ترتيب المصحف | 2 | ترتيب النزول | 87 |
---|---|---|---|
التصنيف | مدنيّة | عدد الصفحات | 48.00 |
عدد الآيات | 286 | عدد الأجزاء | 2.40 |
عدد الأحزاب | 4.80 | عدد الأرباع | 19.25 |
ترتيب الطول | 1 | تبدأ في الجزء | 1 |
تنتهي في الجزء | 3 | عدد السجدات | 0 |
فاتحتها | فاتحتها | ||
حروف التهجي: 1/29 | آلم: 1/6 |
بعدَ ذكرِ تحويلِ القبلةِ: بَيَّنَ اللهُ هنا أنَّ مجردَ الاتِّجاهِ إلى جهةِ المشرقِ أو المغربِ ليس هو البرُّ المقصودُ من العبادِ، ولكن المقصودَ تحقيقُ الإيمانِ والعملُ الصالحُ، =
ثم بَيَّنَ بعضَ أحكامِ وتشريعاتِ هذا الدينِ: حكمُ القِصَاصِ، ثُمَّ حكمُ الوصيَّةِ بجزءٍ من المالِ للوالدينِ والأقربينَ (وكان هذا قبل نزولِ آياتِ المواريثِ التي حدَّدَ اللهُ فيها نصيبَ كلِّ وارثٍ).
التفسير :
يقول تعالى:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أي:ليس هذا هو البر المقصود من العباد, فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب "ونحو ذلك.{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أي:بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص.{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهو كل ما أخبر الله به في كتابه, أو أخبر به الرسول, مما يكون بعد الموت.{ وَالْمَلَائِكَةِ} الذين وصفهم الله لنا في كتابه, ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم{ وَالْكِتَابِ} أي:جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله, وأعظمها القرآن, فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام،{ وَالنَّبِيِّينَ} عموما, خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم.{ وَآتَى الْمَالَ} وهو كل ما يتموله الإنسان من مال, قليلا كان أو كثيرا، أي:أعطى المال{ عَلَى حُبِّهِ} أي:حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس, فلا يكاد يخرجه العبد. فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى, كان هذا برهانا لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه, أن يتصدق وهو صحيح شحيح, يأمل الغنى, ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة, كانت أفضل, لأنه في هذه الحال, يحب إمساكه, لما يتوهمه من العدم والفقر. وكذلك إخراج النفيس من المال, وما يحبه من ماله كما قال تعالى:{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه. ثم ذكر المنفق عليهم, وهم أولى الناس ببرك وإحسانك. من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم, وتفرح بسرورهم, الذين يتناصرون ويتعاقلون، فمن أحسن البر وأوفقه, تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي, على حسب قربهم وحاجتهم. ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم, وليس لهم قوة يستغنون بها، وهذا من رحمته [تعالى] بالعباد, الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده، فالله قد أوصى العباد, وفرض عليهم في أموالهم, الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره, رُحِمَ يتيمه.{ وَالْمَسَاكِين} وهم الذين أسكنتهم الحاجة, وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء, بما يدفع مسكنتهم أو يخففها, بما يقدرون عليه, وبما يتيسر،{ وَابْنَ السَّبِيلِ} وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فحث الله عباده على إعطائه من المال, ما يعينه على سفره, لكونه مظنة الحاجة, وكثرة المصارف، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته, وخوله من نعمته, أن يرحم أخاه الغريب, الذي بهذه الصفة, على حسب استطاعته, ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره, أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها.{ وَالسَّائِلِينَ} أي:الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج, توجب السؤال، كمن ابتلي بأرش جناية, أو ضريبة عليه من ولاة الأمور, أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة, كالمساجد, والمدارس, والقناطر, ونحو ذلك, فهذا له حق وإن كان غنيا{ وَفِي الرِّقَابِ} فيدخل فيه العتق والإعانة عليه, وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده, وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة.{ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} قد تقدم مرارا, أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة, لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان.{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} والعهد:هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها, وحقوق العباد, التي أوجبها الله عليهم, والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور, ونحو ذلك.{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} أي:الفقر, لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة, لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره. فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم، وإن عرى أو كاد تألم, وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم, وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم. فكل هذه ونحوها, مصائب, يؤمر بالصبر عليها, والاحتساب, ورجاء الثواب من الله عليها.{ وَالضَّرَّاءِ} أي:المرض على اختلاف أنواعه, من حمى, وقروح, ورياح, ووجع عضو, حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك, فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك؛ لأن النفس تضعف, والبدن يألم, وذلك في غاية المشقة على النفوس, خصوصا مع تطاول ذلك, فإنه يؤمر بالصبر, احتسابا لثواب الله [تعالى].{ وَحِينَ الْبَأْسِ} أي:وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم, لأن الجلاد, يشق غاية المشقة على النفس, ويجزع الإنسان من القتل, أو الجراح أو الأسر, فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا, ورجاء لثواب الله [تعالى] الذي منه النصر والمعونة, التي وعدها الصابرين.{ أُولَئِكَ} أي:المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة, والأعمال التي هي آثار الإيمان, وبرهانه ونوره, والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم{ الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم, لأن أعمالهم صدقت إيمانهم،{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} لأنهم تركوا المحظور, وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير, تضمنا ولزوما, لأن الوفاء بالعهد, يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن قام بها, كان بما سواها أقوم, فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون. وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة, من الثواب الدنيوي والأخروي, مما لا يمكن تفصيله في [مثل] هذا الموضع.
ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر ، ووجوه الخير ، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية فقال - تعالى - :
( لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر . . . )
( البر ) : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقربة يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- .
قال الراغب : " البر - بفتح الباء - خلاف البحر ، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر - بكسر الباء - بمعنى التوسع في فعل الخير ، وينسب ذلك إلى الله - تعالى - تارة نحو : ( إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم ) وإلى البعد تارة فيقال : بر العبد ربه ، أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ، ومن العبد الطاعة " .
وتولية الوجوه قبل الشيء معناه : التوجه إليه بجعل الوجه متجها إلى جهته فلفظ " قيل " بمعنى جهة وهو منصوب على الظرفية المكانية .
( المشرق ) : الجهة التي تشرق منها الشمس ، والمغرب : الجهة التي تغرب فيها .
قال الإِمام الرازي : اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص . فقال بعضهم : أراد بقوله : ( لَّيْسَ البر ) أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه بنحو بيت المقدس فقال - تعالى - ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله . وقال بعضهم : بل المراد مخاطبته المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم : بل هو خطاب للكل ، لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الفرض الأكبر في الدين ، فبعثهم الله - تعالى - بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً ، وإنما البر . كيت وكيت . وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخيصيص فيه ، فكأنه - تعالى - قال : ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هو هذه الخصال التي عدها " .
وهذا القول الثالث - الذي يرى أصحابه أن الخطاب للكل ، والذي قال عنه الإِمام الرازي : هذا أشبه بالظاهر - هذا القول ، هو الذي تسكن إليه النفس ، لأنه لا يوجد نص صحيح يخصص الخطاب لطائفة معينة من الناس ولأن المقصود من الآية الكريمة إنما هو إفهام الناس في كل زمان ومكان أن مجرد تولية الوجه إلى قبلة مخصوصة ليس هو البر الكامل الذي يعنيه الإِسلام ، وإنما البر الكامل يتأنى في استجابة الإِنسان لتلك الخصال الشريفة التي اشتملت عليها الآية ، تلك الخصال التي تجعل المسكين بها على صلة طيبة بخالقهم وعلى صلة طيبة بغيرهم ، - كما سنبين ذلك عند تعليقنا على هذه الآية الكريمة- .
والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب ، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح - يكون في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي إنفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .
هذا وقد قرأ حمزة وحفص عن عاصم ( لَّيْسَ البر ) بنصب البر على أنه خبر ليس ، واسمها قوله - تعالى - : ( أَن تُوَلُّواْ ) أي : ليس توليتكم وجهوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله .
وقرأ الباقون ( لَّيْسَ البر ) برفع البر على أنه اسم ليس ، وخبرها قوله - تعالى - : ( أَن تُوَلُّواْ ) أي ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب .
قال الطبرسي : وكلا المذهبين حسن ، لأن كل واحد من اسم ليس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان .
وقوله - تعالى - ( ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إلخ بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار ، وتستجيب له النفوس .
و ( ولكن ) حرف استدراك ، البر : اسمها . وقوله ( مَنْ آمَنَ ) وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله ( البر ) والخبر في المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن ، يفهم من سياق الجملة ، والمعنى مع ملاحظة المقدر : ولكن البر بر من آمن بالله .
وهذا اللون من الإِيجاز الذي حذف فيه المضاف معهود في كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم ، والشعر زهير .
وقيل : إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل ، كما يقال : ماء غور أي : غائر ، ورجل صوم أي : صائم .
وقيل : إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر : أي : ولكن ذا البر من آمن بالله .
وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها بنراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة .
ثم ذكرت الإِيمان باليوم الآخر ، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان .
والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام .
ولقد تحدث القرآن عن الإِيمان بالله واليوم الآخر في عشرات الآيات ، وأقام الأدلة الساطعة ، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق ، كما أقام الحجج والبراهين على أن البعث حق وضرب الأمثال لذلك ، وسفه عقول المنكرين له .
ثم ذكرت الإِيمان بالملائكة والملائكة : أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم
( لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ووجه دخول التصديق بهم في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبين ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .
ثم ذكرت الآية الإِيمان بالكتاب . والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقاً وما خالفه كان باطلا .
والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .
ثم ذكرت الإِيمان بالنبيين ، أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليعها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة .
والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح ، وكل من أنكر نبوة نبي قد ثبت نبوته فقد خرج عن طريق الإِيمان .
ولقد قام الدليل القاطع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين ، وكل من ادعى غير ذلك فهو من الضالين المضلين .
وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يصدق به الإِنسان ، ليك يكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة .
ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان الأعمال الصالحة فقالت . ( وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ) .
وهذه الجملة معطوفة على قوله - تعالى - : ( مَنْ آمَنَ بالله ) .
والضمير في قوله ( على حُبِّهِ ) يعود إلى المال ، أي : أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حالة كونه محباً له راغباً فيه . لأن الإِعطاء والبذل في هذه الحالة يدل على قوة الإِيمان ، وصفاء الوجدان ، ويسمو بصاحبه إلى أعلا الدرحات . قال - تعالى - : ( لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة ، لأن الإِنسان في هذه الحالة يكون مظنة الحاجة إلى المال فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا وكذا وقد كان لفلان " " .
وقيل الضمير يعود إلى الله - عز وجل - أي : يعطون المال على حب الله وطلباً لمرضاته .
وقيل يعود إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله - تعالى - ( وَآتَى المال ) فكأنه قال : يعطيى ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله .
والمراد بذوي القربى : أقرباء المعطى للمال ، والمعنى : وأعطاى المال مع محبته لهذا المال لأقاربه المحتاجبين لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم ، ولذلك جاء ذكرهم في الآية مقدماً على بقية الأصناف التي تستحق العطف والإِحسان .
روى الإِمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .
( واليتامى ) : جمع يتيم ، وهو من فقد أباه بالموت ولم يبلغ الحلم . وهؤلاء اليتامى في حاجة إلى الإِحسان إليهم بعد ذوي القربى متى كانوا محتاجين ، لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجتهم .
( والمساكين ) جمع مسكين ، وهو من لا يملك شيئاً من المال ، أو يملك ما لا يكفي حاجاته وهذا النوع من الناس في حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل على إراقة وجهوههم بالسؤال . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان . قالوا : فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئاً " .
( وابن السبيل ) : هو المسافر المنقطع عن ماله . وسمى بذلك - كما قال الآلوسي - لملازمته السبيل - أي الطريق - في السفر ، أو لأن الطريق تبرزة فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه .
وهذا النوع من الناس في حاجة إلى المساعدة والمعاونة حتى يستطيع الوصول إلى بلده ، وفي هذا تنبيه إلى المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .
( والسآئلين ) : جمع سائل ، وهو الطالب للإِحسان والمعروف . ويحمل حاله على أنه في حاجة إلى المعاونة ، لأن السؤال علامة الحاجة غالباً .
والرقاب : جمع رقبة وهي في الأصل العنق ، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس . فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء .
وقوله : ( وَفِي الرقاب ) متعلق بآتي ، أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة ( وَآتَى المال على حُبِّهِ . . ) إلخ .
ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة .
والذي يراجع القرآن الكريم يجده قد عني عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من الحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضاً - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها .
ثم ذكرت الآية ألواناً أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : ( وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة ) وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به ، والمراد بالزكاة هنا ، الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة . وإبتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى - : ( إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقاً لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منها أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة .
والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين .
ومسألة " هل في المال حق سوى الزكاة " من المسائل التي تناولها بعض العلماء بالشرح والتفصيل .
وقوله : ( والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ) معطوف على قوله ( مَنْ آمَنَ ) فإنه في قوة قولك ، ومن أوفوا بعهدهم ، وأوثرت صيغة اسم الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء .
الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنمون عليه الله من الإِعان لكل ما جاء به الدين ، ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضاً مما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً .
والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات .
وفي قوله - تعالى - : ( إِذَا عَاهَدُواْ ) إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد .
ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : ( والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ) .
البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج . يقال : بئس يبأس بؤساً وبأساً أي اشتدت حاجته .
والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام يقال : ضره وأضره وضاره وضراً ، ضد نفع : والألف في البأساء والضراء للتأنيث .
وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته ، يقال : بؤس ببؤس بأسا فهو بئيس ، أي : شجاع شديد .
وقوله : ( والصابرين ) معطوف في المعنى على ( مَنْ آمَنَ ) كقوله ( والموفون ) إلا أنه جاء منصوبا على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله ، تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على غيره من الفضائل حتى لكأنه ليس من جنس ما سبقه من فضائل ، وهذا الأسلوب يسمى عند علماء اللغة العربية بالقطع ، وهو أبلغ من الإِتباع . ولا ريب في أن صفة الصبر على الشدائد والآلام وحين القتال في سبيل الله ، جديرة بأنه ينبه لمزيد فضلها ، إذ هي أصل لكثير من المكارم كالعفاف عما في أيدي الناس ، والتسليم للقضاء الذي لا مرد له ، والإِقدام الذي يحمي به الدين وتسلم به النفوس والأموال والأعراض :
وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة .
وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم .
وجاءت كلمة " حين " في قوله : ( وَحِينَ البأس ) مشيرة إلى أن مزية الصبر في القتال إنما تظهر حين يلتقى الجمعان ، وتدور رحى الحرب ، لأن بعض الناس قد يكون قوياً في بدنه ، وقد يحشر نفسه في زمرة الأبطال المقاتلين ، ولكنه عندما يرى الأعناق تتساقط من حوله تخور قواه ، ويلوذ بالفرار ، أو يستسلم للعدو . وفي هذه الحالة تسلب عنه صفة الصابرين حين البأس . وتحق عليه صفة الضعفاء الجبناء .
وقد جاءت أنواع الصبر في الآية على وجه الترقي من الشديد إلى الأشد ، وذلك لأن الصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر ، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض . ثم ختمت الآية حديثها عن هؤلاء الجامعين لهذه الخصال بقوله تعالى : ( أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون ) .
أولئك اسم إشارة للجمع ، وقد أشير به إلى من تقدم ذكرهم من الجامعين لخصال البر . والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع ، وتوصف به الأعمال الواقعة على الوجه الذي يرضى الله - تعالى- .
والمتقون من الاتقاء وهو الحذر ، ويطلق المتقى في كلام الشارع على الإِنسان الذي صان نفسه عن كل ما يغضب الله ، وامتثل لأوامره ونواهيه .
أي : أولئك الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم ، وأولئك هم المتقون لعذاب الله - تعالى - بسبب امتثالهم لأوامره ، واجتنابهم لما نهى عنه .
واسم الإشارة ( أولئك ) جيء به لإحضارهم في أذهان المخاطبين وهم متصفون بتلك المناقب الجليلة .
وفي تكرير الإِشارة زيادة تنويه بشأنهم وفضلهم . وجاء الإِخبار عنهنم بأنهم الصادقون المتقون ، لتشيرهم بأنهم قد بلغوا بإحرازهم لتلك الخصال السابقة الغاية التي يطمح إليها أرباب البصائر المستنيرة ، والنفوس المستقيمة ، والقلوب السليمة ، وهي مقام الصدق والتقوى الذي يرتفع بصاحبه إلى السعادة في الدنيا ، والنعيم الدائم في الآخرة .
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعاً من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .
أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله - تعالى - : ( وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ) .
ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهراً من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - .
وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله - تعالى - : ( وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ) .
وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة .
وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، ونضع على هذا كله عنواناً واحداً " البر " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .
فلله هذا الاستقراء البديع ، وذلك التوجيه السديد ، الذي يشهد أن هذا القرآن من عند الله ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ) وبعد أن بين - سبحانه - أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر . . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضة - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة بعد كل
اشتملت هذه الآية الكريمة ، على جمل عظيمة ، وقواعد عميمة ، وعقيدة مستقيمة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيد بن هشام الحلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عامر بن شفي ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي ذر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ فتلا عليه : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) إلى آخر الآية . قال : ثم سأله أيضا ، فتلاها عليه ثم سأله . فقال : " إذا عملت حسنة أحبها قلبك ، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك " .
وهذا منقطع ; فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر ; فإنه مات قديما .
وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، قال : جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال : ما الإيمان ؟ فقرأ عليه هذه الآية : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) حتى فرغ منها . فقال الرجل : ليس عن البر سألتك . فقال أبو ذر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فأبى أن يرضى كما أبيت [ أنت ] أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده : " المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها " .
رواه ابن مردويه ، وهذا أيضا منقطع ، والله أعلم .
وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ; ولهذا قال : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ) الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) [ الحج : 37 ] .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا . فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك .
وقال أبو العالية : كانت اليهود تقبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل . وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله .
وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله ، عز وجل .
وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها .
وقال الثوري : ( ولكن البر من آمن بالله ) الآية ، قال : هذه أنواع البر كلها . وصدق رحمه الله ; فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله ، وهو أنه لا إله إلا هو ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله ) والكتاب ) وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ [ الله ] به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
وقوله : ( وآتى المال على حبه ) أي : أخرجه ، وهو محب له ، راغب فيه . نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر " .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث شعبة والثوري ، عن منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وآتى المال على حبه ) أن تعطيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر " . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
قلت : وقد رواه وكيع عن الأعمش ، وسفيان عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفا ، وهو أصح ، والله أعلم .
وقال تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) [ الإنسان : 8 ، 9 ] .
وقال تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] وقوله : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] نمط آخر أرفع من هذا [ ومن هذا ] وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له .
وقوله : ( ذوي القربى ) وهم : قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة ، كما ثبت في الحديث : " الصدقة على المساكين صدقة ، وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " . فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز .
( واليتامى ) هم : الذين لا كاسب لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب ، وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة ، عن علي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتم بعد حلم " .
( والمساكين ) وهم : الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه .
( وابن السبيل ) وهو : المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة ، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .
( والسائلين ) وهم : الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها - قال عبد الرحمن : حسين بن علي - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " . رواه أبو داود .
( وفي الرقاب ) وهم : المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم .
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة ، إن شاء الله تعالى . وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت : فتلا علي ( وآتى المال على حبه ) .
ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما ، عن شريك ، عن أبي حمزة عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في المال حق سوى الزكاة " ثم تلا ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) إلى قوله : ( وفي الرقاب )
[ وقد أخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور ، قال : وقد رواه بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي ] .
وقوله : ( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) أي : وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها ، وسجودها ، وطمأنينتها ، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي .
وقوله : ( وآتى الزكاة ) يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس ، وتخليصها من الأخلاق الدنية الرذيلة ، كقوله : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) [ الشمس : 9 ، 10 ] وقول موسى لفرعون : ( هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ) [ النازعات : 18 ، 19 ] وقوله تعالى : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ) [ فصلت : 6 ، 7 ] .
ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ; ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقا سوى الزكاة ، والله أعلم .
وقوله : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) كقوله : ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) [ الرعد : 20 ] وعكس هذه الصفة النفاق ، كما صح في الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " . وفي الحديث الآخر : " إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " .
وقوله : ( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) أي : في حال الفقر ، وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام ، وهو الضراء . ( وحين البأس ) أي : في حال القتال والتقاء الأعداء ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومرة الهمداني ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك ، والضحاك ، وغيرهم .
وإنما نصب ( والصابرين ) على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته ، والله أعلم ، وهو المستعان وعليه التكلان .
وقوله : ( أولئك الذين صدقوا ) أي : هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم ; لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا ( وأولئك هم المتقون ) لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .
القول في تأويل قوله تعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها, ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.
2513- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل المشرق والمغرب "، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا, فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة, ونـزلت الفرائض, وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
2514- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب "، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.
2515- حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
2516- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن عباس قال: هذه الآية نـزلت بالمدينة: " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب "، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال مجاهد: " ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب "، يعني السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.
2517- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، (1) عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها, قال يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة, فأنـزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.
* * *
وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب, والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق, فأنـزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية
* ذكر من قال ذلك:
2518- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنـزلت: " ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب ".
2519- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر "، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنـزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنـزل الله: " ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب ". وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق -" ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر " الآية.
2520- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق, فنـزلت: " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس =: أن يكون عنى بقوله: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب "، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها, إذْ كان الأمر كذلك, -" ليس البر "، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب," ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب " الآية.
* * *
فإن قال قائل: فكيف قيل: " ولكن البر من آمن بالله "، وقد علمت أن " البر " فعل, و " مَنْ" اسم, فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟
قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته, وإنما معناه: ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، (2) فوضع " مَنْ" موضع الفعل، اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة, فتقول: " الجود حاتم، والشجاعة عنترة "، و " إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة ", ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر " حاتم " إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر " الجود " بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع " جوده "، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. (3) كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [سورة يوسف: 82] والمعنى: أهل القرية, وكما قال الشاعر, وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي:
حَسِــبْتَ بُغَــامَ رَاحِـلَتِي عَنَاقًـا!
وَمَـا هـي, وَيْـبَ غَـيْرِكَ بالعَنَـاقِ (4)
يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [عناق]، (5) كما يقال: " حسبت صياحي أخاك ", يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله, فيكون " البر " مصدرًا وُضع موضعَ الاسم. (6)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وآتى المالَ على حُبه "، وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، (7) . كما:-
2521- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا, عن زبيد, عن مرة بن شراحيل البكيلي, عن عبد الله بن مسعود: " وآتَى المالَ على حُبه "، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر. (8)
2522- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا, عن سفيان, عن زُبيد الياميّ, عن مرة, عن عبد الله: " وآتى المالَ على حُبه " قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر. (9)
2523- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن زبيد اليامي, عن عبد الله أنه قال في هذه الآية: " وآتى المال على حبه " قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر.
2524- حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين, عن شعبة بن الحجاج, عن زبيد اليامي, عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود في قول الله: " وآتى المال على حبه ذوي القربى ", قال: حريصًا شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر. (10)
2525- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم, عن الشعبي، سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية: " وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ".
2526- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال، حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي: إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى " وآتى المال على حُبه " إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في قَرَابتك. (11)
2527- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك قال، حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر, عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة. (12)
2528- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو, وطُروق الفحل, والحلَب. (13)
2529- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, ذكره عن مرة الهمداني في: " وآتى المالَ على حُبه " قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من الزكاة.
2530- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد بن عبد الله, عن أبي حمزة, عن عامر, عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في المال حق سوى الزكاة " ، وتلا هذه الآية: " ليس البر " إلى آخر الآية. (14)
2531- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن زبيد اليامي, عن مرة بن شراحيل, عن عبد الله في قوله: " وآتى المالَ على حُبه " قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ على جمعه, شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.
وإنما قلت عنى بقوله: " ذوي القرْبى "، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس=
2532- وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟ قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح. (15)
* * *
وأما " اليتامى "" والمساكين "، فقد بينا معانيهما فيما مضى. (16)
* * *
وأما " ابن السبيل "، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
2533- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: " وابن السبيل " قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت " . قال: وكان يَقول: حَق الضيافة ثلاثُ ليال, فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة. (17)
* * *
وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك.
* ذكر من قال ذلك:
2534- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر: " وابن السبيل " قال، المجتاز من أرض إلى أرض.
2535- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وقتادة في قوله: " وابن السبيل " قال، الذي يمر عليك وهو مسافر.
2536- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عمن ذكره, عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.
* * *
وإنما قيل للمسافر " ابن السبيل "، لملازمته الطريق -والطريق هو " السبيل "- فقيل لملازمته إياه في سفره: " ابنه "، كما يقال لطير الماء " ابن الماء " لملازمته إياه, وللرجل الذي أتت عليه الدهور " ابن الأيام والليالي والأزمنة ", ومنه قول ذي الرمة:
وَرَدْتُ اعْتِسَــافًا وَالثُّرَيَّــا كَأَنَّهَــا
عَـلَى قِمَّـةِ الـرَّأْسِ ابْـنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ (18)
* * *
وأما قوله: " والسائلين "، فإنه يعني به: المستطعمين الطالبين، كما:-
2537- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس, عن حصين, عن عكرمة في قوله: " والسائلين " قال، الذي يسألك.
* * *
وأما قوله: " وفي الرقاب "، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من العبودة, وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة، (19) بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وأقامَ الصلاة "، أدام العمل بها بحدودها, وبقوله " وآتى الزكاة "، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه. (20)
* * *
فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك:
فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة = واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية, وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ، ومن سمى الله معهم, ثم قال بعد: " وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة "، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى, ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له, علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة, وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة, ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده -بوصفه ما وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك: " وآتى الزكاة "، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ =كانت= عليهم, إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.
* * *
وأما قوله: " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا "، فإن يعني تعالى ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة, ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:-
2538- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا " قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم غَدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة.
* * *
وقد بينت " العهد " فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (21)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
قال أبو جعفر: وقد بينا تأويل " الصبر " فيما مضى قبل. (22)
فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم -في البأساء والضراء وحين البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى " البأساء والضراء " بما:-
2539- حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ (23) قال، حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي, عن مرة الهمداني, عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساءُ فالفقر, وأما الضراء فالسقم .
2540- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قوله: " والصابرين في البأساء والضراء " قال، البأساء الجوع, والضراء المرضُ.
2541- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة, والضراءُ المرضُ.
2542- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر, وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة الأنبياء: 83].
2543- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: " والصابرين في البأساء والضراء " قال، البؤس: الفاقة والفقر, والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.
2544- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " البأساء والضراء " قال، البأساء: البؤس, والضراء: الزمانة في الجسد.
2545- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: " البأساء والضراء "، المرض. (24)
2546- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: " والصابرين في البأساء والضراء " قال، البأساء: البؤس والفقر, والضراء: السقم والوجع.
2547- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية: " والصابرين في البأساء والضراء "، أما البأساء: الفقر, والضراء: المرض. (25)
* * *
قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم: " البأساء والضراء "، مصدر جاء على " فعلاء " ليس له " أفعل " لأنه اسم, كما قد جاء " أفعل " في الأسماء ليس له " فعلاء "، نحو " أحمد ". وقد قالوا في الصفة " أفعل "، ولم يجئ له " فعلاء ", فقالوا: " أنت من ذلك أوْجل ", ولم يقولوا: " وجلاء ".
وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن " البأساء "، البؤس," والضراء " الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير:
فَتُنْتَــجْ لَكُـمْ غِلْمَـانَ أَشْـأَمَ, كُـلُّهُمْ
كَـأَحْمَرِ عَـادٍ, ثُـمَّ تُـرْضِعْ فَتَفْطِـمِ (26)
يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.
وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ إجراء " أفعل " في النكرة, ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله: " لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ"، (27) بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.
وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير, ولو وَقَع بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب " أفعل " لم يصرف إلى " فُعلى ", ومن سُمي ب " فُعلى " لم يصرف إلى " أفعل ", لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره, ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر " أشأم ", وإذا وقع " البأساء والضراء "، (28) وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على " الضراء "،" الأضر "، ولا على " الأشأم "،" الشأماء ". لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث, كما قالوا: " امرأة حسناء ", ولم يقولوا: " رجل أحسن ". وقالوا: " رجل أمرد ", ولم يقولوا: " امرأة مرداء ". فإذا قيل: " الخصلة الضراء " و " الأمر الأشأم "، دل على المصدر, ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا, وإن كان قد كَفَى من المصدر.
وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل " البأساء والضراء "، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا " البأساء " بمعنى: البؤس," والضراء " بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا " البأساءَ والضراء " إلى أسماء الأفعال، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب " البأساء والضراء "، على قول أهل التأويل، أن تكون " البأساء والضراء " أسماء أفعال, فتكون " البأساء " اسمًا " للبؤس ", و " الضراء " اسمًا " للضر ".
* * *
وأما " الصابرين " فنصبٌ, وهو من نعت " مَن " على وجه المدح. (29) لأن من شأن العرب -إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، (30) كما قال الشاعر: (31)
إلَــى المَلِـكِ القَـرْمِ وَابْـنِ الهُمَـامِ
وَلَيْــثَ الكَتِيبَــةِ فِــي المُزْدَحَـمْ (32)
وَذَا الــرَّأْيِ حِــينَ تُغَــمُّ الأمُـورُ
بِـــذَاتِ الصَّلِيــلِ وذَاتِ اللُّجُــمْ (33)
فنصب " ليث الكتيبة " وذا " الرأي" على المدح, والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر: (34)
فَلَيْـتَ الَّتِـي فِيهَـا النُّجُـومُ تَوَاضَعَت
عَــلَى كُــلِّ غَـثٍّ مِنْهُـمُ وسَـمِينِ (35)
غيُـوثَ الـوَرَى فِـي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ
أُسُـودَ الشَّـرَى يَحْـمِينَ كُـلَّ عَـرِينِ (36)
* * *
وقد زعم بعضهم أن قوله: (37) " والصابرين في البأساء "، نُصب عطفًا على " السائلين ". كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول, وذلك أنّ" الصابرين في البأساء والضراء "، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء -مَنْ كان ذلك صفته- المالَ في قوله: وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ، وأهل الفاقة والفقر، هم أهل " البأساء والضراء ", لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء, وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة " المساكين " الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله: " والصابرين في البأساء ". وإذا كان كذلك، ثم نصب " الصابرين في البأساء " بقوله وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر, والموفون بعهدهم إذا عاهدوا, والصابرين في البأساء والضراء." وَالْمُوفُونَ" رفعٌ لأنه من صفة " مَنْ", و " مَنْ" رفعٌ، فهو معرب بإعرابه." والصابرين " نصب -وإن كان من صفته- على وجه المدح الذي وصفنا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَحِينَ الْبَأْسِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وحين البأس "، والصابرين في وقت البأس, وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:-
2548- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قول الله: " وحين البأس " قال، حين القتال. (38)
2549- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله مثله.
2550- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " وحين البأس " القتال.
2551- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: " وحين البأس "، أي عندَ مواطن القتال.
2552- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: " وحين البأس "، القتال.
2553- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع،" وحين البأس "، عند لقاء العدو.
2554- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن الضحاك: " وحين البأس "، القتال
2555- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: " وحين البأس " قال، القتال. (39)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " أولئك الذين صدقوا "، من آمن بالله واليوم الآخر, ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله.
* * *
وأما قوله: " وأولئك هُم المتقون "، فإنه يعني: وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه, فقاموا بأداء فرائضه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في قوله: " أولئك الذين صَدقوا "، كان الربيع بن أنس يقول:
2556- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " أولئك الذين صدقوا " قال، فتكلموا بكلام الإيمان, فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل, فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.
--------------
الهوامش :
(1) في المطبوعة : "أبو نميلة" بالنون ، والصواب ما أثبت . وانظر الأثر رقم : 2490 والتعليق عليه .
(2) في المطبوعة : "ولكن البر كمن آمن بالله" وهو خطأ محض ، صوابه ما أثبت .
(3) انظر ما سلف : 2 : 61 ، 359 وهذا الجزء 3 : 334 .
(4) سلف تخريجه في هذا الجزء 3 : 103 تعليق : 3 .
(5) الزيادة بين القوسين لا بد منها .
(6) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن : 65 ، وذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 104 .
(7) انظر معنى"الإيتاء" فيما سلف 1 : 574/2 : 160 ، 317 .
(8) الخبر : 2521- ابن إدريس : هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي ، مضى في : 438 ، 2030 .
ليث : هو ابن أبي سليم ، مضى في شرح : 1497 .
زبيد- بالباء الموحدة مصغرًا : هو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي ، وهو ثقة ثبت . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/411 ، وابن سعد 6 : 216 ، وابن أبي حاتم 1/2/623 .
مرة بن شراحيل : وهو الهمداني الكوفي ، من كبار التابعين ، كما مضى توثيقه : 168 ، وهو مترجم في التهذيب 10 : 88-89 ، والكبير 4/2/5 ، وابن سعد 6 : 79 ، وابن أبي حاتم 4/1/366 . و"البكيلي" - بفتح الباء الموحدة وكسر الكاف : نسبه إلى"بكيل" ، وهم بطن من همدان . انظرالاشتقاق لابن دريد ، ص : 250 ، 256 ، 312 ، وجمهرة الأنساب لابن حزم ص : 372-373 . وكذلك نسب مرة إلى"بكيل" في كتاب ابن أبي حاتم ، وهو الصواب . ووقع في التهذيب بدلها"السكسكي"؛ وهو تصحيف لا شك فيه ، فإن"السكسك" : هو ابن أشرس بن كندة . وشتان بين همدان وكندة ، إنما يجتمعان بعد بضعة جدود ، في"زيد بن كهلان بن سبأ" . انظر جمهرة الأنساب ، ص : 405 ، وما قبلها .
(9) الخبر : 2522- عبد الرحمن : هو ابن مهدي الإمام . وسفيان هو الثوري . فالطبري يرويه من طريق ابن مهدي . ومن طريق عبد الرزاق - كلاهما عن سفيان .
والخبر في تفسير عبد الرزاق ، ص : 15 ، وفيه : "وأنت صحيح شحيح" ، بزيادة"شحيح" .
(10) الخبر : 2524- شيخ الطبري"أحمد بن نعمة المصري" : لم أجد له ترجمة . أبو صالح : هو عبد الله بن صالح ، كاتب الليث . الليث : هو ابن سعد إمام أهل مصر .
إبراهيم بن أعين الشيباني البصري ، نزل مصر : ضعيف : قال البخاري : "فيه نظر في إسناده" . وقال أبو حاتم : "هذا شيخ بصري ، ضعيف الحديث ، منكر الحديث وقع إلى مصر" . مترجم في التهذيب وفرق بينه وبين"إبراهيم بن أعين" آخر ثقة . وترجم ابن أبي حاتم 1/1/87 ثلاث تراجم . والبخاري 1/1/272 ترجمة واحدة .
وهذه الأسانيد الثلاثة : 2521-2523 ، لخبر موقوف اللفظ على ابن مسعود . وهو في الحقيقة مرفوع حكمًا ، إذ مثل هذا لا يعرف بالرأي . وسيأتي معناه موقوفًا عليه أيضًا : 2529 ، 2531 . وكذلك رواه الحاكم 2 : 272 ، من رواية منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفًا . وقال : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي . ونسبه السيوطي 1 : 170-171 لابن المبارك ، ووكيع ، وغيرهما . ثم ذكر أنه رواه الحاكم أيضًا"عن ابن مسعود ، مرفوعًا" . وكذلك نقل ابن كثير 1 : 388 أن الحاكم رواه مرفوعًا . ولم أجده مرفوعًا في المستدرك . ثم ذكر ابن كثير الرواية الموقوفة ، وزعم أنها أصح .
وهذا المعنى ثابت أيضًا في حديث مرفوع صحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سئل : أي الصدقة أعظم أجرًا؟ - فقال : "أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل البقاء ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، وقد كان لفلان" . رواه أحمد في المسند : 7159 ، 7401 . ورواه البخاري ومسلم وأبو داود ، كما بينا هناك .
(11) الحديث : 2526- سويد بن عمرو الكلبي : ثقة من شيوخ أحمد . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/149 ، وابن أبي حاتم 2/1/239 .
أبو حمزة : هو ميمون الأعور القصاب ، وهو ضعيف جدًا . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/343 ، وابن أبي حاتم 4/1/235-236 .
وهذا الحديث بهذا السياق لم أجده في موضع آخر . وقد روى قريب من معناه ، بإسناد آخر أشد ضعفًا . فروى الدارقطني في سننه ، ص : 205 ، من طريق أبي بكر الهذلي ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب ، فقلت : يا رسول الله ، خذ منه الفريضة ، فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال" . وقال الدارقطني : "أبو بكر الهذلي : متروك ، ولم يأت به غيره" . وقد مضى بيان ضعف الهذلي هذا : 597 .
(12) الحديث : 2527- شريك : هو ابن عبد الله بن أبي شريك ، النخعي القاضي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/238 ، وابن أبي حاتم 2/1/365-367 .
وقوله : "عن فاطمة بنت قيس : أنها سمعت" : يعني النبي صلى الله عليه وسلم . كما هو ظاهر من سياق القول ، ومن الروايات الأخر . وسيأتي الحديث أيضًا : 2530- وتخريجه هناك ، إن شاء الله .
(13) في المطبوعة : "عارية الذلول" ، وهو خطأ . في حديث عبد الله مسعود : "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : عارية الدلو والقدر" ، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "فما حق الإبل؟ قال : تعطى الكريمة ، وتمنح الغزيرة ، وتفقر الظهر ، وتطرق الفحل ، وتسقى اللبن" . وفي حديث عبيد بن عمير قال قال رجل : يا رسول الله ، ما حق الإبل -فذكره نحوه- زاد : "وإعارة دلوها" . (سنن أبي داود 2 : 167 ، 168 باب حقوق المال) .
وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا : قعا عليها وضربها . وإطراق الفحل : إعارته للضراب . والحلب (بفتحتين) : اللبن المحلوب ، سمي بمصدره من : حلب الناقة يحلبهَا وحلبًا وحلابًا .
(14) الحديث : 2530- أسد : هو ابن موسى ، الذي يقال له"أسد السنة" . مضى في : 23 . سويد بن عبد الله هكذا ثبت في المطبوعة . وعندي أنه خطأ ، صواب"شريك بن عبد الله" ، الذي مضى في الإسناد السابق : 2527 . فإن الحديث معروف أنه من رواية شريك . ثم ليس في الرواة -الذين رأينا تراجمهم- من يسمى"سويد بن عبد الله" إلا رجلا له شأن لا بهذا الإسناد ، لم يعرف إلا بخبر آخر منكر ، وهو مترجم في لسان الميزان .
وهذا الحديث تكرار للحديث : 2527 بأطول منه قليلا . ورواه أيضًا الدارمي 1 : 385 ، عن محمد بن الطفيل . والترمذي 2 : 22 ، من طريق الأسود بن عامر ، وعن الدارمي عن محمد بن الطفيل . وابن ماجه : 1789 ، من طريق يحيى بن آدم . والبيهقي في السنن الكبرى 4 : 84 ، من طريق شاذان - كلهم عن شريك ، بهذا الإسناد ، مطولا ومختصرًا .
قال الترمذي : "هذا حديث ليس إسناده بذاك . أبو ميمون الأعور يضعف" .
وقال البيهقي : "فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور ، كوفي ، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، فمن بعدهما من حفاظ الحديث" .
ونقل ابن كثير 1 : 389-390 أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم ، عن يحيى بن عبد الحميد . ورواه ابن مردويه ، من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد - كلاهما عن شريك ، ثم ذكر أنه أخرجه ابن ماجه ، والترمذي .
ووقع لفظ الحديث في ابن ماجه مغلوطًا ، بنقيض معناه . بلفظ : "ليس في المال حق سوى الزكاة"!
وهذا خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه . وحاول بعض العلماء الاستدلال على صحة هذا اللفظ عند ابن ماجه ، كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر ، ص 177 ، وشرح الجامع الصغير للمناوي : 7641 .
ولكن رواية الطبري الماضية : 2527- وهي من طريق يحيى بن آدم ، التي رواه منها ابن ماجه : تدل على أن اللفظ الصحيح هو ما في سائر الروايات .
ويؤيد ذلك أن ابن كثير نسب الحديث للترمذي وابن ماجه ، معًا ، ولم يفرق بين روايتهما ، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث : 11699 ، إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا .
ويؤيد أيضًا أن البيهقي ، بعد أن رواه قال : "والذي يرويه أصحابنا في التعاليق : ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ فيه إسنادًا . والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره" . ولو كان في ابن ماجه على هذا اللفظ ، لما قال ذلك ، إن شاء الله .
(15) الحديث : 2532- معناه ثابت من حديث أبي هريرة . رواه أحمد في المسند : 8687 (2 : 358 حلبي) : "عن أبي هريرة : أنه قال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقل ، وابدأ بمن تعول" .
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 28 ، وقال : "رواه أبو داود ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم" .
وروى الحاكم في المستدرك 1 : 406 ، عن أم كلثوم بنت عقبة ، قالت : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" . وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 116 ، وقال : "رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح" ، وذكر قبله أحاديث أخر بنحوه .
والكاشح : المبغض : قال ابن الأثير : "العدو الذي يضمر عداوته ، ويطوي عليهما كشحه ، أي باطنه" .
والكاشح الذي يضمر لك العداوة ، كأنه يطويها في كشحه . وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع ، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه .
(16) انظر ما سلف في معنى"مسكين" 2 : 137 ، 293 ، ومعنى : "ذي القربى" ، و"اليتامى" 2 : 292 .
(17) الحديث : 2533- هو حديث مرسل ، يقول قتادة -وهو تابعي- : "قد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول . . " ، فذكره .
و"سعيد" الذي يروي عن قتادة : هو سعيد بن أبي عروبة . و"يزيد" الراوي عنه : هو يزيد بن زريع .
والحديث ثبت معناه ضمن حديث رواه مسلم 2 : 45 ، من حديث أبي شريح العدوي الخزاعي : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ، قالوا : وما جائزته يا رسول الله؟ قال : يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" . ورواه أيضًا أحمد ، وسائر أصحاب الكتب الستة ، كما في الفتح الكبير 3 : 231 .
(18) ديوابنه : 401 ، وهو متعلق ببيت قبله :
وَمَــاءٍ قَـدِيمِ العَهْـدِ بالنـاسِ جـنٍ
كَـأَنَّ الـدَّبَى مَـاءَ الغَضَـا فِيهِ يَبْصُقُ
الآجن المتغير . والدبى : صغار الجراد . والغضى : شجر . كأن الجراد رعته ، فبصقت فيه رعيها فهو أصفر أسود . والاعتساف : الاقتحام والسير على غير هدى . والمحلق : العالي المرتفع . وابن الماء : هو طير الغرانيق ، يعرف بالكركي ، والإوز العراقي ، وهو أبيض الصدر ، أحمر المنقار ، أصفر العين . يقول الأقيشر ، يصف مجلس شراب :
كَــأَنَّهُنَّ وأَيْــدِي الشَّـرْبِ مُعْمَلَـةٌ
إِذَا تَــلأْلأَْنَ فِــي أَيْـدِي الغَـرَانِيقِ
بَنَـاتُ مـاءِ, تُـرى بيضًـا جَاجِئُهـا
حُــمْرًا مَنَاقِرُهَـا, صُفْـرَ الحَمَـالِيقِ
والثريا : نجوم كثيرة مجتمعة ، سميت بالمفرد . جعلها"على قمة" ، وذلك في جوف الليل ، ترى بيضاء زاهرة .
(19) العبودة والعبودية واحد ، ولا فعل له عند أبي عبيد . وقال اللحياني فعله"عبد" على زنة"كرم" .
(20) انظر معنى"إقامة الصلاة" و"إيتاء الزكاة" فيما سلف 1 : 572-574 ، ومواضع أخرى ، اطلبها في فهرس اللغة .
(21) انظر ما سلف 1 : 410-415 ، 557 / ثم هذا الجزء 3 : 20 .
(22) انظر ما سلف 2 : 10-11 ، 124 / ثم هذا الجزء 3 : 214 .
(23) في المطبوعة"العبقري" ، والصواب ما أثبته ، وقد ترجم له فيما سلف رقم : 1625 .
(24) الأثر : 2545- أخشى أن يكون قد سقط من هذا الأثر شيء . وهو تفسير"البأساء" ، وذكر"الضراء" قبل قوله : "المرض" ، وسيأتي على الصواب في الأثر الذي يليه .
(25) الخبر : 2547- عبيد بن الطفيل : كنيته : "أبو سيدان" ، بكسر السين المهملة وسكون الياء التحتية ثم دال مهملة ، كما سيأتي باسمه وكنيته : 2555 . وهو الغطفاني ، يروي عنه أيضًا وكيع ، وأبو نعيم الفضل بن دكين ، قال أبو حاتم : "صالح ، لا بأس به" . وهو مترجم في التقريب ، والخلاصة وابن أبي حاتم 2/2/409 .
(26) ديوانه : 20 ، من معلقته الفريدة . وهي من أبياته في صفة الحرب ، التي قال في بدئها ، قبل هذا البيت :
وَمَـا الحَـرْبُ إِلاَّ مَـا عَلِمْتُـمْ وَذُقْتُـمُ
وَمَـا هُـوَ عَنْهَـا بِـالحَدِيث المُرَجَّـمِ
مَتَــى تَبْعَثُوهَــا, تَبْعَثُوهَـا ذَمِيمَـةً,
وتَضْــرَ, إذا ضَرَّيْتُمُوهَــا فَتَضْـرَمِ
فَتَعْــرُكَكُم عَــرْكَ الرَّحَــا بِثِفَالِهَـا
وَتلْقَـحْ كِشــافًا, ثـم تُنْتَـجْ فَتُتْئِـمِ
يقول : إن الحرب تلقح كما تلقح الناقة ، فتأتي بتوأمين في بطن . وقوله : "أحمر عاد" يعني أحمر ثمود ، فأخطأ ولم يبال أيهما قال . وأحمر ثمود ، هو قدار ، عاقر ناقة الله فأهلكهم ربهم بما فعلوا . يقول : إن الحرب ترضع مشائيمها وتقوم عليهم حتى تفطمهم بعد أن يبلغوا السعي لأنفسهم في الشر .
(27) يقال"فلان غير أبعد" ، أي لا خير فيه . ويقال : "ما عند فلان أبعد" أي لا طائل عنده . قال رجل لابنه : "إن غدوت على المربد ربحت عنا ، أو رجعت بغير أبعد" ، أي بغير منفعة .
(28) يعني : إذا وقع بالتأنيث : وقع بمعنى : الخلة البأساء والخلة الضراء .
(29) يريد"من" في قوله تعالى : "ولكن البر من آمن . . . "
(30) انظر ما سلف 1 : 329 .
(31) لم أعرف قائله .
(32) معاني القرآن للفراء 1 : 105 ، والإنصاف : 195 ، وأمالي الشريف 1 : 205 ، وخزانة الأدب 1 : 216 . والقرم . السيد المعظم المقدم في المعرفة وتجارب الأمور . والمزدحم : حومة القتال حيث يزدحم الكماة . يمدحه بالجرأة في القتال .
(33) وغم الأمر يغم (بالبناء للمجهول) : استعجم وأظلم ، وصار المرء منه في لبس لا يهتدي لصوابه . والصليل : صوت الحديد . يعني بذات الصليل كتيبة من الرجالة يصل حديد بيضها وشكتها وسلاحها . وذات اللجم : كتيبة من الفرسان . يذكر ثباته واجتماع نفسه ورأيه حين تطيش العقول في صليل السيوف وكر الخيول في معركة الموت . فقوله : "بذات الصليل" متعلق بقوله : "تغم الأمور" .
(34) لم أعرف قائلهما .
(35) معاني القرآن للفراء 1 : 106 ، وأمالي الشريف 1 : 206 . وقوله : "تواضعت" ، هو عندي"تفاعل" من قولهم : وضع الباني الحجر توضيعًا : نضد بعضه على بعض . ومنه التوضع : وهو خياطة الجبة بعد وضع القطن . ومنه أيضًا : وضعت النعامة بيضها : إذا رثدته ووضعت بعضه فوق بعض ، وهو بيض موضع : منضود بعضه على بعض . يقول : ليت السماء قد انضمت على جميعهم ، فكانوا من نجومها . وقوله : "غث منهم وسمين" ، مدح ، يعني : ليس فيهم غث ، فغثهم حقيق بأن يكون من أهل العلاء .
(36) المحل : الجدب والقحط . ورواية الفراء والشريف : "ولزبة" . والأزمة والأزبة واللزبة ، بمعنى واحد : وهي شدة السنة والقحط . وروايتهما أيضًا : "غيوث الحيا" . والحيا : الخصب ، ويسمى المطر حيا ، لأنه سبب الخصب . والثرى : موضع تأوي إليه الأسود .
(37) هذا القول ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 108 ، ورده .
(38) الأثر : 2548- في المطبوعة : "العبقري" ، وقد مضى مرارا خطأ ، وصححناه . وانظر ترجمته في رقم : 1625 .
(39) الخبران : 2554-2555 أبو نعيم في أولهما؛ هو الفضل بن دكين . وأبو أحمد في ثانيهما : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير . وباقي الإسناد ، مضى في : 2547 .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 115 | ﴿وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ﴾ |
---|
البقرة: 142 | ﴿قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ |
---|
البقرة: 177 | ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ |
---|
الشعراء: 28 | ﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ |
---|
المزمل: 9 | ﴿رَّبُّ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
البر:
قرئ:
1- بالنصب، وهى قراءة حمزة.
2- بالرفع، وهى قراءة باقى السبعة.
بعهدهم:
قرئ:
بعهودهم، على الجمع، وهى قراءة الجحدري.
والصابرين:
وقرئ:
والصابرون، عطفا على «الموفون» .
التفسير :
يمتن تعالى على عباده المؤمنين, بأنه فرض عليهم{ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} أي:المساواة فيه, وأن يقتل القاتل على الصفة, التي قتل عليها المقتول, إقامة للعدل والقسط بين العباد. وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين, فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول, إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل, وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد, ويمنعوا الولي من الاقتصاص, كما عليه عادة الجاهلية, ومن أشبههم من إيواء المحدثين. ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال:{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ} يدخل بمنطقوقها, الذكر بالذكر،{ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} والأنثى بالذكر, والذكر بالأنثى, فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله:"الأنثى بالأنثى "مع دلالة السنة, على أن الذكر يقتل بالأنثى، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا، فلا يقتلان بالولد, لورود السنة بذلك، مع أن في قوله:{ الْقِصَاصُ} ما يدل على أنه ليس من العدل, أن يقتل الوالد بولده، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة, ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله, أو أذية شديدة جدا من الولد له. وخرج من العموم أيضا, الكافر بالسنة, مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة. وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه، والعبد بالعبد, ذكرا كان أو أنثى, تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل بمفهومها على أن الحر, لا يقتل بالعبد, لكونه غير مساو له، والأنثى بالأنثى, أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة, وتقدم وجه ذلك. وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل, وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال:{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي:عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية, أو عفا بعض الأولياء, فإنه يسقط القصاص, وتجب الدية, وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي. فإذا عفا عنه وجب على الولي, [أي:ولي المقتول] أن يتبع القاتل{ بِالْمَعْرُوفِ} من غير أن يشق عليه, ولا يحمله ما لا يطيق, بل يحسن الاقتضاء والطلب, ولا يحرجه. وعلى القاتل{ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} من غير مطل ولا نقص, ولا إساءة فعلية أو قولية, فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو, إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق, بالأداء بإحسان وفي قوله:{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجانا. وفي قوله:{ أَخِيهِ} دليل على أن القاتل لا يكفر, لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان, فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر, لا يكفر بها فاعلها, وإنما ينقص بذلك إيمانه. وإذا عفا أولياء المقتول, أو عفا بعضهم, احتقن دم القاتل, وصار معصوما منهم ومن غيرهم, ولهذا قال:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي:بعد العفو{ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي:في الآخرة، وأما قتله وعدمه, فيؤخذ مما تقدم, لأنه قتل مكافئا له, فيجب قتله بذلك. وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل, فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله, ولا يجوز العفو عنه, وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول, لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره.
ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم - فقال - تعالى - :
( ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص . . . )
( كُتِبَ ) من الكتب ، وهو في الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة . وتعورف في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأطلق على المضموم في اللفظ وإن لم يكتب بالخط ، ومنه الكتابة ، على الإِيجاب والفرض؛ لأن الشأن يما وجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب ، ومنه ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ) أي : فرض عليكم .
( القصاص ) : العقوبة بالمثل من قتل أو جرح . وهو - كما قال القرطبي - مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه ( فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ) وقيل : القص القطع . يقال : قصصت ما بينهما . ومنه أخذ القصاص؛ لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به . يقال أقص الحاكم فلاناً من فلان به فأمثله فامتثل منه ، أي : اقتص منه " .
فمادة القصاص تدل على التساوي والتماثل والتتبع .
والقتلى جمع قتيل ، والقتيل من يقتله غيره من الناس .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل ، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .
فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيقتل به . وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل .
ولفظ " في " في قوله - تعالى - ( فِي القتلى ) للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها .
وصدرت الآية بخطاب ( الذين آمَنُواْ ) تقوية لداعية إنفاذ حكم القصاص الذي شرعه الخبير بنفوس خلقه ، لأن من شأن الإِيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التي شرعها لإقامة الأمان والاطمئنان بين الناس ، ولسد أبواب الفتن التي تحل عرا الألفة والمودة بينهم .
وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانباً من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .
وإذا لم يقيموها بالطريقة التي بينتها شريعته ، ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة .
وقوله - تعالى - ( الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير .
وقد يفهم من مقابلة ( الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .
قال القرطبي : " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " .
والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه .
والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل . والمساواة وإبطال ما كان شائعاً في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصا لا ترضى حتى تقتل في مقابلة من الضعيفة أشخاصاً . وإذا قتلت منها عبداً تقتل في مقابله حراً أو أحراراً ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيراً مما فعله الجاهليون في هذا الشأن .
قال الإِمام البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية : كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد ، والذكر بالأنثى ، فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية . وهي لا تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخيصي غرض سوى اختصاص الحكم .
ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكماً يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية ، فقال - تعالى - : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) .
عُفِي : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ، ترك العقاب عليها . والذي عفى له هو القاتل ، و ( أَخِيهِ ) الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ ( شَيْء ) القصاص ، وهو نائب فاعل ( عُفِيَ ) .
والمعنى : أن القاتل عمداً إذا سقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدية بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدية من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدية بالطريق الحسنى ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه .
فقوله - تعالى - : ( فاتباع بالمعروف ) وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقاً في مطالبته القاتل بدفع الدية .
وقوله : ( وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدية لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة .
وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر .
وبعضهم فسر العفو بالعطاء فيكون المعنى : فمن أعطى له وهو ولي المقتول من أخيه وهو القاتل شيئاً وهو الدية ، فعلى ولي المقتول اتباعه بالمعروف ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان .
وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيراً بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : عفى بتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ) ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال - تعالى - : ( عَفَا الله عَنكَ ) وقال : ( عَفَا الله عَنْهَا ) فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية .
وجاء التعبير بلفظ شيء منكراً لإفادة التقليل . أي : فمن عفى له من أخيه ما يسمى شيئاً من العفو والتجاوز ولو أقل قليل ، تم العفو وسقط القصاص ، ولم تجب إلا الدية ، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم ، لأن القصاص لا يتجزأ .
وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولي الدم ، في العفو وفي قبول الدية ، إذا العفو أقرب إلى صفاء القلوب ، وتجميع النفوس على الإِخاء والتعاطف والتسامح . وفيه - أيضاً - إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعبير من قبول أخذ الصلح في قتل العمد ، وعدهم ذلك لوناً من بيع دم المقتول بثمن بخس . قال بعضهم يحرض قومه على الثأر .
فلا تأخذوا عَقْلاً من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال شاعر آخر يَذْكُر قوماً لم يقبلوا الصلح عن قتيل لهم :
فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيباً من المال مفعماً
ولكن أبي قوم أصيب أخوهم ... رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
ثم بين - سبحانه - أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر فقال : ( ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) .
أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضى طائعاً مختاراً ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدية تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصاً ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .
وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة .
إذ جعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإِنصاف والعدل .
وجعل الدية عوضاً عن القصاص إذا رضوا بها باختيارهم ، وهذا عين الحرمة واليسر .
وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عادلاً .
والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته .
ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : ( فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقه الدين ، وانحطاط الخلق .
ثم بين - سبحانه - الحكمة في مشروعية القصاص توطيناً للنفوس على الانقياد له ، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال - تعالى - : ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ) أي : ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة ، فالتنوين للتعظيم .
قال صاحب الكشاف ، وذلك أنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني قبيلة بكر بن وائل . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر فلما جاء الإِسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة ، أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود فكان القصاص سبب حياة نفسين .
يقول تعالى : ( كتب عليكم ) العدل في القصاص أيها المؤمنون حركم بحركم ، وعبدكم بعبدكم ، وأنثاكم بأنثاكم ، ولا تتجاوزوا وتعتدوا ، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم ، وسبب ذلك قريظة و [ بنو ] النضير ، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم ، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به ، بل يفادى بمائة وسق من التمر ، وإذا قتل القرظي النضري قتل به ، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية القرظي ، فأمر الله بالعدل في القصاص ، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين ، المخالفين لأحكام الله فيهم ، كفرا وبغيا ، فقال تعالى : ( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) .
وذكر في [ سبب ] نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، في قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) يعني : إذا كان عمدا ، الحر بالحر . وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فنزلت فيهم .
( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) منها منسوخة ، نسختها ( النفس بالنفس ) [ المائدة : 45 ] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ( والأنثى بالأنثى ) وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة فأنزل الله : النفس بالنفس والعين بالعين ، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس ، وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم ، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : ( النفس بالنفس ) .
مسألة : مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة ، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود ، وهو مروي عن علي ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والحكم ، وقال البخاري ، وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه : ويقتل السيد بعبده ; لعموم حديث الحسن عن سمرة : " من قتل عبده قتلناه ، ومن جذعه جذعناه ، ومن خصاه خصيناه " وخالفهم الجمهور وقالوا : لا يقتل الحر بالعبد ; لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية ، وإنما تجب فيه قيمته ، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى ، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر ، كما ثبت في البخاري عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقتل مسلم بكافر " ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا ، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة .
مسألة : قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية ، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ; ولقوله عليه السلام : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة .
مسألة : ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد ; قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم ، وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة ، وذلك كالإجماع . وحكي عن الإمام أحمد رواية : أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة . وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير ، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت ; ثم قال ابن المنذر : وهذا أصح ، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة . وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر .
وقوله : ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) قال مجاهد عن ابن عباس : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) فالعفو : أن يقبل الدية في العمد ، وكذا روي عن أبي العالية ، وأبي الشعثاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان .
وقال الضحاك عن ابن عباس : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) يقول : فمن ترك له من أخيه شيء يعني : [ بعد ] أخذ الدية بعد استحقاق الدم ، وذلك العفو ( فاتباع بالمعروف ) يقول : فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية ( وأداء إليه بإحسان ) يعني : من القاتل من غير ضرر ولا معك ، يعني : المدافعة .
وروى الحاكم من حديث سفيان ، عن عمرو ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : ويؤدي المطلوب بإحسان . وكذا قال سعيد بن جبير ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان .
مسألة : قال مالك رحمه الله في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور ، وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه : ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل ، وقال الباقون : له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل ، وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو ، منهم الحسن ، وقتادة ، والزهري ، وابن شبرمة ، والليث ، والأوزاعي ، وخالفهم الباقون .
وقوله : ( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) يقول تعالى : إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفا من الله عليكم ورحمة بكم ، مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو ، كما قال سعيد بن منصور :
حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، أخبرني مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ، ولم يكن فيهم العفو ، فقال الله لهذه الأمة ( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء ) فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، ذلك تخفيف [ من ربكم ورحمة ] مما كتب على من كان قبلكم ، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان .
وقد رواه غير واحد عن عمرو [ بن دينار ] وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، عن عمرو بن دينار ، به . [ وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس ] ; ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس ، بنحوه .
وقال قتادة : ( ذلك تخفيف من ربكم ) رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ، ولم تحل لأحد قبلهم ، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به ، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش .
وهكذا روي عن سعيد بن جبير ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، نحو هذا .
وقوله : ( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) يقول تعالى : فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها ، فله عذاب من الله أليم موجع شديد .
وكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن سفيان بن أبي العوجاء ، عن أبي شريح الخزاعي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ; فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه . ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها " رواه أحمد .
وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية " يعني : لا أقبل منه الدية بل أقتله .
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى
القول في تأويل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } يعني تعالى ذكره بقوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } فرض عليكم . فإن قال قائل : أفرض على ولي القتيل القصاص من قاتل وليه ؟ قيل : لا ; ولكنه مباح له ذلك , والعفو , وأخذ الدية . فإن قال قائل : وكيف قال : { كتب عليكم القصاص } ؟ قيل : إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبت إليه , وإنما معناه : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى , الحر بالحر والعبد بالعبد , والأنثى بالأنثى . أي أن الحر إذا قتل الحر , فدم القاتل كفء لدم القتيل , والقصاص منه دون غيره من الناس , فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غير قاتله . والفرض الذي فرض الله علينا في القصاص هو ما وصفت من ترك المجاوزة بالقصاص قتل القاتل بقتيله إلى غيره لا أنه وجب علينا القصاص فرضا وجوب فرض الصلاة والصيام حتى لا يكون لنا تركه , ولو كان ذلك فرضا لا يجوز لنا تركه لم يكن لقوله : { فمن عفي له من أخيه شيء } معنى مفهوم , لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال : فمن عفي له من أخيه شيء . وقد قيل : إن معنى القصاص في هذه الآية مقاصة ديات بعض القتلى بديات بعض ; وذلك أن الآية عندهم نزلت في حزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل بعضهم بعضا , فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم , بأن تسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين , وديات رجالهم بديات رجالهم , وديات عبيدهم بديات عبيدهم قصاصا فذلك عندهم معنى القصاص في هذه الآية . فإن قال قائل : فإنه تعالى ذكره قال : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر , ولا للأنثى إلا من الأنثى ؟ قيل : بل لنا أن نقتص للحر من العبد وللأنثى من الذكر , بقول الله تعالى ذكره : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } 17 33 وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " . فإن قال : فإذ كان ذلك , فما وجه تأويل هذه الآية ؟ قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك , فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عبد قوم آخرين لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله من أجل أنه عبد حتى يقتلوا به سيده , وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة , حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها , فأنزل الله هذه الآية , فأعلمهم أن الذي فرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون غيره , وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال , وبالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار , فنهاهم أن يتعدوا القاتل إلى غيره في القصاص . ذكر من قال ذلك : 2108 - حدثني محمد بن المثنى , قال : ثنا أبو الوليد , وحدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج , قالا : ثنا حماد , عن داود بن أبي هند , عن الشعبي في قوله : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال : نزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمية , فقالوا : نقتل بعبدنا فلان ابن فلان , وبفلانة فلان ابن فلان فأنزل الله : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } 2109 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال : كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان , فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة , فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم , قالوا : لا نقتل به إلا حرا ; تعززا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم , وإذا قتلت لهم امرأة قتلتها امرأة قوم آخرين , قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا . فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن العبد بالعبد والأنثى بالأنثى , فنهاهم عن البغي . ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } 5 45 * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } قال : لم يكن لمن قبلنا دية إنما هو القتل أو العفو إلى أهله , فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم , فكانوا إذا قتل من الحي الكثير عبد , قالوا : لا نقتل به إلا حرا , وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا , فأنزل الله : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . 2110 - حدثني محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا المعتمر , قال : سمعت داود , عن عامر في هذه الآية : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال : إنما ذلك في قتال عمية إذا أصيب من هؤلاء عبد ومن هؤلاء عبد تكافآ , وفي المرأتين كذلك , وفي الحرين كذلك هذا معناه إن شاء الله . 2111 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : دخل في قول الله تعالى ذكره : { الحر بالحر } الرجل بالمرأة , والمرأة بالرجل . وقال عطاء : ليس بينهما فضل . وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل من كلا الفريقين جماعة من الرجال والنساء , فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصا بديات النساء من الفريق الآخر , وديات الرجال بالرجال , وديات العبيد بالعبيد ; فذلك معنى قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } . ذكر من قال ذلك : 2112 - حدثنا موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال : اقتتل أهل ملتين من العرب أحدهما مسلم والآخر معاهد في بعض ما يكون بين العرب من الأمر , فأصلح بينهم النبي صلى الله عليه وسلم , وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء على أن يؤدي الحر دية الحر , والعبد دية العبد , والأنثى دية الأنثى , فقاصهم بعضهم من بعض . 2113 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان , عن السدي عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتال , كان لأحدهما على الآخر الطول , فكأنهم طلبوا الفضل , فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم , فنزلت هذه الآية : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحر بالحر والعبد بالعبد , والأنثى بالأنثى . 2114 - حدثنا المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن شعبة , عن أبي بشر , قال : سمعت الشعبي يقول في هذه الآية : { كتب عليكم القصاص في القتلى } قال : نزلت في قتال عمية - قال شعبة : كأنه في صلح - قال : اصطلحوا على هذا . * - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن أبي بشر , قال : سمعت الشعبي يقول في هذه الآية : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال : نزلت في قتال عمية , قال : كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره بمقاصة دية الحر ودية العبد ودية الذكر ودية الأنثى في قتل العمد إن اقتص للقتيل من القاتل , والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه . ذكر من قال ذلك : 2115 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال : حدثنا عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول : أيما حر قتل عبدا فهو قود به , فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه , وقاصوهم بثمن العبد من دية الحر , وأدوا إلى أولياء الحر بقية ديته . وإن عبد قتل حرا فهو به قود , فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد , وقاصوهم بثمن العبد وأخذوا بقية دية الحر , وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوا العبد . وأي حر قتل امرأة فهو بها قود , فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية إلى أولياء الحر . وإن امرأة قتلت حرا فهي به قود , فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية , وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها وإن شاءوا عفوا . 2116 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا هشام بن عبد الملك , قال : ثنا حماد بن سلمة , عن قتادة , عن الحسن أن عليا قال في رجل قتل امرأته , قال : إن شاءوا قتلوه وغرموا نصف الدية . 2117 - حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا يحيى , عن سعيد , عن عوف , عن الحسن قالا : لا يقتل الرجل بالمرأة حتى يعطوا نصف الدية . 2118 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن مغيرة , عن سماك , عن الشعبي , قال في رجل قتل امرأته عمدا , فأتوا به عليا , فقال : إن شئتم فاقتلوه , وردوا فضل دية الرجل على دية المرأة . وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في حال ما نزلت والقوم لا يقتلون الرجل بالمرأة , ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة حتى سوى الله بين حكم جميعهم بقوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } 5 45 فجعل جميعهم قود بعضهم ببعض . ذكر من قال ذلك : 2119 - حدثنا المثنى قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { والأنثى بالأنثى } وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة , ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة , فأنزل الله تعالى : { النفس بالنفس } فجعل الأحرار في القصاص , سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وما دون النفس , وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد في النفس وما دون النفس , رجالهم ونساؤهم . فإذ كان مختلفا الاختلاف الذي وصفت فيما نزلت فيه هذه الآية , فالواجب علينا استعمالها فيما دلت عليه من الحكم بالخبر القاطع العذر . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العام أن نفس الرجل الحر قود قصاصا بنفس المرأة الحرة , فإذ كان ذلك كذلك , وكانت الأمة مختلفة في التراجع بفضل ما بين دية الرجل والمرأة على ما قد بينا من قول علي وغيره وكان واضحا فساد قول من قال بالقصاص في ذلك والتراجع بفضل ما بين الديتين بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حراما على الرجل أن يتلف من جسده عضوا بعوض يأخذه على إتلافه فدع جميعه , وعلى أن حراما على غيره إتلاف شيء منه مثل الذي حرم من ذلك بعوض يعطيه عليه , فالواجب أن تكون نفس الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قودا . وإذا كان ذلك كذلك كان بينا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أن لا يقاد العبد بالحر , وأن لا تقتل الأنثى بالذكر , ولا الذكر بالأنثى . وإذا كان ذلك كذلك كان بينا أن الآية معني بها أحد المعنيين الآخرين : إما قولنا من أن لا يتعدى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني , فيؤخذ بالأنثى الذكر , وبالعبد الحر . وإما القول الآخر وهو أن تكون الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصاصا بعضها من بعض , كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أن المقاصة في الحقوق غير واجبة , وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نسخه وإذا كان كذلك , وكان قوله تعالى ذكره : { كتب عليكم القصاص } ينبئ عن أنه فرض كان معلوما أن القول خلاف ما قاله قائل هذه المقالة , لأن ما كان فرضا على أهل الحقوق أن يفعلوه فلا خيار لهم فيه , والجميع مجمعون على أن لأهل الحقوق الخيار في مقاصتهم حقوقهم بعضها من بعض , فإذا تبين فساد هذا الوجه الذي ذكرنا , فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا . فإن قال قائل - إذ ذكرت أن معنى قوله : { كتب عليكم القصاص } بمعنى : فرض عليكم القصاص - : لا يعرف لقول القائل " كتب " معنى إلا معنى خط ذلك فرسم خطا وكتابا , فما برهانك على أن معنى قوله " كتب " فرض ؟ قيل : إن ذلك في كلام العرب موجود , وفي أشعارهم مستفيض , ومنه قول الشاعر : كتب القتل والقتال علينا وعلى المحصنات جر الذيول وقول نابغة بني جعدة : يا بنت عمي كتاب الله أخرجني عنكم فهل أمنعن الله ما فعلا وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى . غير أن ذلك وإن كان بمعنى فرض , فإنه عندي مأخوذ من الكتاب الذي هو رسم وخط , وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميع ما فرض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ , فقال تعالى ذكره في القرآن : { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } 85 21 : 22 وقال : { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون } 56 77 : 78 فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا ففي اللوح المحفوظ مكتوب فمعنى قول إذ كان ذلك كذلك : { كتب عليكم القصاص } كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصاص في القتلى فرضا أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله . وأما القصاص فإنه من قول القائل : قاصصت فلانا حقي قبله من حقه قبلي , قصاصا ومقاصة فقتل القاتل بالذي قتله قصاص , لأنه مفعول به مثل الذي فعل بمن قتله , وإن كان أحد الفعلين عدوانا والآخر حقا فهما وإن اختلفا من هذا الوجه , فهما متفقان في أن كل واحد قد فعل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به , وجعل فعل ولي القتيل الأول إذا قتل قاتل وليه قصاصا , إذ كان بسبب قتله استحق قتل من قتله , فكأن وليه المقتول هو الذي ولي قتل قاتله فاقتص منه . وأما القتلى فإنها جمع قتيل , كما الصرعى جمع صريع , والجرحى جمع جريح . وإنما يجمع الفعيل على الفعلى , إذا كان صفة للموصوف به بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه , نحو القتلى في معاركهم , والصرعى في مواضعهم , والجرحى وما أشبه ذلك فتأويل الكلام إذن : فرض عليكم أيها المؤمنون القصاص في القتلى أن يقتص الحر بالحر والعبد بالعبد , والأنثى بالأنثى . ثم ترك ذكر أن يقتص اكتفاء بدلالة قوله : { كتب عليكم القصاص } عليه .بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه
القول في تأويل قوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك , فقال بعضهم : تأويله : فمن ترك له من القتل ظلما من الواجب كان لأخيه عليه من القصاص , وهو الشيء الذي قال الله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع } من العافي للقاتل بالواجب له قبله من الدية وأداء من المعفو عنه ذلك إليه بإحسان . ذكر من قال ذلك : 2120 - حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي , قال : ثنا سفيان بن عيينة , عن عمرو , عن مجاهد , عن ابن عباس : { فمن عفي له من أخيه شيء } فالعفو أن يقبل الدية في العمد , واتباع بالمعروف أن يطلب هذا بمعروف ويؤدي هذا بإحسان . * - حدثني المثنى , قال : ثنا حجاج بن المنهال قال : ثنا حماد بن سلمة , قال : ثنا عمرو بن دينار , عن جابر بن زيد , عن ابن عباس أنه قال في قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } فقال : هو العمد يرضى أهله بالدية { واتباع بالمعروف } أمر به الطالب { وأداء إليه بإحسان } من المطلوب . * - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان , قال : ثنا أبي , وحدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر قالا جميعا : أخبرنا ابن المبارك , عن محمد بن مسلم , عن عمرو بن دينار , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : الذي يقبل الدية ذلك منه عفو , واتباع بالمعروف , ويؤدي إليه الذي عفي له من أخيه بإحسان . * - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } وهي الدية أن يحسن الطالب الطلب { وأداء إليه بإحسان } وهو أن يحسن المطلوب الأداء . 2121 - حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } والعفو الذي يعفو عن الدم , ويأخذ الدية . * - حدثنا سفيان , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فمن عفي له من أخيه شيء } قال : الدية . 2122 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن يزيد , عن إبراهيم , عن الحسن : { وأداء إليه بإحسان } قال : على هذا الطالب أن يطلب بالمعروف , وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف } والعفو : الذي يعفو عن الدم , ويأخذ الدية . 2123 - حدثني محمد بن المثنى , قال : ثنا أبو الوليد , قال : ثنا حماد , عن داود بن أبي هند , عن الشعبي في قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } قال : هو العمد يرضى أهله بالدية . * - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج , قال : ثنا حماد , عن داود , عن الشعبي , مثله . 2124 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } يقول : قتل عمدا فعفي عنه , وقبلت منه الدية , يقول : { فاتباع بالمعروف } فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف , وأمر المؤدي أن يؤدي بإحسان والعمد قود إليه قصاص , لا عقل فيه إلا أن يرضوا بالدية , فإن رضوا بالدية فمائة خلفة , فإن قالوا : لا نرضى إلا بكذا وكذا ; فذاك لهم . 2125 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } قال : يتبع به الطالب بالمعروف , ويؤدي المطلوب بإحسان . 2126 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } يقول : فمن قتل عمدا فعفي عنه وأخذت منه الدية , يقول : { فاتباع بالمعروف } : أمر صاحب الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف , وأمر المؤدي أن يؤدي بإحسان . 2127 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قلت لعطاء قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } قال : ذلك إذا أخذ الدية فهو عفو . 2128 - حدثنا الحسن , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : أخبرني القاسم بن أبي بزة , عن مجاهد قال : إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص , فذلك قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } . قال ابن جريج : وأخبرني الأعرج عن مجاهد مثل ذلك , وزاد فيه : فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف , وعلى الذي عفي عنه أن يؤدي بإحسان . * - حدثنا المثنى قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ; قال : ثنا أبو عقيل ; قال : قال الحسن : أخذ الدية عفو حسن . 2129 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : { وأداء إليه بإحسان } قال : أنت أيها المعفو عنه . * - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } وهو الدية أن يحسن الطالب , وأداء إليه بإحسان : هو أن يحسن المطلوب الأداء . وقال آخرون معنى قوله : { فمن عفي } فمن فضل له فضل وبقيت له بقية . وقالوا : معنى قوله : { من أخيه شيء } من دية أخيه شيء , أو من أرش جراحته فاتباع منه القاتل أو الجارح الذي بقي ذلك قبله بمعروف وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان . وهذا قول من زعم أن الآية نزلت , أعني قوله : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم فيقاص ديات بعضهم من بعض ويرد بعضهم على بعض بفضل إن بقي لهم قبل الآخرين . وأحسب أن قائلي هذا القول وجهوا تأويل العفو في هذا الموضع إلى الكثرة من قول الله تعالى ذكره : { حتى عفوا } 7 95 فكان معنى الكلام عندهم : فمن كثر له قبل أخيه القاتل . ذكر من قال ذلك : 2130 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { فمن عفي له من أخيه شيء } يقول : بقي له من دية أخيه شيء أو من أرش جراحته , فليتبع بمعروف وليؤد الآخر إليه بإحسان . والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله : { كتب عليكم القصاص } أنه بمعنى مقاصة دية النفس الذكر من دية النفس الأنثى , والعبد من الحر , والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء } فمن عفي له من الواجب لأخيه عليه من قصاص دية أحدهما بدية نفس الآخر إلى الرضى بدية نفس المقتول , فاتباع من الولي بالمعروف , وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان . وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء } فمن صفح له من الواجب كان لأخيه عليه من القود عن شيء من الواجب على دية يأخذها منه , فاتباع بالمعروف من العافي عن الدم الراضي بالدية من دم وليه , وأداء إليه من القاتل ذلك بإحسان ; لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل من أن معنى قول الله تعالى ذكره : { كتب عليكم القصاص } إنما هو القصاص من النفوس القاتلة أو الجارحة والشاجة عمدا , كذلك العفو أيضا عن ذلك . وأما معنى قوله : { فاتباع بالمعروف } فإنه يعني : فاتباع على ما أوجبه الله له من الحق قبل قاتل وليه من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه في أسنان الفرائض أو غير ذلك , أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه . كما : 2131 - حدثني بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من زاد أو ازداد بعيرا " يعني في إبل الديات وفرائضها " فمن أمر الجاهلية " . وأما إحسان الآخر في الأداء , فهو أداء ما لزمه بقتله لولي القتيل على ما ألزمه الله وأوجبه عليه من غير أن يبخسه حقا له قبله بسبب ذلك , أو يحوجه إلى اقتضاء ومطالبة . فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : { فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } ولم يقل : فاتباعا بالمعروف وأداء إليه بإحسان كما قال : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } 47 4 ؟ قيل : لو كان التنزيل جاء بالنصب , وكان : فاتباعا بالمعروف وأداء إليه بإحسان , كان جائزا في العربية صحيحا على وجه الأمر , كما يقال : ضربا ضربا , وإذا لقيت فلانا فتبجيلا وتعظيما غير أنه جاء رفعا وهو أفصح في كلام العرب من نصبه , وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرا له مما يكون فرضا عاما فيمن قد فعل وفيمن لم يفعل إذا فعل , لا ندبا وحثا . ورفعه على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء فالأمر فيه اتباع بالمعروف , وأداء إليه بإحسان , أو : فالقضاء والحكم فيه اتباع بالمعروف . وقد قال بعض أهل العربية : رفع ذلك على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء فعليه اتباع بالمعروف . وهذا مذهبي , والأول الذي قلناه هو وجه الكلام , وكذلك كل ما كان من نظائر ذلك في القرآن فإن رفعه على الوجه الذي قلناه , وذلك مثل قوله : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } 5 95 وقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } 2 229 وأما قوله : { فضرب الرقاب } فإن الصواب فيه النصب , وهو وجه الكلام لأنه على وجه الحث من الله تعالى ذكره عباده على القتل عند لقاء العدو كما يقال : إذا لقيتم العدو فتكبيرا وتهليلا , على وجه الحض على التكبير لا على وجه الإيجاب والإلزام .بإحسان ذلك تخفيف من ربكم
القول في تأويل قوله تعالى : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } يعني تعالى ذكره بقوله ذلك : هذا الذي حكمت به وسننته لكم من إباحتي لكم أيتها الأمة العفو عن القصاص من قاتل قتيلكم على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت منعتها من قبلكم من الأمم السالفة , { تخفيف من ربكم } يقول : تخفيف مني لكم مما كنت ثقلته على غيركم بتحريم ذلك عليهم ورحمة مني لكم . كما : 2132 - حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا : ثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية , فقال الله في هذه الآية : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر } إلى قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء } فالعفو أن يقبل الدية في العمد , { ذلك تخفيف من ربكم } يقول : خفف عنكم ما كان على من كان قبلكم أن يطلب هذا بمعروف ويؤدي هذا بإحسان . 2133 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق , قال : ثنا أبي , قال : ثنا عبد الله بن المبارك , عن محمد بن مسلم , عن عمرو بن دينار عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : كان من قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل لا تقبل منهم الدية , فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر } إلى آخر الآية ; { ذلك تخفيف من ربكم } يقول : خفف عنكم وكان على من قبلكم أن الدية لم تكن تقبل , فالذي يقبل الدية ذلك منه عفو . 2134 - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج بن المنهال , قال : ثنا حماد بن سلمة , قال : أخبرنا عمرو بن دينار , عن جابر بن زيد , عن ابن عباس : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } مما كان على بني إسرائيل , يعني من تحريم الدية عليهم . 2135 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , عن ابن عباس قال : كان على بني إسرائيل قصاص في القتل ليس بينهم دية في نفس ولا جرح , وذلك قول الله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } الآية كلها . وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة , وذلك قوله تعالى : { ذلك تخفيف من ربكم } 2 178 بينكم . 2136 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } وإنما هي رحمة رحم الله بها هذه الأمة أطعمهم الدية , وأحلها لهم , ولم تحل لأحد قبلهم . فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو , وليس بينهما أرش . وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به , فجعل الله لهذه الأمة القود والعفو والدية إن شاءوا أحلها لهم , ولم تكن لأمة قبلهم . 2137 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بمثله سواء , غير أنه قال : ليس بينهما شيء . 2138 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } قال : لم يكن لمن قبلنا دية , إنما هو القتل أو العفو إلى أهله , فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم . 2139 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : وأخبرني عمرو بن دينار , عن ابن عباس , قال : إن بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص , وخفف عن هذه الأمة . وتلا عمرو بن دينار : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } وأما على قول من قال : القصاص في هذه الآية معناه : قصاص الديات بعضها من بعض على ما قاله السدي فإنه ينبغي أن يكون تأويله : هذا الذي فعلت بكم أيها المؤمنون من قصاص ديات قتلى بعضكم بديات بعض وترك إيجاب القود على الباقين منكم بقتيله الذي قتله وأخذه بديته , تخفيف مني عنكم ثقل ما كان عليكم من حكمي عليكم بالقود أو الدية ورحمة مني لكم .ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب
القول في تأويل قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } يعني تعالى ذكره بقوله : { فمن اعتدى بعد ذلك } فمن تجاوز ما جعله الله له بعد أخذه الدية اعتداء وظلما إلى ما لم يجعل له من قتل قاتل وليه وسفك دمه , فله بفعله ذلك وتعديه إلى ما قد حرمته عليه عذاب أليم . وقد بينت معنى الاعتداء فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 2140 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فمن اعتدى بعد ذلك } فقتل , { فله عذاب أليم } * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : فمن اعتدى بعد أخذ الدية فله عذاب أليم . 2141 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة قوله : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل , فله عذاب أليم . قال : وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا أعافي رجلا قتل بعد أخذه الدية " * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { فمن اعتدى بعد ذلك } قال : هو القتل بعد أخذ الدية , يقول : من قتل بعد أن يأخذ الدية فعليه القتل لا تقبل منه الدية . 2142 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية فله عذاب أليم . 2143 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : حدثني أبي , عن يزيد بن إبراهيم , عن الحسن , قال : كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فر إلى قومه , فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية . قال : فيخرج الفار وقد أمن على نفسه . قال : فيقتل ثم يرمى إليه بالدية , فذلك الاعتداء . * - حدثني المثنى , قال : ثنا مسلم بن إبراهيم , قال : ثنا أبو عقيل قال : سمعت الحسن في هذه الآية : { فمن عفي له من دم أخيه شيء } قال : القاتل إذا طلب فلم يقدر عليه , وأخذ من أوليائه الدية , ثم أمن فأخذ فقتل , قال الحسن : ما أكل عدوان . 2144 - حدثني المثنى , قال : ثنا مسلم , قال : ثنا القاسم , قال : ثنا هارون بن سليمان , قال : قلت لعكرمة : من قتل بعد أخذه الدية ؟ قال : إذا يقتل , أما سمعت الله يقول : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } 2145 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { فمن اعتدى بعد ذلك } بعد ما يأخذ الدية فيقتل , { فله عذاب أليم } 2146 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { فمن اعتدى بعد ذلك } يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية { فله عذاب أليم } 2147 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قال : أخذ العقل ثم قتل بعد أخذ العقل قاتل قتيله فله عذاب أليم . واختلفوا في معنى العذاب الأليم الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليه , فقال بعضهم : ذلك العذاب هو القتل بمن قتله بعد أخذ الدية منه وعفوه عن القصاص منه بدم وليه . ذكر من قال ذلك : 2148 - حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قال : يقتل , وهو العذاب الأليم , يقول : العذاب الموجع . 2149 - حدثني يعقوب , قال : حدثني هشيم , قال : ثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك . 2150 - حدثني المثنى , قال : ثنا مسلم بن إبراهيم قال : ثنا القاسم , قال : حدثنا هارون بن سليمان , عن عكرمة : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قال : القتل . وقال بعضهم : ذلك العذاب عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يرى من عقوبته . ذكر من قال ذلك : 2151 - حدثني القاسم بن الحسن , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , قال : قال ابن جريج : أخبرني إسماعيل بن أمية عن الليث - غير أنه لم ينسبه , وقال : ثقة - : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب بقسم أو غيره أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل . قال ابن جريج : وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز , قال : في كتاب لعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والاعتداء " الذي ذكر الله أن الرجل يأخذ العقل أو يقتص , أو يقضي السلطان فيما بين الجراح , ثم يعتدي بعضهم من بعد أن يستوعب حقه , فمن فعل ذلك فقد اعتدى , والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة . قال : ولو عفا عنه لم يكن لأحد من طلبة الحق أن يعفو , لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } 4 59 2152 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا عبد الواحد بن زياد , عن يونس , عن الحسن في رجل قتل فأخذت منه الدية , ثم إن وليه قتل به القاتل , قال الحسن : تؤخذ منه الدية التي أخذ ولا يقتل به . وأولى التأويلين بقوله : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } تأويل من قال : فمن اعتدى بعد أخذه الدية , فقتل قاتل وليه , فله عذاب أليم في عاجل الدنيا وهو القتل ; لأن الله تعالى جعل لكل ولي قتيل قتل ظلما سلطانا على قاتل وليه , فقال تعالى ذكره : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } 17 33 فإذ كان ذلك كذلك , وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قتل قاتل وليه بعد عفوه عنه وأخذه منه دية قتيله أنه بقتله إياه له ظالم في قتله كان بينا أن لا يولي من قتله ظلما كذلك السلطان عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية أي ذلك شاء . وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن ذلك عذابه , لأن من أقيم عليه حده في الدنيا كان ذلك عقوبته من ذنبه ولم يكن به متبعا في الآخرة , على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما ما قاله ابن جريج من أن حكم من قتل قاتل وليه بعد عفوه عنه وأخذه دية وليه المقتول إلى الإمام دون أولياء المقتول , فقول خلاف لما دل عليه ظاهر كتاب الله وأجمع عليه علماء الأمة . وذلك أن الله جعل لولي كل مقتول ظلما السلطان دون غيره من غير أن يخص من ذلك قتيلا دون قتيل , فسواء كان ذلك قتيل ولي من قتله أو غيره . ومن خص من ذلك شيئا سئل البرهان عليه من أصل أو نظير وعكس عليه القول فيه , ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله . ثم في إجماع الحجة على خلافه ما قاله في ذلك مكتفى في الاستشهاد على فساده بغيره .
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 178 | ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى﴾ |
---|
البقرة: 180 | ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ |
---|
البقرة: 183 | ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ |
---|
البقرة: 216 | ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال:{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي:تنحقن بذلك الدماء, وتنقمع به الأشقياء, لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل, لا يكاد يصدر منه القتل, وإذا رئي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر, فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل, لم يحصل انكفاف الشر, الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية, فيها من النكاية والانزجار, ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر "الحياة "لإفادة التعظيم والتكثير. ولما كان هذا الحكم, لا يعرف حقيقته, إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة, خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى, يحب من عباده, أن يعملوا أفكارهم وعقولهم, في تدبر ما في أحكامه من الحكم, والمصالح الدالة على كماله, وكمال حكمته وحمده, وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة, فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب, وناداهم رب الأرباب, وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون. وقوله:{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.
هذا وقد نقل عن العرب ما يدل على أنهم تحدثوا عن حكمة القصاص ومن أقوالهم في هذا الشأن : " قتل البعض إحياء للجميع ، وأكثروا القتل ليقل القتل " وأجمعوا على أن أبلغ الأقوال التي عبروا بها عن هذا المعنى قولهم " القتل أنفى للقتل " وقد أجمع أولو العلم على أن قوله - تعالى - ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ) أبلغ من هذه العبارة التي نطق بها حكماء العرب ، بمقدار ما بين كلام الخالق وكلام المخلوق ، وذكروا أن الآية تفوق ما نطق به حكماء العرب من وجوه كثيرة من أهمها :
1 - أن الآية جعلت سبب الحياة القصاص وهو القتل على وجه التساوي ، أما العبارة العربية فقد جعلت سبب الحياة القتل ، ومن القتل ما يكون ظلماً ، فيكون سببا للفناء لا للحياة ، وتصحيح هذه العبارة أن يقال : القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما .
2 - أن الآية جاءت خالية من التكرار اللفظي ، فعبرت عن القتل الذي هو سبب الحياة بالقصاص . والعبارة كرر فيها لفظ القتل فمسها بهذا التكرار من القتل ما سلمت منه الآية .
3 - أن الآية جعلت القصاص سبباً للحياة التي تتوجه إليها الرغبة مباشرة ، والعبارة العربية جعلت القتل سبباً لنفي القتل الذي تترتب عليه الحياة .
4 - الآية مبنية على الإِثبات والمثل على النفي ، والإِثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان له .
5 - أن تنكير حياة في الآية يفيد تعظيماً ، فيدل على أن القصاص حياة متطاولة كما في قوله - تعالى - ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ ) ولا كذلك المثل . فإن اللام فيه للجنس ، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء .
6 - تعريف ( القصاص ) بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل - وغير ذلك ، والمثل لا يشمل ذلك .
7 - أن الآية مع أفضليتها عن المثل من حيث البلاغة والشمول واللفظ والمعنى أقل حروفاً من المثل .
هذه بعض وجوه أفضلية الآية على المثل ، وهناك وجوه أخرى ذكرها العلماء في كتبهم .
وفي قوله : ( ياأولي الألباب ) تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص .
و ( الألباب ) : جمع لب وهو العقل الخالص من شوائب الأوهام ، أو العقل الذيك الذي يستبين الحقائق بسرعة وفطنة ، ويستخرج لطائف المعاني من مكانها ببراعة وحسن تصرف .
وفي هذا النداء تنبيه على أن من ينكرون مصلحة القصاص وأثره النافع في تثبيت دعائم الأمن ، يعيشون بين الناس بعقول غير سليمة ، ولا يزال الناس يشاهدون في كل عصر ما يثيره القتل في صدور أولياء القتلى من أحقاد طاغية ، لولا أن القصاص يخفف من سطوتها لتمادت بهم في تقاطع وسفك دماء دون الوقوف عند حد .
وختمت الآية بهذه الجملة التعليلية ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) زيادة في إقناع نفوسهم بأمر القصاص ، أي : شرعنا لكم هذه الأحكام الحكيمة لتتقوا القتل حذراً من القصاص ، ولتعيشوا آمنين مطمئنين ، ومتوادين متحابين .
وبهذا البيان الحكيم تكون الآيتان الكريمتان قد أرشدنا إلى ما يحمى النفوس ، ويحقن الدماء ، ويردع المعتدين عن الاعتداء ، ويغرس بين الناس معاني التسامح والإِخاء ، ويقيم حايتهم على أساس من الرحمة والعدالة وحسن القضاء .
وبعد أن بين - سبحانه - ما يتعلق بالقصاص أتبعه بالحديث عن الوصية ، ليرشد الناس إلى ما ينبغي أن تكون عليه ، وليبطل ما كان من عوائد الجاهلية من وصايا جائرة فقال - تعالى - :
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت . . . )
وقوله : ( ولكم في القصاص حياة ) يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة لكم ، وهي بقاء المهج وصونها ; لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه ، فكان في ذلك حياة النفوس . وفي الكتب المتقدمة : القتل أنفى للقتل . فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح ، وأبلغ ، وأوجز .
( ولكم في القصاص حياة ) قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ، فكم من رجل يريد أن يقتل ، فتمنعه مخافة أن يقتل .
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي مالك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، ( يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) يقول : يا أولي العقول والأفهام والنهى ، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه ، والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب "، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة. (70)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
2617- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب " قال، نكالٌ, تَناهٍ.
2618- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " ولكم في القصاص حياة " قال، نكالٌ, تَناهٍ.
2619- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
2620- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " ولكم في القصاص حياة "، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها, ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين, والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.
2621- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " قال، قد جعل الله في القصاص حياة, إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.
2622- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع قوله: " ولكم في القصاص حياة " الآية, يقول: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.
2623- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: " ولكم في القصاص حياة " قال، نكالٌ, تناهٍ. قال ابن جريج: حَياةٌ. مَنعةٌ.
2624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ولكم في القصاص حياة " قال، حياةٌ، بقية. (71) إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني, لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي, فيذكر أن يُقْتَل في القصاص, فيخشى أن يقتل بي, فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا.
2625- حدثت عن يعلى بن عبيد قال، حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح في قوله: " ولكم في القصاص حياة " قال، بقاء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر, وبالعبد الحرّ.
* ذكر من قال ذلك:
2626- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ولكم في القصاص حياة "، يقول: بقاء, لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
* * *
وأما تأويل قوله: " يا أولي الألباب "، فإنه: يا أولي العقول." والألباب " جمع " اللب ", و " اللب " العقل.
* * *
وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول, لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: " لعلكم تتقون "، أي تتقون القصاص، فتنتَهون عن القتل، كما:-
269- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " لعلكم تتقون " قال، لعلك تَتقي أن تقتله، فتقتل به.
---------------------
الهوامش :
(70) قدعه يقدعه قدعًا : كفه . ومنه : "اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة" ، أي كفوها عما تشتهي وتريد .
(71) بقية : أي إبقاء . وأخشى أن تكون"تقية" بالتاء ، أي اتقاء ، كما يدل عليه سائر الأثر . وكلتاهما صحيحة المعنى .
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 179 | ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ |
---|
البقرة: 197 | ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ |
---|
المائدة: 100 | ﴿فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ |
---|
الطلاق: 10 | ﴿فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾ |
---|
أسباب النزول :
الترابط والتناسب :
القراءات :
القصاص:
وقرئ:
القصص، وهى قراءة أبى الجوزاء: أوس بن عبد الله الربعي، أي: فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص.
وقيل: القصص القرآن، وقيل: هو مصدر كالقصاص.
التفسير :
أي:فرض الله عليكم, يا معشر المؤمنين{ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي:أسبابه, كالمرض المشرف على الهلاك, وحضور أسباب المهالك، وكان قد{ تَرَكَ خَيْرًا} [أي:مالا] وهو المال الكثير عرفا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل. وقوله:{ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو:الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى. واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال:إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف الجاري. ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملا، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد. فبهذا الجمع, يحصل الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح.
قوله - تعالى - : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ ) قد استفاض في عرض الشرع بمعنى وجب عليكم .
و " حضور الموت " يقع عند معاينة الإِنسان للموت ولعجزه في هذا الوقت عن الإِيصاء فسر بحضور أسبابه ، وظهور أماراته ، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ . وقد شاع عند العرب استعمال السبب كناية عن المسبب ، ومن ذلك قول شاعرهم :
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم ادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إني أنا الموت
والخير : المال ، وقالوا إنه هنا مختص بالمال الكثير ، لأن مقام الوصية يشعر بذلك ، ولم يرد نص من الشارع في تقدير ما يسمى مالا كثيراً ، وإنما وردت آثار من بعض الصحابة والتابعين في تقديره بحسب اجتهادهم ، وبالنظر إلى ما يسمى بحسب العرف مالا كثيراً فقال بعضهم : من ألف درهم إلى خمسمائة درهم ، وقال بعضهم : من ألف درهم إلى ثمانمائة درهم . والحق أن هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والعرف .
ويرى بعض العلماء أن الوصية مشروعة في المال قليلة وكثيرة .
قال القرطبي : والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة بعد الموت ، وخصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية . والوصي يكون الموصى والموصى إليه . وأصله من وصى مخففاً . وتواصي النبت تواصياً إذا اتصل وأرض واصية : متصلة النبات . وأوصيت له بشيء . وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك . والاسم الوصاية والوصاية - بالفتح وبالكسر - وتواصي القوم : أوصى بعضهم بعضاً .
والمعنى : كتب عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت : من مرض ثقيل ، أو شيخوخة مضعفة ، وكان عنده مال كثير قد جمعه عن طريق حلال ، أن يوصي بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم ، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذي لا مضارة فيه بين الأقارب ، والوصية على هذا الوجه تعتبر حقاً واجباً على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من الله طريقاً لهم .
فالآية الكريمة استئناف لبيان الوصية بعد الحديث عن القصاص ، وفصل القرآن الحديث عن الوصية عن سابقه للإِشعار بأنه حكم مستقل جدير بالأهمية .
وقد جاء الحديث عن الوصية بتلك الطريقة الحكيمة ، لتغيير ما كان من عادات بعض أهل الجاهلية . فإنهم كانوا كثيراً مانعون القريب من الإِرث توهما منهم أنه يتمنى موت قريبة ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض فيؤدي ذلك إلى التباغض والتحاسد ، وربما فضلوا - أيضاً - الوصية لغير الأقارب للفخر والتباهي . فشرع الإِسلام لأتباعه ما يقوى الروابط ويمنع التحاسد والتعادي .
قال الجمل : وكتب فعل ماض مبني للمجهول ، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله - تعالى - وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون الوصية ، أي : كتب عليكم الوصية ، وجاز تذكير الفعل لكون القائم مقام الفاعل مؤنثاً مجازياً ولوجود الفصل بينه وبين مرفوعه .
والثاني : أنه الإِيصاء المدلول عليه بقوله : " الوصية " للوالدين ، أي : كتب هو ، أي الإِيصاء .
والثالث : أنه الجار والمجرور ، وهذا يتجه على رأي الأخفش والكوفيين وعليه فيكون قوله : ( عَلَيْكُمْ ) في محل رفع ، ويكون في محل النصب على القولين الأولين وجواب كل من ( إِذَا ) و ( إِن ) محذوف . أي : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً فليوص .
والباء في قوله : ( بالمعروف ) للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية .
والمراد بالمعروف هنا العدل الذي جاءت به الشريعة ، بأن لا يتجاوز بالوصية الثلث ، وأن لا يوصى للاغنياء ويترك الفقراء أو يوصي للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقراً ومسكنة .
وقوله : ( حَقّاً ) مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه ( كُتِبَ ) وعامله إما ( كُتِبَ ) أو فعل محذوف تقديره حق أي : حق ذلك حقاً .
وقوله : ( عَلَى المتقين ) صفة له . أي حقاً كائناً على المتقين .
وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضا به ، لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس جدير أن يتأسى به الناس ، ومن أهمله فقد حرم من الدخول في زمرتهم ، وخسر بذلك خسارة عظيمة .
قال بعض العلماء : وقد وردت هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين ، والمعروف عند الأمة منذ عهد السلف أن الوصية لا تصح لوارث ، والوالدان لهما نصيب مفروض في المواريث ومقتضاه عدم صحة الوصية لهما؟
ويزيح هذا الإشكال من طريق التفسير أن فريقاً من أهل العمل وهم جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الآية قد نسخ منها حكم الوصية للوارث . وإيضاح وجه النسخ أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية فقامت مقامها في الوصية للوارث ودل على هذا المعنى صراحة الحديث الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث " .
وهذا الحديث وإن لم يبلغ مبلغ الحديث المتواتر الذي يصح نسخه للقرآن بنفسه ، فقد امتاز عن بقية أخبار الآحاد بأن الأمة تلقته بالقبول ، وأخذوا في العمل به من غير مخالف ، فأخذ بهذا قوة الحديث المتوار في الرواية واعتمدوا عليه في بيان أن آية المواريث قامت بتقدير الأنصباء في الميراث مقام آية ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت ) في الوصية للوارث . وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، وجعل للمرأة الثمن والربع ، وللزوج الشطر الربع .
ومن أهل العلم من لم يستطيعوا أن يهملوا حديث " لا وصية لوارث " لاستفاضيته بين الأمة وتلقيهم له بالقبول ، فقرروا العمل به وأبطلوا الوصية لوارث ولكنهم ذهبوا مع هذا إلى أن آية الوصية للوالدين محكمة غير منسوخة وتأولوها على وجوه منها أن المراد من قوله : ( لِلْوَالِدَيْنِ ) الوالدان اللذان لا يرثان لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق ، وقد كانوا حيثي عهد الإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما .
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين . وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث ، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله ، يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منة الموصي ، ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن محمد بن سيرين ، قال : جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى [ على ] هذه الآية : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ) فقال : نسخت هذه الآية .
وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن يونس ، به . ورواه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرطهما .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( الوصية للوالدين والأقربين ) قال : كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين ، فأنزل الله آية الميراث فبين ميراث الوالدين ، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج ، وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله : ( الوصية للوالدين والأقربين ) نسختها هذه الآية : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) [ النساء : 7 ] .
ثم قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر وأبي موسى ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن سيرين ، وعكرمة ، وزيد بن أسلم ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وطاوس ، وإبراهيم النخعي ، وشريح ، والضحاك ، والزهري : أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث .
والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة ، وإنما هي مفسرة بآية المواريث ، ومعناه : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين . من قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم ) [ النساء : 11 ] قال : وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء . قال : ومنهم من قال : إنها منسوخة فيمن يرث ، ثابتة فيمن لا يرث ، وهو مذهب ابن عباس ، والحسن ، ومسروق ، وطاوس ، والضحاك ، ومسلم بن يسار ، والعلاء بن زياد .
قلت : وبه قال أيضا سعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان . ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر ; لأن آية الميراث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ، لأن " الأقربين " أعم ممن يرث ومن لا يرث ، فرفع حكم من يرث بما عين له ، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى . وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم : أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت . فأما من يقول : إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث ، كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ; فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين [ الوارثين ] منسوخ بالإجماع . بل منهي عنه للحديث المتقدم : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " . فآية الميراث حكم مستقل ، ووجوب من عند الله لأهل الفروض وللعصبات ، رفع بها حكم هذه بالكلية . بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم ، يستحب له أن يوصى لهم من الثلث ، استئناسا بآية الوصية وشمولها ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " . قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي .
والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم ، كثيرة جدا .
وقال عبد بن حميد في مسنده : أخبرنا عبيد الله ، عن مبارك بن حسان ، عن نافع قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، ثنتان لم يكن لك واحدة منهما : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك ; لأطهرك به وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك " .
وقوله : ( إن ترك خيرا ) أي : مالا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وعطية العوفي ، والضحاك ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة ، وغيرهم .
ثم منهم من قال : الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال : إنما يوصي إذا ترك مالا جزيلا ثم اختلفوا في مقداره ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : قيل لعلي ، رضي الله عنه : إن رجلا من قريش قد مات ، وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص . قال : ليس بشيء ، إنما قال الله : ( إن ترك خيرا ) .
قال : وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أوصي ؟ فقال له علي : إنما قال الله تعالى : ( إن ترك خيرا الوصية ) إنما تركت شيئا يسيرا ، فاتركه لولدك .
وقال الحكم بن أبان : حدثني عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( إن ترك خيرا ) قال ابن عباس : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا ، قال الحكم : قال طاوس : لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا . وقال قتادة : كان يقال : ألفا فما فوقها .
وقوله : ( بالمعروف ) أي : بالرفق والإحسان ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن يسار ، حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، قوله : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) فقال : نعم ، الوصية حق ، على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر .
والمراد بالمعروف : أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته ، من غير إسراف ولا تقتير ، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال : يا رسول الله ، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : " لا " قال : فبالشطر ؟ قال : " لا " قال : فالثلث ؟ قال : " الثلث ، والثلث كثير ; إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " .
وفي صحيح البخاري : أن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الثلث ، والثلث كثير " .
وروى الإمام أحمد ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم ، عن ذيال بن عبيد بن حنظلة ، سمعت حنظلة بن حذيم بن حنيفة : أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشق ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال حنيفة : إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل ، كنا نسميها المطيبة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، " لا لا لا . الصدقة : خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن أكثرت فأربعون " .
وذكر الحديث بطوله .
القول في تأويل قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: " كُتب عليكم "، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية = إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال = للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه, بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث, ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته = حقًّا على المتقين = يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه, وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
* * *
فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟
قيل: نعم.
فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟
قيل : نعم.
فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟
قيل: قول الله تعالى ذكره: " كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين "، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه, كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة: 183]، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه, مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.
فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟
قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها, إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
* ذكر من قال ذلك:
2628- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.
2629- حدثني سَلم بن جنادة. (72) قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي, فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم, وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه, أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك, ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
2630- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة, فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.
2631- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!
2632- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن رجل, عن الشعبي قال: لم يكن له [مَوَال]، ولا كرامة. (73)
2633- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.
2634- حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير (74) قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.
2635- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير (75) قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.
فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها, وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب, والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع, وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله, وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.
ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:
2636- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون, قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم, وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2637- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة, وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2638- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث, وثلثا الثلث لقرابته.
2639- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.
* * *
وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه, وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.
* ذكر من قال ذلك:
2640- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ, فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون, وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم, ولا تجوز وصية لوارث.
2641- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نسخ الوالدان منها, وترك الأقربون ممن لا يرث.
2642- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج, عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
2643- حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين, فلما نـزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. (76) .
2644- حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن إسماعيل المكي, عن الحسن في قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.
2645- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: " الوصية للوالدين والأقربين " قال، للوالدين منسوخة, والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.
2646- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنـزل الله بعد هذا: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ [سورة النساء: 11]، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين, وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
2647- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله : " إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.
2648- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " قال، كان هذا من قبل أن تُنـزل " سورة النساء ", فلما نـزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين, فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.
2649- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار, والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى: " إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، قالا في القرابة.
2650- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.
* * *
وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.
* ذكر من قال ذلك:
2651- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين " الآية, قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.
2652- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا, فقرأ عليهم " سورة البقرة " ليبين لهم منها, فأتى على هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين " قال، نُسخت هذه.
2653- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
2654- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن جهضم, عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.
2655- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.
2656- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة, عن شريح في هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نـزلت آية الميراث.
2657- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في" سُورة النساء "، الآيةَ في" سُورة البقرة " في شأن الوصية.
2658- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله : " إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين, وهي منسوخة.
2659- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان الميراث للولد, والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في" سورة النساء ": يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [سورة النساء: 11]
2660- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، أما الوالدان والأقربون، فيوم نـزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ, إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها " النساء "، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .
2661- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة, وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.
2662- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة -يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: (77) أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [سورة الأنفال: 75].
2663- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد, عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية, فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ, وأوصَى أبو بكر, أيَّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.
2664- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.
* * *
وأما " الخير " الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون، فهو: المال، كما:-
2665- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " إن تَرك خيرًا "، يعني مالا.
2666- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: " إن ترك خيرًا "، مالا.
2667- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة (78) قال، حدثنا شبل, عن أبي نجيح, عن مجاهد: " إن تَرَك خيرًا "، كان يقول: الخير في القرآن كله: المال، لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات: 8]، الخير: المال - إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [سورة ص: 32]، المال - فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [سورة النور: 33]، المال = و ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ )، المالُ.
2668- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " إن ترك خيرًا الوصية "، أي: مالا. (79)
2669- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي: " إن تَرك خيرًا الوصية "، أما " خيرًا "، فالمالُ.
2670- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " إن ترك خيرًا " قال، إن ترك مالا.
2671- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: " إن ترك خيرًا " قال، الخيرُ المال.
2672- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى, عن الضحاك في قوله: " إن ترك خيرًا الوصية " قال، المال. ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ [سورة هود: 84] يعني الغني.
2673- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي, عن ابن جريج, عن عطاء بن أبي رباح، تلا " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا "، قال عطاء: الخير فيما يُرى المال.
* * *
ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.
فقال بعضهم: ذلك ألف درهم.
* ذكر من قال ذلك:
2674- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة في هذه الآية: " إن تَرَك خيرًا الوصية " قال، الخيرُ ألف فما فوقه.
2675- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا هشام بن عروة, عن عروة: أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده, فقال: إنّي أريد أن أوصي. فقال علي: لا توص، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.
قال: وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.
2676- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي (80) وابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب: أنه دخل على رجل مريض, فذكر لهُ الوصية, فقال: لا تُوص، إنما قال الله: " إن تَرك خيرًا "، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه: فدع مَالك لبنيك.
2677- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور بن صفية, عن عبد الله بن عيينة -أو: عتبة, الشك مني-: أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير, وترك أربعمئة دينار, فقالت عائشة: ما أرى فيه فضلا.
2678- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم, فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا! إنما قال الله: " إن ترك خيرًا "، وليس لك كثير مال.
* * *
وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.
* ذكر من قال ذلك:
2679- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة, عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله: " إن ترك خيرًا " قال، ألف درهم إلى خمسمئة.
* * *
وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.
* ذكر من قال ذلك:
2680- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: جعل الله الوصية حقًّا، مما قل منه أو كثر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: " كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية " ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه " خيرٌ", ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف, كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.
-----------------
الهوامش :
(72) في المطبوعة : "سالم بن جنادة" . وهو خطأ . وقد مضى مرارًا ، وانظر ترجمته في رقم : 48 .
(73) في المطبوعة : "لم يكن له حال ولا كرامة" . وهو خطأ بلا شك عندي . فإن هذا الخبر تعليق على الخبر السالف الذي تعجب فيه المغيرة من فعل أبي العالية : أعتقته امرأة من بني رياح ، وأوصى بماله لبني هاشم! فرد الشعبي تعجب المغيرة فقال : إن أبا العالية لا موالي له ، ولا كرامة لأحد .
وخبر ذلك أن أبا العالية اشترته امرأة ، ثم ذهبت به إلى المسجد ، فقبضت على يده . فقالت : اللهم اذخره عندك ذخيرة ، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله ، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف . قال أبو العالية : والسائبة يضع نفسه حيث شاء . (ابن سعد 7/1/81) .
والسائبة : العبد يعتق على أن لا ولاء له . واختلف الفقهاء في ميراث السائبة ، إذا ترك ميراثًا : أيرثه معتقه ، أم لا يحل له أن يرزأ من ماله شيئًا؟ قيل : لما هلك أبو العالية أتى مولاه بميراثه ، فقال : هو سائبة! وأبى أن يأخذه . وفي حديث عمر : "السائبة والصدقة ليومهما" قال أبو عبيدة : أي ليوم القيامة ، واليوم الذي كان أعتق سائبته وتصدق بصدقة فيه . يقول : فلا يرجع إلى الانتفاع بشيء منها بعد ذلك في الدنيا . وانظر ترجمة سالم مولى أبي حذيفة (ابن سعد 3/1/60) فقد كان سائبة ، وقتل يوم اليمامة في عهد أبي بكر ، فأرسل أبو بكر ماله لمولاته فأبت أن تقبله ، فجعله عمر في بيت المال .
فهذا ما أراد الشعبي أن يقول : إن أبا العالية سائبة ، فهو لا موالي له ، وماله يضعه حيث شاء ، ولا كراهة في ذلك لأحد من الموالي ، لأن ذلك هو حكم السائبة .
هذا ما رأيت في تصحيح هذه الجملة ، ولم أجدها في مكان آخر ، فأسأل الله أن أكون قد بلغت التوفيق ، وجنبت الزلل .
(74) في المطبوعة : "عمران بن جرير" ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري ، صلى على جنازة خلف أنس . روى عن أبي مجلز ، وأبي قلابة ، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز ، هو لاحق بن حميد ، المذكور في الإسناد التالي .
(75) في المطبوعة : "عمران بن جرير" ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري ، صلى على جنازة خلف أنس . روى عن أبي مجلز ، وأبي قلابة ، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز ، هو لاحق بن حميد ، المذكور في الإسناد التالي .
(76) الخبر : 2643- يحيى بن نصر ، شيخ الطبري : لم أعرف من هو؟ ولم أجد في الرواة من يدعي بهذا ، إلا رجلا قديمًا لم يدركه الطبري ، وهو"يحيى" بن نصر بن حاجب القرسي" ، مات سنة 215 قبل أن يولد أبو جعفر . وهو مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/193 ، وتاريخ بغداد 14 : 159-160 ، ولسان الميزان 6 : 278-279 .
وفي تاريخ بغداد 14 : 225-226 ترجمة"يحيى بن أبي نصر ، أبو سعد الهروي" ، واسم أبيه منصور بن الحسن" . وهذا توفي سنة 287 . ولكن يبعد أن يسمع من"يحيى بن حسان" المتوفى سنة 208 .
وفي التهذيب 11 : 292-293 ترجمة ثالثة : "يحيى بن النضر بن عبد الله الأصبهاني الدقاق" ، يروي عن أبي داود الطيالسي ، ويروي عنه أبو بكر بن أبي داود السجستاني . وهو مترجم أيضًا في تاريخ إصبهان 2 : 257-258 . فهذا من هذه الطبعة . ومن المحتمل جدًا أن يكون هو الذي روى عنه الطبري هنا .
وأما شيخه"يحيى بن حسان" : فهو التنيسي البكري ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/269 ، والصغير : 229 ، وابن أبي حاتم 4/2/135 .
(77) في المطبوعة : "بن خثيم" ، وأثبت ما في التهذيب ، وانظر ترجمته .
(78) في المطبوعة : "أبو جعفر" والصواب"أبو حذيفة" ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم : 2659 .
(79) الأثر : 2668- في المطبوعة : "حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا سعيد" أسقط"حدثنا يزيد" ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم : 2640 .
(80) ضبطه في الخلاصة"بكسر المهملة" وفي التهذيب والميزان"الجذامي" بجيم مضمومة ، ثم ذال معجمة .
المعاني :
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 180 | ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ |
---|
البقرة: 241 | ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ |
---|
البقرة: 236 | ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التفسير :
ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية, لما يتوهمه أن من بعده, قد يبدل ما وصى به قال تعالى:{ فَمَنْ بَدَّلَهُ} أي:الإيصاء للمذكورين أو غيرهم{ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [أي:] بعدما عقله, وعرف طرقه وتنفيذه،{ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} وإلا فالموصي وقع أجره على الله, وإنما الإثم على المبدل المغير.{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} يسمع سائر الأصوات, ومنه سماعه لمقالة الموصي ووصيته، فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه, وأن لا يجور في وصيته،{ عَلِيمٌ} بنيته, وعليم بعمل الموصى إليه، فإذا اجتهد الموصي, وعلم الله من نيته ذلك, أثابه ولو أخطأ، وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل، فإن الله عليم به, مطلع على ما فعله, فليحذر من الله، هذا حكم الوصية العادلة.
ثم توعد - سبحانه - من يبدل الوصية بطريقة لم يأذن بها الله فقال - تعالى - : ( فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ ) .
بدله : غير . وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة في الموصى به أو النقص منه أو كتمانه ، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصى به بعد وفاة الموصى .
سمعه : أي علمه وتحققه ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله . والضمائر البارزة في " بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه " عائدة على القول أو على الكلام الذي يقوله الموصى والذي دل عليه لفظ الوصية أو على الإِيصاء المفهوم من الوصية ، وهو الإِيصاء أو القول الواقع على الوجه الذي شرعه الله .
والمعنى : فمن غير الإِيصاء الذي أوصى به المتوفي عن وجهه ، بعدما علمه وتحققه منه ، فإنما إثم ذلك التغيير في الإيصاء يقع على عاتق هذا المبدل ، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة ، وخالف شريعة الله ، ولن يلحق الموصى شيئاً من الإِثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله - تعالى .
وقد ختمت الآية بقوله - تعالى - : ( إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) للإِشعار بالوعيد الشديد الذي توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من حيل الناس الباطلة ، فهو - سبحانه سميع لوصية الموصى ، عليه بما يقع فيها من تبديل وتحريف .
وقوله : ( فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ) يقول تعالى : فمن بدل الوصية وحرفها ، فغير حكمها وزاد فيها أو نقص ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى ( فإنما إثمه على الذين يبدلونه ) قال ابن عباس وغير واحد : وقد وقع أجر الميت على الله ، وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك ) إن الله سميع عليم ) أي : قد اطلع على ما أوصى به الميت ، وهو عليم بذلك ، وبما بدله الموصى إليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي -من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه- بعد ما سمع الوصية، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته.
* * *
فإن قال لنا قائل: وعلامَ عادت " الهاء " التي في قوله: " فمن بدّله "؟
قيل: على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه، بما أوصَى به، لمن أوْصَى له.
ومعنى الكلام: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فأوصوا لهم، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم, فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم.
وإنما قلنا إن " الهاء " في قوله: " فمن بدله " عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ، لأن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ من قول الله, وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله، فيجوز أن تكون " الهاء " في قوله: " فمن بدله " عائده على " الوصية ".
وأما " الهاء " في قوله: " بعد ما سمعه "، فعائدة على " الهاء " الأولى في قوله: " فمن بَدَّله ".
وأما " الهاء " التي في قوله: " فإنما إثمه "، فإنها مكنيُّ" التبديل "، كأنه قال: فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2681- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " فمن بدَّله بَعد ما سمعه " قال، الوصية.
2682- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
2683- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه "، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه, وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته, كما قال الله: غَيْرَ مُضَارٍّ [سورة النساء: 12]
2684- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " فمن بدَّله بعد ما سمعه "، قال: من بدّل الوصية بعد ما سمعها، فإثم ما بدَّل عليه.
2685- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا: عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه "، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها، وكانت بمعروف, فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم.
2686- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن قتادة: أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله: " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه "، قال: يُمضَى كما قال.
2687- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن: " فمن بدّله بعد ما سمعه "، قال: من بدل وصية بعد ما سمعها.
2688- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم, عن الحسن في هذه الآية: " فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه "، قال: هذا في الوصية، من بدَّلها من بعد ما سمعها, فإنما إثمه على من بَدَّله.
2689- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا: تُمضى الوصية لمن أوصَى له به = إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى, وزاد ابن بشار في حديثه = قال قتادة: وقال عبد الله بن معمر: أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته, وما يعجبني أن أنـزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة: وأعجبه إليّ لمن أوصى له به, قال الله عز وجل: " فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه ".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: " إن الله سميع " = لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها, أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف, أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد؟ =" عليمٌ" بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق، والعدل, أم الجور والحيْف.
المعاني :
لم يذكر المصنف هنا شيء
التدبر :
الإعراب :
المتشابهات :
البقرة: 181 | ﴿فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَآ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُۥٓۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
البقرة: 227 | ﴿وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَٰقَ فَـ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
الأنفال: 17 | ﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
الحجرات: 1 | ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
البقرة: 244 | ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
الأنفال: 53 | ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَ أَنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ |
---|
أسباب النزول :
لم يذكر المصنف هنا شيء
الترابط والتناسب :
القراءات :
لم يذكر المصنف هنا شيء