى- في أخراهم.
4- كذلك أخذ أكثر الشافعية والحنابلة من قوله- تعالى- فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أن التوبة تمنع إقامة الحد.
قالوا: لأن هذه الآية قد اقترنت بقوله- تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما فكانت مخصصة للعموم في الأمر بالقطع، وإلا ما اقترنت به ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة أن التوبة تجب ما قبلها ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ويرى الأحناف والمالكية أن التوبة لا تسقط الحد، لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد كما جاءت بذلك الأحاديث النبوية.
قال ابن كثير: قوله- تعالى- فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ. إلخ. أى: من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله إن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه. فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو رد بدلها. وهذا عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة: متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها.
وقد روى الدّارقطنيّ عن أبى هريرة أن رسول الله أتى بسارق قد سرق شملة فقال «ما إخاله قد سرق» . فقال السارق: بلى يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به» . فقطع فأتى به فقال: تب إلى الله، فقال: تبت إلى الله. فقال: «تاب الله عليك» - أى: قبل توبتك.
وروى ابن ماجة عن ثعلبة الأنصارى: أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«يا رسول الله، إنى سرقت جملا لبنى فلان فطهرني. فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار» .
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله: إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- «اقطعوا يدها. فقطعت يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فأنزل الله- تعالى-: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ الآية .
هذه خلاصة لبعض المسائل والأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى ما كتبه الفقهاء في كتبهم، وإلى ما كتبه بعض المفسرين في تفاسيرهم .
وبعد أن بين- سبحانه- ما بين من تكاليف قويمة، وشرائع حكيمة، تهدى من اتبعها إلى السعادة في الدنيا والآخرة. أتبع ذلك بالحديث عن بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود وأشباههم لكيد الدعوة الإسلامية، فذكر تلاعبهم بأحكامه- تعالى-، ومحاولتهم فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم عند تقاضيهم أمامه، وحذر- سبحانه- رسوله من مكرهم وساق له ما يسليه ويشرح صدره، فقال- تعالى-:
ثم قال تعالى : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) أي : هو المالك لجميع ذلك ، الحاكم فيه ، الذي لا معقب لحكمه ، وهو الفعال لما يريد ( يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير )
القول في تأويل قوله عز ذكره : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم يعلم هؤلاء= [يعني القائلين]: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ، الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه (25) = أن الله مدبِّر ما في السموات وما في الأرض، ومصرفه وخالقه، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أرادَه، لأن كل ذلك ملكه، وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيهما ولا مما في واحدة منهما، فيحابيه بسبب قرابته منه، فينجيه من عذابه، وهو به كافر، ولأمره ونهيه مخالف= أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه، ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتّوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهلكة، وينجيه من العقوبة =" والله على كل شيء قدير "، يقول: والله جل وعز على تعذيب من أرَاد تعذيبه من خلقه على معصيته، وغفرانِ ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الأمور كلها= قادرٌ، لأن الخلق خلقُه، والملك ملكه، والعباد عباده.
* * *
وخرج قوله: " ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض "، (26) خطابًا له صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به من ذكرتُ من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حَوَاليها. وقد بيَّنا استعمال العرب نظيرَ ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (27)
----------------
الهوامش :
(25) كان في المطبوعة: "ألم يعلم هؤلاء القائلون...الزاعمون" ، وفي المخطوطة: "ألم يعلم هؤلاء القائلين... الزاعمين" ، فأثبت ما في المخطوطة ، وزدت"يعني" بين قوسين ، فإني أرجح أنها سقطت من الناسخ.
(26) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من نظائرها ، في فهارس اللغة.
(27) انظر ما سلف 2: 484- 488.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 106 | ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ |
---|
البقرة: 107 | ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ |
---|
المائدة: 40 | ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ |
---|
الحج: 70 | ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان، ثم يرجع إلى الكفر، فأرشده الله تعالى، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء. فإن هؤلاء لا في العير ولا في النفير. إن حضروا لم ينفعوا، وإن غابوا لم يفقدوا، ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم - فقال:{ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} فإن الذين يؤسى ويحزن عليهم، من كان معدودا من المؤمنين، وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا, وحاشا لله أن يرجع هؤلاء عن دينهم ويرتدوا، فإن الإيمان -إذا خالطت بشاشته القلوب- لم يعدل به صاحبه غيره، ولم يبغ به بدلا.{ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي:اليهود{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي:مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي. وهؤلاء الرؤساء المتبعون{ لَمْ يَأْتُوكَ} بل أعرضوا عنك، وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن مواضعه، أي:جلب معان للألفاظ ما أرادها الله ولا قصدها، لإضلال الخلق ولدفع الحق، فهؤلاء المنقادون للدعاة إلى الضلال، المتبعين للمحال، الذين يأتون بكل كذب، لا عقول لهم ولا همم. فلا تبال أيضا إذا لم يتبعوك، لأنهم في غاية النقص، والناقص لا يؤبه له ولا يبالى به.{ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي:هذا قولهم عند محاكمتهم إليك، لا قصد لهم إلا اتباع الهوى. يقول بعضهم لبعض:إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم، فاقبلوا حكمه، وإن لم يحكم لكم به، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك، وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس.{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} كقوله تعالى:{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي:فلذلك صدر منهم ما صدر. فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه، وأنه إن حكم له رضي، وإن لم يحكم له سخط، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به، وافق هواه أو خالفه، فإنه من طهارة القلب، ودل على أن طهارة القلب، سبب لكل خير، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد.{ لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي:فضيحة وعار{ وَلَهُم فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو:النار وسخط الجبار.
وردت أحاديث متعددة في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، ومن ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة قد زنيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم. إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها.
فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يميل نحو المرأة يقيها الحجارة .
وروى مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود- أى قد وضع الفحم الأسود على وجهه للتنكيل به- فدعاهم فقال. هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا: نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال:
لا والله ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، تجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد- مكان الرجم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال: فأمر به فرجم. قال: فأنزل الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ .
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وفَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا . وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا خوفا منكم، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما. ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت:
والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم. ولقد صدقوا. ما أعطونا هذا إلا خوفا منا. فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه. إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم لا تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوه أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا. فأنزل الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ إلى قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ .
قال ابن كثير- بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها- فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بما يوافق حكم التوراة. وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله- تعالى- إليه بذلك وسؤالهم إياه عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحوده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة. فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه، ظهر زيفهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ، أى: إن حكم بالجلد والتحميم فاقبلوا حكمه، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أى: وإن لم يحكم بذلك فاحذروا من قبوله واتباعه .
وبمطالعتنا لهذه الأحاديث التي وردت في سبب نزول الآيات، نراها جميعها قد وردت بأسانيدها صحيحة وفي كتب السنة المعتمدة، وأن بعضها قد حكى أن الآيات نزلت في شأن القضية التي تحاكم فيها اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها قد حكى أنها نزلت في قضية دماء.
ولا تعارض بين هذه الأحاديث، فقد يكون هذان السببان قد حصلا في وقت واحد، أو متقارب، فنزلت هذه الآيات فيهما معا. وقد قرر العلماء أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات.
هذا، وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بنداء من الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال- سبحانه-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا.
قال القرطبي: قوله- تعالى- لا يَحْزُنْكَ قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاى وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاى. والحزن خلاف السرور. ويقال: حزن الرجل- بالكسر- فهو حزن وحزين» .
والمعنى: يا أيها الرسول الكريم إن ربك يقول لك: لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين، وبأولئك اليهود الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة، ويقولون بأفواههم آمنا بك وصدقناك، مع أن قلوبهم خالية من الإيمان، ومليئة بالنفاق والفسوق والعصيان.. لا تهتم- أيها الرسول الكريم- بهؤلاء جميعا، فإنى ناصرك عليهم، وكافيك شرهم.
وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة يا أَيُّهَا الرَّسُولُ تشريف له وتكريم وإشعار بأن وظيفته كرسول أن يبلغ رسالة الله دون أن يصرفه عن ذلك عناد المعاندين، أو كفر الكافرين، فإن تكاليف الرسالة تحتم عليه الصبر على أذى أعدائه حتى يحكم الله بينه وبينهم.
والنهى عن الحزن- وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه- المراد به هنا: النهى عن لوازمه، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب. وتعظيم أمرها، وبذلك تتجدد الآلام، وتعز السلوى.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيس لقلبه، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور حتى لا يتأثر بها عند وقوعها.
وفي التعبير بقوله: يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ذم لهم على انحدارهم في دركات الكفر بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر. فهم يتنقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخله دون أن يزعهم وازع من خلق أو دين.
قال صاحب الكشاف: يقال: أسرع فيه الشيب، وأسرع فيه الفساد بمعنى: وقع فيه سريعا. فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه، بحيث إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها» وقال أبو السعود: والمسارعة في الشيء: الوقوع فيه بسرعة ورغبة. وإيثار كلمة فِي على كلمة إلى، للإيمان إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه.
وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين، وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك» وقوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ بيان لأولئك المسارعين في الكفر.
والمتنقلين في دركاته من دركة إلى دركة.
وقوله بِأَفْواهِهِمْ متعلق بقوله: قالُوا وقوله: وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ جملة حالية من ضمير، قالوا.
وقوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا معطوف على قوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وعليه فيكون الذين هادوا داخلين في الذين يسارعون في الكفر.
أى أن المسارعين في الكفر فريقان: فريق المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وفريق اليهود الذين تميزوا بهذا الإسم واشتركوا مع المنافقين في نفاقهم والمعنى: لا تهتم يا محمد بأولئك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود الذين من صفاتهم أنهم يظهرون الإيمان على أطراف ألسنتهم والحال أن قلوبهم خالية منه.
وعلى هذا المعنى يكون الكلام قد تم عند قوله- تعالى- وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا، ويكون ما بعده وهو قوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. ألخ. من أوصاف الفريقين معا، لأنهم مشتركون في المسارعة في الكفر.
ومنهم من يرى أن قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا جمله مستأنفة لبيان أحوال فريق آخر من الناس وهم اليهود، وأن قوله- تعالى- بعد ذلك سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إلخ. من أوصاف هؤلاء اليهود، وأن الكلام قد تم عند قوله- تعالى- وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وأن البيان بقوله:
مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ لفريق المنافقين.
قال الفخر الرازي: قوله وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ذكر الفراء والزجاج ها هنا وجهين:
الأول: أن الكلام إنما يتم عند قوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ثم يبدأ الكلام من قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين للكذب.
الثاني: أن الكلام تم عند قوله- تعالى-: وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ثم ابتدأ من قوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وعلى هذا التقدير فقوله سَمَّاعُونَ صفة لمحذوف.
والتقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون .
قال الجمل: الأولى والأحسن أن يكون قوله: ووَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا معطوفا على البيان وهو قوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا فيكون البيان بشيئين المنافقين واليهود. أما على القول الثاني فيكون البيان بشيء واحد وهو المنافقون» .
وقوله: سَمَّاعُونَ للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك صفتان أخريان لأولئك الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة.
وقوله: سَمَّاعُونَ جمع سماع. وهو صيغة مبالغة جيء بها لإفادة أنهم كثير والسماع للكذب، وأنهم لفساد نفوسهم يجدون لذة في الاستماع إليه من رؤسائهم وأحبارهم، ومن هم على شاكلتهم في العناد والضلال.
واللام في قوله: لِلْكَذِبِ للتقوية أى: أنهم يسمعون الكذب كثيرا سماع قبول وتلذذ، ويأخذونه ممن يقوله من أعداء الإسلام على أنه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها.
وقيل إن اللام للتعليل أى أنهم كثير والسماع لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولأخباره من أجل الكذب عليه، عن طريق تغيير وتبديل ما سمعوه على حسب ما تهواه نفوسهم المريضة.
وقوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ بيان لمسلك آخر من مسالكهم الخبيثة بعد بيان احتفالهم بالأخبار الكاذبة، وتقبلها بفرح وسرور.
أى: أن هؤلاء المسارعين في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم أنهم كثير والسماع للأكاذيب التي يروجها أعداء الدعوة الإسلامية ضدها كثير والسماع والقبول والاستجابة لما يقوله عنها قوم آخرون من أعدائها لم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تكبرا وعتوا.
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كثير والسماع للكذب عن محبة ورغبة، وأنهم كثير والسماع لما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لينقلوه إلى قوم آخرين- من أشباههم في الكفر والعناد- ولم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضا فأنت ترى أن القرآن قد وصفهم بفساد بواطنهم حيث استحبوا الكذب على الصدق. كما وصفهم بضعف نفوسهم حيث صاروا مطايا لغيرهم يطيعون أمرهم ويبلغون أخبار المسلمين، فهم عيون على المسلمين ليبلغوا أخبارهم إلى زعماء الكفر والنفاق.
وإلى هذين المعنيين أشار صاحب الكشاف بقوله: ومعنى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه، من قولك: الملك يسمع كلام فلان، ومنه سمع الله لمن حمده.
وقوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يعنى اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدة البغضاء. وتبالغ من العداوة، أى: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك وقيل: سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه، بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه» .
وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ. صفة أخرى للقوم الآخرين الذين لم يأتوا إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضا. أو للمسارعين في الكفر من الفريقين.
وقوله: يُحَرِّفُونَ من التحريف وأصله من الحرف وهو طرف الشيء.
ومعناه إمالة الكلام عن معناه، وإخراجه عن أطرافه وحدوده.
والكلم: اسم جنس جمعى للفظ كلمة ومعناه الكلام.
أى أن هؤلاء القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلسك نفورا منك، أو هم والمسارعون في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم ودأبهم تحريف جنس الكلم عن مواضعه. فهو يحرفون كلامك يا محمد، ويحرفون التوراة، ويحرفون معاني القرآن حسب أهوائهم وشهواتهم ويحرفون الحق الذي جئت به تارة تحريفا لفظيا، وتارة تحريفا معنويا، وتارة بغير ذلك من وجوه التحريف والتبديل.
وقوله: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أى: يحرفون الكلم من بعد استقرار مواضعه وبيان حلالها وحرامها.
وعبر هنا بقوله «من بعد مواضعه» وفي مواطن أخرى بقوله عَنْ مَواضِعِهِ لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التي حاول أولئك المسارعون في الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعا لأهوائهم كما حدث في قضية الزنا وفي غيرها من القضايا التي تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أى: من بعد استقرار مواضعه وثبوتها ثبوتا لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإهمال.
وقوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا بيان لما نطقت به أفواه أولئك الذين لم يحضروا مجالس رسول الله من مكر وخداع وضلال.
أى: أن أولئك القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا وتكبرا لم يكتفوا بتحريف الكلم عن مواضعه هم وأشياعهم. بل كانوا إلى جانب ذلك يقولون لمطاياهم السامعين منهم أو السامعين من أجلهم: يقولون لهم عند ما أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أى: إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم يمثل هذا الذي نفتيكم به- كالجلد والتحميم بدل الرجم- فاقبلوا حكمه وخذوه واعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أى: وإن أفتاكم بغير ما أفتيناكم به فاحذروا قبول حكمه، وإياكم أن تستجيبوا له، أو تميلوا إلى ما قاله لكم.
واسم الإشارة هذا في قوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا يعود إلى القول المحرف الذي تواضع أحبار اليهود على الإفتاء به تبعا لأهوائهم. كما حدث منهم في قضية الزنا حيث غيروا حكم الرجم بحكم آخر هو الجلد والتحميم.
وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل.
وقوله: إِنْ أُوتِيتُمْ مفعول لقوله قَدِيرٌ. واسم الإشارة يَقُولُونَ مفعول ثان «لأوتيتم» والأول نائب الفاعل وقوله: فَخُذُوهُ جواب الشرط ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
أى: ومن يقض الله بكفره وضلاله، فلن تملك له- أيها الرسول الكريم- شيئا من الهداية لتدفع بها ضلاله وكفره، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة لم يرد الله- تعالى- أن يطهر قلوبهم من النفاق والضلال لأنهم استحبوا العمى على الهدى، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أى: فضيحة وهوان بسبب ظهور كذبهم، وفساد نفوسهم، وانتشار تعاليم الإسلام التي يحاربونها ويشيعون الأباطيل حولها وحول من جاء بها صلى الله عليه وسلم.
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو خلودهم في النار بسبب اجتراحهم السيئات، ومحاربتهم لمن جاءهم بالحق والهدى والسعادة.
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله ، عز وجل ( من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون . ( ومن الذين هادوا ) أعداء الإسلام وأهله . وهؤلاء كلهم ( سماعون للكذب ) أي : يستجيبون له ، منفعلون عنه ( سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) أي : يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد . وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام ، وينهونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك ، من أعدائك ( يحرفون الكلم من بعد مواضعه ) أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا )
قيل : نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .
والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين . فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال : إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا صدق يا محمد ، فيها آية الرجم ! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .
وأخرجاه وهذا لفظ البخاري . وفي لفظ له : " فقال لليهود : ما تصنعون بهما؟ " قالوا : نسخم وجوههما ونخزيهما . قال : ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) [ آل عمران : 93 ] فجاءوا ، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور : اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه ، قال : ارفع يدك . فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال : يا محمد إن فيها آية الرجم ، ولكنا نتكاتمه بيننا . فأمر بهما فرجما .
وعند مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى؟ " قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما ، قال : ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) قال : فجاءوا بها ، فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها . فقال له عبد الله بن سلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - : مره فليرفع يده . فرفع يده ، فإذا تحتها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه ، عن ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدارس ، فقالوا : يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة ، فاحكم قال : ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة ، فجلس عليها ، ثم قال : " ائتوني بالتوراة " . فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ، ووضع التوراة عليها ، وقال : " آمنت بك وبمن أنزلك " . ثم قال : " ائتوني بأعلمكم " . فأتي بفتى شاب ، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع .
وقال الزهري : سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي ، فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، قلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدارسهم ، فقام على الباب فقال : " أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا : يحمم ، ويجبه ويجلد . والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما . قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ، ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة ، فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ " قال : زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في أثره من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإني أحكم بما في التوراة " فأمر بهما فرجما . قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ) فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم .
رواه أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - وابن جرير
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود ، فدعاهم فقال : " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " فقالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " فقال : لا والله ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " . قال : فأمر به فرجم ، قال : فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) إلى قوله : ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ) يقولون : ائتوا محمدا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : في اليهود إلى قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) قال : في اليهود ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) قال : في الكفار كلها .
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه ، عن الأعمش به .
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة عن مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فدك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، تسألوه عن ذلك ، قال : " أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم " . فجاءوا برجل أعور - يقال له : ابن صوريا - وآخر ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتما أعلم من قبلكما؟ " . فقالا قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : " أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟ " قالا : بلى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ، وأنجاكم من آل فرعون وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقال أحدهما للآخر : ما نشدت بمثله قط . قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية ، والقبل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد ، كما يدخل الميل في المكحلة ، فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك " . فأمر به فرجم ، فنزلت : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين )
ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث مجالد به نحوه . ولفظ أبي داود عن جابر قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " . فأتوا بابني صوريا ، فنشدهما : " كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ " قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما ، قال : " فما يمنعكم أن ترجموهما؟ " قالا ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما .
ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلا ولم يذكر فيه : " فدعا بالشهود فشهدوا " .
فهذه أحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته ; لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله ، عز وجل إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم ، مما تراضوا على كتمانه وجحده ، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه ، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم ، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، لهذا قالوا ) إن ) أوتيتم هذا والتحميم ( فخذوه ) أي : اقبلوه ( وإن لم تؤتوه فاحذروا ) أي : من قبوله واتباعه .
قال الله تعالى : ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب ) أي : الباطل ( أكالون للسحت ) أي : الحرام ، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد أي : ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه؟ وأنى يستجيب له .
ثم قال لنبيه : ( فإن جاءوك ) أي : يتحاكمون إليك ( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ) أي : فلا عليك ألا تحكم بينهم ; لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق ، بل ما وافق هواهم .
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني : هي منسوخة بقوله : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) [ المائدة : 49 ] ، ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) أي : بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل ( إن الله يحب المقسطين )
ثم قال تعالى - منكرا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره ، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم - فقال : ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين )
ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) أي : لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها ( والربانيون والأحبار ) أي : وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء ، والأحبار وهم العلماء ( بما استحفظوا من كتاب الله ) أي : بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ( وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ) أي : لا تخافوا منهم وخافوني ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) فيه قولان سيأتي بيانهما . سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( فأولئك هم الظالمون ) [ المائدة : 45 ] ( فأولئك هم الفاسقون ) [ المائدة : 47 ] قال : قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما ، لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومئذ لم يظهر ، ولم يوطئهما عليه ، وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى الذليلة : أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد : دية بعضهم نصف دية بعض . إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم ، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ، فدسوا إلى محمد : من يخبر لكم رأيه ، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله ، وما أرادوا ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) إلى قوله : ( الفاسقون ) ففيهم - والله - أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل .
ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه ، بنحوه .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآيات في " المائدة " ، قوله : ( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) إلى ( المقسطين ) إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف ، تؤدى الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يودون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء - والله أعلم ؛ أي ذلك كان .
ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير وكانت النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق تمر . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت : ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط )
ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك ، من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه .
وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وابن زيد وغير واحد .
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس : أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، كما تقدمت الأحاديث بذلك . وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم .
ولهذا قال بعد ذلك : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ) إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب - زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة .
وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها . رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال : من السحت : قال : فقالا وفي الحكم ؟ قال : ذاك الكفر ! ثم تلا ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )
وقال السدي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) يقول : ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا ، أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين [ به ]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر . ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق . رواه ابن جرير .
ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب .
وقال عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا عن الشعبي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) قال : للمسلمين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر عن الشعبي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : هذا في المسلمين ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) قال : هذا في اليهود ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) قال : هذا في النصارى .
وكذا رواه هشيم والثوري عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي .
وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : ( ومن لم يحكم [ بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] ) قال : هي به كفر - قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
وقال الثوري عن ابن جريج عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .
وقال وكيع عن سفيان عن سعيد المكي عن طاوس : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : ليس بكفر ينقل عن الملة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس في قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه .
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن حديث سفيان بن عيينة وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: نـزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر، بقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إنما هو الذَّبح، فلا تنـزلوا على حكم سعد ".
ذكر من قال ذلك:
11918 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم "، قال: نـزلت في رجل من الأنصار= زعموا أنه أبو لبابة= أشارت إليه بنو قريظة يوم الحصار، ما الأمر؟ وعلام ننـزل؟ فأشار إليهم أنه الذَّبح.
* * *
وقال آخرون: بل نـزلت في رجل من اليهود سأل رجلا من المسلمين يسألُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حُكمه في قتِيلٍ قتله.
ذكر من قال ذلك:
11919 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر: " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر "، قال: كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل دينه، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين: سلوا ليِ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن بُعِثَ بالدية اختصمنا إليه، (28) وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته.
11920 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن زكريا، عن عامر، نحوه.
* * *
&; 10-303 &;
وقال آخرون: بل نـزلت في عبد الله بن صوريا، وذلك أنه ارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك:
11921 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدّثهم: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، (29) وقد زنَى رجل منهم بعد إحصانه، بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا، انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد =صلى الله عليه وسلم= فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولُّوه الحكم عليهما، (30) فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه (31) = وهو الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار، ثم تُسوَّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتحوَّل وجوههما من قبل دُبُر الحمار = فاتبعوه، فإنما هو ملكٌ. وإن هو حكم فيهما بالرجم، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. (32) فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه &; 10-304 &; وسلم حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس، (33) فقال: " يا معشر اليهود، أخرجوا إليّ أعلمكم!" فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور= وقد روى بعض بني قريظة، (34) أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا! فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصَّل أمرهم، إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة (35) = فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سنًّا، فألظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألةَ، (36) يقول: يا ابن صوريا، أنشُدك الله واذكِّرك أياديه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم فيمن زنىَ بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم! أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسلٌ، ولكنهم يحسدونك! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده، في بني غنم بن مالك بن النجار. (37) ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنـزل الله جل وعز: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ". (38)
11922 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد= عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديٍّ محمَّم مجلود، (39) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من علمائهم &; 10-305 &; فقال: أهكذا تجِدُون حدَّ الزاني فيكم؟ قال: نعم! قال: فأنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزنى فيكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أحدِّثك، ولكن الرجم، ولكن كثرُ الزنا في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: " تعالوا نجتمع فنضع شيئًا مكان الرجم، فيكون على الشريف والوضيع "، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرجم! فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أنا أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه! (40) فأمر به فرجم، فأنـزل الله: " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " الآية. (41)
11923 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري قال: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب، وعند سعيد رجل يوقِّره، فإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شَهِد الحديبية، وكان من أصحاب أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم=
11924- ح، وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني رجل من مزينة ممن يَتَّبع العلمَ ويعيه، حدَّث عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من اليهود، وكانوا قد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن، (42) فقال بعضهم لبعض: إن هذا النبي قد بعث، وقد علمتم أنْ قد فُرِض عليكم الرجْم في التوراة فكتمتموه، واصطلحتم بينكم على عقوبة دونه، فانطلقوا نسأل هذا النبي، (43) فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم، تركنا ذلك، فقد تركنا ذلك في التوراة، فهي أحق أن تُطَاع وتصدَّق! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟ قال أبو هريرة: فلم يَرْجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام وقمنا معه، فانطلق يؤمُّ مِدْراس اليهود، حتى أتاهم فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدراس، فقال لهم: يا معشر اليهود، أنشُدكم بالله الذي أنـزل التوراة على موسى، ماذا تجدون في التوراة من العُقوبة على من زنى وقد أحصن؟ قالوا: إنا نجده يحمَّم ويُجْلَد! وسكت حَبْرهم في جانب البيت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صَمته، ألظَّ يَنْشُدُه، فقال حبرهم: اللهم إذْ نَشَدتنا فإنا نجد عليهم الرجم! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فماذا كان أوّلُ ما ترخَّصتم به أمرَ الله "؟ قال: زنى ابن عم ملك فلم يرجمه، ثم زنى رجل آخر في أسرة من الناس، فأراد ذلك الملك رجمه، فقام دونه قومُه فقالوا: والله لا ترجمه حتى ترجُم فلانًا ابن عم الملك! فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقضي بما في التوراة! فأنـزل الله في ذلك: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " إلى قوله: وَمَنْ لَمْ &; 10-307 &; يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . (44)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك المنافقون.
ذكر من قال ذلك:
11925 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير في قوله: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم "، قال: هم المنافقون.
11926 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "آمنا بأفواههم " قال يقول: هم المنافقون= سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ، قال: هم أيضًا سماعون لليهود. (45)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، (46) أن يقال: عني بقوله: (47) " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم "، قومٌ من المنافقين. وجائزٌ أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية ابنُ صوريا= وجائز أن يكون أبو لبابة= وجائز أن يكون غيرُهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك، ما ذكرناه من الرواية قبلُ عن أبي هريرة والبراء بن عازب، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيحُ من القول فيه أن يقال: عُنِي به عبد الله بن صوريَا.
وإذا صحّ ذلك، كان تأويل الآية: يا أيُّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوّتك، والتكذيبِ بأنك لي نبي، من الذين قالوا: " صدَّقنا بك يا محمد أنك لله رسول مبعوث، وعلمنا بذلك يقينًا، بوجودنا صِفَتك في كتابنا ". (48)
وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق عن الزهري: (49) أن ابن صُوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما والله يا أبا القاسم، إنهم ليعلمون أنك نبى مُرسَل، ولكنهم يحسدونك ". فذلك كان =على هذا الخبر= من ابن صوريا إيمانًا برسول الله صلى الله عليه وسلم بفيه، ولم يكن مصدِّقًا لذلك بقلبه. فقال الله جل وعزّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مُطْلِعَه على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه، يقول: ولم يصدِّق قلبه بأنك لله رسول مرسل. (50)
* * *
القول في تأويل قوله عز وجلّ : وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسولُ لا يحزنك تسرُّع من تسرَّع من هؤلاء المنافقين= الذين يظهرون بألسنتهم تصديقَك، وهم معتقدون تكذيبك= إلى الكفر بك، ولا تسرُّعُ اليهود إلى جحود نبوّتك. (51) ثم وصف جل وعزّ صفتهم، (52)
ونعتهم له بنعوتهم الذَّميمة وأفعالهم الرديئة، وأخبره مُعزّيًا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه، أنَّهم أهلُ استحلال الحرامِ والمآكل الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرُّشَى والسُّحْت، (53) وأنهم أهل إفكٍ وكذبٍ على الله، وتحريف لكتابه. (54) ثم أعلمه أنه مُحِلٌّ بهم خزيَه في عاجل الدنيا، وعقابه في آجل الآخرة. فقال: هم " سماعون للكذب "، يعني هؤلاء المنافقين من اليهود، يقول: هم يسمعون الكذب، و " سمعهم الكذب "، سمعُهم قول أحبارهم: أنّ حكم الزاني المحصن في التوراة، التحميمُ والجلد=" سماعون لقوم آخرين لم يأتوك "، يقول: يسمعون لأهل الزاني الذين أرادوا الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم القوم الآخرون الذين لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مصرِّين على أن يأتوه، كما قال مجاهد:-
11927 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، قال مجاهد: " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك "، مع من أتوك.
* * *
واختلف أهل التأويل في" السماعين للكذب السماعين لقوم آخرين ". (55)
فقال بعضهم: " سماعون لقوم آخرين "، يهود فَدَك. و " القوم الآخرون " الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهوُد المدينة. (56)
ذكر من قال ذلك:
11928 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر في قوله: " ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين "، قال: يهود المدينة=" لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه "، قال: يهود فدك، يقولون ليهود المدينة: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ .
* * *
وقال آخرون: المعنيّ بذلك قوم من اليهود، كان أهل المرأة التي بَغَتْ، بعثوا بهم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيها. والباعثون بهم هم " القوم الآخرون "، وهم أهل المرأة الفاجرة، لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
11929 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: " ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون "، فإنّ بني إسرائيل أنـزل الله عليهم: (57) " إذا زنى منكم أحد فارجموه "، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم، فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه، قام الخيار والأشراف فمنعوه. ثم زنى رجل من الضعفاء، &; 10-311 &; فاجتمعوا ليرجموه، فاجتمعت الضعفاء فقالوا: لا ترجموه حتى تأتُوا بصاحبكم فترجمونهما جميعًا! فقالت بنو إسرائيل: إن هذا الأمر قد اشتد علينا، فتعالوا فلنصلحه! فتركوا الرجم، وجعلوا مكانه أربعين جَلْدة بحبل مقيَّر، ويحملونه على حمار ووجهه إلى ذنبه، (58) ويسوِّدون وجهه، ويطوفون به. فكانوا يفعلون ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، فزنت امرأة من أشراف اليهود يقال لها: " بسرة "، فبعث أبوها ناسًا من أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه عن الزنا وما نـزل إليه فيه، فإنا نخاف أن يفضحنا ويُخْبرنا بما صنعنا، فإن أعطاكم الجلد فخذُوه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه، فقال: الرجم! فأنـزل الله عز وجل: " ومن الذين هادوا سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه "، حين حرَّفوا الرجم فجعلوه جلدًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن " السماعين للكذب "، هم " السماعون لقوم آخرين ". (59)
وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة، والمسموعُ لهم من يَهُود فدك= ويجوز أن يكون كانوا من غيرهم. غير أنه أيّ ذلك كان، فهو من صفة قوٍم من يهود، سَمِعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم اللازم لها، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قَبْل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتكمين إليه فيها. وإنما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك &; 10-312 &; لهم، ليُعْلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه لهم. فإن لم يكن من حكمه الرجم رَضُوا به حَكَمًا فيهم. وإن كان من حكمه الرّجم، حذِروه وتركوا الرضَى به وبحكمه.
* * *
وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول.
11930 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين "، قال: لقوم آخرين لم يأتوه من أهل الكتاب، (60) هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه، يقولون لهم الكذب: " محمد كاذبٌ، وليس هذا في التوراة، فلا تؤمنوا به ". (61)
* * *
القول في تأويل قوله عزّ وجلّ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحرف هؤلاء السمَّاعون للكذب، السماعون لقوم آخرين منهم لم يأتوك بعدُ من اليهود=" الكلم " (62) . وكان تحريفُهم ذلك، تغييرَهم حكم الله تعالى ذكره= الذي أنـزله في التوراة في المحصَنات والمحصَنين من الزناة بالرجم= إلى الجلد والتحميم. فقال تعالى ذكره: " يحرّفون الكلم "، يعني: هؤلاء اليهود، والمعنيُّ حكم الكَلِم، فاكتفى بذكر الخبر من " تحريف الكلم " عن ذكر " الحكم "، لمعرفة السامعين لمعناه. وكذلك قوله: " من بعد مواضعه "، والمعنى: من بعد وضْع الله ذلك مواضعه، فاكتفى بالخبر من ذكر " مواضعه "، عن ذكر " وضع ذلك "، كما قال تعالى ذكره: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة: 177]، والمعنى: ولكن البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر. (63)
* * *
وقد يحتمل أن يكون معناه: يحرفون الكلم عن مواضعه= فتكون " بعد " وضعت موضع " عن "، كما يقال: " جئتك عن فراغي من الشغل "، يريد: بعد فراغي من الشُّغل.
* * *
ويعني بقوله: " إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا "، يقول هؤلاء الباغُون السمَّاعون للكذب: إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم في صاحبنا=" فخذوه "، يقول: فاقبلوه منه، وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم، فاحذروا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
11931 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدِّث سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدثهم= في قصة ذكرها= وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، قال: [أي الذين بعثوا منهم مَنْ] بعثوا وتخلفوا، (64) وأمروهم بما أمرُوهم به من تحريف الكلم عن مواضعه، فقال: " يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه "، للتجبيه (65) =" وإن لم تؤتوه فاحذروا "، أي الرجم. (66)
11932 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " إن أوتيتم هذا "، إن وافقكم هذا فخذوه. يهودُ تقولُه للمنافقين.
11933 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،" إن أوتيتم هذا فخذوه "، إن وافقكم هذا فخذوه، وإن لم يوافقكم فاحذروه. يهود تقوله للمنافقين.
11934 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " يحرفون الكلم من بعد مواضعه "، حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدًا=" يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ".
11935 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر: " يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه "، يهود فدك، يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا الرَّجم. (67)
11936 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا "، هم اليهودُ، زنت منهم امرأة، وكان الله قد حكم في التوراة في الزّنا بالرجم، فنَفِسوا أن يرجموها، (68) وقالوا: انطلقوا إلى محمد، فعسى أن يكون عنده رُخْصة، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها! فأتَوْه، فقالوا: يا أبا القاسم، إنّ امرأة منّا زنت، فما تقول فيها؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كيف حُكم الله في التوراة في الزاني؟ فقالوا: دعنا من التوراة، ولكن ما عندك في ذلك؟ فقال: ائتوني بأعلمكم بالتوراة التي أنـزلت على موسى! فقال لهم: بالذي نجاكم من آل فرعون، وبالذي فَلَق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون، إلا أخبرتموني ما حُكْم الله في التوراة في الزاني؟! قالوا: حكمه الرَّجْم! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. (69)
11937 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا "، ذكر لنا أن هذا كان في قتيلٍ من بني قريظة، قتلته النضير. فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يُقِيدوهم، إنما يعطونهم الدية لفضلهم عليهم. وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلا لم يرضوا إلا بالقَوَد لفضلهم عليهم في أنفسهم تعزُّزًا. فقدم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة على تَفِئَةِ قتيلهم هذا، (70) فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. &; 10-316 &; فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيل عَمْدٍ، متى ما ترفعونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخشى عليكم القَوَد، فإن قبل منكم الدية فخذوه، وإلا فكونوا منه على حَذَرٍ!
11938 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " يحرفون الكلم من بعد مواضعه "، يقول: يحرّف هؤلاء الذين لم يأتوك الكلم عن مواضعه، لا يضعونه على ما أنـزله الله. قال: وهؤلاء كلهم يهود، بعضهم من بعضٍ.
11939 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية وعبيدة بن حميد، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب: " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا "، يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. (71)
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز : وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعة الذين قصَّ قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الآية. يقول له تعالى ذكره: لا يحزنك تسرُّعهم إلى جحود نبوَّتك، فإني قد حَتَمْتُ عليهم أنهم &; 10-317 &; لا يتوبون من ضلالتهم، (72) ولا يرجعون عن كفرهم، للسابق من غضبي عليهم. وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرُّعهم إلى ما جعلته سببًا لهلاكهم واستحقاقِهم وعيدي.
* * *
ومعنى " الفتنة " في هذا الموضع: الضلالة عن قصد السبيل. (73)
* * *
يقول تعالى ذكره: ومن يرد الله، يا محمد، مَرْجعه بضلالته عن سبيل الهدى، (74) فلن تملك له من الله استنقاذًا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة. (75) فلا تشعر نفسك الحزنَ على ما فاتك من اهتدائه للحق، كما:-
11940 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا ".
............................................. (76)
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز : أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزُنك الذين يسارعون في الكفر من اليهودِ الذين وصفت لك صفتهم. وإن مسارعتهم إلى ذلك، أنّ الله قد أراد فتنتهم، وطَبَع على قلوبهم، ولا يهتدون أبدًا=" أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم "، يقول: هؤلاء الذين لم يرد الله أن يطهِّر من دنس &; 10-318 &; الكفر ووَسخ الشرك قُلوبَهم، بطهارة الإسلام ونظافة الإيمان، (77) فيتوبوا، بل أراد بهم الخزي في الدنيا= وذلك الذلّ والهوان (78) = وفي الآخرة عذابُ جهنم خالدين فيها أبدًا. (79)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى " الخزي"، روي القول عن عكرمة.
11941 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن علي بن الأقمر وغيره، عن عكرمة، " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي"، قال: مدينة في الروم تُفْتح فَيُسْبَوْن. (80)
* * *
---------------
الهوامش :
(28) في المطبوعة: "فإن كان يقضي بالدية" ، غير ما في المخطوطة ، وهو ما أثبته. ويعني بقوله: "بعث بالدية" (بالبناء للمجهول): أنه قد أوتي في رسالته وبعثته أن يحكم في مثل ذلك بالدية دون القصاص.
(29) "بيت المدراس"، هو البيت الذي كان اليهود يدرسون فيه كتبهم.
(30) في المطبوعة والمخطوطة: "فولوه الحكم" بالفاء ، وأثبت أجودهما من سيرة ابن هشام.
(31) في المطبوعة: "بعملكم من التحميم ، وهو الجلد" ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وهي غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت ، وهي كما أثبتها في سيرة ابن هشام.
(32) في سيرة ابن هشام: "وإن هو حكم فيهما بالرجم ، فإنه نبي ، فاحذروه ...".
(33) في المطبوعة: "في بيت المدراس" ، كما في سيرة ابن هشام ، وأثبت ما في المخطوطة ، فإنه صواب المعنى أيضا.
(34) في ابن هشام: "وقد حدثني بعض بني قريظة".
(35) قال ابن هشام في سيرته: من قوله: "وحدثني بعض بني قريظة" ، إلى"أعلم من بقى بالتوراة" ، من قول ابن إسحق. وما بعده ، من الحديث الذي قبله= فلذلك وضعت ذلك كله بين خطين.
(36) "ألظ به المسألة": ألح في سؤاله."لظ بالشيء" و"ألظ به" ، لزمه وثابر عليه.
(37) في المطبوعة والمخطوطة: "في بني عثمان بن غالب بن النجار" ، وهو خطأ صرف ، صوابه ما أثبته من سيرة ابن هشام وغيرها. وليس للنجار ولد يقال له"غالب" ، ولا لمالك بن النجار ولد يقال له"عثمان".
(38) الأثر: 11921- سيرة ابن هشام 2: 213 ، 214 ، وهو فيها تال للأثر السالف هنا رقم: 11616.
وهذا الخبر رواه أحمد مختصرا. ورواه أبو داود في سننه 4: 216-218 ، رقم: 4450 ، 4451 ، بغير هذا اللفظ والبيهقي في السنن 8: 246 ، 247. انظر تفسير ابن كثير 3: 156 ، وسيأتي برقم: 11923 ، 11924.
(39) في المطبوعة: "مر على النبي ..." ، بزيادة"على" كما في الروايات الأخرى ، وأثبت ما كان في المخطوطة.
و"المحمم": المسود الوجه"حمم الرجل تحميما": سخم وجهه بالحمم ، وهو الفحم.
(40) في المطبوعة: "اللهم إني أنا أول ..." ، وأثبت ما في المخطوطة ، وبمثله في الناسخ والمنسوخ: 130.
(41) الأثر: 11922- رواه أبو جعفر من ثلاث طرق ، عن الأعمش. وسيرويه بعد برقم: 12034 ، 12036 من طريق القاسم ، عن الحسين ، عن أبي معاوية ، ومن طريق هناد عن أبي معاوية.
و"عبيدة بن حميد بن صهيب التيمي" ، مضى برقم: 2781 ، 2998 ، 8783 ، وكان في المطبوعة: "عبيدة بن عبيد" ، والصواب من المخطوطة.
و"عبد الله بن مرة الهمداني الخارفي" ، مضى برقم: 8208.
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 11: 209 ، 210 ، وأحمد في مسنده 4: 286 ، والبيهقي في السنن 8: 246 ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 130 وأبو داود في سننه 4: 215 ، رقم: 4448 ، وقال ابن كثير في تفسيره ، بعد أن ساق خبر أحمد: "انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، من غير وجه عن الأعمش ، به".
وانظر تتمه هذا الأثر فيما سيأتي رقم: 11939 ، ورقم: 12022.
(42) في المطبوعة: "قد أشاروا في صاحب لهم" ، وفي المخطوطة: "شاوروا" ، وهي ضعيفة هنا ، ورأيت أن أقرأها"تشاوروا".
(43) في المطبوعة: "فانطلقوا ، فنسأل" وفي المخطوطة: "فسل" غير منقوطة ، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها.
(44) الأثران: 11923 ، 11924- خبر الزهري هذا ، رواه أبو جعفر فيما سلف من طريق ابن إسحق عن الزهري برقم: 11921.
وستأتي روايته أيضا بغير هذا اللفظ ، برقم: 12008.
ورواه أبو داود في سننه 4: 4450 ، من طريق معمر عن الزهري ، وبرقم: 4451 ، من طريق ابن إسحق ، عن الزهري.
ورواه أحمد في مسنده مختصرا ، برقم 7747 ، من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن رجل من مزينة ، وسيروي أبو جعفر هذا الخبر من طريق عبد الرازق فيما يلي برقم: 12008 ، فقال أخي السيد أحمد في شرحه: "إسناده منقطع ، لإبهام الرجل من مزينة الذي روى عن الزهري". ثم أشار في تخريجه إلى رواية الطبري رقم: 11921 ، ولم يشر إلى هذين الخبرين رقم: 11923 ، 11924 ، ولا إلى الخبر الآتي رقم: 12008 ، ثم ساق رواية عبد الرزاق عن مصر بنصها. ثم قال: "وهذا الرجل من مزينة ، المجهول ، وصفه الزهري ، في رواية أبي داود ، من طريق يونس ابن يزيد الأيلي عن الزهري: أنه ممن يتبع العلم ويعيه" ، كما في إسنادنا هذا رقم: 11924 ، وفاته ما في الإسناد رقم 11923: أنه رجل من مزينة"كان أبوه شهد الحديبية". ومع كل ذلك ، فالرجل لا يزال مجهولا لم يعرف.
فائدة: راجع ما سلف في أخبار الرجم من رقم: 11609- 11611.
(45) الأثر: 11926- حذف في المطبوعة من أول قوله: "سماعون لقوم آخرين" ، إلى آخر الخبر ، وهو ثابت في المخطوطة كأنه استنكر ذكره هنا ، مع أنه آت في تتمة الآية ، ولم يذكر فيها قول مجاهد هناك. وهذا عبث لا معنى له.
(46) في المطبوعة: "وأولى الأقوال" ، حذف"هذه" ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(47) في المطبوعة والمخطوطة: "عني بذلك" ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(48) قوله: "بوجودنا صفتك" ، أي: بأننا نجد صفتك ...
(49) في الأثر رقم: 11921.
(50) انظر تفسير"حزن" فيما سلف 7: 234 ، 418= وتفسير"سارع" فيما سلف 7: 130 ، 207 ، 418 = وانظر تفسير"من أفواههم" فيما سلف 7: 145- 147= وتفسير"يقولون بأفواههم" 7: 378 ، 379.
(51) انظر تفسير"هاد" فيما سلف 2: 143 ، 507/9: 391.
(52) في المطبوعة: "ثم وصف جل ذكره صفتهم" ، غير ما في المخطوطة لغير طائل.
(53) يعني ما سيأتي في الآية: 42.
(54) في المطبوعة: "وتحريف كتابه" ، وفي المخطوطة: "أهل الإفك ، وكذب على الله ، وتحريف كتابه" ، ورأيت السياق يقتضي أن تكون"وتحريف لكتابه" ، فأثبتها.
(55) في المطبوعة: "في السماعون للكذب السماعون لقوم آخرين" ، غير ما في المخطوطة بلا معنى ، بل بفساد.
(56) الظاهر أن في هذه الترجمة خطأ من أبي جعفر ، وكأن صوابها: "فقال بعضهم: "سماعون لقوم آخرين ، يهود المدينة. والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهود فدك". والخبر نفسه بعد ، دال على صحة ما ذهبت إليه.
(57) في المطبوعة: "كان بنو إسرائيل ..." ، وأثبت ما في المخطوطة.
(58) في المطبوعة: "ويحممونه ويحملونه على حمار" ، زاد"ويحممونه" ، ولا معنى لزيادتها ، فإنه سيأتي بعد ما هو بمعناها ، وهو قوله: "ويسودون وجهه". وأثبت ما في المخطوطة ، وإن كان فيها"ويحملوه على حمار".
(59) في المطبوعة: "إن السماعون..." ، وأثبت ما في المخطوطة.
(60) في المطبوعة: "لم ياتوك" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(61) عند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم للمخطوطة التي نقلت عنها نسختنا. وفي مخطوطتنا هنا ما نصه:
"يتلوهُ إن شاء الله تعالى:
القولُ في تاويل قوله: (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ من بَعْد مَوَاضِعِهِ يَقُولُون إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُأْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا".
ثم يبدأ بعده:
"بِسمْ الله الرَّحمن الرحيمِ
رَبِّ يَسِّرْ"
(62) انظر تفسير"تحريف الكلم عن مواضعه" فيما سلف 2: 248/8: 430- 432/10: 129
(63) انظر ما سلف 3: 336- 339.
(64) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام.
(65) في المطبوعة: "للتحميم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وانظر شرح ذلك فيما سلف في الأثر: 11921 ص: 303 ، تعليق: 3.
(66) الأثر: 11931- سيرة ابن هشام 2: 214 ، وهو تتمة الأثر السالف رقم: 11921.
(67) الأثر: 11935- انظر الأثر السالف رقم: 11928.
(68) "نفس عليه الشيء" و"نفس به عليه" (بكسر الفاء فيهما) : ضن به وبخل ، يعني أنهم رقوا لها وضنوا بها على الرجم والموت.
(69) قوله: "فأمر بها رسول الله" ، إلى آخر الجملة ، ليس في المخطوطة. وكأنه زاده من نص الدر المنثور 2: 282.
(70) في المطبوعة: "على هيئة فعلهم هذا" ، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "على نصه فصلهم هذا" ، غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها. يقال: "أتيته على تفئة ذلك" ، أي: على حينه وزمانه. وانظر مثل ذلك في الأثر رقم: 7941 ، ج 7: 253 ، تعليق: 1.
وأما "فعلهم هذا" ، كما في المطبوعة ، و"فصلهم هذا" كما في المخطوطة ، فصواب قراءته"قتيلهم هذا" ، كما هو واضح من السياق.
(71) الأثر: 11939- هذا تتمة الأثر السالف رقم: 11922 ، فانظر التعليق عليه هناك.
(72) "حتم عليه": قضى عليه وأوجب الحكم.
(73) انظر تفسير" الفتنة" فيما سلف 9: 123 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(74) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "مرجعه بضلالته" ، كأنه يعني: انصرافه بضلالته عن سبيل الهدى ، وأخشى أن يكون اللفظ محرفًا.
(75) انظر تفسير"ملك" فيما سلف ص: 147 ، 187
(76) سقط بقية هذا الأثر من المخطوطة والمطبوعة ، فوضعت النقط تنبيهًا على هذا الخرم.
(77) انظر تفسير"طهر" فيما سلف 3: 38-40 ، 393 ، وفهارس اللغة.
(78) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف ص: 276 تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(79) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(80) الأثر: 11941-"علي بن الأقمر بن عمرو بن الحارث الهمداني" ، أبو الوازع الكوفي. روى له الأئمة. ثقة حجة. مترجم في التهذيب.
و"سفيان" هو الثوري.
وكان في المطبوعة: "علي بن الأرقم" ، وهو خطأ محض ، صوابه في المخطوطة.
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
آل عمران: 176 | ﴿وَ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّـهَ شَيْئًا﴾ |
---|
المائدة: 41 | ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
يسارعون:
وقرئ:
يسرعون، من أسرع، وهى قراءة السلمى.
للكذب:
وقرئ:
1- بكسر الكاف وسكون الذال، وهى قراءة الحسن، وعيسى بن عمر.
الكلم:
وقرئ:
بكسر الكاف وسكون اللام.